الفصل الثالث

المعنى والانفعالات

«إن ما يحدث للناس من انفعال ليس له من جرَّاء الأشياء، بل هو من جراء فكرتهم عن الأشياء.»

إبكتيتوس

معنى المعنى

ترى ما الذي يصرف علماء النفس عن دراسة المعاني الواعية؟ فالمعنى هو الذي يثري الحياة ويحول الحدث الغُفل إلى خبرة. ومع ذلك نرى المدارس النفسية المعاصرة إما ضاربة عنه صفحًا أو سادرة في طلب المعاني الخفية المستغلقة. فبينما تتنكب السلوكية كل الأفكار والمفاهيم العقلية؛ فإن التحليل النفسي التقليدي لا يقنع بالمعاني الواعية السطحية؛ فيلوذ بما يزعم أنه بنية تحتية معقدة من المعاني الرمزية التي تناقض المعاني العفوية للأحداث.

ورغم ما بين السلوكيين والمحللين النفسيين من خلافات عميقة، فكلاهما يرفض الأخذ بتوصيف المريض لأحواله النفسية بمعناه الظاهر، وكلاهما يشك في تفسيرات الحس المشترك للسلوك. فالسلوكيون لا يعوِّلون على الخبرات الذاتية للمرضى ويقصونها من دائرة البحث العلمي باعتبار أنها غير قابلة للتحقيق من قبل ملاحظين آخرين. أما المحللون فيرون أن الفكر الواعي ما هو إلا نتاج لقوًى لاشعورية دائبة في إخفاء المعنى الحقيقي للأحداث. وأما أهل الطب العصبي فهم قانعون بأن «وراء كل فكرة شاذة هناك جزيء شاذ.» ولا يقلق خاطرهم المعنى النفسي لهذا الشذوذ.

وعلى النقيض من الموقف المتصلب للسلوكية وطب الأعصاب، والتجريد المغرق للتحليل النفسي، يقف المدخل المعرفي موقفًا يأخذ بعين الاعتبار كلًّا من المعاني الواعية والأحداث الخارجية. فهو يعتمد الأفكار والمشاعر والرغبات التي يصفها المريض ويعتبرها مادته الخام، وهو أيضًا يقبل تفسيرات المريض للوقائع بوصفها معطيات أساسية أو قاعدية لا بوصفها ستارًا يخفي معاني أعمق كما يفترض التحليل النفسي. وأحيانًا ما يكون من الضروري أن نغربل الأفكار الأوتوماتيكية وغيرها من استبطانات المريض لكي نتمكن من تحديد المعاني والدلالات التي يتضمنها وعيه وإبراز التشكيلات المعقدة التي تتخذها، ثم يكون علينا أن نجرب مدى انطباق صياغتنا لهذه المعاني على المحتوى الحقيقي لوعي المريض، ونظل نعيد الصياغة والتجريب إلى أن يقرر المريض انطباقها التام على بنائه الفكري الخاص للواقع.

ولكي نتفهم الاستجابات الانفعالية لواقعةٍ ما، علينا أن نفرق بين المعنى العام لها وبين معناها الخاص أو الشخصي. فالمعنى العام هو التعريف الرسمي أو الموضوعي للحدث مجردًا من أي دلالة شخصية. فحين تأخذ ثلة من الأصدقاء في مضايقة صديق لهم فإن المعنى الموضوعي لهذا هو ببساطة أنهم يمزحون معه. أما المعنى الشخصي الذي يقع لهذا الصبي فهو أكثر تعقيدًا. فقد يعني هذا الحدث بالنسبة له أنهم يكرهونه أو أنه ضعيف الشخصية. ورغم إدراكه لهذا المعنى الشخصي فإنه في الغالب يكتمه في نفسه ولا يظهره مخافة أن يمعنوا في مضايقته إذا هو أظهر تبرُّمه وضيقه. وبالمثل قد تحوز فتاة على أعلى الدرجات في الفصل فتقول لنفسها «إن هذا يثبت أنني أفضل من باقي الطالبات.» غير أنها قلما تفصح عن هذا المعنى الخاص كيلا تحنق عليها زميلاتها. فالمعاني الخاصة تتولد عندما يقع شيء يمس جانبًا هامًّا من حياة الفرد مثل القبول من جانب الرفاق، إلا أنها تبقى في الأغلب شخصية ومتكتَّمة.

هذه المعاني الشخصية كثيرًا ما تكون غير واقعية؛ إذ لا يتاح لصاحبها فرصة التحقق من صدقها. وواقع الأمر أنه عندما يكشف المرضى للمعالج عن هذه المعاني تكون هذه على الأرجح هي المرة الأولى التي تتاح لهم فيها فرصة التحقق من هذه المعاني الخبيئة واختبار صحتها. وتحضرني في هذه المناسبة حالة مريض لي في أواسط الخمسينيات من عمره، وكان بائعًا ناجحًا، استولى عليه ذعر شديد عندما علم بضرورة نقله إلى المستشفى للعلاج من الالتهاب الرئوي. ورغم إلمامه بالمعنى الدارج للمستشفى كمكان لعلاج الأمراض، فقد تركز هاجسه الشخصي (كما تكشَّف لي من أفكاره الأوتوماتيكية) على توقعات لا أساس لها، مفادها قيام الأطباء بتخديره وتقطيعه ثم نقل جثته بعربة (الكارو) إلى المشرحة للعرض والتعرف. لقد توَّلد قلقه إذَن عن المعنى الشخصي للمستشفى وليس عن المفهوم العام المتعارف عليه لهذه الكلمة.

وأحيانًا ما نصادف شخصًا يستجيب لموقفٍ ما استجابة غير ملائمة بل مفرطة إلى حد المرض. وحين نواجهه في ذلك نجد أنه قد أساء تأويل الموقف بناءً على شبكة من المعاني الخاطئة التي ألحقها به. إن لنا أن نعتبرها شاذة ونسمها بالمرض تلك التأويلات التي تنأى تمامًا عن الواقع، بعد أن نتأكد أنها ليست مجرد أخطاء بريئة لزمت عن معطيات خاطئة. تلك هي التحريفات المعرفية cognitive distortions التي تشكل لبَّ الاضطرابات الانفعالية كما سنرى فيما بعد.

وقد يتعين على الشخص أن يركز على تيار أفكاره وخيالاته إبان الحدث لكي يتسنى له أن يحدد المعنى الشخصي الذي يرتبط به. خذ مثالًا على ذلك طالب الطب الذي كان يشكو لي من رعب شديد يتملكه لدى رؤيته لمريض ينزف أثناء عملية جراحية. ولم يكن في البداية يفهم سرَّ تلك الاستجابة المسرفة. إلا أنني استطعت أن أستحث ذاكرته؛ فاستدرك أنه كان أثناء العمليات الجراحية تراوده صورة خيالية لنفسه وهو ينزف دمًا، وتصاحب الصورة فكرة تقول: «من الممكن أن يحدث لي مثل هذا.» من الجلي إذَن أن الطائف الخيالي والفكرة هما سبب الرعب وليس مشهد الدم في حد ذاته. وقد استطاع بعد أن تفطَّن إلى المعاني الشخصية التي يقحمها على ذلك المشهد أن يحضر العمليات دون أن تثير فيه ذلك الشعور البغيض ولا الطائف المقبض.

إن هذه المعاني والدلالات والخيالات هي التي تؤلف ما يسمَّى «بالواقع الداخلي» internal reality. وقد بذل التحليليون جهودًا بطولية لاستكشاف هذا الواقع الداخلي، ولكنهم استنكفوا أن يأخذوا أقوال المرضى بمعناها الظاهر فأعادوا صياغة مادتها الفكرية في تراكيب مستمدَّة من النظرية. ومهما يكن من غموض المعاني الشخصية وروغانها؛ فإن بإمكان الشخص عن طريق الاستبطان الدقيق والتسجيل الأمين لخبراته الداخلية أن يوسع مجال وعيه ليشمل ذلك التيار الدائم التدفق من الأخيلة والأفكار. وقد سبق أن وصفنا طبيعة هذا التيار المعرفي في الفصل الثاني من هذا الكتاب.

