الفصل الثاني

قرية الفضائل

في الهضبة المرتفعة تنزع أنهارنا إلى تكوين سلاسلَ من البِرك، تُوصل بينها أوشالٌ مُوحلة، وهي أكثر المجاري المائية ركودًا يُمكنك أن تجِدها على بُعد مسيرة يوم. لكنها سرعان ما تصل إلى حافة الهضبة، وتسقط في السهول مكونةً وِهادًا عظيمة، وبعد ذلك تتدفَّق في تياراتٍ صاخبةٍ قويةٍ إلى البحر. هكذا يحدُث مع القصة التي أسردُها. فقد بدأت مساحة من النهر انسيابية، هادئة مثل بِركة الطاحون، لكن سرعان ما وجدتُ نفسي ذات يوم في قبضة سيلٍ جارف، يتقاذفُني قدَر لا يدَ لي فيه من صخرة لأُخرى. لكن لا أزال في الوقت الحالي في حالة الركود، بالضبط مثل قرية جاردن سيتي الصغيرة في بيجلزويك؛ حيث استأجر السيد كورنيليس براند، النبيل القادم من جنوب أفريقيا لزيارة بريطانيا في عطلته، غرفتَين في كوخ السيد تانكرد جيمسون.

أحاط هذا المنزل — أو «البيت» كما يُفضِّلون تسميتَه في بيجلزويك — وما يقرب من مائتين آخرين بحديقة ميدلاند العامة الجميلة. كان البيت سيئ المعمار شاذ الأثاث؛ كانت قوائم الفِراش قصيرةً جدًّا، والنوافذ لا تتلاءم مع إطاراتها، والأبواب تتأرجح أبدًا، لكنه كان نظيفًا بالقَدْر الذي يسمح به الصابون والماء والكَشط. واتصلَت به حديقةٌ تبلُغ فدَّانًا، كُرسَت ثلاثة أرباعها في زراعة البطاطس، فيما استَغلَّت السيدة جيمسون الرقعةَ القابعةَ تحت نافذة الردهة في زراعة الأعشاب العطِرة، وزيَّنَت الممرَّ المؤديَ للباب الأمامي صفوفٌ من زهور دوَّار الشمس الطويلة الرفيعة. استقبلَتني السيدة جيمسون، فيما نزلت من عربة المحطة التي يجرها حصانٌ واحد، وهي امرأةٌ ضخمةٌ متورِّدة الوجنتَين ذات شعرٍ مُبيض من كثرة تعرُّضه لأشعة الشمس، وكانت ترتدي ثوبًا يُشبه في قَصته ونسيجه ستارةً منقوشة. كانت امرأةً صالحةً طيبةَ المعشر، شديدةَ الزهو بمنزلها.

قالت: «نعيش حياةً بسيطة هُنا يا سيد براند. يجب أن تتقبَّلَنا على ما نحن عليه.»

طمأنتُها أنني لا أريد سوى البساطة، وفيما كنتُ أفرِغ حقائبي في غرفة النوم الصغيرة المُنعِشة، التي تهبُّ الرياح الغربية من نافذتها، فكَّرتُ أنني رأيتُ مساكنَ أسوأَ من هذه.

كنتُ قد اشتريتُ الكثير من الكتب عندما عرَّجتُ إلى لندن؛ إذ فكَّرتُ في تحسين تعليمي ما دمتُ أمتلك الوقت لذلك. كانت الكُتب في مُعظمها من كلاسيكيات الأدب الإنجليزي، أعرف أسماءها لكن لم أقرأها من قبلُ، كانت جميعًا جزءًا من سلسلة كتبٍ مسطَّحة الظهر ثمنُ الواحد منها شلن. رتَّبتُ الكتب فوق خزانة الأدراج، باستثناء رواية «سياحة المسيحي» وضعتُها بجوار فِراشي؛ لأنها إحدى أدوات العمل ولا بد من أن أحفظها عن ظهر قلب.

استحسنَت ذوقي السيدة جميسون التي قَدِمَت إلى الغرفة بعد هُنيهة، فيما كنتُ منهمكًا في إفراغ الحقائب، لتتأكَّد أن الغرفة تروقني. وأرادت أن تتناقش معي حول الكتب في أثناء وجبة الظهيرة، وكانت منشغلةً بالتباهي بمعرفتها مما سمح لي بمواراة جهلي.

أخبرَتْني: «جميعنا نسعى للتعبير عن شخصياتنا. هل وجدتَ وسيلتكَ لذلك يا سيد براند؟ أهو القلم الحبر أو الرصاص؟ أم تُراها الموسيقى؟ لديك جبهةُ فنانٍ، بارزة كما هي في تماثيل مايكل أنجلو، إذا كنتَ تذكُر!»

أخبرتُها أنني قرَّرتُ أن أجرِّب الاشتغال بالأدب، لكن قبل كتابة أي نص، سأستزوَّد من القراءة.

حدث ذلك يوم السبت؛ لذا عاد السيد جيمسون من البلدة مبكرًا بعد الظهيرة. كان يعمل كاتبًا إداريَّا في مكتبٍ للشحن، وإن كان مظهره لا يُوحي بذلك. تكوَّنَت ملابسه المتمدِّنة من سروالٍ فضفاضٍ رماديٍّ داكن، وقميصٍ غيرِ رسمي، ورابطةِ عنقٍ برتقالية، وقبَّعةٍ طريَّةٍ سوداء. خرجَت زوجتُه لتستقبلَه في الشارع، وعادا متشابكَي الأيدي، يؤرجِحان ذراعَيهما مثل تلميذَين بالمدرسة. غطَّت ذقَن السيد جيمسون لحيةٌ حمراءُ خفيفة تتخللها بعضُ الشعيرات البيضاء، وكانت له عينان لونُهما أزرقُ باهتٌ تظهران من خلف نظارةٍ سميكة. كان ألطفَ مخلوقٍ قابلتُه على الإطلاق، يُكثِر من الأسئلة المُتتابعة، ويحرصُ على أن يُشعرَني أنني جزءٌ من عائلته. سرعان ما ارتدى سترةً من قماش التويد، فضفاضةً ذات حزامٍ وصفٍّ واحد من الأزرار، وبدأ في حِراثة حديقته. خلعتُ مِعطَفي وعاونتُه، وكلما توقَّف لالتقاط أنفاسه — وهو ما كان يفعله كل خمس دقائق لضعف بنيته — مسَحَ جبينه، وفركَ نظارته، ألقى خطبةً بليغةً عن رائحة التربة العبقة والبهجة التي تستمدُّها النفسُ من مُعانقة الطبيعة.

ذات مرة نظر إلى يديَّ البُنيتَين الكبيرتَين وذراعيَّ المفتولتَين نظرةً متحسرة. وقال: «أنتَ أحد الفاعلين، يا سيد براند، وأحسدُك على ذلك. لقد شهدتَ الطبيعةَ في جموحها في البلاد البعيدة. آمُل أن تخبرنا في يومٍ من الأيام عن حياتك. لا بد أن أقنع بهذه الرقعة الصغيرة من العالم، التي هي ملكي، لكن من حسن الحظ أنَّ العقل لا يخضع للحدود الإقليمية. هذا المسكن المتواضع بالنسبة لي برجُ مراقبة أطِل منه على العالم بأَسْره.»

