لا تجعل القارئ يشعر بالضجر

«عند كتابة الفقرة الأولى يجب أن تمسك بالقارئ من رقبته، وفي الفقرة الثانية لا بد أن تغرس أصابعك في قصبته الهوائية، ثم عليك بإبقائه قبالة الحائط حتى نهاية السطر الأخير.»

بول أونيل

***

في اليوم الثاني دخلت الفصل متأخرًا حوالي دقيقتين، وكان الطلبة يحركون المقاعد ويضعونها على شكل دائرة، فأعلنت بأننا نتبع قاعدة في الجلوس، لكنهم راحوا يحدِّقون في بأفواه مفتوحة. غير أنني، وبعد يوم واحد فقط، اعتدت على ردود أفعالهم وعلى أفواههم المفتوحة، فقلت: إن القاعدة الوحيدة في الجلوس هي أنك لا تستطيع الجلوس في المكان نفسه الذي كنت تجلس فيه بالأمس، ولا تستطيع الجلوس إلى جوار الزملاء أنفسهم.

قال أحدهم: إنها ليست قاعدة واحدة بل قاعدتين.

أجبت قائلًا: إنها كذلك.

– لكنك قلت بأنها قاعدة واحدة للجلوس.

وعندئذٍ جاء دوري في التحديق، بينما راحوا يتمتمون قليلًا وهم يتحركون نحو مقاعدهم.

كان السبب الأول من تلك القاعدة واضحًا، وهو أنني كنت أريد لهم أن يحاولوا رؤية الأشياء من منظور مختلف في كل يوم. أما السبب الثاني فهو ما رغبت أن يفعله أساتذتي، حين كنت في المدرسة، وهو رغبتي في أن يجد طلبة الفصل الأكثر خجلًا العذر المناسب للجلوس إلى جوار شخص ما بعد أن سيطر عليهم الاهتمام بالحديث معه أو معرفة ما بداخله، أو على الأقل جدًّا لأن إعجابًا ما قد راودهم تجاه ذلك الشخص عندما اقتربوا منه لم يكن موجودًا حين كان بعيدًا عنهم.

قلت: حسنًا، فلتخرجوا الأوراق والقلم، وسنتحدث اليوم عن قواعد ومبادئ الكتابة.

قرأت فوق وجوههم معنى الاستسلام والاعتراف حين أدركوا أن سؤالي في اليوم السابق عن الأشياء التي يحبونها، وتسمية عنوان الدرس باسمٍ مختلف، لم يكونا سوى طريقتين لحملهم على التفكير بأن هذا الفصل مختلف عن بقية الفصول، وهكذا هدأت ثورتهم وأصبحوا على استعداد لقبول مدرسهم الجديد الذي سيكون بالطبع مثل المدرس القديم.

اتخذوا شكل الطلبة واستعدوا لكتابة ما أقول، وأصبح بمقدورهم أن يخبروني فيما بعدُ بما كتبوه.

قلت يومها: إن أول شرط من شروط الكتابة هو ألا تصيب القارئ بالملل.

وكتبوا ذلك فورًا في أوراقهم، فأضفت قائلًا: إن أهمية رسالة الكاتب لا تهم ولا تعني شيئًا إذا لم يُبْقِك الكتاب أو الفيلم السينمائي في حالة من الانتباه المتواصل، وإذا لم يعمل على إثارة انتباهك. إذا قرأت كتابًا مملًّا فماذا تفعل؟ إذا شاهدت فيلمًا سينمائيًّا لم يجذب انتباهك فماذا تفعل؟ إن أي وقت تقرأ فيه كتابًا أو تشاهد فيه فيلمًا كان باستطاعتك أن تقوم فيه بفعل أي شيء في العالم، كنت تستطيع القيام بنزهة، وربما كان بمقدورك تناول الطعام أو الاشتراك في مناقشة جميلة عن تعرية وتفكيك الحضارة.

أشاروا برءوسهم، وراح البعض يدون بعض الملاحظات، فقلت مستطردًا: وربما كان من الأجدر أن تذهب لممارسة الجنس.

توقفت الأقلام عن التدوين، فعرَفت أنني استحوذت على انتباههم.

الشيء نفسه ينطبق على رؤيتي لما تكتبون، حيث يمكنني فعل أي شيء آخر غير قراءة ما تكتبون، ولذلك فأنا لا أطلب سوى شيء واحد فقط، وهو أهمية أن تعرفوا أنني غير مهتم بما تكتبون، سواء كانت كتاباتكم روائية أو قصصية، ولا يعنيني قبولي أو عدم قبولي لآرائكم.

