الفصل الحادي والعشرون

زوَّار من الجانب المظلم

أنهى لين إيفانز — كبير مهندسي مصادم الهادرونات الكبير — خطابه بالمؤتمر الذي عُقِد في كاليفورنيا حول المصادم والمادة المظلمة في يناير ٢٠١٠، بممازحة جمهوره من الفيزيائيين النظريين بشأن ما شهدوه من إخفاقات على مدار العقدين الأخيرين فيما يتعلَّق بموضوع المادة المظلمة، وأضاف قائلًا: «لقد أدركتُ الآن السبب وراء قضائي الخمسة عشر عامًا الأخيرة في تشييد مصادم الهادرونات الكبير.» كانت كلمات لين تشير إلى ندرة البيانات المتعلقة بالطاقة العالية على مدار السنوات السابقة، لكنها انطوت أيضًا على تلميحات بشأن إمكانية إلقاء اكتشافات المصادم الضوءَ على المادة المظلمة.

هناك الكثير من العلاقات التي تربط بين فيزياء الجسيمات وعلم الكونيات، لكن إحدى أهم هذه العلاقات تتمثَّل في أن المادة المظلمة قد تتكوَّن بالفعل في إطار الطاقات التي يستكشفها مصادم الهادرونات الكبير. والحقيقة المذهلة هي أنه إذا كان هناك بالفعل نوع مستقر من الجسيمات يحمل كتلة ضعيفة، فإن الطاقة التي يحملها هذا النوع من الجسيمات — والتي ترجع إلى المراحل المبكرة من عمر الكون — ستكون هي بالضبط ما نحتاج إليه لعزو المادة المظلمة إليه. ونتيجة الحسابات التي أُجرِيت للمادة المظلمة — التي لا تزال متبقية من المراحل الأولى من عمر الكون عندما كان ساخنًا ثم أخذ يبرد — تُثبِت أن هذا قد يكون صحيحًا. لا يعني ذلك أن المادة المظلمة موجودة أمام أعيننا فقط، وإنما يعني أيضًا أنه يمكننا معرفة هويتها. وإذا كانت هذه المادة مكوَّنة بالفعل من هذا الجسيم ذي الكتلة الضعيفة، فمصادم الهادرونات الكبير لن يمنحنا أجوبةً دقيقةً فحسب بشأن مسائل فيزياء الجسيمات، وإنما قد يقدِّم لنا أدلةً أيضًا بشأن ما يوجد في الكَوْن وكيف كانت البداية، وهذه هي المسائل التي يتناولها علم الكونيات.

fig81
شكل ٢١-١: يجري البحث عن المادة المظلمة باتباع منهج ثلاثي الأبعاد، فتبحث الكواشف الموجودة تحت سطح الأرض عن المادة المظلمة التي ترتطم مباشَرةً بالنوى المستهدفة. على جانب آخَر، يمكن لمصادم الهادرونات الكبير تكوين المادة المظلمة التي تخلِّف آثارًا لها في أجهزة التجارب. أما الأقمار الصناعية والتليسكوبات، فقد تعثر على أدلةٍ لفناء المادة المظلمة وإنتاجها مادة مرئية في الفضاء.
لكن تجارب مصادم الهادرونات الكبير ليست السبيلَ الوحيدَ للبحث عن المادة المظلمة؛ فقد دخلت الفيزياء حاليًّا عصرًا من البيانات قد يكون مثيرًا حقًّا، ليس فقط في مجال فيزياء الجسيمات، وإنما أيضًا في مجالَيِ الفلك وعلم الكونيات. ويوضِّح هذا الفصل كيف ستبحث التجارب في العقد القادم عن المادة المظلمة باتباع منهج ثلاثي الأبعاد: البعد الأول من هذا المنهج سيتناول الكشف عن السبب وراء ترجيح جسيمات المادة المظلمة ذات الكتلة الضعيفة، ثم كيف يمكن لمصادم الهادرونات الكبير إنتاج هذه الجسيمات والتعرُّف عليها في حالة صحة هذا الافتراض. وبعد ذلك، سنتناول كيف تبحث التجارب المصمَّمة خصوصًا للبحث عن جسيمات المادة المظلمة، عن وصول هذه الجسيمات إلى الأرض ومحاولتها تسجيل تفاعلاتها الواهنة، لكن القابلة للرصد في الوقت نفسه. وأخيرًا، سوف نتناول الطرق التي يمكن للتليسكوبات والكواشف الموجودة على الأرض وفي الفضاء البحث من خلالها عن نواتج جسيمات المادة المظلمة التي تفنى في السماء، وهذه السبل الثلاثة المختلفة للبحث عن المادة المظلمة موضَّحة في الشكل ٢١-١.

مادة شفافة

إن ما نعرفه عن المادة المظلمة هو كثافتها، وأنها باردة (ما يعني أنها تتحرك ببطء نسبي مقارَنةً بسرعة الضوء)، وأنها تتفاعل في الغالب على نحو ضعيف للغاية، فبالتأكيد ما من تفاعُل واضح لها مع الضوء. هذا كل ما نعرفه حتى الآن. المادة المظلمة شفافة، ولا نعرف كتلتها، وما إذا كانت تدخل في تفاعلات غير تفاعلات الجاذبية أم لا، وما إذا كانت قد نشأَتْ في مرحلة مبكرة من الكون. ما نعلمه هو متوسط كثافتها، لكن هذه الكثافة قد تكون نتاج توزيع كتلة مكافئة لكتلة بروتون واحد بكلِّ سنتيمترٍ مكعب في مجرتنا، وقد تكون نتاج حشد ألف تريليون مرة قدر كتلة البروتون في أجرام صغيرة موزَّعة في كل كيلومتر مكعب من الكون. كلتا هاتين القيمتين تساويان متوسط كثافة المادة المظلمة، وأيٌّ منهما قد تكون شكَّلت الأساس في تكوين بنية هذه المادة.

لذا، رغم علمنا بوجود المادة المظلمة، فإننا لا نعرف إلى الآن طبيعتها، فقد تكون ثقوبًا سوداء صغيرة أو أجسامًا من أبعاد أخرى، لكنها على الأرجح مجرد جسيمات أولية جديدة لا تدخل في تفاعلات النموذج القياسي المعتادة. وقد تكون هذه الجسيمات من البقايا المتعادلة المستقرة لنظرية فيزيائية سنكتشفها قريبًا والتي ستظهر في نطاق الكتلة الضعيفة. لكن حتى لو كان هذا هو الحال، فنحن نرغب في معرفة خصائص جسيمات المادة المظلمة، وكتلتها، وتفاعلاتها، وما إذا كانت جزءًا من قطاع أكبر من الجسيمات الجديدة أم لا.

