الفصل الرابع عشر

أحاديث السيد بلنكيرون عن الحُب والحرب

بعد مرور ثلاثة أيام، تلقَّيتُ أوامرَ بالذهاب إلى باريس في مهمةٍ خاصة. كان التوقيت مناسبًا؛ إذ كلما ازداد التأخير زاد استيائي. كان كل تفكيري منصبًّا على اللعبة التي نلعبُها ضد أفري. فهو عدوُّنا الأكبر، والجنود الألمان في الخنادق مقارنةً به أبرياءُ وديعون. فقدتُ كُل شغَفي تقريبًا في الفرقة التي أقودُها؛ لأنني كنتُ أعلم أن جبهتي الحقيقية ليست في بيكاردي، ومهمَّتي ليست بسهولة الدفاعَ عن موقعٍ بعينه ضد العدو. كما أنني كنتُ متلهفًا للعمل مع ماري في المهمة نفسها.

أتذكَّر أنني استيقظتُ في مساكن الجند، في صباح اليوم التالي لحادثة القلعة، يغمُرني شعورٌ بالغنَى. كما تولَّد بداخلي شعورٌ بالتواضُع والعَطْف تجاهَ العالَم بأسْرِه بما فيه الألمان، وإن كنتُ لا أستطيع القول إنني شعَرتُ يومًا بالكراهية الشديدة تجاهَهم. فالكراهيةُ موجودةٌ بين الصحفيين والسياسيين في الوطن أكثر مما تُوجَد بين الرجال المتحاربين. أردتُ الجلوسَ بمفردي في هدوءٍ للتفكير، ولمَّا كان هذا مستحيلًا، فقد باشرتُ عملي مُرحِّبًا بما يوفِّره لي من تشتيتٍ للذهن. حاولتُ عدمَ التفكيرِ في المستقبل، والتركيزَ في الحاضر فحسب، أذكِّر نفسي أن الحربَ مستمرَّة، وأن مهمةً خطيرةً عاجلةً في انتظاري، وأن آمالي معلَّقة على خيطٍ رفيع. لكن كنتُ أُطلِق العِنانَ لخيالاتي، في بعض الأحيان، وأُحلِّق بعيدًا مع أحلامي السعيدة.

لكنَّ فكرةً وحيدةً كانت كفيلةً بإعادتي إلى الأرض الصلبة، وهي أفري. لا أعتقد أنني أكره في العالَم سواه. كانت علاقتُه بماري هي سبب مرارتي. بلَغ الرجلُ من الوقاحة أن مارسَ الحبَّ مع تلك الفتاة الطاهرة المُفعمة بالحياة رغم قُبح ماضيه. رأيتُه عدُوي اللدود، وسرَّني هذا التوصيف؛ لأنه ساعدَني في أن أكرهه كراهةً خالصةً في أثناء السعي خلفه. كما أنني سأفوز. لقد أخفقتُ مرتَين، وسأصيب في المرة الثالثة حتمًا. كنتُ كمن يُحاوِل إصابة الهدف في لعبة الرماية — جاءت طلقتي الأولى أدنى من الهدف والثانيةُ أعلى منه — وأقسمتُ أن تُصيبَ الثالثةُ هدفَها بدقَّة.

استُدعيتُ إلى مقر القيادة العامة، حيث قضيتُ نصفَ ساعةٍ أتحدَّث مع أعظمِ قائدٍ بريطاني. لا أزال أذكُر وجهَه الحليمَ العَطوف، وعينَيه الهادئتَين اللتَين لا تؤثِّر فيهما تقلُّبات الدهر. كانت رؤيتُه واسعة؛ لأنه رجلٌ سياسيٌّ بالإضافة إلى أنه جندي، ويعلم أن العالَم عبارةٌ عن ساحةِ قتالٍ واحدة، وأن كل فرد في الشعوب المتناحرة، رجلًا كان أم امرأة، هو محاربٌ بطريقةٍ ما. رأيتُ كم هي معقَّدة النفس البشرية؛ ففي لحظتها تمنَّيتُ ألا أبرحَ مكاني. أردتُ أن أواصِل القتالَ على أرضِ المعركة تحت قيادة هذا الرجل. أدركتُ فجأةً مدى محبَّتي لعملي، وعندما عدتُ إلى ثكنتي العسكرية ورأيتُ الجنود يعودون في نشاطٍ من مسيرةٍ عسكرية، كنتُ سأصرُخ من فَرْطِ الحزن على فراقهم. لا أقول ذلك تفاخرًا، لكن فرقتي هي الأفضلُ في الجيش كله.

بعد مرور أيامٍ قليلة، اصطحبتُ ماري من مدينة أميان، ذاتَ صباح. لطالما أحببتُ هذه المدينة؛ إذ بعد قذارة معركة السوم، تنفَّستُ الصُّعَداء وأنا أتوجَّه إليها للاغتسال وتناوُل وجبةِ طعامٍ مُشبِعة، بالإضافة إلى أنها تتضمَّن أجملَ كنيسةٍ بنَتها الأيادي البشرية لعبادة الرب. كانت السماءُ صافيةً عندما بدأنا التحرك من جادةٍ بجوار محطة السكك الحديدية، وحمَل الهواءُ رائحةَ الشوارعِ النظيفةِ والقهوةِ الطازجة، فيما اتجهَت النساءُ إلى السوق، ومرَّت الحافلاتُ الكهربائيةُ الصغيرةُ مجلجلة، مثلما يحدُث في أي مدينةٍ بعيدةٍ عن دَوِي البنادق. لم أرَ رجلًا يرتدي زيًّا عسكريًّا بريطانيًّا أو فرنسيًّا في الأنحاء إلا فيما ندَر، وأتذكَّر آنذاكَ تعجُّبي من إفلاتِ مدينة أميان من حيِّز الحرب تمامًا. لكن بعد شهرَين اختلفَت القصة.

حتى نهايةِ عمري، سأظل أعتبرُ هذا اليوم أسعدَ أيامي على الإطلاق. كان الهواء يفوحُ برائحة الربيع وإن كانت الأشجار والحقول لا تزال بصبغَتها الشتوية. انبعثَت آلافُ الروائحِ المُنعِشة العَطِرة من الأرض فيما انهمكَت طيورُ القُبَّرة بالغناء فوق الأراضي المحروثة حديثًا. أتذكَّر أننا ركضنا في وادٍ صغير؛ حيث شكَّل النهرُ أحواضًا صغيرةً من النُّهر بين أشجار الصفصاف، كما غطَّت أعشابُ الدبقِ الأشجارَ المحاذيةَ للطريق. سطعَت الشمسُ على السهل المرتفع خلفَ وادي السوم كأننا في شهر أبريل. في مدينة بوفيه تناولنا غداءً سيئًا في نُزُل، لكني أعني الطعامَ فحسب؛ فقد كان هناك نبيذٌ برجنديٌّ ممتاز بسعر فرنكَين للزجاجة الواحدة. مرَرْنا بمجموعة من القرى المتواضِعة في طريقنا إلى نهر السين، وفي ساعة متأخرة من فترة الظهيرة اجتزنا غابة سان جيرمان. أطلقَت هذه المساحاتُ الخضراءُ الشاسعةُ بين الأشجار العِنانَ لخيالي فرُحتُ أتصوَّر المنطقةَ الريفيةَ الإنجليزيةَ البديعةَ التي سنسكن فيها أنا وماري ذاتَ يوم. كانت ماري سعيدةً طيلة الرحلة، لكن عندما تحدَّثتُ عن تلال كوتسوولدز عبَس وجهها.

قالت: «هلَّا تجنَّبنا الحديث عنها يا ديك. هي ذكرى في غاية البهجة وأخشى إذا تحدَّثنا عنها أن تتلاشى. لا أدَعُ نفسي أفكِّر في السلام والوطن، إذ يجتاحُني الحنينُ إلى الوطن … أظن أننا سنعودُ إليها في يوم من الأيام، أنتَ وأنا … لكن رحلتنا إلى «الجبال المبهجة» لا تزال طويلة، ولا بد أن يموت «الأمين» أولًا كما تعلم … هناك ثمنٌ يجبُ دفعه.»

أيقظَتْني كلماتها.

سألتُ: «ومن يكون أمينُنا؟»

أجابت: «لا أعرف بعدُ. لكن الأمين كان أفضل السائحين.»

انفرجَت أساريرها فجأة، كأنما انقشعَت عنها غمامة، وعندما تجوَّلنا في ضواحي باريس وتهادَينا في شارع الشانزليزيه أصبحَت في غاية البهجة. تلألأَت المصابيح في الغسَق الأزرق لشهر يناير، وهبَّت الأنفاسُ الدافئةُ للمدينة لتحِيَّتنا. لا أعرِفُ الكثير عن باريس؛ إذ شاهدتُها مرةً واحدةً في إجازة لأربعة أيامٍ قضيتُها هناك، لكنها بدَت لي آنذاك أصلحَ المدن للسُّكنى، والآن بدا قدومي إليها من ميدان المعركة وماري بجواري مثل نهايةِ حُلمٍ سعيدة.

