الفصل العاشر

تقنيات العلاج المعرفي

«إن مشكلة الحرية، بمعناها السيكولوجي لا السياسي، هي مشكلة تقنية إلى حد كبير. ليس يكفي أن ترغب في السيادة. ولا هو بكافٍ حتى أن تجدَّ وتجتهد لكي تنال هذه السيادة. فالمعرفة الصحيحة لأفضل الوسائل لنيل السيادة هي أيضًا شرط ضروري.»

ألدوس هكسلي

المنهج التجريبي

إن مساعدة المريض في التعرف على تحريفاته وتصحيحها هي عملية تتطلب استخدام مبادئ إبستمولوجية معينة (الإبستمولوجيا تعني المعرفة من حيث طبيعتها وحدودها ومعاييرها). إن المعالج لينقل إلى المريض ويبلغه، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، مبادئ معينة:
  • أولًا: أن إدراكه للواقع ليس هو الواقع نفسه. بل هو على أفضل تقدير صورة استقرابية للواقع؛ فالعينة التي يلتقطها للواقع هي عينة محدودة بحدود وظائفه الحسية: البصر والسمع والشم … إلخ. وهي حدود متأصلة مفطورة.
  • ثانيًا: أن تأويلاته للمدخل الحسي sensory input تتوقف على عمليات معرفية من قبيل دمج المنبهات (المثيرات) وتفريقها، وهي عمليات عرضة بطبيعتها للخطأ. إن العمليات (والمداخلات) الفسيولوجية والسيكولوجية قد تغير إدراكنا وفهمنا للواقع تغييرًا كبيرًا.

كلنا يعرف جيدًا أن تحريف الواقع قد يحدث عندما يكون المرء تحت تأثير العقاقير، أو عندما يكون في حالة إجهاد أو نقص في الوعي أو في حالة من الاستثارة الشديدة. وقد سبق أن رأينا أيضًا أن تقييم الواقع قد يعتريه الخلل من جراء بعض الأنماط الفكرية اللاواقعية. ففي عصاب القلق، على سبيل المثال، يتمثل المريض جميع المنبهات، حتى المأمونة منها، بطريقة تجعلها توحي بالخطر وتنذر به. يستلزم استخدام التقنيات السيكولوجية لعلاج هذا العصاب أن يكون المريض قادرًا من الأصل على أن يميز ويدرك الفوارق بين الواقع الخارجي (المثيرات المحايدة غير المؤذية) من جهة والظاهرة السيكولوجية (تقييم الخطر) من جهة أخرى. ليس بمقدور بعض المرضى (كمرضى الانسمام بالعقاقير ومرضى الذهان الحاد ذي الضلالات) أن يعِي أو يميز هذا الفرق.

كذلك يتوجب على المريض أن يكون قادرًا على أن يختبر الفرضيات ويمحصها قبل أن يصدِّق عليها ويسلم بها كحقائق. فالمعرفة التي يُعوَّل عليها تعتمد جوهريًّا على امتلاك معلومات كافية تسمح لنا باختبار الأصح والأقوم من بين فروض بديلة. فهذه ربة بيت يطرق سمعها صكُّ باب (انغلاقه بعنف) فتقع لها فروض عديدة: «قد تكون سالي عادت من المدرسة.» «قد يكون لص منازل.» «قد تكون الريح هي التي صكَّت الباب.» إن انتقاء الفرض الأرجح هنا يتوقف على أن تأخذ السيدة بعين الاعتبار جميع الظروف ذات الصلة. غير أن تهيؤها النفسي قد يفسد عليها العملية المنطقية لاختبار الفرض وتمحيصه. فإذا سيطر على تفكيرها مفهوم الخطر فربما تقفز إلى استنتاج «إنه لص.» ذلك هو الاستدلال التعسفي (التحكمي، الاعتباطي) arbitrary inference. ورغم أنه ليس بالضرورة استدلالًا خاطئًا؛ فإنه مبنيٌّ أساسًا على عمليات معرفية داخلية أكثر مما هو قائم على معلومات حقيقية. إذا هُرِعت هذه السيدة عندئذٍ واختبأت فإنها تؤجل أو تفوِّت على نفسها فرصة دحض الافتراض (أو تدعيمه).

التعرف على الفكر اللاتكيُّفي

تتوجه الاستجابات الانفعالية والدوافع والسلوك الظاهر، كما بيَّنا في الفصول السابقة، بالفكر وتسترشد به. قد يكون الشخص غير مدرك تمامًا للأفكار الأوتوماتيكية التي تؤثر كثيرًا على أسلوب فعله وشعوره ومدى استمتاعه بخبراته. غير أنه يستطيع بشيء من التدريب أن يزيد إدراكه لهذه الأفكار ويتعرف عليها بدرجة عالية من التناسق والاطِّراد. فالحق أن بإمكاننا أن ندرك فكرةً ما ونركز عليها ونقيِّمها، تمامًا كما يمكننا أن نتعرف على إحساس ما (كالألم) ونتأمله، أو أن نميز منبهًا خارجيًّا (مثل عبارة لغوية) ونتملاه.

ويعني مصطلح «الأفكار اللاتكيُّفية» maladaptive thoughts١ ذلك التفكير الذي يعطل القدرة على التكيُّف مع خبرات الحياة ويفسد التوافق الداخلي بلا داع، ويولِّد استجابات انفعالية غير مناسبة أو مفرطة حتى الألم. إننا نناشد المريض في العلاج المعرفي أن يركز على تلك الأفكار والصور التي تورثه ضيقًا وألمًا لا مبرر لهما أو تدفعه إلى سلوك سلبي انهزامي. على أن المعالج يجب أن يتحرز حين يستخدم مصطلح «لاتكيُّفي» من أن يفرض منظومته القيمية الخاصة على المريض. فهذا المصطلح لا يصِح استخدامه ما لم يتمكن كل من المريض والمعالج من أن يصلا إلى اتفاق على أن هذه الأفكار الأوتوماتيكية تعوق سعادة المريض أو تحول بينه وبين تحقيق أهدافه الكبرى.
هناك استثناءات ممكنة لهذا التعريف تقفز توًّا إلى الذهن. فهل كل فكرة مؤرقة تعتبر لاتكيُّفية حتى لو كنت متفقة مع الواقع؟ قد يبدو صعبًا أن نسوِّغ استخدام صفة «لاتكيُّفي» لتسِم أحد التقديرات الدقيقة للخطر (والقلق المصاحب لذلك) أو لتسِم إدراكًا لفقدان حقيقي وما يستتبع ذلك من ثورة الحزن. إلا أن هناك أحوالًا معينة تبرر لنا أن ننعت بعض الأفكار الواقعية بصفة «لاتكيُّفية» لأنها تعوق الأداء وتعطل الوظائف. خذ مثلًا لذلك مصلحي المداخن وعمال الجسور ومتسلقي الجبال. إن هواجس السقوط وصوره قمينة أن تؤرقهم بل قد تعرضهم لخطر جسيم. فمثل هذا التفكير يشتت تركيزهم عن مهمتهم وربما يؤدي القلق المصاحب له إلى الترنح والدوار والارتعاش وفقد التوازن. كذلك شأن الجرَّاح إذا تنازعته أفكار تتعلق باحتمال أن يزلَّ مبضعه أثناء العملية الجراحية. فمن شأن هذه الأفكار أن تشتت تركيزه بالفعل وتعرض حياة المريض للخطر. يكتسب العاملون في الوظائف الخطرة، بوجه عام، تلك القدرة على اطَّراح مثل هذه الأفكار وإخمادها. ويبدو أنهم بالتمرس والخبرة يُكوِّنون مصدًّا نفسيًّا يخفف من شدة هذه الأفكار وتواترها. هذا «المصدُّ الملطِّف» buffer هو الذي يميز المتمرس المحنك فيهم من الجديد المبتدئ.