الطريق إلى الانفعالات

سبق أن قلنا إن ملاحظات الحس المشترك وتعميماته تشكل الأساس أو القاعدة التي تقوم عليها العلوم الطبيعية. وتنشأ هذه التعميمات عندما يتم لنا تأسيس علاقة عِلِّية بين واقعة تحدث وظاهرة تتلوها، كأن ندع جسمًا دون سند فنجد أنه يسقط على الأرض. ولا تشذ العلوم السلوكية عن هذا. ففي سبيل تأسيس نظرية علمية تختص بالظواهر السيكولوجية فنحن نُعنَى بحشد مثل هذه العلاقات السببية والبرهنة عليها. إلا أن المعطيات الأكثر أهمية في المراحل الأولى من تأسيس العلم السيكولوجي هي معطيات ذاتية مستقاة من دخيلة النفس وليست موضوعية خارجية كما هو الحال في العلوم الطبيعية. هذه المعطيات السيكولوجية سواء أكانت انفعالات أو أفكارًا أو رؤًى هي ذاتية بمعنى أنها لا يَخبُرها ولا يملك أن يستبطنها ويدلي بها إلا صاحبها. وإنما تنشأ التعميمات في العلم السيكولوجي بتأسيس علاقات مبدئية بين الخبرات النفسية لدى شخصٍ ما ثم مضاهاة ذلك بعلاقاتٍ مناظِرة لدى أشخاص آخرين. كما يمكن تعقب السياق (الحدث الخارجي الموضوعي الأفكار الخاصة الاستجابة الانفعالية) لدى مختلف الأفراد لتحديد أوجه الشبه بينهم وأوجه الاختلاف.

ويوضح لنا المثال التالي كيف يثير الحدث الخارجي الواحد معاني مختلفة لدى الأشخاص المختلفين. فهذه معلمة تقول لطلاب الفصل إن توني، وهو طالب ذكي، قد حصل على درجة منخفضة في الامتحان. فيحس أحد الطلاب بالسرور ويقول لنفسه: «إن هذا دليل على أني أذكى من توني.» ويحس أخلص أصدقاء توني بالحزن (شأنه شأن توني نفسه) وكأنما شاركه الخسارة. ويحس طالب آخر بالخوف ويحدِّث نفسه: «إذا كان توني نفسه قد أخفق فمن الجائز جدًّا أنني قد أخفقت أيضًا.» بل إن هناك طالبًا أحس بالسخط على المعلمة متفكرًا: «ما دامت قد أعطت توني درجة منخفضة؛ فهناك احتمال أن تكون معلمة ظالمة. ومن يظلم طالبًا قد يظلم غيره؛ لأنه خرج على قاعدة أساسية ولم يَعُد يُؤمَن شرُّه.» وهناك أخيرًا طالب زائر خلا باله من أي انفعال. ذلك أن درجة توني لا تعنيه من قريب أو بعيد.

يتبين لنا من المثال السابق أن تأويلًا معينًا للحدث يؤدي إلى استجابة انفعالية معينة. كما يمكننا استنادًا إلى أمثلة أخرى عديدة أن نعمم الحكم ونقول إنه بناء على التأويل الشخصي الخاص الذي يضعه كل فرد للحدث تكون استجابته الانفعالية سواء بالفرح أو الحزن أو الخوف أو الغضب أو الخلو من أي انفعال على الإطلاق.

إن هذا التنوع في المعاني الشخصية للحدث الواحد لا يفسر التنوع في الاستجابات الانفعالية لنفس الموقف فحسب، بل هو يفيدنا بشكل مباشر في فهم المشكلات الانفعالية. فالشخص الذي يلصق بالحدث معنى غير واقعي أو مغالى فيه حريٌّ أن يعاني استجابة انفعالية مفرطة أو غير ملائمة. فلن ينعم بالنوم رجل يتصور في كل ضجة يسمعها لصًّا يقتحم عليه المنزل. ومثل هذا الرجل عرضة لأن يصاب بعُصاب القلق إذا هو دأب على تفسير كل مؤثر حميد على أنه نذير خطر.

هذه الدعوى القائلة بأن المعنى الخاص للحدث هو الذي يحدد الاستجابة الانفعالية له، تشكل جوهر النموذج المعرفي للانفعال واضطراباته. يُذخَر هذا المعنى في مفردة معرفية a cognition هي عادةً فكرة أو صورة خيالية. وفي بعض الأحيان تتألف المفردة المعرفية من دلالة إضافية connotation أو حكم قيمة value judgement من قبيل «مخيف» أو «رائع». ومن المألوف أن نصادف انفعالًا معينًا لا يربطه سبب واضح بالمجريات الخارجية. فإذا طاف بنا في لحظةٍ ما طائف من خيال أو كنا نجتر خاطرًا ما؛ فإن انفعالنا إذ ذاك سيكون وليد الرؤيا أو الفكرة من دون المثير١ الخارجي. ثم إننا إذا حرَّفنا واقعةً ما أو أسأنا تأويل موقفٍ ما إساءة بالغة فإن استجابتنا ستتكون وفقًا لتحريفاتنا لا لواقع الموقف، وانفعالنا سيأتي تابعًا للوهم لا للحقيقة.

يستمد النموذج المعرفي للانفعالات مادته الأولى من إدلاءات المرضى بملاحظاتهم الاستبطانية لأفكارهم ومشاعرهم، ثم يكشف الصلة بين الأفكار والمشاعر، ويؤسس بعد ذلك تعميمات تحدد أي نوع من الأفكار (أو المعاني) يؤدي إلى هذا الانفعال أو ذاك.

لم تلتفت النظريات السيكولوجية الأخرى في دراستها للانفعالات إلى تقريرات الناس عن تفكيرهم وشعورهم، أو هي لم تُفِد من هذه التقريرات كما يجب. فالسلوكية التقليدية تفسر الاستجابات الانفعالية وفقًا لنموذج «المثير-الاستجابة» stimulus-response. فهي تتخذ ما تراه الطريق الأسهل الذي يصل الحدث الخارجي مباشرة بالاستجابة الانفعالية، دون توسط من الفكر أو المعنى بين المثير والاستجابة. ويتأسس هذا التعاقب بين المثير والاستجابة، وفقًا للنظرية السلوكية، كنتيجة لإشراط سابق. ولذا جرى العرف على تسمية هذه الصياغة باسم «النموذج الشرطي».
أما النموذج التحليلي للانفعالات فأعقد من ذلك بكثير. وبشيء من التبسيط الاصطلاحي نستطيع أن نقول إن التعاقب يحدث كما يلي: ثمة مثير أو حدث يقع؛ فيثير رغبة لاشعورية. وبما أن هذه الرغبة غير مقبولة من جانب الشخص؛ فإن بداية انبثاقها في الوعي تشكل تهديدًا داخليًّا. وما لم يتمكن الشخص من صد هذه الدفعة المحرَّمة باستخدام ميكانيزم دفاعي defense mechanism؛ فإنه يشعر بالقلق والذنب. وعلى سبيل المثال يرى فرويد حسَب نظريته عن عقدة أوديب أن الطفل الصغير يستجيب لرؤية أمه (المثير) بدفعة جنسية لاشعورية نحوها. فإذا ما هددت هذه الرغبة اللاشعورية بالاندفاع إلى حيز الشعور واقتحامه؛ فإن الطفل يشعر بقلق مردُّه إلى الخوف من عقاب غريمه الأب.
يتفق النموذجان إذَن، السلوكي والتحليلي، في الانتقاص من أهمية المعاني القابلة للملاحظة الاستبطانية والإدلاء المباشر. فالسلوكيون يرفضون المعنى رفضًا كليًّا، والتحليليون يعنيهم المعنى اللاشعوري. ويختلف النموذجان في تحديد موقع المثير المتحكم في الانفعال. فيراه السلوكيون خارجيًّا حسب نموذجهم الشرطي. ويراه التحليليون داخليًّا غير أنه دون منال الوعي (شكل ٣-١).
وبينما يتجنب هذان النموذجان كل ما تعارف عليه الناس من أسباب الحزن والفرح والخوف والغضب؛ فإن المدخل المعرفي يعيد المسألة بكاملها إلى حظيرة الحس المشترك. وهو إذ يفرز المعاني الخاصة للأحداث؛ فهو يضم في سلة واحدة مختلف المواقف التي تؤدي إلى نفس الاستجابة الانفعالية. ورغم أن تحديد الأحوال التي تثير انفعالًا ما قد يكون أوضح من أن نفرد له كل هذه التحليلات المرهفة الدقيقة، إلا أن تحديد هذه المواقف لا بد منه في إقامة التعميمات. وهذه التعميمات بدورها تشكل أساس كل فهم للاضطرابات الانفعالية من مثل الاكتئاب، والهوس mania، وعصاب القلق anxiety neurosis، وحالات البارانويا paranoid state.
fig1
شكل ٣-١: التفكير والانفعال.