ومن أسباب ترجيح تفسير الجسيم الأولي حاليًّا تلك النقطة الموضحة فيما سبق؛ أَلَا وهي وفرة المادة المظلمة، ونسبة الطاقة التي تحملها، فهذه الأمور تدعم هذا الافتراض. لكن الحقيقة المدهشة هنا هي أن يكون لجسيم مستقر تدخل كتلته بالكاد في نطاق الطاقة الضعيفة التي سيستكشفها مصادم الهادرونات الكبير (ط = ك س٢)؛ «بقايا كثافة» موجودة حتى الآن — وهي نسبة الطاقة المخزنة في الجسيمات في الكون — وهي البقايا التي تشير التقديرات إلى أنها المادة المظلمة.

والمنطق في ذلك هو كما يلي: مع تطور الكون، انخفضت درجة حرارته، والجسيمات الثقيلة التي كانت موجودة بوفرة عندما كان الكون أكثر سخونة، تشتَّتَتْ مع انخفاض درجة حرارته؛ وذلك لأن الطاقة عند درجة الحرارة المنخفضة لا تكفي لتكوين هذه الجسيمات، وعندما انخفضت درجة الحرارة إلى حدٍّ معين، فَنَتِ الجسيمات الثقيلة مع الجسيمات الثقيلة المضادة، واختفت كلتاهما. والعملية العكسية التي كانت تؤدي إلى نشأة هذه الجسيمات من جديد لم تَعُدْ تحدث بمعدل كبير. من ثَمَّ، ونتيجة لهذا الإفناء، انخفضت الكثافة العددية للجسيمات الثقيلة على نحو سريع للغاية مع انخفاض حرارة الكون.

بالطبع، لكي تفنى الجسيمات والجسيمات المضادة، كان لا بد أن تعثر هذه الجسيمات على بعضها البعض أولًا.1 لكن مع انخفاض عددها وتشتُّتها، صار من الصعب حدوث ذلك؛ ومن ثَمَّ تراجَعَ إفناء الجسيمات لبعضها البعض في المراحل التالية من تطوُّر الكون؛ لأن هذا الأمر تطلَّبَ وجود اثنين من هذه الجسيمات في مكان واحد ليتحقَّق.

وكانت النتيجة هي إمكانية بقاء الجسيمات ذات الكتلة الضعيفة الأكثر استقرارًا حتى يومنا هذا، الأمر الذي قد لا يرجِّحه التطبيقُ الساذج لقوانين الديناميكا الحرارية، التي تنص على أنه في مرحلة ما، صارت الجسيمات والجسيمات المضادة خفيفةً للغاية، مما حال دون عثورها على بعضها البعض، وتبديد كلٍّ منها للأخرى. وعدد الجسيمات المتبقِّية حتى يومنا هذا يعتمد على المادة المظلمة المحتملة وتفاعلاتها. يعلم الفيزيائيون كيف يحسبون وفرة الآثار الباقية عند معرفتهم بهذه الكميات، والحقيقة المذهلة هنا هي أن الجسيمات المستقرة ذات الكتلة الضعيفة تحمل من الخصائص ما يجعلها تتبقَّى بالوفرة اللازمة لأن تشكِّل المادة المظلمة.

وبالطبع، نظرًا لأننا لا نعرف الكتلة الفعلية للجسيم، ولا تفاعلاته على وجه التحديد (ناهيك عن النموذج الذي قد ينتمي إليه هذا الجسيم المستقر)، فنحن لا نعرف إلى الآن ما إذا كانت الأرقام صحيحة أم لا. لكن الاتفاق التصادفي — وإن كان تقريبيًّا فقط — بين الأرقام المرتبطة بظاهرتين تبدوان مختلفتين تمامًا؛ مدهش حقًّا، وقد يمثِّل دليلًا على أن فيزياء النطاق الضعيف هي المسئولة عن المادة المظلمة في الكون.

هذا النوع المرجح للمادة المظلمة صار يُعرَف، بوجه عام، باسم «الجسيم الضخم الضعيف التفاعل». وكلمة «ضعيف» هنا كلمة وصفية، وليست إشارةً إلى القوة الضعيفة؛ فهذا الجسيم يمكن أن يتفاعَل على نحوٍ أضعف من نيوترينوات النموذج القياسي الضعيفة التفاعل. ودون مزيد من الأدلة على المادة المظلمة وخصائصها التي قد يكشف عنها مصادم الهادرونات الكبير، لن نعلم ما إذا كانت هذه المادة تحتوي بالفعل على هذه الجسيمات الضخمة الضعيفة التفاعل أم لا؛ لذا نحن بحاجة لأبحاث تجريبية مثل تلك التي سنتناولها فيما يلي.

المادة المظلمة في مصادم الهادرونات الكبير

إن الاحتمالية المثيرة لإنتاج المادة المظلمة تمثِّل أحد أسباب اهتمام علماء الكونيات بفيزياء نطاق الطاقة الضعيفة وما يمكن أن يعثر عليه مصادم الهادرونات الكبير. فهذا المصادم يحتوي على القدر اللازم من الطاقة للبحث عن الجسيمات الضخمة الضعيفة التفاعل، وإذا كانت المادة المظلمة تتألَّف بالفعل من جسيم يرتبط بنطاق الطاقة الضعيفة مثلما تشير الحسابات الموضحة أعلاه، فقد تتكون هذه المادة في مصادم الهادرونات الكبير.

لكن، حتى إن حدث ذلك، فهو لا يعني بالضرورة اكتشاف جسيم المادة المظلمة، فهذه المادة لا تتفاعَل كثيرًا. ونظرًا للتفاعلات المحدودة مع مادة النموذج القياسي، فلن تُنتَج جسيمات المادة المظلمة أو يُعثَر عليها مباشَرةً بالتأكيد في الكواشف، حتى إن أُنتِجت، فسوف تفنى سريعًا. ومع ذلك، لا يُفقَد كل شيء (حتى وإن فُقِد جسيم المادة المظلمة). وأي حل لمشكلة التسلسل الهرمي سيتضمَّن جسيمات أخرى، معظمها يدخل في تفاعلات أقوى. بعض من هذه الجسيمات قد تُنتَج بوفرة؛ ومن ثَمَّ تتحلَّل إلى المادة المظلمة التي تنقل بعد ذلك طاقة وزخمًا لا يُكتشَفان.