كانت وجوههم خالية من التعبير، فأدركت أنهم لم يصدقوني، وراحوا يواصلون الكتابة، وعندئذٍ أضفت قائلًا: ولكن من المهم جدًّا أن تكون كلماتكم فوق هذه الأوراق مفيدة وممتعة، ولا بد أن تحمل في طياتها ما يكفي من الإثارة، مما يجعلني أفضل قراءتها على ممارسة الجنس، هل كلامي واضح؟

توقفت الأقلام مرة ثانية، وسادت الفوضى، ثم أطلقت امرأة في نهاية العشرينيات من عمرها ضحكة متقطعة، ضحك على إثرها بقية الفصل، لقد كانوا يعتقدون بأنني أمزح.

•••

كان الطلبة في جامعة واشنطن الشرقية يضحكون دائمًا كلما أخبرتهم الكلام نفسه، وعندما قمت بعمل محاضرة، كضيف في أحد فصول جامعة نبراسكا، وذكرت لهم أهمية أن تكون الكلمات فوق الأوراق مفيدة وممتعة، وضرورة أن تتسم بالإثارة حتى يمكنني تفضيل قراءتها على ممارسة الجنس، راح الطلبة يحدقون في وجهي بإمعان، وارتسمت فوق وجوههم علامات تفكير عميق، وأومأ بعضهم برأسه؛ بما يفيد أن كلامي معقول، فأخبرتهم — عندئذٍ — بأن مجرد التفكير في كلامي واستجابتهم تعني أنهم كتَّاب جيدون، كما يجب أن ينتهزوا أول فرصة للالتحاق بجامعة واشنطن الشرقية.

•••

مارست كتابة القصص بعض الوقت حين كنت في العشرينيات من عمري، وكنت في بعض الأوقات كاتبًا سيئًا، وكان لا بد من إدخال بعض التحسينات على الطريقة التي أكتب بها، كان خوفي الشديد في مواجهة الجماهير وأي حشد من الناس هو أحد مشاكلي، لكن المشكلة الأساسية كانت فيما أكتبه من حكايات زائفة، حيث لم أكن قد فهمت بعد أن الكتابة الجيدة، أو حتى مجرد سرد قصة جيدة لا يتطلب اختراع شيء خيالي وغير ممكن، وإنما يتطلب ببساطة أن أكون نفسي بقدر المستطاع. لقد قمت مع صديقي «وادي ميتشل» شاعر رعاة البقر الشهير بعمل عدد لا بأس به من المهرجانات والندوات الأدبية، والتي اتسمت بالطابع الاحتفالي المبهج، وحدث ذات مرة، وبعد انتهاء آخر ليلة في آن آربور بميتشجان، أن كاتبة تُدعى «ملبر بيرش» راحت تتحدث معي في وقت متأخر من تلك الليلة، إنها واحدة من أكثر كتَّاب القصة والرواية موهبة، وقد أجبرتني حينها أن أقرأ لها واحدة من قصصي، وفور الانتهاء من القراءة راحت تنتقد العمل كلمة وراء كلمة. كنت من ناحية أستخدم كلمةً خطأً من أجل وصف شيء ما؛ مثلما كنت أقول «المجراف» بدلًا من «المجرفة»، وعندما انتقدتني، وقامت بتصحيح بعض الزَّلَّات، قلت: إنها مجرد كلمة.

أجابت باستغراب: مجرد كلمة! لا، أنت قمت باستغفالي وكأنك سرقت محفظتي، لقد ضحكت عليَّ بالكلمات وسرقت لحظة من حياتي. إن كل لحظة تقف فيها على خشبة المسرح، أو كل لحظة تكتب فيها شيئًا ما لشخص آخر هي ملك للمشاهدين وللناس الذين يقرءون ما تكتبه؛ لأنهم يقدمون لك وقتهم الذي كان من الممكن أن يستفيدوا به في عمل شيء آخر، أنت إذن مسئول عن كل ثانية أمضوها في قراءتك، وبالتالي فلا بد أن تقدم لهم كل ما هو مفيد ومثير، بما في ذلك الحقيقة كما تفهمها وكما يجب أن تكون في كل لحظة من اللحظات المختلفة.

•••

يصبح السؤال عندئذٍ: كيف تحافظ على انتباه قرائك؟ وما الفائدة أو المتعة التي ستقدمها لهم؟ وكيف تعمل على أن تكون تلك المتعة متساوية مع الوقت الذي أمضوه في القراءة.

لا شيء، إنهم يتوقعون مني طرح الأسئلة، والإجابة عليها أيضًا.

ما الذي يجعلك تواصل مشاهدة فيلم ما؟

يجيب شخص ما أخيرًا: الإثارة، شيء ما يشدني.