المجال الشخصي The Personal Domain

يُحكى أن رجلًا عرض عليه صديق له صورة لشعار من شعارات النبالة فلم يحفل بها. إلى أن أقنعه هذا الصديق أن هذا الشعار هو شعار النبالة الخاص بأسرته هو. فمنذ ذلك الحين لم يكفَّ الرجل عن إجلال تلك الصورة وتمجيدها. فكان يعرضها لغيره من الناس بشغف وترقب، ويتأذى كثيرًا إذا لم يَبدُ عليهم اكتراث واضح. لقد استجاب الرجل إلى صورة تزيينية على قطعة من الورق كما لو كانت امتدادًا لذاته.

يوضح هذا المثال أن الإنسان قد يلصق معاني شخصيةً بالأشياء التي يرى أنها تتصل به بشكل خاص. إنها أشياء تهمه وتحرك مشاعره. هذه الأشياء سواء كانت ملموسة أو غير ملموسة تشكل المجال الشخصي للفرد.

وفي المركز من هذا المجال يقع مفهوم الشخص عن ذاته: عن صفاته الجسمية وسماته الشخصية وأهدافه وقيمه. وحول مفهوم الذات self-concept تتحلَّق الأشياء، الحية والجامدة، التي هي ذُخره وعُدَّته، وتتضمن هذه الأشياء على الوجه الأمثل عائلة الفرد وأصدقاءه وممتلكاته المادية. أما باقي المكونات في هذا المجال الشخصي فتتفاوت في درجة التجريد: من مدرسته وطائفته الاجتماعية وقوميته إلى القيم المجردة أو المثل التي تتصل بالحرية والعدالة والأخلاق.

ويفسر لنا مفهوم المجال الشخصي كيف يمكن للشخص أن يتأثر لما يقع لشخصٍ آخر أو مؤسسة أخرى ولو كانت قصِية عنه جغرافيًّا إلى حد كبير. فقد يحس بانشراح وبهجة عندما يكرِّم شخص ينتمي إلى نفس جنسه أو جماعته العرقية. أو يحس بسخط وغضب إذا مسَّت ذلك الشخص إساءة. وهو يستجيب لهذه الإساءة وذلك التكريم كما لو كانا يمسانه شخصيًّا.

وتتجلى أهمية المجال الشخصي عندما نحلل الظروف والأحوال ذات الصلة بالانفعال واضطراباته. فمن الثابت أن الشخص يستجيب للأحداث انفعاليًّا بقدر ما تمس مجاله الشخصي سواء كانت تضيف إليه أو تنتقص منه أو تهدده أو تنتهكه.

يؤكد أرنولد Arnold (١٩٦٠م)، وهو من أوائل المنظِّرين الذين أبرزوا دور المعرفة في توليد الانفعالات، أن الانفعال هو عملية تبدأ حالما ندرك شيئًا ما ونقيِّمه؛ فنقرر إن كان خيرًا لنا أو شرًّا. وإنما يتوقف نوع الانفعال على مدى تقييم الشخص للمثير (المنبه)؛ فما أراه خيرًا لي ونفعًا من شأنه أن يؤدي إلى انفعالات من قبيل السرور واللذة والسعادة. ومن شأن ما أراه شرًّا لي وضرًّا أن يورثني الحزن والقلق والغضب.
ورغم أن أرنولد وعلماء نفس تجريبيين مثل ريتشارد لازاروس R. Lazarus (١٩٦٦م)، وممارسين علاجيين مثل ألبرت إليس A. Ellis (١٩٦٢م) قد حددوا بوضوح ذلك الطريق الذي يربط التفكير بالانفعال؛ فقد فاتهم أن يحددوا أي نوع من التقييم يؤدي إلى هذا الانفعال أو ذلك. والحقيقة أن التراث العلمي العريض في سيكولوجية الشخصية والسيكولوجيا الاجتماعية لا يكاد يمس هذه المسألة. أعني مسألة أي الأفكار يؤدي، كرد فعل لمثير مؤذٍ، إلى انفعالات بعينها كالحزن والقلق والغضب … إلخ. ومع التسليم بأن التقييم المبدئي للموقف هو «هذا شر لي» بصفة عامة؛ فإن التفسير الفريد الذي يضفيه الشخص على ذلك المثير المؤذي هو الذي يحدد طبيعة استجابته الانفعالية.

الحزن

الحزن خبرة بشرية عامة يعرفها كل إنسان على ظهر البسيطة. وأحيانًا ما يكون أكثر الخبرات إلغازًا وأبعثها على الحيرة. فكم ذا تصادف من طفل أو راشد يقول: «إنني حزين، غير أني لا أعرف لماذا!» فمن غرائب هذا الشعور أنه يأتي في كثير من الأحيان مناقضًا للموقف الحياتي الظاهر. فقد يغشى الغني ذا اليسر ويسهو عن الفقير المعدِم ويتركه قانعًا بل سعيدًا.

وإليكم بعض النماذج من هذا الحزن النقيضي:
  • (١)

    فهذا بائع يبلغه أنه رُقِّي إلى منصب أعلى في المؤسسة التجارية التي يعمل بها؛ فإذا به يتلقى الخبر حزينًا منقبضًا.

  • (٢)

    وهذه أم يرين عليها الحزن آن تحقق لها حلم حياتها، وهو زواج ابنتها من رجل مرموق.

  • (٣)

    وهذا خريج يحضر حفل قدامى الخريجين، وهو الحفل الذي كان يتشوَّف له سنوات طويلة، فما كاد يلتقي بأصدقائه القدامى حتى خيم عليه الحزن وانسدل أمامه حجاب قاتم من الغم والكآبة.

  • (٤)

    وهذا كهل يلم به الحزن بعد أن انتقل إلى المنزل الجديد الذي كان يحلم به.

هل ثمة من معنى عام يمكن أن يُستخلص من خبرات هؤلاء الأشخاص؟ الحق أن المعلومات التي قدمها كل منهم بعد ذلك سرعان ما بددت الغموض وأمدتنا بتفسير معقول لاستجابة الحزن. فأما البائع فقد ثبَّط من همته أن الترقية تعني أيضًا أن ينقل إلى مكان بعيد لا يجد فيه مؤنسًا أو صديقًا. وأما الأم فاستطاعت أن تقف على الفكرة الأوتوماتيكية التي بثت الحزن في قلبها: «لقد فقدت فلذة كبدي.» وأما الخريج القديم فقد غشيته الكآبة عندما ارتأى نفسه أقل شأنا وأرقَّ حالًا من أصدقائه السابقين. وأما صاحب الدار الجديدة؛ فقد أطبقت عليه الحقيقة المرة، وهي أنه قد أهلك من أجل تلك الدار مالًا لُبدًا.

ورغم أن كلًّا من هؤلاء في واقع الأمر قد أضاف إلى رصيده الخاص وأثرى من مجاله الشخصي ببلوغه أملًا عزيزًا طالما كان يسعى إليه؛ فإن التفسير الذي غلبه على أمره كان عكسيًّا؛ فثمة قيمة ما قد ضُيِّعت.