أخذَني في جولة عقب ذلك. التقَينا بجماعاتٍ عائدةٍ إلى بيوتها من لاعبي التنس وقلةٍ من لاعبي الجولف. كانت هناك أعدادٌ كبيرةٌ من الشبان، معظمهم هزيلو البنية، باستثناء بضعةِ شبابٍ أقوياءِ البِنية كان من المفترض ذهابُهم إلى ساحة القتال. ذكر جيمسون بعضًا من أسمائهم بانبهار. كان أحدهم شابًّا هزيلًا هو الروائي العظيم آرونسون، وآخرُ عدوانيٌّ قوي البِنية ذو شاربٍ غليظٍ اسمه ليتشفورد، وهو الصحفي الكبير المشهور في جريدة «الناقد». كان الكثير ممن أشار إليهم السيد جيمسون بالفنانين قد حقَّقوا في مجالاتهم نوعًا من السبق على غيرهم، حتى إنه أشار إلى شخصٍ منتفخٍ ضخم ووصفه بأنه قائدُ حركة الاستشراق الجديدة في إنجلترا. لاحظتُ أن أولئك الأشخاص — وفقًا لجيمسون — «عظماء» ومنخرطون في نشاطٍ «جديد». كما كانت هناك أعدادٌ كبيرةٌ من الفتيات، يرتدين ثيابًا رثةً ويَملن إلى عدم تصفيف شعورهن في الغالب. ولم تخلُ الطرقاتُ من بعض الأزواج المهذَّبين، قد خرجوا للتنزُّه، كما هي عادة أصحاب المنازل في المساء في جميع أنحاء العالم. كان أغلبُ تلك الفئة الأخيرة أصدقاءَ للسيد جيمسون وعرَّفني بهم. شارك السيد جيمسون هؤلاء في الطبقة الاجتماعية، وهم أناسٌ مُتواضعون ينشُدون خلفيةً زاهيةً لحياتهم المدنية المملَّة، ووجودها في تلك القرية الغريبة.

في العشاء عُرِّفتُ بمزايا بيجلزويك الخاصة.

قالت السيدة جيمسون: «هذه القرية معملٌ عظيمٌ للفكر. من الرائع أن يجد المرءُ نفسَه بين الأشخاص المتحمِّسين المفعَمين بالحيوية، الذين يترأسون أجددَ الحركات الثقافية، وأن تشهَد مكاتبنا وحدائقنا صناعةَ تاريخ بريطانيا الفكري. تبدو الحرب، من مكاننا هذا، بعيدةً وثانوية. كما أن كبرى حروب العالم تدور في العقل كما قال أحدهم.»

انقبَض وجهُ زوجها بغتة. قال: «ليتني أشعر أن الحرب بعيدة. على أي حال، يا أورسلا، إن تضحيات الشباب هي ما تمنَح أمثالَنا الرفاهيةَ وراحةَ البال للتفكير. واجبُنا هو أن نبذل ما يسمح به الوسع والطاقة، لكنه ثمنٌ زهيدٌ مقارنةً بما يقدِّمه جنودنا الشبَّان! ربما أكون مُخطئًا بشأن الحرب … وأعلم أنه لا يُمكنني الجدال مع ليتشفورد في هذا الأمر. لكن لن أتظاهر بالأفضلية وأنا لا أشعر بها.»

ذهبتُ إلى الفراش، أشعُر بالغبطة؛ لأنني التقيتُ بشخصٍ في غاية العقلانية مثل جيمسون. فيما كنتُ أُشعِل الشموع على منضدة التزيُّن، لاحظتُ أن كومة العملات الفضية التي أخرجتُها من جيبي عند الاغتسال قبل العَشاء ثقيلةٌ في أعلاها. فقد كانت هناك عملتان كبيرتان في الأعلى، وستة بنسات وشلنات في الأسفل. غير أنه من عاداتي الغريبة التي مارستُها منذ طفولتي هي أن أرصَّ الفكة بالترتيب بحيث تكون العملاتُ الأقلُّ قيمةً في أعلى الكومة. أثار ذلك انتباهي، ودفعَني إلى ملاحظة أمرٍ آخر. لم تكن كلاسيكيات الأدب الإنجليزي القابعة فوق خزانة الأرفف على الترتيب نفسه الذي تركتُها عليه. كان أيزاك والتون قابعًا عن يسار توماس براون، والشاعر بيرنز محشورًا بتعاسة بين مجلَّدَي هازليت. كما لاحظتُ أن فاتورة الشراء، التي وضعتُها بين صفحات «سياحة المسيحي» علامةً على مكان توقُّفي في القراءة، قد تحرَّكَت من مكانها. ثمَّة شخصٌ ما فتَّش مُمتلكاتي.

تأمَّلتُ ما حدث هُنيهة، وتوصَّلتُ إلى أن السيدة جيمسون لا يمكن أن تكون الفاعلة. فليست لديها خادمةٌ وتقوم على شئون المنزل بنفسها، لكن كانت أمتعتي في أماكنها الصحيحة عندما غادرتُ الغرفة قبل وجبة العَشاء؛ إذ قَدِمَت للتنظيف قبل ذهابي للطابق السُّفلي. لا بد أن شخصًا دخل غرفتي في أثناء تناوُلنا وجبةَ العَشاء وفتَّش مُمتلكاتي بعناية. لحُسن الحظ لم تكن ممتلكاتي كثيرة، ولا أحمل أي أوراقٍ سوى الكتب الجديدة وبضعِ فواتيرَ باسم كورنيليس براند. هذا الباحث — أيَّا كان— لم يجد شيئًا … منحَتْني هذه الحادثة قدْرًا كبيرًا من الراحة. كنتُ أجد صعوبةً في تصديق وجود سرٍّ في هذا المكان العام؛ حيث يعيش السكان في انفتاحٍ فج، تُجاهِر ألسنتُهم بما تُكِنُّه صدورُهم، ويصدحون بمُعتقداتهم من فوق الأسطح. لكنْ هناك سرٌّ حتمًا، وإلا ما تلقَّى عابرُ سبيلٍ مُسالم، يحمل كيسًا قماشيًّا على ظهره، هذا الاهتمام الغريب. بعد هذه الحادثة، صرتُ أضع ساعتي تحت وسادتي في أثناء النوم؛ إذ اشتملَت عُلبتُها على الرقاقة التي أعطتها لي ماري لامنتون.

