الفصل الثالث

العيش في عالم مادي

في فبراير ٢٠٠٨، نظَّم كلٌّ من عالم الأحياء والرياضيات فريد أدلر والشاعرة كاثرين كولز — اللذين يعملان في جامعة يوتا بمدينة سولت ليك سيتي — مؤتمرًا متعدِّد التخصصات تحت عنوان «كَوْن في حَبَّة رمال». كان موضوع المؤتمر هو دور النطاق في العديد من الفروع المعرفية، وهو الموضوع الذي كان من الممكن الاستفادة فيه من الاهتمامات المختلفة لمجموعة الحضور والمتحدثين المتنوعة في المؤتمر. وقد تمكَّنَ جميع أعضاء لجنتنا — المكوَّنة من عالمة فيزياء، وناقد هندسي معماري، وأستاذة لغة إنجليزية — من المشاركة على نحو مثير للاهتمام في تقسيم ما لدينا من ملاحظات إلى فئات متباينة الأحجام لنتمكَّن من استيعابها، وتنظيمها، ثم تجميعها معًا مجدَّدًا.

في خطاب ليندا جريجرسون الافتتاحي، وصفت تلك الشاعرة والناقدة الأدبية الكَوْن ﺑ «السمو»، الكلمة التي تجمع ببراعة بين ما يجعل الكَوْن غايةً في الروعة وغايةً في الإحباط في الوقت نفسه؛ فثمة قدر هائل من الأمور لا يمكننا الوصول إليها وفهمها، وإنْ ظلت تبدو قريبة بحيث تتحدانا لخوضها وفهمها. والتحدي الذي تواجهه كافة الأساليب المعرفية هو جعل هذه الجوانب — التي يتعذَّر الوصول إليها في الكَوْن — أكثر وضوحًا وقابليةً للفهم، وأخيرًا أقل غرابةً. يبغي الناس تعلُّم قراءة كتاب الطبيعة وفهمه، واستيعاب هذه الدروس في العالم القابل للفهم.

تستعين البشرية بأساليب عِدَّة لحل ألغاز الحياة والعالم، وتسعى نحو أهداف متباينة من وراء ذلك. ويقدِّم كلٌّ من الفن والعلم والدين — رغم اشتراكهم في بعض الدوافع الإبداعية — أساليبَ ووسائلَ متباينةً لسدِّ الثغرات في فهمنا.

لذا، وقبل العودة إلى عالَم الفيزياء المعاصرة، سيعرض باقي هذا الجزء من الكتاب مقارنةً بين هذه الأساليب الفكرية المختلفة، ويقدِّم سياقًا تاريخيًّا للجدال بين العلم والدين، ويعرض جانبًا واحدًا على الأقل من هذا الجدال الذي لن يُحَلَّ أبدًا. وفي أثناء تناول هذه الموضوعات، سنستكشف معًا الافتراضات المادية والميكانيكية للعلم، وهي سمة أساسية في التناول العلمي للمعرفة، ولن يغيِّر ذلك على الأرجح من موقف مَن هم على طرفَيِ النقيض في هذا الجدال، لكنْ لعلَّ المناقشة ستساعد في التعرُّف على نحوٍ أكثر دقةً على جذور الاختلافات بين الفريقين.

نطاق المجهول

عبَّرَ الشاعر الألماني، راينر ماريا ريلكه، تعبيرًا واضحًا عن التناقض الذي يكمن داخلنا عند مواجهتنا السمو، وذلك فيما كتبه: «وما الجمال سوى بداية رعب يكاد لا يُحتمَل، وما يزيد من تروعينا أنه يسمو عن الفتك بنا.»1 أما ليندا جريجرسون في خطابها بمؤتمر سولت ليك سيتي، فتناولت موضوع السمو باستخدام كلمات دقيقة وواضحة وأقل تخويفًا بعض الشيء؛ فعرضت تمييز «إيمانويل كانت» بين الجمال الذي «نؤمن بموجبه بأننا مخلوقون لهذا الكون، والكون مخلوق لنا»، والسمو الذي ينطوي على قدر أكبر من الرعب. أوضحت جريجرسون كيف أن الناس يشعرون «بالخوف من إبصار السمو» لأنه أقل ملاءمةً لهم؛ أي إنه لا يتناسب مع تفاعلات البشر ومداركهم.