إن المعنى الشخصي الذي يضفيه الفرد على خسارة معينة هو الذي يحدد استجابته لها سواء كان ذلك بالحزن أو بعدم الاكتراث. فإذا قدَّر أن هذا الفقدان قد انتقص كثيرًا من مجاله الشخصي؛ فالحزن لا شك سيكون حليفه. أما إذا كانت الخسارة طفيفة بالنسبة إليه فإنه يستوعبها دون حزن يذكر. فإذا خسر مليونير على سبيل المثال بضعة دولارات عرضًا فقد لا يأبه؛ لأنها لا تؤثر شيئًا في مركزه المالي. لكنه إذا عرض له أن خسر نفس المبلغ في مراهنة فربما أصابه الحزن. ذلك أن للخسارة في هذا المقام دلالة سلبية إضافية تمس فطانته وتومئ إلى طالعه. وبالمثل قد لا يكترث طبيب نفسي بإهانة يوجهها له مريض ذاهل يعتبره الطبيب فاقدًا لوظيفة الحكم. ولكن نفس الإهانة قد تقضُّ مضجعه إذا أتت من زميل له في المهنة. الإنسان إذَن لا يهمه أن تزال من مجاله صفة غير ذات قيمة في نظره. إن زوال زائدة جلدية عن الجسم هو شيء أدعى إلى الارتياح، أما سقوط الشعر فلا.

ومن السهل أن نلاحظ كيف تحتمل كثير من مواقف الحياة تفسيرها كفقدان أو انتقاص من المجال الشخصي. ويمكن بسهولة أن نقسِّم الأحداث التي تبعث على الحزن إلى الفئات التالية:
  • (١)

    فقدان موضوع عيني ملموس له وزنه كمصدر للإشباع أو له قيمته لأي سبب آخر.

  • (٢)
    فقدان أدبي (معنوي) من قبيل الذم والإهانة وكل ما يمس اعتبار الذات self-esteem.
  • (٣)

    انعكاس قيمة أحد مكونات المجال الشخصي؛ كأن ينقلب ضدنا ما كنا نعده من قبل ذخرًا لنا ومصدر قوة.

  • (٤)

    وجود تفاوت بين ما نأمله وما نحصل عليه؛ أي خيبة الرجاء.

  • (٥)

    تخيل فقدان مستقبلي واستباقه؛ فيميل الفرد إلى معايشة الفقدان المتوقع كما لو أنه حادث بالفعل (يقدِّر البلاء قبل وقوعه) وبذلك يكابد الأسى من قبل الفقدان.

  • (٦)

    الخسارة الافتراضية: أي لم تقع خسارة ولكن يمكن أن تقع.

  • (٧)

    الخسارة الكاذبة: أن يقدِّر الشخص في واقعة ما انتقاصًا من مجاله بطريق الخطأ.

قد يكون الفقدان إذَن عينيًّا ملموسًا مثل الخسارة المالية، وقد يكون أدبيًّا معنويًّا مثل فقد محبة شخص آخر. ولا يقل الفقدان الأدبي جلبًا للحزن وبعثًا للأسى عن الفقدان العيني. ومن بواعث الحزن أيضًا أن تتغير نظرة الشخص إلى إحدى خصاله أو ينقلب تقديره لها. مثال ذلك أن يرى شخص كان يعتبر نفسه فكهًا ظريفًا أن الناس ينظرون إليه كمهرج هُزأة.

وإذا كنا بإزاء قيمة نلحقها بصفة من صفاتنا؛ فإن إحساسنا بالفقد تتناسب شدته مع الكمية المنتقصة من هذه القيمة لا مع القيمة المطلقة. فمثلًا إذا ارتأت فتاة كانت تظن نفسها فاتنة الجمال أن الناس يعتبرونها مليحة وحسب؛ فإن إحساسها بالفقدان والحزن سيأتي مناظرًا للدرجات التي انتقصت من جمالها في تقديرها الخاص. وبنفس المقياس يكون حزن الوالد الذي ظنَّ ولده نابغة الطلاب عندما يأتيه أن مستوى ابنه هو فوق المتوسط لا أكثر.

وتأتي خيبة الرجاء أيضًا مصحوبة بمحتوى فكري ينطوي على معنى الفقدان بتمامه ويبعث على الحزن. فعندما يترقب شخص أن يحظى بتكريم أو ينال جائزة أو يرتفع أجره؛ فإنه سرعان ما ينسبه بشكلٍ ما لنفسه، أعني ينسبه كما هو كحق شرعي، ويظل يستشعر شيئًا من الإشباع ما بقي هذا الشيء يحتل مكانه الخيالي من مجاله. فإذا قدِّر له ألا ينال مأربه فقد يصيبه نفس الحزن الذي كان حريًّا أن يصيبه لو أنه كان قد ناله ثم فقده. ومهما يكن الأمل بعيدًا خياليًّا؛ فإن خيبته أليمة شديدة.

وكثير من الناس يعيشون المستقبل في الحاضر ويحسون الفقدان المرتقب كما لو كان واقعًا. كتلك المرأة التي أخبرت أن زوجها قد يسافر خلال بضعة أشهر في رحلة عمل قصيرة؛ فظلت في حزن مقيم لا يقل عن حزنها حينما سافر بالفعل. وقد كانت هذه المرأة تجهش بالبكاء كلما تأملت المستقبل وتصورت حالها بعد أن يكبر أطفالها ويتركوا المنزل.

أما الفقدان الافتراضي hypothetical loss فهو أن نعامل الخسارة الممكنة كما لو كانت حرمانًا حقيقيًّا. كدأب تلك المرأة التي كانت تبتئس كثيرًا كلما تحدث زوجها إلى امرأة أخرى، وتفكر أنه من المحتمل أن تتطور علاقتهما إلى الحب.

والحسابات الخاطئة أو إساءة «مسك الدفاتر» مثال لنوع آخر من الفقدان هو الفقدان الكاذب. كشأن ذلك الرجل الذي كان يحس بألم الفقدان كلما أنفق مالًا لاكتساب شيء ذي قيمة. وظل هذا حاله إلى أن وُفِّقتُ إلى أن أساعده على إدراك حقيقة بسيطة: هي أن المكتسب قد وازن المنصرف وزيادة.

الانشراح والإثارة Euphoria and Excitation

مثلما يرتبط الحزن بالفقد في الملاحظة الفطرية؛ فإن الشرط اللازم للانشراح والإثارة هو إدراك كسب ما أو توقعه، بحيث يقدِّر الفرد أن مجاله قد زاد واتسعت حدوده. مثال ذلك أن يكسب أصدقاء جددًا، أو يقتني أشياء عينية جديدة، أو يصل إلى هدف منشود من أي نوع. فقد تزداد ثقة امرأة بقدرتها الاجتماعية بعد نجاح أول حفل عشاء تقيمه. وقد يزداد سرور الرجل ببذلته الجديدة بعد أن يطريه عليها الآخرون.

ولا تقتصر بواعث الانشراح على التقدير الإيجابي المشجِّع، بل إن استباق اللذات والتعزيزات الآجلة قد يبعث السرور العاجل. وقد ينحو هذا الاستباق الفكري في الواقع منحًى تصاعديًّا، كأمر ذلك الرجل الذي طالعته الصحيفة اليومية بمقال يعرض إنجازاته المهنية؛ فكانت أول فكرة طرأت عليه هي أن عمله ذاك (وبالتالي هو نفسه) من الأهمية؛ بحيث استدعى كل هذه الشعبية. وقد غمرته هذه الفكرة بالانشراح. ثم جعل يجيل في ذهنه كل الشخوص الذين سوف يُقدَّر لهم أن يقرءوا هذا المقال؛ فيزداد انشراحه أكثر فأكثر. عندئذٍ بدأت تجتاحه خيالات الشهرة المتنامية والشعبية العارمة. لقد أخذت آمال هذا الرجل تتسع دِراكًا. ومع كل دفقة أمل كانت هناك دفعة مناظرة من الانشراح.