أكرر: الإثارة، إنني أقوم بتقليب المحطات وأرى شخصًا ما وهو يختلس النظر عند أحد الأركان ويمسك بالبندقية فأرغب، ربما، في التوقف والانتظار مدة طويلة لرؤية ما يمكن أن يحدث، لأن شيئًا ما يجب أن يحدث، إن القاعدة في الغرب — كما سمعتها — هي ضرورة أن تصيب القارئ ببعض الطلقات النارية في الصفحات العشر الأوائل.

اقتنع كثير من طلبتي بتلك القاعدة الغربية وراحوا يكتبون على غرارها.

قال شخص آخر: فكاهة!

أجبت: إن الفكاهة والمزاح والهزل أشياء جيدة.

أضاف شخص آخر قائلًا: وعنصر التشويق!

إنه لأمر مهم، هل شاهد أحدكم فيلم الزوال؟

حمدت الله كثيرًا لأن أحدًا لم يشاهد الفيلم.

كنت قد شاهدت النسخة الأوروبية من الفيلم، وسمعت بأن النسخة الأمريكية تستحق المشاهدة، إنه يحكي عن عاشق يفقد عشيقته حين توقفا عند محطة للبنزين أثناء رحلتهما في الطريق، ثم تمضي بقية أحداث الفيلم في الكشف عن محاولات العشيقة لمعرفة ما حدث لها. كان الحوار غريبًا والأداء مضحكًا، وكانت الشخصية الرئيسية بلهاء، لكنني بعد أن شاهدت بقية الفيلم الملعون استطعت عندئذٍ أن أكتشف ما حدث لها، لقد كان شيئًا بشعًا، وقد نجح الفيلم فقط في التشويق وإثارة الانتباه.

سادت لحظات من الصمت قطعها شخص ما قائلًا: ثم؟

– ثم ماذا؟

– ثم ما الذي حدث لها؟

قلت: ثمة شيء آخر تستطيع عمله من أجل التشويق والإثارة، وهو أن تذهب بالقارئ إلى ما قبل نهاية القصة بقليل، أو إلى أن تصل بهم حتى نهاية جزء من الحدث ثم تنتقل للحديث عن شيء آخر مما يجعل القراء يواصلون — رغمًا عنهم — قراءة كل الأحداث المملة حتى تعود مرة أخرى إلى ما كنت تتحدث عنه من أحداث جادة، أنت ترغب في الإبقاء على الإثارة واللهفة في معرفة القادم، لكنك لن تستطيع أبدًا أن تنجح في ذلك دون أن تخلق نوعًا جديدًا من الإثارة.

قال الشخص نفسه متسائلًا: ماذا حدث للمرأة؟

أجبت: إثارة، فكاهة، تشويق … هل ثمة شيء آخر؟

قالت امرأة: أنا أحب قراءة الإنجيل.

سألتها: لماذا؟

– لأن قراءة الإنجيل تساعدني في معرفة الله.

– لكن الكاتب يستطيع أن يستحوذ على انتباه القارئ بشيء آخر، ولا يهم أن يكون ذلك الشيء عن الله أو التاريخ أو الفلسفة أو الحياة، أو حتى عن تصليح السيارات، إن الشيء المهم هو أن تكون ما تريد وأن ترغب فيما تحتاج وأن تكون مستعدًّا للتعلم والمعرفة.

لم يتكلم أحد، فقلت مستطردًا: وماذا عن الكتابة الجميلة؟ والحوار العظيم الذي يتسم بمستوًى رفيع؟ تلك هي الأشياء التي تجعلك تهتم بمشاهدة السينما ولا تنقطع عن القراءة، إلى جانب الشخصيات المثيرة للانتباه وليست الشخصيات النمطية. وبالمناسبة فإن ثمة سببًا واحدًا يجعل من أفلام الأربعينيات والخمسينيات أفضل من أفلام اليوم، وهو أن كثيرًا من كتَّاب تلك الأفلام القديمة كانوا روائيين وكانوا يجيدون بالتالي رسم الشخصيات، أما في أيامنا هذه فإن معظم الكتَّاب من خريجي معاهد السينما أو من دارسي الإعلانات، مما يعني أنهم أفضل كثيرًا في إيهام المشاهدين بأنهم يشاهدون شيئًا غير مألوف، وذلك بالقفز من مقطع لآخر وباستخدام الصور المدهشة، لكنهم لا يعرفون كيفية كتابة ذلك الحوار الذي يكشف — من خلال كلماته — عن كل الأشياء التي تحتاج لمعرفتها، ويكشف لك شخصية المتكلم في جملة واحدة مفيدة، كما حدث في فيلم «رجل المطر»، حيث كان كلٌّ من «داستين هوفمان» و«توم كروز» يصعدان السلالم ثم ينزلان في مشهد رائع، لكنني ظللت أفكر أنهم استخدموا ذلك المشهد لكي يساعدوني ويساعدوا كل المشاهدين في معرفة الشخصيات من خلال حوار دقيق وبارع.

