الفصل الرابع

المحتوى المعرفي للاضطرابات الانفعالية

«ليس العصابي مريضًا انفعاليًّا فحسب؛ إنه مخطئ معرفيًّا.»

أبراهام ماسلو

إنه لمما يدعو إلى الإعجاب حقًّا تلك القدرة التي نتمتع بها نحن البشر، عند نضجنا النفسي، على استيعاب أعداد هائلة من الأحداث البيئية والتفاعل معها بتوافق وتكيُّف. وأدعى من ذلك إلى الإعجاب قدرتنا على التمييز بين أدق المشعِرات وأخفاها أثناء تعاملنا بعضنا مع بعض، ومرونتنا في مواجهة الخيبة والإحباط. وإن قدرتنا على استخدام الخيال بشكل إبداعي دون أن ندعه يجور على إحساسنا بالواقع لهو دليل آخر على نضجنا النفسي.

غير أن هذه الصورة المتألقة لا تخفي الوجه الآخر من الحقيقة. فمن الواضح أننا لا نستجيب لجميع التحديات استجابةً صائبة على الدوام. إن لدينا نقاط ضعف خاصة، كأنها خطوط تصدُّع تتراكم إزاءها الضغوط وقد تفضي إلى ما يشبه الزلزلة أو ثورة البركان – ذلك هو السلوك الذي نسِمه عادةً باسم «الاستجابة المفرطة» overreacting، والذي تطغى فيه التقديرات الخيالية للأمور على التقديرات الواقعية، وقد يتبين لنا أن استجاباتنا فيه لا معقولة إلى حد بعيد.
هناك أمثلة للاستجابة المفرطة نألفها جميعًا:
  • فهذا رجل يحتدُّ فجأة ويشتاط غضبًا عندما يبدي له أصدقاؤه شكهم في أنه حجة في مجال معين.

  • وهذه امرأة معروفة بالهدوء ورباطة الجأش يتملكها الضيق الشديد حين أعياها أن تجد رداءً مناسبًا لحفل عشاء تزمع حضوره.

  • وهذا طالب يعتكر مزاجه ويرين عليه الغم ويَعُد نفسه فاشلًا تمامًا حين يعلم أنه حصل في الامتحان على درجة أقل من المتوقع.

مثل هذه الأمثلة للاستجابة الانفعالية الزائدة أو غير الملائمة تشير إلى أهمية الدراما الداخلية التي تتخلل خبراتنا: إننا نتصور صدامات بين قوى الخير والشر، بين الانتصارات والمآسي، بين المآثر والمخازي. وإن أحلام نومنا ويقظتنا لتعرض لمحات من هذه المشاهد المسرحية الداخلية. حين تفيض هذه الخيالات وتكتسح بقوتها الدرامية تقديرنا العقلاني للأمور؛ فإننا نقع فيما يسمى بالاستجابة الانفعالية الزائدة أو غير المناسبة.

قد تبلغ هذه الخيالات الداخلية عند البعض مبلغًا يصبحون معه فريسةً للأوهام تُسيِّر سلوكهم وانفعالاتهم كيف شاءت. وعندما تتجاوز استجاباتهم الانفعالية حدًّا معينًا من الكرب والعجز فإن لنا أن نطلق عليها «اضطراب الانفعال» أو «العصاب» أو «الاضطراب النفسي» أو «المرض النفسي». تتكرر هذه الاضطرابات وتتواتر متخذة صورة تسمح بأن ندرجها في تصنيف مرضي متعارف عليه كالاكتئاب وحالات القلق وحالات البارانويا. ورغم أن هذه الاضطرابات النفسية تمتُّ بصلة إلى صنوف الاستجابات الانفعالية التي عرضنا لها في الفصل الثالث، إلا أنها تختلف عن الاستجابات السوية. ففي حالة الاضطراب النفسي يكون الفكر الطفيلي غير الواقعي متعلقًا بمسائل محورية وموضوعات أساسية في حياة المريض. ويتجلى اضطراب التفكير في أوضح صورة حين نعرض لواحدة من المتلازمات (الزملات) syndromes التي تصادف المعالجين، ألا وهي العصاب الحاد acute neurosis.

الاضطرابات الانفعالية الحادة

لعل الاستجابة العصابية الحادة هي أوضح مثال وأوجزه على البؤس والشقاء الذي يعاني منه المرضى النفسيون. تتمثل هذه الاستجابة، في حالاتها القصوى، في مجموعة متنوعة من الخبرات الأليمة الشديدة. فالأشياء المألوفة تبدو للمريض غريبةً مشوهة غير حقيقية. بل إن خبراته الداخلية تبدو عجيبة شاذة. فقد يجد أنه فقد الإحساس الطبيعي بأطرافه أو بداخل جسمه. وقد يحس بثقل أو بخفة في جسده. وقد تأخذ الوقائع معاني ودلالات جديدة، فيهول في نظره حدث ماضٍ كان يعده هينًا ويكبر ما كان ضئيلًا. إنها استجابات غريبة عن مجال خبرته المعتادة، يشبِّهها بعض المرضى بخبراتهم عندما كانوا تحت تأثير التخدير الطبي أو تأثير سيئ للمخدرات أو تأثير كابوس ليلي.

ومن الجوانب المدمرة للاضطراب الانفعالي الحاد ذلك الانفلات لكل ضروب التحكم والسيطرة التي كان المريض يسلِّم بوجودها من قبل ولا يخالجه فيها شك. إنه ليجهد ويصارع لكي يحتفظ بالتحكم الإرادي في التركيز والانتباه. ويشق عليه أن يحدد أفكاره أو أن ينهج مسارًا متسقًا من التفكير. كما أن وعيه بنفسه وبما حوله يتغير بل ويتضاءل بحيث يشق عليه إدراك الكثير من تفاصيل بيئته (إلا أنه قد يصير حاد الإحساس، على غير المتوقع، ببعض المثيرات مثل نبرة صوت شخصٍ ما أو أحاسيس داخلية معينة). وقد يعاني هذا المريض من اختلاط ذهني يصل إلى درجة فقدان التوجه disorientation ورغم أنه قد يصيب في التعرف على ذاته وعلى المكان الذي هو فيه إلا أنه يظل غير واثق من هذا التعرف.
حين يبلغ هذا الاضطراب أشد درجاته يطلق عليه «الاستجابة الكارثية» catastrophic reaction؛ حيث يصف الشخص خبراته الخارقة بأوصاف من مثل: «لست أحس أنني موجود هنا على وجه التحقيق،» «أحس أنني مختلف،» «الأشياء تبدو مختلفة.» وفي محاولته أن يحصر نوعية خبرته يستخدم تعبيرات مثل: «أحس أن قبضتي تفلت،» «أكاد أفقد عقلي،» «إنني أحتضر،» «أحس أنني على أعتاب الموت،» «إنني أتفكك أجزاءً،» «إنني أجن.» ورغم أن المصاب كثيرًا ما يفسر هذه المشاعر المخيفة كدليل على أنه بصدد الجنون؛ فإنها ترتبط عامة بالاستجابات العصابية الحادة أكثر مما ترتبط بالذهان psychosis.

