الفصل الثامن

الذهن فوق الجسم

الاضطرابات النفسجسمية والهستيريا

«إن المرض الجسمي الذي ننظر إليه كأنه كلٌّ مكتمل في ذاته قد يكون في نهاية الأمر مجرد عرَض واحد من أعراض اعتلال مزمن ألمَّ بالجانب الروحي من الإنسان.»

ناثانييل هوثون

مشكلة الذهن-الجسم

حين يحاول علماء السلوك وضع الأسس النظرية لحالات من قبيل الاضطرابات النفسجسمية psychosomatic والهستيريا؛ فإنهم يكونون بذلك قد دخلوا نطاق الحد الضبابي الواقع بين الطب العضوي والطب النفسي، ويكون من الصعب عليهم إغفال مفاهيم من مثل الشعور والتخيل وعلاقتهما بوظائف الجسم. بذلك يجدون أنفسهم وجهًا لوجه أمام مشكلة «الذهن–الجسم»، تلك المشكلة الشائكة التي حيرت الفلاسفة عصورًا طويلة ولم يصلوا فيها حتى اليوم إلى حل مُرضٍ.

وقد يروق للمفكرين العمليين أن يطرحوا ظواهر مثل التخيل بوصفها غيبيات غير ملموسة. فحين يعاني شخص ما من شلل ناشئ من التهاب سحائي فهو يعاني من وجهة نظرهم مرضًا «حقيقيًّا»، أما صاحب الشلل الهستيري فهو إنما يعاني مرضًا «متخيلًا». ففكرة الحقيقي عندهم تقابل فكرة المتخيل. ومع ذلك فصاحب الشلل أو الألم الناجم عن تخيلاته يخبر أعراضه كأعراض حقيقية شأنها شأن المرض العضوي تمامًا.

وربما زاد تعقُّد مشكلة العِلِّية السيكولوجية كمقابل للعلية الفسيولوجية حين نفكر مليًّا في أسباب الاضطرابات النفسجسمية. فبمقدورنا في هذه الحالات أن نضع يدنا على عطب محدد مثل قرحة بالمعدة أو التهاب بالجلد، أو أن نشاهد بأعيننا الدليل على الاضطراب الفسيولوجي باستخدام جهاز مصمَّم لقياس التغيرات في ضغط الدم أو ضربات القلب. بل إن المستقصي لهذه الحالات قد يرى رأيًا لا يعوزه السداد أن المسئول عن هذا الاضطراب هو النشاط الزائد للجهاز العصبي المستقل autonomic nervous system. إن المثول العيني الظاهر والملموس للاضطراب يدل على أنه اضطراب حقيقي (حقيقة يشتد وقعها ولا شك إذا عرفنا أن مريض القرحة قد ينزف حتى الموت). غير أننا حين نتساءل عما حمل نشاط الجهاز العصبي المستقل على الزيادة ونستكشف الظروف التي أدت إلى هذا الاضطراب؛ فإن ثقتنا بالتفسيرات القائمة على الاضطراب الفسيولوجي وحده لا تلبث أن تهتز.
والصورة النموذجية في هذه الحالة هي أن نجد الشخص الذي يعاني من حدوث اضطراب نفسجسمي أو اشتداده يقرن به سلسلة من المتاعب الانفعالية التي ألمَّت به. ويذكر أنه كلما ضايقته مشكلة فإن قرحته تثور، وكلما اهتاج غضبًا فإن التهاب جلده يتفاقم، وإن يكن الضيق والغضب أشياء لا تفحص في أنبوبة اختبار أو توزن بميزان أو تقاس بجلفانومتر. أضف إلى ذلك أن الطبيب أو المعالج النفسي حين يعمد إلى تخفيف هذا العرَض فإن اهتمامه ينصب على العوامل غير الفسيولوجية؛ فيقدم للمريض إيحاءات تساعد على تخفيف الضيق أو الغضب، ويلاحظ التئام الإثنا عشر١ أو الجلد على أثر ذلك. أو يصف مهدئًا فإذا بالمريض يلحظ أن العرض الجسمي يتحسن حين أخذ قلقه النفسي في النقصان.
وقد اشتبكت المدارس ذات التوجه السيكولوجي والمدارس ذات التوجه العضوي في نزاع طويل بشأن تفسير العصاب والاضطرابات النفسجسمية فأيهما يأتي أولًا: الظاهرة النفسية أم الظاهرة الفسيولوجية؟ أما العضويون فيرون أن من السذاجة أن نسند إلى كيانات غامضة مثل الانفعالات والأفكار والصور الذهنية دورًا سببيًّا في هذه الاضطرابات. ويرون أن هذه الأحداث لا تعدو، على أحسن تقدير، أن تكون ظواهر ثانوية epiphenomena أي ظواهر غير حقيقية بل نتاجًا ثانويًّا by-product للنشاط الفسيولوجي.
لقد تعرضت هذه الاضطرابات — الهستيرية والنفسجسمية — للصنوف ذاتها من الصياغة التي قدمها الفلاسفة الذين تناولوا مشكلة «الذهن-الجسم». فأحد الاتجاهات الفلسفية وهو «المثالية» idealism يعطي أولوية مطلقة للفكر. أما «المادية» فهي، على العكس من ذلك، تؤكد أن الجسم هو الحقيقة الوحيدة وأن مفهوم الذهن هو وهم واختراع. وتسلم نظرية التفاعل المتبادل (التأثير المتبادل) interactionism بوجود كل من الذهن والجسم وبتأثير كل منهما على الآخر. أما الرأي القائل بتصاحب العمليات الذهنية والجسمية دون أن تؤثر الواحدة في الأخرى؛ فتسمى بنظرية التوازي parallelism، أي أن أي شيء يؤثر على الذهن فإنه ينعكس بأثر مواز على الجسم، والعكس بالعكس.٢ ويفترض علم نفس الجشطلت أن هناك تطابق (تناظر) نقطة لنقطة (واحد لواحد) بين خبرات الوعي والخبرات الجسمية.
وقد كان هناك ميل في السنوات الحديثة لتجاهل مشكلة «الذهن-الجسم» تحت تأثير السلوكية. فبعض السلوكيين مثل واطسون Watson (١٩١٤م) يستبعد الأفكار والمشاعر ببساطة من البحث السيكولوجي. بينما يستخدم آخرون حيلة سيمانتية (دلالية) فيسمُّون الأفكار والمشاعر «سلوكيات» علينا أن ندرسها بوصفها «متغيرات تابعة» dependent variables دون أن نخوِّلها دورًا مستقلًّا أو أوليًّا. وجدير بالذكر أيضًا أن بعض الفلاسفة يعتبر مشكلة «الذهن-الجسم» مشكلة وهمية ناتجة عن البدء بافتراضات زائفة.

ليس بوسعنا في هذا المقام أن نحاول حل مشكلة «الذهن-الجسم»، إلا أن بإمكاننا أن نستخلص النموذج الوصفي-التفسيري الذي يفِي بمقاصدنا الحالية أكثر مما عداه. إن بحث الاضطرابات النفسجسمية والهستيريا سوف يظهر بوضوح أن نموذج «التفاعل المتبادل» هو أصلحها جميعًا لفهم هذه الحالات. فهو أقدرها على تفسير الملاحظات الإكلينيكية. وهو النموذج الوحيد الذي يمكنه أن يحصر وينظم علاقات ذات معنًى بين المعطيات من مثل الإثارة الانفعالية والعطب الجسمي القابل للملاحظة، وتحسن العطب الجسمي على أثر العلاج النفسي، وانفراج التوتر الانفعالي بواسطة العقاقير المهدئة.