تركتُ ماري في منزل أحد أقربائها في شارع سانت أونوريه، وأودعتُ نفسي في فندق «لويس كوينز» وفقًا للتعليمات. تنعَّمتُ بحمَّامٍ ساخن ثم ارتديتُ ملابسَ مدنيةً أُرسِلَت إليَّ من لندن. جعلَتني تلك الملابسُ أشعُر أنني ودَّعتُ الفرقة للأبد هذه المرة. كان لبلنكيرون غرفةٌ خاصة، وكان يُفترَض أن نتناول العشاء فيها؛ لم أرَ في مثل الفوضى الهائلة التي سادت غرفتَه من الكُتب وعُلَب السجائر المتناثرة؛ فالرجلُ ليس لدَيه أي فكرةٍ عن التنظيم. سمعتُه يتذمَّر من مرحاضه في غرفة النوم المجاورة، ولاحظتُ أن طاولتَه جُهِّزَت من أجلِ ثلاثةِ أشخاص. نزلتُ للطابق السفلي، وفي طريقي إلى هناك صادفتُ ويك لانسلوت.

لم يعُد جنديًّا في كتيبة العمال. ظهرَت حُلَّته المسائية من أسفل معطفه الطويل. سألتُ: «هل أنتَ شريكٌ في هذه المهمة أيضًا؟»

قال بأسلوبٍ غيرِ ودِّي: «أعتقد ذلك. على أي حالٍ تلقَّيتُ تعليماتٍ بالمجيء إلى هُنا. ووظيفتي هي طاعة الأوامر.»

سألت: «هل أتيتَ لتناوُل العَشاء؟»

أجاب: «لا. سأتناول العَشاء مع بعض الأصدقاء في فندق «كريلون».»

بعد ذلك نظر إلى وجهي مباشرةً بعينَين حمراوَين كما رأيتُهما لأول مرة. وقال: «عرفتُ أنه يجبُ تهنئتُك يا هاناي»، وصافحَني بفتور.

ما شَعرتُ بمثلِ هذا العَداء في إنسانٍ من قبلُ.

سألتُ لأنني فهمتُ مغزاه: «ألا يسُرُّك هذا؟»

هتف بغضب: «وكيف يسُرُّني بحق السماء؟ يا للهَول، ستقتل رُوحَها يا رجل. أنتَ شخصٌ ناجحٌ غبيٌّ عادي، أما هي فإنها … إنها أغلى فتاة خلقها الرب على الإطلاق. لن تفهم قيمتها أدنى فهم، لكنك ستقُص جناحَيها تمامًا. لن تستطيع الطيران أبدًا …»

نفَّس ويك عن تُرَّهاتِه بصورةٍ هستيريةٍ أسفل الدرج، على مسمعِ أرملةٍ فرنسيةٍ عجوزٍ بصحبة كلب بودل. لم يُثِر كلامُه غضبي؛ لأنني كنتُ في غاية السعادة.

قلتُ: «توقف يا ويك. يجمعنا رابطٌ وثيق ولا يليقُ بنا أن نتشاجر. أعرف أني لستُ جديرًا حتى بتلميع حذائها. لا يمكنك الحطُّ من قَدْري أو رفع قَدْرها أكثر مما أفعل أنا. فلديَّ من العقل ما يجعلني أُدرِك الفارق بيننا. لا يُمكِن أن تطلُبَ منِّي أن أشعُر بالوضاعة أكثر مما أنا عليه الآن.»

هزَّ كتفَيه وهو يخرج إلى الشارع. وقال: «شهامتُك اللعينة تلك كفيلةٌ بإفقاد المرء صوابه.»

صَعِدتُ للطابق العلوي لأجد بلنكيرون، بعد أن اغتسَل وحلَق وجهه، يتأمل حذاءً شديدَ اللمعان في إعجاب.

قال: «اشتقتُ لرؤيتك كثيرًا يا ديك. خشيتُ أن يُصيبك مكروه؛ إذ قرأتُ في الجرائد أخبارًا مريعةً عن المعارك التي خُضتها. مراسلو الحرب يُثيرون قلقي إلى حدٍّ يجعلني أُعرِض عن الإفطار.»

صنع خليطًا من المشروبات الروحية ثم ضرب كأسَه بكأسي. قال: «في صحة الآنسة. حاولتُ أن أكتب لها قصيدةً جميلة لكنني لم أستطع تقفية الأبيات. أودُّ أن أخبركما بالكثير من الأمور بعدما ننتهي من تناول العَشاء.»

دلفَت ماري إلى الغرفة، متورِّدة الخدين بسبب برودة الجو بالخارج، وسرعان ما حلَّ الخجلُ على ملامح بلنكيرون. لكنها فعلَت شيئًا أزال عنه خجَله؛ إذ عندما شرع في تهنئتها، لفَّت ذراعَيها حول عنقه وقبَّلَته. وللغرابة أذهب تصرُّفُها توتُّره تمامًا.

شعرتُ بالجذل وأنا أتناول الطعام على مائدة بشرشفٍ وفي أطباقٍ خزفية، فيما أتأمَّل وجهَ بلنكيرون الرءوف والشراهةَ التي يتناول بها طعامه، لكن ما غمرني بالفرحة هو الجلوس مع ماري على مائدةٍ واحدة. آنذاك شعرتُ أنها ملكي حقًّا، وليست جنيةً ستختفي على الفَور. تصرَّفَتْ ماري مع بلنكيرون مثل ابنةٍ حنونةٍ وشقيةٍ في الوقت نفسه، فذاب تكلُّفه المعهود في حضرة النساء وتصرَّف على سجيته. استأثرا بأغلب الحديث، وأتذكَّر أنه أخرج من مخبأٍ غامضٍ صندوقَ شكولاتة كبيرًا لا يمكنك شراؤه من باريس في الوقت الحالي، وانهمكا في تناوُله مثل طفلَين مُدلَّلَين. لم أرغب في الحديث؛ فمجرد مشاهدتهما منحني سعادةً خالصة. أحببتُ أن أراقب ماري، بعدما انصرَف الخدم، وهي تستند بمرفقَيها على الطاولة مثل تلميذة، بشَعرها الذهبي النضِر ذي التجعيداتِ البسيطة، وتُكسِّر الجوز بحماسة مثل طفل مُنح الإذن بمغادرة غرفته والانضمام إلى البالِغين لتناول الحلوى وينوي أن يستمتع بالأمر لأقصى حد.

مع أول سيجار دخَّنه بلنكيرون، تطرَّق إلى العمل.

قال: «أنت حتمًا تريد معرفة نتائج العمل الإداري الذي شغلَنا الفترة الماضية في أرض الوطن. حسنًا، لقد وجدنا ضالتَنا بفضلك يا ديك. لم نُحرِز تقدمًا كبيرًا حتى صرتَ مولعًا بتصفُّح الجرائد وأنتَ في فراش المرض وأعطيتَنا طرف ذلك الخيط المتعلق بإعلانات «التنفس العميق».»

سألتُ: «إذن فقد أوصلكم إلى شيء.»

أجاب: «أوصلَنا إلى اكتشافٍ مريع. وجدنا أن جوسيتير ليس شخصًا بل جماعةٌ صغيرةٌ بارعةٌ من المُحتالين يترأسهم العجوز جريسون. في البداية كرَّستُ جهدي لفهم الرسالة المشفَّرة. استغرق ذلك بعضَ البحث لكننا نجحنا؛ فلا تُوجَد شفرة لا يمكن فكُّها إذا علمت أنها شفرة، وساعدَتْنا في ذلك رسائل الردود على الإعلان التي نُشرَت في الصحف الألمانية. حين فككناها وجدنا أنها تتضمَّن معلوماتٍ حرجة، وهذا يفسِّر التسريباتِ اللعينةَ للأنباء المهمة التي عانَينا منها. في البداية خطَّطتُ لاستمرار هذه العملية مع تحويل جوسيتير إلى منظمة يترأسها جون إس بلنكيرون. لكن لم تُفلِح هذه الخطة؛ إذ مع أول محاولة للعبث في اتصالاتهم شَكَّ أفراد المجموعة وأرسلوا رسائلَ استغاثة. وهكذا عكَفْنا على تصفيتهم واحدًا تلو الآخر بسريةٍ تامة.»

سألتُ: «ومعهم جريسون؟»

أومأ برأسه علامة الإيجاب. قال: «أعتقد أن رفيقك في الرحلة البحرية يرقُد تحت التراب الآن. لقد جمعنا من الأدلة التي تُدينه ما يكفي لإعدامه عشرات المرات … لكن ذلك ليس أبرز ما حدث. فقد أمدَّتنا شفرتُك تلك بطرفِ خيطٍ يؤدي إلى أفري.»

طلبتُ مزيدًا من الإيضاح، فأخبرَني بلنكيرون بالقصة. كانت لديه دلائلُ كثيرةٌ تشير إلى أن مقر المنظمة الداعمة لعملية «التنفس العميق» في سويسرا. وذهبَت شكوكه إلى أفري في أول الأمر، لكنه عجز عن إيجاد أي أثرٍ له؛ لذا وجه أنظاره إلى الطرف الآخر للخيط، وبدلًا من أن يُحاوِل التوصل إلى المنظمة السويسرية بتتبُّع أفري، تتبَّع المنظمة كي يصل إلى أفري. ذهب إلى برن، وتعمَّد أن يجعل من نفسه أضحوكةً على الملأ لعدة أسابيع. ادَّعى أنه يُروِّج لوجهة النظر الأمريكية، واشترى مساحاتٍ إعلانيةً في الصحافة، أعرب من خلالها عن رسالته تلك بتصريحاتٍ فجة، فهدَّدَت الحكومة السويسرية بطرده إذا ما عبث بموقفها الحيادي من الحرب إلى هذا الحد. كما كتب في جرائدِ جنيف كثيرًا من الترَّهات التهكُّمية التي دفع المال لنشرها، معربًا عن موقفه المناصر للسلام ونيته في إقناع ألمانيا بالسلام عَبْر «إعلاناتٍ مُلهمةٍ عن أهدافِ الحربِ النبيلة.» كل ذلك كان يتماشى مع سُمعته في إنجلترا، وأراد به أن يجعل نفسه طُعمًا لأفري.

