الخاتمة

المآزق: ربما نكون وحدنا!

ما الذي يمكن أن تخبِرنا به أعمدة العلم السبعة بخصوص موضعنا في هذا الكون؟ إن الخطوات التي أدَّت إلى ظهور الحياة على كوكب الأرض واضحة، وتشير إلى أن الحياة معتادة في هذا الكون. بيْد أن إمكانية وجود أشكال أخرى من الحياة مثلنا، مخلوقات ذكية ذات حضارة تكنولوجية، ليست واضحة كثيرًا. وتُعَد المؤهلات التكنولوجية عنصرًا مهمًّا. فوفقًا لمعاييرَ كثيرة، تُصنَّف الحيتان والدلافين كمخلوقات ذكية مثلنا، ولكن هذه الكائنات لا تصمِّم تلسكوبات راديوية ومرْكبات فضائية، وإذا كنا لنتواصل مع كائنات ذكية أخرى في هذا الكون، فسوف تكون كائنات لديها تلك النوعية من التكنولوجيا. من الآن فصاعدًا، إذا أشرتُ إلى الكائنات الذكية دون ذكْر مؤهلات معينة، فأنا أقصد هذه النوعية من الكائنات الحية. إذن، لماذا «نحن» هنا، بدلًا من أن توجد الدلافين والحيتان، أو الفراشات وأشجار البلوط، أو الديناصورات «وحدها»؟

مع وجود نموذج واحد فقط لكوكبٍ تعيش عليه هذه النوعية من الكائنات الذكية، ليس من الحكمة أن نصدِر تعميمات. ولكني سأفعل ذلك على أي حال. من السمات اللافتة للنظر لوجودنا على هذا الكوكب هي المدة التي استغرقناها للظهور، سواء من حيث عمر الكون ككل أو من حيث عمر كوكب الأرض. لقد تكوَّنت مجموعتنا الشمسية قبل نحو ٤٫٥ مليارات عام مضى؛ أي بعد حوالي ٩ مليارات عام من نشأة الكون من الانفجار العظيم. وثمَّة سببٌ يفسِّر استغراق الشمس وعائلتها من النجوم هذا الزمنَ الطويل حتى تتكوَّن. لقد تكوَّنت النجوم الأولى من الهيدروجين والهليوم فقط، ولم يكن هناك أي رابط بينها وبين العناصر الثقيلة التي يمكن أن تتكوَّن منها الكواكب. وتحتَّم على أجيال من النجوم أن تقضي دورة حياتها وتنشر العناصر الأثقل عبر الفضاء بين النجمي حتى قبل أن تتراكم النسبة الضئيلة، التي وجدناها في المجموعة الشمسية، في السحابة التي تكوَّنت منها الشمس والكواكب. ويقدِّر علماء الفلك أن هناك «منطقة مجرية صالحة للحياة» استنادًا إلى فهْمهم لطريقة تطوُّر النجوم ورصدهم للجزيرة التي نعيش عليها في الفضاء؛ أي مجرة درب التبانة.

تمثِّل الشمس جزءًا من مجموعة نجوم تأخذ شكل القرص، وهي مجرة درب التبانة، بعرضٍ حوالي مائة ألف سنة ضوئية وسُمك ألف سنة ضوئية. وبالقرب من مركز مجرة درب التبانة، توجد نجوم كثيرة قريبة نسبيًّا بعضها من بعض، بعضها ينفجر مثل المستعرات العظمي أو مستعرات الماكرو. وينتج عن هذا وفرة من العناصر الثقيلة التي تستطيع الكواكب بواسطتها أن تتكوَّن حول أجيال لاحقة من النجوم، إلا أن الإشعاع الصادر عن هذه الانفجارات يشكِّل ضررًا بالغًا على الحياة. وبعيدًا عن مركز المجرة، يوجد عدد أقل من النجوم وفرص أقل لتراكم العناصر الثقيلة. ولكن في نطاق حلقة حول مجرة درب التبانة تبعُد مسافة نحو ٢٦ ألف سنة ضوئية عن مركز المجرة، وقبل حوالي ٥ مليارات عام مضت، تراكمت العناصر الثقيلة بالتركيزات التي نراها في المجموعة الشمسية، واستطاعت نجوم مثل الشمس أن تتكوَّن. فنحن قريبون من مركز هذه المنطقة المجرية الصالحة للحياة.