بالإضافة إلى المشاعر الغريبة وإلى تعطل العمليات النفسية المعتادة مما أشرنا إليه آنفًا؛ فقد تغمر المريض مشاعر عنيفة من القلق أو الحزن أو الغضب. وحتى عندما يكون الانفعال تضخيمًا لأحد المشاعر السارة (كالانشراح في الاستجابات الهوسية)؛ فإن شدته تجعل منه شيئًا بغيضًا وغير سار.

هل بإمكاننا أن نستخلص معنى متسقًا من تلك الظواهر النفسية الغريبة التي تحدث في حالة العصاب الحاد؟ الحق أن هناك عنصرًا لافتًا للنظر في تلك الخبرات الغريبة، وهو شدة «الوعي بالذات» self-consciousness. فمريض العصاب يغدو واعيًا بعملياته الداخلية بدرجة زائدة. إن انتباهه مثبَّت على إدراكاته وأفكاره ومشاعره؛ بحيث تغدو هذه العمليات النفسية واضحة للغاية. ويتصف هذا الانتباه، فضلًا عن ذلك، بأنه زائد مفرط تجاه مشعرات بيئية معينة، وغافل ساه تجاه المشعرات الأخرى، وهو ما نطلق عليه اسم «الرؤية الأنبوبية» tunnel vision. وهو إذ يوثق انتباهه بمثيرات داخلية وخارجية محددة؛ فإنه يجد صعوبة كبيرة في الالتفات إلى مناطق أخرى من الخبرة والتركيز عليها.

هذه الظاهرة التي تتضمن الوعي المفرط بالذات والانتباه الموثوق المقيَّد، تشبه الاستجابات التي يُحس بها كثير من الناس في المواقف ذات الخطر الواقعي. فالطالب الذي يؤدي امتحانًا شفهيًّا أو تحريريًّا هامًّا قد يُحس بخبرة القلق بسبب الخطر الذي يهدد أهدافه الحياتية؛ فيجد صعوبة في التركيز على مهمته المباشرة، وهي أن يقرأ أو يستمع إلى الأسئلة ثم يعوِّل على ذاكرته لتمده بالإجابات. إن انتباهه لينشغل بدلًا من ذلك بهواجس الرسوب وبالتقييم المستمر لأدائه وتفحُّص حالته الانفعالية السيئة. وهو بذلك يتشتت ولا يفهم الأسئلة وتتعثر محاولاته لاستدعاء المادة وتكوين العبارات المناسبة. هذه الظاهرة التي تشمل تعطل الذاكرة وضعف الأداء ليست ناجمة عن القلق بحد ذاته، بل عن تقيُّد الانتباه بأفكار ومشاعر غير متصلة بالموضوع.

هناك مجموعة مشابهة من الاستجابات النفسية قد تنتج عن التعرض للخطر الجسدي. فالجندي الذي يخوض الحرب لأول مرة قد يحس بصعوبة في التركيز وفي تحويل بؤرة انتباهه، وقد يتثبَّت انتباهه على فكرة الخطر والرغبة في الهروب؛ بحيث يعجز عن فهم الأوامر وتنفيذها. تلك الأوامر التي من شأنها أن تحفظ حياته. وهناك خبرات مشابهة يذكرها أناس في مواقف أخرى ذات خطر. فقد ينشغل متسلق الجبال المبتدئ بهاجس السقوط وهو يرتقي منحدرًا شاهقًا؛ بحيث ترتبك خطواته أو تتعثر ومن ثَم يعرض نفسه للخطر الحقيقي.

لنقارن الآن بين استجابات الخطر الحقيقي وبين تلك الخبرات التي يحسها المصاب بحالة عصاب القلق الحاد. إن مريض القلق يشبه ذلك المتعرض لتهديد فعلي في بعض الأوجه؛ فهو مفرط اليقظة للمثيرات المقترنة بالخطر يسترعي انتباهه أي تغير في بيئته (صوت مفاجئ مثلًا) ولديه في نفس الوقت صعوبة في تركيز انتباهه على العناصر البيئية التي لا تنُم على خطر.

ورغم أوجه الشبه فإن مريض القلق الحاد يختلف عن المتعرض للخطر الحقيقي اختلافًا كبيرًا. فالخطر الذي يحسه مريض القلق لا وجود له أو هو مبالغ فيه إلى حد كبير. وهو غير مشغول فحسب بفكرة الخطر بل هو دائمًا وأبدًا يفسر المثيرات المأمونة كدلائل خطر.

ليست مشكلة مريض القلق العصابي في تسمية المثيرات بالدرجة الأولى أو في نعتها — فبإمكانه للتو أن ينعت صوتًا ما بأنه صوت عالٍ — ولكن مشكلته فيما يلصقه من معان ودلالات ببعض المثيرات المعينة. إن تأويلاته تميل إلى أن تكون بعيدة الاحتمال وغير واقعية. فحين يسمع صفارة إنذار فذلك يعني عنده أن منزله يحترق. وحين يحس ألمًا في مؤخرة رأسه فذلك قد يعني إصابته بسكتة دماغية. وحين يرى شخصًا غريبًا يقترب منه فقد يعتبره مهاجمًا مغيرًا. ويظل يفسر الأحداث والوقائع كدلائل خطر بلا تمييز، وتتراكم هذه التفسيرات فتشكل نظرةً محرَّفة للعالم الواقعي وقلقًا متصاعدًا. هذا التأويل السيئ للمواقف يشكل تحريفًا معرفيًّا cognitive distortion يتراوح بين الزلل الطفيف والخطأ الثقيل الفادح.
تقيُّد الانتباه، تقلص الوعي، التجريد (الفصل/الاجتزاء) الانتقائي selective abstraction، التشويه والتحريف. هذه الظواهر السلبية ليست وقفًا على عصاب القلق الحاد بل هي تحدث أيضًا في العصابات الحادة الأخرى كالاكتئاب والهوس الخفيف وحالات البارانويا. تختلف هذه الحالات من حيث صنف الانفعال الناجم: الحزن، الانشراح euphoria، الغضب. ويمكن رد هذه الاختلافات في الانفعال إلى اختلاف المعاني الشاذة أو اختلاف تيمات themes التفكير بين هذه الاضطرابات. ففي كل نوع من العصاب، كما سوف نرى، تجد المريض يلوي الحقائق كي توافق التصورات التي تهيمن على تفكيره. إن اضطرابات التفكير هي أيضًا في القلب من العصابات الأخرى كالهستيريا والرهاب والوسواس القهري.