بدا أنهم فهموا ما قلت، غير أنهم لم يقولوا شيئًا.

وما الذي يجعلك تشعر بالإثارة أيضًا؟

كنت أعرف ما يفكرون فيه، لكنني كنت أعرف أيضًا أنهم لن يبوحوا به، وعندئذٍ قلت: إنه الجنس، لقد أضاف جهاز التحكم عن بعد كثيرًا من المشاهد الجنسية إلى الأفلام؛ فأنت تستطيع أن تتنقل عن طريق الجهاز من قناة إلى أخرى حتى ترى بعض الأجساد مما يجعلك — غالبًا — تتوقف بضع لحظات.

قال واحد من الطلبة: يتوقف ذلك على نوعية الجسد.

ساد مزيد من الصمت، وكنت أعرف أيضًا ما يفكرون فيه هذه المرة، لكن أحدًا لن يتجرأ على القول.

قلت: أظن أنه «تشارلز ديكنز» الذي تحدث عن العنف وأباح قتل أحد الأطفال إذا ما ساورتك الشكوك، إنه يعني بذلك سير الأحداث ويراعي الحبكة الروائية، ولا يعني حدوث الشيء نفسه في الحياة الواقعية، مع أن الأمر مع «ديكنز» ليس مؤكدًا. لقد قرأت منذ سنوات مضت كتابًا في الفلسفة ﻟ «ميشيل فوكو» بعنوان «تأديب وعقاب»، هو في الأساس اختبار للعقود الخمسة الأخيرة لدولة من الدول ومدى استجابتها للجرائم، كان واحدًا من أفضل ما كُتِبَ في الفلسفة ومن أجمل الكتب التي قرأتها، لقد بدأ «فوكو» بوصف تصويرٍ حي لتعذيب شخص ما، وإعدامه، حاول أن يقتل الملك، لقد استخدموا كماشة ساخنة ومتوهجة في تمزيق جسده، وكانوا يصبون الزيت المغلي فوق الجروح، كما ربطوا ذراعيه وقدميه في رقبة حصانين ثم تركوا لهما فرصة الجري بأقصى سرعتهما لتمزيقه، وعندما لم تنجح تلك المحاولة البشعة قاموا بتقطيع ذراعيه وقدميه بضربات متوالية. كان أمرًا فظيعًا ومشينًا لكنه جعلني أقرأ ذلك الكتاب اللعين وظللت — أثناء القراءة — أتوقع المزيد، غير أنني لم أحصل على شيء في النهاية سوى مئات الصفحات من الفلسفة.

سألني أحدهم: ألم تشعر بالخديعة؟

أجبت: لا، إذا كانت الفلسفة مملة لأصبح الكتاب خدعة رخيصة، لكن الفلسفة علم مثير للانتباه ويحمل في ثناياه كثيرًا من التشويق والمتعة، لقد نجح الكتاب تقريبًا، وأستطيع القول بأنها لم تكن خدعة رخيصة.

قال الشخص الذي ظل يتساءل عن التلاشي والزوال: أتتحدث عن الخدع الرخيصة، ماذا حدث للمرأة؟

آه، عليك بمشاهدة الفيلم لكي تكتشف بنفسك لكنهم اختطفوها على أية حال وقاموا بدفنها وهي حية.

قال شخصان في وقت واحد: أوه، لقد شاهدناه، إنه فيلم رائع وجميل.

•••

سأل أحد الطلبة قائلًا: وهل ذلك هو ما تحتاجه الكتابة لتكون أفضل من ممارسة الجنس؟ وهل ينطبق الشيء على الكتب والأفلام أم على ما يحدث داخل الفصول أيضًا؟

أجبت قائلًا: بالطبع، إن جوهر وظيفتي هو أن أبث روح الإثارة داخل الفصول بقدر المستطاع، مما يجعلك تفضل المجيء إلى الفصل عن ممارسة الجنس مع امرأة فاتنة.

ضحكوا لأنهم لم يدركوا بأنني أتحدث بجدية، فقلت مستطردًا: وإذن فما الذي يجعلكم تأتون إلى هنا؟

•••

أريد القول بأن الفصول التي أقوم بالتدريس فيها كانت مليئة بالإثارة والتشويق، حتى إن كل طالب على حدة كان يحضر إلى الفصل من تلقاء نفسه؛ رغبة منه في مزيد من التشويق، ولم يكن ذلك يمثل الحقيقة الكاملة؛ لأن معظم الطلبة في الحقيقة كانوا يحضرون بالمصادفة أثناء تجوالهم من فصل لآخر، وذلك من باب الفضول لرؤية ما يحدث داخل الفصل الجديد، وأحيانًا للمشاركة في بعض التدريبات المفضلة لديهم.