وتُعَدُّ نماذج التناظر الفائق أكثر نماذج النطاق الضعيف المدروسة جيدًا، التي تحتوي على نحو طبيعي على المادة التي من المحتمل أن تكون المادة المظلمة. وإذا انطبق التناظر الفائق في عالمنا، فقد يكون أخف جسيم فائق التناظر هو المادة المظلمة. وهذا الجسيم الأخف وزنًا، الذي لا يحمل أي شحنة كهربية، يتفاعل تفاعلًا ضعيفًا للغاية بما يمنع إنتاجه من تلقاء نفسه والعثور عليه. لكن الجلووينوات — وهي النظائر الفائقة للجلوونات التي تنقل القوة القوية — والنظائر الفائقة للكواركات ستتكون إذا كانت جسيمات المادة المظلمة موجودةً وكانت لها الكتلة الصحيحة. ومثلما أوضحنا في الفصل السابع عشر، هذان النوعان من جسيمات التناظر الفائق سيتحللان في النهاية إلى أخف الجسيمات الفائقة التناظر؛ ومن ثَمَّ، على الرغم من أن جسيم المادة المظلمة لن يُنتَج مباشَرةً، فإن عمليات تحلُّلِ الجسيمات الأخرى الأكثر وفرةً يمكن أن تكوِّن أخفَ الجسيمات الفائقة التناظر بمعدل ملحوظ.

يتحتم أيضًا إنتاجُ سيناريوهات أخرى للمادة المظلمة الضعيفة النطاق، التي تؤدِّي إلى نتائج يمكن اختبارها، و«الكشف عنها» بنفس هذا الأسلوب. ومن المفترض أن تكون كتلة جسيم المادة المظلمة في حدود نطاق الطاقة الضعيفة التي سيدرسها مصادم الهادرونات الكبير. هذه الجسيمات لن تتكوَّنَ مباشَرةً، بسبب ضعف تفاعلها، لكن الكثير من النماذج تحتوي على جسيمات أخرى جديدة يمكن أن تتحلَّل إليها. وفي هذه الحالة، يمكننا أن نعلم بوجود جسيم المادة المظلمة، وربما كتلتها أيضًا، عن طريق الزخم المفقود الذي تحمله بعيدًا.

لا ريب أن العثور على المادة المظلمة في مصادم الهادرونات الكبير سيكون إنجازًا مهمًّا بحق. فإن وُجِدت هذه المادة، سيتمكَّن الفيزيائيون التجريبيون من دراسة بعض من خصائصها بالتفصيل. لكن إثبات فكرة أن جسيمًا ما موجودًا في مصادم الهادرونات الكبير هو الذي تتألَّف منه المادة المظلمة؛ يتطلَّب أدلةً أخرى تكميلية، وهذا ما قد تقدِّمه الكواشف الموجودة على الأرض وفي الفضاء.

تجارب الكشف المباشِر عن المادة المظلمة

لا شك أن إمكانية تخليق مصادم الهادرونات الكبير للمادة المظلمة مثيرة حقًّا، لكن تجارب علم الكونيات لا تُجرَى في المعجِّلات، وإنما التجارب التي تُجرَى على الأرض وفي الفضاء للأبحاث الفلكية والبحث عن المادة المظلمة هي المسئولة بشكل أساسي عن فهمنا للحلول الممكنة للأسئلة الكونية، وتطوير هذا الفهم.

بالطبع، تفاعلات المادة المظلمة مع المادة العادية ضعيفةٌ للغاية؛ لذلك تعتمد الأبحاث الحالية على الإيمان الراسخ بأن المادة المظلمة — رغم أنها تكاد تكون غير مرئية — تتفاعل بضعف (لكن تفاعلها ليس مستحيلًا) مع المادة التي نعرفها (ويمكن أن تُبنَى كواشف لرصد هذا التفاعل). ليس ذلك مجرد تخمينٍ نطمح فيه، وإنما هو استنتاج قائم على نفس حساب بقايا الكثافة التي ذكرناها فيما سبق، والذي يوضِّح أنه إذا كانت المادة المظلمة مرتبطةً بالنماذج المقترحة لتفسير مشكلة التسلسل الهرمي، فإن كثافة الجسيمات المتبقية ستمثِّل الكميةَ الصحيحة اللازمة لملاحظات المادة المظلمة. والكثير من الجسيمات الضخمة الضعيفة التفاعل المرشحة لأن تكون هي الجسيمات التي تتألَّف منها المادة المظلمة، والتي يقترحها هذا الحساب؛ تتفاعل مع جسيمات النموذج القياسي بمعدلات يمكن الكشف عنها باستخدام الجيل الحالي من كواشف المادة المظلمة.

رغم ذلك، ونظرًا للتفاعلات الضعيفة للمادة المظلمة، يتطلَّب البحث إما كواشف ضخمة على الأرض، وإما كواشف بالغة الحساسية تبحث عن نواتج التقاء المادة المظلمة وفنائها وتكوينها لجسيمات جديدة والجسيمات المضادة لها على الأرض أو في الفضاء. إن المرء لا يفوز، على الأرجح، باليانصيب إذا اشترى بطاقة واحدة فقط، لكنه إذا اشترى أكثر من نصف عدد البطاقات المتوفرة، فاحتمالات فوزه ستكون جيدة بالتأكيد. من المنطلق ذاته، لدى الكواشفِ الضخمة فرصةٌ معقولة للعثور على المادة المظلمة، بالرغم من أن تفاعُلَ هذه المادة مع أي نوكليون واحد في الكاشف يكون ضئيلًا للغاية.

والمهمة الصعبة لكواشف المادة المظلمة هي الكشف عن جسيمات المادة المظلمة المتعادلة — أي العديمة الشحنة — ثم تمييزها عن الأشعة الكونية أو غيرها من أشعة الخلفية. الجسيمات العديمة الشحنة لا تتفاعل مع الكواشف بالطرق التقليدية، والأثر الوحيد الدال على جسيم المادة المظلمة، الذي يمر عبر الكاشف، هو نتيجة ارتطام النوى في الكاشف وتغيُّر طاقتها بمقدار ضئيل. ونظرًا لأن هذه هي النتيجة الوحيدة المرصودة، فإن كواشف المادة المظلمة ليس أمامها خيار سوى البحث عن أدلة على كميات ضئيلة للغاية من الحرارة أو طاقة الارتداد التي تكوَّنَتْ عند مرور جسيمات المادة المظلمة؛ ولذلك صُمِّمت الكواشف لتكون إما باردة جدًّا، وإما حساسة للغاية من أجل تسجيل رواسب الطاقة أو الحرارة البسيطة من جسيمات المادة المظلمة التي ترتَدُّ ارتدادًا دقيقًا.