عادت كلمة «السمو» للظهور في حياتي في عام ٢٠٠٩ في المناقشات حول الموسيقى والفن والعلم التي جرت بيني وبين شركائي في عمل أوبرالي قائم على الفيزياء يتناول هذه الموضوعات. رأى قائد الأوركسترا، كليمنت باور، أن ثمة مقطوعات موسيقية معينة جمعت أحيانًا بين الخوف والجمال بحيث وصفها الناس بهاتين الصفتين على نحو متزامن، والموسيقى السامية — في نظره — أمر يتخطَّى حدود قدراته العادية على الفهم؛ إذ تُعارض أي تفسير مُعَدٍّ مسبقًا.

يقدِّم السمو نطاقات ويطرح أسئلة قد تتجاوز قدراتنا العقلية؛ لذلك فهو مرعب وساحر في آنٍ واحد. ويتغير نطاق السمو بمرور الوقت مع تغطية النطاقات التي نرتاح إليها مجالًا متزايد الاتساع، لكننا نظل نسعى دومًا لاكتساب معلومات دقيقة عن السلوكيات أو الأحداث التي تنتمي إلى نطاقات أصغر أو أكبر بكثير مما يمكننا استيعابه بسهولة.

fig11
شكل ٣-١: لوحة «هائم فوق بحر من الضباب» لكاسبر دافيد فريدريش (١٨١٨)، وهي لوحة ترمز إلى السمو الذي يتكرَّر تناولُه في الفن والموسيقى.
يتسم الكون الذي نعيش فيه بالسمو من نواحٍ عدة، ويدفعنا للتساؤل، لكنه قد يكون مخيفًا — بل مفزعًا أيضًا — بسبب تعقيده، ومع ذلك فإن مكوناته تتناغم بعضها مع بعض بصور مذهلة. ويهدف الفن والعلم والدين على حدٍّ سواء إلى توجيه فضولنا وتنوير عقولنا من خلال توسيع آفاق مداركنا، وتَعِدُ هذه المجالات الثلاثة، كلٌّ بطريقته المختلفة، بتقديم يد العون لنا في تخطِّي الحدود الضيقة لخبراتنا الفردية، والسماح لنا بالدخول في عالم السمو وفهمه (انظر الشكل ٣-١).

يسمح لنا الفن باستكشاف الكَوْن عبر المشاعر والمدارك البشرية، فيتناول كيف نصل بحواسنا إلى العالم، وما يمكننا تعلُّمه من هذا التفاعل، مع إلقاء الضوء على كيفية مشاركة الناس في الكَوْن وكيفية رصدهم له. والفن في أساسه وظيفة بشرية؛ إذ يمنحنا صورةً أوضح لحدسنا، وكيفية إدراكنا للعالم كبشر. وعلى عكس العلم، لا يسعى الفن للوصول إلى الحقائق الموضوعية التي تتجاوز التفاعلات بين البشر، وإنما يهتم باستجاباتنا الجسدية والعاطفية تجاه العالم الخارجي، مع التركيز مباشرةً على خبراتنا الداخلية وحاجاتنا وقدراتنا التي قد لا يتمكَّن العلم من بلوغها أبدًا.