حاولت عدم القيام بدوري المعهود في فصلين من الفصول، ولم أتعهد لهما بالانتظام في الحضور، لكن دائمًا ما كان يوجد واحد أو اثنان في كل فصل من الذين لا تبدو عليهم أبدًا علامات عدم الإكراه.

سألت أحدهم: هل تحب الفصل؟

– نعم، أحبه كثيرًا.

– لكن ذلك لا يبدو واضحًا إلا إذا جئت أنا.

قال: لماذا ينبغي أن أكون في الفصل إذا كان بمقدوري أن أكون خارجه؟

مضيت نحوه وأخبرته بأن يكون واضحًا وصريحًا مع نفسه ويتصرف طبقًا لما يريد، لكنه قال: لقد بالغتَ في اعتقادك أنني أستطيع التصرف طبقًا لرغباتي، حتى لو أنني سأفعل ما أحب.

استدرت بعيدًا عنه.

•••

بدأت حديثي قائلًا: إن أول قاعدة يجب مراعاتها عند الكتابة هي …

لم ينتظروا نهاية الجملة، وقاطعوني قائلين: ألَّا تصيبَ القارئ بالضجر.

قلت: والقاعدة الثانية هي ألَّا تصيب القارئ بالضجر.

قال أحدهم: ولكن ذلك …

قاطعته وأضفت: والقاعدة الثالثة التي لا بد من مراعاتها عند الكتابة هي ألَّا تصيب القارئ بالضجر. وإذن فهل يستطيع أحدكم الآن أن يخمن القاعدة الرابعة والخامسة؟

•••

إن التدريس في السجن لا يشكل فرقًا في الحقيقة عن التدريس في أي مكان آخر، فالطلبة هم الطلبة، والكتابة هي نفسها الكتابة، مع بعض الاختلافات الطفيفة بالتأكيد، لكن تلك الاختلافات أصغر مما قد يظن المرء؛ فالقصص التي يتناولها الكتاب في السجن مليئة أكثر بالأحداث عن تلك التي يتناولها الكتاب في الكلية، كما أن الحدث نفسه يكون أكثر إثارة، وتوجد أيضًا بعض الاختلافات الخفية في طريقة التدريس التي أتناولها؛ لأن طلبتي في السجن محرومون في الغالب من العلاقات الرومانسية الحميمية، واللقاءات المنتظمة المباشرة، وهكذا فإنني لا أطلب منهم أن تكون قصصهم وكتاباتهم أفضل من ممارسة الجنس؛ لأنهم سيتذكرون على الفور بأنني أطلب شيئًا لا يمتلكونه، بالإضافة إلى أن بعضهم لن يمارس تلك العلاقة بقية حياته، ويجب ألا أطلب منهم في الوقت نفسه أن تكون كتاباتهم وقصصهم أفضل من السير في الغابة، وإنما يجب إخبارهم بأن تكون كتاباتهم أفضل من كتابات أخرى كثيرة قمت بقراءتها على مدى سنوات، أو أكثر إثارة من الأفلام التي شاهدتها، هكذا فقط يمكن إخبارهم؛ كي يتفاعلوا معي ولا يشعرون بالزيف.

أخبرني طلبة السجن، فور البدء في العمل معهم، بأنهم لاحظوا عدم خوفي منهم، وأن ذلك الأمر نادر الحدوث، وقال بعضهم بأنني في الغالب المدرس الوحيد الذي لم يخف منهم.

كان كثير من المدرسين، وآخرون ممن يتعاملون معهم، يبدون في البداية وقد ملأهم الرعب لئلا يقوم أحد المساجين بحركة مفاجئة وسريعة، فقلت: لا يوجد سبب لديكم لإيذائي فلماذا أخاف إذن؟

قالوا: تمامًا، لا يوجد أي سبب.

كان لا بد من ممارسة قليل من الذكاء أثناء التعامل معهم، فلم أكن مثلًا أدير ظهري للطلبة الذين لا أعرفهم رغم أنني دائمًا ما كنت ودودًا ولطيفًا معهم، كما كنت أيضًا حريصًا، على الدوام، أن أضع جهازًا للإنذار في حزامي يمكنني أن أضغط عليه في أي لحظة أشعر فيها بالخوف، ليسارع الحرس بإنقاذي، لم يكن طلبتي يتمتعون بتلك الميزة.