بمجرد أن تكوَّنت الأرض، كما رأينا، بدأت الحياة بسرعة شبه غاشمة. ولكن لأكثر من ٣ مليارات عام، كانت الحياة تتألف فقط من كائنات وحيدة الخلية تعيش في البحار. وأحد الاستنتاجات المستخلصة من ذلك أن هذه النوعية من الحياة هي التي يرجَّح أن نجدها حتى على الكواكب الشبيهة بكوكب الأرض التي توجد في نطاق منطقتنا الكونية. هل كان ظهور كائنات متعددة الخلايا واستعمار الأرض أمرًا لا مفر منه؟ أم إن الأمر تطلَّب وقوع حدث خاص — مثل حدث كرة الثلج — لتحفيز هذه التطورات؟

مثلما توجد منطقة مجرية صالحة للحياة، توجد أيضًا منطقة نجمية صالحة للحياة، وتُعرَّف بأنها المنطقة المحيطة بنجمٍ ما، حيث يمكن لكائنات حية مثلنا أن توجَد. وأبسط قاعدة بديهية في هذا الإطار أن هذه هي المنطقة التي تتراوح فيها درجة الحرارة على سطح الكوكب بين صفر درجة مئوية و١٠٠ درجة مئوية، وهو النطاق الذي يمكن أن توجَد فيه المياه السائلة بفضل الترابط الهيدروجيني. تقع الأرض تقريبًا في وسط المنطقة النجمية الصالحة للحياة الخاصة بشمس مجرتنا. فكما أشرتُ في موضعٍ سابق، فإن كوكب الزهرة، ثاني أقرب الكواكب قربًا إلى الشمس، ساخن للغاية؛ رغم أنه لولا ذلك لأصبح أحد أوائل المرشَّحين للقب «الكوكب الشبيه بالأرض». أما كوكب المريخ، ثاني أبعد الكواكب عن الشمس، فهو شديد البرودة اليوم، على الرغم من أنه ربما كان في وقتٍ ما يحظى بغلاف جوي سميك بما يكفي للوصول بدرجة حرارة سطحه إلى النطاق الحرج بفعل تأثير الاحتباس الحراري. ولسوء الحظ، فقدَ معظم ذلك الغلاف، ويُعزى السبب في ذلك جزئيًّا إلى كونه كوكبًا صغيرًا ذا قوة جاذبية ضعيفة. وهذا ما قاد علماء الفلك إلى ابتكار مصطلح آخر من المصطلحات الأثيرة لديهم، وهو مصطلح «منطقة صالحة لاستمرار الحياة». وكوكب الأرض قريب من منتصف المنطقة الصالحة لاستمرار الحياة من الشمس، التي تمتد فقط من مسافةٍ أقرب من المسافة التي تفصلنا عن الشمس بمقدار ٥ بالمائة إلى مسافة أبعد من تلك التي تفصلنا عن الشمس بنسبة ١ بالمائة. النقطة المهمة هنا هي أن أي كوكب يحتاج بالفعل إلى أن يكون صالحًا لاستمرار الحياة، على الأقل لمليارات السنين، ليفرز حضارة تكنولوجية، وذلك من واقع المدة التي استغرقتها الكائنات الذكية مثلنا للظهور على كوكب الأرض. فلو أن ثمَّة كائنات حية على كوكب المريخ، فإنها لم يُتَح لها الوقت مطلقًا لتتطوَّر إلى كائنات ذكية مثلنا. وهذه اعتبارات واقعية تصلح لأن نضعها أمام فيض القصص الإخبارية حول الاكتشافات الجديدة لكواكب تدور حول النجوم الأخرى.

figure
اصطدام مذنب شوميكر-ليفي ٩ بكوكب المشتري. «شركة ٢٠١٠١٠ المحدودة/ساينس فوتو لايبراري».