قلما يضطر المعالج في الممارسة الإكلينيكية الفعلية إلى وضع تمييز دقيق بين الأفكار اللاتكيُّفية والأفكار الواقعية. فالتحريفات والسمات الانهزامية تكون عادةً من الوضوح والجلاء بحيث تبرر لنا أن نسميها «لاتكيُّفية». فهذا رجل مثلًا ظل مكتئبًا لسنوات بعد وفاة زوجته، متجاوزًا بذلك كل حساب واقعي لآثار الفقدان، وظل مسكونًا بهواجس متطرفة من قبيل «لقد ماتت بسببي.» أو «لا يمكنني أن أحيا بدونها.» أو «لن أجد أي عزاء إلى الأبد.» ومثله ذلك الطالب خلال قلقٍ ما قبل الامتحان إذ يحدث نفسه «ستكون نهايتي لو رسبت، ولن أجرؤ أن أواجه أصدقائي.» أو «سوف أنتهى في شارع الساقطين.» ثم يدرك بسهولة بعد الامتحان تلك الطبيعة المبالغة اللاواقعية لهذه الأفكار.

يشير إليس Ellis (١٩٦٢م) إلى هذا اللون من التفكير اللاتكيُّفي بوصفه «عبارات مدخَلة» internalized statements أو «عبارات ذاتية» self-statements وكان يصفها للمريض بأنها «أشياء تقولها لنفسك». ويطلق ملتسبي Maultsby (١٩٦٨م) على هذه الأفكار مصطلح «الحديث الذاتي» self-talk. لمثل هذه التفسيرات قيمة عملية من حيث إنها تلمح إلى المريض أن أفكاره اللاتكيُّفية هي شيء إرادي، ومن ثَم فهي طوع مشيئته وبإمكانه أن يطفئها أو يغيرها بإرادته. ورغم أني أقدر الفائدة العملية لهذه التسميات؛ فإني أفضل مصطلح «الأفكار الأوتوماتيكية» لأنه يعكس الطريقة التي نخبر بها هذه الأفكار بصورة أدق. فصاحب هذه الأفكار يدركها كما لو كانت تنشأ بالانعكاس — دون أي تفكر أو استدلال مسبق. وتقع في نفسه كشيء معقول وصحيح. وهي في ذلك تعدِل وقع عبارات والد في نفس ولده الواثق به المصدِّق له. بإمكان المريض في أغلب الحالات أن يوقف بنفسه هذا اللون من التفكير بعد تدريب كافٍ غير أن الحالات الشديدة، الذهانات بخاصة، قد تتطلب تدخلات علاجية فسيولوجية كإعطاء الأدوية وعلاج الصدمة الكهربية لوقف الأفكار اللاتكيُّفية.

يبدو أن الأفكار اللاتكيُّفية تزداد قوة وبروزًا بزيادة شدة المرض. ففي الاضطرابات الشديدة تتبدى هذه الأفكار بوضوح وربما احتلت مركز المجال الفكري. من ذلك ما نشاهده في الحالات الحادة والشديدة من الاكتئاب والقلق وحالات البارانويا. ففي الاكتئاب مثلًا قد تسيطر على ذهن المريض اجترارات من قبيل «لا أمل فيَّ … إن داخلي قد مات … كل المصائب تحل بي.» وفي حالات القلق نجد هواجس مماثلة تتعلق بالخطر. أما في حالات البارانويا فالهاجس السائد هو الإساءة والإيذاء.

على أننا لا نعدم حالات غير حادة وغير شديدة وهي تعجُّ مع ذلك بالهواجس المقيمة والعبارات الملحَّة المتكررة، على وعي من المريض وإدراك قوي. تلك هي حالات الوسواس القهري حيث الهواجس المتواصلة علامة مميزة ومؤشر تشخيصي. بل إن من الناس من تشغله أفكار مماثلة وهو سويٌّ تمامًا وخِلوٌ من أي عصاب. فالأم المنزعجة لمرض طفلها، والطالب المهموم بامتحان وشيك … إلخ، كل هؤلاء مستهدفون لأفكار منغصة حول مشكلتهم الخاصة تراودهم بلا هوادة. ويعلم كل من جرب هذه الهموم كيف تبدو كرهيَّة وخارجة عن كل إرادة.

حين يعاني شخص اضطرابًا خفيفًا في المشاعر والسلوك؛ فقد تخفى عليه الأفكار الأوتوماتيكية رغم أنها تبقى في متناول وعيه. فهي لا تجذب انتباهه رغم فعلها في شعوره وسلوكه. في هذه الحالات يستطيع الشخص بشيءٍ من التركيز أن يظهر على هذه الأفكار بسهولة ويتعرف عليها. تبدو هذه الظاهرة بوضوح في مرضى الاضطرابات النفسية الخفيفة وفي المرضى الذين تعافوا من المرحلة الحادة لمرض نفسي.

كذلك الشأن في حالة الأشخاص الذين مرَدوا على تجنب المواقف التي تضايقهم وتزعجهم، كالرهابيين. أولئك لن يتمكنوا من إدراك أفكارهم اللاتكيُّفية ما ظلوا يفرضون مسافة مريحة بينهم وبين المواقف المهدِّدة. غير أنهم حين تُلقي بهم الظروف في الموقف أو يتخيلون أنفسهم فيه تنشط فيهم هذه الأفكار اللاتكيُّفية ويمكنهم تمييزها بسهولة.

عندما يصرح مريض بأنه لم يكن قط على دراية بأفكاره الأوتوماتيكية إلا بعد أن تم تدريبه على ملاحظتها، عندئذٍ نكون بصدد مشكلة فلسفية: كيف يتأتى أن يكون الشخص على غير وعي بشيءٍ ما هو في مجال وعيه؟! رغم أن هذا السؤال يبدو مربكًا على المستوى النظري إلا أننا جميعًا قد وقع لنا عمليًّا أن تعرضنا لمنبه ما دون أن ندري به دراية واعية إلى أن نبهنا أحد إليه وأظهرنا على جليَّته. عندئذٍ قد يكون تعليقنا: «أعرف أنه كان هناك طيلة الوقت ولكني لم ألحظه قط.» يبدو في مثل هذه المواقف أن الإدراك كان قائمًا ولكننا لم نلتفت إليه ولم نُعِره أي انتباه. وليس ما يمنع من أن يكون هذا الإدراك قد فعل فعله في مسار فكرنا وشعورنا خلال الموقف. من أمثلة ذلك أن يجد الشخص نفسه عاجزًا عن النوم دون أن يدري أن ضجره وتململه هما من أثر أصوات مؤرقة من مثل تكات الساعة أو المرور الكثيف. كذلك تجري الأفكار الأوتوماتيكية في مجال الوعي دون أن يلحظها الشخص، إلى أن يتم تدريبه؛ فيعرف كيف يوجه انتباهه إليها ويلتقطها ويحدد محتواها.

ملء الفراغات

ليست هناك صعوبة تذكر في التعرف على الأفكار الأوتوماتيكية ما دامت سائدة ماثلة في مركز الوعي. إنما تبرز الصعوبة في الحالات الخفيفة والمتوسطة من العصاب؛ حيث يتوجب أن ندرب المريض على تحديد تلك الأفكار خلال برنامج منظم من التعليمات ومن جلسات الممارسة. وفي بعض الأحيان يكون تخيل الموقف الصدمي كافيًا لإثارة هذه الأفكار لدى الفرد.

من الإجراءات الأساسية لمساعدة المريض على تبين أفكاره الأوتوماتيكية أن ندربه على ملاحظة سلسلة الأحداث الخارجية وردود أفعاله حيالها. قد يذكر المريض عددًا من الظروف التي أحس فيها بكدر لا مبرر له. في هذه الحالة تكون هناك دائمًا فجوةٌ ما بين المثير (المنبه) والاستجابة الانفعالية. ويكون باستطاعة المريض أن يفهم سرَّ كدره الانفعالي إذا أمكنه أن يتذكر ويسترجع الأفكار التي وقعت له خلال هذه الفجوة.