وصف الممارسون الإكلينيكيون عددًا من الاضطرابات التي تلعب فيها العوامل النفسية دورًا هامًّا في إنتاج الخلل الوظيفي أو الكرب الجسدي. قد تتمثل هذه العوامل النفسية في هيئة حدث أو ظرفٍ ما يشكل ضغطًا أو إجهادًا.

ويمكننا تقسيم الاضطرابات الجسمية المرتبطة باضطرابات انفعالية إلى ثلاث مجموعات:
  • (١)
    اضطرابات فسيولوجية أو اختلالات تركيبية تتضافر فيها العوامل النفسية والبنيوية (الجِبلِّية) constitutional لتنتج الاضطراب. تتضمن هذه الاضطرابات النفسجسمية٣ حالات مثل قرحة الإثنا عشر، تشنج البواب pylorospasm، التهاب القولون، وبعض حالات التهاب الجلد والضغط ونوبات تسارع ضربات القلب والصداع. هذه الاضطرابات تنشأ بصفة عامة وتتفاقم في حالات الإثارة الانفعالية.
  • (٢)
    اضطرابات جسمية أولية تؤدي العمليات النفسية إلى اشتدادها. وتشمل هذه الفئة حالات الغطاء السيكولوجي psychological overlay. مثال ذلك حالات الاعتلال القلبي وحالات البُهر dyspnea (صعوبة التنفس) الشديد الناجمة عن مرض صدري خفيف.
  • (٣)
    زيغ أو شذوذ في الإحساس أو الحركة دون مرض بالأنسجة أو اضطراب فسيولوجي ملحوظ. وتشمل هذه المجموعة طائفة عريضة من الحالات تمتد من «التصور الجسدي» والهستيريا حتى الضلالات الجسدية somatic delusions. هذه المجموعة هي، من جهات عديدة، الأكثر إثارة للاهتمام من بين الاضطرابات الجسمية المرتبطة بعوامل نفسية.

الاضطرابات النفسجسمية

تعرَّف الاضطرابات النفسجسمية بأنها اختلالات تمكن معاينتها في وظيفة أو تركيب عضو من الأعضاء أو جهاز فسيولوجي من أجهزة الجسم مثل: الجلد، الجهاز الهضمي، الجهاز البولي التناسلي، الجهاز الدموي القلبي، الجهاز التنفسي … إلخ. تحتوي هذه الأجهزة على عضلات ملساء لا إرادية يغذيها الجهاز العصبي المستقل. غير أن الجهاز العضلي الهيكلي المكون من العضلات المخططة الإرادية قد يصاب هو أيضًا باضطرابات نفسجسمية مثل الصداع وآلام الظهر (الجمعية الأمريكية للطب النفسي، ١٩٦٨م).

وقد ظهر خلال الخمسين سنة الأخيرة عدد من نماذج التأثير المتبادل التي اقترحت بهدف توضيح العلاقة بين العوامل السيكولوجية والفسيولوجية في إنتاج الاضطرابات النفسجسمية (تجد مراجعة نقدية لهذه النماذج عند مندلسون وهيرش ووبر) Mendelson, Hirsch, and Webber (١٩٥٦م)، وعند بيك (Beck, 1972a).

تنقسم هذه النماذج بصفة عامة إلى صنفين: الأول: نماذج الخصوصية السيكولوجية. وبمقتضاها تتوقف نوعية الاضطراب النفسجسمي على نمط الشخصية أو صنف الصراع أو الموقف النفسي. والثاني: نماذج الخصوصية الفسيولوجية. ومفادها أن من طبيعة كل شخص أن يستجيب لمختلف الضغوط النفسية نفس الاستجابة النفسجسمية.

من الآراء التحليلية psychoanalytic المبكرة مثلًا رأي يعتبر كلَّ مرض نفسجسمي هو ظاهرة تحولية conversion خاصة تتميز بأعراض هي تمثيلات رمزية لدوافع وأفكار معينة. فالإسهال مثلًا هو تحول لدافع طفولي (Ferenczi, 1926). وقرحة المعدة، كما يؤكد جارما Garma (١٩٥٠م)، ترمز لأمٍّ عدوانية مدخلة بذات المريض internalized وترمز حواف القرحة إلى فكي الأم المدخلة.
ومن الكتَّاب التحليليين من اقترح أن الاضطرابات النفسجسمية تمثِّل نكوصًا regression فسيولوجيًّا إلى أنماط من الوظيفة الجسمية الخاصة بالطفولة المبكرة. يؤكد مارجولين Margolin (١٩٥٣م) على سبيل المثال أن هناك علاقة مباشرة بين درجة النكوص الفسيولوجي ودرجة النكوص السيكولوجي. ويرى زاز Szasz (١٩٥٢م) أن كثيرًا من الأعراض الجسمية ترجع إلى إثارة باراسمبتاوية مزمنة ومحددة الموضع، ويدَّعي أن مثل هذه الإثارة يجب اعتبارها نكوصية ما دام الجهاز العصبي الباراسمبتاوي سابقًا في النشوء على الجهاز السمبتاوي.
هاجمت فلاندرز دنبار F. Dunbar (١٩٣٥م)، وهي من رواد الدراسات النفسجسمية نظرية التحول وقدمت أدلة إحصائية على ارتباط أمراض نفسجسمية محددة (الشقيقة مثلًا وانسداد الشريان التاجي وقرحة المعدة) بأنماط شخصية بعينها. غير أن الدراسات اللاحقة شككت في صحة هذا المفهوم.
وربط سبيتز Spitz (١٩٥١م) وجيرارد Gerard (١٩٥٣م) بين نوعية الاضطراب النفسجسمي عند الأطفال وشخصية الأم. فأكد جيرارد مثلًا أن أمهات مرضى الربو من الأطفال يتسمن بشخصية اعتمادية كثيرة المطالب قليلة العطاء وإن تكن، دون استثناء، جذابة ودودة اجتماعيًّا ذات مظهر خارجي جيد التوافق.
أما ألكسندر Alexander (١٩٥٠م) فيرفض كلًّا من نظرية التحول ومفهوم دنبار عن ارتباط المرض بصورة الشخصية، ويرد الاضطرابات النفسجسمية إلى صراعات لاشعورية: فمن شأن الشخص الواحد إذ يمر بسلسلة من الصراعات النفسية المختلفة أن يعاني من تغير مناظر في نوعية الاضطراب النفسجسمي الذي يبتليه. فالقرحة مثلًا هي استجابة فسيولوجية لرغبة مكبوتة في الحب والمساعدة: فالمعدة المحرومة تدمع (بحمض الهيدروكلوريك) طلبًا للحب. والربو، كما يؤكد، هو صرخة استنجاد مكبوتة. بل إن تشنج المعدة (الشنج الفؤادي cardiospasm) يمثل معنى لاشعوريًّا منطوقه: «لا أستطيع أن أبتلع هذا الموقف».
ويفترض ولف Wolff (١٩٥٠م)، وهو من مؤيدي نموذج الخصوصية الفسيولوجية، أن لكل فرد نمطًا من الاستجابة الجسمية للضغوط. وهو نمط خاص ثابت ومحدد جينيًّا. صحيح أن نقطة حساسيته قد تبقى خافية فترات طويلة، إلا أنه بتراكم ضغوط كافية سوف يعاني في النهاية من اضطراب يتوقف على موطن ضعفه واستهدافه الفسيولوجي: التهاب القولون، الشقيقة، التهاب الجلد … إلخ.
وتوصل لاسي ولاسي Lacey and Lacey (١٩٥٨م) إلى أدلة صلبة بشأن خصوصية الاستجابة الفسيولوجية للمواقف الضاغطة المختلفة. فقد وجدا في دراستهما أن لكل فرد ميلًا للاستجابة الزائدة في واحد على الأقل من أجهزته الفسيولوجية. فيستجيب شخص مثلًا لكل حالة ضاغطة بزيادة كبيرة في ضربات القلب دون تعرُّق يذكر. ويستجيب آخر بتعرق شديد دون كثير تغير في ضربات القلب.