وتعتمد خبرة السرور في نشأتها على المعنى الذي نلحقه بالموقف أو الموضوع. فهذا شاب يلحظ أن إحدى الفتيات ترنو إليه فيفكر: «نانسي تحبني.» ثم يعمم هذه النتيجة إلى: «ما دامت هي تحبني فسوف يحبني أصدقاؤها أيضًا،» ثم: «أعتقد أن شعبيتي تزداد كثيرًا، فكل الناس تحبني.» وقد كان كل امتداد لتقديراته الإيجابية له ما يناظره من ارتفاع المزاج.

وليس من الضروري أن تكون هناك حاجة مسبقة قيد الإرضاء أو دافع قيد الإشباع لكي تحدث خبرة اللذة. فأيُّما حدث أو فكرة تمثل للفرد إضافة دالة؛ فهي سبب كاف للذة. فقد يتلقى الشخص هدية على غير توقع ولا احتياج، فيسرُّ بها رغم ذلك ويلذُّ. غير أن الشخص ما إن يجد لذة في شيء حتى ينمو لديه شره إلى مزيد من هذا الشيء. فقد يستطيب شخص مذاق الشهرة فيغدو منهومًا إلى المزيد منها لكي يحافظ على تقديره الجديد لنفسه.

هكذا يكون للتقدير الجديد للذات بالغ الأثر على دافعية المرء. فالشخص الذي ينال مكافأة ما قد تلتهب رغبته في الإثابة ويزداد ترقبه للمكافآت؛ فيدفعه إلى مزيد من العمل المنتج. ويفيد هذا المبدأ بصفة خاصة في مساعدة مرضى الاكتئاب على مغالبة ما يصيبهم من كلال وهمود.

وقد تلعب آليات التغذية الراجعة feedback mechanisms دورًا في تصعيد الاستجابة للمكاسب. فخبرة الانشراح بعد حدث معزز للنفس قد يتخذها الفرد دليلًا على أن هذا الحدث هو شيء طيب. ومن شأن هذا التقييم الإيجابي أن يولِّد مزيدًا من الرغبة في مثل هذه الأشياء أو الظروف الباعثة على السرور.

القلق

من بدائه الملاحظة أن من يرى نفسه في خطر محدق يستشعر قلقًا. وهناك أمثلة تقفز إلى الذهن كنماذج لتلك المواقف الباعثة على القلق. منها أن يتهدَّد المرء أذى جسدي، أو مرض خطير، أو كارثة اجتماعية، أو رفض اجتماعي. أو أن ينال أي شخص في مجاله خطر يهدد سلامته أو صحته أو معنوياته، بل إن المرء ليعاني قلقًا إزاء أي خطر يحيط بمؤسسة يقدِّرها أو بمبدأ يُجلُّه.

ومن المخاطر التي تتهدد المجال الشخصي للفرد وتثير قلقه أن يتوقع فقدان شيء ذي قيمة لديه سواء كان هذا الشيء موضوعيًّا عينيًّا كالمال والممتلكات أو كان صديقًا أو قريبًا يوشك أن يفقده بالسفر أو المرض أو الموت. وللتهديدات النفسية الاجتماعية (مثل توقع الانتقاد أو المهانة أو الهجر) نفس الأثر الذي تتركه التهديدات الجسدية ومخاطر المرض العضوي ولها في القلب نفس الوقع.

ونحن نسمي توقع الأذى واستباقه (خوفًا). ونسمي الاستجابة الانفعالية غير السارة (قلقًا).٢ ومن شأن القلق أن ينقص إذا استشعر الشخص القدرة على التعامل مع الخطر أو درئه. وأن يزداد إذا رأى أن الأذى المحتمل لمجاله الشخصي قد بات وشيكًا ومرجَّحًا ومدمرًا. ويذكو القلق أكثر وأكثر إذا كان الشخص في شك من التوقيت الدقيق لوقوع البلاء.

ولكي يشخص المرء الموقف كخطر يتعين عليه أن يقوم بسلسلة من الأحكام تكاد تكون متزامنة. في الحكم الأول، أو التقدير المبدئي على حد تسمية ريتشارد لازاروس (١٩٦٦م)، يتعرف على الموقف كشيء مهدِّد ويقدِّر مدى احتمالية الضرر ومدى اقترابه وشدته. يأتي بعد ذلك التقدير الثاني، وفيه يزِن المرء قواه الدفاعية، أي قدرته على إبطال الخطر واحتوائه. وبقدر ما تكون الغلبة المرتقبة للقوى المهدِّدة يكون حجم الخطر المدرك وبالتالي شدة القلق الناجم.

يلعب المعنى دورًا كبيرًا في إثارة القلق. نلمس ذلك في التنوع الهائل للمواقف الباعثة على هذا الانفعال، وكذلك في اختلاف درجات القلق الذي يثيره الموقف الواحد لدى مختلف الأفراد. فكلنا نعرف كم ينزعج الشخص الحساس للرفض الاجتماعي عندما يوضع في موقف قد يكشف نقاط ضعفه. مثل أن يكلَّف بإلقاء كلمة أمام عدد من الحضور. فمثل هذا الموقف قد يحمل معنى الكارثة بالنسبة إلى هذا الشخص، بينما لا يعني شيئًا لشخص ثانٍ لا يهمه رأي الناس فيه ولا يكترث لتقييمهم له.

كذلك يكون القلق البالغ عند البعض إزاء مواقف أو أشياء مأمونة هو نتاج المعاني الشخصية الخاصة التي يلصقونها بهذه الأشياء والمواقف. من أمثلة ذلك تلك المرأة الموفورة الصحة التي كان يتخطفها القلق كلما نهجت نهجًا طبيعيًّا عقب مجهود عضلي، ظنًّا منها أنها في نوبة قلبية. وذلك الرجل الذي كان ينتابه القلق كلما مرَّ على أحد الجسور؛ إذ كانت تغزو مخيلته صورة بصرية للجسر وهو ينهار. ذلك وسوف نعرض فيما بعد لأمثلة أخرى تبين الدور الحاسم الذي يلعبه المعنى في الحالات المرضية للقلق.

الغضب

من النماذج التي ترد أحيانًا لتمثِّل النمط الأولي للغضب تلك الاستجابة التي تقوم بها الكائنات العضوية البدائية لتدمير أو طرد أي كيان مؤذٍ. وقد تضيء لنا هذه المماثلة analogy جانبًا أساسيًّا من السلوك الإنساني؛ فعندما يتعرض أي شخص لاعتداء جسدي أو لفظي؛ فمن المحتمل أن يثور غضبه ويقوم بهجوم مضاد.
ورغم أن هذه الصيغة «الاعتداء يؤدي إلى الغضب.» تناسب بعض الحالات الظاهرة للعيان؛ فإنها لا تنطبق على كل الحالات التي يتولَّد فيها الغضب. فلا يندر أن نجد شخصًا قد أقعده التوتر وأشلَّه القلق على أثر اعتداء وقع عليه، أو أن نجد شخصًا قد تملكه الحزن لا الغضب بعد هزيمته في اشتباك جسدي. وقد وصف كانون Cannon (١٩١٥م) استجابات الكائن للاعتداء وفقًا لنموذج «الكر-أو-الفر» fight-or-flight الذي يناظر الغضب أو القلق بصفة عامة. إلا أن هذه الصيغة لا تفسر بعض الاستجابات الأخرى للعدوان كاستجابة الاكتئاب مثلًا. كما أنها لا تقدِّم تعليلات محددة للفروق الفردية في رد الفعل تجاه العدوان.
ومن المواقف التي نعرفها جميعًا والتي غالبًا ما تولِّد الغضب — موقف الإحباط، أعني إحباط رغبة من الرغبات أو دافع من الدوافع. وقد تقصَّى دولارد وآخرون Dollard et al. (١٩٣٩م) هذه الملاحظة العامة وتوسعوا فيها وجعلوا منها نظرية عريضة هي نظرية «الإحباط-العدوان» frustration-aggression بقصد تفسير السلوك العدواني aggressive والعدائي hostile على تفاوت درجاته. إلا أن نظريتهم لا تثبت أمام التحليل النقدي الذي سرعان ما يكشف أنها لا تغطي إلا قطاعًا محدودًا من المواقف المثيرة للغضب. كما أنهم يغفلون الدور الذي يلعبه «معنى» الإحباط في الظروف المختلفة، الأمر الذي جعلهم يوردون في نظريتهم مواقف نرى أنها تنطوي على الإحباط ولكنها لا تؤدي إلى الغضب. فمن المستبعد مثلًا أن يغضب الناس حين يحبطون عن هدفٍ ما إذا كان العامل المحبط عادلًا له أسبابه ومبرراته، كما أوضح إليس (Ellis, 1962) وكما أثبتت تجارب بستور (Pastore, 1950, 1952). فالزوج الذي اعتاد أن يغضب إذا لم يجد العشاء جاهزًا لدى عودته إلى المنزل، من غير المحتمل أن يثور إذا اكتشف أن امرأته مريضة؛ بحيث تعجز عن تحضير الطعام.