يصف إليس التقنيات التالية لكي يوضح للمريض هذا الإجراء. وقد أسمى هذا التتابع الذي أشرنا إليه ABC؛ حيث A هي المنبه المنشِّط Activating stimulus، وC هي الاستجابة الشرطية Conditioned response المفرطة وغير الملائمة، وB هي الفراغ Blank الكائن في ذهن المريض، والذي يمكن حين يملؤه أن يكون بمثابة جسر يصل بين A وC. بذلك يصبح ملء الفراغ — بمادة مستمدة من المنظومة الاعتقادية للمريض — هو المهمة العلاجية الأساسية.
من أمثلة ذلك هذا التتابع الذي رسمه أحد المرضى: A هو رؤية صديق قديم، C الإحساس بالحزن. وهذا الذي رسمه مريض آخر: A سماع تقرير عن وفاة شخصٍ ما في حادث سيارة، C الإحساس بالقلق. في هذيَن المثالَين استطاع المريضان أن يستعيدا الأحداث بالحركة البطيئة كما وقعت، واستطاعا عندئذٍ أن يتذكرا الأفكار التي وقعت لهما في أثناء الفجوة. فرؤية المريض الأول للصديق القديم قد أثارت B وهي سلسلة الأفكار التالية: «لو أنني حييت «بوب» فقد لا يتذكرني … قد يعبرني بازدراء. لقد مر زمن طويل ولم يَعُد يجمعنا شيء، ولن نكون منسجمين كسالف العهد.» هذه الأفكار هي التي أثارت المشاعر الحزينة C. أما المريض الذي أحس بالقلق على أثر سماعه عن حادث السيارة فقد استطاع أن يملأ الفراغ حين استحضر أنه تخيل نفسه (هو الضحية).
وقد يتضح التتابع ABC إذا أخذنا له مثالًا ذلك الخوف الشائع من الكلاب. فقد يؤكد الشخص أنه رغم عدم وجود سبب لخوفه من الكلاب؛ فهو لا يتمالك نفسه عن القلق كلما تعرض لها. كان لي مريض يحيره لغز خوفه حين يكون بالقرب من أي كلب حتى لو لم يكن هناك أي احتمال أن يهاجمه (كأن يكون الكلب مربوطًا أو داخل سياج أو أن يكون أصغر من أن يؤذيه). وقد أوصيته أن يركز على أية أفكار تعرض له في رؤيته القادمة لأي كلب.

وفي المقابلة التالية للمريض روى لي أنه قد رأى خلال هذه الفترة عددًا من الكلاب. ووصف ظاهرة قال إنه لم يكن يلحظها في السابق، وهي أنه في كل مرة كان يشاهد كلبًا كانت ترد له أفكار مثل: «سيعضني هذا الكلب.» استطاع المريض بتركيزه على الأفكار الوسيطة أن يفهم سرَّ قلقه: إنه يعتقد أوتوماتيكيًّا أن كل كلب هو خطر. وقد أردف هذا المريض أنه كان يستشعر الخوف من العض حتى عند رؤية كلب «بودل» منمنم. وجعل يؤنب نفسه على مجرد التفكير في احتمال ذلك. وتبين المريض أيضًا أنه عندما كان يرى كلبًا كبيرًا ممسوكًا بمقود كان يهجس لنفسه بأسوأ الاحتمالات وأوخمها: «سوف يقفز هذا الكلب ويعض إحدى عينيَّ.» «سوف يهجم عليَّ ويعض رقبتي ويقتلني.» وقد نجح المريض خلال ثلاثة أسابيع في أن يتغلب على خوفه المزمن عن طريق التعرف المتكرر على الأفكار التي تخطر له عند تعرضه للكلاب.

يمكن لتقنية «ملء الفراغ» أن تكون عونًا كبيرًا للمرضى الذين يعانون من الخجل المفرط أو القلق أو الغضب أو الحزن في المواقف البينشخصية، أو المرضى الذين يشلهم الخوف من أماكن معينة أو أبنية معينة. فهذا طالب جامعي كان يتجنب التجمعات العامة بسبب ما ينتابه في هذه المواقف من مشاعر الخجل والقلق والحزن التي لا يعرف لها سببًا. وبعد أن تم تدريبه على تمييز أفكاره وتسجيلها تبين له أن الأفكار التالية هي ما يجول بوعيه أثناء هذه المواقف: «لن يرغب أحد في التحدث إليَّ … إنهم يرون أن منظري يثير الشفقة … إنني حقًّا غريب ناقص.» هذه الأفكار هي التي تبعث فيه الشعور بالمهانة والقلق والحزن، وتثير فيه رغبة قوية في مغادرة المكان.

وهذا مريض آخر كان يشكو من غضب شديد يتملكه كلما كان عليه أن يتعامل مع الغرباء، سواء أثناء شراء حاجياته أو حين يسأل عن شيء أو يدخل في مجرد حديث. وبعد جلستين تدريبيتين تكشفت له أفكار بينية مثل «إنه يدفعني جانبًا.» «إنه يظنني لقمة سائغة.» «إنها تحاول أن تستغلني.» وما تكاد تخالجه هذه الأفكار حتى يجتاحه الغضب تجاه الشخص المذكور. إنه يميل إلى اعتبار الآخرين خصومًا، ولم يكن يفطن إلى ذلك قبل تدريبه.

كثيرًا ما يأتي التفكير اللاتكيُّفي في شكل صوري بدلًا من الشكل اللفظي (أو بالإضافة إليه) (Beck, 1970c): فهذه امرأة مصابة بالخوف من السير بمفردها كانت تراودها صور خيالية ترى فيها نفسها في نوبة قلبية وهي تحتضر مطروحة بالشارع لا معين لها. وكانت هذه الصور بالطبع مصحوبة بقلق حاد. وهذه امرأة أخرى كانت تعاني من فورة قلق تغمرها عندما تجتاز بسيارتها جسرًا. وقد تبينت بالتدريب أن قلقها كان دائمًا مسبوقًا بصورة بصرية لسيارتها وهي تخترق الحاجز الواقي وتهوي من أعلى الجسر. وهذا طالب اكتشف أن قلقه لدى مغادرة السكن الجامعي ليلًا كان سببه خيالات بصرية يتصور فيها نفسه هدفًا لقُطَّاع الطرق.

الإبعاد (أخذ مسافة) وفض المركزية Distancing and Decentering

بمقدور بعض المرضى الذين تعلموا التعرف على أفكارهم الأوتوماتيكية أن يتبينوا بسهولة طبيعتها المهتزة غير التكيُّفية. إذ يصبحون بالملاحظة المتكررة لأفكارهم قادرين على أن يقفوا منها موقفًا موضوعيًّا ويتأملوها بحيدة. وتُسمى هذه العملية الإبعاد أو الإقصاء أو فرض مسافة distancing. ويستخدم مفهوم المسافة هنا بنفس المعنى الذي يستخدم به في مقام الاختبارات الإسقاطية (مثل اختبار بقع الحبر لرورشاخ)؛ ليشير إلى قدرة المريض على أن يحتفظ بالتمييز بين تشكيلات بقع الحبر من جهة، والتداعيات أو التخيلات التي تثيرها تلك التشكيلات من جهة أخرى. فأما المرضى الذين تجرفهم انفعالاتهم بالمدركات التي يثيرها الشكل؛ فيندمجون بالبقعة كما لو كانت هي والأشياء التي تستحضرها في الذهن شيئًا واحدًا. وأما المريض الذي يستطيع أن يسلَّ انتباهه من هذا التداعي ويدرك هذا المنبه كبقعة حبر لا أكثر، فيقال عنه إنه قادر على أن «يأخذ مسافة» من تلك البقعة.

بنفس القياس، فإن الشخص الذي يملك القدرة على تفحص أفكاره الأوتوماتيكية بوصفها ظواهر سيكولوجية لا بوصفها مساوية للواقع، يوصف بأنه قادر على أخذ المسافة. خذ مثلًا ذلك المريض الذي تخامره فكرة تقول «هذا الرجل عدوٌّ لي.» فهو لو جعل هذه الفكرة بلا تردد مساويةً للواقع تكون قدرته الإبعادية ضعيفة. أما إذا كان قادرًا على أن ينظر إلى فكرته بوصفها فرضًا أو استدلالًا أكثر مما يسلِّم بها كحقيقة فإن قدرته الإبعادية جيدة، أو هو قادر على «أخذ مسافة» من أفكاره.

