الباب الثاني والعشرون

الديانة – الأخلاق – العادات – الآثار

(١) زرادشت والبُسْتاه١

ديانة الماديين والفرس مأخوذة عن عبادة الأمم الآرية القديمة، كما يدلنا على بعض ذلك كتب الهند المقدسة، وجاء في الخرافات المتداولة عند العامة أنها من صنع رجل واحد وهو زرادشت أو زرثوسترا٢ وأن هذا الرجل من السلالة الملوكية، وكان مولده في راغة في ماداي أو في أتروباتان (أذربيجان) وقد ظهر أيام كان الإيرانيون ضاربين خيامهم في إقليم بلخ، وأمضى طفوليته وشبيبته في مقاومة الشياطين والأبالسة حتى إذا بلغ الثلاثين من عمره عرج بروحه إلى الباري تعالى، فأعلمه أن أفضل المخلوقات على الأرض إنما هو الإنسان ذو القلب السليم الطاهر.

وبعد امتحانات كثيرة ابتلاه بها سبحانه وتعالى أعطاه بيده كتابًا يحتوي على الشريعة، وهو البُستاه، ثم هبط عائدًا إلى الأرض ودعا إلى هذا الدين الجديد، فدخلت فيه الأمة الإيرانية بأسرها.

(٢) هرمز وأهرمان

كان الإله الأكبر عند الإيرانيين في أول الأمر هو (قوس السماء الكامل، وهو أمكن الآلهة وأمتنها؛ لأنه يكتسي بقبة الملك المتينة)، وجسمه نوراني، وعينه هي الشمس، ثم تعرى عن الهيولي، وصار آهورامزد (أو رمزد-هرمز) العالم بكل شيء، المتفرد بالحكمة والكبرياء، والرحمة والبطش، والعقل والجمال (شكل ٢٢-١).
fig41
شكل ٢٢-١: هرمز مُحلقًا في السماء فوق رأس الملك كما في نقش بارز بمدينة تخت سليمان.
وبحذائه إله يعاديه، وله من الشر بقدر ما لهرمز من الخير، واسمه أنجرمينيوس (أهرمان)٣ وهو يجتهد في ملاشاة ما في الكون من الخير والجمال.

وكان هرمز قد خلق كل شيء بفعل كلمته واتخذ لنفسه ستة أرواح أو آلهة من طبقات عليا يعينونه على حفظ نظام العالم وتدبير شئونه، وهم المعروفون بأميشاسبنتاس، وهؤلاء الآلهة اتخذوا أيضًا آلافًا من اليزتاس يحكمون عليهم وهم منتشرون في الكون للمحافظة على بقاء أعضائه ودوران دولابه، فجعل أهرمان آلهة ظلمات وشرور في مقابلة آلهة الخير والنور وعارض الأميشاسبنتاس الستة بستة أرواح شريرة تعادلها في القوة والشوكة، ثم سلط الأبالسة على أليزتاس وسماهم الديوة (الشياطين) وهم لا ينفكون عن محاصرة الكون، ومنع انتظام حركاته، ولا يزال القتال مستمرًا بين هذه الأرواح المتكافئة في العزيمة والبطش إلى انقضاء الزمان، ولا ينتهي كفاحها إلا بانقراض العالم إذ يتم النصر لهرمز على أهرمان.

(٣) العبادة والمجوس

فكان الإنسان يعيش بحسب الشرع والعدل في الدرجة التي قسمت له والآلهة يتنازعون ويتخاصمون وكان بجانبه حافظ له أمين عليه، يعرف بالفرافاشي، يسهر على وقايته ويدفع عنه كيد الشياطين مستعينًا باليزتاس، وكان القوم يعتقدون أن هرمز إنما أوجد الإنسان في هذا العالم لكي ينازع أهرمان في أقسام الأرض القاحلة، ولذلك كان أول الواجبات عليه أن يحرث الأرض ويستغل القمح منها، وثانيًا أن يحمي مخلوقات هرمز ويبيد مخلوقات أهرمان، وعندهم أن أفضل مخلوقات هرمز هو الكلب وأن من قتله وقع في الإثم، بل إن من أعطاه «عظامًا لا يمكنه أن يأكل منها شيئًا أو طعامًا ساخنًا يحرق فمه» ارتكب خطيئة فاحشة وأتى أمرًا نكرًا، وعندهم أن الرجل البار هو من كانت أفكاره حميدة، وأقواله حميدة، وأفعاله حميدة، فإذا خرج عن دائرة الكمال فلا يعود إليها مهما أكثر من تقديم القرابين والضحايا، إذ لا تُغتفر الهفوة إلا لمن تاب وعمل صالحًا. ومن مكفرات السيئات التي نصت عليها هذه الشريعة قتل الحيوانات المؤذية كالضفدع والثعبان والنمل وإحياء الأرض الموات، وتزويج العذراء الطاهرة التقية النقية بالرجل العادل الصالح.