والأجهزة الشديدة البرودة، المعروفة باسم «الكواشف التبريدية»، تكشف عن الكميات الصغيرة من الحرارة المنبعثة عند دخول جسيم المادة المظلمة إلى الجهاز. إن كمية الحرارة الصغيرة التي تدخل إلى كاشف ساخِن بالفعل يكون من الصعب للغاية ملاحظتها، لكن مع استخدام الكواشف الباردة المصمَّمة خصوصًا لهذا الغرض، يمكن امتصاص رواسب الطاقة البسيطة وتسجيلها. والكواشف التبريدية مصنوعة من مادة ماصة بلورية، مثل الجرمانيوم. من أمثلة هذا النوع التجاربُ المعروفة بالأسماء التالية: «البحث البارد عن المادة المظلمة»، و«البحث البارد عن الأحداث النادرة بمقاييس حرارة فائقة التوصيل»، و«تجربة الكشف عن جسيمات المادة المظلمة تحت الأرض».

أما الفئة الأخرى من تجارب الكشف المباشر، فتشمل كواشف السوائل النبيلة. فرغم أن المادة المظلمة لا تتفاعَل مباشَرةً مع الضوء، فإن الطاقة المضافة إلى ذرة الزينون أو الأرجون عند ارتطام جسيم المادة المظلمة بها، يمكن أن تؤدي إلى لمعة من وميض مميز. ومن التجارب التي تستخدم الزينون تجربة «زينون ١٠٠»، و«لوكس»، وغيرهما من تجارب السوائل النبيلة الأخرى، إضافة إلى تجربتَيْ «زيبلين»، و«تجربة الأرجون للكشف عن المادة المظلمة».

يتطلع مجتمع الفيزيائيين النظريين والتجريبيين بأسره إلى معرفة النتائج الجديدة التي ستسفر عنها هذه التجارب، وقد أسعدني الحظ بالتحدث في أحد المؤتمرات حول المادة المظلمة في معهد كافلي للفيزياء النووية بمدينة سانتا باربرا في ديسمبر ٢٠٠٩. نظَّمَ هذا المؤتمر اثنان من كبار الخبراء في مجال المادة المظلمة، وهما دوج فينكباينر ونيل وينر. كانت تجربة «البحث البارد عن المادة المظلمة» — وهي إحدى أدق تجارب الكشف عن المادة المظلمة — آنذاك على وشك إصدار نتائج جديدة، وكان دوج ونيل من العلماء الشباب المعاصرين الذين حصلوا على درجة الدكتوراه معًا في بيركلي، وتمتَّعَ كلاهما بفهم عميق لتجارب المادة المظلمة، وما قد تتوصَّل إليه من نتائج. تميَّزَ نيل بمعرفته الأوسع بفيزياء الجسيمات، أما دوج فقد أجرى عددًا أكبر من الأبحاث في مجال الفيزياء الفلكية، لكنهما تعاوَنَا في دراسة موضوع المادة المظلمة عندما صار واضحًا أن هذا الموضوع يتناول كلا الفرعين المعرِفِيَّيْنِ اللذين تخصَّصَا فيهما. وفي ذلك المؤتمر، جمع نيل ودوج الروَّاد من خبراء النظريات والتجارب في هذا الموضوع.

أُلقيتْ أكثر الخطب تشويقًا في ذلك اليوم صبيحة وصولي إلى المؤتمر. تحدَّثَ في هذه الخطبة هاري نيلسون، وهو أستاذ بجامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا، عن النتائج التي توصَّلَتْ إليها تجربة «البحث البارد عن المادة المظلمة» قبل ذلك الحين بعام. ولعلك تتساءل عمَّا قد يثير كل هذا الاهتمام بنتائج مضى عليها عام كامل. يرجع السبب في ذلك إلى أن جميع مَن حضروا ذلك المؤتمر كانوا على علم بأنه بعد ثلاثة أيام فقط، ستصدر هذه التجربة بيانات جديدة، وانتشرت شائعات بأن علماء هذه التجربة قد رَأَوا بالفعل أدلةً مثيرةً على اكتشاف ما؛ ومن ثَمَّ أراد الجميع فهم التجربة على نحو أفضل. لقد استمع الفيزيائيون النظريون على مدار أعوام طويلة لخطب حول الكشف عن المادة المظلمة، لكنهم استمعوا فقط للنتائج، ولم يهتموا كثيرًا بالتفاصيل، لكن بعد أن صار الاكتشاف الوشيك للمادة المظلمة أمرًا محتملًا، تحمَّسَ الفيزيائيون النظريون لمعرفة المزيد من المعلومات. وفي وقت لاحق من ذلك الأسبوع صدرت النتائج، لكنها جاءت مخيِّبة للآمال التي انعقدت عليها التوقعات المبالَغ فيها للعلماء الذين حضروا ذلك المؤتمر. لكن في الوقت الذي ألقى فيه هاري الخطاب، كان الجميع منشغلًا للغاية بما يقوله، ونجح هاري في إلقاء خطابه بثقة، رغم الأسئلة العديدة التي تخلَّلَتِ الحديث عن النتائج التي أوشكت التجربة على التوصُّل إليها.

ونظرًا لأن هذا العرض غير الرسمي قد استغرق ساعتين، تمكَّنَ الحضور من مقاطعة هاري متى كان ذلك ضروريًّا ليتوصَّلوا إلى أكبر قدر ممكن من الفهم. وتم تناول أسئلة الحضور على نحو لطيف، والتي تعلَّقَ أغلبها بالجوانب التي يراها فيزيائيو الجسيمات محيِّرة. وكان هاري، الذي تدرَّبَ كفيزيائي جسيمات وليس عالم فلك، يتحدَّث على نحو يسهل علينا فهمه.

في هذه التجارب الشديدة الصعوبة التي تتناول المادة المظلمة، يكمن الشيطان في التفاصيل، وهذا ما أوضحه هاري بصراحة. فتقوم تجربة «البحث البارد عن المادة المظلمة» على تكنولوجيا فيزياء الطاقة الضعيفة المتقدمة، وهي التكنولوجيا التي ترتبط عادةً بمن يُعرَفون بفيزيائيي المادة المكثفة أو الحالة الصلبة. روى لنا هاري كيف أنه قَبْلَ اشتراكه في هذه التجربة، ما كان ليصدق أبدًا أن هذا النوع من عمليات الكشف الدقيقة للغاية يمكن أن ينجح، مازحًا بأن زملاءه بالتجربة يجب أن يكونوا شاكرين لأنه لم يكن من بين أعضاء لجنة التحكيم التي صدَّقت على المقترح الأولي للتجربة.