لكن أفري لم يبتلع الطعم، وعلى الرغم من الاثنَي عشرَ عميلًا الذين يعملون لحسابه في السر، إلا أنه لم يسمع أبدًا عن كيليوس. قدَّر أنه اسمٌ يحظى بخصوصيةٍ شديدة وسريةٍ بالغة بين جماعة «الطيور البرية». على الرغم من ذلك تمكَّن من جمع الكثير من المعلومات عن الطرف السويسري في عملية «التنفُّس العميق». استلزم ذلك بعضَ الجهدِ وكلَّفه الكثيرَ من الأموال. وكان من أفضل عملائه فتاةٌ تعمل تحت غطاءِ عارضةٍ في متجرِ قُبعاتٍ نسائيةٍ في مدينة ليون، وحاملُ أمتعة في فندقٍ كبيرٍ في بلدية سانت موريتز. وأهم ما توصَّل إليه هو أن هناك شفرةً أخرى في الرسائل المُرسَلة من سويسرا تختلف عن الشفرة التي تستخدِمها جماعةُ جوسيتير في إنجلترا. استطاع فَكَّ هذه الشفرة، وتَرجَم الرسائل، إلا أنه لم يفهم معناها. استنتَج أن تلك الشفرة وسيلةُ تواصُلٍ شديدةُ السرية بين الدائرة الداخلية للطيور الجامحة، وأن أفري خلفها بلا شك … غير أنه لم يستطيع إيجاد أي معلومةٍ ذاتِ شأن.

بعد ذلك تغيَّر الموقفُ بأكمله بسبب تواصُل ماري مع أفري. ولا بد من الاعتراف أنها تصرَّفَت مثل فتاةٍ لعوبٍ قليلةِ الحياء، لأنها واصلَت الكتابة إليه مستخدمةً عنوانًا في باريس أعطاه لها ذاتَ مرة، وبلا سابق إنذار حصلت على ردٍّ لرسائلها. كانت ماري نفسُها في باريس تساعد في إدارة أحد مقاصف السكك الحديدية، وتُقيم مع آل ميزيريه وهم أقرباءُ لها فرنسيون. وذاتَ يومٍ قدم لزيارتها. عكسَت هذه الخطوةُ جرأتَه وبراعتَه؛ إذ كانت الشرطة السرية الفرنسية بأكملها تُلاحِقه، دون أن تُفلِح في أن يكون على مرأًى أو مسمعٍ منها. ومع ذلك قدم ليتناول الشاي مع فتاةٍ إنجليزيةٍ في وضَح النهار. كشَف لي ذلك عن شيءٍ آخرَ جعلني ألعنُه أيَّما لعن. رجلٌ بمثل هذا الإصرار والتفاني في عمله لا بد أن يكون غارقًا في الحُب حتى أذنَيه كي يُخاطِر على هذا النحو.

قدم منتحلًا شخصية النقيب بوميرتس، وهو ضابط أركان في القيادة العامة الفرنسية مسئول عن النقل. لم يكن كاذبًا بشأن عمله مع القيادة. قالت ماري إنها عندما سمعَت الاسم كادت أن تسقُط على الأرض من شدة صدمتها. تحدَّث معها بوضوحٍ شديد وفعلَتْ هي المثل. فكلاهما مناصرٌ للسلام، على استعداد لانتهاك قوانين أي بلدٍ لتحقيق هذه الغاية. الله وحده يعلم بالموضوعات التي تحدَّثا فيها. قالت ماري إنها ستخجل كلما تذكَّرَت هذه الأمور حتى يوم وفاتها، واستنتجتُ أنها أظهرَت أمامه مزيجًا من تحذلقِ لانسِلوت ويك وسذاجةِ فتاة صغيرة.

أتى لزيارتها مرةً أخرى، وكثرت لقاءاتهما، دون علم السيدة ميزيريه المُحافِظة. تجوَّلا في حديقة غابة بولونيا العامة، وذات مرةٍ ذهبَت في سيارته — وقلبُها يدقُّ بجنون — إلى حي أوتوي لتناوُل الغداء. أخبَرها عن منزله في بيكاردي، وكانت هناك لحظاتٌ — حسبما خمَّنت — أفصَح فيها عن حبه وتمنَّعَت هي متظاهرةً بالخجل مثل فتاةٍ لعوب. سرعان ما صار إيقاعُ علاقتهما حميميًّا، وبعدَ نقاشاتٍ يائسةٍ مع بوليفانت خلال مكالمةٍ هاتفيةٍ غير محلية، اتجهَت ماري إلى مدينة دوفركورت للعمل في مشفى «ليدي مانرووتر». ذهبَت لهناك للهرب منه، لكن كان هدفها الرئيسي على ما أعتقد هو أن تتفقَّد قلعة أوكور سانت آن، رغم ارتعاد فرائصها.

عندما أفكِّر في ماري أستحضِر القديسةَ جان دارك. فليس بوسعِ أيِّ رجلٍ أن يُقدِم على مثل فعلتها. لا يمكن وصفُها بالطيش. بل نمَّت فعلتُها عن شجاعةٍ خالصةٍ محسوبة المخاطر.

تابع بلنكيرون الحكاية. كانت الجريدةُ التي عثَرنا عليها في عشية عيد الميلاد في القلعة البالغة الأهمية؛ إذ ميَّز بوميرتس الشفرةَ الداخليةَ لجماعة الطيور البرية بقلمه. وهذا أثبَت أن أفري متورطٌ في عملية سويسرا. لكن اتخذ بلنكيرون إجراءاتٍ إضافيةً للتأكد مما توصَّل إليه.

قال: «فكَّرتُ أنه حان وقتُ التضحية للحصول على معلوماتٍ قيِّمة؛ لذا بعتُ للعدو جهازًا في غاية الروعة. إن أوليتَ عنايتكَ للشفرات والمراسَلات غير القانونية يا ديك، فستُدرِك أن المستنداتِ التي لا يمكنكَ التدوين فيها بحبرٍ غيرِ منظورٍ هي الأوراقُ المصقولةُ المستخدمةُ في المجلات الأسبوعية التي يطبعون عليها صُور الممثلات الشهيرات وقصور إنجلترا التاريخية. فعندما يلامس الورق أي مادةٍ رطبة، يتموج سطحه قليلًا، وسرعان ما يكشف المجهر وجودَ يدٍ عابثة. لكن لحُسْن حظنا وجدنا طريقةً للتغلُّب على هذه العقبةِ البسيطة؛ ابتكرنا طريقةً للكتابة على الورقِ المصقولِ بقلم ريشة دون أن تكتشفَها أعينُ أنبغِ المحلِّلين، وكذلك وجدنا طريقةً لاكتشافِ الكتابةِ المكتوبةِ بهذه الطريقة. قرَّرتُ التضحيةَ بهذا الاختراعِ والمجازفةَ في انتظارِ العائدِ الكبيرِ الذي سأُحقِّقه من ورائه … ودبَّرتُ عمليةَ بيعِه للعدو. تطلَّبَت هذه المهمةُ الكثيرَ من الحذَر، لكن الرجل العاشر في السلسلة — وهو يهوديٌّ نمساوي — أبرم الصفقة، وظَفِر بما يُساوِي ٥٠ ألفَ دولارٍ ثمنًا لبيعه. بعد ذلك تواريتُ عن الأنظارِ مترصدًا صديقي الذي سيستخدم هذه الأداة، ولم أنتظر طويلًا.»

أخرج من جيبه صفحةً مطويةً من صحيفة «لا لوستغاسيو». وعلى صورةٍ محفورةٍ ضوئيًّا كانت هناك بضعُ كلماتٍ ذات حروفٍ متباعدةٍ طويلةٍ كأنها مرسومةٌ بريشة.

قال: «عندما حصَلتُ على هذه الصفحة، بالأمس، كانت مجرد صورةٍ عاديةٍ للجنرال بيتان في حفل تقديم الأوسمة العسكرية. لم يكن هناك أي خدوشٍ أو تموُّجات على سطحها. لكني انكبَبتُ على فحصها، وانظر ماذا وجَدت!»

أشار إلى اسمَين. كانت الكتابةُ عبارةً عن مجموعةٍ من الكلمات المفتاحية التي نجهل مغزاها غير أنه برَز من بينها اسمان أعرفُهما تمام المعرفة. والاسمان هما «بوميرتس» و«كيليوس».

هتفتُ: «يا إلهي! مدهش. هذا إن دلَّ على شيء فهو أنك عندما تمضغ كثيرًا …»

قالت ماري: «لا تذكُر هذا التشبيه مرةً أخرى يا ديك. أقل ما يُقال عنه إنه تشبيهٌ قبيحٌ إلى جانب أنه صار مبتذلًا من كثرة ما كرَّرْتَه.»