وكانت احتفالات الديانة والعبادة بسيطة وقليلة العدد، فلم يكن لهرمز تماثيل وأنصاب ولا محاريب سرية ولا مذابح للقربان بل كان له بيوت نار٤ فوق المشارف يحافظ القوم فيها على بقاء النار المقدسة على تعاقب الزمان. وكان الموكلون بها جماعة من الكهنة وظيفتهم أن لا يدعوها تخمد مطلقًا، وكانت الكهانة في بلاد ماداي، ثم في بلاد فارس منحصرة في طبقة لا يدخلها غير أهلها، وهي طبقة المجوس، وقد صار لها نفوذ كبير وجاه عظيم حتى تجاوزت حدود وظيفتها بالتعدي على حقوق غيرها في بعض الأحيان، وكانوا يلبسون قفاطين ضافية بيضاء اللون وعلى رءوسهم طرطور طويل، وفي أيديهم أغصان الطرفا (باريسما) إذ بدونها لا يكون أي عمل ديني مقبولًا ولا صحيحًا، وكانوا يصعدون على مذابح القربان بموكب حافل ويحضرون الضحية، ثم يصبون عليها الخمور ويرتلون عليها الأناشيد السرية التي تجعل فيها الخاصية اللازمة والفضيلة المطلوبة، وأهم ضحاياهم هو الفرس ولكنهم كانوا يقربون أيضًا الثور والماعز والشاة، فكان الكاهن يبتدئ بإحضار الهوما (نوع من الخمر أخذه الإيرانيون عن القبائل الآرية الأصلية) ثم يوزعه على الحاضرين، وبعد ذلك يذبح الضحية ويفصلها قطعًا، يضعها أمام الأتون لا في داخله لأن ملاصقتها للنار المقدسة تدنسها وتنجسها، ثم ينتهي الاحتفال بوليمة رسمية يأكل الحاضرون فيها لحم الضحية.

(٤) الاحتفال بالجنائز

كان الفارسيون إذا مات الواحد منهم لا يجوز لهم إحراق جثته ولا دفنها ولا طرحها في نهر من الأنهار؛ لأن ذلك يدنس النار أو التراب أو الماء وكان لهم وسيلتان للتخلص من الجثة من غير أن يمسوا طهارة العناصر الأولى؛ وذلك أنهم يغطونها بطبقة من الشمع ثم يدفنونها؛ معتقدين أن هذا الطلاء يحول دون النجاسة التي تحصل من ملامسة الجثة للتراب مباشرة، والطريقة الثانية أنهم كانوا يتركونها للطيور الجارحة تفترسها وبنوا لهذا الغرض صروحًا كبيرة مستديرة مفتوحة من أعلاها، واتخذوها مقابر لموتاهم. أما الروح فكانوا يزعمون أنها تبقى بجانب جسدها الفاني ثلاثة أيام، حتى إذا كان فجر اليوم الرابع فارقته وذهبت إلى محل الدينونة، وهناك توزن أعمالها من خير ومن شر لتبرئة ساحتها أو للحكم عليها بحسب ما تشهد به حياتها، وبعد خروجها من المحكمة تُساق إلى قنطرة شنفال، وهي قنطرة مقامة فوق الجحيم ويتوصل المار عليها إلى النعيم، فإذا كانت من أهل الكفر والضلال لا يتيسر لها اجتيازها فتسقط إلى الدرك الأسفل، وإذا كانت من أهل الطهر والعفاف مرت عليها من غير عناء، ثم تمثل بين يدي هرمز فتجلس في مكان يُعين لها وتبقى فيه إلى يوم تحشر الأجساد.

