الباب الثاني

في أصل المصريين وتكوين بلادهم

(١) روايات المصريين عن مبادئ العالم

في الأزل كان «نو» أي البحر المحيط الأول، وكانت أصول الأشياء وعناصر الموجودات تسبح في أقصى أعماقه مختلطًا بعضها ببعض، ثم خرج منه «رع» الذي هو الشمس، وخلق الكون بادئ بدء من غير سماء، فأوجد الأرض وحدَّها بنباتها وحيوانها وأهلها، ثم حكمها قرونًا طويلة وأجيالًا عديدة إلى أن تآمر عليه الناس في أيام شيخوخته، فذبح فريقًا منهم، وخلق السماء على دعائمها، ثم استقر فيها وهو الذي يتراءى في كل صباح في المشرق؛ ليضيء اليوم الجديد.

فلما كمل العالم بخلق السماء تولى الملك بعده أربعة من أكابر الآلهة، وكان القوم ينسبون إلى الثالث منهم وهو أوسيرس وزوجته إيسس إيجاد جميع الاختراعات، التي جعلت الإنسان قادرًا على احتمال الحياة، فإنه نظم حقوق الملكية ورتب العائلة ووضع الشرائع وعلم النسيج وحراثة القمح والكرم وتربية الماشية، وقد قتله أخوه تيفون وتولى مكانه، ولكن لم تمضِ عليه سنون قليلة حتى هاجمه ابن أخيه حوروس واضطره لأن يتنازل له عن أرض الدلتا، وأن يبقي لنفسه الوادي الكائن فيما بين ضواحي منف ومدينة أسوان، ومن ذلك الوقت لم يبقَ العالم دولة واحدة. ولما انقسمت مصر إلى مملكتين بارحها أولياء تيفون وأشياعه وانتشروا في البلاد المحيطة بها؛ فزنوج كوش في الجنوب، وأهالي آسيا في الشمال، واللوبيون في الغرب، والأعراب من البدو في الشرق.

ثم حكم على مصر بعد حوروس عائلتان إلهيتان من طبقة ثانية، وبعد ذلك صعد الآلهة إلى السماء، وقام الناس مقامهم في ولاية الأحكام فجاء مينيس من مدينة ثيتيس، وأسس أول دولة بشرية.

(٢) مصر الأولى والكلام على مينيس

تلك هي الروايات التي تناقلتها ألسنة الأهالي، ولا يبعد أن يكون المصريون جاءوا من آسيا عن طريق برزخ السويس، والظاهر أن الأماكن التي استوطنوها أولًا كانت في الدلتا، فإن رواياتهم ونُقولهم تدور مواضيعها كلها على مدائن الدلتا فيما يتعلق بآلهتهم الذين يبالغون في إعظامهم وإجلالهم؛ أي مبالغة مثل «رع» و«أوسيرس» و«إيسس» و«نيث» كما أن قواعد العقائد قد وضعت في مدينة هليوبوليس١ التي يزعم مؤرخوهم أنها كانت مقرًّا للدول الإلهية. وكانت الدلتا في ذاك العهد عبارة عن بطيحة فسيحة، تتخللها جزائر رملية وتغشاها آجام وغياض تجري خلالها فروع النيل متنقلة على الدوام من مكان إلى مكان، ولم يكن الوادي إلى حدود الشلال الأول مرتبًا ترتيبًا طبيعيًّا أحسن من الدلتا فإن الصحراء كانت تنهال رمالها؛ حيث لا يجيء الفيضان من نفسه؛ فيغمر الأرض ويحييها. وأينما وصلت مياه الفيضان فلكونها لم تكن مدبرة على يد الإنسان كانت تسيل بسرعة شديدة لا يتأتى معها إخصاب الأرض، أو ترسب عليها مدة طويلة؛ حتى إنها بعد جريانها فيها تتركها ذات وحل متراكم تنبعث منه الأوبئة وأنواع الطاعون.
وقد تغلب المصريون على طبيعة الأرض بالصبر والمواظبة؛ فاتخذوا للنيل جسورًا تحفظ مياهه، وجففوا الأرض، وشقوا فيها الترع والخلجان؛ وهي التي ما زال حفظ ثروة البلاد متوقفًا عليها إلى يومنا هذا، وأسسوا في هذا العهد القديم معظم مدائنهم مثل؛ تنيس وبوباسطة، وبوتو، وكوئيس، ومنديس، وبسايس، وهليوبوليس، وهيراكليوبوليس، وسيوط، وخميس، وثينيس، ودندرة، وطيوة، وهرمنتيس، وكانت كل مدينة منها عاصمة لولاية مخصوصة كانوا يميزونها عن الأخرى بحسب الرمز الخاص بالإله المعبود فيها فيقولون: ولاية الطرفاء، أو الجميزة، أو البقرة، أو الخاطوف (وهو الكُلَّاب) أو ابن آوي أو القنُّومة٢ وقد تجزأت هذه الولايات جملة مرات؛ حتى آل بها الأمر إلى أن صارت في الحقيقة كورًا إدارية، ليس إلا، وكان عدد هذه الكور في العادة أربعة وأربعين، نصفها في الدلتا والنصف الآخر في الوادي، وكان القائم على رأس هذه الولايات زعماء يتولون الحكومة فيها بالوراثة، وقد حازوا في أيديهم جميع فروع السلطة من ملكية وعسكرية ودينية، ثم اتحد بعضها ببعض على توالي الأيام، وصارت كلها عبارة عن مملكتين متمايزتين؛ إحداهما مملكة الوجه البحري في الدلتا، والأخرى مملكة الوجه القبلي في الوادي؛ أي في حدود الفيوم إلى جبل السلسلة ثم إلى الشلال الأول.