الاضطرابات العصابية

رغم أن الاضطراب الانفعالي الحاد قليل الحدوث لا يعرض بكثرة للممارسين؛ فإن سماته الصارخة تساعدنا على فهم الأشكال العصابية الأكثر شيوعًا وتضيء لنا جوانبها الأكثر صعوبة وخفاءً. إن اضطراب التفكير في العصابات الأقل إثارة قد يقتصر على مواقف معينة أو يرتبط بمشكلات محددة تمس من المريض نقاط ضعفه وحساسيته بينما يبقى تفكيره في المواقف الأخرى معقولًا ومتناغمًا مع الواقع. غير أننا يجب أن نذكر أن هذه العصابات الأكثر إزمانًا وأقل حدةً قد تعترض مسارها سورات (نوبات) episodes شبيهة بالاضطراب الانفعالي الحاد.

وبما أن ضيق التفكير وتثبيت الانتباه وتحريفات الواقع أشياء واردة في كل أنواع العصاب؛ فإن الفروق المحورية بين العصابات يجب أن نلتمسها في مضمون الفكر الشاذ وليس في شكله. وقد أرجأنا الحديث عن غرائب التفكير التي تسِم كل أصناف العصاب والتي تشكل نقاط التقاء، لكي نعرض الآن لفحص نقاط الاختلاف بينها في محتوى الفكر.

في تلك العصابات المتسمة بالانفعالات الزائدة نجد أن الحالة الانفعالية المميزة لكل اضطراب تتولد من محتوى بعينه من الفكر الشاذ. فالحزن، وهو الانفعال المميز للاكتئاب، ينجم من ميل المريض إلى تفسير خبراته بوصفه محرومًا ضعيفًا مقهورًا. والانشراح euphoria في حالات الهوس الخفيف hypomania ينتج من الانشغال الدائب بفكرة تعزيز الذات وإعلاء شأنها. ومريض القلق يتخطفه الكرب والضيق بسبب غلوِّه في تأويل خبراته كإشارات خطر وتهديد. بينما يستبد الغضب والحنق بمريض البارانويا بسبب ثبوته عند أفكار الإساءة والاضطهاد.
وقد استقيت المعطيات الأساسية التي استندت إليها في عملية التحقق من اضطرابات التفكير عند العصابيين من مدوِّنات حرفية لما لفظوا به أثناء العلاج النفسي أو التحليل النفسي الرسمي (Beck, 1963; 1967)، والتي تدور حول هواجسهم الكبرى المتكررة وتفسيراتهم للمواقف الحياتية وأفكارهم الأوتوماتيكية. لقد كانت مشاغلي في ذلك الحين مناقضة للمحتوى الذي برز لي في هذه التجربة. وهذه الحقيقة لا شك تضائل من احتمال أن أكون قد أثَّرت على إدلاءاتهم أو أوحيت لهم بشيء غير نابع منهم. لقد لاحظت مثلًا ارتباط مشاعر الاكتئاب بفكرة الفقدان ومشاعر القلق بفكرة الخطر. وتكررت هذه الملاحظات مرارًا بحيث اضطرتني إلى أن أعدِّل فكرتي عن هذه الأمراض. فبدأت الصياغات الجديدة تحل بالتدريج محل نظريات التحليل النفسي التي كنت قد تعلمتها واعتقدت فيها والتي تفسر الاكتئاب كنتاج لعدوانية محوَّلة ضد الذات، وتفسر القلق كنتاج لرغبة محرَّمة باللاشعور تهدد باقتحام الوعي.
وقد قمت في البداية بتسجيل النتائج والاستنتاجات التي استوت لي من دراسة ٨١ مريضًا كنت أعالجهم (Beck, 1963)، والتي ثبتت لدى دراسة عينة لاحقة تتكون من مائة آخرين من مرضاي (Beck, 1970c). وقد وجدت أيضًا أثناء المقابلات التشخيصية لمرضى العيادة أن نواب الطب النفسي قد حصلوا على مادة تدعم تلك الصياغات. كما وجدت تدعيمًا لها أيضًا في عدد من الاستقصاءات الضابطة قامت بها مجموعتي البحثية (Beck, 1961; Loeb, Beck, and Diggory, 1971)، وفي ملاحظات ودراسات مستقلة قام بها ممارسون وباحثون آخرون (Ellis, 1962; Velten, 1967).

وعلى أساس من الملاحظات الإكلينيكية والدراسات المنهجية أمكنني أن أميز بين الاضطرابات العصابية الشائعة بحسب الفروق في محتوى الفكر. وفيما يلي جدول يوضح هذه الفروق:

جدول ٤-١: محتوى الفكر في الاضطرابات العصابية.
الاضطراب المحتوى الفكري الخاص
الاكتئاب انتقاص من المجال الشخصي
الهوس الخفيف تقدير مبالغ فيه للمجال الشخصي
عصاب القلق خطر يهدد المجال الشخصي
الرُّهاب خطر مرتبط بمواقف محددة يمكن تجنبها
حالات البارانويا اعتداء غير جائز على المجال الشخصي
الهستيريا تصور اضطراب حركي أو حسي
الوسواس تحذير أو شك
الطقوس القهرية أمر ذاتي بتأدية فعل محدد لدفع خطر

الاكتئاب

يرتكز المحتوى الفكري لمرضى الاكتئاب على فكرة الفقد … على وقوع فقدان كبير. فيحس المريض منهم أنه قد خسر شيئًا يراه ضروريًّا لسعادته أو طمأنينته، ويتوقع من أي مشروع هام نتائج سلبية، ويرى نفسه مفتقدًا للصفات اللازمة لتحقيق أهداف ذات شأن. وبإمكاننا أن نصوغ هذه التيمة فيما يسمى «الثلاثي المعرفي the cognitive triad»: تصور سلبي للذات، تفسير سلبي لخبرات الحياة، نظرة عدمية للمستقبل.

يؤدي الإحساس بالفقد النهائي وتؤدي التوقعات السلبية إلى الانفعالات المميزة للاكتئاب: الحزن، والإحباط، والتبلد. فضلًا عن أن الاكتئابي حين يقوى فيه الإحساس بالتورط في موقف بغيض ومشاكل عصية تتبدد دافعيته التلقائية البناءة، وربما غلبه ميل قاهر إلى الهرب من هذه الحالة غير المحتملة عن طريق الانتحار.

الهوس الخفيف

محتوى الفكر عند مريض الهوس والهوس الخفيف هو نقيض محتواه عند الاكتئابي. فالهوسي يرى في كل خبرة من خبرات حياته مكسبًا كبيرًا، ويسبغ على خبراته قيمًا إيجابية دون تمييز، ويتوقع من مساعيه وجهوده نتائج مواتية دون سند من الواقع، ويبالغ في تقدير قدراته. وتؤدي هذه التقديرات الإيجابية إلى مشاعر الانشراح euphoria. كما أن الفيض المتلاحق للتقييمات الذاتية المتضخمة والتوقعات المفرطة التفاؤل تشحنه وتحمسه وتدفع به في نشاط مستمر.