بدأت فترة الاستيعاب السلبية المُمتعة. كنتُ أقصد لندن مرةً أسبوعيًّا، وأقضي اليوم هناك، أتلقى الخطابات والتعليمات إن وُجدَت. انتقلتُ من غرفتي في بارك لين، التي استأجرتُها باسمي الحقيقي، إلى شقةٍ صغيرةٍ في وستمنستر استأجرتُها باسم كورنيليس براند. كانت الرسائل المُرسلة إلى «بارك لين» يُعاد توجيهُها للسيد والتر، فيرسلها بدَوره إلى عنواني الجديد في سريةٍ تامة. فيما عدا ذلك، كنتُ أقضي الصباح في القراءة في الحديقة، واكتشفتُ للمرة الأولى المُتعَة التي يستمدُّها المرء من معايشة الكتب القديمة. أعادت إليَّ الخاطرة التي جاءتني فيما كنتُ أقف على تلك الحافة في كوتسود ورسَّختها في نفسي، ذلك الإلهام الذي وردَني بشأن إنجلترا وأنها إرثٌ لا يُقدَّر بثمن. رحتُ أنهل من مَعينِ كُتبِ التاريخ، لكن أحببتُ، على سبيل الخصوص، أحببتُ الكتَّاب أمثال والتون، الذين غاصوا في صميم الريف الإنجليزي. وسرعان ما جذبَتْني، أيضًا، رواية «سياحة المسيحي»، فكنتُ أقرأها على سبيل المُتعة لا الواجب. وكلَّ يومٍ كنتُ أكتشفُ جواهرَ جديدةً في تلك القصة القديمة الصادقة، وبدأَت خطاباتي إلى بيتر تفيضُ بها، مثلما كانت رسائل بيتر. كما أحببتُ الأغاني الإليزابيثية لأنها كانت تُذكِّرني بالفتاة التي غنَّت لي في إحدى ليالي يونيو.

في المساء، كنتُ أتريَّض بالتمشي لمسافاتٍ طويلةٍ في الطرق الإنجليزية العتيقة المغبَّرة. كانت البلدة، تنحدِر من بيجلزويك إلى أرضٍ مُنبسطةٍ من الغابات والمراعي تحدُّها تلالٌ منخفضةٌ في الأفق. تناثَرَت القرى الصغيرة في أرجائها، واشتملَت كل واحدةٍ منها على مساحةٍ خضراءَ وبِركةٍ وكنيسةٍ قديمة. كما احتوت غالبيَّتُها على الحانات؛ حيث شُربَت كمياتٌ كبيرةٌ من البيرة التي لها نكهة كالبندق؛ إذ كانت حانة بيجلزويك، التي خضعَت للإصلاحات، لا تبيعُ سوى نبيذ التفاح المُخفَّف بالماء. في أحيانٍ كثيرة، وأنا عائد إلى المنزل على مهلٍ وقتَ الغروب، أشعُر أن قلبي يوشك أن يُغَني من فَرْط استمتاعه بالمكان. وفي المساء أتناول العَشاء بعدما أغتسل؛ حيث يُناضل جيمسون المرهَق بين رغبتِه في النوم والجوع، وتتحدَّث السيدة بلا كلَلٍ عن الثقافة بقُبَّعتها القطنية الجذابة فوق شعرها الأشعث.

انخرطَت في المُجتمع المحلي شيئًا فشيئًا. وأسهمَت عائلة جيمسون في ذلك إسهامًا عظيمًا، نظرًا لشُهرتها في المنطقة، بالإضافة إلى أنها تجمعُها معرفةٌ سطحيةٌ بغالبية السكان. اعتبرَني الزوجان طامحًا جديرًا بحياةٍ أسمى، واستعرَضاني أمام أصدقائهما مع التلميح إلى أنَّ لي ماضيًا زاهيًا وإن كانت تُعوِزه الثقافة. لو كانت لديَّ موهبة الكتابة لسطَّرتُ كتابًا عن سكان بيجلزويك. كان ما يقرب من نصف السكان مواطنين مُهذَّبين، قَدِموا من أجل العيش في هواء الريف العليل والاستفادة من انخفاض الأسعار، لكن حتى أولئك كانت بهم مَسحةُ غرابةٍ، وسرعانَ ما اكتسَبوا المفرداتِ الخاصةَ بالمكان. كان غالبية الشباب إما موظفين في الحكومة وإما كتَّابًا وإما فنَّانين. وكانت هناك حفنةٌ من النساء الأرامل مع ذراريهن من البنات، وعلى مشارف القرية قبعَت العديد من المنازل الكبيرة، كان معظمها موجودًا قبل تصميم جاردن سيتي. بدا أحدُها جديدًا تمامًا، وهو عبارة عن فيلَّا خاصةٍ شاهقة، بُنيَت من خشبٍ عصري في الجوهر قديمٍ في الشكْل، فوق تلةٍ حولها مجموعةٌ من الحدائق لم تمتدَّ إليها الأيدي. كان صاحبُ هذه الفيلَّا رجلًا اسمه موكسون أفري، وهو أكاديميٌّ مناصرٌ للسلام، يتمتع بمكانةٍ رفيعةٍ في القرية. وكان هناك قصرٌ هادئٌ على الطراز الجورجي، يملكه ناشرٌ من لندن، وهو ليبراليٌّ متحمسٌ أجبرَتْه طبيعةُ مجالِه على مواكبة الحركات الجديدة. كنتُ أرآه يُسرع إلى المحطة، بحقيبةٍ سوداءَ صغيرةٍ تتأرجح في يده، ثم يعود في المساء بوجبة سمكٍ من أجل العَشاء.

في وقتٍ قصير، اتسعَت دائرةُ معارفي بدرجةٍ كبيرة، لكنها كانت في غاية الغرابة. تعرَّفتُ على سبيل المثال على آل ويكس، وهن ثلاثُ فتياتٍ يعشنَ مع أمهنَّ في منزلٍ مزدحمٍ بالتحف الفنية حتى إن المرء يكاد أن يشُجَّ رأسه فيه أينما اتجه. كان الابن معارضًا لأداء الخدمة العسكرية، ورفَض القيام بأي عملٍ كان، فاعتقلَتْه السلطات. افتخَرَ البنات بأخيهن أيَّما افتخار، وظلِلنَ يُردِّدن معاناته في سجن دارتمور، بحماسةٍ رأيتُها عديمة الرحمة نوعًا ما. كان الفن هو شغل المجتمع الشاغل، وأخشى أنهم وجدوني في غاية الملل. كان من عادتهم ألا يُعجَبوا بالجمال الظاهر، مثل منظر الغروب أو امرأةٍ جميلة، ويجدوا متعةً غير معهودة في كل ما هو قبيحٌ من وجهةِ نظري. كما تحدَّثوا بلغةٍ لا أفهمها. فكانت تقع مثل هذه المحادثات دائمًا:

الآنسة ويكس : «هل تُعجِبك أورسلا جيمسون؟»
أنا : نوعًا ما!
الآنسة ويكس : تُشبه لوحات جون الرسَّام في خطوطها.
أنا : بالضبط!
الآنسة ويكس : وتانكرد أيضًا مليء بالتفاصيل الدقيقة.
أنا : بالضبط!
الآنسة ويكس : يشبه القرويين في لوحات ديجوس.
أنا : بالضبط!