وفي رواية لا تخلو غالبًا من الصحة التاريخية أن منا أومينيس أحد عرفاء ولاية ثينيس، هو الذي حاز الشرف وأحرز الفَخار بضمه المملكتين إلى بعضهما، وبتشييد دعائم الدولة المصرية عليهما، وكان ذلك في حدود سنة ٥٠٠٠ قبل المسيح.

(٣) الفرعون والكلام على العائلات: بحسب ترتيب مانيثون

كان الملك عند قدماء المصريين بمثابة ملكين اثنين في شخص واحد؛ لأنه كان سيد الوجه البحري وسيد الوجه القبلي. وأحَب ألقابه لدى رعيته هو لفظة «فرعون» وهذا الاسم مشتق من اسم دَارَيه الكبيرتين «بير-عوى» اللتين يتألف منهما قصره، وكل منهما رمز إلى إحدى مملكتيه. وكان من سلالة الآلهة مباشرة، ويدعو نفسه بابن الشمس؛ ولذلك كان له سلطة أحد الآلهة التي ليس لها حد تقف عنده، وكان القوم يقومون له في ظروف كثيرة بالتعظيم والإجلال على وجه هو أشبه بالعبادة منه بالتأدب المعتاد مع الملوك؛ فكانوا يبخرونه بالبخور ويهللون أمامه ويدعونه بدعوات دينية ويسجدون له ويقربون القربان إلى صوره وتماثيله ويتقربون إليها بالصلوات، فإذا مات قالوا «إنه طار ليلحق بقرص الشمس الذي هو جده»، وحينئذ يخلفه على سرير الملك أكبر أولاده، ويكون عادة من الذكور، ولكن الإناث كان لهن أيضًا من حقوق الملك ما للذكور من غير فرق؛ فإذا انقرضت الذكور أو وقعت فتنة فقلبت دولتهم وأنزلتهم عن سرير الملك كان الفرعون الجديد يتزوج بمجرد ولايته بواحدة فأكثر من هذه الأميرات لتأتي بأولاد يكون بهم استمرار جنس الشمس في الوجود؛ ولذلك يؤكد المصريون بأن الذين حكموهم من مبدأ الأمر إنما هم أبناء عائلة واحدة توالت فروعها على عرش المملكة، فتكونت منها عائلات متوالية بمقدار عددهم، على أن المؤرخين منهم لم يتفقوا على عدد هذه العائلات ومدة حكمها وذلك لأن أحد هؤلاء المؤرخين وهو مانيثون٣ من سبنيطوس الذي كان في عصر بطليموس فيلادلف، وقد كتب لليونان تاريخ بلاده؛ قال إن عدد هذه العائلات واحد وثلاثون من عهد مينيس إلى أن افتتحها الإسكندر، وقد اختار الحديثون هذا التقسيم، ولو أنهم لم يقفوا على حقيقة أسبابه إلى الآن. وتمتاز كل عائلة عن الأخرى باسم البلد الذي خرجت منه، ولم تكن هذه العائلات سواء في الشوكة والاقتدار، ولكن المصريين كانوا يعتبرونهن كلهن متناسلات من الشمس تناسلًا شرعيًّا صحيحًا. وهذه العائلات تنقسم بالطبع إلى ثلاث طوائف تختلف مدة حكم كل منها عن الأخرى:
  • (١)

    فأقدمها وهي العائلة الأولى فالثانية إلى العاشرة قد حكمت في أيام كان مستقر الحياة السياسية والدينية فيها بالجزء من مصر الكائن في مدخل وادي النيل، وهذه هي الدولة القديمة أو العصر المنفي.