سألتُ: «مَن هو أفري على أي حال؟ ألديكِ معلوماتٌ غير ما عرفناه عنه في الصيف؟ من الشخصية التي انتحلها بوميرتس يا ماري؟»

أجابت ماري بلا اكتراث، كأنه أمرٌ عاديٌّ أن يقع جاسوسٌ في غَرامها، ما خفَّف انزعاجي: «تظاهَر أنه رجلٌ إنجليزي. عندما عَرَض عليَّ الزواج، اقترحَ أن أعيشَ معَه في منزلٍ ريفيٍّ في مقاطعة ديفونشير. وأظن أن لدَيه منزلًا آخرَ في اسكتلندا. لكنه بالطبع ألمانيُّ الجنسية.»

قال بلنكيرون ببطء: «أجل. لقد عرفتُ تاريخه، وما وجدتُه لم يكن مُبشرًا بالمرة. استغرقَت عملية البحث بعض الجهد، وتحقَّقتُ من كل الروابط التي عثرتُ عليها … هو ألمانيٌّ نبيلٌ ذو مكانةٍ رفيعةٍ بين أبناء جلدته. هل سمعتَ من قبلُ عن الكُونت فون شبابينج؟»

هزَزتُ رأسي علامةَ النفي.

قالت ماري وهي تُقطِّب حاجبَيها: «أظن أنني سمعتُ العم تشارلي يذكُره ذات مرة. كان يخرج للصيد مع جماعة بيتشلي.»

قال: «هذا هو. لكنه لم يُشارك في أنشطة هذه الجماعة منذ ثماني سنوات. في ذلك الوقت كان مثالًا للوجاهة في البلاط الألماني؛ إذ كان ضابطًا في الحرس، سليلَ أسرةٍ عريقة، غنيًّا، شديدَ الدَّهاء، وما شابه ذلك من صفات الجاه. أحبَّه قيصرُ ألمانيا لأسباب يسهُل معرفتها. أعتقد أن رجلًا بهذه الشخصية الثرية مثل «الكونت» تطيبُ صُحبتُه في الأمسيات. سيعلو شأنه، لا سيما بين الألمان، الذين لا يتميَّزون بحسٍّ فكاهيٍّ في ظني. على أي حال، كان ذا حظوةٍ عند القيصر، وبذلَت كلُّ الأمهات غايةَ جهدها لتزويج بناتها بأوتو شبابينج. ونال شهرةً مماثلةً في لندن ونيويورك وباريس. اسأل سير والتر عنه يا ديك. يقول إنه أكثر دهاءً من كولهمان ولباقةَ من النمساوي الذي ما فتئ يذكُر محاسنه … على أي حال، ذاتَ يومٍ حدثَت فضيحةٌ كبيرةٌ في البلاط الألماني، فسقط الكونت في هاوية بلا قرار. خرجَت واقعةٌ شديدةُ الوحشية إلى الملأ، ولا أظن أن شبابينج كان متورطًا فيها مثل الآخرين. المشكلة هي أن أولئك الآخرين كان يجبُ حمايتُهم مهما كلَّف الأمر، فكان شبابينج هو كبش الفداء. وخرج اسمُه إلى الجرائد واضطُر إلى ترك منصبه.»

سألتُ: «ماذا كان اسم القضية؟»

ذكَر بلنكيرون اسمًا، وأدركتُ لِمَ بدا اسم شبابينج مألوفًا. فقد قرأتُ القصة منذ أمدٍ بعيدٍ في روديسيا.

تابَع بلنكيرون: «قضت عليه تلك الفضيحة. فقد عُزل من منصبه، وطُرد من داوئره الاجتماعية، ونُفي من الدولة … كيف ستشعُر يا ديك لو أنك مكانَه؟ ماذا ستشعُر لو تدمَّرت حياتُك ومهنتُك وسعادتُك من أجل حمايةِ أميرٍ صغيرٍ دنيء؟ سينتابك غضبٌ عارم، أليس كذلك؟ ألن تشتهيَ فرصةً للانتقام ممن أطاحوا بك؟ ألن تفعل كل ما يلزم حتى تُجبِر القيصر على أن يأتيك راكعًا باكيًا طالبًا الصفح وإن كنتَ لا تنوي إجابتَه لمطلبه؟ هذا ما ستشعُر به أنت، لكن هذه ليست طريقة الكونت، بل ليست طريقة الألمان. ذهب إلى المنفى، يشعُر بالكراهية تجاه البشر أجمعين ويحمل قلبًا يُضمِر الحقد والشر، لكنه كان يتوق للعودة إلى وطنه. وسأخبرك بالسبب. ليس للألمانِ أمثالِه على سطح البسيطة وطنٌ آخرُ سوى وطنهم. أعلم أن الكثير من أحفاد التوتونيين القدامى الصالحين يأتون إلى دولتنا الصغيرة ويستقرُّون فيها بشكلٍ غيرِ قانوني ثم يصيرون أمريكيين متحضرين. إذا أمسكتَ بهم في الصغر ولقنتَهم إعلان الاستقلال وجعلتَهم يدرُسون جرائد الأحد فستنجحُ في تمدينهم بدرجةٍ كبيرة. وإلا، فلن تستطيع إنكار وجود غرابةٍ متأصلةٍ في طبيعة الألمان في المطلق. هم شعبٌ غريبُ الأطوار، بل في قمة الغرابة، وإلا ما نظَّموا كلَّ عمليات الغزو الوضيعة والفاحشة في أنحاء العالم. لكن هذه الغرابة البادية ظاهريًّا بين الطبقة العاملة متأصلةٌ في نبلائهم. فالأرستقراطيون الألمان لا يستطيعون الانسجامَ مع الطبقاتِ الراقيةِ في أي مجتمع. يتجوَّلون حول العالم في خُيلاءَ وتحذلُقٍ رغم معرفتهم تمامَ المعرفةِ بسخريةِ العالم منهم. يشبهون في ذلك رجلًا من أصلٍ متواضعٍ اغتنى فاشترى حلَّة وحضَر أمسيةً راقيةً بلا دعوة. هم لا يعرفون آداب السلوك … ويجدُ النبيلُ الإنجليزي الأصيل نفسَه مدفوعًا لتنبيه نفسِه مرةً تلو الأخرى لمعاملتهم أندادًا له بدلًا من إرسالهم إلى غرفة الخدم. بهرجتهم المفرطة تكشف عن ابتذالهم الأبدي. لن يكونوا نبلاء أبدًا لأنهم يفتقرون إلى الثقة بالنفس. يهزأ العالم بهم، على مسمع منهم، ما أصابهم بالغضب الشديد … لذا عندما طُرِد الكونت من أرض أجداده، وجد نفسه مضطرًّا للتسلُّل إليها من جديد، وإلا قضى ما تبقى من عمره مُشرِّدًا كاليهود.

أشعل بلنكيرون سيجارًا آخر ثم فحصَني بعينَين متأملتَين ثابتتَين.

وقال: «لمدة ثمانِي سنواتٍ سخَّر هذا الرجل جسدَه ورُوحَه لأولئك الذين حطُّوا من شأنه. لقد استعاد منصبه عن جدارة وأستطيع الجزم أنه قد ضمنه. لو أن المرء يُكافأ على مهاراته لتغطَّى جسدُه بالأوسمة والنياشين … فهو يمتلكُ مجموعةً كبيرةً من المهارات الفطرية. كما أنه يعرف الدول الأخرى وبارع في استخدام اللغات الأجنبية. بجانب براعتِه الفائقةِ في انتحال الشخصيَّات. هذه عبقريةٌ حقيقية، يا ديك، وإن وضعت الكثيرَ من العراقيل في طريقنا. وفوق ذلك كله، فإنه يتسم بالذكاء الشديد. فلم أرَ من هو أذكى منه قَط على الرغم أني قابلتُ بعضَ الأذكياء في حياتي … وسيفوز إن لم نبذُل أقصى وسعنا.»

كان هناك طَرقٌ على الباب ثم ظهرَت بِنْية أندرو آيموس القوية.

قال: «حان وقتُ عودتِكِ للمنزل يا آنسة ماري. لقد تجاوزَت الساعة الحادية عشرة والنصف، فيما صَعِدتُ الدرَج. يبدو أن السماء ستمطر؛ لذا أحضرتُ معي مظلة.»

قلتُ: «سؤالٌ أخير. كم هو عمره؟»

أجاب بلنكيرون: «بلغ السادسة والثلاثين منذ قريب.»

استدرتُ إلى ماري التي أومأَت برأسها. قالت بنبرةٍ عابثةٍ وهي ترتدي معطفَها الواسعَ من ماركة «ياجر»: «يصغرك سنًّا يا ديك.»

قلتُ: «سأوصلكِ للمنزل.»

قالت: «مرفوض. قضَينا ما يكفي من الوقت معًا. سيصحبني أندرو هذا المساء.»

تَبِعها بلنكيرون بعينَيه والباب ينغلقُ خلفها.

قال: «أرى أنك حظِيتَ بأفضلِ فتاةٍ في العالم.»

كان بُغضي للرجل الذي ضاجَع ماري يخنقُني، فقلتُ في عبوس: «هذا ما يعتقدُه أفري أيضًا.»