الضغوط النفسية والاختلالات الجسمية

حيث إن الدليل التجريبي يشير إلى أن كل فرد واقع تحت ضغوط يستجيب بإفراط في جهاز معين من أجهزته الفسيولوجية، فمن الضروري الحاسم أن نحدد المقصود بكلمة «ضغوط» (إجهاد stress)، تلك اللفظة المستعارة من علم الفيزياء والهندسة. يعرِّف معظم الكتَّاب الضغوط بأنها حالات خارجية يفترض أن تؤدي إلى توترات داخلية تؤدي بدورها إلى اضطرابات فسيولوجية. تظهر هذه الضغوط الداخلية في شكل حالات من الإثارة يخبرها الفرد ذاتيًّا على هيئة غضب أو قلق أو انشراح.
تأتي الإثارة الانفعالية مصحوبة بزيادة نشاط الجهاز العصبي المستقل، مما يؤثر في واحد أو أكثر من الأعضاء أو الأجهزة الفسيولوجية. هذا الجهاز المتأثر لا يمكن التنبؤ به سلفًا بالاستناد إلى نوع الانفعال المثار (ما إذا كان قلقًا مثلًا أو غضبًا). فيبدو أن لكل فرد استجابته المميزة التي تتوقف على جهازه الفسيولوجي الأكثر تأثرًا. فقد تأتي المظاهر البدنية عنده في شكل عطب أو اضطراب في القناة الهضمية (قرحة الإثنا عشر) أو الجلد (التهاب الجلد العصبي) أو الشعيبات الهوائية (الربو) أو الجهاز الدوري القلبي (الضغط وتسرُّع القلب الانتيابي paroxysmal tachycardia).

ورغم أن هذه الصياغة تبدو معقولة، فمن الواضح أنها تقفز فوق وصلات عديدة من السلسلة. ومن الضروري لكي نتعرف على هذه المتغيرات البينية أن نفحص طبيعة الضغوط والتفاعل الحادث بين الأنظمة المعرفية والأنظمة الانفعالية استجابة لهذه الضغوط. فهناك ضروب متباينة من المواقف الضاغطة التي يمكن أن ترسِّب اضطرابات نفسجسمية.

تتألف أول فئة من الضغوط من المواقف العصبية التي تحدث في المعارك العسكرية. فمثل هذه المواقف تمثل تهديدًا هو من الشدة والواقعية؛ بحيث يؤدي إلى قلق شبه محتوم. رغم ذلك يبدو أن الجندي المتمرس بالقتال يرفع عتبة قلقه خلال فترة من الوقت بإنماء ثقته في مغالبة الخطر وإرهاف تمييزه للمواقف المهددة للحياة. إلا أنه وجد عمليًّا أن لكل مقاتل نقطة انهيار. ففي الحرب العالمية الثانية مثلًا أصيب معظم الطيارين بأعراض انفعالية ونفسجسمية بعد القيام بعدد معين من المهمات القتالية.

هناك تهديدات أقل درامية من الحرب مثل المصاعب الدراسية ومصاعب العمل التي توشك أن تهدد الوضع الاجتماعي والاقتصادي، والأحداث التي تهدد الصحة والسعادة أو تهدد بانفصام علاقات شخصية هامة. وهناك مواقف تمثل ضغوطًا وإن تكن غير بارزة للعيان. مثال ذلك أن تقذف الظروف بالمرء في بيئة يصعب عليه فيها أن يصوغ خطة معقولة ثابتة للتعامل مع المثيرات المؤذية. كأن يعمل في جو تقع فيه المضايقات بغتة بحيث لا يعرف متى يحترس ومتى يسترخي وينعم بالًا. كشأن تلك السكرتيرة التي كان رئيسها في العمل متقلبًا سريع الغضب لا تستطيع أن تتكهن بسوراته؛ فأصيبت بعد فترة بالتهاب قولون متوسط الشدة شفيت منه بمجرد أن انتقلت إلى عمل جديد في مناخ أكثر ثباتًا. بالطريقة نفسها يمكن أن يصاب طفل بإجهاد شديد إن كان أحد أبويه عرضة للتقلبات المزاجية المباغتة. يؤدي الصدوف عن هذه المواقف إلى تخفيف القلق والاضطراب النفسجسمي وإن احتاج ذلك إلى وقت طويل في حالة التعرض المزمن للضغوط.

أما الفئة الثانية من الضغوط فتشمل الضغوط المخاتلة insidious المزمنة. فالتآكل هنا تدريجي ينشأ من التأثيرات التراكمية لعدد من التوترات الدقيقة التي لا يشكل أيٌّ منها خطرًا كاسحًا في حد ذاته. إن سلسلة طويلة من المواقف المعاكسة كالإحباط والرفض والخوف من شأنها أن تؤدي تدريجيًّا إلى زيادة الإثارة الانفعالية وإضعاف القدرات التكيُّفية للشخص.

وهناك بعدُ صنف ثالث من الضغوط شخصي للغاية وخاص بكل فرد على حدة. ونعني به تلك المواقف التي تمس من الفرد مناطق ضعفه الخاصة. فلكل إنسان نقاط حساسة غير حصينة تجعله هدفًا للاضطرابات الانفعالية كلما تعرَّض لمواقف تمس هذه النقاط. وما يكون أمرًا عاديًّا لأحدنا قد يشكل صدمة بالنسبة لآخر. هناك شخص حساس للرفض وآخر حساس للنظام التحكمي وثالث للمخاطر الصحية. إن الموقف الضاغط بالنسبة لشخصٍ ما هو شيء يتوقف على المعاني الشخصية والدلالات الخاصة التي يضفيها هذا الشخص على الموقف (انظر الفصل الثالث).

هناك سمة شخصية محورية يتسم بها مرضى الاضطرابات النفسجسمية. وهي سمة تطبع بطابعها عموم المرضى ذوي القابلية للقلق أو الغضب؛ فهم يميلون إلى تصور بعض خبرات الحياة بطريقة خاصة ورؤيتها بمنظار خاص. فنجد الواحد منهم يشكل من الوقائع المأمونة صورة مخيفة مهددة، ويضخم التهديدات الصغرى التي يسهل التغلب عليها ويجعل منها كوارث كبرى.