على الجانب الآخَر، يسعى العلم لبلوغ حقيقة العالَم الموضوعية الممكن إثبات صحتها، ويهتم بالعناصر التي يتألَّف منها الكَوْن وكيفية تفاعُل هذه العناصر معًا. نجد مثلًا شيرلوك هولمز يصف في إعجاب منهجية العلم التي ينطوي عليها أسلوبه الفذُّ، رغم أنه كان يشير في حديثه إلى تحقيقات الطب الشرعي التي كان يجريها، وذلك أثناء توجيهه النصائح للدكتور واطسون، فيقول له هولمز: «إن التحري علم دقيق (أو هكذا يجب أن يكون)، ويجب التعامل معه بالأسلوب ذاته المُجرَّد من العواطف. لقد حاولتَ، يا واطسون، أن تضفي عليه بعض الرومانسية؛ الأمر الذي سيُسفِر عن نتيجة تُشبه نتيجةَ التعامل مع قصة حبٍّ أو هروبِ مُتحابَّيْنِ باستخدام افتراض إقليدس الخامس … النقطة الوحيدة التي تستحق الذكر في القضية هي الاستدلال التحليلي الذي ينتقل من النتائج إلى الأسباب، وهو الذي نجحتَ في الكشف عنه.»2

لا ريبَ أن سير آرثر كونان دويل كان سيجعل هولمز يعبِّر عن مثل هذا المنهج إذا كان يتحدَّث عن الكشف عن أسرار الكَوْن. إن العاملين في مجال العلم يسعون للحيلولة دون تشويش الحدود والتحيزات البشرية على أفكارهم، ليثقوا في توصُّلهم إلى فهم غير متحيز للحقيقة. ويحقِّق العلماء ذلك من خلال المنطق والملاحظات المجمعة، فيحاولون التوصُّل بموضوعية إلى كيفية حدوث الأشياء، والإطار المادي الأساسي الذي قد يكون مسئولًا عمَّا يلاحظونه.

تجدر الإشارة هنا إلى أن شيرلوك هولمز يستخدم المنطق الاستقرائي، وليس الاستدلالي كما يشير في حواره مع دكتور واطسون، شأنه شأن أغلب المحقِّقين والعلماء عند محاولتهم تجميع الأدلة؛ فيعمل العلماء والمحققون باستقراء الملاحظات في محاولةٍ لتكوين إطار مُتَّسِقٍ يتماشى مع جميع الظواهر المدروسة، وبمجرد أن تُوضَع النظرية، يبدأ العلماء والمحققون في الاستدلال أيضًا من أجل التنبؤ بظواهر وعلاقات أخرى في العالم، لكن بالوصول إلى هذه المرحلة، يكون العمل قد تمَّ، على الأقل للمحققين.

أما الدين، فهو أسلوب آخَر يتبعه الكثيرون استجابةً للتحديات التي وصفتها جريجرسون بأنها تتعلق بالجوانب التي يصعب الوصول إليها في الكَوْن. كتب المؤلف البريطاني سير توماس براون، الذي عاش في القرن السابع عشر، في كتابه «ديانة طبيب»: «كم أحبُّ أن أغرق في لغزٍ ما، وأسعى للوصول بفكري إلى أسمى الحدود.»3 رأى براون وأمثاله أن المنطق والمنهج العلمي غير كافيين للوصول إلى الحقيقة الكاملة التي يثقون في أن الدين وحده هو الذي يمكنه بلوغها. ولعل الاختلاف الرئيسي بين العلم والدين يكمن في طبيعة الأسئلة التي اختار هؤلاء الأشخاص طرحها. يتناول الدين أسئلة تقع خارج نطاق العلم؛ فالدين يسأل عن الأسباب بافتراض وجود هدف خفي، في حين يسأل العلم عن الكيفية، ولا يعتمد العلم مطلقًا على فكرة وجود هدف خفي في الطبيعة، فهذا النوع من التساؤلات نتركه للدين أو الفلسفة، أو نغض الطرف عنه تمامًا.