قال بلنكيرون: «يمُكنكَ معرفة السبب. خرج هذا المُنحَلُّ من طبقته الفاسدة مدللًا منعَّمًا متخمًا بمتع الحياة السهلة. ولم يرَ من النساء في دولته سوى أسوئهن وأكنزهن لحمًا. أكره التحدُّث بالسوء عن النساء، لكني طالما رأيتُ نساءَ ألمانيا مبتذلات. لقد قضى سنواتٍ عصيبةً وسط المكائد والأخطار، ورافَق الأوغادَ بجميع صنوفهم. لا تنسَ أنه رجلٌ عظيمٌ وشاعر، بذكاءٍ ومخيلةٍ تجعلانه قادرًا على استشفاف حقيقة الناس بسهولة على اختلاف طبقاتهم. وفجأةً يلتقي بامرأةٍ نقيةٍ وجميلةٍ مثل زهرة الربيع، متَّقدة الذهن، في غاية البسالة، وفوق ذلك شابَّة مَرِحة. إنها تجربةٌ جديدةٌ بالنسبة له أو اكتشافٌ مدهش، وهو عاقل بما يكفي ليُقدرَها حقَّ قَدْرها … بوسعي يا ديك أن أتفهَّم استياءك، لكن أرى ذلك له لا عليه.»

قلتُ: «ستظل نقطةَ ضعفه على أي حال.»

كرَّر بلنكيرون بجدية: «نقطة ضعفه، لنَدْعُ الله ألا ننسى ذلك.»

في صباح اليوم التالي المُوحِل الكئيب، صحبَني بلنكيرون في جولةٍ بسيارته حول باريس. صَعِدنا خمسةَ طوابق إلى شقةٍ في حي مونمارتر؛ حيث تحدَّثتُ إلى رجلٍ بدينٍ يرتدي نظارات ويتحدَّث ببطء، وعرفتُ معلوماتٍ كثيرةً تُهمُّني بشكلٍ كبير. بعد ذلك ذهبتُ إلى غرفة في جادَّة سان جيرمان، تُفضي إلى مكتبٍ سري؛ حيث اطلعتُ على جرائدَ وخرائطَ وبعضِ أرقامٍ مُدوَّنة على ورقة، فتحت عينيَّ. تناولنا الغَداء في مقهًى متواضعٍ في زاويةٍ منزويةٍ خلف القصر الملكي، مع رفيقَين ألزاسيَّين يُجيدان الألمانية أكثر من الألمان أنفسهم، وكنَّا نخاطبهما برقمَيهما لا باسمَيهما. بعد الظهيرة، ذهبتُ إلى بنايةٍ منخفضةٍ بجوار مُجمَّع «ليزانفاليد»، وقابلتُ العديدَ من الجنرالات، من بينهم أكثر من واحدٍ مألوف الملامح في نصفَي الكرة الأرضية. أعطيتُهم جميعَ معلوماتي، وفحصوني مثل مجرمٍ مُدان، ثم دوَّنوا التفاصيل المتعلقة بمظهري وأسلوبي في الحديث في دفترٍ. فعلتُ ذلك لأُمهِّد الطريقَ لنفسي، في حال الضرورة، للانضمام إلى الجيش الضخم الذي يعمل في الخفاء ويُعلم رئيسه دون أن يُعلم زملاءه في المهنة.

توقف المطر قبل حلول المساء، وسرتُ وبلنكيرون إلى الفندق، في غسَقٍ أصفرَ ليموني، تراه في فرنسا في فصل الشتاء. مرَرْنا بمجموعة من الجنود الأمريكيين، فلم يستطع بلنكيرون أن يمنع نفسه من التوقُّف وإطالة النظر بهم. لاحظتُ أنه امتلأ بالزهو وإن لم يُظهِره.

سأل: «ما رأيك في هؤلاء؟»

قلتُ: «جنودٌ من الطراز الأول.»

مطَّ في كلامِه مُنتقدًا: «الرجالُ لا بأس بهم، لكن بعض الضباط الشباب ليس لديهم القوام المناسب نوعًا ما. يحتاجون إلى خسارة القليل من الوزن.»

قلتُ: «سيحصُل هؤلاء الجنود الشرفاء على القوام المناسب عما قريب. فلا يحتفظ المرء بوزنه كثيرًا في هذه الحرب.»

سأل في حياء: «اصدُقني الحديث يا ديك، وأخبرني كيف ترى جنودَنا الأمريكيين؟ لقد رأيتَ الكثيرين؛ لذا سآخُذ حُكمك بعين التقدير.» كانت نبرتُه نبرةَ كاتبٍ خجول يطلب الرأي في كتابه الأول.

قلتُ: «سأُخبرك برأيي. أنتم الآن تشكِّلون جيشًا عظيمًا من الطبقة المتوسطة، ولا شيء أعتى من هذه الآلة القتالية على وجه الأرض. فهذه الحرب ليست بحاجة إلى محاربٍ برسكيٍّ هائج بقَدْر حاجتها إلى محاربٍ هادئٍ ذي عقلٍ مستنيرٍ وعزيمةٍ صادقة. تمتلئ صفوف الأمريكيين بشتى أصناف الرجال بدايةً من رعاة الأبقار وانتهاءً بالطلاب الجامعيين لكنها تتشكل في أغلبها من الشباب المهذَّب ذي المستقبل الواعد الذين يحاربون لشعورهم بالواجب لا لمحبتهم للحرب. إنه الجيش نفسه الذي ساعدكم على تجاوز محنة الحرب الأهلية الأمريكية. نحن كذلك لدينا فرقةٌ من الطبقة المتوسطة؛ القوة الإقليمية الاسكتلندية وهي مكوَّنة في أغلبها من الموظفين والباعة والمهندسين وأبناء الفلاحين. عندما التقيتُ بهم للمرة الأولى الأمر الوحيد الذي لم يُعجِبني هو أن الضباط لا يتفوَّقون كثيرًا على الجند في الكفاءة. ولا يزال الوضع كذلك، لكن الجند في غاية البراعة وكذلك الضباط بالتبعية. تحظى هذه الفرقة بأعلى العلامات في سجل الألمان لبراعتها القتالية … وهذا ما سيكون عليه الجيش الأمريكي بمشيئة الرب. تخلص من ذلك التصور القديم عن الوحدات العسكرية المكوَّنة من أوغادٍ يقودهم دوقات. كان هذا فعَّالًا، ربما، في زمن يُدفع فيه الجند إلى المعارك مُلوِّحين بالرايات، لكن لن يُفيدَ ذلك مع المتفجرات، ومليونَي جندي في كل جانب، وجبهةِ قتالٍ تمتدُّ لخمسمائة ميل. البطل في هذه الحرب هو الرجلُ البسيطُ من الطبقة المتوسطة الذي يريد العودة إلى وطنه؛ لذا فإنه سيستغل كل قدراتِه العقلية وجميع ما يملكُ من عزمه ليُنهيَ عملَه في القريب العاجل.»

قال بلنكيرون متأملًا: «هذا صحيحٌ تقريبًا. يُشعِرني هذا بالرضا نوعًا ما، خاصة وأنتَ تعلَم مدى تقديري للجيش البريطاني. ما هي الفرقة التي تعتبرها الأفضل؟»

أجبتُ: «جميعُها. يمتاز الفرنسيون بالحكم السليم وهم يعتبرون الاسكتلنديين والأستراليين الأفضل. أما أنا فأرى أن العمود الفِقري للجيش هو كتائب المقاطعات الإنجليزية التقليدية التي لا تكاد تجذب انتباه الصحف إليها. لو طُلب مني أن أختار فسأختار الجنوب أفريقيين، وإن لم أكن متيقنًا أنهم الأفضل. هناك لواءٌ واحدٌ فقط منهم غير أنهم يُظهِرون بسالةً منقطعةَ النظير في المعارك. لكنك ستقول إنني منحاز لصفهم.»

مطَّ بلنكيرون في كلامه: «حسنًا، أنتم أصحابُ إمبراطوريةٍ عظيمةٍ على أي حال. جلتُ فيها طولًا وعرضًا، ولا أتخيل كيف تمكَّنَت طبقة النخبة القديمة في تلك الجزيرة الصغيرة من تجميع هذه الإمبراطورية. لكني سأُخبرك بسرٍّ يا ديك. قرأتُ في الصباح في إحدى الجرائد عن وجود تآلفٍ فطري بين الأمريكيين ورجال المستعمرات البريطانية. خذ هذا الأمر مني، لا يوجد تآلف، بالنسبة لي على الأقل. فأنا لا أفهمُهم على الإطلاق. عندما أرى الأستراليين بقامتهم الطويلة، وقوامهم الممشوق، وأعينهم المتلألئة، أشعر كأنني أنظر إلى سكانِ كوكبٍ آخر. وباستثنائك أنتَ وبيتر، لا أفهم الأفريقيين الجنوبيين. يعيش الكنديون بجوارنا، لكن إن خلطتَ بين الكنديين والأمريكيين في تعليقاتك، فستتلقى لكمةً في عينَيك … لكن غالبية الأمريكيين يفهمون جيدًا أبناءَ بلدك. وستجدُنا في غاية الاحترام للأجزاء الأخرى من إمبراطوريتك، لكننا نقولُ رأْيَنا في إنجلترا بحرية. كما ترى، نحن نعرفها جيدًا ونُحبها كثيرًا، حتى إننا نتصرَّف على سجيَّتنا معها.»