•••

كان حبي واحترامي لطلبتي متساويًا بين طلبة الكلية وطلبة السجن، ولم يحدث أن شعرت بفرق بينهما.

لم يستطع كل الطلبة تقدير جهودي، سواء في الكلية أو في السجن، ومن المحتمل أن ذلك ما حدث في الشوارع وفي البيوت. منذ عامين تقريبًا التحق طالب جديد بفصلي في السجن، واستطعت بسرعة أن أكتشف أنه كاتب موهوب ورائع، ولا أنسى أبدًا ذلك السطر في القصيدة الذي راح يصف فيه الرجل المضروب دفاعًا عن الجماعة بالكيميائي البارع الذي يخلط المعادن ببذور النباتات والثمار، رأيت هذا الطالب الجديد مرة واحدة، ثم اختفيت لفترة كنت مشغولًا فيها بمراجعة أحد الكتب، وبعد عودتي لم يكن موجودًا، فلم أشاهده لشهور عديدة، لكنني رأيت في الفصل الثاني رجلًا طويلًا ونحيلًا بدا لي مألوفًا، فسارعت بسؤاله: هل أنت هو الشخص الذي كتب ذلك السطر عن خلط المعادن ببذور النباتات والثمار؟

نظر نحوي بطرفي عينيه وقال: نعم.

قلت: لقد قلتُ لكل الناس وفي كل مكان بالبلد إنك كاتب عظيم، لقد كان وصفًا رائعًا.

ابتسم، وبدا أنها المرة الأولى، أو إحدى المرات القليلة التي استمتع فيها بوجوده في الفصل، وفي السنة التالية أو السنتين التاليتين كان متحفظًا، وبدا فاترًا إلى حدٍّ ما. كانت قراءته لقصائده الخاصة وقصصه — التي اتسمت في الغالب بالبراعة — هي أقصى ما يستطيع أن يشارك به، لكنه كآخرين من أمثاله لم يكن يحب الفصل على ما أعتقد. وفي يوم ما أخبرنا عما يضايقه وقال: لقد سئمت حقًّا من الطريقة التي تعاملوننا بها، إنكم تعاملوننا كالأطفال، وليس من المستبعد أن تحضروا لنا الحفاضات في يوم ما. إن كل ما تفعلونه دائمًا هو الإشارة إلى أننا كتَّاب جيدون، لكن الحقيقة أن بعض الكتَّاب هنا ما زالوا مبتدئين، والكثير من أعمالهم لا ترقى إلى مستوى الإبداع، لكنكم لا تخبرونهم بذلك أبدًا.

قلت: إنني أقدم بعض الاقتراحات، وإذا أبديتم قبولًا لتلك الاقتراحات، وأيضًا إذا ما قمتم بتطبيقها لتحسين كتاباتكم فلن أتردد في تقديم المزيد من الاقتراحات، أما إذا لم تقبلوا بها وأبديتم عدم تفهم لها فلن أتقدم بالنصيحة؛ لأنها حينئذٍ تكون عديمة الفائدة.

– لكنك لم تخبرنا أبدًا بأخطائنا.

– إنه ليسعدني أن ترغبوا في مزيد النقد لأعمالكم وتوضيح أخطائكم.

– أوه، أنا لا أتحدث عن أعمالي الشخصية فهي كتابات جيدة، وكل ما قلته لا يعني بالنسبة لي أي شيء على أية حال، لكن بعض الطلبة هنا في حاجة لأن تتحدث معهم، إن أعمالهم الإبداعية مبتذلة، ويجب أن تخبرهم بذلك حتى يتوقفوا عن تبديد وقت الآخرين ووقتهم هم أولًا.

كان ذلك الكلام، في المقام الأول، بمثابة إشارة لي، وبدا واضحًا بالنسبة لي، وبالنسبة لواحد من طلبتي المفضلين الذي يأتي كل أسبوع، أن الأمر ممتع ولطيف. كتب الكثير، كانت لديه الهبة لكي يلحق بأحداث الرواية ويدرك الحبكة الروائية. ومن وجهة نظري فإن ما هو أهم من كل ذلك أن الأمر برمته مناسب للتعليم. عندما بدأنا العمل معًا في البداية كانت كتاباته أقرب إلى المسودات والأفكار المختصرة منها إلى القصص، فاقترحت عليه أن يدخل في تفاصيل أكثر لكي يبين لنا، على سبيل المثال، شخصًا بريئًا وقد عثر على نقود كثيرة مسروقة من أحد البنوك، وبدلًا من القول بأنه كان في نزهة حين وجد حقيبة وبها مليون دولار، أتساءل أنا قائلًا: هل كانت الحقيبة تشير إلى محتواها؟ وبماذا شعر حين فتحها؟ هل كان عصبيًّا؟ وهل فكر في مجرد إعادتها؟

عند سماعهم لسؤالي الأخير ارتسمت على وجوههم علامات تتهمني بالحمق.