وهناك دراسات حديثة حاولت أن تؤسس علاقة سببية بين المواقف الضاغطة والاضطرابات النفسجسمية. فقد كشف الباحثون، مستخدمين استبيانَ «أحداث الحياة» (Holmes and Rahe, 1967)، وجود بعض الارتباط الموضوعي بين الضغوط والاضطراب الجسمي. غير أن الدليل الإكلينيكي يوحي بأن المواقف الحياتية الضاغطة هي بحد ذاتها أقل أهمية في إحداث القلق والاضطرابات الجسمية بالقياس إلى الطريقة التي تتراءى بها هذه المواقف في ذهن الشخص. فالمستهدفون للاضطرابات الجسمية هم أميل من غيرهم إلى تضخيم الأحداث واعتبارها أحداثًا ضاغطة، وإلى الاستجابة للتحديات المتصوَّرة باختلال نفسي وجسمي أكبر كما تبين ذلك من دراسة هنكل وآخرين (Hinkle et al., 1958).
إن تحديد الظروف التي تشكل ضغطًا إجهاديًّا من بين غيرها من الظروف يعتبر مسألة معقدة. وقد تبيَّن ذلك في دراسة لمرضى الربو من الأطفال. في هذه الدراسة قام الباحثون بفصل مجموعة من المرضى عن والديهم فصلًا تامًّا، فوجدوا أن حالتهم المرضية تحسنت تحسنًا كبيرًا (Sarason, 1972a). وحين أعادوهم إلى بيوتهم انتكست حالتهم مرة أخرى. وقد افترض الباحثون أن تنافر سمات كل من الطفل والوالد في هذه المجموعة كان يمثل ضغطًا إجهاديًّا على الطفل (بحيث يجد في الانفصال فرجًا). بينما المعتاد في سائر الأطفال أن الانفصال عن الأبوين هو الموقف الضاغط.

الضغوط الداخلية

كنا حتى الآن نتحدث عن الضغوط بوصفها ظروفًا خارجية تبعث على التوتر. غير أن هناك اضطرابات نفسجسمية نموذجية قد تحدث في غياب أي ظروف خارجية غير عادية. في هذه الحالات تكون الضغوط صادرة من الداخل، وتتألف من ظواهر نفسية مثل المطالب والالتزامات التي يفرضها المرء على نفسه، ومثل المخاوف المتكررة وتأنيب الذات. يمكننا كشف هذه الآلية الخاصة بتأزيم الذات عن طريق التنقيب في «منظومة الاتصال الداخلي». إنها شبيهة في بعض الجوانب بمفهوم فرويد عن الأنا الأعلى.

معظم المرضى الذين يستشيرون الطبيب بسبب مرض نفسجسمي لا يعانون من ضغوط خارجية محددة. وكثيرًا ما يبدون عصبيين ويكتسبون لقب «عصابي» (في نظر الطبيب أولًا ثم في نظر أنفسهم). وكثيرًا ما ينبئهم الطبيب أنهم قلقون متبرمون يأخذون الأمور بجدية زائدة. إلا أن هذه الأحكام بدلًا من أن تمنحهم تبصرًا ورشادًا فهي في الأغلب تدعم فكرة المريض عن نفسه كشخص متقلب وأدنى من سواه.

ولنا في رجل الأعمال الطموح الذي يصاب بقرحة المعدة خير مثال على الاستهداف النفسجسمي. ورغم أن هذا النمط النفسي ذاته قد يؤدي إلى اضطرابات نفسجسمية أخرى كالضغط أو التهاب الجلد، فمن المفيد لنا أن نُنعم النظر في هذه الحالة المرضية كنموذج إيضاحي للاضطرابات النفسجسمية بصفة عامة. يمكننا أن نسمي هذا النمط الإداري التنفيذي من البشر «نمط القرحة التنفيذية (أو الإدارية)». إنه يضع لنفسه أهدافًا مفرطة في الطموح، ثم يدفع نفسه ويدفع الآخرين على إنجازها. وإن سلوكه الخارجي ليعكس منظومته الخاصة عن الأهداف والقناعات. تلك المنظومة التي تؤدي به إلى حالة مستديمة من التوتر. وتظل قوته الدافعة هي خوفه من عدم بلوغ أهدافه وتوجسه من أن يرتكب مرءُوسوه أخطاءً فادحة. ويظل يستجيب لكل مهمة جديدة بشكوك قوية. ويهوِّل من أهميتها وصعوبتها (تقييم معرفي خاطئ) ويبخس من قدرته على أدائها (تقييم خاطئ أيضًا). وهو يضخم من حجم العوائق التي تحول دون إتمام المهمة ويضخم في نفس الوقت من شأن العواقب النهائية للفشل. فيعقد في وهمه سلسلة من الوقائع المؤدية إلى الإفلاس كلما واجه مغامرة مالية غير مأمونة. قد لا يكون الخوف من الفشل هو رائده بطبيعة الحال، ولكن من يعمل تحت شعار «النجاح التام هو الطريق الوحيد إلى السعادة» قد يعتصر نفسه قدر ما يفعل الخائف من الفشل.

رغم عدم وجود ضغوط خارجية حقيقية فإن مهنة هذا الرجل تشكل له ضغطًا من جراء الطريقة التي ينظر بها إلى عمله. فهو في كرب دائم لأنه ينظر إلى كل مهمة كأنها مواجهة كبرى ويتوهم في كل لحظة كارثة عليه أن يسارع بمواجهتها. من شأن هذه الضغوط النفسية التي يفرضها المرء على نفسه أن تبهظ واحدًا أو أكثر من أجهزته الفسيولوجية.

هؤلاء المستهدفون للقلق والاضطراب النفسجسمي لا يبالغون فقط في هول النتائج المترتبة على الفشل بل أيضًا في احتمال وقوعها. ولنضرب لذلك مثلًا بهذا الطالب المستهدف للقرحة. فقد كان برغم نجاحاته السابقة دائم التوجس من عدم إتمام واجبه في الوقت المحدد ومن عدم استعداده للامتحان. كان يقدر ذلك باحتمال خمسين بالمائة قبل الامتحان بأسابيع عديدة، ويظل هذا الاحتمال يتزايد عنده باقتراب موعد الامتحان إلى أن يصل إلى ٩٩٪ لحظة بداية الامتحان. وكان تقديره للنتائج السلبية للفشل يتصاعد في نفس الوقت: «سوف يقررون أن يسقطوا اسمي من سلك الشرف … لن أعود قادرًا على أي امتحان قادم … سوف يفصلونني من المدرسة وسينتهي بي الأمر إلى شارع الساقطين.» وحيث إن هذا الطالب كان قد أنجز واجبات واجتاز امتحانات على امتداد حياته الأكاديمية، فمن الواضح أن مخاوفه من عدم الاستعداد الآن هي نابعة أساسًا من أنماط تفكيره الداخلية لا من ضغوط خارجية.

لماذا يصاب بعض المرضى (مثل هذا الطالب) باضطراب نفسجسمي من جراء قلقهم المفرط، بينما يبقى آخرون من ذوي القلق المزمن دون اضطرابات جسيمة؟ تلك مسألة تحتاج إلى مزيد من البحث. فمن الواضح أن أنماط التفكير متشابهة عند الطرفين. فكلاهما مرتهن للخوف من التقصير بل من الكارثة. كلاهما في همٍّ مزمن. ويبدو محتملًا في حدود معلوماتنا الحالية أن هناك عوامل جينية (وراثية) تحدد ما إذا كانت الأعراض النفسجسمية سوف تلحق بالقلق.