وحين نتأمل ضروب المواقف التي تبعث على الغضب بدءًا من الثورة الطفيفة حتى الهياج الشديد؛ فقد ترِد إلى أذهاننا أعداد لا نهاية لها من هذه المواقف؛ بحيث يصعب علينا أن نتبين بينها رابطة مشتركة. إلا أننا حين نتمكن من تمييز الملامح الأساسية لهذه المواقف، فربما يتكشف لنا ما بينها من روابط.

التعديات المتعمدة وغير المتعمدة

لنتأمل هذه الأمثلة المستقاة من المجال العريض للمواقف اليومية الباعثة على الغضب:
  • (١)

    رجل تتعقبه عصبة من الصبية رشقًا بالحجارة.

  • (٢)

    تلميذ يهمس في الفصل فيقع عليه توبيخ المدرس من بين كثير من التلاميذ الذين كانوا يهمسون معه.

  • (٣)

    أحد رواد المسرح يحاول شراء تذكرة فيدفعه آخر عن الصف وقد بلغ الشبَّاك تمامًا.

  • (٤)

    امرأة ينكث حبيبها العهد ويهجرها.

  • (٥)

    طفل يأمره والده أن يشرك أخاه في لعبه.

  • (٦)

    عضو لجنة يحاول أن يقدم سياسة جديدة فيعارضه باقي الأعضاء.

ثمة خيط واحد على الأقل يجمع كلًّا من هذه المواجهات. فالشخصية الرئيسية (أو البطل protagonist) في كل من هذه المواقف يتعرض لخبرة غير سارة (الهجوم) من جانب خصم أو أكثر. فهو المستهدف لاعتداء جسدي، أو انتقاد، أو قهر، أو إعاقة، أو رفض، أو حرمان، أو معارضة؛ كلها عن عمد، وكلها مواقف مؤذية؛ لأن فيها تعديًا على سلامة البطل أو رغباته أو اعتباره لذاته. وهو يدركها بوصفها انتهاكًا مقصودًا لمجاله الشخصي، وهي تقع في نفسه هذا الموقع حتى لو لم يكن وراءها سوء نية أو تعمد أذى.

وهناك مجموعة أخرى من المواقف الباعثة على الغضب تتكون من الأوامر والضوابط التي يراها الفرد تعديًا على حقوقه. فقد يغضب مثلًا من تقييد ما يفرضه عليه شخص في موقع السلطة وإن لم تكن لديه الرغبة أصلًا في إتيان السلوك المحظور. ذلك أن حقوق الفرد لا تقتصر على استقلاله وحريته في التصرف والتعبير، بل تتضمن أيضًا توقع الاحترام والذوق ومراعاة المشاعر والولاء من قبل الآخرين. وقد تدفع المكانة الاجتماعية والمهنية صاحبها إلى توقع امتيازات خاصة وإلى مهاجمة من يستهين بهذه الامتيازات أو السخط على أي شخص أقل مرتبة إذا هو ادَّعى امتيازات ليست من حقه.

التعديات غير المباشرة

هناك لون آخر من التفاعل يفسر لنا العديد من استجابات الغضب التي نستشعرها في أنفسنا ونلاحظها في غيرنا. وفيما يلي أمثلة من المواقف التي لا تمثل للوهلة الأولى انتهاكًا مباشرًا لمجال المرء غير أنها قد تثير الغضب:
  • (١)

    مضيف يمتعض من أحد ضيوفه لأنه يستعرض معرفته وثقافته في حفل عشاء.

  • (٢)

    بائع في متجر يغضب من حكايات صديق له عن نجاحه في أعماله التجارية.

  • (٣)

    شاب يشتاط غضبًا من رفيقته لأنها تتحدث بحيوية مع رجل آخر.

  • (٤)

    طالب حاصل على درجة ممتازة يحنق على أستاذه حين يعلم أنه أعطى نفس الدرجة لأحد زملائه.

  • (٥)

    زوج يغتاظ لأن زوجته منحته إطراءً طفيفًا لعمل يعتبره نصرًا تجاريًّا كبيرًا.

بوسعنا حين نحلل هذه المواقف أن نفهم لماذا تعتبر مؤذية مكدِّرة؛ فكل موقف من هذه المواقف يحمل معنى الاعتداء على البطل من جهة اعتباره لذاته. وسلوك المعتدي يُعرِّض البطل بطريقة غير مباشرة لانتقاص الذات. فالمجموعة الأولى من المواقف هي أمثلة للغيرة والحسد. فالذين يستحوذون على الانتباه معتدون لأنهم يهددون البطل بالتعتيم على صورته: «إنه يحتكر كل الالتفات ولا يترك لي شيئًا،» «إنه أكثر مني تأثيرًا في الناس،» «إنه أكثر نجاحًا مني.» مثل هذه المقارنات تجعل البطل يشك في أهميته وبأسه. فالطالب الذي عززت الدرجة الرائعة التي حازها اعتباره لذاته، قد انكمش فيه هذا الاعتبار عندما خسر ذلك التفرد في الامتياز الذي كان قد ادَّعاه لنفسه. والزوج ممتعض من رد الفعل الفاتر من جانب زوجته لأنه يبدو مهوِّنًا من شأن إنجازه.

ها هنا سؤال يطرح نفسه: ما دامت الاعتداءات تمثل نوعًا من الفقد، فلماذا يقع البطل في الغضب وليس بالأحرى في الحزن؟ الجواب أنه يحس بالغضب ما بقي قادرًا على دفع الإهانة والانتقاص بالتركيز على الجوانب السلبية للمعتدي: أنه متباهٍ، فاقد الجدارة، فارغ العقل، ظالم. على أنه إذا سلَّم البطل بهذا الفقدان المتخيَّل للمكانة كشيء معقول أو صائب أو عادل؛ فإنه عندئذٍ يشعر بالحزن. أما إذا تأرجح بين لوم المعتدي والندم على ما فقده؛ فإن مزاجه يتذبذب بين الغضب والحزن.

التعديات الافتراضية

يمكننا أن نتصور أمثلة أخرى لا يبدو أن فيها أي تعدٍّ مباشر أو غير مباشر يفسر استجابة الغضب:
  • (١)

    أحد المشاة يغضب لرؤية قائد سيارة يخترق إشارة الوقوف.

  • (٢)

    أمٌّ تسخط على طفلها لأنه لا يلتزم بآداب المائدة.

  • (٣)

    رجل ثريٌّ يغتاظ حين يطلب منه إسهام خيري.

  • (٤)

    رجل كرَّس نفسه لمبدأ القانون والنظام يثور غضبه حين يسمع بجريمة ارتُكبت على بعد آلاف الأميال منه.

ليس في أي من هذه الأحداث خرق واضح لمجال الفرد، ومع ذلك فهو يستجيب كما لو كان قد تعرَّض لاعتداء مباشر. وهو قد يعترف صراحة أنه لم يلحق به أي ضرر شخصي من جرَّاء ما حدث. فإذا كان الأمر كذلك فلماذا يغضب؟ إذا نظرنا في هذه الأمثلة وجدنا أن القاسم المشترك بينها هو أن المعتدي قد خرق قاعدة يعتبرها المعتدى عليه هامة له. ولأن هذا الخرق يجعل البطل يرى نفسه مستهدفًا وعرضة للانجراح فهو يمثل تعديًا ممكنًا أو افتراضيًّا.