لم يكترث هذا المجتمع بالكُتب أدنى اكتراث، باستثناء بعض الكُتب الروسية؛ لذا أكسبَتْني قراءة «الأرواح المجذومة» بعضَ الحظوة عندهم. وإذا حدثتُهم عن روعة الريف، تجدهم لا يُعيرونه أدنى اهتمام، بل لم يَبعُدوا عن القرية مسافةَ ميل. لكنهم سيُحدِّثونك بانبهارٍ عن التأثير الكئيب لقطارٍ عابرٍ من محطة ماريليبون في يومٍ ماطرٍ.

وحدَهم الرجال مَن أثاروا اهتمامي لأقصى درجة. عندما تعرَّفتُ على آرونسون عن قربٍ، وجدتُه بغيضًا للغاية. كان يرى نفسه عبقريًّا، يستحقُّ الدعم من الدولة، وكان يعيش عالةً على أقاربه البؤساء وكل مَن يُمكنه إقراضُه المال. كما أكثر الحديث عن ذنوبه، وهي في غاية الحقارة في الحقيقة. وددتُ لو أنني ألقي به بين المُذنِبين الخُلَّص القديمي الطراز من معارفي؛ كانوا سيُروِّعونه كثيرًا. أخبرَني أنه يسعى وراء اختبار «الواقع» و«الحياة» و«الحقيقة»، لكن مِن أين له معرفةُ هذه المعاني، وهو في غاية البُعد عنها، بين نهارٍ يقضيه في الفِراش يُدخِّن السجائر الرخيصة، وليلٍ يُهدِره في التنعُّم بإعجاب الفتيات الغبيَّات. كان الشابُّ سقيمَ العقلِ والجسَد، والرواية الوحيدة التي قرأتُها له أصابَتْني بالغثَيان. كان الشيء الوحيد الذي يبرعُ فيه هو إلقاء النكات عن الحرب. فما إن يسمع عن انضمام أحد المعارف للحرب أو مباشرته للأعمال ذات الصلة بالحرب، حتى يتجاوز استهزاؤه به كل الحدود. كانت أصابعي تحكُّني دائمًا لشدِّ أذن ذلك الخسيس.

لم يكن هناك أدنى تشابُه بينه وبين ليتشفورد. فقد كان رجلًا فريدًا، بادئَ ذي بدء، حاد الذكاء شديد الفظاظة. تجدُه لا ينفكُّ عن معارضة ما تقوله، ويسعى إلى الجدال سعيَ الناس لكسب عيشهم. وامتاز بشدة بأسِه ونشاطه في مناصرة السلام؛ لأنه شخصٌ مشاكسٌ يجد نفسه في السَّير عكس التيار السائد. لو تراجعَت بريطانيا عن الحرب لصار رجلًا عسكريًّا متحمسًا، ولأن هذا لم يحدث، اضطُر للبحث عن المسوِّغات التي تضع بريطانيا في موضع الخطأ. وهي مسوِّغاتٌ منطقيةٌ جدًّا. لم يكن بوسعي الردُّ على حُججه لو أردتُ، لذا سلَّمتُ له. رأى ليتشفورد العالم مُعوجًّا، والرب قد خلقَه عاجزًا. لكن كانت له مَحاسنه. فقد كان لدَيه طفلان مرِحان يعشقهما، وأحَب السَّير معي مسافاتٍ طويلةً يوم الأحد، فيما جرى لسانُه بالشعر حول جمال وعظمة إنجلترا. كان في الخامسة والأربعين من عمره؛ لو كان في الثلاثينيات من عمره وفي كتيبتي لصنعتُ منه جنديًّا.

قابلتُ عشراتٍ آخرين، لا تُسعِفُني الذاكرة لتذكُّر أسمائهم، لكنهم اشتركوا في صفةٍ بعينها. كانوا جميعهم مليئين بالكِبْر، وكنتُ أتسلى بتتبُّع أصولهم في «سياحة المسيحي». عندما حاولتُ أن أعرضَهم على معايير بيتر، قصروا عنها بصورةٍ مؤسِفة. هؤلاء أبعَدوا الحرب عن حياتهم تمامًا؛ إما خوفًا، وإما بسبب خفةِ العقل المَحضة، وإما لاقتناعٍ تامٍّ بعدم أخلاقيتها. أظن أنني اشتُهِرتُ بينهم بالباحث عن الحقيقة، أو الاستعماري الأمين الذي عارض الحرب بفِطرتِه فيما سعى وراء الإرشاد في هذا الشأن. رأَوني متحولًا عن العالم العملي الغريب، الذي يهابونه في قرارة أنفسهم، رغم تظاهُرهم بالنفور منه. على أي حال، تحدَّثوا معي بحريةٍ تامة، وسرعان ما حفظتُ حُججَ المُناصرين للسلام عن ظهر قلب. توصَّلتُ إلى أنهم ثلاثُ مدارس. تُعارِض الأولى الحرب برُمَّتها، ومناصروها ليسوا بالكثرة، فيما عدا آرونسون وأخي الآنسات ويكس المُعارض للحرب الذي يُفنِي عمره في سجن دارتمور. وتعتقد الثانية أن موقف الحلفاء يشُوبُه الفساد، وأن بريطانيا أسهمَت في تفاقم الكارثة بقَدْر ما فعلَت ألمانيا. وضمَّت هذه المدرسة كلَّ أتباع رابطة الديمقراطيين المُعارضين للعدوان، وهي رابطةٌ شديدةُ الاعتزاز بنفسها. توصَّلَت المدرسة الأخيرة، التي حَظيَت بالنصيب الأكبر من المناصرين، إلى أننا حاربنا بما يكفي، وأن من المُمكن حلَّ النزاع على طاولة المفاوضات، بعدما وعت ألمانيا الدرسَ جيدًا. كنتُ تابعًا متواضعًا للمدرسة الأخيرة، لكن شققتُ طريقي للمدرسة الثانية شيئًا فشيئًا، على أمَل أن يُحالفَني الحظ وأتأهَّلَ للمدرسة الأولى. نظر معارفي للتطوُّر الذي أحرزتُه بعين الاستحسان. قال ليتشفورد إن طبيعتي المُتأنية تُخفي وراءها جوهرًا مُتعصبًا، وإنني سينتهي بي الحال برفع الراية الحمراء.