عصاب القلق

يسيطر على تفكير مريض القلق تيمات مفادها وجود خطر يتهدد مجاله الشخصي. فهو يتوقع أحداثًا مؤذية له أو لأسرته أو لممتلكاته أو لمركزه ومكانته وغيرها من القيم المعنوية التي يقدرها. وإذا كان مريض الرهاب يُحس بقلق في مواقف يمكن تجنبها؛ فإن مريض عصاب القلق يحس الخطر في مواقف لا يملك تجنبها. فهل بوسع الخائف دومًا من مرض خطير أو قاتل سوى أن يفسر أي عرض فسيولوجي غير معتاد كعلامة على هذا المرض؟ إن ضيق التنفس عنده دليل على إصابته بنوبة قلبية، وأي إسهال أو إمساك أو ألم غامض دليل على إصابته بالسرطان. وكثيرًا ما يشمل بمخاوفه المثيرات الخارجية، فيفسر أي صوت مفاجئ كنذير بكارثة، وتثير أي ضوضاء عارضة بالمنزل مخاوفه من لصوص يقتحمونه، وتثير فرقعة محرك السيارة (لاشتعال الوقود قبل الأوان) احتمال كونها طلقات رصاص، ويثير صياح أحد الصغار تصورات عنف جسدي.

وكثير من مرضى القلق يتركز خوفهم على الأذى النفسي بالدرجة الأولى. فيكون الهاجس الغالب على أحدهم هو أن الآخرين والغرباء وحتى أصدقاءه سوف يرفضونه ويهينونه ويحقرونه. وصفوة القول أن توقعات الأذى البدني والنفسي ترتبط بالقلق وتوثق به؛ بحيث تثيره كلما ثارت وتبعثه أينما وجدت.

الرُّهاب (الفوبيا، المخاوف المرضية)

في حالة اضطرابات الرهاب يكون توقع المريض للأذى الجسمي والنفسي مقصورًا على مواقف محددة؛ فإذا أمكنه تجنبها لم يعد لديه شعور بالخطر وربما أحس بالأمن والطمأنينة. أما إذا اضطرته الظروف إلى الدخول في هذه المواقف أو حمل نفسه على دخولها عسى أن يتغلب على مشكلته؛ فإنه يعاني نفس الأعراض الذاتية والفسيولوجية الخاصة بمريض القلق العصابي.

وكما هو الحال في الاضطرابات النفسية السابقة، فإن الاستجابة المعرفية للموقف المثير عند مريض الرهاب قد يعبر عنها في صورة لفظية خالصة أو في صورة تخيلات. فهذه امرأة مصابة برهاب المرتفعات تغامر بالصعود إلى الطابق العشرين من أحد المباني؛ فتتملكها خيالات بصرية وتظن أن الأرض تميد بها وأنها تنزلق تجاه النافذة وأنها تسقط منها، وتحس قلقًا شديدًا كما لو كانت خيالاتها واقعةً خارجية حقيقية.

يتأسس الخوف من مواقف محددة على تصور مبالغ فيه من جانب المريض. وهو تصور يصبغ هذه المواقف بصبغة الخطر. فالمصاب برهاب الأنفاق يخشى أن النفق سينهار عليه وأنه سيختنق أو يصاب بمرض حاد يهدد حياته ولن يجد أحدًا ينقذه. والمصاب برهاب المرتفعات يستجيب لها استجابة الخوف من احتمال أن يسقط منها أو احتمال أن ينهار المبنى أو احتمال أن يقذف نفسه باندفاعة لاإرادية.

حالات البارانويا

دأبُ مريض البارانويا أن يفترض أن الآخرين يتعمدون الإساءة إليه والتدخل في شئونه وتعويق أهدافه. وإذا كان الاكتئابي أيضًا يتوهم أنه مُهان مرفوض من الآخرين؛ فإنما يشعر بذلك عن قناعة منه بأنه يستحق الإهانة ويستأهل الرفض. أما البارانوي فتشغله، على العكس، فكرة الظلم الواقع عليه. إن التيمة الرئيسية في تفكيره هي «أنا على صواب … هو على خطأ.» بينما التيمة الرئيسية عند الاكتئابي هي «أنا على خطأ … هو على صواب.» البارانوي إذَن لا يعاني من نقص اعتبار الذات self-esteem الذي يعاني منه الاكتئابي؛ فهو مهموم بالاعتداء الظالم على مجاله الشخصي وليس بخسائر حقيقية قد لحقت بهذا المجال.

ويمكننا أن نلخِّص الفروق بين عصاب القلق، والاكتئاب العصابي، وحالات البارانويا، بأن مريض القلق يركز على احتمال وقوع هجوم على مجاله الشخصي، بينما يركز البارانوي على الظلم والإجحاف والدوافع الخبيثة من وراء هجوم مفترض أو انتهاك مزعوم لحدوده. أما مريض الاكتئاب فينصب تركيزه على الفقدان المفترض والذي يعزوه إلى عجز فيه وقصور خاص به.

الوساوس والطقوس القهرية

يتعلق محتوى الوساوس بصفة عامة بخطرٍ ما بعيد يظهر في هيئة شك أو حيطة. فمريض الوسواس قد يبقى في شك مما إذا كان قد أدى عملًا ما ضروريًّا لتأمين سلامته (أطفأ فرن الغاز على سبيل المثال)، أو أنه سيتمكن من أداء عمل ما كما ينبغي. إن أفكاره تختلف عن أفكار مريض القلق في أنها تنصب على عمل من الأعمال يعتقد أنه كان يجب أن يعمله (إطفاء الفرن في المثال السابق) أو عمل يعتقد أنه كان يجب ألا يعمله (مثل ذلك المريض الذي يؤرقه احتمال إصابته بسرطان الدم لأنه لمس ثوب أحد المصابين).

أما الطقوس القهرية فتتألف من محاولات تهدئة الشكوك والوساوس عن طريق الفعل. مثال ذلك غسيل اليد القهري فهو قائم على اعتقاد المريض أنه لم يزل كل القذر والأوساخ من بعض أجزاء جسمه، وهو مما يعرضه لخطر المرض الجسمي أو يجعل رائحته كريهة. وكثيرًا ما نعاين الثالوث المتلازم: رهاب – وسواس – طقس قهري، كما في حالة ذلك المريض الذي كان يخشى الإصابة بالإشعاع فيتجنب (رهاب) كل الأشياء التي قد تصدر إشعاعًا مثل الساعات ذات الميناء المشع وأجهزة التليفزيون، وحين تضطره الظروف إلى لمس شيء منها يظل يراوده احتمال التلوث (وسواس)، مما يحمله على أخذ حمامات متكررة طويلة كي يزيل المادة المشعة التي يتوهمها (طقس قهري).

الاستجابات الهستيرية

في حالة الهستيريا يعتقد المريض أن به اضطرابًا جسميًّا. وحيث إن المرض الذي يتخيله غير قاتل؛ فهو يميل إلى قبوله دون قلق كبير. والهستيريون أصحاب خيال حسي sensory imagers بالدرجة الأولى، بمعنى أنهم يتخيلون مرضًا معينًا ثم يتخذون من الخبرة الحسية دليلًا على وجوده عندهم. فمريض الهستيريا في صورتها النموذجية تتلبسه خبرات حسية وحركية شاذة تطابق الصورة المغلوطة التي يحملها في ذهنه عن المرض العضوي.