في المثال الأول يفسر السائر غضبه من السائق المسرع هكذا: «كان من الممكن أن أكون عابرًا للطريق في تلك اللحظة.» أما الأم الساخطة على طفلها في المثال الثاني؛ فتحزر بأنه لو كان شخص غريب موجودًا لحكم أنها أم سيئة لا تجيد تربية أطفالها وتقويمهم. وأما الثريُّ في المثال الثالث فقد اغتاظ لأنه تفكَّر: «لو أن عليَّ أن أعطي نقودًا لكل عمل خيري لأفلست.»

في الاعتداءات الافتراضية تكون لفكرة «يمكن أن يحدث» نفس الوزن تقريبًا الذي لفكرة «حدث بالفعل». وتتسبب هذه التعديات الافتراضية، رغم خفائها ودقتها، في شطر كبير من الخلافات التي تحدث في العلاقات الإنسانية. وسوف نرى حين نتقدم في هذا الكتاب أن هذه الاعتداءات تتألف من انتهاك بعض قواعد السلوك المسلَّم بها بين الجميع، أو بعض القواعد والمعايير الشخصية الخاصة كما يحدث أحيانًا.

إن المرء ليفرض حكم قيمةٍ value judgement على سلوك الآخرين. وهو مما يدل على وجود دستور ضمني من القوانين والقواعد والمبادئ والمعايير. وإنه ليطبق هذه القواعد كما لو كانت تساعد على حمايته من الأذى الجسمي والنفسي رغم أن شخصه ومجاله لم يُمسَّا في حقيقة الأمر في التحام مباشر بالمعتدي. هكذا يحنق السائر على قائد السيارة رغم أنه لم يتعرض للخطر الفعلي. ذلك أن اختراق القانون قد يؤثر على سلامته في المستقبل.

تشكل مبادئ اللعب النظيف والعدالة واللياقة نوعًا من الجدار الخارجي أو الحماية لمجال المرء. وإنما تثير الأفعال التعسفية والخاطئة والظالمة مشاعر الغضب والحنق (حتى لو لم تكن موجهة ضده) لأنها تعتبر تهديدًا لهذا الجدار الواقي.

إننا نولي أهمية كبرى لسائر العادات التي تحكم تفاعلات البشر. ونجد مؤشرًا لأي انتهاك لها في صرخات الغضب من مثل: «ليس لهم حقٌّ أن يتصرفوا بهذه الطريقة،» «ليس يحق له أن يفعل هذا،» «يجب على أولئك الناس أن يسلكوا سلوكًا أفضل،» «إنه مبدأ هذا الشيء.»

هذا مدير تجاري في منتصف العمر يُبدي سخطه على مجموعة من الأنماط السلوكية لدى البعض مثل علو الصوت والعدوانية واللامبالاة وشعث الرأس. وبسؤاله اعترف أنه لم ينله شخصيًّا أي أذًى أو خسارة من جراء سلوكهم. غير أنه احتجَّ على هذا السلوك بوصفه غلطًا وسوءًا، وقال إن المذنب يجب أن يناله العقاب بشكل أو بآخر: «ليس من حق أولئك الهيبيين أن يطيلوا شعورهم إلى هذه الدرجة ويكونوا بهذه القذارة إنهم لا بد أن يُحتَجزوا.»

تؤلف أنماط السلوك المقبولة دستورًا أخلاقيًّا يتم دمجه في مجال المرء. بذلك يغدو أي خرق لهذا الدستور بمثابة اعتداء على مجاله ويؤدي إلى نفس الاستجابة التي يثيرها الاعتداء. وتتفاوت الدساتير الشخصية تفاوتًا كبيرًا داخل الجماعة الثقافية الواحدة، وقد تتناهى في الخصوصية فتكون فردية مقصورة على شخص واحد. في هذه الحالة فإن غضب الفرد لخرق دستوره قد يبدو للآخرين غير ملائم وغير صحي. ولكنه يبدو ملائمًا له بالنظر إلى معاييره الخاصة للصواب والخطأ. إن أي انتهاك لمعاييره الشخصية يعتبر اعتداءً على مجاله.

يبدو أن التقاليد الاجتماعية تلعب دورًا أكبر مما نظن في تحديد الشروط التي تجعل الغضب مبرِّرًا أو متوقَّعًا أو لازمًا. ولكنها أيضًا تضع الحدود التي يجب ألا يتجاوزها الغضب أو يُعَد زائدًا أو غير لائق، كما نلمس ذلك في عبارات من قبيل: «إنك تهوِّل المسألة.» أو «لماذا تعكِّر مزاجك؟» وما من أحد إلا ومرَّ بمواقف قد أغضبته من دون أن تغضب رفقته، والعكس بالعكس. كذلك عندما نستجيب بهدوء ولا نحرِّك ساكنًا بإزاء موقف مؤذٍ؛ فقد يقول لنا الغير «كان يجب أن تغضب.» «كان عليك أن توبِّخه!» أما إذا أبدى شخصٌ ما ثورة عارمة من الغضب لشيء نعتبره هينًا تافهًا؛ فقد نتشكك عندئذٍ في أن هذا الموقف يحمل معنى شديد الخصوصية بالنسبة له.

يمكننا الآن أن نوجز أصناف المواقف التي تؤدي، إجمالًا، إلى الغضب كما يلي:
  • (١)

    اعتداء مباشر متعمَّد.

  • (٢)

    اعتداء مباشر غير متعمَّد.

  • (٣)
    انتهاك القوانين والمعايير والأعراف الاجتماعية: التهديدات الافتراضية، السلوك المتدني، خرق الدستور الأخلاقي الشخصي. في كل هذه الأصناف من ثورات الغضب يتمثل العامل المشترك في أن الفرد «يقدِّر» وقوع اعتداء على مجاله الخاص الذي يشمل قيمه ودستوره الأخلاقي والقواعد التي تحمي حقوقه. ورغم أن هذا العامل المشترك هو شرط ضروري necessary condition لإثارة الغضب فهو ليس شرطًا كافيًا sufficient condition.٣ فلكي يثار الغضب يجب أن تتوافر شروط أخرى معينة. أولها أن يأخذ الفرد هذا الاعتداء مأخذ الجِد ويسِمه بسمة سلبية. فالطفل الصغير الذي يقذف والديه بكرات الثلج هو أدعى إلى البهجة والتسلية منه إلى الغضب والنقمة. ثانيًا ألا يعتبر الفرد الموقف المؤذي خطرًا مباشرًا أو دائمًا. فإذا كان مبلغ همه هو سلامته الشخصية فسوف يناله القلق لا الغضب. ثالثًا أن يكون الفرد معنيًّا أساسًا بأمر الإثم والعدوان والمعتدي لا بالأذى الذي يمكن أن يصيبه.

لنوازن الآن بين سلسلة الاستجابات النفسية المؤدية إلى الغضب وبين تلك الخطوات التي تفضي إلى القلق. إن الفرد في حالة الغضب يبدأ بوضع (تقدير أولي) للمثير المؤذي فيميزه ويسمه كمثير مؤذٍ. وهو في الوقت ذاته يقوم بتقييم قدرته على تحمله أو صده أو إبطال أثره (تقدير ثانوي). وفيما يلي مثال نرى فيه البطل يتأرجح بين الغضب والقلق حسبما تعلو ثقته في صد المثير المؤذي وتزداد، أو تخبو وتتضاءل.

فهذا طالب جامعي كان يقود سيارته فعاقته سيارة تتلكأ أمامه وتتحرك ببطء. فغضب الطالب لأنه أُعيق من جهة وانتُهك من جهة أخرى من جراء استهانة هذا السائق بقواعد القيادة المتفق عليها. وأطلق نفير سيارته مرارًا وصرخ في السائق. لقد كان يَعُد نفسه قادرًا على صد أي انتقام محتمل، وإن استبعد حدوث انتقام على أي حال، غير أن الموقف بدأ يتطور؛ فلدهشته وجد السائق يتوقف ويخرج من سيارته؛ فازداد غضبه لتلك المشاكسة، ولما بدا واضحًا أن ذلك السائق ضخم وخطر تحول غضب الطالب إلى قلق فاندفع بسيارته مسرعًا ولاذ بالفرار. وبعد أن ابتعد مسافة آمنة عادته موجة من الغضب وحدَّث نفسه: «القوَّاد النذل، يريد أن يسحقني!»