تختلف آلية عمل تجربة «البحث البارد عن المادة المظلمة» اختلافًا كبيرًا عن تجارب الكشف عن المادة المظلمة التي تستخدم يوديد الصوديوم والزينون الوامض. فتضم هذه التجربة قطعًا بحجم أقراص الهوكي من الجرمانيوم أو السيليكون يعلوها جهاز تسجيل دقيق، وهو مجس فونونات. ويعمل الكاشف عند درجة حرارة منخفضة للغاية؛ ما يجعله يقع على الحد الفاصل بين الموصلية الفائقة والموصلية غير الفائقة. وإذا ارتطمت بالكاشف كمية — حتى إن كانت ضئيلةً للغاية — من الفونونات (وهي وحدات الصوت التي تحمل الطاقة عبر الجرمانيوم أو السيليكون، وتعادِل الفوتونات التي تمثِّل وحدات الضوء)؛ فستكفي هذه الكمية لجعل الجهاز يفقد موصليته الفائقة ويسجِّل حدثًا محتملًا للمادة المظلمة بواسطة جهاز يُسمَّى «جهاز التداخل الكمي الفائق التوصيل». تتمتع هذه الأجهزة بدقة متناهية، وتسجل رواسب الطاقة بكفاءة عالية للغاية.

لكن الأمر لا يتوقَّف عند تسجيل حدث ما؛ إذ يلزم على القائمين على التجربة إثبات أن الكاشف يسجِّل المادة المظلمة، وليس إشعاع الخلفية فحسب. وتكمن المشكلة هنا في أن أي شيء تنبعث منه إشعاعات؛ فأجسامنا تبعث إشعاعات، الكمبيوتر الذي أكتب عليه الآن يبعث إشعاعات، والكتاب (أو الجهاز الإلكتروني) الذي تقرأ فيه الآن يبعث إشعاعات. ويكفي مقدار العرق الموجود على أصبع عالم تجارب واحد لإفساد أي علامة تدل على المادة المظلمة. هذا ناهيك، بالطبع، عن جميع المواد المشعة الأولية والمصنعة؛ فالبيئة والهواء والكاشف نفسه يحمل أشعة. يمكن أيضًا للأشعة الكونية أن ترتطم بالكاشف، ويمكن أن تتشابه النيوترونات المنخفضة الطاقة الموجودة في الصخور مع المادة المظلمة، ويمكن لميوونات الأشعة الكونية الارتطام بالصخور وإحداث لطخ من المواد التي تتضمن النيوترونات التي تشبه المادة المظلمة أيضًا. ويبلغ عدد أحداث الأشعة الخلفية الكهرومغناطيسية ١٠٠٠ مرة أحداث الإشارات المتوقعة، حتى مع الافتراضات المتفائلة العقلانية المتعلقة بكتلة جسيمات المادة المظلمة وقوة تفاعلها.

لذلك، فإن اسم التقنية المُستخدَمة في تجارب المادة المظلمة هو «الحجب والتمييز» (وهذا المصطلح الذي يستخدمه الفيزيائيون الفلكيون. أما فيزيائيو الجسيمات، فيستخدمون الاسم الأكثر صوابًا، وهو «التعرف على الجسيمات»، وإن كنتُ أشك حاليًّا في صحة هذا الاسم أيضًا). يحتاج القائمون على التجربة إلى حجب الكاشف الذي يستخدمونه قدر الإمكان للحيلولة دون دخول أي إشعاعات إليه وتمييز أحداث المادة المظلمة المحتمل وقوعها عن التشتُّت غير المهم للأشعة في الجهاز. ويتحقَّق الحجب جزئيًّا عن طريق إجراء التجارب على أبعاد عميقة في المناجم. وتكمن الفكرة هنا في أن الأشعة الكونية سترتطم بالصخور المحيطة بالكاشف قبل وصولها إليه، أما المادة المظلمة، التي تتفاعل على نحو أقل بكثير، فسوف تصل إلى الكاشف دون أن يعوقها هذا الحجب.

ولحسن حظ عمليات الكشف عن المادة المظلمة، يوجد العديد من المناجم والأنفاق في العالم. على سبيل المثال، تُجرَى «تجربة داما لاكتشاف المادة المظلمة» — إلى جانب تجربة «زينون ١٠» والنسخة الأكبر منها «زينون ١٠٠»، وتجربة «البحث البارد عن الأحداث النادرة بمقاييس حرارة فائقة التوصيل»، وهي عبارة عن كاشف يستخدم التنجستين — في مختبر «جران ساسو» المُشيَّد داخل نفق في إيطاليا يقع على عمق ٣٠٠٠ متر تحت سطح الأرض. ومن المزمع أيضًا أن تُقام تجربة «لوكس» القائمة على استخدام الزينون في تجويف بعمق ١٥٠٠ متر في منجم «هوم ستيك» بولاية ساوث داكوتا بالولايات المتحدة، والذي شُيِّد في الأساس لاستكشاف الذهب، وستُجرَى هذه التجربة في التجويف ذاته الذي اكتشف فيه راي ديفيز النيوترينوات الناتجة عن التفاعلات النووية التي كانت تحدث في الشمس. أما تجربة «البحث البارد عن المادة المظلمة»، فستُجرَى في منجم «سودان» بالولايات المتحدة الموجود على عمق نحو ٧٥٠ مترًا تحت سطح الأرض.

لكن كمية الصخور الموجودة فوق المناجم والأنفاق ليست كافية لضمان عدم وصول الإشعاعات إلى الكواشف؛ ومن ثَمَّ يعمل العلماء على تعزيز حجب الكواشف الفعلية بأساليب عدة. على سبيل المثال، تحيط بتجربة «البحث البارد عن المادة المظلمة» طبقة من البولي إيثيلين الذي يضيء عندما يدخل إلى التجربة شيء من الخارج يتفاعل بقوة بالغة تستبعد كونه المادة المظلمة. ومن وسائل الحجب المميزة أيضًا في هذه التجربة الرصاص المحيط بها والذي ينتمي إلى سفينة فرنسية قديمة غارقة يعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر. فقَدَ هذا الرصاصُ القديم، الذي ظل تحت المياه قرونًا طويلة، نشاطَه الإشعاعي بفضل هذه الفترة الزمنية؛ وبذلك صار مادة ماصة كثيفة مثالية لحجب الكاشف عن الأشعة التي تصل إليه.

