الوقوع في الحب

يتردد المرء كثيرًا حين يكون متورطًا، ودائمًا ما تكون فرصة الانسحاب صعبة وغير قابلة للتفكير، وفي الأعمال الإبداعية يجب الحذر والتحلي بالشجاعة الكافية في الطرح؛ لأن الشجاعة هي نوع من أنواع العبقرية، كما أنها تحوي بداخلها القوة والسحر، فلتبدأ بها الآن.

و. ﻫ. موراي

***

لم أخبرك حتى الآن عن السبب في أنني لم أعد أُجبِر نفسي على الكتابة، لقد حدث ذلك لأنني وقعت في الحب، ويمكنني القول بطريقة أخرى أنني وقعت في شيء ما أكثر اتساعًا من مجرد النظر إلى نفسي، وسوف أخبرك بالقصة.

كنت أعيش في «إيداهو» أثناء انهيار عام ١٩٨٧م، وكنت ما أزال أحسُب الكلمات وأحاول الكتابة، ومن أجل النقود عملت مع شريك لي في مخزن للأخشاب، لكن العمل لم يستمر وقتًا طويلًا، وكذلك لم يكن العائد المادي مجزيًا، وكنت أقرأ وأكتب كثيرًا، وكانت قراءاتي في العموم هادفة، وحاولت أن أتعلم كيفية الكتابة واختيار الكلمات المناسبة واستبعاد الكلمات التي لا تخدم المعنى، وكانت الكلمات انتقائية، كما حاولت أن أتجنب الوقوع في أخطاء الكتابة محاولًا الاستفادة من كل أعمال الخيال العلمي والإثارة والغموض لكتَّاب من أمثال «توماس مان» و«كيلجور» و«ألبير كامو».

كانت القصص التي كتبتها في الغالب شبيهة بتلك التي قرأتها لأنني كنت أحاول تقليد أسلوب الكتَّاب أنفسهم الذين قرأت لهم ومعالجاتهم الفنية نفسها.

قرأت كتابًا ﻟ «جيمس هيريوت»، وكان واحدًا من أجمل السلاسل المنشورة وأكثرها إشراقًا، عن مغامرات مشوقة ومليئة بالحيوية؛ طبيب بيطري من يوركشاير، وكانت إحدى القصص تتحدث عن رجل ليس له صديق سوى كلبه، كان الكلب يذهب معه كل يوم إلى الحانة. ولقد عرفت بطريقة ما من السطر الأول ما ستنتهي إليه القصة، سيموت الكلب وسيقتل الرجل نفسه، عرفت أيضًا أن الكاتب سيستخدم كل الحيل التي يعرفها لكي يجعل القارئ يبكي، لكنني أقسمت أنه لن ينجح معي، وفكرت في التوقف عن القراءة ما دامت النهاية معروفة وليست مفاجئة، لكنني واصلت القراءة حتى النهاية، وعندما توقفت عن البكاء في النهاية أصابني الذهول من كيفية البساطة والوضوح في معالجته البارعة وأسلوبه الجميل، ولقد تعجبت من مهارته منذ اللحظة التي أُصبت فيها بالذهول، وتساءلت بيني وبين نفسي عن براعته في إجباري على البكاء من مجرد حبر على ورق، وعرفت في اللحظة نفسها أن تلك هي المهارة التي يجب أن أمتلكها.

قلت: إنني في حاجة إلى خطة وأعتقد أن الأمر قد ينجح معي كما نجح مع «جيمس هيريوت».

ستحكي القصة عن رجل ليس له صديق سوى كلبه، وعندما يموت الكلب لا يقتل الرجل نفسه وإنما يغادر المدينة، وبما أنني لم أقم بزيارة «يوركشاير» من قبل فإن الأحداث ستكون في نيفادا حيث عشت سنوات قليلة في الماضي.

طوال أشهر عديدة حاولت أن أكتب القصة لكنني لم أستطع؛ لأن خطتي أصابها الإخفاق مما جعلني أشعر بالتعاسة لأسباب عديدة.

وفي خلال ذلك ظهرت ابنة شريكي في مخزن الأخشاب قادمة من كاليفورنيا، وكنت قد قابلتها في الصيف الماضي، وبسرعة أصبحنا صديقين مقربين، لكنها لم تأت هذه المرة في زيارة وإنما للبحث عن ملجأ هربًا من زوجها الفاسد الموجود حاليًّا في السجن بسبب اغتصابها.

تحدثنا كثيرًا عن تجربتها، ولقد تشاركت معها في تلك الإساءة التي عانيت منها أثناء طفولتي، ولكن بعد ذلك، وكما يحدث في حالات كثيرة، راحت تُسقط كل الاتهامات عن زوجها وبدأت تفكر في العودة إليه، وقالت: إن الضرب لم يكن بالشيء السيئ فيما عدا المرة الأخيرة، إنه لم يضربني أبدًا فوق وجهي، وأنا أعرف بأنه سيتغير وسيكف عن ضربي، فالمشكلة في حقيقة الأمر لا تكمن في شخصه وإنما في المخدِّرات، إن أولادي في حاجة لأب فكيف لي تحقيق ذلك؟

تحدثت معها، ولم يكن حديثًا مثمرًا، وتحدث أبوها معها وكذلك أمها ولم يثمر الحديث عن شيء مفيد. وفي إحدى الليالي تبادلتُ الحديث مع أمها وواحد من أصدقاء عائلتها حتى الثالثة أو الرابعة صباحًا، ورحنا نفكر في كيفية العمل على عدم عودتها، لكننا لم نتوصل لشيء محدد ولم نجد وسيلة مناسبة، ثم عدت للمنزل ونمت.