إن مفاهيم مثل الإبعاد distancing، واختبار الواقع reality testing، والتثبُّت من الملاحظات authenticating observations، والتحقق من النتائج validating conclusions هي مفاهيم تنتمي إلى الإبستمولوجيا. وبلغة إبستمولوجية يمكننا القول إن الإبعاد distancing هو تلك القدرة على التمييز بين «أنا أعتقد» I believe (أي أعتقد رأيًا (ظنًّا) يخضع للتحقق والتثبُّت) و«أنا أعرف» I know (أي أعرف حقيقة واقعة لا تقبل الدحض). لهذه القدرة التمييزية أهمية حاسمة في تعديل تلك القطاعات العريضة من استجابات المرضى المعرضة للتحريف والتشويه.
ينشأ التحريف الفكري الجسيم في العديد من الأمراض النفسية (القلق، الاكتئاب، حالات البارانويا) من ولع المريض بشخصنة personalization الأحداث التي لا تمت إليه بصلة سببية. مثل ذلك الرجل الاكتئابي الذي ينحي على نفسه باللوم؛ لأن النزهة العائلية التي حدد موعدها تعيَّن إلغاؤها بسبب الأمطار. ومثل تلك المرأة المصابة بالقلق إذ شهدت مبنى يحترق؛ فهجس في بالها أن منزلها ربما شب فيه حريق أيضًا. ومثل ذلك البارانوي الذي لمح تقطيبة في وجه أحد المارَّة؛ فاستنتج أنه ربما يريد أن يؤذيه. تُسمَّى التقنية التي يتم بها صرف المريض عن النظر إلى نفسه بوصفها بؤرة كل الأحداث باسم «فض المركزية» (أو فض التمركز) decentering. وفيما يلي حالة تمثل التطبيق الناجح لهذه الطريقة (Schuyler, 1973).

فهذا طالب دراسات عليا كان يعاني من قلق شديد قبيل الامتحانات. وكان قلقه يشتد ويتفاقم بسبب تأويله لأية أعراض فسيولوجية (ضيق التنفس، الخفقان … إلخ) كعلامة على نوبة قلب وشيكة. كان لهذا الطالب فلسفة في القضاء والقدر يعتقد بموجبها أنه قد كتب عليه الشقاء. وحين تقدم لنيل درجة متقدمة اجتاز الامتحان التحريري ولكنه رسب في الشفوي. وقد فسَّر ذلك بأنه دليل على أن القدر يناصبه العداء، رغم علمه بأن قلقه الشديد هو الذي أفسد عليه الامتحان الشفوي.

وفي اليوم الذي حان فيه ميعاد الامتحان الشفوي الملحق كانت الأرض مغطاةً بالثلوج؛ فانزلق عليها وهو في طريقه وسقط على الأرض وانتابه قلق عظيم. وإذ كان قد تدرب على كشف أفكاره فقد تعرف على هذه الفكرة التي خالجته في ذلك الحين: «لقد وضع لي القدر هذا الثلج لكي أسقط.» عندئذٍ تذكَّر حديث معالجه عن ميله إلى «شخصنة» الأحداث الخارجية. فتفرَّس فيما حوله فإذا الآخرون أيضًا يتزحلقون، والسيارات تنزلق جانبيًّا على الثلج. حتى الكلاب كانت تزل أرجلها وتسقط. حين وقع له هذا الوعي (أن الثلج ليس ابتلاءً خاصًّا به بالذات) زايله القلق، واستعاد هدوءه واتزانه.

التثبت من النتائج

يميل عامة البشر إلى الثقة بأفكارهم. وقلما يرتاب الواحد منهم في صحة أفكاره. فهو يعتبرها صورة مصغرة (عالمًا أصغر) للعالم الخارجي. ويلصق بها نفس الدرجة من قيمة الصدق truth value٢ التي يلصقها بمدركاته الحسية للعالم الخارجي.

وحتى بعد أن يتمكن المريض من التمييز الواضح بين عملياته الذهنية الداخلية من جهة والعالم الخارجي الذي يثير هذه العمليات من جهة أخرى، يبقى من المتوجب علينا أن نرشده عن طرق اكتساب المعرفة الدقيقة. فالناس يقومون في كل لحظة بوضع فروض وبناء استدلالات. ويميلون إلى اعتبار استدلالهم مكافئًا للواقع وإلى التسليم بفروضهم كما لو كانت حقائق واقعة. وهم في الظروف العادية قد يحققون مستوًى جيدًا من التكيُّف والأداء؛ لأن فكرهم قد يكون متفقًا مع الواقع بحيث لا يعيق تكيُّفهم وأداءهم.

أما في حالات العصاب فقد يكون للمفاهيم المحرَّفة تأثير مُعيق. فمن شأن هذه المفاهيم المحرَّفة أن تؤدي إلى تفكير مغلوط في مجالات معينة من الخبرة. في هذه القطاعات المحددة تفضي المفاهيم المحرَّفة إلى ضرب من الأحكام العامة غير المتمايزة بدلًا من أن تهدي الشخص إلى تمييزات دقيقة مرهفة تضيء له ملابسات الواقع وتهيئه للانسجام معه. فكثيرًا ما نجد المريض (كما أشرنا في الفصل الرابع) يتنكب المنطق ويقفز إلى استدلالات اعتباطية وتعميمات مفرطة وتهويلات ومبالغات.

يمكن للمعالج النفسي أن يستخدم تقنيات معينة لكي يحدد ما إذا كانت استنتاجات المريض غير دقيقة أو غير مبرَّرة. وحيث إن المريض قد اعتاد إقامة تحريفات وتشويهات؛ فإن مهمة المعالج تنحصر أساسًا في استكشاف النتائج ومضاهاتها بالواقع. إن مهمته هي أن يشترك مع المريض في تطبيق قواعد الاستدلال الصحيح وهي التحقق أولًا من صدق الملاحظات ثم تتبُّع المسار المنطقي الذي يؤدي إلى النتائج.

تغيير القواعد

رأينا أن الناس تستخدم قواعد معينة (صياغات، معادلات، مقدمات) في تنظيم حياتها الخاصة وفي محاولة تعديل سلوك الآخرين. بل إنهم يطلقون الأسماء والنعوت ويفسرون الأمور ويقيِّمونها وفقًا لمجموعة من القواعد. حين تكون هذه القواعد مصوغة في حدود مطلقة أو تكون غير واقعية أو مستعملة بطريقة غير ملائمة أو غير معتدلة؛ فكثيرًا ما تؤدي إلى سوء التوافق، وكثيرًا ما تفضي في النهاية إلى لون من ألوان الاضطراب: القلق، الاكتئاب، الرهاب، الهوس، حالات البارانويا، الوسواس. وعندما تؤدي القواعد إلى صعوبات ومشكلات فهي غير تكيُّفية بحكم التعريف.

يطلق إليس (١٩٦٢م) على مثل هذه القواعد اسم «الأفكار اللامعقولة» irrational ideas. وأرى أن هذا المصطلح، رغم قوته، غير دقيق. فليست هذه الأفكار في عمومها غير معقولة، بل هي مطلقة شمولية مغالية إلى حد بعيد. وهي مفرطة في الشخصنة ومستخدمة باعتساف شديد. وهي بذلك لا تسعف المريض ولا تعينه على مطالب العيش ومقتضيات الحياة. ولكي تصبح القواعد مجدية له وأدنى إلى النفع والفائدة يجب أن يُعاد تشكيلها وصياغتها بحيث تكون أكثر دقة ومرونة وأقل تمركزًا على الذات؛ فإذا ما ثبت أنها خاطئة وانهزامية وغير عملية؛ فعلى المريض أن يطَّرحها من مخزونه ويستبدل بها، بمساعدة المعالج، قواعد أخرى أكثر واقعيةً وتكيُّفًا.
ونظرًا لأن بقية الكتَّاب قد استخدموا مصطلحات من قبيل «الاتجاهات» (المواقف) attitudes، «الأفكار» ideas، «المفاهيم» concepts، «البناءات» constructs لتشير إلى ما نعنيه بلفظ «القواعد»؛ فسوف نستعمل هذه المصطلحات في دراستنا الآتية بطريقة تعاوضية. فبغض النظر عن المصطلحات المستخدمة، يقرر كثير من المعالجين أن مساعدة المريض على تعديل أفكاره اللاتكيُّفية أو اطِّراحها وتبنِّي اتجاهات أكثر واقعية، قد أدت إلى زوال الأعراض المعوِّقة من قلق ورهاب واكتئاب. على أن المعالجين يغفُلون أحيانًا عن الحقيقة الواضحة وهي أنهم لا يلزمهم أن يغيروا افتراضات المريض الخاطئة وأساطيره الشخصية إن كانت غير مرتبطة بما يعانيه من صعوبات. فالمعالج ليس مفوَّضًا بأن يعلِّم المريض أن يكون «رجل نهضة».

يبدو أن محتوى القواعد الخاصة بتشفير الخبرات وتسيير السلوك يدور حول محورين رئيسيين: الخطر في مقابل الأمان، والألم مقابل اللذة. أما المرضى فتبرز مصاعبهم في تقديراتهم للخطر والأمان، أو في مفاهيمهم عن الألم والإشباع.