الدورة النفسفسيولوجية

يتوقف نشوء الاضطرابات النفسفسيولوجية واستمرارها، في معظم الحالات، على حدوث تأثير متبادل مستمر بين «المعرفة» cognition و«الانفعال» emotion والأعراض الجسمية. ويمكننا أن نوضح هذه الدورة بمثال من حالة مرضية. إنها ربة بيت في الثامنة والأربعين كانت تعاني من نوبات سابقة من الألم أسفل البطن مصحوبة بإسهال. كانت تلك السورات (النوبات) episodes تدوم من أسبوعين إلى ستة أشهر ويرتبط حدوثها بضغوط خارجية بشكل واضح. وقد أُجرِي لهذه السيدة فحوص جسمية عديدة (متضمنة فحوصًا بالأشعة) طوال ثلاثين عامًا ولم يثبت وجود أي علامات تشير إلى مرض عضوي، فشخصت حالتها قولونًا عصبيًّا. بدأت أشد سورات (نوبات) هذا المرض، والمتمثلة في ألم بطني شديد وإسهال دموي، أثناء المرض النهائي لوالدتها (كانت مريضتنا في ذلك الوقت في السابعة والأربعين من عمرها) حين بدأت تعاني من قلق وهياج agitation. وما لبثت أعراضها المعوية أن ظهرت خلال أيام معدودة. وأظهرت صور الأشعة تقرحات مؤكدة بالقولون. ومن الجليِّ أن الإثارة الانفعالية الشديدة عندها قد أحدثت تشنجات بالقولون نتج عنها تغيرات في غشائه المخاطي.
حيث إن معظم الناس يتحملون ملمَّات جسيمة من مثل مرض أحد الأبوين ووفاته دون أن يصابوا باضطراب نفسي أو نفسجسمي شديد؛ فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا كان لهذه المريضة مثل هذه الاستجابة الشديدة؟ في هذه الحالة، كما في معظم الاضطرابات النفسجسمية، يكون لدى المريض تهيؤ أو استعداد predisposition للمرض النفسي (والفسيولوجي أيضًا): لقد ذكرَت مريضتنا أنها منذ دخولها المدرسة في سن الخامسة اعتادت أن تستجيب للمواقف المزعجة بسورات (نوبات) عابرة من الإسهال؛ لكن هذه الاستجابات لم تكن تؤدي إلى كرب خطير إلى أن بلغت الثامنة عشرة من عمرها. حينئذٍ أصيبت شقيقتها الكبرى بسرطان القولون الذي أودى بحياتها في النهاية. ومنذ ذلك الحين صار همها الشاغل أنها سوف تموت أيضًا بالسرطان؛ بحيث أضحت تفسر كل عرض جسمي كإشارة إلى السرطان. فكانت إذا أحست أي وعكة بطنية (حتى لو كان سببها واضحًا وبسيطًا كالتخمة) تحدِّث نفسها: «إنه ربما يكون السرطان.» فتشتد الوعكة وتؤدي إلى الإسهال. بذلك تكون دائرة للاشتداد قد تأسست كاستجابة للضغوط: تهديد قلق تشنج القولون ألم قلق.

بإمكاننا أن نفهم التعاقب المؤدي إلى حدوث التهاب تقرحي خفيف بالقولون في هذه الحالة. فقد كان مرض الأم يمثل ضغطًا نفسيًّا لهذه المريضة إذ يثير فيها هاجس الموت (موت والدتها وموتها هي أيضًا) وقد أدى هذا التهديد الدائم إلى القلق ومصاحباته الفسيولوجية. وإذ كانت القناة المعوية السفلية هي عضوها المستهدف؛ فقد أدت زيادة نشاط الجهاز العصبي المستقل إلى المغص والإسهال. فوق ذلك كانت المعطيات الحسية الآتية من الأمعاء تخضع للتقييم المعرفي؛ فتفسر كعلامات للسرطان، مما جعل المريضة تحس بتفاقم كل من القلق والمرض المعوي.

الاضطرابات الجسمية ذات الغطاء السيكولوجي

كثير من المرضى بهم مرض عضوي مؤكد وثابت. غير أن وجود العوامل النفسية يجعل عجزهم ومعاناتهم تتجاوز كثيرًا حجم الاضطراب العضوي الفعلي. والحق أن هذا العجز والضغط الإجهادي الناجم من عوامل نفسية قد يكون هو السبب الوحيد للتدخل الطبي. في هذه الفئة أو التصنيف تقع كثير من حالات «اعتلال القلب» cardiac invalidism. فالمريض الذي ألمَّ بقلبه شيء من الاضطراب العضوي قد يبقى في ذُعر دائم من الموت بعد أن يبرأ من أي متاعب بدنية أو أي مرض قلبي متبقِّ. وقد يتجنب أي حركة أو إجهاد كي لا يرسِّب نوبة قلبية أو أي صورة من صور الموت المفاجئ. وهو من ثم يحدُّ من نشاطاته بدرجة كبيرة. وهو إذ يجتمع عليه الحرمان من مصادر إشباعه المعتادة ومرارة القلق المزمن يغدو فريسة للاكتئاب.
من الحالات العضوية التي تسهم فيها العوامل النفسية بنصيب وافر وتضيف إليها كربًا وعجزًا صميمًا، تلك الحالة التي أوردها كاتشر Katcher (١٩٦٩م) لرجل في الأربعين عانى سنوات طويلة من نوبات ذبحة صدرية. كانت صور رسم القلب تؤكد مرض الشريان التاجي [هبوط قطعة S-T الذي يتفاقم بعد التدريب البدني].

لقد أعاقته علَّته وأقعدته لدرجة أنه لم يكن قادرًا على أن يمشي أكثر من بضع خطوات دون أن يحس بألم صدري شديد، وأنه إذا لم يتوقف ليستريح انتابه ألم متكرر يعقبه ذعر من حدوث أزمة الشريان التاجي.

استخدم الطبيب النفسي في علاج هذا المريض مزيجًا من العلاج السلوكي والمعرفي. فقد أكد له وجود أدلة إحصائية على أن التمرين البدني المتدرج يفيد مثل حالته وأن تجنُّب الجهد ضارٌّ به. محاولًا بذلك أن يقلص اعتقاده بأن الجهد البدني حقيق أن يرسِّب (يعجِّل) نوبة احتشاء (جلطة) القلب.

عندئذٍ أُعطيَ المريض جدولًا متدرجًا من التمرين البدني. فكان يمشي مسافة معينة إلى أن يشعر بألم حقيقي فيتوقف. وجعل يمد هذه المسافة بالتدريج حتى استطاع في النهاية أن يمشي كما يشاء دون أن يعاني ألمًا. وكان عليه كلما عاوده الخوف أن يردد: «لا بأس بالتمرين». هذه الطمأنة الذاتية كانت تهدئ قلقه، بل تزيد دافعيته لمواصلة المشي.

وحين أعيد رسم القلب بعد انتهاء فترة التدريب كانت النتيجة مرضية. فرغم أن قطعة S-T ظلت هابطة أثناء الراحة؛ فإن هبوطها لم يتفاقم بعد التمرين.
يمكننا أن نفسر «الغطاء السيكولوجي» في هذه الحالة كما يلي: بعد أعراض الذبحة الأولى كان المريض يتوقع الموت المفاجئ باحتشاء القلب، ويربط تلقائيًّا بين التمرين البدني وترسيب نوبة قلبية. بذلك كان يشعر بالخطر إزاء أي جهد جسماني. هذا القلق السابق على المشي كان يزيد ضربات القلب وغيرها من استجابات الجهاز العصبي المستقل. مما يشكل عبئًا على القلب ويزيد من قصور الشريان التاجي. يترتب على ذلك أنه بعد مسير بضع خطوات كان يصاب بذبحة حقيقية: إنه نموذج كلاسيكي لنبوءة محقِّقة لذاتها self-fulfilling prophecy (تحقق نفسها بنفسها).