استيقظت حوالي الساعة التاسعة في ذلك الصباح وقد أمسكت بالخطة وتوصلت إلى ما عجزنا عن الوصول إليه في الليلة الفائتة، تستطيع المرأة المتزوجة في مواجهة الرجل الذي يسيء إليها أن تصبح صديقة حميمة لرجل أعزب لا يعرف من الأصدقاء إلا كلبه، وسوف تساعدها المحادثات بينهما على إدراك أنها تستحق معاملة أفضل من التي يعاملها بها زوجها الآن، لكن زوجها يعلم بصداقتها تلك فيذهب ويقتل كلب صديقها، فيسيطر الحزن على الرجل ويغادر المدينة، ومن خلال تلك الصدمة تتعلم المرأة في النهاية أن تحب نفسها بما يكفي.

بدأت في الكتابة ولم تقف الكلمات حائلًا بيني وبين القدرة على التعبير، وإنما جاءت سهلة ومعبرة كما لو أنني كنت أحلم، لكنني عندما وصلت إلى الصفحة السادسة أدركت أن القصة قد لا تتجاوز خمس عشرة صفحة، وعندئذٍ توقفت عن الكتابة مكتفيًا بذلك القدر لذلك اليوم.

في الصفحة الثانية عشرة شعرت بأن القصة ستطول وتصل إلى عشرين صفحة، وعند الصفحة الثامنة عشرة قلت بأنها ستصل إلى ثلاثين صفحة، وظل حلم الكتابة يراودني طوال ستة أشهر حتى انتهيت من كتابة ثلاثمائة صفحة.

أرسلت الكتاب إلى مائة واثني عشر ناشرًا وتلقيت اثني عشر رفضًا ولم يُنشر الكتاب، أعرف عدد الناشرين لأنني كنت أسجل عدد المرات على ورقة فوق الحائط وبها أربعون رفضًا، نقلت الورقة من فوق الحائط إلى خلف الباب حتى لا يتسنى لي رؤيتها كثيرًا، وتمنيت لو أن لي وكيلًا يقوم نيابة عني بمثل تلك الأعمال لكي يخفف عني الصدمات التي كانت تصيبني عند كل رفض، وعندما أصبح لي وكيل تلقيت منه أيضًا خمسة وثلاثين رفضًا.

ورغم ذلك كان اكتشافي لمعنى التأمل هو الشيء المهم فيما حدث، وكذلك معرفتي بمكان الكلمات التي تتخذ شكل الفقاقيع القادمة من جبال الثلج، كنت في حالة حب مع الكلمات ومع مجمل الحكاية وعملية الكتابة ذاتها، ومع الإحساس بالتواصل المطلق بذلك الصراع الذي يشكل شيئًا ما بالنسبة لي.

كيف حدث ذلك؟ إن جزءًا منه بالطبع هو شيء سحري يحدث في كل مرة، ويحدث الآن كل يوم، وجزء آخر هو نوع من المران والتدريب يبعث على الراحة الكافية، مع استخدام الكلمات والأفكار، ومع كل ما يمكن أن يحدث من انفعالات وأحاسيس تتشكل مع بعضها البعض في منظومة من الوضوح والجمال، بالإضافة إلى عوامل أخرى كثيرة، إن الأمر ببساطة ليس به نوع من البراعة، فهناك اختلافات نوعية في تجارب الكتابة، وحتى في الكلمات التي يتم كتابتها فوق الورق، هناك فرق كبير بين الأعمال التي تتسم بالتواصل والحب لحظة كتابتها، وبين تلك التي تفتقد التواصل والحب، إنها الفعالية والسلاسة، وثمة باب مفتوح، إنه الفرق بين الإعجاب بشخص ما والوقوع في حب ذلك الشخص.

أصبح السؤال الآن كالآتي: كيف ولماذا تم فتح الباب؟ وكيف يمكنني مساعدة الطلبة في معرفة الكيفية التي يفتحون بها أبوابهم؟

ما أعرفه أنني أهتم كثيرًا وبعمق بالموضوع، فلا أريد مثلًا لصديقتي أن تعود إلى زوجها، ولا أتمنى لها مزيدًا من الأذى، ذلك ما يدفعني للكتابة، إنه الهدف الذي يجب أن يكون نصب عينيَّ أثناء عملية الكتابة، إنني أحاول التواصل مع الحدث والانفعال به، ولا أكتب لمجرد رص الكلمات، وليس أيضًا لمجرد النشر، رغم أن النشر شيء جيد، ولا حتى لمجرد التدريب، إنني أحاول بيأس أن أنقل رسالة وتجربة.

كيف لي أن أساعد الطلبة في الكشف عن انفعالاتهم المختلفة؟ ما الشيء الذي يصيبهم بالغيظ أو يخيفهم؟ وما الشيء الذي يبهجهم إلى حد كبير؟ وما الرسالة التي يرغب طلبتي بشدة في نقلها وتوصيلها؟ وإلى من يرغبون في نقلها؟ كيف يتسنى لي مساعدتهم في تفجير انفعالاتهم بطريقة قوية حتى يفقدوا وعيهم الخاص ويقعوا أسرى لأحاسيسهم وللكلمات التي يستخدمونها وللرسائل التي يرغبون في توصيلها؟

يعيدنا ذلك إلى السؤال القديم نفسه، من أنت؟ وماذا تحب؟

أما السؤال الجديد فهو: ماذا تريد؟

إذا أخبرتني من تكون فعليك بإخباري بما تحب وبالشيء الذي تريده وتتمناه، وعندئذٍ سوف أخبرك بدوري وما يتحتم عليك كتابته، وربما أجد نفسي غير مضطر لإخبارك؛ لأنك قد بدأت بالفعل في معرفة ما يجب عليك كتابته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