الكِبْر والعُجب، كما قلتُ، يقبعان خلف الأقنعة التي يرتديها الأغلبية، ومهما بذلتُ من جهدٍ لم أجد فيهم أيَّ شيءٍ يُمثِّل خطورة. أصابني هذا الإدراك بالحنَق، إذ بدأتُ أشُك في أن المهمة التي باشرتُها بما أوتيتُ من عزمٍ ستئول إلى الفشل الذريع. في بعض الأحيان، كنتُ أفقد قُدرتي على التحمُّل، من فَرْط غيظي من هؤلاء. عندما وصلَت أنباء معركة ميسينز، لم يكترث أحدٌ البتة، فيما تلهَّفتُ لتتبُّع تفاصيل هذه المعركة العظيمة. وكلما تناقشوا في المسائل العسكرية، مثلما كان يفعل ليتشفورد والآخرون في بعض الأحيان، كنتُ أُمسِك نفسي بصعوبةٍ عن توبيخهم؛ إذ لو كان «أيوب» مكاني لفقد صبره من عجرفتهم التي لا تستند إلى علم. بذلتُ أقصى جهدي حتى لا أتذكَّر زُمَلائي الذين يكدحون بدمائهم من أجل أن ينعَم هؤلاء الحمقى بحياةٍ مريحة. لكن لم يدُم غضبي منهم طويلًا أبدًا؛ إذ كنتُ أرى فيهم براءةً طفوليةً للغاية. في الحقيقة لم أستطِع أن أمنعَ نفسي من حُبهم، وأن أجدَ فيهم بعض المَحاسن. كنتُ قد قضيتُ ثلاثَ سنواتٍ بين الجنود البريطانيين وشهدتُ مَثالبهم رغمَ مناقبهم. فالانضباط يجعل الجندي البريطاني يخشى مُخالفةَ الأوامر وأي سلطةٍ عُليا. هؤلاء الأشخاص في غاية الصِّدق، وذوو شجاعةٍ يُظهرونها في مواضعَ غريبة. هكذا كان ليتشفورد على أي حال. فلا أستطيع فعل ما فعلَه، أن أتعرَّض لطردِ الجماهير من على المنابر وسخريةِ النساء في الطرقات، مِثلما لا أتصوَّر كتابةً مثل مقالاته القيادية.

مع ذلك كنتُ مُحبطًا من مهمتي. لم أرَ أيَّ خيطٍ أو إشارةٍ لأي غموضٍ في المكان، فيما عدا حادثةَ تفتيشِ أمتعتي في أولِ ليلةٍ قدَّمتُ فيها إلى القرية. كان المكان وساكنوه مكشوفين وواضحين مثل خيمةِ جمعيةِ الشبان المسيحيين. لكن ذاتَ يومٍ حصلَت على قدْرٍ كبيرٍ من الراحة. في زاوية جريدة ليتشفورد «الناقد»، وجدتُ خطابًا لم أقرأ مثله في تقريعه. انتقَد الكاتب بحدَّة، تُشبه نُباح جروٍ قصير، استغلالَ الجمهوريين الأمريكيين لرذائلِ الأرستقراطيةِ البريطانيةِ بحسب وصفه. أعلن أن السناتور لافوليت وطنيٌّ أُسيء فهمُه بشكلٍ كبير، فهو وحدَه مَن دافَع عن ملايين الكدَّاحين الذين لا نصيرَ لهم غيره. كان غاضبًا بشدة على الرئيس ويلسون، وتنبأ بوقوع صحوةٍ كبيرةٍ عندما يثور العم سام ضد جون بول في أوروبا، ويكتشف معارضةَ بريطانيا التي يمثِّلها للتغيير. ذُيِّل الخطاب باسم «جون س. بلنكيرون» وتاريخ «٣ يوليو، لندن».

أضفى وجود بلنكيرون في إنجلترا صبغةً جديدةً على مهمَّتي. خمَّنتُ أنني سأراه قريبًا؛ إذ لم يكن من النوع الذي يقِف ساكنًا بلا حَراك. لقد واصل الدورَ الذي أدَّاه قبل رحيله في ديسمبر ٢٠١٥، ومعه الحق في ذلك؛ إذ لم يسمع عن مسألة أرضروم إلا حفنةٌ من الأشخاص، وبالنسبة لعامَّة البريطانيين ما هو إلا رجلٌ طُرد من فندق «سافوي» لحديثِه عن الخيانة. كنتُ من قبلُ أشعُر بالوحدة نوعًا، لكن الآن كان أفضل رفيقٍ خلقه الربُّ موجودًا في مكانٍ ما على هذه الجزيرة يكتُب الترَّهات بوقاحتِه اللاذِعة المعهودة.

كانت هناك مؤسسةٌ في بيجلزويك جديرةٌ بالذكر. في جنوب الحديقة العامة، بالقرب من المحطة، انتصب مبنًى من الطوب الأحمر، اسمه «مووت هول»، يشبه الكنيسة لغير المتدينين. أعني غير متدينين بالدين التقليدي؛ إذ أحصيتُ سبعةً وعشرين معتقدًا دينيًّا، من بينهم ثلاثة بوذيين وكاهن من أتباع كنيسة المسيح السماوية وخمسة مورمونيين وحوالي عشرة مُتصوفة من نِحَلٍ مختلفةٍ لا أتذكَّر أسماءها. كان هذا المكان هبةً من ذلك الناشر الذي تحدَّثتُ عنه سابقًا، ويُستخدَم مَرتَين أسبوعيًّا في عقد المحاضرات والمناظرات. تولَّت لجنة إدارة هذا المكان، وحَظِي بشهرةٍ واسعةٍ على نحوٍ مُثيرٍ للدهشة؛ لأنه أعطى المُفكِّرين المُتحمِّسين الفرصة للصدح بآرائهم. عندما تسأل عن مكانِ شخصٍ ما، ويُخبرك أحدُهم أنه في «مووت»، فإنه يستخدم نبرةً تتقاطر احترامًا كأنه يتحدث عن سرٍّ مقدس.

دأبتُ على الذهاب إلى هذا المكان واتسع عقلي إلى حد الانفجار. كان يأتينا جميعُ نجوم الحركات الجديدة. قابلتُ الطبيب تشيرك الذي أعطانا محاضرات عن «الرب»، وهو — حسبما فهمتُ — الاسم الجديد الذي تبنَّاه لنفسه. كما جاءتنا امرأةٌ مريعة، عادت للتوِّ من روسيا، تحملُ ما تُسمِّيه «رسالة التعافي». ولحُسن حظي حضَر زنجيٌّ شجاعٌ رفيعُ الشأن إلى المكان في إحدى الليالي، وأسهَب في الحديث عن أن «أفريقيا ملك للأفريقيين». تحدثتُ معه بإيجاز، بلغة السوتو، وأفسدتُ زيارتَه نوعًا ما. كان بعض المُحاضرين استثنائيين، لا سيما ذلك العجوز المرح الذي تحدَّث عن أغاني ورقصات الإنجليز الشعبية، ورغب في نصبِ سارية مايو. بدأتُ الانضمام إلى المناظرات، التي أعقبَت هذه المحاضراتُ بصفةٍ عامة، بخجلٍ مُصطنَع في البداية، وسرعان ما تسلَّحتُ ببعض الثقة. لو أنني استفدتُ شيئًا من الفترة التي قضيتُها في بيجلزويك فهو أنني تعلَّمتُ الجدال بالارتجال.