أثناء حديثي مع كاتب السيناريوهات، سكوت دريكسون، في لوس أنجلوس، قال لي إن السيناريو الأصلي لفيلم «اليوم الذي توقَّفَتْ فيه الأرضُ» (وهو الفيلم الذي أخرجه عام ٢٠٠٨ مُقتبِسًا إياه من فيلم يحمل العنوان نفسه صدر عام ١٩٥١) تضمَّنَ جملة أزعجته للغاية لدرجة أنه ظل يفكِّر فيها مدة أيام بعد ذلك؛ كان من المفترض لشخصية جنيفر كونولي عند تحدُّثها عن وفاة زوجها أن تُعلِّق على الأمر قائلةً: «إن الكَوْن عشوائي.»

أزعجت هذه العبارة سكوت لأن القوانين الفيزيائية الأساسية تنطوي على عشوائية بالفعل، لكن هدفها الأساسي هو احتواء نظام يمكن من خلاله على الأقل اعتبار بعض جوانب الكَوْن ظواهر يمكن التنبؤ بها. أخبرني سكوت أن الأمر استغرق منه أسابيع بعد حذف الجملة من السيناريو ليصل إلى الكلمة التي كان يبحث عنها؛ أَلَا وهي: «غير مكترث». أثَارَ انتباهي بعد ذلك سماعي الجملة ذاتها في المسلسل التليفزيوني «رجال ماديسون» على لسان الشخصية الرئيسية، دون دريبر، على نحوٍ جعلها تبدو كريهة.

لكن عدم اكتراث الكَوْن ليس بالأمر السيئ، وليس بالجيد أيضًا؛ فلا يبحث العلماء عن الغاية المقصودة مثلما يفعل الدين، ولا يطلب منَّا العلم الموضوعي سوى التعامل مع الكَوْن على أنه لا مبالٍ. ولا ريب أن العلم في موقفه المحايد يستبعد أحيانًا مفهوم الشر من الظروف الإنسانية عن طريق الإشارة إلى الأصل المادي لهذه الظروف، وليس الأخلاقي. فنحن نعلم الآن، على سبيل المثال، أن المرض العقلي والإدمان لهما أسبابهما المادية والوراثية «البريئة» التي يمكن أن تُدخِلهما في فئة الأمراض، وتعفيهما من أي جانب أخلاقي.

ومع ذلك، فإن العلم لا يتناول جميع المسائل الأخلاقية (وإن كان لا ينكرها في الوقت ذاته كما يدَّعِي البعض أحيانًا)، أيضًا لا يتساءل العلم عن الأسباب وراء سلوك الكَوْن، أو يتحرى عن الجانب الأخلاقي في العلاقات الإنسانية. ومع أن التفكير المنطقي يساعد بالتأكيد في التعامل مع العالم المعاصر — ويبحث بعض العلماء بالفعل حاليًّا عن الأسس النفسية وراء التصرفات الأخلاقية — فإن هدف العلم بوجه عام ليس الوصول إلى أحكام بشأن موقف البشر الأخلاقي.

إن الخط الفاصل هنا ليس دقيقًا دومًا، ويمكن لرجال الدين أحيانًا طرح أسئلة علمية، في حين يمكن للعلماء استنباط أفكارهم الأولية أو توجُّهاتهم من نظرتهم للعالم التي تلهمهم، بل من نظرتهم الدينية في بعض الأحيان أيضًا. بالإضافة إلى ذلك، ونظرًا لأن مَن يضطلع بالعمل العلمي بشر، فإن المراحل الوسيطة التي يضع فيها العلماء نظرياتهم تتضمن عادةً حدسًا بشريًّا غير علمي، مثل الإيمان بوجود أجوبة أو مشاعر ما بشأن معتقدات معينة. وغني عن القول أن العكس صحيح أيضًا؛ فالفنانون وعلماء الدين يمكن أن يستمدوا توجيههم من الملاحظات والفهم العلمي للعالم.

من ناحية أخرى، لا تمحي هذه التقسيمات — التي تتسم بالضبابية أحيانًا — الاختلافات في الغايات النهائية؛ فالعلم يهدف للوصول إلى صورة مادية تنبُّئية بإمكانها تفسير كيفية عمل الأشياء. والأساليب والأهداف الخاصة بالعلم والدين مختلفة جوهريًّا؛ فالعلم يتناول الحقيقة المادية، في حين يتناول الدين الحاجات أو الرغبات البشرية الاجتماعية أو النفسية.