الذهان

رغم أن الموضوع المعقد للذهان يخرج عن نطاق بحثنا؛ فقد يكون من المفيد في هذا المقام أن نقارن بين المحتوى الفكري للذهانات والمحتوى الفكري للعصابات. إن التيمات الفكرية للاكتئاب الذهاني تماثل نظائرها في الاكتئاب العصابي، والمحتوى الفكري في الفصام البارانوي يشبه ضريبه في حالات البارانويا. كذلك الأمر بين استجابة الهوس والهوس الخفيف. غير أن المحتوى الفكري في الذهان أكثر غرابة وشذوذًا وإغراقًا مما هو في العصاب. فإذا كان الاكتئابي العصابي يرى نفسه غير كفء اجتماعيًّا؛ فإن الاكتئابي الذهاني قد يصل به الغلو والإسراف إلى الاعتقاد بأنه يبعث روائح مقززة تنفِّر عنه الناس.

فالذهانات بصفة عامة تتضمن اختلالًا معرفيًّا أبرز وأوضح مما هو في العصاب، والمحتوى الفكري الملازم لها أشد حدة وأعصى على التعديل والتصحيح. والذهاني أقل قدرة بكثير على الرؤية الموضوعية لأفكاره الخاطئة وأبعد عن المنطقية والواقعية في تفكيره.

طبيعة اضطرابات التفكير

جرت العادة على أن يعتبر اضطراب التفكير في غياب مرض عضوي ملمحًا من ملامح الفصام، بينما تعتبر اضطرابات الاكتئاب والهوس والقلق بمظاهرها الانفعالية الصارخة اضطرابات وجدانية أو انفعالية في صميمها. غير أن بحوزتنا الآن أدلة دامغة على أن اضطراب الفكر مكوِّن هام من مكونات الأمراض النفسية الشائعة. ثمة اضطرابٌ ما في التفكير في جميع هذه الأمراض وإن يكن أقل حجمًا وأكثر تحددًا وانحصارًا مما هو في مرض الفصام.

لقد وجدت في دراسة طويلة الأمد (Beck, 1963) أنه ما من مريض من المرضى إلا ويسيء تفسير أنواع معينة من الخبرات. وقد تفاوت هذا التحريف للواقع من الخطأ الطفيف في الحالات العصابية الخفيفة إلى التحريفات المغرقة الشاذة والضلالات المعهودة في الذهانيين. لقد أظهر التفكير الشاذ للمرضى خروجًا منظمًا عن الواقع والمنطق يتضمن «الاستدلالات الاعتسافية أو الاعتباطية» arbitrary inferences، و«التجريدات (الاجتزاء/الاقتطاع/الفصل) الانتقائية» selective abstractions، و«التعميمات المفرطة» overgeneralizations. وكانت التحريفات دائمًا متصلة بالأفكار التي تمس المشكلة الخاصة بالمريض؛ فكانت تحريفات الاكتئابي تبرز للعيان عندما يفكر في قيمته وجدواه، وتحريفات مريض القلق عندما يتناول فكرة الخطر.

كان لهذه الأفكار المحرفة خصائص الأفكار الأوتوماتيكية (انظر الفصل الثاني). فقد كانت تبدو كأنها تأتي بطريق الانعكاس، من دون تأمل أو استدلال مسبق. وكانت تبدو للمريض معقولة رغم أنها بالنسبة للآخرين بعيدة الاحتمال لا يقبلها عقل. وكانت، أخيرًا، أقل قبولًا للتغيير في ضوء العقل والأدلة المناقضة من الأفكار الأخرى التي لا تتصل بالنمط السيكوباثولوجي المميز للمريض. كما لاحظت تدرجًا في عطب التفكير يمتد بين طرفي العصاب الخفيف والذهان الشديد، وأن المرض الواحد كلما اشتد تزايدت فيه درجة التحريف الفكري ومعدل تكرار الأفكار المحرَّفة ومدى رسوخها وثباتها.

الشخصنة (التنسيب الشخصي) Personalization

الإنسان كائن متمركز على ذاته. وقد أثار هذا التمركز المحتوم على الذات اهتمام الكتَّاب والفلاسفة ردحًا طويلًا من الزمن. يبدو أن لكل إنسان، بمعنًى ما، عالمًا خاصًّا، وأن كل إنسان هو مركز عالمه الخاص ومحوره. وقد وصف هيدجر Heidegger (١٩٢٧م) وغيره كيف يشيد كل فرد من البشر عالمه الخاص. غير أن هذا لا ينفي أن لدى البشر بصفة عامة قدرةً على أن يقيموا أحكامًا موضوعية عن الأحداث الخارجية، أو حتى عن أنفسهم. وأن يفصلوا بين المعنى الشخصي لحدثٍ ما وبين سماته الموضوعية. أي أنهم قادرون على إقامة أحكام على مستويين مختلفين؛ مستوى يتصل بهم (أو بمجالهم) وآخر منفصل عنهم. أما في الاضطرابات النفسية فنجد أن الأحكام المتمركزة على الذات تسيطر على المريض وربما أطاحت بالأحكام الموضوعية وأزاحتها تمامًا. يُطلَق على هذه النزعة إلى تفسير الأحداث وفق معانيها الشخصية تسميات مثل الشخصنة personalization، والإحالة الذاتية self-reference.
وخير إيضاح لعملية الشخصنة أو الإحالة الذاتية هو أن ننظر في بضعة أمثلة بلغت فيها هذه العملية غايتها من الغلو والإغراق، ولا سيما عند من نسميهم الذهانيين. مثل ذلك الفصامي البارانوي paranoid schizophrenic الذي كان يعتقد أن الصور التي يراها على شاشة التلفاز تتحدث إليه مباشرة؛ ومن ثَم فقد كان يرد عليها. ومثل ذلك الاكتئابي الذهاني الذي سمع بوجود وباء في بلد بعيد؛ فكان يؤنب نفسه على التسبب فيه. ومثل تلك المرأة الهوسية manic التي كانت تعتقد أن كل شخص تعبر به في الطريق كان واقعًا في حبها. من ذلك نرى أن المرضى الذهانيين يفسرون دائمًا كل حدث لا يتصل بهم من قريب أو بعيد كما لو كان متسببًا عنهم أو موجهًا ضدهم.