كان أكبر إنجاز حقَّقتُه في مناسبةٍ رسمية، عندما قدِمَ لانسلوت ويك لإلقاء محاضرة. كان السيد أفري جالسًا في المقعد — هذه هي المرة الأولى التي رأيتُه فيها — وهو رجلٌ بدين، يبلغ من العمر منتصفه، ذو وجهٍ شاحب، وملامحَ عادية. لم ألقِ له بالًا حتى بدأ يتحدَّث، عندئذٍ انتصبتُ في مكاني، وأعرتُه كامل انتباهي. كان خطيبًا مفوَّهًا بحق، تنساب الجملُ المتناغمةُ من فمه بسلاسةٍ مثل الزبد. أظهر السيد حنكته؛ حيث تعامل مع خصومه بمودةٍ تنمُّ عن تواضُعه لهم، ولم يُلقِ بالًا للانفعال والمبالَغة، ما يدفع الآخرين للاعتقاد أن كلامه المصقول صائبٌ حتمًا؛ إذ إن مفوهًا مثله لو شاء لطرح حُجته ببلاغةٍ أكبر. راقبتُه في انبهار وتفرَّستُ ملامحه؛ لكن ما أثار دهشتي هو أنني لم أجد فيها شيئًا؛ لم أجد شيئًا، إن جاز التعبير، يُمكنني إمساكه. كانت ملامحُه عاديةً ببساطة، بل شائعةً إلى حدٍّ كبير، وهذا ما جعلها مميزةً نوعًا ما.

تحدَّث ويك عن تجليات محاكمة سوخوملينوف في روسيا، التي أظهرَت عدم مسئولية ألمانيا عن اندلاع الحرب. كان ماهرًا للغاية فيما يفعله، وألقى حُجته بوضوح مثل مُحامٍ محنَّك. كنتُ قد بذلتُ جهدًا مُضنيًا في دراسة الموضوع، وصِرتُ أعرف تلك القضيةَ العاديةَ مثل أصابع يدي؛ لذا عندما حظيتُ بفرصة الحديث، ألقيتُ على مسامع الحاضرين خطبةً بليغةً طويلة، زيَّنتُها ببعض الاقتباسات القوية، كنتُ قد سرقتُها من جريدة «فوسيش» الليبرالية التي أعارني إياها ليتشفورد. شعَرتُ أنه يُمكنني التعامل بغلظةٍ مع ويك؛ إذ أردتُ إظهار شخصيتي له؛ لأنه صديق ماري، وحتى تعرف أنني أؤدِي دوري في التمثيلية جيدًا. صفَّق الحاضرون بجنون، وحظيتُ بحفاوةٍ لم يحظَ بها المُحاضر الأساسي، وبعد انتهاء المحاضرة، قدَّم إليَّ ويك بعينَيه الحمراوَين وصافحَني بغيظ. قال: «أحرزتَ تقدمًا ممتازًا يا براند»، ثم قدَّمني إلى السيد أفري قائلًا: «ها هو خليفة جان سموتس، بل هو أفضلُ منه.»

دعاني أفري لأنْ أسير معه جزءًا من الطريق المؤدي إلى بيته. قال: «أنا مندهشٌ من فهمك لهذه المشكلات المعقَّدة يا سيد براند. لديَّ الكثير لأخبِركَ به، وستكون ذا نفعٍ كبيرٍ لقضيتنا.» سألَني الكثير من الأسئلة عن ماضيَّ، كذبتُ في إجابتها بكل سهولة. لكن قبل أن أُغادر، استخلَص مني وعدًا بزيارته على العَشاء في ليلةٍ من الليالي.

في اليوم التالي لمحتُ ماري، وتظاهَرَت بعدم رؤيتي، ما أصابني بالاستياء. كانت تسير مع مجموعةٍ من الفتيات حاسراتِ الرأس، يتحدَّثن في صخب، وأشاحت وجهَها عني رغم رؤيتها لي بوضوح. كنتُ أنتظر أن تُعطيني إشارة؛ لذا لم أرفع قبَّعَتي لتحيتِها ومضيتُ في طريقي كأننا غرباء. خمَّنتُ أن تصرُّفها جزءٌ من اللعبة، لكن انزعجتُ من هذا الأمر التافه، وقضيتُ المساء في كآبة.

رأيتُها مرةً أخرى في اليوم الذي يليه، لكن كانت تتحدث إلى السيد أفري برصانة، وهي ترتدي رداءً صيفيًّا جذابًا، وقبعةً عريضةَ الحافة من القش مزدانةً بالأزهار. هذه المرة توقفَت بابتسامةٍ مشرقةٍ ومدَّت يدها إليَّ لتُصافحني. سألَتني بشيءٍ من التردُّد: «السيد براند، أليس كذلك؟» ثم استدارت إلى رفيقها وقالت: «أُعرِّفك بالسيد براند. لقد نزل بقصرنا الشهرَ الماضيَ في غلوسترشير.»

أعلن السيد أفري أن بيننا سابقَ معرفة. وجدتُه في وضح النهار حسن المظهر، بين الخامسة والأربعين والخمسين، له قوامُ رجلٍ في منتصف عمره ووجه شابٍّ على نحوٍ لافتٍ للنظر. لاحظتُ عدم وجود خطوطٍ في وجهه تقريبًا، وكان أشبه بوجه فتًى حكيم منه بوجه رجلٍ بالغ. كانت ابتسامة لطيفة يتمدَّد بها ذقَنه ووجنتاه كالمطاط. هتف السيد أفري في أعقابي: «ستتناول العَشاء معي يا سيد براند. سأنتظرك يوم الثلاثاء بعد اجتماع «مووت». لقد أرسلتُ لك الدعوة بالفعل.» واصطحَب ماري بعيدًا عني، وأجبرتُ نفسي على الرضا بالتأمُّل في هيئتها حتى توارت عن الأنظار عند منعطفٍ في الطريق.

في اليوم التالي، ذهبتُ إلى لندن ووجدت خطابًا من بيتر. لاحظتُ أنه اكتسب رصانةً شديدةً في الفترة الأخيرة ذكَّرَتني بالأيام الخوالي، بعدما استسلم لحقيقة أن أيامَه الحافلة بالنشاط قد ولَّت بلا رجعة. لكن كان مزاجُه مختلفًا هذه المرة. كتَب: «أظن أننا سنلتقي في المستقبل القريب يا صديقي العزيز. هل تذكُر ذلك اليوم عندما خرجنا لمطاردة أسدٍ ضخمٍ ذي لبدةٍ سوداءَ في رويراند، وعجزنا عن ملاحقته، ثم استيقظنا ذات صباحٍ وأخبرتَني أننا سنُمسِك به اليوم؟ وفعلنا ذلك، لكنه كاد أن ينال منك أولًا. أشعُر في هذه الآونة أننا سنقصِد الوادي للقاء المارد أبوليون، وأننا سنذوقُ الويلات على يد ذلك الشيطان كما فعل المسيحي في «سياحة المسيحي»، لكن سنكون معًا على أيِّ حال.»