لكن في ظل كل هذه الاحتياطات، تظل هناك الكثير من الأشعة الكهرومغناطيسية. والتفريق بين الإشعاع والمادة المظلمة المحتملة يتطلَّب مزيدًا من التمييز. تشبه تفاعلات المادة المظلمة التفاعلات النووية التي تحدث عند اصطدام نيوترون ما بالهدف؛ لذا في مقابل نظام قراءة الفونونات يوجد كاشف تقليدي لفيزياء الجسيمات يعمل على قياس التأين الناتج عن مرور جسيمات المادة المظلمة المحتملة بالجرمانيوم أو السيليكون. وهذان القياسان معًا — التأيُّن وطاقة الفونونات — يميزان الأحداث النووية — وهي العمليات المرغوبة التي قد تنتج عن المادة المظلمة — من الأحداث الناتجة عن الإلكترونات، التي قد لا تتعدى كونها نتائج للنشاط الإشعاعي فحسب.

من الخصائص المميزة أيضًا لتجربة «البحث البارد عن المادة المظلمة» القياسات الزمنية والمكانية المذهلة التي يمكن لهذه التجربة إجراؤها. وهذه خاصية جيدة؛ لأنه رغم أن الموضع يُقاس مباشَرةً في اتجاهين فقط، فإن توقيت الفونونات يمنح المكان الإحداثي الثالث؛ لذا يمكن للعلماء أن يحدِّدوا بالضبط المكان الذي وقع فيه الحدث ويتجاهلوا الأحداث السطحية المتعلقة بالأشعة الخلفية. من الميزات الجيدة أيضًا لهذه التجربة أنها مقسمة إلى كواشف متكدسة بحجم أقراص الهوكي، والحدث الحقيقي لا يقع إلا في أحد هذه الأجهزة فقط. على الجانب الآخَر، الإشعاع الناتج في الكاشف نفسه لا يقتصر وجوده بالضرورة على كاشف واحد فقط. بفضل كل هذه الميزات، والتصميم الأفضل المنتظر لهذه التجربة، فإن لديها فرصة جيدة للعثور على المادة المظلمة.

مع ذلك، ورغم ما تنطوي عليه تجربة «البحث البارد عن المادة المظلمة» من جوانب مبهرة، فهي ليست التجربة الوحيدة المستخدمة للكشف عن المادة المظلمة، ولا تقتصر الكواشف عن هذه المادة على الأجهزة التبريدية فحسب أيضًا. ففي وقت لاحق من الأسبوع الذي عُقِد فيه مؤتمر معهد كافلي للفيزياء النووية، عرضت إلينا أباريل — وهي من الرواد في تجارب الزينون — تفاصيل مماثلة للتجربتين اللتين عملت بهما (وهما «زينون ١٠» و«زينون ١٠٠»)، بالإضافة إلى التجارب الأخرى التي تُجرَى باستخدام السوائل النبيلة، واهتم الحضور بحديثها اهتمامًا بالغًا أيضًا؛ لأن هذا النوع من التجارب سيصير قريبًا أدق أنواع كواشف المادة المظلمة.

تسجل تجارب الزينون أحداث المادة المظلمة عن طريق وميضها. فالزينون السائل كثيف ومتجانس، ويحمل كتلة كبيرة في كل ذرة (الأمر الذي يعزز من معدل تفاعل المادة المظلمة)، ويومض على نحو جيد، ويتأين سريعًا عندما تترسب الطاقة بحيث يمكن تمييز العلامتين الموضحتين فيما سبق عن الأحداث الكهرومغناطيسية، هذا فضلًا عن أنه رخيص نسبيًّا مقارنةً بالمواد الأخرى التي يمكن استخدامها، وإن كان سعره قد تأرجَحَ بمعدل ستة أضعاف في خلال عقد من الزمان. وقد شهد هذا النوع من تجارب الغازات النبيلة تحسنًا مع تزايد حجمها، ومن المفترض أن تواصِل هذا التحسن. ومع تزايد المادة، لا تزيد احتمالية الاكتشاف فحسب، وإنما يمكن أيضًا للجزء الخارجي من الكاشف أن يحجب الجزء الداخلي منه على نحو أكثر فعالية، ما يساعد في ضمان التوصُّل إلى نتائج مهمة.

وعن طريق قياس كلٍّ من التأين والوميض الأولي، يميِّز العلماء الإشارة الدالة على المادة المظلمة عن إشعاع الخلفية الكوني. فعلى سبيل المثال، تستخدم تجربة «زينون ١٠٠» صماماتٍ ضوئيةً صُمِّمَتْ خصوصًا للعمل في بيئة الكاشف المنخفضة الحرارة والعالية الضغط لقياس الوميض. ويمكن أن توفِّر الكواشف التي تعمل بالأرجون معلومات أفضل عن الوميض في المستقبل عن طريق استخدامها للشكل المفصل لنبضة الوميض كدالة زمنية، الأمر الذي يساعد أيضًا في الفصل بين الأحداث المهمة وغير المهمة.

والغريب في الوضع الراهن (وإن كان من المرجح أن يتغيَّر ذلك قريبًا) أن إحدى تجارب قياس الوميض، وهي تجربة «داما لاكتشاف المادة المظلمة» الموجودة في مختبر جران ساسو في إيطاليا، قد رصدت بالفعل إحدى الإشارات. وتجربة داما، على عكس التجارب الأخرى التي وصفتها فيما سبق، ليس بها تمييز داخلي بين إشارة المادة المظلمة وإشعاع الخلفية الكوني، وإنما تعتمد بدلًا من ذلك على التعرُّف على الأحداث الفردية للمادة المظلمة على أساس التبعية الزمنية لهذه الأحداث فقط، وذلك عن طريق استخدام تبعية السرعة الناتجة عن دوران الأرض حول الشمس.

والسبب وراء أهمية سرعة جسيمات المادة المظلمة الداخلة إلى الكاشف، هو أن هذه السرعة تحدد مقدار الطاقة التي تترسب في الجهاز. فإذا كانت هذه الطاقة منخفضة للغاية، فلن تكون التجربة بالدقة الكافية لمعرفة ما إذا كان هناك شيء موجود أم لا. وزيادة الطاقة تعني أن التجربة ستسجل الحدث على الأرجح. ونظرًا لسرعة دوران الأرض، تعتمد سرعة المادة المظلمة بالنسبة لنا (ومن ثَمَّ الطاقة المترسبة عنها) على الوقت المحدد من العام، فيسهل رؤية الإشارات في بعض الأوقات من العام (الصيف) مقارنةً بأوقات أخرى (الشتاء). وتبحث تجربة داما عن التغيير السنوي في معدل الأحداث الذي يتفق مع هذا التنبؤ، وتشير البيانات التي توصَّلَتْ إليها هذه التجربة إلى أنها قد عثرت على إحدى الإشارات. (انظر الشكل ٢١-٢ للاطلاع على بيانات تذبذبات تجربة داما.)
fig82
شكل ٢١-٢: بيانات صادرة عن تجربة داما توضِّح التغيير في الإشارة بمرور الوقت.