عاد في الأسبوع التالي وقد أعاد كتابة سبعين صفحة احتوت على مثل تلك التفاصيل، ومنها الطريقة التي وصف فيها الشخص الذي وجد الحقيبة وهو يتناول إفطاره، حيث ذكر أن الإفطار بدأ في السابعة والدقيقة الثالثة والعشرين، وتحدث عن كمية السجق بالواحدة، وعدد البيضات، وكيف قام بتسوية كل بيضة على حدة، وهكذا حتى إنه اعترف بالإغراق في التفاصيل، وقد أجبرناه على تمزيق كل الأوراق فاستمع إلينا، ولا بد أنه تعلم شيئًا جديدًا مما جعلني أشعر بسعادة بالغة.

دافعت عن هذا الطالب علانية بينما راح زملاء آخرون يواصلون هجومهم معبرين عن استيائهم لضياع الوقت.

عدت في الأسبوع التالي وأخبرت زملائي بأنني في حاجة لتوضيح بعض الأشياء، ثم لم أتردد في القول: ليس مسموحًا لأحد أن يبدي عدم احترامه لطلبتي، وهذا الكلام ينطبق على الطلبة أنفسهم، فليس مسموحًا لأي طالب أن يعبر عن ازدرائه لأي زميل له في الفصل، كما أنه ليس من حق الطلبة ألا يكنوا الاحترام لأنفسهم أولًا.

ساد شعور بالرضا لدى كثير من الطلبة بعد سماع ذلك الكلام، ورحت أتجول في الفصل وأسأل كل واحد على حدة عما إذا كان راغبًا في الحديث عن الموضوع، فقال أحدهم بأنه لا يتفق معي في فلسفتي التعليمية التي أعتمد فيها على المديح والإشادة والتمجيد، ثم استطرد قائلًا: إذا رغبت أنا مثلًا في الكتابة بشكل أفضل فلا بد أنني في حاجة أولًا لمعرفة نقاط ضعفي ككاتب.

قلت له: أتعرف نقاط قوتك ككاتب أولًا؟

– لا.

– حسنًا، بعد أن نكتشف نقاط قوتك سيكون أمر اكتشاف نقاط ضعفك واضحًا جليًّا، أفليس من الصواب إذن أن نتعرف على نقاط قوتك وعلى مميزاتك في الكتابة قبل الحديث عن نقاط الضعف.

وافقني بإشارة من رأسه.

هكذا سارت الأمور حتى وصلنا في النهاية إلى الشكوى الأساسية حين قال شخص ما بصراحة: نحن المدانون، نحن لا نشبه بقية الناس، كما أننا لسنا مثل طلبة الكلية الذين تجبرهم على ارتداء الحفاضات، نحن نقوم بعمل أشياء فظيعة ومروِّعة، والبعض منا أشخاص مروِّعون، نريدك أن تخبرنا عن أخطائنا وعيوبنا.

غضبت بشدة، ولكن ليس بسبب ما قاله فقط، وإنما بسبب أولئك الذين التقوا به في حياته وأقنعوه بأن إخباره بأخطائه دليل على اهتمامهم به، وغضبت أيضًا بسبب كل تلك الثقافة التي نشأت في ظل بيئة لا تقبل الاختلاف ولا يسود فيها الاحترام المتبادل، ويفقد فيها الناس قدرتهم على حب ذواتهم. لقد فكرت في ذلك الملصق الضخم الذي شاهدته في يوم ما وكان مكتوبا عليه: «أولئك الذين يخافون من اتباع أحلامهم هم الذين سيقومون بتدميرك.»

ضربت يدي بقوة فوق الطاولة فتراجع أحد الطلبة إلى الوراء، وقلت بصوت أكثر حدة من أي وقت مضى: أنا لا يعنيني ماذا تفعل، ولا أهتم حتى بأنك قمت بنكاح أمك، أو قتلت صديقك الحميم، لا يهمني كيف يعاملونك خارج هذا الفصل، وكيف تعامل أنت الآخرين خارج هذا الفصل، فأنا لا أستطيع التحكم فيما يحدث بالخارج، ولكن في هذا الفصل، وهنا داخل هذه الحجرة، فإن جميعكم بشر وآدميون، ولا بد أن يكون التعامل معكم باحترام، وذلك أمر غير قابل للتفاوض.

انتهيت من كلامي، فقام على الفور بمغادرة الفصل، ومن يومها لم أشاهده مرة أخرى ولم أسمع عنه شيئًا، لكنني أظن بأنه لا يزال يمارس الكتابة وبشكل جيد، وربما يتسنى لي رؤيته في يوم ما، وربما لا.