شاركتُ بيتر الشعور نفسه، غير أنني لم أتصوَّر إمكانية لقائنا، إلا إذ عُدتُ للجبهة مرةً أخرى ووُضعتُ في كيس وأُرسلتُ إلى سجن الألمان الذي قبَع فيه. لكن شعَرتُ أن وقتي في بيجلزويك يوشك على الانتهاء، وتنتظرني أماكنُ أخرى أكثرُ خشونة. زاد هذا من حُبي للمكان، وقمتُ بجولاتي المُفضَّلة في طرقاته، وشربتُ البيرة على نخب صِحتي في حانات القرية، وأنا أقصد وداعها. كما سارعتُ في الانتهاء من قراءة كلاسيكيات الأدب الإنجليزي؛ لأنني أعلم أنه لن يكون لديَّ متَّسعٌ من الوقت لمِثل هذه القراءات المُتشعِّبة.

أتى يوم الثلاثاء، وفي المساء تأخرتُ نسبيًّا في الذهاب إلى «مووت هول»؛ إذ كنتُ بحاجةٍ إلى ارتداء ثيابٍ نظيفةٍ بعدما سرتُ لمسافةٍ طويلةٍ في الحر. عندما بلغتُ المكان كان مكتظًّا بالحاضرين، ولم أجد موضعًا شاغرًا إلا في المقاعد الطويلة الخلفية. كان أفري واقفًا على المنصة، وبجواره جلس شخصٌ بعث في كل ذرةٍ من كياني شعورًا بالمودَّة واللهفة. قال الرئيس: «يُشرِّفني أن أُقدِّم لكم المُتحدِّث الذي نرحِّب به بحرارة، وهو صديقنا الأمريكي، الذي لا يكلُّ ولا يخاف، السيد بلنكيرون.»

كان بلنكيرون بشحمه ولحمه، لكنه قد تغيَّر كثيرًا. فقد ذهبَت بدانتُه وصار ممشوقَ القوام مثل أبرهام لينكولن. وحلَّ وجهٌ نحيفٌ تبرز فيه عظام الوجنتَين والذقَن بحدةٍ محلَّ وجهه الممتلئ، وبانت النضارة على تقاسيمِ وجهِه بعد شحوبٍ. أدركتُ كم هو رجلٌ رائع، وعندما نهض على قدميه، كشفَت كل حركة من حركاته مرونةَ رياضيٍّ يمارس التمارين. علمتُ في تلك اللحظة أن مهمتي الجادة قد بدأَت. فجأة تيقَّظَت حواسي الخمسة، وشحذتُ أعصابي، واتقد عقلي أكثر. لقد بدأت اللعبة الكبيرة، وسنلعبها معًا.

شاهدتُ بلنكيرون بانتباهٍ مصطنَع. فقد ألقى خطابًا مُضحكًا، محشوًّا بالمبالغات والتطرُّف، غيرَ مُحكم الحُجة ومُطنِب. دار خطابه حول نقطةٍ أساسية، وهي أن ألمانيا في مزاجٍ ديمقراطيٍّ حسنٍ ويمكن إدخالها في شراكةٍ أخوية، وأنها لطالما كانت كذلك في الحقيقة، غير أنها دُفعَت إلى العنف دفعًا بسبب مؤامرات أعدائها. كان أغلب خطابه — في ظني — يتحدى بوضوح «قوانين الدفاع عن الأرض»، لكن لو أن ضابطًا حكيمًا من سكوتلاند يارد سمعَه باهتمامٍ لاعتبره غيرَ ضارٍّ لما احتوى على تناقُضات. فاض خطابُه بالحماسة الهوجاء، والمجازات المُسهِبة الفكاهية الأمريكية، التي أثارت قهقهةَ أغلبِ الحاضرين الناقِدين. لكن هذا المجتمع ليس معتادًا على هذا النوع من الخطابات، وأستطيع تصوُّر رأي ويك بخصوصه. بدأتُ أدرِك أن بلنكيرون يتعمد إظهار نفسِه مثل أحمقَ صادق. لو كان الأمر كذلك، فقد حقَّق نجاحًا ساحقًا. يُولِّد حديثُه في المرء ذلك الانطباعَ الذي يتركه الثوريون العاطفيون، أنهم يقتلون خصمَهم بلا هوادة ثم يسيرون في جنازته.

في نهاية الخطاب، بدا أن بلنكيرون يحاول استعادةَ هدوئه، ومخاطبةَ العقل بدلَ العاطفة. وأثار نقطةً في غاية الأهمية بشأن ذهاب الاشتراكيين النمساويين إلى ستوكهولم، بحريةٍ تامة وبموافقةِ حكومتهم، رغم أن دولتهم يَصفها النقاد بالديكتاتورية، فيما تمنع الديمقراطياتُ الغربيةُ شعوبَها من السفر. قال: «أنا على ثقةٍ تامةٍ أن ما أثَّر في الحكومة النمساوية للسماح لعملائها بالسفر بحُرية هو ألمانيا نفسها. هذه هي البلاد التي يتظاهر الحلفاء المنافقون بالابتعاد عنها مخافةَ التلوُّث بأدرانها!»

جلس بلنكيرون وسطَ مَوجةٍ من التصفيق الحار؛ إذ لم يُشعِر مُستمِعيه بالضجر، رغم أنني لاحظتُ تحفُّظ بعضِ الحاضرين بسبب إفراطه في الثناء على الألمان. لم يكن مُستهجَنًا في بيجلزويك وضعُ بريطانيا موضعَ المخطئ، لكن هذا يختلف بنسبةٍ طفيفةٍ عن التغنِّي بمناقِب العدو. أثار حَيرتي ذكْره لأمر النمسا؛ إذ لم تتماشَ مع بقية الخطاب، وحاولتُ تخمينَ دافعِه. أشار الرئيسُ إلى هذه النقطة في ملاحظاته الختامية. قال: «سأسمح لنفسي بتأكيدِ جميعِ ما قاله المحاضر. وسأذهب إلى ما هو أكثر من ذلك. يُمكِنُني أن أُطمئِنه بناءً على مصدرٍ موثوق، أن ما وصل إليه صحيحٌ، وأن قرار فيِنَّا بإرسالِ مفوَّضيها إلى ستوكهولم أملاه عليها المُمثِّلون الألمان إلى حدٍّ كبير. وأعتقد أنه أُقر بهذه الحقيقة في الصحافة النمساوية في الآونة الأخيرة.»

شكَر بلنكيرون المضيف، ووجدتُ نفسي بعد ذلك أصافح السيد أفري، فيما وقف بلنكيرون على بُعد ياردةٍ يتحدَّث إلى إحدى آنِساتِ عائلةِ ويكس. في اللحظة التالية قدَّمَني السيد أفري إليه.

قال الصوتُ الذي أعرفه جيدًا: «يَسرُّني التعرُّف إليك يا سيد براند. لقد حدَّثَني السيد أفري عنك وأظن أنه يُمكن أن نتشارك المعلومات. فنحن قادمون من دولٍ حديثة، ولا بد أن نُعلِّم الدولَ القديمةَ كيفيةَ التصرُّف بالمنطق.»