تشمل القواعد المتصلة بالأمان والخطر كلًّا من الضرر الجسمي والضرر السيكولوجي (انظر الفصل السابق). أما الهموم المتعلقة بالضرر الجسمي؛ فتغطي نطاقًا عريضًا من المواقف الخطرة: أن يهاجَم المرء أو يُقتل بواسطة بشر أو حيوانات، أن يصاب أو يقتل من جراء سقوطه من مكان مرتفع أو باصطدام (كما في حوادث السيارات)، الحرمان من الهواء حتى الاختناق أو من الطعام حتى الموت. بديهي أن هذه الأحداث المؤذية كائنة في العالم الواقعي. ومن أجل البقاء يسترشد الناس ﺑ «دليل القواعد» الذهني لتأويل المواقف الخطرة وتقدير درجة الخطر. وتأتي المصاعب من التأويل المغلوط والتقدير الخاطئ. فكلٌّ من المتخوف المرتاع حيث لا خطر والطائش المتهور حيث لا أمان يفتقدان القواعد الصحيحة، أو هما لا يطبقانها التطبيق الصحيح.

أما الضرر النفسي-الاجتماعي فيشمل مختلف مشاعر الاستياء والخزي والحرج والحزن التي تلحق بالشخص حين تناله إهانة أو نقد أو رفض. وهنا يجب أن نلاحظ أن هذه المشاعر يمكن أن تساوره حين «يفكر»، مجرد تفكير، أنه أُهين أو انتُقد أو رُفض؛ في حين أن شيئًا من ذلك لم يحدث في الواقع. ويجب أن نلاحظ أيضًا أن الرفض أو النقد لا يترك أي علامة دالة كما هو الشأن في حالة الأذى الجسدي الذي ينطوي على مؤشر دقيق لدرجة الإصابة (النزيف مثلًا أو الألم المحدد). فالشخص الذي رُفض أو أُهين يحس باستياءٍ ما، دون أن يكون بإمكاننا أن نتبين ما إذا كان استياؤه قائمًا على إهانة حقيقية أو على وهم الإهانة.

لكي يخفض الناس الخطر إلى أدنى حد فإنهم يستخدمون قواعد لتقدير احتمالات الضرر ودرجته، وإمكانات النجاح في التعامل مع التهديد. فصفة الخطر يمكن أن تطلق على نسبة [الضرر الممكن – إلى – آليات التكيُّف]. فإذا ما بالغ شخص في هذه النسبة وغالى في تقدير درجة الخطر فهو يحمِّل نفسه قلقًا لا داعي له ويضيِّق نطاق حياته بلا مبرر. أما إذا استخفَّ بالخطر ولم يقدر حجمه الصحيح فهو يعرِّض نفسه للحوادث ويلقي بنفسه إلى الهلاك.

تتسم القواعد المستخدمة في العلاقات البينشخصية بشيء من الغموض وعدم التحدد. فهي علاقات معقدة بطبيعتها، ولا يتوافر فيها للشخص مؤشر أمين يقيس به نوايا الشر عند الشخص الآخر بشكل دقيق. يرى بعض الناس أنه سهل الانجراح في جميع العلاقات الشخصية، وهو بذلك يحس على الدوام أنه على حد الموسى. بينما يغفُل البعض عن إشارات الآخرين؛ فيقعون بطبيعة الحال في مصاعب بينشخصية متكررة.

ولما كانت معظم مشكلات المرضى تنشأ في سياق العلاقات البينشخصية؛ فسوف نبدأ ببحث بعض الاتجاهات البينشخصية الشائعة. يمكن أن نلخص المخاطر البينشخصية في قاعدة مثل: «إنه لشيء مروِّع أن يستهين بي شخصٌ ما.» قد يكون هذا الشخص الآخر صديقًا قريبًا أو والدًا أو قرينًا أو أحد المعارف أو أحد الغرباء. وتدلنا الممارسة الإكلينيكية على أن عامة المرضى يخشون بالأكثر من استهانة القرناء-زملاء الفصل أو زملاء العمل أو زملاء المهنة أو الأصدقاء. على أن البعض يخاف بالأكثر من الغرباء ومن احتمال أن يبدو لهم أحمق ومثيرًا للسخرية؛ فأكثر تخوُّفه هو من ردود أفعال موظف في محل أو نادل في مطعم أو سائق تاكسي أو ركاب في حافلة أو عابر في طريق. قد تكون هذه الاستجابات أكثر تهديدًا لهؤلاء المرضى لأنهم لم يتعلموا من الخبرة المباشرة ماذا عليهم أن يتوقعوا من هؤلاء الغرباء في هذه المواقف.

قد يرهب شخص موقفًا يرى أنه عرضة فيه لانتقادات الآخرين (جهرًا أو سرًّا). لقد نمت به حساسية خاصة تجاه المواقف التي قد تكشف بعض نقاط ضعفه أو نقائصه، وقد يكون خوفه منصبًّا على رفض الآخرين له بسبب ارتباكه، أو بسبب سلوكه العدواني، أو بسبب اختلافه عن الآخرين، أو حتى بسبب خوفه البادي من الرفض. وفي الحالات الأكثر شدة قد يخشى الفرد من فقدان التحكم في نفسه: أن يبدو شديد الانفعال أو أن يغمى عليه أو أن يتصرف بجنون.

قد يتخيل المريض من الغرباء كل صنوف الاستجابات السلبية ودرجاتها، بدءًا من النظر الشزر حتى الشجب الصريح. ومن الضروري أن نفهم أنه يعتبرها جميعًا بالغة السوء. وعندما نسأل المرضى لماذا يعتبرون انتقاد أحد الغرباء لهم شيئًا بالغ السوء يتحيرون في تفسير ذلك، ويتضح أنهم يعتبرونه من المسلمات: إنه شيء سيئ «بحكم التعريف» by definition إنهم مسكونون بفكرة غامضة مفادها أن الرفض أو النقد من شأنه أن يشوه إلى الأبد صورتهم الاجتماعية وصورتهم عن أنفسهم بشكل أو بآخر.

هذه حالة لطالب طب توضح المدخل العلاجي للتعامل مع مثل هذا الخوف من النقد. كان هذا الطالب دائم الانكماش والتخاذل في مواقف عديدة تستدعي توكيد الذات. كان يخجل مثلًا من أن يسأل غريبًا عن الطريق، أو يراجع أمين صندوق في قائمة حسابه، أو يرفض فعل شيء طُلب منه، أو يطلب من أحد خدمةً ما، أو يتحدث أمام جمع. وفيما يلي مقتطفات من المناظرة الإكلينيكية تبين المدخل المستخدم في علاج هذا الطالب:

المريض : إن عليَّ أن ألقي كلمة أمام زملاء الصف غدًا وأنا خائف إلى أبعد حد.
المعالج : مم تخاف؟
المريض : أعتقد أني سوف أبدو مرتبكًا وأحمق.
المعالج : لنفرض أنك ارتبكت بالفعل، لماذا تعد ذلك شرًّا مستطيرًا؟
المريض : لن أغتفر ذلك لنفسي بعدها «أبدًا».
المعالج : إن «الأبد» هذا أمد يطول. خلِّنا هنا الآن. افترِض أنهم سخروا منك، فهل في ذلك موتك؟
المريض : بالطبع لا.
المعالج : هب أنهم قرروا أنك أسوأ متحدث عرفته الدنيا، فهل في ذلك نهاية مستقبلك المهني؟
المريض : لا. ولكن لا شك أنه سيكون شيئًا جميلًا لو كان بإمكاني أن أكون متحدثًا جيدًا.
المعالج : بالتأكيد يكون شيئًا جميلًا. ولكن إذا فاتك هذا، هل يتبرَّأ منك والداك أو زوجتك؟
المريض : لا. إنهم في منتهى العطف.
المعالج : حسنًا ما الشيء المريع إذَن في هذا الأمر؟
المريض : قد أشعر بشيء من الأسى.
المعالج : كم يطول هذا الشعور؟
المريض : يومًا تقريبًا أو يومين.
المعالج : ماذا بعدئذٍ؟
المريض : بعدئذٍ سأكون بخير.
المعالج : إذَن أنت تروِّع نفسك بالضبط كما لو أن مصيرك معلق بالميزان.
المريض : هذا صحيح. إنني أروِّع نفسي كما لو كان مستقبلي بأسره على الخازوق.
المعالج : دعني أقُل لك لقد تعطَّل تفكيرك في نقطةٍ ما من مساره؛ فجعلت تعتبر أي فشل كأنه نهاية العالم. إن ما يجب أن تفعله هو أن تسمي فشلك تسمية صحيحة، كفشل في الوصول إلى أحد الأهداف وليس كنكبة أو كارثة. إن عليك أن تبدأ في تفنيد مقدماتك الخاطئة.