تشير نوعية المدارات التي تدور فيها هذه الكواكب أيضًا إلى أن ثمَّة شيئًا استثنائيًّا بخصوص مجموعتنا الشمسية. إن الكواكب «الخاصة بنا» تدور حول الشمس في مدارات شبه دائرية، وتفصل بينها مسافات كافية حتى إنها لا تؤثِّر بعضها على بعض تأثيرًا كبيرًا. أما في المجموعات الكوكبية الأخرى، فتميل المدارات أكثرَ إلى الشكل البيضاوي، وهذه القاعدة تنطبق بصفة خاصة على الكواكب العملاقة مثل المشتري — أكبر كواكب مجموعتنا الشمسية — التي يسهل دراستها. فمن السهل فهْم كيفية دخول الكواكب إلى مثل هذه المدارات؛ فهذه هي الحالة الطبيعية التي تتكوَّن فيها. ولكن من الصعب فهْم الكيفية التي تُدخل بها كواكب مجموعتنا الشمسية نفسها إلى مدارات دائرية مرتبة، ولا يزال الجدل دائرًا بين علماء الفلك حول ذلك. ولكن الحقيقة الثابتة هي أنها تدور في مدارات منتظمة للغاية. يمكنك أن تتخيل الفوضى التي كان سيتسبَّب فيها المشتري لو أنه يحظى بمدار بيضاوي الشكل على نحوٍ ملحوظ، ما قد يجعله يتحرك في كل مدار من مدارات المجموعة الشمسية نحو الشمس مقتربًا إليها نفس قرب الأرض منها اليوم، قبل أن يعود أدراجه مبتعدًا مسافة ابتعاد كوكب زحل عن الشمس اليوم. وهكذا، فمن شأن قوة جاذبيته أن تخلَّ بمدارات أي كواكب داخلية، وهو ما سيجعلها غير صالحة لاستمرار الحياة. على النقيض من ذلك، يبدو للمشتري في مداره الفعلي تأثير حميد؛ إذ يساهم في استقرار المجموعة الشمسية وإبقاء كوكب الأرض صالحًا للحياة.

يحظى كوكب المشتري، الذي تبلغ كتلته أكثر من ٣٠٠ ضعف كتلة كوكب الأرض، بقوة جاذبية شديدة حتى إنه لعب دورًا كبيرًا في تطوُّر المجموعة الشمسية. ففي مرحلة مبكرة، أسهم في زعزعة مدارات أجزاء الحطام الكوني الذي تبقى من عملية تكوين الكواكب التي أسفرت عن القصف الشديد المتأخر الذي ذكرناه في العمود الرابع. وبمجرد التخلص من أغلب الحطام أثناء هذه العملية، جذب كوكب المشتري ما تبقى في مدارات دائرية نسبيًّا بين كوكبي المريخ والمشتري، أي حزام الكويكبات، حيث ظل أغلبه قائمًا هناك. ولكنَّ ثمَّة حطامًا أيضًا، على هيئة موادَّ صخرية مغطَّاة بالثلج، تبقَّت في الجزء الخارجي من المجموعة الشمسية، وراء مدارات الكواكب. وتُعَد هذه المنطقة مصدر المذنبات التي تمر من أمام الكواكب العملاقة إلى الجزء الداخلي من المجموعة الشمسية وتتأرجح أمام الشمس، تاركة أذيالًا لامعة بسبب تبخُّر المادة الجليدية بفعل حرارة الشمس. يحتجز كوكب المشتري الكثير من هذه الأجرام التي ربما كانت ستمر من أمام كوكب الأرض أو قد تصطدم بكوكبنا لولا احتجازه لها. وأثبت هذا على نحوٍ مذهل في شهر يوليو عام ١٩٩٤، عندما مزَّقت جاذبية كوكب المشتري مذنَّبًا عُرف باسم شوميكر-ليفي ٩ واصطدمت شظاياه بالكوكب العملاق.

ورغم أن كوكب المشتري جرف قدْرًا كبيرًا من هذا الحطام الكوني، فإن بعضًا منه لا يزال ينفذ إلى داخل المجموعة الشمسية. وتكشف الأدلة الجيولوجية أن كوكب الأرض يصطدم بجِرم سماوي لا يقل عرضه عن ١٠ كيلومترات مرة كل مائة مليون سنة أو نحو ذلك. وهذا الاصطدام بنفس حجم الاصطدام الذي وقع لكوكبنا قبل ٦٥ مليون عام مضى وتسبَّب في انقراض هائل للكائنات الحية على كوكب الأرض، بما في ذلك موت الديناصورات. وقد استغرقت الكائنات الشبيهة بالزبابات الناجية من تلك الكارثة كلَّ ذلك الوقت لتطوير حضارتنا التكنولوجية. فبدون كوكب المشتري الذي يحمينا من مثل هذه الأحداث، كان اصطدامٌ كهذا ليحدث كل ١٠ آلاف عام تقريبًا. ولم يكن ليصبح هناك فرصة لتطوير الذكاء في مثل هذه الفترة القصيرة، حتى لو بقيت أي كائنات حية معقَّدة على سطح الأرض على الإطلاق.