  • (٢)

    وأما العشر عائلات التي جاءت بعدها فقد رفعت شأن الصعيد وأعلنت مكانته على الوجه البحري، فسمي عصرها بالعصر الطيبي، وقد أغارت الرعاة وهم العمالقة (العائلتان ١٥، ١٦) على أرض مصر في وسط ذلك العصر، فانقسمت الدولة إلى دولتين؛ وهما الدولة المتوسطة من العائلة العاشرة إلى العائلة الرابعة عشرة، والدولة الأخيرة من العائلة السابعة عشرة إلى العائلة المتممة للعشرين.

  • (٣)

    ومن ابتداء العائلة الواحدة والعشرين كان لمدائن الدلتا الشأن والسيطرة على بلاد الصعيد، وكانت هي مقر الحكومة وفيها تصاريف السياسة في مصر، إلى أن أتاها المقدونيون وهذا هو العصر الذي حكمت فيه العائلة الصاوية.

(٤) الثلاث عائلات المنفية الأولى

لا يكاد يكون لدينا تاريخ للعصر المنفي (فيما بين سنة ٥٠٠٠ وسنة ٣٥٠٠ق.م) وقد جاء في الروايات والنقول أن مينيس نظم مجرى النيل بجسور متينة مكينة فوق رأس الدلتا بقليل، وشيد على هذه الأرض المستحدثة مدينة منف أو منفيس واتخذها مقرًّا لحكومته، وعاصمة لمملكته، ولم يرِد عن خلفائه إلا أحوال خصوصية وأشياء خوارق للعادات؛ مثل ظهور غرنوق له رأسان، والطاعون الجارف، وقحط توالى سبع سنين، وانفجار هوة عميقة على مقربة من مدينة بوباسطة ابتلعت كثيرًا من الناس. ولذلك لا يمكن للإنسان إلى اليوم أن يحكم على معظم ملوك العائلتين «الأوليين الطيبيتين» هل كان لهم مسمى في عالم الوجود حقيقة أو أنهم من اختراع الوهم والخيال.

على أن الاسفنكس٤ الكبير المعروف بأبي الهول الكائن بجوار أهرام الجيزة، وهو من أغرب الآثار وأعجب الأعمال في العالم بأسره، قد كان تشييده في عهد أولئك الملوك إن لم نَقل في أيام الذين سلفوهم، وهذا الاسفنكس الكبير هو رمز تمثيلي للإله «الشمس»، وبعبارة أقرب وأولى هو تمثال لوحش هائل مرعب له جسم أسد ورأس إنسان، يزعمون أنه كان موجودًا في الصحراء وقد أرصدوه للإله الشمس، على سبيل الوقف والنذر، وهو منحوت من جلمود أتوا به من أقصى أطراف هضبة لوبيا، وأقاموه بحيث يظهر كأنه يرفع رأسه فوق الوادي كله ليكون أول من يمتع ناظره بالقرص المضيء والسراج المنير. وقد انهالت عليه الرمال وانتُهك جسمه فلم يبقَ فيه من الأسد إلا هيئته العامة وشكله الإجمالي، ثم جاءه قوم متعصبون للديانة فحطموا أسفل عُمارته٥ ولحيته وأنفه، هذا وإن الطبقة الحمراء التي كانت تخيل الحياة على تقاطيعه قد كادت تكون لا أثر لها، على أن مجموع هذا التمثال يتجلى مع ما أصابه من صروف الزمان ومحن الأيام في جلباب الرفعة، ويتراءى بمظهر القوة والسلطان. لا جرم أن الصانع الذي تصور في مخيلته تصوير هذا التمثال على هذا المنوال، وأفرغه في قالب الكمال وهو يصطنعه فيما بين الجبال؛ لجدير بالمدح والإجلال، فإن عمله هذا يدل على تقدم فائق وحذق غريب.

وقد نشأ التمدن المصري على يد الأجيال المجهولة لنا، التي تعاقبت تحت أقدام هذا التمثال الهائل، وسعت في إنماء حضارتها وترقيتها محصورةً في بلادها لا تتخطاها. ولا بد أن آثار هؤلاء الأقوام موجودة باقية، ولا شك أن الأيام ستكشف لنا مخباها وتوقفنا على مكنوناتها.