(٥) الفنون الفارسية

انتقل الفارسيون بغتة من الخمول، ومن حالة تقرب من الهمجية إلى ذروة المجد والفخار؛ فصار لهم ملك آسيا كلها في وقت قريب؛ ولذلك لم يمضِ عليهم الزمن الكافي لتوسيع نطاق تمدنهم، وعلومهم الأدبية، وفنونهم الخاصة بهم، فتخلقوا بأخلاق الأمم التي تغلبوا عليها من آشوريين، ومصريين، وهيلانيين (يونان)، وأخذوا عنهم كل ما لم يكُن عندهم، فلبس ملوكهم الأرجوان الصوري، وأقمشة بابل المطرزة، وقباطي مصر المشهورة، وكتبوا كتاباتهم بحروف استعاروها من الأقلام المسمارية المستعملة عند الأمم المتوطنة على سواحل الفرات ودجلة. وقد استعملوا في بعض الأحيان نقاشين من اليونان في زخرفة قصورهم، ومن نظر إلى ما بقي لنا من عمائرهم رأى فيها في كل خطوة آثارًا تذكِّره بفنون مصر وآشور. هذا، وإن بعض الأجزاء في قصر دارا بمدينة فرسبوليس٥ (شكل ٢٢-٢) توشك أن تكون أطلال أحد المعابد المصرية، فإن جميع الأبواب محلاة من أعلاها بأطناف٦ تشبه الأطناف المصرية، وعليها دلائل القوة والمتانة التي هي خاصية الآثار بوادي النيل، ومن نظر إلى مصارعة الملك مع أحد الأرواح الشريرة (وكثيرًا ما يوجد رسمها في الأطلال) (شكل ٢٢-٣) علم أنها مأخوذة مباشرة عن الكلدانيين والآشوريين.
fig42
شكل ٢٢-٢: قصر دارا في مدينة فرسبوليس.
fig43
شكل ٢٢-٣: مصارعة الملك مع الروح الشريرة.

(٦) الزخرفة بالمينا

على أنه ينبغي لنا تقرير حقيقة وهي أنهم جمعوا هذه العناصر المختلفة، ووفقوا بينها توفيقًا لطيفًا، فإن الإيوانات التي كان الملك يقابل الوفود فيها أيام التشريفات ليست غير جديرة بأن تكون نظيرة للغرف ذات العمدان في المعابد المصرية؛ لأن الأساطين التي هي مستندة عليها بالغة نهاية الظرف، فقواعدها مخروطية وتيجانها مزينة برءوس أثوار تحمل قمة العمود، وهذه العمد محلاة برسوم تظهر فيها جراءة الصناع وابتكارهم (شكل ٢٢-٤)، أما زخرفة الأسطحة الفسيحة الخارجية لجدران القصور وحيطانها، ففيها صور ورسوم ونقوش بالغة في الكثرة، وكلها متآلفة متناسبة بشكل لم يبلغه الإنسان إلى هذا الزمان، وكانت هذه الزخرفة بواسطة لَبِن مموه بالمينا مثل اللبن المستعمل في بعض الأبنية الآشورية والكلدانية، ولكن الفرس لم يحاكوا أهل بابل ونينوي في جعل الرسوم على المينا بخط واحد لا ترى معه بارزة عن الجدار، بل توخوا أن تكون الرسوم ظاهرة البروز عن اللبن بمسافة كبيرة، مع تمام المشابهة للبروز الحقيقي.
fig44
شكل ٢٢-٤: أحد عمدان قصر بارا بفرسبوليس.
وأكمل مثال للبن المزخرف بالمينا هو ما عثر عليه المسيو ديولافوا وزوجته، وهو الآن في متحف اللوفر، وهو عبار عن إفريز Frise طويل، منقوش عليه صور رجال من الحرس الملوكي (المعروفين عندهم بالمخلدين)، وهم يسيرون بعظمة ووقار، وفي أيديهم الحراب (شكل ٢٢-٥).
fig47
شكل ٢٢-٥: اثنان من المخلدين من متحف اللوفر.