ما من أحد يعرف على وجه اليقين ما إذا كانت الإشارة التي توصَّلَتْ إليها تجربة داما تمثِّل المادة المظلمة أم إنها ناتجة عن سوء فهم محتمل بشأن الكاشف أو بيئته. والسبب وراء هذا التشكُّك هو عدم توصُّل أي تجربة أخرى لأي إشارة مماثلة، وهذا الغياب لأي إشارات أخرى لا يتماشى مع تنبؤات معظم نماذج المادة المظلمة.

وبالرغم مما يثيره ذلك من حيرة في الوقت الراهن، فهذا هو بالضبط ما يجعل العلم مشوقًا، فتشجعنا هذه النتيجة على التفكير في الأنواع المختلفة المحتملة للمادة المظلمة، وما إذا كانت هذه المادة لها خصائص تيسِّر من اكتشاف تجربة داما لها، مقارنةً بتجارب اكتشاف المادة المظلمة الأخرى. تدفعنا هذه النتيجة أيضًا لفهم الكواشف على نحو أفضل كي نتمكن من التعرف على الإشارات الزائفة، ونحدِّدَ ما إذا كانت البيانات تعني ما يدَّعِيه القائمون على التجارب بالفعل أم لا.

تعمل تجارب أخرى بجميع أنحاء العالم على تحقيق مستوًى أعلى من الدقة، ويمكن أن تستبعدَ هذه التجارب اكتشافَ المادة المظلمة الذي توصَّلت إليه تجربة داما أو تؤكِّدَه، ويمكن أيضًا أن تكتشف هذه التجارب بنفسها نوعًا مختلفًا من المادة المظلمة. وسيتفق الجميع على أن المادة المظلمة قد اكتُشِفَتْ، إذا أكدت تجربة واحدة أخرى فقط ما رأته تجربة داما، لكن ذلك لم يحدث بعدُ، ومع ذلك من المفترض أن تتوفَّر إجابات قريبًا في هذا الشأن. حتى إن تقادمت البيانات التي أوضحناها فيما سبق في وقت قراءتك لهذا الكتاب، فطبيعة التجارب لن تتغيَّرَ على الأرجح.

الكشف غير المباشر عن المادة المظلمة

تمثِّل تجارب مصادم الهادرونات الكبير والكواشف المقامة تحت سطح الأرض والتي تعمل بالتبريد أو السوائل النبيلة؛ أسلوبين من أساليب تحديد طبيعة المادة المظلمة. أما الأسلوب الثالث والأخير، فيكون عن طريق «الكشف غير المباشر» للمادة المظلمة في السماء أو على سطح الأرض.

المادة المظلمة خفيفة، لكنها قد تفنى أحيانًا مع نفسها أو مع الجسيم المضاد لها، ولا يحدث ذلك بمعدل كافٍ للتأثير بقوة على الكثافة الكلية، لكنه قد يكون كافيًا لإصدار إشارةٍ قابلةٍ للقياس؛ وذلك لأنه عند فناء جسيمات المادة المظلمة، تتكون جسيمات جديدة تحمل الطاقة بعيدًا. وفناء المادة المظلمة — حسب طبيعته — يمكن أن يؤدِّي أحيانًا إلى إنتاج الجسيمات والجسيمات المضادة القابلة للكشف عنها التي تنتمي للنموذج القياسي، مثل الإلكترونات والبوزيترونات، أو أزواج من الفوتونات؛ ومن ثَمَّ يمكن للكواشف الفيزيائية الفلكية، التي تقيس الجسيمات المضادة أو الفوتونات، أن ترى علامات تدل على عمليات الإفناء هذه.

جدير بالذكر هنا أن المعدات المستخدمة في البحث عن جسيمات النموذج القياسي الناتجة عن فناء المادة المظلمة لم تُصمَّم خصوصًا لهذا الهدف، وإنما هي تليسكوبات أو كواشف موجودة في الفضاء أو على سطح الأرض، وتهدف للكشف عن الضوء أو الجسيمات لفهم ما يوجد في السماء على نحو أفضل. فمن خلال دراسة الأشياء التي تنبعث من النجوم والمجرات والأجسام الغريبة التي توجد داخلها، يمكن لعلماء الفلك معرفة التركيب الكيميائي للأجرام السماوية واستنتاج خصائص النجوم وطبيعتها.

لذا، فإن الفيلسوف أوجست كونت قد أخطأ عندما قال عن النجوم في عام ١٨٣٥: «لا يمكننا أبدًا بأي وسيلة دراسة التركيب الكيميائي للنجوم.» الأمر الذي ظنَّ ذلك الفيلسوف أنه يتجاوز حدود المعرفة التي يمكن للإنسان بلوغها. لكن بعد فترة ليست ببعيدة من قوله هذه العبارة، عرفنا تركيب الشمس وأثبتنا خطأ أوجست كونت عن طريق اكتشاف أطياف الشمس؛ وهو الضوء الذي تبعثه الشمس أو تمتصه.

وتواصِلُ التجارب اليوم مهمتها بمحاولتها استنتاج تركيب الأجرام السماوية الأخرى، وتتمتع التليسكوبات الآن بدقة عالية، وصرنا نعلم كل بضعة أشهر المزيد من المعلومات عمَّا يوجد في السماء.

ولحسن حظ أبحاث المادة المظلمة، فإن عمليات رصد الضوء والجسيمات التي تهتم بها هذه التجارب الفلكية بالفعل، يمكن أن تنير فكرنا أيضًا بشأن طبيعة المادة المظلمة. فنظرًا لأن الجسيمات المضادة نادرةٌ نسبيًّا في الكون، وتوزيع طاقات الفوتونات يمكن أن يعكس خصائص واضحة وقابلة للتمييز، فإن الكشف عن هذه العناصر قد يرتبط في النهاية بالمادة المظلمة. والتوزيع المكاني أيضًا لهذه الجسيمات قد يساعد في تمييز نواتج الإفناء عن عناصر الخلفية الفيزيائية الفلكية المألوفة.