ما إن اقتنع هذا المريض بأن القلق هو الذي يرسِّب الذبحة وليس الجهد البدني، حتى عاد قادرًا على التقدم في نظام التدريب إلى أن شفي من أعراضه.

تؤلف ذات الرئة lung disease فئةً أخرى من الاضطرابات الجسمية ذات الغطاء النفسي. فمرضى الرئة قد يكونون على وعي بكل نفس من أنفاسهم وكل حركة من حركات صدرهم. وبسبب علمهم بمرضهم الرئوي فهم كثيرًا ما يعتقدون أنه من الضروري للبقاء أن يبذلوا جهدًا إراديًّا لامتصاص الهواء إلى الداخل ثم لدفعه إلى الخارج.
وقد تجلى هذا الصنف من المشكلات في دراسة منهجية لحالات تعاني من صعوبة مزمنة في التنفس (Dudley, Martin, and Holmes, 1964). فبين عشرين حالة معظمها حالات درن رئوي أو أمراض أخرى تسبب انسداد القناة التنفسية، وجد الباحثون أنه لا علاقة بين ضيق التنفس والإعاقة الفعلية لوظيفة الرئة. فعندما كان المرضى يغضبون أو يقلقون استجابة للضوائق الحياتية المعتادة كانوا يميلون إلى «فرط التهوية» hyperventilation و«البهر» dyspnea. ولم تكن هناك علاقة بين صعوبة التنفس والقصور الوظيفي الفعلي. تشير هذه الدراسة إلى أن البهر (صعوبة التنفس) يتوقف على إدراك إشارات صادرة من الجهاز الرئوي. فقد كان لهؤلاء المرضى حساسية زائدة تجاه التغيرات الجارية في الجهاز الرئوي القلبي، تلك التغيرات التي لا يعيرها الناس انتباهًا ولكنها بالنسبة لهؤلاء ترتبط بخطر الموت. وقد انعكس ذلك في شعورهم الذاتي بالكرب. إن حلقة مفرغة قد تكونت: قلق فرط تهوية ولهث hyperpnea بُهر قلق.

التصور الجسدي Somatic Imaging

ألمعنا آنفًا لظاهرة «التصور الجسدي» في شرحنا لأنواع الرهاب. وقلنا إن مرضى الخوف من المرتفعات، على سبيل المثال، كثيرًا ما ينتابهم إحساس بالانقلاب أو السقوط حين يشارفون حافة مكان مرتفع، وقد يحسون بأنهم منجذبون إلى الحافة. وإن مريضة بالخوف من الماء كانت تحس كأنها تغرق عندما تتخيل نفسها في الماء. وبالمثل يحس كثير من الناس بألم «نيابي» عندما يشاهدون شخصًا آخر قد أصيب، فيستجيبون كما لو كانوا هم المصابين.

وقلت في الفصل الثالث إن رأي المرء في نفسه هو عنصر متمم لمجاله الشخصي personal domain إلى جانب ممتلكاته المادية وقيمه المعنوية. ونعرض هنا لمكون أساسي آخر لمفهوم الذات هو ما يمكن أن نسميه «الذات الجسمية» bodily self أو «الذات البدنية» somatic self أو «صورة الجسم» body image (Epstein, 1973). إن تصور الفرد لذاته الجسمية في وقتٍ ما قد يحدد شعوره في ذلك الوقت، إن بالسرور أو الألم، بالقوة أو الضعف، بالحيوية أو الفتور. وقد يكون تصوره لحالته الجسمية أهم من حالته الجسمية الفعلية في تحديد مشاعره وأحاسيسه.
قد يؤثر التنبيه البصري على صورة الجسم؛ فيؤدي إلى تنويعة عريضة من الأحاسيس الجسمية؛ فمن الممكن للصور المتحركة المنعكسة على شاشة منحنية (مثل السينراما) أن تخلق لدى المتفرج وهمًا بأنه يعتلي مركبة سريعة مثل الزلاجة أو أنه يهوي في الفضاء. إنه يحس نفس الإحساسات كما لو كان منطلقًا أو ساقطًا بالفعل. بنفس الطريقة قد تحدث الصور المتحركة لأناس يشوِّهون ويمزِّقون مشاعر الألم والقلق في المتفرج. هذه الظاهرة التي تتضمن إحساسات جسمية متولدة من خداعات بصرية هي مثال آخر «للتصور الجسدي» somatic imaging.
قد يحدث «التصور الجسدي» بطبيعة الحال بدون تنبيه بصري. إنه ظاهرة منتشرة سجلها منذ أكثر من مائة عام سير فرانسيز جالتون F. Galton (١٨٨٣م). من الأفراد الذين درسهم جالتون من كانت لديهم إحساسات جسمية من الوضوح والحيوية؛ بحيث يصعب عليهم أن يحددوا هل هي وليدة التخيل أو وليدة تنبيه جسمي حقيقي.

قد تؤدي الخيالات أو أحلام اليقظة أيضًا (دون وجود أي منبهات بصرية خارجية) إلى إحساس شديد بالجسم. وكثيرًا ما يصف المرضى النفسيون هذا النوع من التصور الجسدي. مثل ذلك المريض الذي كانت تنتابه تخيلات متكررة لقضيبه وهو يصاب بأذًى. فكان إذا سمع صوت نافذة تغلق يتصورها تصطك على قضيبه ويحس بانسحاقه. وإذا رأى فجأة سكينًا حادة؛ فإنه يتصورها تقطِّع قضيبه ويحس في نفس الوقت بألم حاد بالقضيب.

وقد تؤدي فكرة الأذى الجسمي إلى إحساسات بدنية. ولنضرب لذلك مثلًا بذلك المراهق الصغير الذي كان ينتابه القلق لمرأى الدم أو أي تشوه جسمي، وكان حساسًا بوجه خاص لأي مثير يوحي بتكسُّر العظام. ويحدِّث نفسه عندما عرض عليه المعالج قطعةً من العظم: «قد تكون ساقي انكسرت.» ويحس بألم في ساقه وبأن العظمة تنتأ من جلد الساق. وذلك مريض آخر كان شديد التقمص للمتألمين والمعاقين. فعندما قرأ تقريرًا عن مريض عقلي متهيج قام أحد المعاونين بتثبيت ذراعيه، أحس بضغط على ذراعيه كما لو كانتا تثبَّتان. وعندما قرأ عن مريض كان يفقد بصره بالتدريج أحس بإعتام عابر في بصره. في هذه الحالة تكون الفكرة، وليس الخيال البصري، هي ما ولَّد الإحساسات غير السارة.