حملَتْنا سيارةُ السيد أفري، الوحيدة المُتبقية في المنطقة السكنية، إلى قصره، وسرعان ما أجلسَنا في غُرفةِ طعامٍ جيدة الإضاءة. لم يكن القصر جميلًا، لكنه مزوَّدٌ بوسائل الراحة على شاكلة الفنادق الفاخرة، وكان العَشاء الذي قُدِّم لنا شهيًّا كعشاءِ مطعمٍ لندني. لقد ولَّت أيام السمك والخبز المُحمص واللبن المَغلي. شدَّ بلنكيرون قامته، وأظهر نفسَه كشخصٍ شَرهٍ نبيل.

أخبر بلنكيرون مُضيفنا: «في العام الماضي عانيتُ أشد المعاناة من عُسر في الهضم. تربَّع حب الصلاح في قلبي، فيما عشَّش الشيطان في معدتي. ثم سمعتُ عن الأخوان روبسون، الجرَّاحَين النابغَين، في أقصى الغرب، في وايت سبرينجز بولاية نبراسكا. كان هذان الأخوان من أمهر الجرَّاحين في العالم في استخدام المِشرَط وإزالة الشياطين من الأمعاء. تجنَّبتُ الجرَّاحين دائمًا، يا سيدي، على يقين أن خالِقَنا لم يَخلقنا في الأصل بغرض إصلاحنا بواسطة أيادٍ بشرية، كما لو أننا شركة سكك حديد إيطالية مُفلِسة. لكن، في ذلك الوقت، ساءت حالتي للغاية، حتى إنني كنتُ على استعدادٍ لدفع المال لقاتلٍ مأجور كي يضعَ رصاصةً في رأسي. قلتُ لنفسي: «ما باليد حيلة. إما أن تنسى دينك وجُبنك البائس وتخضع للجراحة وإما أن تُواجِه الموت.» شدَدتُ العزم، وسافرتُ إلى وايت سبرينجز، وفحص الإخوة قناة الاثنَي عشر. تبيَّن حدوثُ خلَلٍ في أمعائي اللعينة؛ لذا نحَّاها الجرَّاحان جانبًا، وصنعا مسارًا جديدًا للغِذاء. كانت أمهرَ عمليةٍ جراحية منذ أن أخذ الربُّ ضلعًا من جانب أبينا الأول. امتاز الجرَّاحان بعدالتهما في تقاضي أجرهما أيضًا إذ كانا يتقاضيان خمسة بالمائة من دخل الفرد، دون تفرقة بين رب عملٍ ثري وعاملٍ بسيط يتقاضى عشرين دولارًا في الأسبوع. أؤكِّد لك أنني تكبَّدتُ بعضَ العَناءِ العام الماضي كي أصير رجلًا ثريًّا.»

جلستُ فيما يُشبه حالةً من الذهول طيلة العَشاء. كنتُ أحاول هضم بلنكيرون الجديد، والاستمتاع بمطِّه البديع في الكلام، فيما حار عقلي في أمر أفري. راودَني إحساسٌ غير عقلاني أنني رأيتُه من قبلُ، لكن مهما فتَّشتُ في ذاكرتي عجزتُ عن تحديد تذكُّره. كان تجسيدًا لما هو عادي؛ فهو شخصٌ عاطفيٌّ ميسورُ الحال من الطبقة المتوسطة، يدعَم السلام من باب الزهو، لكنه حريصٌ أشدَّ الحرص ألا يتورَّط كثيرًا في القضية. ظلَّ يُخمِد جُمل بلنكيرون البركانية طيلة الوقت. تسمعه يُضيف: «بالتأكيد، كما تعرف، لدى الفريق الآخر حجةٌ أجد من الصعب تفنيدها …» و«يُمكِنني التعاطُف مع الوطنية، وحتى مع الغُلو في الوطنية، في حالاتٍ مُعينة، لكن أجد نفسي أعود إلى هذه المشكلة دائمًا». وراح يُضيف: «خصومُنا ليسوا بالأشرار بقَدْر ما هم حمقى.» وامتلأ كلامُه باقتباساتٍ من مُحادثاتٍ خاصة أجراها مع صنوفٍ مُختلفةٍ من البشر من بينهم أعضاء الحكومة. وفيما أذكُره أنه عبَّر عن إعجابه الشديد بالسيد بلفور.

من كل هذا الحديث، تذكَّرتُ أمرًا واحدًا بوضوح؛ إذ بدا بلنكيرون يُحاول جمعَ شتاتِ أفكاره والمُحاجَّة، مثلما فعل في نهاية محاضرته. كان يتحدَّث عن قصةٍ سمعَها من شخصٍ نقلًا عن شخصٍ آخر، مفادُها أن النمسا وافقَت، في آخر أسبوع من يوليو ١٩١٤، على عرض روسيا بالتفاوُض، وأن قيصر النمسا أرسل رسالةً إلى إمبراطور روسيا يُخبِره فيها بموافقته. وفقًا لقصَّته، استُلمَت البرقية في بيتروجراد وأُعيدت كتابتُها، على غِرار برقية بسمارك المُزيفة، قبل أن تصل إلى يد الإمبراطور. عَبَّر عن عدم تَصديقِه للقصة. قال: «لو كانت هذه القصةُ صحيحة، لخرج النصُّ الأصلي للعلن منذ وقتٍ طويل. فالألمان يحتفظون بنسخةٍ منها حتمًا. على أي حالٍ سمعتُ إشاعةً مفادُها أن رسالةً من هذا القبيل نُشرَت في صحيفةٍ ألمانية.»

بدَت أمارات الحكمة على السيد أفري. قال: «أنتَ على صواب. فقد صادف أن سمعتُ عن نشر هذه الرسالة. ستجدُها في صحيفة «فيزر».»

ردَّ بلنكيرون بإعجاب: «حقًّا؟ ليتَني أستطيعُ قراءةَ تلك اللغة القديمة. لكن لو استطعتُ لمنعوا عني الصحف.»

ضحك السير أفري بلُطف وقال: «لن يمنعوها عنك بالتأكيد. فلا تزال إنجلترا تتمتَّع بقدْرٍ جيد من الحرية. أي شخصٍ رفيع الشأن يستطيع الحصول على تصريحٍ لاستيراد صحف العدو. لا تعتبرني السلطات رفيعَ المقام؛ إذ لدَيها تعريفٌ ضيقٌ للوطنية، لكن لحُسن حظي لديَّ أصدقاءُ رفيعو المقام.»

كان من المقرَّر أن يقضي بلنكيرون الليلة في منزل السيد أفري، واستأذنتُ أنا للرحيل عندما دقَّت الساعة الثانية عشرة. سارا معي إلى الرَّدهة لتودِيعي، وفيما كنتُ أحتسي كأسَ شرابٍ سريعًا، وانشغَل مُضيفي بالبحث عن قبَّعَتي وعصاي، همس بلنكيرون في أذني فجأة. قال: «لندن … بعد غدٍ.» بعد ذلك ودَّعني بطريقةٍ رسمية. قال: «تشرَّفتُ، بصفتي مواطنًا أمريكيًّا، بالتعرُّف إليك يا سيد براند. يسُرُّني أن ألقاكَ في المستقبل القريب. سأنزل بفندق «كلاريدجز»، وآمُل أن أحظى بشرفِ زيارتك.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