هذا الاختلاف في الغاية من المفترض ألَّا يكون داعيًا للنزاع، بل إنه في الواقع يؤدي إلى تقسيم جيد للعمل كما هو واضح. لكن الديانات لا تلتزم دومًا بالتساؤلات عن الغاية أو السعي وراء الراحة، ويحاول الكثير منها تناوُلَ الحقيقة الخارجية للكَوْن أيضًا، ويتضح ذلك في تعريف كلمة «الدين» في القواميس؛ فنجد قاموس التراث الأمريكي يعرِّفه بأنه «الإيمان بوجود قوة أو قوًى إلهية أو فائقة للبشر يلزم طاعتها وعبادتها باعتبارها الخالقة والحاكمة للكَوْن.» وفي قاموس «ديكشنري دوت كوم» على الإنترنت، الدين هو: «مجموعة من المعتقدات المتعلقة بمُسبِّبات الكَوْن وطبيعته والهدف منه — لا سيما مع اعتباره خلقًا لكيان أو كيانات فائقة للبشر، ويتضمن ذلك عادةً ملاحظات شرائعية وتعبُّدية — ووضع قواعد أخلاقية تحكم العلاقات الإنسانية.» وفقًا لهذه التعريفات، لا يتعلق الدين بالعلاقة بين الناس والعالم فحسب — سواء أكانت هذه العلاقة أخلاقية أم عاطفية أم روحانية — وإنما بالعالم نفسه؛ الأمر الذي يجعل الرؤى الدينية عرضةً للتحريف. وعندما يتخطَّى العلم حدوده ليتدخَّل في المجالات المعرفية التي يحاول الدين تفسيرَها، تظهر الخلافات.

بالرغم مما يجمع بين البشر من رغبة في تحصيل المعرفة، فإن أصحاب المناهج المختلفة في طرح الأسئلة والبحث عن أجوبة لها، أو أصحاب الأهداف المتباينة، لا يكونون دومًا على وفاق، والسعي وراء الحقيقة لا تفصله دائمًا حدودٌ فاصلة واضحة تحول دون النزاع بين الأطراف المتباينة. وعندما يطبِّق الناس معتقداتهم الدينية على العالم الطبيعي، فإن الملاحظات على الطبيعة قد تتعارض مع هذه المعتقدات، وفي هذه الحالة على الدين أن يكيف نفسه وفقًا لهذه الملاحظات. انطبَقَ ذلك في الماضي على الكنيسة القديمة — التي تحتَّمَ عليها مثلًا تحقيقُ الوفاق بين الإرادة الحرة وقوى الرب غير المحدودة — كما ينطبق في الوقت الحاضر بالقدر نفسه على المفكِّرين الدينيين.

هل العلم والدين متوافقان؟

لم يواجِه العلم والدين دومًا هذه المعضلة؛ فقبل الثورة العلمية تعايَشَ العلم والدين معًا في سلام، وفي العصور الوسطى رحَّبت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية بالتوسُّع في تفسيرات الكتاب المقدس، الأمر الذي استمَرَّ حتى هدَّدت حركة الإصلاح سيادة الكنيسة. وأدلة جاليليو على صحة نظرية كوبرنيكوس حول مركزية الشمس — التي تعارضت مع ادعاءات الكنيسة بشأن السماوات — كانت مصدرًا للقلق بشكل خاص في هذا السياق. ونشْر جاليليو لِما توصَّلَ إليه من نتائج لم يمثِّل تحدِّيًا فحسب لأوامر الكنيسة، وإنما شكَّك بوضوح في هيمنة الكنيسة على تفسير الكتاب المقدس الذي انفردت به وحدها؛ ومن ثَمَّ أَكَنَّ رجال الدين بغضًا لجاليليو وادعاءاته.