يوضح لنا هذا المثال أن الشخص عندما لا يكون معنيًّا بسلامته فهو خليق أن يُحس بالغضب تجاه الطرف المعتدي. أما إذا تركَّز همُّه في الخطر الوشيك؛ فإن غضبه يتبدل إلى قلق.

وهذا تذبذب مماثل بين الغضب والقلق وقع فيه رجل بعد أن عنَّفته زوجته بقسوة. فهو يتأمل حينًا في ظلمها له وجورها عليه فيغضب عليها. وحينًا آخر تؤرقه فكرة أنه خسر حبها فيشعر بالحزن، وجعل فكره يتأرجح طوال اليوم بين لوم زوجته وبين حرمانه من الحب، مصحوبًا بتأرجح مُناظِر بين الغضب والحزن.

تتناسب درجة الغضب بصفة عامة مع ما يبدو للبطل من عسف في ذلك العدوان ومن جور وظلم. فذلك أمر يتوقف على تقديره الخاص. وهو مما يفسر الاستجابات المفرطة العنيفة إزاء ما يبدو للآخرين إساءة هينة طفيفة.

يمكن تلخيص العوامل التي تتسبب في اشتداد الغضب بعد وقوع اعتداء فيما يلي:
  • (١)

    أن يدرك الشخص الاعتداء كشيء متعمَّد.

  • (٢)

    أن يدركه كشيء خبيث.

  • (٣)

    أن يدركه كظلم وحَيف وافتئات.

  • (٤)

    أن يدرك المعتدي كشخص بغيض.

  • (٥)

    إمكان توبيخ المعتدي وحرمانه.

وهناك، من جهة أخرى عوامل «مخفِّفة» من شأنها أن تلطف الغضب وتزيل النقمة، مثل أن يدرك الشخص الاعتداء كشيء «عارض غير مقصود» أو واقع «بحسن نية»، أو «له ما يبرره». أو أن يرى المعتدي «فتًى لطيفًا»، أو أن يعتقد الشخص أنه هو المخطئ في حقيقة الأمر.

التمييز بين ثورة الحزن والغضب والقلق

تشير ملاحظات الحياة اليومية إلى أن نفس الظروف الخارجية قد تحدث حزنًا في أحد الأشخاص وقلقًا في شخص آخر وغضبًا في شخص ثالث. بل إن ظروفًا تبدو متشابهة قد تحدث في الشخص الواحد حزنًا في أحد الأوقات، وقلقًا في وقت آخر، وغضبًا في وقت ثالث. غير أننا لو تفطَّنَّا إلى المعاني الملحقة بالحدث لزال الغموض من الأمر وأمكننا في عامة الأحوال أن نتنبأ بالانفعال المثار. فالمعاني الكبرى عند شخصٍ ما تحددها أنماطه التي اعتادها في تصور صنوف معينة من مواقف الحياة، وتحددها كذلك حالته النفسية إبان الموقف. فإذا كان الهم الرئيسي عند هذا الشخص هو «الخطر» فهو حليف «قلق». وإذا كان شغله الشاغل هو «الفقدان» فهو رهين «حزن». أما إن كانت بؤرة اهتمامه هي السلوك الجائر من المعتدي الأثيم فهو أسير «غضب». وربما تتضح الشروط الضرورية والكافية لإثارة كل انفعال من هذه الانفعالات حين نبين كيف تؤدي ظروف واحدة إلى انفعالات مختلفة.

الحزن مقابل الغضب

يؤدي انتقاص المنزلة (بالإهانة مثلًا أو النقد) إما إلى الحزن وإما إلى الغضب. فإذا كان الشخص يسلِّم بصحة الإهانة أو النقد بحيث ينخفض تقديره لذاته فهو حقيق أن يشعر بالحزن. كذلك يشعر بالحزن، مع عدم تسليمه بصحة الإهانة، إذا كان يعتبر مجرد التعرض للإهانة شيئًا يعود عليه بالسوء. أما إذا رأى الإهانة غير صحيحة وغير مشروعة وظالمة؛ فالأرجح أن يشعر بالغضب.

وقد يدرك الشخص أن تسليمه بصحة النقد ربما يسلمه إلى الحزن ومشاعر الذنب، فيعمد إلى دحض هذا النقد بأن يسفِّه المنتقِد ويجرده من صفته وأهليته للنقد. فإذا نجح في ذلك فالأرجح أن ينتابه الغضب بدلًا من الحزن.

الحزن مقابل القلق

حين يجد الشخص أن الخسارة قد وقعت بالفعل أو أن مجاله الشخصي قد انتُقِص بتوقُّع الخسارة؛ فالأرجح أن يشعر بالحزن. أما إذا اعتبر نفسه سليمًا بعدُ وأن الخسارة أو الإصابة وشيكة فحسب فالأرجح أن يشعر بالقلق. وقد يحدث الحزن بتوقع حدث مؤذٍ بدلًا من القلق. من أمثلة ذلك أن يعلم الشخص بخسارة مستقبلية ولتكن شخصًا هامًّا أو وظيفة أو مكانة؛ فالحزن هو الناتج إذا أحس الشخص بالخسارة المتخيلة إحساسًا حاضرًا لا مستقبليًّا؛ أي إذا أسقطها من مجاله قبل أن تحدث بالفعل.

القلق مقابل الغضب

السمة البارزة في حالة القلق هي «الخطر» danger: فالشخص في حالة القلق مهموم أولًا وقبل كل شيء باحتمال أن يصيبه أذًى وألا يملك حيلة في دفع المثير (المنبه) المؤذي. أما في حالة الغضب فإن همه الأكبر ليس في تعرضه للخطر بقدر ما هو في انتهاك حقوقه وقواعده ومبادئه، وفي جَور الطرف المعتدي واستحقاقه للوم.

ولكل محتوى فكري نموذجي لانفعالات القلق والحزن والانشراح والغضب ما يناظره في اضطرابات القلق والاكتئاب والهوس وحالات البارانويا على الترتيب. والفرق الجوهري بين الاضطرابات النفسية والاستجابات الانفعالية السوية هو أن المحتوى الفكري في حالة الاضطراب النفسي ينطوي على تحريف أو تشويه دائم لأحد المواقف الواقعية. فبينما تقوم الاستجابة الانفعالية السوية على تقدير معقول للموقف، فإن الاستجابة المَرضية تخضع إلى حد كبير لعوامل داخلية (أي سيكولوجية) من شأنها أن تفسد عملية تقييم الواقع وتربكها.

١  اصطلحنا على أن نستخدم كلمة «مثير» وكلمة «منبه» بنفس المعنى كترجمة لكلمة stimulus الإنجليزية. (المترجم)
٢  سنعرض في الفصل السادس لتفصيل الفرق بين الخوف والقلق.
٣  الشرط الضروري هو الشرط الذي لا بد أن يتوافر في الشيء لكي يدرج هذا الشيء ضمن فئة أو مفهومٍ ما. فالذكورة على سبيل المثال هي شرط ضروري لكي يدرج (س) ضمن فئة العزاب. وغني عن الذكر أن الشرط الضروري لا يضمن للشيء أن يُدرَج في الفئة (فالطفل الذكر ليس أعزب، والرجل المتزوج ليس أعزب، والقط البالغ المعزول ليس أعزب). أما الشرط الكافي فهو الشرط الذي إن توافر في الشيء ضمن له أن يُدرَج في الفئة أو المفهوم دون حاجة إلى شروط إضافية، وغالبًا ما يكون الشرط الكافي شرطًا مُركبًا من مجموعة من الشروط الضرورية. مثال ذلك أن كون (س) إنسانًا وغير متزوج وذكرًا وبالغًا وليس كاهنًا أو غير مؤهل للزواج؛ هو شرط كافٍ لكي يدرج (س) ضمن فئة العزاب. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