«النظام التجسيمي للطاقة العالية» في ناميبيا، و«نظام مصفوفة التليسكوبات لتصوير الأشعة العالية الطاقة» في ولاية أريزونا، هما مصفوفتان ضخمتان من التليسكوبات الموجودة على سطح الأرض، وتعملان على البحث عن الفوتونات العالية الطاقة الصادرة عن مركز المجرة. أما الجيل التالي من مراصد أشعة جاما العالية الطاقة، ويتمثَّل في «مصفوفة تليسكوبات تشيرنكوف»، فمن المنتظر أن تكون أكثر دقةً. على الجانب الآخَر، يدور «تليسكوب فيرمي الفضائي لأشعة جاما» في السماء على بُعْد ٥٥٠ كيلومترًا فوق الأرض كل ٩٥ دقيقة على متن قمر صناعي أُطلِق في مطلع عام ٢٠٠٨. تتمتع كواشف الفوتونات الموجودة على سطح الأرض بميزة توفِّر مساحات تجميع شاسعة، أما المعدات الفائقة الدقة الموجودة على قمر فيرمي الصناعي، فتتمتع بقدر أفضل من الدقة فيما يتعلَّق بالطاقة والمعلومات عن الاتجاهات، هذا فضلًا عن سرعة اكتشافها للفوتونات باستخدام مستويات منخفضة من الطاقة، وتمتعها بمجال رؤية يزيد ٢٠٠ مرة عن الأجهزة الموجودة على سطح الأرض.

أيٌّ من هذين النوعين من التجارب يمكن أن يرصد الفوتونات الناتجة عن فناء المادة المظلمة، أو عن الشعاع الصادر عن الإلكترونات والبوزيترونات الناتجة عن فناء هذه المادة، وإذا تحقَّقَ ذلك، فسوف نعرف الكثير عن ماهية المادة المظلمة وخصائصها.

ثمة كواشف أخرى ينصبُّ تركيزها بالأساس على البحث عن البوزيترونات، وهي الجسيمات المضادة للإلكترونات. وقد سجَّلَ الفيزيائيون بتجربة القمر الصناعي «باميلا» ذات القيادة الإيطالية اكتشافاتهم بالفعل، والتي لا تشبه على الإطلاق أيًّا مما تَمَّ التنبؤ به. (انظر الشكل ٢١-٣ للاطِّلَاع على نتائج تجربة «باميلا».) واسم «باميلا» بالإنجليزية PAMELA هو اختصار للحروف الأولى للاسم الطويل للتجربة، وترجمته بالعربية: «تجربة استكشاف المادة والمادة المضادة والفيزياء الفلكية للنوى الخفيفة». وجاء اختصار هذا الاسم الطويل باسم «باميلا» مناسبًا لنطقه باللكنة الإيطالية. لا نعلم إلى الآن ما إذا كانت الأحداث الزائدة بهذه التجربة ناتجةً عن المادة المظلمة، أم إنها أخطاء في تقديرات الأجرام السماوية، مثل النجوم النابضة. لكن في كلتا الحالتين، استحوذت هذه النتائج على اهتمام الفيزيائيين الفلكيين وفيزيائيي الجسيمات على حدٍّ سواء.
fig83
شكل ٢١-٣: يوضِّح هذا الشكل البيانات الصادرة عن تجربة «باميلا»، والتي توضِّح مدى عدم التوافق بين بيانات التجارب (المشار إليها بشكل الصليب)، والتنبؤات النظرية (المشار إليها بشكل المنحنى المنقَّط).

يمكن أن تفنى المادة المظلمة أيضًا منتجةً بروتونات وبروتونات مضادة. وهذا، في الواقع، ما تتنبَّأ الكثير من النماذج بحدوثه إذا عثرت جسيمات المادة المظلمة على بعضها البعض بالفعل وتحقَّق الإفناء. لكن الأعداد الكبيرة من البروتونات المضادة المتوارية في المجرة بسبب العمليات الفلكية المعروفة يمكن أن تحجب الإشارات الدالة على المادة المظلمة، ومع ذلك فقد تسنح لنا فرصة رؤية هذه المادة المظلمة عن طريق الديوترونات المضادة، وهي حالات من الارتباط الضعيف بين بروتون مضاد ونيوترون مضاد، ويمكن أن تتكون أيضًا عند فناء المادة المظلمة. وقد يتوصَّل مطياف ألفا المغناطيسي (إيه إم إس−٠٢) الموجود الآن على محطة الفضاء الدولية، أو تجارب الأقمار الصناعية المتخصصة، مثل مطياف الجسيمات المضادة العام؛ لهذه الديوترونات المضادة، وتُكتشَف المادة المظلمة في النهاية.

وأخيرًا، يمكن للجسيمات غير المشحونة المسماة بالنيوترينوات، التي لا تتفاعل إلا بواسطة القوة الضعيفة، أن تكون هي الحل للاكتشاف غير المباشر للمادة المظلمة. فقد تُحاصَر المادة المظلمة في مركز الشمس أو الأرض، والإشارة الوحيدة التي يمكن أن تصدر عنها في هذه الحالة ستكون النيوترينوات؛ وذلك لأن هذه النيوترينوات، على عكس الجسيمات الأخرى، لا تتفاعل مع أي جسيمات أخرى؛ ومن ثَمَّ لا يوجد ما يعيقها. وتعمل الكواشف المتمثِّلة في «مصفوفة عدَّاد الميوونات والنيوترينوات بالقطب الجنوبي — آماندا» و«آيس كيوب» و«تليسكوب أنتاريس»، على البحث عن هذه النيوترينوات العالية الطاقة.

وفي حال رصد أيٍّ من الإشارات الموضحة أعلاه — أو حتى في حالة عدم رصدها — سنطَّلِع على المزيد من المعلومات عن طبيعة المادة المظلمة، وتفاعلاتها، وكتلتها. وفي الوقت الحالي، يفكِّر الفيزيائيون في ماهية الإشارة التي يتوقَّعون الحصول عليها وفقًا للتنبؤات المستقاة من العديد من نماذج المادة المظلمة الممكنة، كما أنهم يتساءلون عن القياسات المتوفرة التي يمكن تطبيقها. إن المادة المظلمة مراوغة، بسبب الضعف الشديد لتفاعلها، لكننا نأمل في ظل هذا العدد الكبير من أنواع التجارب المختلفة التي تجري حاليًّا أن نكون قد اقتربنا من اكتشاف هذه المادة. وبإضافة النتائج التي سنتوصَّل إليها من مصادم الهادرونات الكبير وغيره، سوف نحصل على صورة أفضل لما يوجد في الكون وكيفية تجانُس كلِّ أجزائه معًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