عندما بلغنا الفندق، اختتم كلامه قائلًا: «يُشبه الأمر … يُشبه الأمر مجموعةً من الفتيان ترقَّوا في مراتبِ الحياة، فنشأَت بينهم الغَيرة وصارو يتعاملون فيما بينهم بحَيْطة. لكنهم يتخلَّون عن حذَرهم مع الرجل العجوز الذي كان يُؤدِّبهم بخيزرانةٍ جَوْزية فيما مضى، على الرغم من أنهم كانوا ينعتونَه بالمُتزمِّت أثناء طَيشِهم.»

في تلك الليلة، على العَشاء، تحدَّثتُ وبلنكيرون وعقيدٌ فرنسيٌّ شابٌّ من القسم الثالث في القيادة العامة العليا — عن العمل بشكلٍ مكثف. وبلنكيرون، حسبما أذكُر، شعَر بالإهانة الشديدة من وصف الفرنسي له بأنه رجلُ أعمالٍ مع أنه قصد بذلك مدحَه لا ذمَّه.

قال بلنكيرون: «توقَّف. لهذا الوصفِ مدلولٌ سيئٌ عندي. هناك صنفان من البشر، أحدُهما يتَّصِف بالعقلانية والآخر لا يتصفُ بها. ستجدُ غالبية الأمريكيين يكسبون قوتَ يومِهم من التجارة، لكنَّنا لا نرى أن الرجل الذي يُحسِن في التجارة أو الذي لدَيه ثروةٌ ضخمة يُحسِن في كل شيءٍ بطبيعة الحال. وقد انتخبنا أستاذًا جامعيًّا رئيسًا لنا، ونُطيع أوامره مثل الأطفال المهذَّبين، على الرغم من أنه لا يَجني أكثر مما يَجنيه مديرو أعمالِ بعضنا. أنتم، أيها الإنجليز، مهووسون بالتجارة، وتعتقدون أن الرجل الذي جمع أموالًا طائلةً من المضاربة في البورصة لهو قادرٌ على تسيير شئون الحكومة. يُصيبُني ذلك بالغثيان. أنتم أمهر الشعوب في التجارة على مستوى العالم، لكن بالله عليكم لا تبدَءوا التحدُّث في الأمر، وإلا فستخسرون قوَّتَكم. ولا تخلطوا بين إدارة الأعمال الحقيقية وجمع الدولارات الذي لا يتطلَّب موهبةً خاصة. فأيُّ رجلٍ عاقلٍ يستطيع جمعَ المال إذا أراد، لكن قد لا يكون ذلك ما يريده. ربما يفضِّل المرح الذي تحقِّقه له الوظيفة ويترك للآخرين اكتناز المال. أعتقد أن أكبر تجارةٍ تُدار في العالم اليوم هي اللوجستيات التي تُعنى بتوفير الطعام والدعم والنقل لأفراد جيشكم. فهي تتفوَّق تمامًا على شركة الفولاذ الأمريكية وشركة «ستاندرد أويل» للنفط. لكن المسئول عن كل هذا لا يكسب أكثر من ألف دولار في الشهر … لقد بدأَت دولتُك تعبُد المال يا ديك. كفى. ما يُفرِّق بين البشر أمرٌ واحد، وهو العقلانية من عدمها، وفي الأغلب لن تجد الرجل الذي يكسب مليارات الدولارات من التجارة في السندات أكثر عقلانيةً من أخيه البسيط الذي يعيش في كوخٍ متواضعٍ ويبيع أكواز الذرة. لا أتحدَّث من باب الغَيرة الآثمة؛ ففي الماضي كانوا يعتبرونني ملكَ السكك الحديدية، وتقاعدتُ بثروةٍ تفوقُ ما يجمعه الملوك عادةً عند التقاعد. لكن ليست لديَّ حكمة العجوز بيتر، الذي لم يمتلك حسابًا بنكيًّا قط … والمنطق هو الذي يفوز في هذه الحرب.»

طرح العقيد، الذي كان يتحدَّث بإنجليزيةٍ جيدة، سؤالًا عن خطاب ألقاه أحدُ السياسيين.

قال بلنكيرون: «القادة السياسيون يعوزهم شيء من المنطق. هم متحدثون بارعون. لكن هذا لا يهم؛ فأفكارهم تنقصها الحكمة. ما رأيك في الخطاب يا ديك؟»

قلتُ: «أظنه الأسوأ منذ معركة إيبر الأولى. الجميع يتحدث بنبرة المنتصر لأسبابٍ الربُّ وحده يعلَمها.»

كرَّر بلنكيرون: «الربُّ وحده يعلمها. هي عمليةٌ حسابيةٌ بسيطة ولا يمكنك إنكارُها لبداهتها. خرجَت روسيا من تلك الحسبة. ولن يحصُل الألمان على الغذاء منها لمدةٍ طويلة، لكن بإمكانهم الحصول على مزيدٍ من الرجال، وقد فعلوا. رغم أن الألمان لم يستغلوا كامل طاقتهم بعدُ، فقد استطاعوا جلبَ القوات والمدافع إلى الجبهة الغربية، وهذا جعلَهم مساوين للحلفاء في القوة نظريًّا. لكنهم فعليًّا أقوى من الحلفاء. فلدَيهم سككٌ حديدية أفضل، وقواتهم متمركزة في مواضعَ قريبةٍ من جبهتهم، وهو ما يمكِّنهم من حشدها بسرعة لمهاجمة على أي جزءٍ من جبهتنا. لستُ محاربًا، لكن أليس هذا هو الوضع يا ديك؟»

ابتسم الرجل الفرنسي وهزَّ رأسَه. قال: «ومع ذلك لن يخترقوا دفاعاتِنا. لقد فشِلوا في ذلك عندما كان عددهم ضعفَ عددنا في ١٩١٤، ولن يتغيَّر ذلك الآن. إذا عجز الحلفاء عن الانتصار العام الماضي بالرغم من جيشهم الجرار، فكيف يُحقِّق الألمان ما عجزوا عنه وهم يتساوَوْن معهم في العَدد؟»

بدت أماراتُ عدم الاقتناع على وجه بلنكيرون. قال: «هذا ما يقوله الجميع. تحدثتُ مع جنرال في الأسبوع الماضي عن الهجوم القادم، وقال إنه يأمُل حدوثَه في القريب العاجل، لأنه يرى أن ذلك الهجوم سيبُثُّ الرعب في قلوب الألمان. لعل تلك الروح المعنوية المرتفعة أمرٌ جيد، لكنها لا تتناسَب مع الحقائق فيما أرى. لدَينا جيشان جرَّاران من المُقاتلين الأشداء، لكن لكلٍّ منهم قيادة منفصلة؛ لذا فإن تحركاتنا يعوزها الاتساقُ مثل مجموعةٍ من الأجراس تُجلجِل في غير تناغُم. أما الألمان فجيشُهم تحت قيادةٍ واحدة، كما أنهم يتمتَّعون بخبرةٍ عسكريةٍ عمرها أربعون سنة، وفوق ذلك سيخرجون بكامل قوتهم هذه المرة. سيحطِّمون جبهتنا قبل أن تنضَم أمريكا إلى صفوفنا أو يهلكون دون ذلك … برأيك لم خفتَت الأصواتُ الداعيةُ للسلام في ألمانيا أو ما سرُّ حماسةِ أولئك الأشخاص الذين تحدَّثوا عن الديمقراطية في الصيف للقتال حتى النهاية؟ سأجيبُك. هذا بسبب وعد العجوز لودندورف الألمانَ بأن يتحقَّق لهم الفوز في الربيع إذا ما أنفقوا المزيد من الرجال، والألمانُ قومٌ بارعون في القمار، وقد خرجوا مُعتزِمين الفوز. هذه المرة لن نواجه هجومًا محليًّا محدودًا. بل سنُواجه أمةً عظيمةً تعجَّلَت الخروج حتى تنتصِر أو تهلك دون ذلك. لو خَسِرنا، فستُضطَر أمريكا إلى خوضِ حملةٍ جديدةٍ وحدَها حينما تتجهز، ما يوفِّر للألمان الوقت الذي يحتاجونه لتصيرَ روسيا مصدرًا لغذائهم ولتقويض حصارنا. وهذا يعني أن الحرب قد تمتدُّ لخمس سنواتٍ أو عشر. لكن هل ستتحمَّل شعوبُنا الحرة المُستقلة كل هذه السنوات؟ … أقول لكَ إننا نفكر في ترك الحرب قبل عيد الفصح.»

استدار ناحيتي، فأومأتُ برأسي موافقًا.

قلتُ: «أشاطرك الرأي نوعًا ما. يجب أن نصمُد، لكننا سنبذل في ذلك أقصى جهدنا. سنحاربُ في ستة الأشهر القادمة دون أن يكون لدَينا مجالٌ للخطأ تقريبًا.»