للعصابيين أيضًا أساليب من الإحالة الذاتية وإن تكن أقل تطرفًا. فالعصابيون يرون الأحداث دائمًا تخصهم وتعنيهم، ويبالغون في ربطها بذواتهم، وتستغرقهم المعاني الشخصية لوقائع معينة. كشأن ذلك الاكتئابي العصابي الذي يلحظ عبوسًا في وجه شخص آخر فيحدث نفسه: «إنه ينفر مني.» من الجائز في هذه الحالة أن يكون حكمه صحيحًا، ولكن الخطأ هنا قابع في اعتقاده أن كل تقطيبة يراها في غيره من الناس تمثل نفورًا منه شخصيًّا. إنه يظن أنه يثير مشاعر سلبية في الآخرين ويبالغ في تقدير معدل هذه المشاعر ودرجتها. ومن أمثلة الإحالة الذاتية في العصاب حالة تلك الأم الاكتئابية التي تؤنب نفسها على كل تقصير يأتي من جانب أطفالها. وحالة ذلك المريض بالقلق العصابي الذي يحسب كلَّ صيحة عليه وكلَّ إنذارِ خطر يخصه؛ فيكفي أن تعبر سيارة إسعاف لكي يحدِّث نفسه بأن ولده وقع له حادث.

هناك صورة أخرى من صور الشخصنة تتمثل في ذلك الميل المسيطر عند الإنسان إلى مقارنة نفسه بغيره من الناس؛ فهذه امرأة تشاهد لوحة إعلانات تمثل امرأة سعيدة مع طفلها، فتحدث نفسها: «إنها أم أكثر مني إخلاصًا وتكريسًا بكثير.» وهذا طالب يسمع بفوز طالب آخر بجائرة فيفكر: «لا بد أنني غبي وإلا كنت فزت بالجائزة.» وهذا المريض الرهابي الصغير الذي يقرأ عن شخص مسنٍّ أصيب بنوبة قلبية فيقول لنفسه: «إذا كان هذا أصيب بنوبة قلبية؛ فمن الممكن أن تحدث لي.» ثم يبدأ في الإحساس بألم في صدره.

في كل وجه من أوجه التفكير الشاذ عند العصابيين قد نجد هذا اللون الذاتي الأساسي. وسوف نعرض في الفصل العاشر لعملية «فض المركزية» decentering ويعني تدريب الفرد على اتخاذ إطار مرجعي frame of reference لا يكون هو محورًا له.

التفكير المستقطب Polarized Thinking

ينزع العصابي إلى التطرف والشطط في التفكير حين تكتنفه مواقف تمس الجوانب الحساسة من نفسه، مثل تقديره لذاته في حالة الاكتئاب، واحتمالات الخطر الشخصي في حالة عصاب القلق. وقد يقتصر الشطط الفكري على مناطق قليلة. ويعني الشطط (التطرف الفكري) thinking in extremes أن تسِم الأحداث والوقائع بأنها بيضاء أو سوداء، حسنة أو سيئة، رائعة أو فظيعة. وقد أطلق على هذه الخاصة اسم «التفكير المنقسم» dichotomous thinking أو «التفكير الثنائي القطبية» bipolar thinking (Neuringer, 1961). شأن المقدمات الأساسية التحتية لهذا النوع من التفكير أن تُصاغ في حدود مطلقة مثل «دائمًا» أو «مطلقًا».

ولنضرب لذلك مثالًا من الحياة اليومية. وهو ذلك الشاب الذي كان موثَّقًا عند مفهوم القبول المطلق والرفض المطلق. لقد دأب أن يتفحص كل من يصادفه في حياته اليومية — موظفًا في متجر أو عابرًا بالطريق — ليرى ما إذا كان هذا الشخص يتقبله أو يرفضه. ولم يكن بوسعه أن يعدِّل حكمه ويحوِّره ليشمل الدرجات الدقيقة مثل القبول البسيط أو الرفض الطفيف أو الحياد. فقد كان الحياد (أو عدم الاكتراث) يمثل له رفضًا ويورثه حزنًا. وكان مجرد الابتسام يمثل له قبولًا تامًّا ويبعث فيه الانشراح.

ولنأخذ مثالًا آخر لهذا الصنف من التفكير. هذا شاب جامعي يلعب كرة السلة؛ فإذا ما سجل أقل من ثماني نقاط في إحدى المباريات فإنه يقول لنفسه: «إنني فاشل.» ويغشاه الحزن. أما إذا سجل ثماني نقاط أو أكثر فيقول: «إنني حقًّا لاعب عظيم.» ويغمره الانتعاش والبهجة.

وأحيانًا ما يكون التطرف الفكري أحاديَّ القطب unipolar. فيرى الشخص الوقائع على سبيل المثال إما غاية في السوء أو محايدة أو لا تعنيه من قريب أو بعيد. من ذلك تلك الخاصة الفكرية التي تسمى «الفكر الكارثي» أو «التهويل» catastrophizing، وهي شائعة في مرضى القلق، وتعني توقع أسوأ النتائج قاطبة. إن تفكير مريض القلق موجه نحو تأمل أسوأ النتائج المحتملة لأي موقف من المواقف؛ شأن ذلك المريض الذي تلقى خدشًا بذراعه فانكب من فوره على احتمال أن يؤدي ذلك إلى عدوى قاتلة.

وقد يقتصر ميل الإنسان للتطرف الفكري على الأشياء المادية الملموسة. كشأن ذلك الرجل الذي كان ينزعج لأقل ضرر يلحق بممتلكاته المادية؛ بحيث إن أقلَّ خدش في أثاثه أو انبعاجة في سيارته أو تآكل بملابسه كان يمثل له خسارة كبرى. حدث ذات يوم أن كتلة لهب أكبر من المعتاد قد سعفت حاجز مدفأته. فلما اكتشف ذلك أقام الدنيا وأقعدها وكانت أفكاره كالتالي: «هذا تشوُّه مستديم يستحيل إصلاحه. لقد أفسد الغرفة بأكملها. الغرفة التي كانت على خير ما يرام وهي الآن حطام. إن حماقتي وغبائي هما السبب. إنني لا أجيد عمل أي شيء على الإطلاق.» ولكنه بمرور الأيام بدأ ينظر إلى الأمر نظرة أكثر موضوعية؛ ليرى أن العطب الذي لحق بمدفأته كان في الحقيقة عطبًا هينًا غير ذي بال.

من شأن الأشخاص الذين يغضبون لكل مثير مؤذٍ يصادفهم أن يقعوا أيضًا في التطرف الفكري والأحكام المغالية. مثل ذلك الوالد الذي أضاع ابنُه قفازًا؛ فكانت استجابته هكذا: «هذا شيء فظيع. لسوف تخرب بيتنا وتنتهي بنا إلى المأوى. إنك لا تصلح لشيء.»

هناك ضروب أخرى من التفكير المؤدي إلى تحريف الواقع وإساءة تفسيره. وهي تنضوي أيضًا تحت مفهوم الشطط وتطرف الحكم (Beck, 1963) منها «التجريد الانتقائي» (الاجتزاء) وهو أن ينتزع الشخص إحدى التفصيلات من سياقها فتفوته بذلك دلالة الموقف الكلي. ومنها «الاستدلال الاعتسافي» arbitrary inference وهو أن يقفز الشخص إلى نتيجة معينة رغم نقص الأدلة أو في وجود أدلة مناقضة لها في واقع الأمر. ومنها «التعميم المفرط أو الزائد» overgeneralization وهو أن يقفز إلى تعميم غير مشروع (منطقيًّا) بناءً على واقعة واحدة؛ مثل ذلك الطفل الذي يخطئ خطأً واحدًا؛ فيستنتج أنه فاشل لا خير فيه. توضح هذه الأمثلة كيف يتولد التفكير الزائغ في المواقف التي تمس حساسيات معينة مثل: القبول-الرفض، النجاح-الفشل، الصحة-المرض، المكسب-الخسارة.