ثمَّة تهديدات أيضًا للحياة على كوكب الأرض من داخل كوكبنا، وليس فقط من الخارج. فقبل حوالي ٢٥٠ مليون عام مضى، شهدت الأرض حدثًا بركانيًّا (لا تبدو الكلمة قوية بالدرجة الكافية!) استمر نحو مليون عام ونشر حممًا بركانية شكَّلت طبقة سميكة من الصخور تُعرف باسم مصاطب سيبيريا عبْر ما يُعرف الآن بسيبيريا، كما توقعتَ على الأرجح. تسبَّب هذا الحدث وما ارتبط به من تأثيرات على الغلاف الجوي للكوكب بأسره وعلى مناخه في انقراض للحياة أودى بحياة ٩٠ بالمائة من الأنواع الموجودة في تلك الفترة، ما سطَّر النهاية للعصر البرمي الجيولوجي وكتب بداية العصر الترياسي.

ثمَّة أدلة أيضًا على اندلاع براكين هائلة على نطاقٍ أصغر في الماضي الجيولوجي الأحدث. وتشمل هذه البراكين ذلك البركان الذي أسفر عن تكوين بحيرة توبا، في إندونيسيا، قبل نحو ٧٠ ألف عام مضى. وكان هذا أكبر ثوران معروف خلال الخمسة والعشرين مليون سنة الأخيرة. وقد أسفر عن نشر طبقة من الرماد بعمق حوالي ١٥ سنتيمترًا فوق شبه القارة الهندية بأكملها، ولو صعدت كل تلك الغازات والمواد من ثوران البركان إلى الغلاف الجوي، لكان تأثيرها كبيرًا على المناخ. ومن الواضح أن التغيرات البيئية كان لها تأثير على أجدادنا. فتبيَّن لنا أدلة الحمض النووي أنه في نفس التوقيت الذي ثار فيه بركان إندونيسيا، انخفض تَعداد السكان من البشر على سطح الكرة الأرضية إلى حوالي ألف شخص. والأمر يستحق التكرار مجددًا. لقد نجا جميع سكان الأرض من البشر، الذين كان عددهم قد لا يتجاوز بضع مئات من الأزواج، من هذه الكارثة فقط في جيبٍ منعزل بشرق أفريقيا. وهذه الأعداد ضئيلة جدًّا لدرجةِ أن أي أنواع موجودة اليوم في ذلك القطاع المعزول من السكان غير المستقر من شأنها أن تُصنف رسميًّا باعتبارها أنواعًا مهدَّدة بالانقراض. لقد نجونا من هذا المأزق بشِقِّ الأنفس.

لعلك ستجد الطمأنينة في حقيقة أن هذا كان بالفعل أكبرَ ثوران بركاني خلال الخمسة والعشرين مليون عام الأخيرة، وأننا قد نجونا بالفعل. وبالتأكيد لن يكون هناك ثوران آخر في القريب العاجل، أليس كذلك؟ ربما عليك أن تفكِّر في ذلك مرة أخرى. فالمنطقة أسفل متنزه ويلوستون بارك بالولايات المتحدة بأكملها تُعرف الآن بأنها بركان هائل مثل هذا البركان في انتظار أن يثور. وسيثور عاجلًا أو آجلًا؛ وليس بإمكاننا سوى أن نأمل أن يكون هذا آجلًا وليس عاجلًا.

الرسالة العامة واضحة. الأرض عُرضة للكوارث المتكررة، بعضها يأتي من الداخل، والبعض الآخر يأتي من الخارج، علمًا بأنني لم أذكر أحداثًا مثل العصور الجليدية «المعتادة». فعلى سطح كوكبنا، كانت هناك فترة زمنية فاصلة بين كل كارثة وأخرى أتاحت ظهور حضارة تكنولوجية، ولكنها فترة قصيرة. وثمَّة بعض الأدلة أيضًا على أن كوكبنا كان محظوظًا بصفة خاصة في هذا الصدد. فالمجموعة الشمسية وُجِدت في المكان المناسب بمجرة التبانة وفي الوقت المناسب لتكوين كواكب مثل كوكب الأرض، والترتيب الاستثنائي للكواكب في مجموعتنا الشمسية، وبالأخص التأثير الإيجابي لكوكب المشتري، جعل الفواصل الزمنية بين الكوارث وبعضها طويلة على نحو استثنائي. هل يعني كل هذا أنه بالرغم من أن وجود الحياة هو شيء معتاد حتمًا في لهذا الكون، فإن الكائنات الذكية مثلنا نادرة وأن برونو كان مخطئًا على أية حال؟ سيكون عليك أن تقرِّر بنفسك، ولكن استنتاجي الشخصي هو أننا وحدنا في هذا الكون على الأرجح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