الهستيريا

الهستيريا هي امتداد مرضي لعملية «التصور الجسدي» somatic imaging. وأكثر صور الهستيريا التي نشاهدها هذه الأيام تتألف من نوع من الاضطراب الجسمي لا أساس له من مرض عضوي يمكن إثباته أو من خلل فسيولوجي. قد يأتي هذا الاضطراب الجسمي على هيئة فقد القوة في أحد الأطراف (شلل أو ضعف)، أو فقد الإحساس في جزء من الجسم، أو الإحساس بألم في غياب أي تنبيه لمستقبلات الألم، أو زيادة نشاط العضلات كما في حالة الغصِّ choking الهستيري أو حالة الصرع الكاذب.
حين يفحص الطبيب أحد مرضى الهستيريا يكون بوسعه في الغالب أن يتثبَّت أن الصورة التي يتخذها العرض الهستيري لا تتمشى مع التشريح الفعلي لجسم الإنسان، بل مع تصور المريض لأعراض مرض جسمي معين. فعقب إصابة بالساق مثلًا أو بالساعد قد نجد لدى مريض الهستيريا فقدًا للإحساس آخذًا توزيع «الجورب-القفاز» stocking-glove، وهو توزيع لا يمكن أن ينشأ من أي إصابة. وبالمثل إذا ظن مريض الهستيريا أن مخه قد أصيب فقد يحس بشلل أحد الأطراف الواقعة على نفس الجهة التي حدثت بها الإصابة المخية المفترضة، بينما يستلزم تشريح الجهاز العصبي أن يأتي الشلل في الجهة المقابلة. وفيما يلي حالات توضح قوة التصورات الذهنية وسطوتها:
هذا مريض كان يعاني من عطب مخي عضوي واضح عقب احتشاء قلبي (Stein et al., 1969). أظهرت الاختبارات النفسية وجود عجز لديه في الاستدعاء الفوري وعجز في التركيز الذهني. وفي جلسات العلاج النفسي التي عُقدت له تبين أن لديه تحريفًا معرفيًّا يتعلق بتأثيرات نوبة القلب التي أصابته. فقد كان يعتقد بأن هناك شريانًا يغذي المخ يخرج من القلب مباشرة عند موضع الاحتشاء وأن هذا الشريان صار مسدودًا وأدى ذلك إلى عطب نهائي بالمخ. وحين تمكن المعالج من البرهنة له على خطأ استنتاجه برسم صورة بيانية تشريحية، تلاشت أعراض العطب الدماغي العضوي.
وقد عالج شاركو Charcot العديد من حالات الهستيريا عن طريقة «التنويم» hypnosis. وفيما يلي بعض الحالات التي أوردها وهي تثبت أن الأعراض الحركية والحسية كانت مظاهر وتجليات للمفهوم الخاطئ للمرض العضوي عند المريض.

فهذا مريض صدمته مركبة ثم مضت غير عابئة به. فاعتقد خطأ أنها دهسته وسحقت رجليه الاثنتين. وأصيب بشلل هستيري بهما.

وفي حالات أخرى كان العرض الهستيري يقوم على «تشخيص» خاطئ من جانب المريض للتأثيرات الناجمة من إصابة حقيقية.

فهذا جندي أصيب برصاصة في ساقه فظل يعاني من خدار (فقدان للحس) من صنف «الجورب». فقد كان يعتقد أن الرصاصة قد قطعت عصبًا بالساق. وبمجرد أن أوضح له الطبيب أن العصب سليم ولم يُصب بأذى زايله الخدار (فقد الحس).

تشير هذه الأمثلة إلى أن الهستيريا هي خير مثال على الإطلاق لظاهرة «التحريف المعرفي» cognitive distortion في الأمراض النفسية. فمريض الهستيريا يعتقد أن به مرضًا جسميًّا ما ومن ثَم يحس بأعراض المرض المزعوم؛ فيعجز عن رفع رجله أو يفقد الحس في جزء من جسمه أو يضعف بصره أو سمعه. وحين نتناول الاعتقاد الخاطئ بالتعديل والتصحيح عن طريق الإيحاء أو التنويم أو الإيضاح والإثبات أو العلاج المعرفي؛ فإن العرض الهستيري لا يلبث أن يزول.
من أطباء القرن التاسع عشر من اقترب من فهم الهستيريا ورأى أن لدى مريض الهستيريا مفهومًا ذهنيًّا زائفًا يقوم بالتعبير عنه على شكل مرض جسمي. فقد وصف الطبيب الإنجليزي رينولدز Reynolds (١٨٦٩م) أنماطًا من الشلل ناجمة من أفكار خاطئة. إلا أن الفضل يرجع إلى شاركو في انتشار هذه الملاحظة وذيوعها. فقد كان عليه دائمًا بصفته واحدًا من أعظم أطباء الأعصاب في عصره أن يفصل الاضطرابات التي تتشبه بالأمراض العضوية عن الاضطرابات الناشئة عن عطب حقيقي بالجهاز العصبي. ومن خلال عمليات التنويم التي كان يقوم بها لمرضاه خلص إلى نتيجة تفيد أن الهستيريا تنشأ من «فكرة مُمرضة» pathogenic idea. من شأن هذه الفكرة الباطلة القائمة على افتراض خاطئ أن تختفي عندما يزول العرض الهستيري بالتنويم. أثبت شاركو أن الاضطرابات الجسمية قد تنتج من عمليات سيكولوجية. وهو مما شجع فرويد على استخدام العلاج النفسي في حالات العصاب.
من أهم إسهامات شاركو في البحث السيكولوجي ما كان يقوم به من إحداث شلل في الأفراد الخاضعين للتجربة عن طريق التنويم. لقد كانت فكرة «يدي اليمنى عاجزة» تحدث نفس الاضطراب الإكلينيكي الملاحظ في الشلل الهستيري التلقائي. وقد اعتبر البعض هذا الوصل بين الظواهر الإكلينيكية والتجريبية مساويًا لعملية إنتاج المرض البشري والحيواني في معامل باستير وكوخ. يقول هافنس Havens (١٩٦٦م): «في حالة الأمراض النفسية، ليس العامل المسبب هو ضمة الكوليرا cholera vibrio أو عُصيَّة الدرن tubercle bacillus، بل العامل المسبب هو فكرة … إيحاء …»
بعد أن اطَّلع فرويد على إضافات شاركو ولاحظه فترة من الوقت أثناء عمله، بدأ يستخدم التنويم مثله في علاج الهستيريا. ثم استبدل بالتنويم فيما بعد تقنية «التداعي الطليق» free association. كان هذا التغير في الطريقة مؤشرًا لانتقال بؤرة التركيز من الفحص العصبي الموضوعي إلى الاهتمام بأفكار المريض وخيالاته وانفعالاته ورغباته وأحلامه، لتغدو هذه العناصر هي عدَّة المعالجين الديناميين الجدد. لقد تخطى فرويد كثيرًا مفهوم شاركو المبسط للأعراض الهستيرية كنتاج لأفكار خاطئة، وشرع في إنشاء نظرية معقدة. وحلَّت أطروحته عن تحول الرغبات الجنسية اللاشعورية إلى أعراض هستيرية محل فكرة شاركو. ولا يزال التصور الفرويدي هو المهيمن على مفهوم الهستيريا السائد اليوم. ففي عام ١٩٥٢م استبدل المصطلح الرسمي لرابطة الطب النفسي الأمريكية بلفظة «هستيريا» مصطلح «الاستجابة التحولية» (التفاعل التحولي) conversion reaction (وهو مستمد من مفهوم التحول عند فرويد). وقد تقبلت كتب الطب النفسي الأمريكية بصفة عامة المفهوم الفرويدي للهستيريا.