مبدأ القواعد

رأينا في الفصل الثاني أن لدى الفرد مجموعة من القواعد يحل وفقًا لها رموز خبراته ويقيِّمها وينظم سلوكه وسلوك الآخرين. تعمل هذه القواعد عملها دون أن يعي المرء بها أو يُلِم بقائمتها إلمامًا واعيًا. إنه يلتفت إلى تيار المثيرات التي تكتنفه التفاتًا انتقائيًّا؛ فيلتقط منها ما يعنيه ويجمعه ويصنِّفه ويشكِّل استجاباته دون أن يقف على منطوق القواعد والمفاهيم التي تملي هذه الاستجابات والتفسيرات. إن عمل جهاز «المدخل-المخرج» input-output لديه هو عمل تقريبي بعيد عن الكمال.

لا جَرم تبرز مشكلات في فهم المرء لسلوك الآخرين. إن محدودية خبرته السابقة وقصورها قد يحملانه على أن يستنبط من سلوكهم معاني غير صحيحة: مواقفهم المضمرة تجاهه، ونواياهم الحالية، وسلوكهم المحتمل تجاهه في المستقبل.

تطرَّقنا في مثال سابق (الفصل الثاني) لحالة طالب يصحح له المعلم خطأً فيظل يسائل نفسه: «هل هذه إيماءة ودِّية؟ أو هي تعني أنني أزعجت المعلم؟ هل تعني أنه يعتبرني بليدًا؟ أو ربما يقسو عليَّ في الدرجات؟» إذا نظرنا إلى هذا المدى الواسع للاستدلالات المحتملة من تفاعل واحد زايلنا العجب من حساسية كثير من الطلبة تجاه تعليقات المعلمين.

أحيانًا ما يقرأ أحد الطلبة في تعليق معلمه جفاءً يفوق ما يقصده المعلم. إن بوسعه أن يسترد توازنه النفسي إذا كانت هذه المبالغات والتحريفات في التفاعل طفيفة عابرة. ولكن دعنا ننظر حالة طالب ذكي تحمله حساسيته الخاصة على أن يعتبر أي نقد يوجَّه إليه بمثابة تسفيه وانتقاص. إن تراكُم النقد يجعله عرضة بشكل متزايد لأن يسمي كل ملاحظة أو اقتراح من معلمه تسفيهًا وانتقاصًا. فلو لم يتغير الحال بموقف إيجابي واضح من جانب المعلم؛ فإنه ينتهي به إلى أن يحمِّل الأمر ما لا يحتمله. ويبدأ في تصور أي رسالة محايدة أو إيجابية بعض الشيء على أنها ازدراء. ثم يتوسع في التعميم ليشمل كل المعلمين فيرى أنهم جميعًا انتقاديون وأنه غبي بليد. ويتقدَّم بناءً على هذه الأدلة ليخلص إلى نتيجة مفادها أنه متخلف تخلفًا تامًّا لا خلاص منه ولا أمل فيه. ولنتصور هذا الطالب أيضًا عائدًا إلى حجرته يجتر هذه الاتهامات والخطايا إلى حد أنه لا يعود قادرًا على التركيز في عمله. فيتدهور أداؤه في الفصل. فيفسر هذا التدهور وهذا التشتت كدليل على تخلفه. إن أضفنا الآن هذا الكرب المحتوم — حزنًا مثلًا ممتزجًا بالقلق — فنحن أمام إرهاصات مرض نفسي؛ إذ لو استمرت هذه الحالة أيامًا عديدة أو أسابيع فإنها ستغدو حالة اكتئاب.

نستطيع الآن أن نحلل هذه الحالة وفق قائمة القواعد الخاصة بهذا الطالب؛ فهو يطبق في كل تفاعل مدرسي قواعد تتعلق بتقييمات المعلم. إنه يستخدم القواعد الآتية: «إن أي نقد من المعلم يعني أنه يعتبرني غبيًّا،» «وحين يعتبرني أحد الخبراء غبيًّا فأنا غبي،» «وما دمت غبيًّا لن أصل إلى شيء.» عندئذٍ يطبق على أدائه المتدني هذه الصيغة: «إن عدم كفاءتي دليل على أني غبي.» بل إن لديه قاعدة بشأن الكرب الناتج: «ما دمت حزينًا فهذا يعني أن حالي لن ينصلح.» إنه كما نرى يطبق سلسلة من العمليات المنطقية كل نتيجة فيها تشكل مقدمة للنتيجة التالية.

لكل اضطراب من الاضطرابات النفسية التي سبق شرحها منظومتها الخاصة من القواعد؛ ففي عصاب القلق تتعلق القواعد بمفهوم الخطر وبتقدير المريض لمدى قدرته على مغالبته، وتتخذ النتائج المستمدة من تطبيق القواعد شكل تنبؤات من قبيل: «إنني في خطر وشيك أن أفقد أغلى حيثياتي (الصحة، الحياة، صديقًا، وظيفة).» «ليس لديَّ من وسيلة لدفع هذا الخطر.» وتطبق القواعد الخاصة المؤدية إلى هذه النتائج على وقائع محددة: «إن سرعة ضربات قلبي تعني أن لديَّ نوبة قلبية، وربما أموت قبل أن يسعفني أحد.» «إذا ابتعدت عن المنزل فقد تقع مآسٍ ولن أتمكن من التغلب عليها.» «إذا فعلت أي خطأ فربما أصطدم برئيسي، عندئذٍ سوف يفصلني.»

في حالة القلق نجد أن القواعد بصفة عامة مشروطة: «إذا وقع حدث معين فهناك احتمال أن تكون له نتائج سيئة.» ومن ثَم فحين يقع الحدث بالفعل يبقى هناك احتمال لنتيجة حميدة. أما في حالة الاكتئاب؛ فإن القواعد مطلقة وغير مشروطة: «إن نقائصي الحالية تعني أنني سأبقى فاشلًا على الدوام.»

والقواعد مشروطة أيضًا في حالة الرهاب؛ فهي تنطبق على مواقف بإمكان المريض تجنبها: «إذا اجتزت خلال نفق فقد أختنق.» «إذا ذهبت إلى مكان لا أعرفه فقد أتوه.» في هذه الحالات يعمل المريض أيضًا حسب قاعدة «لن أستطيع أن أتغلب على الموقف بنفسي.» وكما هو الأمر في حالة القلق؛ فإن هذه القواعد تفترض احتمالًا كبيرًا لحدوث الكارثة، إلا أن المريض كثيرًا ما يعزز وضعه بهذا الافتراض: «إذا كان معي شخص مساعد فسوف يمكنه إنقاذي.» ولهذا نجد كثيرًا من مرضى الرهاب قادرين على الدخول في الموقف المخيف إذا توافر لديهم شخص مساعد.