هتف الرجل الفرنسي: «طرحتُم الأمر على نحوٍ متشائم جدًّا يا أصدقاء. ربما نخسر ميلًا أو ميلَين من الأرض — أجل. لكن ليس من الوارد أن يُلحِقوا بنا ضررًا حقيقيًّا. كانت فرصةُ الألمانِ أفضلَ في معركة فردان وخَسِروا. لِمَ سينجحون الآن؟»

ردَّ بلنكيرون: «لأنهم يراهنون بكل ما يملكون. إنه النضالُ المستميتُ الأخير لحيوانٍ جريح، وفي هذه النضالات يقضي الصائدُ نحبَه في بعض الأحيان. ديك مُحِق. لدينا مساحةٌ ضئيلةٌ للخطأ، وإذا زادت أعباؤنا، ولو بمقدار ذرة، فستُحدِث تأثيرًا كبيرًا. المعركة دائرةٌ في الميدان، وكذلك في كل زاويةٍ من أراضي الحلفاء. لهذا يجب أن نثأر من «الطيور البرية» خلال الشهرَين القادمَين.»

ابتسم العقيدُ الفرنسي — واسمه دو فاليير — عندما سَمِع اللقب، وأجاب بلنكيرون السؤالَ الذي لم أتفوَّه به.

قال: «سأشبِع بعضَ فضولك يا ديك لأنني جمعتُ قَدْرًا كبيرًا من المعلومات عن هذه المجموعة المتنوعة من الجواسيس. لدى ألمانيا جيشٌ عظيمٌ من الجواسيسِ خارجَ حدودها. نقتُل دفعةً منهم، من حينٍ لآخر، لكن يواصل الآخرون العمل بكدٍّ ويُحدِثون أضرارًا جسيمة. يمتاز هؤلاء بالتنظيم الجيد، لكنهم لا يستعينون بعناصرَ بشريةٍ أكفاءٍ مثلنا، وأعتقد أن ما يَجْنونه من منافَع لا يقرُب في القَدْر مما يتكبَّدونه من عناء. لكن ها هم. إنهم ضباطُ المخابرات ومهمتُهم هي إعادةُ توجيه المعلومات. هم الطيور في القفص، أو — بمَ سماهم صديقك؟»

قلتُ بالألمانية: «الطيور المنزلية.»

واصل: «أجل، لكن ليس كل الطيور المنزلية حبيسة. ثمَّة جماعةٌ منها طليقة، وهذه لا تجمع المعلومات. إنما مهمَّتُها تنفيذُ العمليات. هي تُوكَّل بحل أيِّ وضعٍ متأزِّم، ولدَيها سلطة تُخوِّلها أن تتصرف دون انتظار التعليمات من الوطن. تقصَّيتُ أثَرها حتى تعب عقلي ولم أعثر إلا على ستة أشخاصٍ يمكِنني الجزمُ أنهم أعضاءٌ في تلك الجماعة. من ضمن هؤلاء ذلك اليهوديُّ البرتغاليُّ الذي تعرفه. هناك أيضًا امرأةٌ من مدينة جنوا، وهي أميرةٌ متزوجةٌ بمستثمرٍ يوناني. الشخصُ الثالثُ مُحرِّرٌ في جريدةٍ داخليةٍ داعمةٍ للحُلفاء في الأرجنتين. والرابع قسٌّ مَعمَدَانيٌّ في ولاية كولورادو. والخامسُ جاسوسٌ شرطيٌّ في حكومة الإمبراطور الروسي، ثم صار ثوريًّا متحمسًا في القوقاز. أما الشخصُ الأخيرُ والأهم فهو موكسون أفري بالطبع، الذي كان الكونت فون شبابينج في العصورُ الزاهية. لا يعرفُ بوجود هؤلاءِ أكثرُ من مائةِ شخصٍ في العالم كله، وهؤلاء المائة يُسمُّونهم «الطيور البرية».»

سألتُ: «هل يعملون معًا؟»

أجاب: «أجل. لكلٍّ منهم مهامُّه الخاصة، لكنهم يتعاونون إذا ما أرادوا تنفيذَ عمليةٍ شيطانيةٍ كبيرة. جاء أربعةٌ منهم إلى فرنسا منذ سنة، قبل معركة أيسن، وكادوا أن يُفكِّكوا الجيشَ الفرنسي. أليس كذلك أيها العقيد؟»

أومأ العقيد متجهمًا. قال: «أغرَوا جنودَنا المُنهَكين وقدَّموا رشواتٍ لسياسيينَ كُثر. وأوشَكوا على تحقيق غايتهم لكنهم عجزوا في النهاية. فقد استعادت الأمة رُشدَها، وهي الآن تُحاكِم المُتواطئين وتقتلُهم دون استعجال. لكننا لم نقبِض على المسئولين الرئيسيين.»

قال بلنكيرون: «أسمعتَ يا ديك؟ هل أنتَ راضٍ الآن أن هذا ليس وليدَ خيالاتِ عجوزٍ أمريكيٍّ مُبالِغ؟ سأخبرك بالمزيد. أنتَ تعرف كيف أدار أفري مسألة الغوَّاصة من إنجلترا. الطيورُ البريةُ كذلك تقِف خلف تحطيم روسيا. كان أفري مَن دفع للبلشفيين لإغواء أفراد الجيش، واستغل البلشفيون مالَه لخدمة مصالحهم، ظنًّا منهم أنهم يُخادعونه، وتبيَّن أنه كان يضحك مثل إبليسَ طيلةَ هذا الوقتِ لأنهم كانوا يخدمون أجندته. كان أفري أو شخصٌ آخرُ من هذه المجموعة مَن أثَّر على الألوية التي سقطَت في معركة كابوريتو. لو بدأتُ أحكي لك تاريخهم، لما استطعتَ الخلودَ إلى فِراشك، ولو فعَلت فسيهرُب النوم من عينَيك. هكذا هو الأمر. كل العمليات الشيطانية البارعة السابقة التي نفَّذها الألمان بين الحلفاء، منذ أغسطس ١٩١٤، هي من صنيع «الطيور البرية»، ومن تنظيم أفري بشكلٍ أو آخر. هذه المجموعة تُساوِي ستةَ فيالقَ عسكريةٍ بالنسبة للودندورف. إنهم أخطرُ مجرمين رآهم العالم، وهم يتمتَّعون برباطةِ جأشٍ بالغة …»

قاطعتُ: «لا أدري. فلدى أفري نقاطُ ضعف. قد شهدتُها بنفسي في محطة قطار الأنفاق.»

قال: «ربما، لكنه يملك القَدْر الذي يلزمه من الشجاعة. أتخيَّله الآن يحشد السرب.»

تفقَّد بلنكيرون دفتر ملاحظات. وتابع: «بافيا — الرجل الأرجنتيني — اتجه إلى أوروبا الشهر الماضي. انتقل من باخرةٍ ساحليةٍ في جزر الهند الغربية، وفقَدنا أثَره بصورةٍ مؤقتة، لكنه ترك الأرض التي يُجري فيها عملياته. ماذا يعني هذا في اعتقادك؟»

واصل بلنكيرون بجدية: «هذا يعني أن أفري يعتقد أن اللعبة على وشك الانتهاء. اللعبة الآن تشُق طريقها إلى الذروة … وتلك الذروة ستكون هلَاكَ الحلفاء إلا إذا أسرعنا بإحباطها.»

قلتُ: «صحيح. هذا سببُ وجودي هُنا. ما الخطوة التالية؟»

قال: «لا بد ألا تعود «الطيور البرية» إلى موطنها، ولا بد من قَتل ذلك الرجل الذي يُسمونه أفري أو بوميرتس أو كيليوس. هذا مُقترحٌ مُتوحِّش لكن حياته في كفة والعالم في كفة. وقبل أن يغادر الحياة، لا بد أن نعرف بمُخطَّطاته، ما يعني أننا لا يمكِننا أن نقنصَه برصاصة في رأسه فحسب. بل يجب أن نعثر عليه أولًا. نظن أنه في سويسرا، لكن تنوُّع طبيعتها الجغرافية يجعل من السهل أن نفقد أثَره فيها … مع ذلك أظن أننا سنجده. ستحتاج هذه المهمة لأن نُخطِّط لها بعناية مثلما نُخطط للمعارك. سأعود إلى حيلتي القديمة في مدينة بِرن لإدارة المشهد وإعطاء الأوامر. أنتَ ابنٌ بارٌّ يا ديك؛ فلن أقلقَ من ناحيتك.»

بعد ذلك فعل بلنكيرون شيئًا منذرًا بالسوء. سحَب طاولة صغيرة وبدأ يرُصُّ بطاقاتِ لعبة «سوليتير». منذ أن تعافى من التهاب الاثنَي عشر، كان قد تخلى عن هذه العادة؛ لذا فإنني خمَّنتُ من عودته إليها أنه يشعُر بالاضطراب. أتذكَّر المشهد كأنه حدث البارحة — العقيد الفرنسي في مقعده الوثير يُدخِّن سيجارة في مبسمٍ طويل أصفر، وبلنكيرون على حافة مقعدٍ عثمانيٍّ حريريِّ أصفر يُوزِّع بطاقات اللعبة وينظر ناحيتي بخجل.

قال: «ستحظى بصحبة بيتر في القريب العاجل. إنه رجلٌ حزين، لكنه يتمتع بقلبٍ كبير، لقد أفادني كثيرًا بالفعل. سينقلونه إلى إنجلترا قريبًا. السلطاتُ تخشاه لأنه لا يستطيع ضبط لسانه في العادة؛ إذ أثار اعتلالُ صحتِه حفيظتَه تجاه البريطانيين. لكن الإجراءات البيروقراطية الرتيبة تستغرق وقتًا في أي مكان بالعالم، وستتأخَّر الأوامرُ بترحيله إلى وطنه.» وغمَز بعينه اليسرى ببطءٍ شديدٍ وبتعمُّد.