ورغم أن «الفكرة الممرضة» التي قال بها شاركو كعامل حاسم في الهستيريا غدت عتيقة الزي، فلا شك أن صياغته توافق المعطيات الإكلينيكية المستمدة من المناظرة المنهجية لمرضى الهستيريا. فحدوث الأعراض الهستيرية يغدو مفهومًا دائمًا بمجرد أن ننقب عن خبرات المريض ونستكشف معانيها الخاصة. إن كشف الأفكار الخاطئة للمريض يقدم تفسيرًا صحيحًا للعرض الهستيري. والمبدأ الأساسي هنا هو أن الهستيريا تتشبه بالمرض العضوي ليس لأن المريض يريد أن يحاكي مرضًا بل لأن اعتقاده خاطئ.

كثيرًا ما يتقمص مرضى الهستيريا شخصًا آخر يعاني، أو كان يعاني، من اضطراب جسمي أو نفسي شبيه بالأعراض الهستيرية. كان المفتاح إلى كشف هذه الآلية الخاصة من آليات تكوُّن الأعراض هو ملاحظة الميول التمثيلية عند مرضى الهستيريا في عنابر مستشفى سالبتريير؛ حيث كان يعمل شاركو. وقد ذكر جانيه Janet، أحد تلاميذ شاركو، فيما بعد أن كثيرًا من مرضى شاركو كانوا «يتعلمون» الهستيريا داخل العنبر (الجناح). فقد كانوا يلاحظون حالات صرع حقيقي بل يساعدون في علاج هذه الحالات، ثم يعانون من جراء ذلك من نوبات صرع هستيري تحدث لهم في وقت لاحق (Havens, 1966).

يذكِّرنا هذا الصنف من التقمص بظاهرة نوبات التشنج السارية؛ حيث تنتقل هذه الظاهرة من شخص إلى آخر بالعدوى. إن النظرة العصرية المستنيرة تعزو هذه الظاهرة إلى عوامل سيكولوجية وليس إلى مس شيطاني أو سحر كما كان يظن في يوم من الأيام.

وقد روى عدد من مرضى التشنج الهستيري عن صلتهم بقريب مصاب بنوبات صرع. وحكى آخرون عن تأثرهم الشديد لدى ملاحظتهم أو قراءتهم عن شخص آخر يعاني من عرض مشابه. فهذه مريضة مصابة «بعصاب القلب» cardiac neurosis وقد عايشت معاناة أمها من فشل القلب لسنوات عديدة (إذ أخذ قلبها يتدهور إلى أن تُوفيت في سن الثانية والثلاثين). ذكرت هذه المريضة أنها كانت تعاودها فكرة مفادها أنها سوف تصاب بالقلب عندما تبلغ عمر أمها. وما كادت تبلغ الثامنة والعشرين حتى بدأت تعاني من آلام بالصدر وإرهاق سريع وضيق في التنفس — تمامًا كما كانت تعاني أمها — وقد لازمتها هذه الأعراض عشر سنوات، رغم سلامة الفحوص المتكررة، وأدت بها إلى كرب دائم وتقييد شديد لأنشطتها. إلى أن زالت الأعراض الهستيرية بعد مزيج من العلاج المعرفي والسلوكي.
وبنفس الطريقة أمكن تتبع عدد من حالات نوبات الغصِّ choking الهستيري وردُّها إلى أحداث وقعت في سن مبكرة نسبيًّا. يذكر هؤلاء المرضى أنهم قرءوا أو سمعوا عن شخص آخر قد غصَّ بالطعام حتى مات، فما لبثت أن تملكتهم فكرة «هذا يمكن أن يحدث لي.» فكان أحدهم كلما مرَّ بضغوط نفسية بعد ذلك يحس بضيق في الصدر، وبخاصة أثناء تناول الطعام، فيحدِّث نفسه: «هذا دليل على أنني لن أستطيع ابتلاع الطعام كما ينبغي.» وبقدر ما يلتفت إلى هذه الفكرة تزداد عنده صعوبة البلع، فيتدعم اعتقاده بوجود خلل في عضلات الحلق وبأنه سوف يغص حتى الموت.
بوسعنا الآن أن نلخص نشوء العرض الهستيري. يقرُّ في رُوع الهستيري (نتيجة إصابة ألمت به أو نتيجة تقمصه لأعراض غيره) أن به مرضًا عضويًّا. وهو إذ تتملكه هذه الفكرة تغشاه إحساسات جسمية — تصور جسدي somatic imaging — تنشأ عن ذلك آلية دائرية. إنه «يقرأ» إحساساته الجسمية كدليل على إصابته بالمرض. بذلك يزداد اعتقاده صلابةً ورسوخًا وتشتد أعراضه الجسمية بنفس الدرجة.
يعتمد المدخل العلاجي للأعراض الهستيرية على عملية قلب الحلقة المفرغة التي تكونت. فبإمكان المعالج أن يوضح للمريض أنه لم يفقد تحكمه بعد — أنه قادر مثلًا على تحريك الطرف المشلول. من شأن هذا الإثبات (سواء أتم ذلك بالإيحاء أم بالإقناع أم بالتنويم) أن يقوِّض الاعتقاد الخاطئ. فضلًا عن ذلك فإن المعالج إذ يحث المريض على تخيل نفسه يحرك طرفه فهو بذلك يستخدم الخيال استخدامًا بنَّاءً. كما يمكن للمعالج أن يبدأ العلاج بتفنيد المفاهيم الخاطئة للمريض وإعادة تعليمه (كما في حالة الرجل الذي كان يعاني من أعراض تحاكي التدهور الذهني عقب تخثر تاجي coronary thrombosis). وإذ تهتز «الفكرة الممرضة» الخاطئة؛ فإن العرض يتراجع فيكون بذلك دليلًا إضافيًّا للمريض على أن اعتقاده في مرضه هو اعتقاد خاطئ، الأمر الذي يعزز الشفاء أكثر فأكثر.
بهذه الطريقة، فإن علاج الهستيريا يستغل ملكة التخيل عند المريض بطريقة بناءة ويشفي العرض «بصرف تصوره» imaging away the symptom. وفوق ذلك، فإن قلب دائرة الاشتداد (كما في حالة الأمراض النفسجسمية) تحدث تحسنًا متناميًا. يتألف جوهر العلاج في حالات الهستيريا من عملية تحويل اعتقاد غير صحيح إلى آخر صحيح. إن آلية الشفاء في هذا المقام هي في الأساس نفس الآلية في حالات الاكتئاب والقلق والرهاب: صَحِّح الاعتقاد الخاطئ؛ تُخفِّف العرَض المرضي.
١  آثرت عدم جر (إثنا) بالياء على اعتبار أن (إثنا عشر) في هذا المقام هو اسم كلي مدمج يشير إلى عضو تشريحي محدد واحد، وليس مجرد عدد كغيره من الأعداد. (المترجم)
٢  ترى نظرية التوازي، التي قال بها فلاسفة بحجم ليبنتز وجيولنكس، أن الذهن والجسم دائرتان مقفلتان لا تؤثر إحداهما في الأخرى، ومهما يكن من ارتباطهما الظاهر فهو ليس ارتباط عِلِّية. وإنما هو انسجام مقدَّر preestablished harmony من صنع الله، شأن ساعتين ضُبطتا وهُيئتا بحيث تدق الأولى كلما أشارت الثانية إلى الزمن دون أن تؤثر إحداهما في الأخرى أو تتصل بها! (المترجم)
٣  المصطلح الجديد «الاضطراب النفسفسيولوجي» (أو السيكوفسيولوجي) أخذ الآن يحل بالتدريج محل المصطلح القديم «الاضطراب النفسجسمي» (أو السيكوسوماتي).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