في الجلسة التالية، وبعد أن ألقى المريض كلمته التي جاءت، كما توقع، مضطربة بعض الشيء بسبب مخاوفه، قمنا بمراجعة أفكاره عن فشله.

المعالج : بم تشعر الآن؟
المريض : في حال أفضل. ولكني كنت في كدر ونكد بضعة أيام.
المعالج : ماذا ترى الآن في فكرتك أن إلقاء كلمة متعثرة هو نكبة وكارثة؟
المريض : إنه بالطبع ليس نكبة.
المعالج : ماذا يكون إذَن؟
المريض : إنه شيء غير سار، ولكني سأعيش.
لقد تم تدريب المريض على تغيير فكرة أن «الفشل كارثة» وانخفض قلقه التوقعي anticipatory anxiety بدرجة كبيرة قبل كلمته الثانية التي ألقاها بعد أسبوع من الأولى. وكان أكثر هدوءًا أثناء كلمته. وفي الجلسة العلاجية التالية اتفق معي تمامًا في أنه كان يعطي أهمية زائدة لردود فعل زملاء الفصل وقد جرى بيننا الحديث التالي:
المريض : لقد كان شعوري أفضل بكثير أثناء كلمتي الأخيرة. أظن أنها مسألة تمرس وخبرة.
المعالج : هل وجدت هديًا ما في فكرة أن رأي الناس فيك ليس على درجة مطلقة من الأهمية؟
المريض : لو صرت طبيبًا في يوم من الأيام سأكون مقنعًا جدًّا لمرضاي.
المعالج : إن كونك طبيبًا جيدًا يتوقف على إجادتك للتشخيص والعلاج وليس على إجادتك الحديث العام.
المريض : حسنًا. إنني على قناعة بأنني ناجح مع المرضى، وأظن أن هذا هو المهم.

أما بقية الجلسات فقد كرسناها لتفنيد الاتجاهات اللاتكيُّفية التي كانت تسبب المتاعب لهذا المريض في مواقف أخرى. وقد أفضى إليَّ المريض بتوجه جديد كان آخذًا في اكتسابه عندما قال: «إنني أدرك الآن بالفعل كم هو معيب أن أكون مهمومًا بمن هم غرباء تمامًا عني. إنني لن أراهم مرة ثانية فما أهمية رأيهم عني وأي فرق يمكن أن يُحدِثه؟»

وبنفس الطريقة يمكن تفنيد الافتراضات المتصلة بالمخاوف الجسدية وتعديلها. والأغلب في شأن هذه الاتجاهات ألا تنشط إلا إذا اقترب المريض من الموقف المخيف. غير أننا يمكن أن نحرك فيه هذه الاتجاهات بأن نجعله يصف لنا الموقف الرهابي أو يتخيل نفسه فيه (تخيل الموقف هو من التقنيات الأساسية لخفض الحساسية المنظم عند فُلبي Wolpe). فقد تصاغ القاعدة التحتية للخوف بصورة قريبة من هذا: «إذا صعدت على الدرج (اجتزت خلال نفق، دخلت محلًّا مزدحمًا، ارتقيت قمة مبنًى مرتفع)؛ فسوف أصاب بنوبة قلبية (أصاب باختناق، أصاب بإغماء، أسقط من علٍ).»

حيث إن العديد من المرضى لا يأبهون بالخطر ولا يأخذونه مأخذ الجد حين يكونون بمأمن منه في مكتب المعالج؛ فمن المفيد أن نعمد إلى تنشيط الخوف بطريقةٍ ما ثم نساعد المريض في التعامل معه. وقد عرضنا في الفصل السابع لحالة رجل يخاف السفر جوًّا ولاحظنا أنه يستبعد احتمال تحطم الطائرة إلى أن يزمع السفر بالفعل. وفي المثال التالي نعرض لحالة امرأة كانت مصابة بالخوف من الأماكن المزدحمة:

المعالج : مم تخشين عندما تكونين في مكان مزدحم؟
المريضة : أخشى أنني لن أستطيع التقاط أنفاسي …
المعالج : و…؟
المريضة : وأموت.
المعالج : تموتين بمعنى الكلمة؟
المريضة : حسنًا، إنني أعرف أن هذا يبدو سخيفًا ولكني أخشى أن يتوقف تنفسي تمامًا … وأموت.
المعالج : الآن الآن كم تقدِّرين احتمالات أنك سوف تختنقين وتموتين؟
المريضة : الآن الآن … تبدو لي واحدًا في الألف.
عندئذٍ أعطيت المريضة إرشادًا عن التقنية الآتية. فقد طلبت منها أن تدون في إضمامة ورق ملاحظات عن احتمالات موتها كلما اقتربت من محل تجاري مزدحم. وفي الجلسة الجديدة أتت المريضة بالمدونات التالية:
  • (١)

    أغادر منزلي – احتمال الموت في المحل التجاري ١ في الألف.

  • (٢)

    أقود سيارتي إلى المدينة ١ في المائة.

  • (٣)

    أصفُّ سيارتي في ساحة انتظار ١ في الخمسين.

  • (٤)

    أمشي إلى المحل التجاري ١ في العشرة.

  • (٥)

    أدخل المحل التجاري ١ إلى ٢.

  • (٦)

    في وسط الزحام ١ إلى ١٠.

المعالج : إذَن عندما كنت في الزحام اعتقدت أنك تموتين باحتمال عشرة إلى واحد.
المريضة : لقد كان المتجر مزدحمًا ومكتومًا، ولم أكن أستطيع أخذ نفسي. وأحسست أني أموت. لقد أصابني الهلع بالفعل فهرعت خارجة من هناك.
المعالج : كم تقدِّرين — الآن الآن — احتمال موتك لو أنك كنت قد لبثت في المتجر؟
المريضة : ربما واحد في المليون.

وفي ذهابها التالي إلى المتجر انخفضت تقديراتها لاحتمال موتها انخفاضًا كبيرًا عما كانت عليه في المرة السابقة. فقد استطاعت هذه المريضة، بعد مزيد من الحوار، أن تستوعب فكرة أن المتجر المزدحم ليس خطرًا على حياتها. فلما أن دخلت المتجر ذكَّرَت نفسها بأنها قد خلصت بالفعل إلى قناعة قائمة على العقل أن المتجر هو مكان مأمون. ولم تَعُد بالتالي تشعر بضيق في المحلات التجارية ولا في غيرها من الأماكن المزدحمة.

إن قواعد (اللذة-الألم) يماثل بعضها البعض؛ فأحدها في الأغلب هو معكوس الآخر. ومن هذه القواعد ما هو من الشمول والاتساع بحيث يخالف الواقع ولا يطابقه، أو أن له آثارًا بعيدة تتعارض مع بعض الأهداف الحياتية الكبرى للمريض. من أمثلة هذه القواعد أو التوجهات: «إنه لشيء رائع أن يكون المرء مشهورًا.» أما معكوسه، وهو ما يعتنقه كثير من الناس، فهو: «من المحال أن أحس بأي سعادة إذا كنت غير مشهور.» ومن شأن الأشخاص الذين تسيطر عليهم هذه القواعد أن يظلوا في حالة حرب؛ فيدفعون أنفسهم دفعًا نحو تحقيق المكانة والصِّيت والشعبية والسلطة، ويدونون نقطة عند كل مكسب ويطرحون نقاطًا عند كل خسارة أو توقف. مثل هذا الاتباع العبودي لهذه القواعد كفيل بأن يعيق غايات أخرى في الحياة مثل التمتع بالصحة الجيدة والعيش الهادئ والعلاقات المشبعة مع الآخرين.