سألتُ إذا ما كنتُ سأصحب بيتر مبتهجًا أيما ابتهاجٍ من الفكرة.

قال: «أجل. أنتما بيدقان في هذه اللعبة. أما الدور الأساسي فليس من اختصاصكما.»

أحسستُ أنه سيُخبرني بشيء، وسيكون مقلقًا وبغيضًا.

سألتُ: «هل ستؤدِّي ماري هذا الدور؟»

أومأ برأسه وبدا أنه يستجمع نفسَه ليشرح لي.

قال: «انظر يا ديك، مهمَّتُنا الرئيسية هي جذبُ أفري إلى أرض الحلفاء مرةً أخرى؛ حيث يمكِننا التعامل معه. وهناك مغناطيسٌ واحدٌ فقط يمكِنه جذبه إليها. هذه حقيقةٌ لا يمكنك إنكارها.»

أحسستُ أن وجهي يُحتقَن بشدة، وبدأَت المطرقة القبيحة تدقُّ في جبهتي. والتقت عيناه الجادَّتان الحليمتان بعينَيَّ الغاضبتَين.

هتفتُ: «لن أسمح بذلك أبدًا! لديَّ الحقُّ في إبداء رأيي في هذه المسألة. لن أجعل من ماري طُعمًا. فهذا أمرٌ في غاية الانحطاط.»

قال بلنكيرون: «هي ليست خطةً حسنة، لكن هذه طبيعة الحرب، بل طبيعةُ كل ما نفعله. لقد اقترفتُ أمورًا في السنوات الثلاث الأخيرة لو فكَّرتُ بها وأنا شابٌّ بريء لتضرَّبتُ خجلًا. لكن هل يُوجَد خيارٌ آخرُ يا ديك؟ لستُ فخورًا بهذه الخطة وعلى استعدادٍ لإلغائها إن وجدتُ غيرها … لليالٍ متتاليةٍ بحثتُ الأمر في عقلي، ولم أجد خطةً أفضل منها … هيَّا، يا ديك، هذا ليس من شيمك»، وارتسمَت ابتسامةٌ عريضةٌ نادمةٌ على مُحيَّاه. ثم أضاف: «أنتَ تُثبِت أفضليةَ العزوبيةِ على الارتباط؛ في وقت الحرب على الأقل. ماذا كان يقول الشاعر …؟»

«يدان بيضاوان تتشبَّثان باللجام،
وقدمان تُنحِّيان المهماز جانبًا.»

اجتاحني غضبٌ شديد، لكن شعَرتُ طيلة الوقت أنه لا حقَّ لي في ذلك. توقَّف بلنكيرون عن لعب «سوليتير»، وقذف بالأوراق على السجَّادة، قبل أن يقف مباعدًا بين ساقَيه على سجَّادة الموقد.

قال: «لن تنتقيَ التكاليف حسب رغبتك. ما الواجبُ إن لم يكن شاقًّا على النفس؟ ما فائدةُ الحديث بلا توقُّف عن الوطن إذا لم تبذل الغاليَ والنفيسَ في سبيله؟ ما نفعُ الفوز في الحرب إن لم تراهن بجميع ما تملكُه حتى آخرِ قرش؟ ستجعلني أشبِّهك بتلك الشخصيات في الروايات الإنجليزية التي ترفع راية الاستسلام وترك الأمر لمشيئة الرب زاعمةً أنها «عرفَت الحقيقة» … لا، يا ديك، هذا النوع من الواجبِ لا يستحق المباركة. إذا كنتَ ترغب في إنقاذ روحك، فلن تستأثر بأي شيءٍ لنفسك.»

واصَل: «كما أن هذه الفتاةَ لا مثيل لها! إنها شجاعةٌ عفيفة. تجمع بين حماسة الشباب وبراءته، وستظل نقيةً مثلما يقاوم الفولاذ الصدأ.»

كنتُ أعلم أنني مخطئٌ تمامًا، لكن شعرتُ أن كبريائي قد جُرحَت.

قلتُ: «لن أوافق حتى أتحدَّث إلى ماري.»

قال بلطف: «لكن ماري وافقَت بالفعل. وقد وضعت الخطة.»

في اليوم التالي، كان الطقس عليلًا كأننا في مايو، وحملتُ ماري بسيارتي إلى بلدية فونتينبلو. تناولنا الغداء في فندق عند الجسر ثم تجوَّلنا في الغابة. لم أنَم جيدًا الليلة الماضية، قلتُ لنفسي إن ذلك من خوفي على ماري، لكن السببَ الحقيقيَّ كان غَيرتي من أفري. لا أمانعُ أن تُخاطرَ بحياتها، فهذا جزءٌ من وظيفتِنا على أي حال، لكني نفرتُ من فكرة اقترابِ أفري منها مرةً أخرى. حدَّثتُ نفسي أن ما أشعُر به هو كبرياء نابعة عن الشرف، لكن في قرارة نفسي علمتُ أنه غَيرةٌ محضة لا أكثر.

سألتُها إن كانت قد وافقَت على خطة بلنكيرون، فنظرَت إليَّ بعينَين مشاغبتَين.

قالت: «علمتُ أننا سنتجادل في هذا الشأن يا ديك. وأخبرتُ السيد بلنكيرون بذلك … بالطبع وافَقْت. ولستُ خائفةً على الإطلاق. أنا فردٌ من أفراد هذا الفريق، ويجب أن أبذل قصارى جهدي. لا أُحسِن ما يُحسِنه الرجال، وهذا سببٌ أدعى لأن أقومَ بما في وسعي فعله.»

تلعثمتُ: «لكن، ذلك … ذلك مهينٌ لفتاةٍ مثلك. لا أطيق … أشتعل غضبًا بمجرَّد التفكير في الأمر.»

وأجابتني بأن ضحكَت ضحكةً مرحة.

قالت: «أنت رجلٌ ذو منظورٍ قديمٍ يا ديك. لا تزال محتفظًا بتصوُّراتك التي عفَّى عليها الزمنُ عن النساء. بربك، نحن لسنا كائناتٍ هشة كما كان الرجال يرَوْننا. لم نكن قَط كذلك، وقد جاءت الحربُ فزادتنا بأسًا. يا عزيزي لقد صرنا الجنسَ الأقوى الآن. تعيَّن علينا أن ننتظِر ونتحمَّل، فصقلَنا الصبر وأزال عنا ما بقي من مخاوف.»

وضعَت يدَيها على كتفيَّ ونظرَت إلى عيني مباشرة.

قالت: «انظر إليَّ يا ديك، انظُر إلى زوجتك المستقبلية العفيفة. سأبلغ التاسعة عشرة في أغسطس القادم. قبل الحرب، على وشك أن أبلغَ مبلغَ النساء. ولولاها كنتُ سأصير امرأةً صغيرةً وجلةً تشُق طريقَها في المجتمع الراقي، يتضرَّب وجهُها حين يتحدَّث إليها الرجال، يا إلهي! كانت ستتشكَّل لديَّ تصوراتٌ ساذجةٌ جدًّا عن الحياة … لكن في السنتَين الأخيرتَين، دنوتُ كثيرًا من الحرب، ومن الموت. واعتنيتُ بالمُحتضَرين. وشهدتُ الأرواحَ لحظاتِ هزيمتِها وانتصارِها. أذنَت لي إنجلترا بخدمتها مثل أبنائها الذكور. لقد صرتُ الآن امرأةً قوية، وأنا طالما رأيتُ النساءَ أشدَّ بأسًا من الرجال … ديك، يا عزيزي، نحن حبيبان ولكننا أيضًا رفيقان؛ وسنظل رفيقَين أبدًا، والرفقاء يثقُ بعضُهم ببعض.»

لم أجد ما أقوله سوى أن أعرِب عن ندمي؛ فقد تعلَّمتُ الدرس. أخذَتني أفكاري بعيدًا حتى نسيتُ جديةَ مهمَّتنا، فجاءت ماري فكَّرَتني بما نسيتُه. أذكُر أننا فيما كنا نسيرُ في الغابة، وصلنا إلى مكانٍ لم تمسَّه الحرب. في الغابات الأخرى ستجد الرجال مُنهمِكين في قَطعِ الأشجار وتثبيتِ المدافع المضادة للطائرات وستمُر عرباتُ النقل من حينٍ لآخر، أما هُنا فلا تجد إلا واديًا معشوشبًا ضحلًا، وعلى مسافةٍ لا ترى إلا سطح مسكنٍ قديمٍ منبثقٍ بين الحدائق مثل شجرة البرقوق وسط سديم المساء.

تشبَّثَت ماري بذراعي ونحن ننهَل من سكينة الغابة.

قالت بصوتٍ هادئ: «هذا ما ينتظرنا في نهاية الطريق يا ديك.»

وهي تتأمَّل المكان، شعرتُ بجسَدها يرتعشُ بجواري. عادت بذاكرتها إلى الفكرة الغريبة التي شاطرَتها معي منذ ثلاثة أيام في غابة سان جيرمان.

قالت: «في مكانٍ ما، تنتظرنا هذه السكينة، وسنعثُر عليها بالتأكيد … لكن يجب أن نعبُر من «وادي ظلال الموت» أولًا … ولا بد من أن تُبَذل تضحية … من أفضلِ فردٍ بيننا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