وأما الآن فنقول إن حقيقة التاريخ لا تبتدئ أمامنا إلا من العائلة الثالثة؛ فإن الملك سنفرو آخر ملوكها هو أول فرعون وقفنا له على أثر صحيح ونبأ صادق، فقد عثرنا على نقوش بارزة على صخرة في أحد وديان الطور يذكر فيها فوزه وانتصاره على المتبربرين المستوطنين ببادية العرب (شكل ٢-١).
fig3
شكل ٢-١: سنفرو منتصرًا على أعدائه (كما في نقش بارز على أحد جبال الطور).

خلاصة ما تقدم

  • (١)

    كان المصريون يعتقدون أن آلهتهم حكمت الدنيا مباشرة في مبدأ الأمر وأن رع؛ أي الشمس، هو أول الملوك. وبعد أن توالت الأجيال الطوال على حكم الآلهة جاء مينيس من مدينة ثينيس وأسس العائلات الدولية البشرية.

  • (٢)

    والظاهر أن أصل المصريين من آسيا، وأن أقدم مواطنهم كانت بالدلتا، وقد حصروا النيل وأبعدوا حدود الصحراء، فظهرت بذلك أرض مصر وأحدثوا فيها ولايات صغيرة تجزأت وانتظمت فيما بعد وتعدلت، فتكوَّن منها ٤٤ قسمًا إداريًّا أو كورة، ثم اتحدت هذه الولايات فصارت مملكتين اثنتين؛ وهما الدلتا أي الوجه البحري والصعيد أي الوجه القبلي، وقد ضمهما مينيس إلى بعضهما، وأقام عليهما مملكة الفراعنة.

  • (٣)

    وعلى هذا يصح القول بأن الفرعون هو ملك مزدوج، واسمه مشتق من لفظة بيرعوي المجعولة عَلَمًا على قصريه وهو عندهم من سلالة الشمس مباشرة، وكان يلقب نفسه بابنها، وكان عبارة عن إله منتعش بالحياة على وجه الأرض.

    وقسم المؤرخ مانيثون الفراعنة إلى إحدى وثلاثين عائلة، فالعائلات العشر الأول يسمى عصرها بالعصر المنفي أو الدولة القديمة والعشر عائلات الثانية (العائلة ١١ إلى ٢٠) عصرها هو المسمى بالطيبي، وقد شطرته إغارة العمالقة (الهكسوس) إلى قسمين هما؛ الدولة الوسطى، والدولة الأخيرة، وأما العائلات الباقية فهي داخلة في العصر الصاوي.

  • (٤)

    لا يكاد يكون عندنا تاريخ للعصر المنفي (فيما بين سنتي ٥٠٠٠ و٣٥٠٠ق.م) ولا نعلم شيئًا عن أمر العائلات الثلاث التي جاءت بعد مينيس إلا أسماء بعض الملوك وبعض الأقاصيص عن حوادث خارقة للعادة، وأول فرعون حصلنا على أثر صحيح له هو آخر ملوك العائلة الثالثة، وهو سنفرو، الذي قاتل بدو الأعراب في جزيرة الطور.

١  هي عين شمس المعروفة الآن بالمطرية بجوار مصر القاهرة وفيها مسلة قائمة إلى اليوم.
٢  سمكة توجد بأعلى الصعيد وتُعرف عند الفرنساوية باسم Oxyrrhynque.
٣  هو كاهن مصري ألَّف تاريخ مصر القديم من معدنه بأمر بطليموس فيلادلف الثاني وذيَّله بجدول يشتمل على أسماء الملوك.
٤  الاسفنكس (واسمه عند قدماء المصريين أرماخيس) هو في خرافات الأغارقة عبارة عن وحش، كان له رأس ونهدان كما في المرأة، وجسم شبيه بجسم الكلب ومخالب أسد وأجنحة نسر، وفي ذنبه سهم حاد. وورد في خرافاتهم أنه كان يعيش في بلاد الصعيد على جبل عالٍ، ويلقي الألغاز على من يمر به من الناس، فمن لم يفسرها افترسه في الحال، فنادى أحد ملوك طيبة بأنه يزوِّج ابنته ويعطي تاجه لمن يريح العالم من شر هذا الآفة، فجاء رجل اسمه أديب وحل اللغز، فأهوى الوحش بنفسه من فوق الصخور وتحطم جسمه وخلص الناس من ضرره. وأما اللغز فهو «ما هو الحيوان الذي يمشي على أربع في الصباح وعلى اثنين في الظهر وعلى ثلاثة في المساء» وجوابه هو الإنسان؛ يحبو على قدميه ويديه في الطفولية، ويسعى على رجليه في الشبيبة، ويتوكأ على عصا في الشيخوخة.
٥  العُمارة بالضم هي كل ما يوضع على الرأس لتغطيته، ويقابلها في الفرنساوية لفظة Coiffure.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