والأدهى من ذلك حقًّا أن بعض الناس قد يسقطون في الاكتئاب نتيجة عبوديتهم لهذه القواعد. ويمرون في ذلك بالمراحل الآتية: يبدءون أولًا بالحكم على أنفسهم بالفشل في تحقيق الهدف السانح — الشهرة على سبيل المثال. ويُتبِعون ذلك بسلسلة من الاستنباطات: «إذا لم أصبح مشهورًا فقد فشلت … وقد فقدت الشيء الوحيد الذي يُهم أي إنسان حقًّا … إنني فاشل … لا فائدة في الاستمرار … ربما أبخع نفسي أيضًا وأستريح.» حين يفحص المريض المقدمة الأولى يدرك أنه لم يلتفت إلى إشباعات أخرى في الحياة غير الشهرة. ويدرك كيف ضَيَّق حياته وحبس نفسه في صندوق حين حصر سعادته في حدود الشهرة. كذلك يفعل من يحصرون سعادتهم في حدود الحب، فلا يرون هناءةً سوى أن يكون المرء محبوبًا من شخص معين. إنهم يسلمون أنفسهم للتقلبات الشعورية والترجُّح بين السعادة والأسى حسبما يرون أنفسهم ويقدرون نصيبهم من الحب أو من الهجر. وقد يستهدفون للاكتئاب أيضًا وينتهون إليه.

وفيما يلي قائمة ببعض الاتجاهات التي تعرِّض الناس للحزن الزائد أو الاكتئاب:
  • (١)

    لكي أكون سعيدًا يتحتَّم أن أكون ناجحًا في أي شيء أقوم به.

  • (٢)

    لكي أكون سعيدًا يتحتم أن أكون مقبولًا (محبوبًا، محطَّ إعجاب) من كل الناس.

  • (٣)
    إذا لم أكن في القمة فأنا فاشل ساقط.٣
  • (٤)

    إنه لشيء رائع أن أكون غنيًّا شهيرًا ذا شعبية ورواج، وشيء فظيع أن أكون مغمورًا محدودًا.

  • (٥)

    إذا ما ارتكبت خطأً فهذا يعني أنني غشيم أخرق.

  • (٦)

    إن قيمتي كشخص تتوقف على رأي الآخرين فيَّ.

  • (٧)

    يستحيل أن أعيش بلا حب. إذا لم تحبني زوجتي (حبيبتي، والدي، ولدي)؛ فأنا تافه لا قيمة لي.

  • (٨)

    إذا اختلف معي شخصٌ ما في الرأي؛ فهذا يعني أنه لا يحبني.

  • (٩)

    إذا لم أغتنم كل فرصة تسنح لي لكي أتقدم إلى الأمام؛ فسوف أندم عليها فيما بعد.

مثل هذه القواعد حَرية أن تؤدي إلى البؤس والشقاء. فمن غير الممكن أن يكون الشخص محبوبًا تمامًا وفي جميع الأوقات ومن جميع الأصدقاء. فالحب درجات، ودرجة الحب والقبول تتذبذب بشدة. فضلًا عن أن منطوق هذه القواعد يجعل أي انخفاض في درجة الحب بمثابة رفض ونبذ.

كما أن الاعتماد أو التعويل على القبول والإعجاب والحب يطرح مشكلة أخرى. فنحن لا نملك مقياسًا دقيقًا يحدد ما إذا كان شخص ما يرفضنا بالفعل أو يزدرينا أو ينتقدنا. وقد سبق أن بينَّا أن الأذى النفسي يختلف عن الأذى الجسدي؛ فإذا كان بمقدورنا أن نتحقق موضوعيًّا من الأذى الجسدي حين يهاجمنا شخصٌ ما بأن نفحص موضع الإصابة؛ فكيف ترى نتحقق، حين يبدو على شخصٍ ما أنه يرفضنا، من أننا لا نسيء تأويل سلوكه؟ إن مشاعر الكرب الذاتية ليست مقياسًا أمينًا للتحقق من تأويلنا؛ لأن مثل هذه المشاعر قد تحدث سواء كان التأويل صحيحًا أم مخطئًا. هذا الافتقاد للمعلومات المؤيِّدة هو ما يجعل التعامل مع الصدمة النفسية أصعب بما لا يحد من التعامل مع الإصابة الجسدية.

من التقنيات الكبرى في العلاج المعرفي تلك التقنية التي نكشف بها اتجاهات المريض ونسلط عليها الضوء ونساعده على أن يمحصها ويقرر ما إذا كانت انهزامية قاهرة للذات. ومن الضروري فضلًا عن ذلك أن يتعلم المريض من خبرته ذاتها أن بعض اتجاهاته قد انتهت به إلى غاية من التعاسة والشقاء، وأنه كان أجدى له أن يسترشد بقواعد أكثر اعتدالًا وواقعية. وعلى المعالج هنا أن يقف دوره عند اقتراح قواعد بديلة يأخذها المريض بالتأمل والتمحيص، لا أن يقوم له بغسيل مخ ويفرض عليه قواعده واعتقاداته.

تتصل بقواعد (اللذة-الألم) مجموعة من القواعد تُسمى «طغيان لا بد» أو «استبداد الموجبات» the tyranny of shoulds (Horney, 1950). فإذا ما اعتنق شخص قاعدة «لكي أكون سعيدًا يلزمني أن أكون محبوبًا من الجميع.» فإنها تحمله على أن يحقق ذلك بقاعدة أخرى: «لا بد أن أجعل الجميع يحبني.» «لا بد أن» و«لا بد ألَّا». لهذين الأمرين طبيعة استعبادية، وهما يتفقان في ملامح كثيرة مع مفهوم فرويد عن الأنا الأعلى.
وفيما يلي بعض قواعد «لا بد» الشائعة:
  • (١)

    لا بد أن أكون قمة في الكرم والرقة والجلال والشجاعة والإيثار.

  • (٢)

    لا بد أن أكون المحب المثالي والصديق المثالي والوالد والمعلم والطالب والزوج المثالي.

  • (٣)

    لا بد أن أتحمل أية مصاعب بثبات ورباطة جأش.

  • (٤)

    لا بد أن أكون قادرًا على إيجاد حل سريع لأي مشكلة.

  • (٥)

    لا بد ألا أستاء أو أتأذى، ولا بد أن أكون دائمًا سعيدًا صافي النفس.

  • (٦)

    لا بد أن أعرف وأفهم وأتنبأ بكل شيء قبل حدوثه.

  • (٧)

    لا بد أن أكون دائمًا طبيعيًّا تلقائيًّا، وأن أتحكم دائمًا في مشاعري.

  • (٨)

    لا بد أن أؤكد ذاتي، وألا أؤذي أي شخص آخر.

  • (٩)

    لا بد ألا أتعب أو أمرض أبدًا.

  • (١٠)

    لا بد أن أكون دائمًا في أوج الكفاءة والفاعلية.

الاستراتيجية الإجمالية

إن جعبة المعالج المعرفي لتعجُّ بالتكتيكات العلاجية المتنوعة؛ فإذا لم يكوِّن استراتيجية إجمالية للحالة التي بين يديه، يصبح العلاج عُرضة لأن يضل في مسار متخبط قائم على المحاولة والخطأ. وقد سبق أن أجملنا المبادئ التي تكوِّن الإطار العام للعلاج المعرفي في هذا الفصل وفي فصول سابقة أيضًا: تسليط الضوء على تحريفات المريض وأوامره لنفسه وتأنيبه لها مما يورثه همًّا وعجزًا، ثم مساعدته على مراجعة القواعد التحتية التي تبعث هذه الإشارات الذاتية الخاطئة. ولا تختلف بعض طرائق المعالج المعرفي عما كان يستخدمه المرضى من قبل في محاولاتهم الناجحة لحل المشكلات. إنه يعمل مع المريض بطريقة أكثر منهجيةً واتساقًا لحل تلك المشكلات النفسية التي عجز عن حلها بنفسه. وتشتمل آلياته الخاصة على تحديد مناطق الاضطراب بدقة، وملء الثغرات المعلوماتية، والربط المنطقي بين المعطيات، وإقامة تعميمات صحيحة. عندئذٍ يقوم المعالج بحثِّ المريض على استخدام جهاز حل المشكلات الخاص به كي يعدِّل طرائقه في تأويل خبراته وتنظيم سلوكه.