فجميع ما في هذه القطعة بالغ في الإبداع، والجمال يظهر فيها بطء حركة الجنود المثقلة بالسلاح، وعلى وجوههم مخايل المهابة، وثبات الجنان، ويرى على قامتهم سيما الشمم والاقتدار، فهي كنموذج اختلط فيه العرفان بالبساطة؛ فظهرت حرية الحركة الخاصة بالفنون اليونانية ممزوجة بطرائق الصنائع المشرقية القديمة، وقد لونوها كلها تلوينًا جمع بين الكثرة والتناسب، بحيث لا يتسنى لأرباب الفنون عندنا في هذا الزمان أن يحاكوهم فيها، بل هم — والحق يقال — يعجزون عن مجاراتهم، ويقعدون عن مباراتهم في هذا المضمار، فإن اختلاف الألوان في هذه القطعة، وتركيبها بجانب بعضها هما على شكل يوجب زيادة قيمة كل منها في البهاء الرواء، وربما كانت هذه القطعة أجمل ما خلفه لنا السلف من نموذجات الزخرفة في العمارات.

خلاصة ما تقدم

  • (١)

    كانوا يقولون إن ديانة الماديين والفارسيين هي من صنع زرادشت، وأن كتاب البستاه يحتوي على مبادئها.

  • (٢)

    ومن مقتضى هذه الديانة أن هناك أصلين متعاديين وهما هرمز (أو رمزد) أصل الخير وأنجورمينيوس (أهرمان) أصل الشر، وكان كل واحد منهما يتسلط على الكون بواسطة جماعة من الأرواح يقتتلون على الدوام، ولا يزالون على هذه الحال إلى أن ينقرض العالم بهزيمة أهرمان.

  • (٣)

    فكان الإنسان يعيش بحسب الشرع والعدل، والآلهة متنازعون متخاصمون ويكفر عن سيئاته بالتوبة والعمل الصالح لا بالقربان، وعبادتهم كانت في غاية البساطة وتحصل في بيوت النار؛ حيث يقيم الكهنة الموكلون بحفظ النار المقدسة وكانوا في بلاد ماداي عبارة عن طبقة مخصوصة تُعرف بالمجوس، وقد صار لهم نفوذ عظيم حتى كانوا يتجاوزون حدود وظيفتهم في بعض الأحيان.

  • (٤)

    وكان الفرس يتركون جثث موتاهم للطيور الجارحة، وأما الروح فإنها بعد الدينونة تسقط في مهوى الجحيم أو تذهب إلى فردوس النعيم على قنطرة شنفال بحسب ما يقضى لها أو عليها.

  • (٥)

    أما الفنون الفارسية فهي خليط من عناصر آشورية ومصرية ويونانية.

  • (٦)

    ومع ذلك لم تكن قصور الملوك مجردة عن العظمة عارية عن جمال الائتلاف، فإن اللبن المطلي بالمينا المنقوش بالنقوش البارزة التي كانت تزدان به هاتيك القصور كان مصنوعًا على طراز معجب جميل وذا لون رائع، وأجود أنواع هذا اللبن هو ما جلبه المسيو ديولافوا وزوجته وهو محفوظ إلى الآن بمتحف اللوفر.

انتهى والحمد لله.

figure
figure

خريطة المملكة الفارسية في زمن دارا

figure
figure
١  اسمه عند الإفرنج Avesta.
٢  اسمه في الفارسية زردست وفي البهلوية زردُت وفي اللغة الزندية زرتشترو.
٣  واسمه أيضًا هرمند ومعناه أصل الشر وهو الشيطان عند الأعجام.
٤  بيت النار يسمى بالفرنساوية Pyrée.
٥  تشهيل منار الآن وأطلالها قائمة حول مدينة اصطخر.
٦  جمع طَنْف وطُنْف وطَنَف وطُنُف وهو إفريز الحائط وما أشرف خارجًا عن البناء وتعادله في الفرنساوية لفظة Corniche.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