أما في حالة الاكتئاب فإن منطوق القواعد يستمد معاني وتنبؤات سلبية من ظرف حاضر أو ماض. ليس في هذه القواعد بند استثنائي أو باب للهرب كما هو الحال في القلق والرهاب. ومن أمثلة هذه القواعد: «كوني غير ناجح في عملي يعني أنني فاشل تمامًا.» «ما دمت حزينًا الآن فسوف أكون حزينًا دائمًا.» «عندما تحدث أي مشكلة أكون أنا السبب.» «حين أفقد حب زوجتي؛ فهذا يعني أنني تافه لا قيمة لي.» «حين لا أحظى بالإعجاب؛ فهذا يعني أنني بغيض غير جدير بالحب.»

وفي حالات الهوس يكون مضمون الافتراضات على النقيض مما هو في الاكتئاب. وتصاغ القواعد بطريقة من شأنها أن تبالغ في أي كسب حاصل وأن تعلي من قيمة الذات: «ما يكاد الناس ينظرون إليَّ حتى يعجبوا بي.» «إذا أسند إليَّ عمل فسوف أقوم به على نحو رائع.» «كل نجاح أحققه يثبت مرة ثانية كم أنا عظيم.»

وفي حالات البارانويا يغلب أن تكون القواعد مطلقة وغير مشروطة. فمحتوى القواعد ينضح بالمؤامرات والظلم والإجحاف والمحاباة: «حين لا يتفق الناس معي في الرأي فإنهم يتعمدون مناوأتي.» «حين لا أحصل على ما أريد؛ فإن هذا يعني أن شخصًا ما كان يكيد لي.» «حين لا تسير أموري على نحو صحيح، فبسبب تدخل الآخرين فيها.»

حين نسائل مريضًا ما حول أفكاره فهو في عامة الأحوال لا يتطوع بتقديم القاعدة التي تشكل تفسيراته للأحداث، بل يذكر بدلًا من ذلك النتيجة التي انتهى إليها. فمريض القلق مثلًا يقول: «ربما أكون مشرفًا على الموت.» ومريض الاكتئاب يقول: «لقد فقدت كل شيء يهمني، إنني تافه لا أساوي شيئًا.» ومريض الهوس يقول: «إنني الأعظم.» ومريض البارانويا يقول: «كل الناس ضدي.»

إن علينا أن نرتد من النتيجة لكي نستخلص القاعدة (الفرض، المقدمة). صحيح أن بإمكان المريض في بعض الأحيان أن يأتي بمنطوق القاعدة دون صعوبة. شأن تلك المرأة الاكتئابية المشرفة على الانتحار بعد أن هجرها حبيبها، والتي قالت «إنني عديمة القيمة.» فحين سئلت عن السبب أجابت (كما لو كان هذا حقيقة عامة): «إذا لم يحبني أحد فأنا عديمة القيمة.» إلا أن الأغلب الأعم أن يستلزم استخلاص القاعدة سلسلة من الأسئلة:

مريض القلق : «أعتقد أنني أحتضر.»
المعالج : «ما الذي يجعلك تظن ذلك؟»
المريض : «إن قلبي يدق بقوة، الأشياء تبدو غائمة، لا يمكنني أن آخذ نفسي، كل جسمي يعرق.»
المعالج : «ولماذا تعتبر ذلك احتضارًا؟»
المريض : «لأن هذا يشبه الاحتضار.»
المعالج : «كيف عرفت ذلك؟»
المريض (بعد شيء من التفكير) : «أظنني أجهل ذلك. ولكني أعتقد أن هذه هي علامات الاحتضار.»
إن قاعدة هذا المريض (المقدمة premise) هي أن اجتماع هذه الأعراض يساوي الموت الوشيك. غير أن الحقيقة هي أن هذه العلامات (الخفقان، صعوبة تركيز البصر، ضيق التنفس) هي من العلامات النموذجية لنوبة القلق الحاد (قد تشير هذه العلامات بالطبع إلى خطر حقيقي على الحياة لو كانت مصحوبة بعلامات مؤكدة لمرض عضوي). بذلك يدخل كلٌّ من فكر المريض وانفعال القلق في حلقة مفرغة؛ فأفكار الموت تؤدي إلى زيادة القلق متمثلًا في الأعراض الفسيولوجية. وهذه الأعراض بدورها تفسِّر كعلامات للموت الوشيك.

كيف تتضخم هذه القواعد لتكوِّن اضطرابًا انفعاليًّا؟

ما دامت هذه القواعد تُصاغ في ألفاظ متطرفة؛ فهي تؤدي إلى نتيجة متطرفة. إنها تطبق كما لو كانت في قياس منطقي syllogism:
المقدمة الكبرى: إذا لم يحبني أحد فأنا تافهة.
الحالة الخاصة:١ ريموند لا يحبني.
النتيجة: أنا تافهة.

إن المريض بطبيعة الحال لا يدلي بسلسلة من الأفكار على شكل قياس منطقي. فالمقدمة الكبرى (القاعدة) هي جزء بالفعل من نظامه المعرفي يطبقه على الظروف الماثلة. والمقدمة الصغرى (الموقف الخاص) قد ترد بباله أو لا ترد. أما النتيجة فإنه بالتأكيد على دراية بها ووعي صريح.

بوسعنا أن نحلل اضطراب التفكير المميز للاضطراب النفسي وفق عملية القواعد. إن الانحرافات الفكرية المميزة مثل المبالغة، والتعميم المفرط، والإطلاق (الأحكام المطلقة) absoluteness مدمجة في بنية القاعدة؛ وبالتالي فهي تفعل فعلها في الضغط على الشخص لكي يضع نتيجة مبالغة أو مفرطة التعميم أو مطلقة (في الحالات السوية هناك بالطبع قواعد أكثر مرونة تخفف من حدة القواعد المتطرفة التي تطغى في حالات الاضطراب). حين ينشغل المريض بموضوع يتعلق بنقاط حساسيته الخاصة؛ فإن القواعد الأكثر بدائية تميل إلى إزاحة المفاهيم الأكثر نضجًا. وما إن يسلِّم المريض بصحة إحدى النتائج المتطرفة حتى يكون نهبًا للقواعد البدائية التي تتوسع باطِّراد وتبسط سلطانها على فكره.

إذا استسلم المريض مثلًا لهذه الفكرة «ما دام أصدقائي لم يتصلوا بي اليوم؛ فإنهم يعتبرونني تافهًا غير جدير بالحب.» فقد ينجرف إلى قبول هذه النتيجة كمقدمة لنتيجة أخرى أبعد مدى: «بما أني تافه فلن يحبني أحد أبدًا.» وهذه المقدمة تمهد الطريق للنتيجة التالية: «بدون حب لا تستحق الحياة أن تعاش، إذَن ليس هناك معنى لأن أبقى على قيد الحياة.»

١  أي المقدمة الصغرى minor premise. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