تتداخل تقنيات techniques العلاج النفسي مع عملية process العلاج النفسي تداخلًا شديدًا؛ بحيث يصعب وضع خط فاصل بين ما يقوم به المعالج وبين استجابات المريض. كما أن المعالج قد يستخدم عدة إجراءات في الوقت نفسه. وقد يستجيب المريض لهذه الإجراءات بسلسلة من الاستجابات العلاجية؛ فعندما يكون المعالج مثلًا بصدد تدريب مريضه على اكتشاف أفكاره الأوتوماتيكية فهو بطريق مباشر أو غير مباشر يُلقي ظلال الشك على صحة هذه الأفكار. وبدوره يكتسب المريض مزيدًا من الموضوعية (أخذ مسافة) خلال عملية اكتشافه لهذا اللون من التفكير. وهو إذ يتبين عبثية هذه الإشارات الذاتية ولاتكيُّفيتها ومجافاتها للواقع يميل إلى تصحيحها تلقائيًّا. ويؤدي هذا الصنف من التمحيص الذاتي مباشرة إلى كشف المقدمات والمعادلات التحتية؛ أي القواعد المسئولة عن الاستجابات الخاطئة. وفيما يلي حالة توضح التأثير المتبادل بين إجراءات المعالج والاستجابات النفسية للمريض.
إنها حالة امرأة شابة على جانب كبير من الجاذبية، وأم لثلاثة أطفال. نوظرت هذه المرأة في إحدى العيادات النفسية الجامعية بسبب نوبات قلق كانت تلم بها وتدوم ست ساعات أو سبعًا في اليوم، وجعلت تنتابها يوميًّا طوال أكثر من أربعة أعوام. وكثيرًا ما استشارت طبيب العائلة الذي وصف لها الثورازين Thorazine وعديدًا من المهدئات دون تحسن يُذكَر.

في أول مقابلة إكلينيكية لهذه المرأة تم اكتشاف الحقائق التالية: وقعت أول نوبة من هذه النوبات بعد أسبوعين من إجهاض لها؛ فقد كانت تنحني لكي «تحمم» طفلها ذا العام الواحد؛ فإذا بها تحس ببداية إغماء، وألمت بها أولى نوبات القلق ودامت ساعات عديدة. عيَّت المرأة بأن تجد لقلقها أي تفسير. وحين سألتها عما إذا كانت هناك أية فكرة قد خالجتها لحظة أحسَّت بالدوار تذكَّرت هذه الفكرة: «ويلي لو أُغمي عليَّ فآذيت طفلي الرضيع.» وقد بدا معقولًا، كفرض عامل، أن دوارها (الذي ربما كان نتيجة أنيميا النفاس) قد أدى إلى الخوف من الإغماء وسقوط الطفل، وأن هذه الفكرة المخيفة قد أدت إلى القلق الذي فسرته كعلامة على أنها تتداعى وتتحطم.

كانت هذه المرأة حتى وقت إجهاضها مطمئنة ناعمة البال لا تعرف القلق ونوباته. لكنها بعد الإجهاض أخذت تساورها من وقت لآخر هذه الفكرة «لست محصنة من المصائب.» ومنذ ذلك الحين جعلت كلما سمعت بمرض أحد فكَّرت «ربما يصيبني هذا» وبدأت في القلق والتوتر.

وجَّهتُ تعليماتي إلى المريضة أن تحاول تحديد أي أفكار تسبق أي نوبة قلق قادمة. وفي الجلسة التالية روت المريضة ما يلي:
  • (١)

    سمعت المريضة ذات مساء أن زوج إحدى صديقاتها أصيب بالتهاب رئوي شديد فدهمتها للتو نوبة قلق دامت ساعات عديدة، وقد حاولت وفق التعليمات أن تستحضر الفكرة السابقة على القلق، فتذكرت هذه الفكرة: «قد يصاب توم (زوجها) بمثل ذلك وربما يموت.»

  • (٢)

    عندما أزمعَت يومًا الذهاب إلى منزل أختها أصابها قلق شديد وبالتركيز على أفكارها تبينَت هذا الهاجس المتكرر «قد أقع مريضة أثناء الذهاب.» لقد سبق أن أصيبت هذه المريضة بالتهاب معديٍّ معويٍّ في رحلة سابقة إلى منزل أختها. ومن الواضح أنها اعتقدت أن ذلك يحتمل جدًّا أن يتكرر.

  • (٣)

    أحسَّت ذات مرة بضيق وبأن الأشياء تبدو لها غير حقيقية. عندئذٍ طاف بها هذا الطائف: «قد يكون هذا بداية الجنون» وانتابتها للتو نوبة قلق دامت قرابة الساعة.

  • (٤)

    علمت يومًا أن إحدى صديقاتها قد أودِعت بمستشفى عقلي حكومي. وقد أدت هذه المعلومة إلى هذه الفكرة «قد يحدث لي ذلك … قد أفقد عقلي.» وبسؤالها عن تفصيلات معينة عن فقد عقلها قالت إنها تخشى إذا ما أصابها الجنون أن تفعل شيئًا قد يلحق الضرر بأطفالها أو بنفسها.

من الواضح أن المخاوف الرئيسية لهذه المريضة كانت تدور حول توقعها بأن تفقد التحكم في نفسها، سواء من طريق الإغماء أو الذهان، وأن تفعل بالتالي شيئًا ضارًّا. وقد بينت لها أنها لا تعاني من أي ذهان، وقدمت لها تفسيرًا لنوبات قلقها ولما تبنيه على هذه النوبات من معان (كانت صياغاتها التحتية هي أن أعراض القلق تشير إلى أنها على شفا الذهان). وقد انخفض معدل النوبات وقلَّت شدتها خلال الأسابيع القليلة التي تلت ذلك. واختفت تمامًا بنهاية الأسبوع الرابع.

كانت الدَّفعة العلاجية الكبرى في هذه الحالة هي تدريب المريضة على أن تستحضر الأفكار السابقة على نوبة القلق وأن تقيِّم صحتها. ذلك أن هذه النوبات تبدأ بفكرة أو معرفة cognition لا بقوة خفية غامضة. وإذ تبينت المريضة ذلك اقتنعت بأن فكرة ضعفها واستهدافها للمرض والجنون كانت غير صحيحة. وأدركت أيضًا أن اعتقادها في أنها عاجزة عن التحكم في استجاباتها كان اعتقادًا خاطئًا. واستطاعت بعد أن تعلمت تحديد الأفكار المؤدية إلى القلق أن تكتسب شيئًا من الانفصال عن تلك الأفكار وأن تخضعها للفحص واختبار الواقع، وبالتالي أن تدحضها وتبطل تأثيرها.
بوسعنا الآن أن نصوغ التقدم الذي حققته هذه المريضة صياغة تتفق مع النموذج العلاجي التالي:
  • (١)

    الملاحظات الذاتية التي أدَّت مباشرة إلى الفكرة التي سبقت القلق.

  • (٢)

    إيجاد صلة بين الأفكار ونوبة القلق.

  • (٣)

    تعلم النظر إلى الأفكار كفرضيات لا كحقائق.

  • (٤)

    اختيار الفرضيات.

  • (٥)

    تجميع المسلَّمات التي تبطِّن هذه الفرضيات وتولِّدها.

  • (٦)

    البرهنة على أن هذه القواعد المكونة لمنظومتها الاعتقادية كانت غير صحيحة.

لقد كانت منظومتها الاعتقادية تتألف من معادلات تتعلق باحتمال المرض الجسمي والعقلي، وفقدان التحكم في النفس، وإيذاء شخص ما دون إرادة، بالإضافة إلى خرافة أن ما أصاب الغير يحتمل أن يصيبها أو يصيب أحدًا من أسرتها، وأخيرًا ذلك المبدأ المفزع لكل البشر: «لستُ منيعة … وأي شيء يمكن أن يحيق بي.» وقد تمكنَّا عن طريق كشف المغالطة في معادلاتها وإحالاتها الذاتية أن نعدِّل هذه المنظومة الاعتقادية المليئة بالأغاليط والأخطاء.

١  الأدق أن تترجم إلى «الأفكار السيئة التكيُّف»؛ لكننا آثرنا السهولة والمرونة الصرفية خاصة أن كلمة «اللاتكيُّفية» هي بمأمن من الالتباس ولا تزاحمها معان أخرى ذات شأن. (المترجم)
٢  هناك قيمتان للصدق في المنطق التقليدي هما: الصدق والكذب. على أن هناك أنواعًا من المنطق تستخدم ثلاث قيم للصدق: الصدق، والكذب، وعدم التحديد. (المترجم)
٣  If I am not on top, I am a flop.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