•••

من المدهش حقًّا أن نظام التعليم قد ساهم بشكل كبير في تدمير روح الطلبة، وكانت تلك غايتهم منذ البداية على ما يبدو، وأرجو ألا تغضب مني أو من كلامي، ولكن عليك بالغضب على الذين أسسوا ذلك النظام، في عام ١٨٨٨م (وأنا هنا أَدين بالفضل كله للمربي والكاتب الكبير «جون تايلور جاتو» لجمعه تلك الاقتباسات الخاصة بالهدف الأساسي من التعليم الصناعي) كان مجلس الجامعة غاضبًا من جودة التعليم التي يتلقاها الطلبة في المدارس المحلية غير الموحدة، فكتب التقرير التالي: نعتقد أن التعليم هو أحد الأسباب الرئيسية في الاستياء وحالة السخط التي سادت في السنوات الأخيرة داخل الفصول.

كيف بدأ المسئولون في المدارس الصناعية يدركون حجم المشكلة؟

قال المعلم والفيلسوف «جون ديوي»: يجب على كل مدرس أن يدرك أنه يعمل في خدمة مجتمعه، وأنه يدخر كل مجهوداته لعملية إصلاح النظام الاجتماعي المناسب وصيانته، والعمل على تأمين التطور الاجتماعي السليم.

وكان السؤال التالي: ما النظام الاجتماعي المناسب، وما التطور الاجتماعي؟

في عام ١٩٠٦م أجاب «إلوود كوبرلي» الذي أصبح — فيما بعد — عميدًا لمدارس إحدى كليات التعليم، وقال: ينبغي أن تصبح المدارس كالمصانع حيث يقومون بتشكيل المواد الخام ويصنعون منها أشكالًا نهائية في صورة منتجات مختلفة، وهذا بالضبط ما يجب أن يحدث في المدارس، يجب أن يعملوا على تشكيل عقول الأطفال وتدريبهم على التفكير الحر وعلى الإبداع والابتكار.

وفي عام ١٩٠٦م قام مجلس روكفلر للتعليم، بصفته أكبر المناصرين لحركة التعليم العامة الإلزامية، بمساندة الحركة ماديًّا، وقالوا في ذلك الصدد: إن الناس تسلم نفسها لنا طواعية لنشكلهم حسبما نريد. إن اتفاقيات التعليم الحاضرة؛ مثل اتفاقية تطوير مهارات الأطفال وشخصياتهم داخل المنزل وفي المدارس المحلية، لم تعد تشغل حيزًا من تفكيرنا، وساهمت التقاليد بشكل كبير في إعاقتها. لن نحاول أن نجعل من أولئك الناس فلاسفة أو رجال تعليم أو رجال علم، ولن نحاول أن نكتشف — من خلالهم — الكتاب والمعلمين والشعراء أو الأدباء، لن نبحث عن الفنانين العظماء الصغار أو الرسامين والموسيقيين، ولا حتى المحامين والأطباء والدعاة ورجال السياسة أو رجال الدولة، والذين هم موجودون بكثرة، وإنما مهمتنا التي تشغلنا ونحاول تحقيقها هي مهمة بسيطة تنحصر في كيفية تنظيم الأطفال وتعليمهم إتقان فعل الأشياء نفسها التي كان يفعلها آباؤهم وأمهاتهم بغير إتقان.

لم يستطع المسئولون أن يكونوا أكثر وضوحًا، وكتب «وليام توري هاريس» مفوض التعليم الأمريكي في الفترة ما بين ١٨٨٩–١٩٠٦م قائلًا: إن ٩٩٪ من الطلبة تلقائيون وحريصون على السير في طرق وممرات محددة، وكذلك على اتباع العادات المحددة نفسها، وليس ذلك مصادفة، ولكن نتائج التعليم الأساسية، والتي يمكن تعريفها بشكل علمي، هي مقدمة لشخصية الفرد.

استطرد «هاريس»، للتدليل على أن الأمر لا يتعلق بالطلبة فقط وعلاقاتهم ببعضهم البعض، وإنما بالبلد بأكملها: إن هدف المدرسة الأساسي والأهم يمكن إدراكه بشكل أفضل في الظلام والسكون والأماكن الرديئة، حيث يمكن السيطرة على النفس وتجاوز جمال الطبيعة، يجب أن تقوم المدرسة بعملية تطوير القوة للانسحاب من العالم الخارجي.

لا عجب إذن لأننا جميعًا نكره المدرسة، وتلك الكراهية في حد ذاتها شيء جيد جدًّا؛ لأنها تعني أننا ما زلنا أحياء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