شهد التاريخ الحديث كذلك العديدَ من أمثلة الصراع بين العلم والدين. على سبيل المثال، القانون الثاني للديناميكا الحرارية — الذي ينصُّ على أن العالم يتقدَّم نحو مزيد من الفوضى — من شأنه إفزاع مَن يؤمنون بأن الرب قد خلق عالمًا مثاليًّا. ولا ريب أن نظرية التطور تتسبَّب في مشكلات مماثلة؛ إذ أثارت مؤخرًا «مجادلات» حول ما يُعرَف بالتصميم الذكي. وفكرة تمدُّد الكون أيضًا يمكن أن تزعج مَن يريدون الإيمان بأنهم يعيشون في كَوْن مثالي، ذلك بغض النظر عن أن أول مَن اقترح نظرية الانفجار العظيم كان القس الكاثوليكي، جورج لومتر.

ومن الأمثلة الأخرى الأكثر تشويقًا أيضًا للعلماء الذين يدخلون في مواجهة مع إيمانهم الديني عالِم الطبيعة الإنجليزي، فيليب جوس. واجه جوس معضلة عندما أدرك — في مطلع القرن التاسع عشر — أن طبقات الأرض، التي تشتمل على حفريات لحيوانات منقرضة، تتعارض مع فكرة أن عمر الأرض لا يتجاوز ٦٠٠٠ عام فقط. وفي كتابه «السُرَّة البدئية: محاولة لربط العقدة الجيولوجية»، حسم الصراع داخله بإقراره أن الأرض قد خُلِقت مؤخرًا، لكنها تضمَّنَتْ خلقًا خاصًّا من «عظام» و«حفريات» لحيوانات لم يسبق لها وجودٌ قط، وغير ذلك من العلامات المُضلِّلة لتاريخها (الذي ليس له وجود). افترض جوس أن العالَم الذي تسير فيه الأمور بكفاءة ينبغي أن يُظهِر علامات للتغيير، حتى إن لم تحدث هذه التغييرات بالفعل مطلقًا. قد يبدو ذلك ساذجًا، لكنه قابِل للتصديق من الناحية الفنية، ومع ذلك ما من أحد بَدَا كأنه يأخذ هذا التفسير على محمل الجد. جوس نفسه تحوَّلَ إلى دراسة الأحياء البحرية لتجنُّب ما كانت تفرضه عظام الديناصورات التي كان يدرسها من اختبارات مزعجة لإيمانه.

لحسن الحظ، صارت أكثر الأفكار العلمية صحةً أقل تطرُّفًا في مظهرها وأكثر قبولًا مع الوقت. وفي النهاية، تسود دومًا الاكتشافات العلمية، فلم يَعُدْ أحد يتشكَّك الآن في وجهة النظر القائلة بمركزية الشمس أو تمدد الكون، لكن التفسيرات الحرفية لا تزال تتسبَّب في مشكلات، مثل ما تسبَّبت فيه تفسيرات جوس من مشكلات لدى المؤمنين الذين أخذوها على محمل الجد.

وجدير بالذكر هنا أن قراءات الكتاب المقدس الأقل التزامًا بالمعنى الحرفي ساعدَتْ في تجنُّب النزاعات في الفترة السابقة للقرن السابع عشر. وفي حديث لي مع الباحثة والمؤرخة الدينية كارين أرمسترونج، أثناء تناولنا الغداء، أوضحت لي كيف أن الخلاف الحالي بين الدين والعلم لم يكن موجودًا قديمًا، فكانت النصوص الدينية تُقرَأ على مستويات عدة؛ ومن ثَمَّ كان التفسير أقلَّ جزمًا والتزامًا بالمعنى الحرفي؛ ومن ثَمَّ أقل إثارةً للمعارضات.

وقد أوضَحَ القديس أوغسطينوس وجهةَ النظر هذه في القرن الخامس بقوله: «يعلم غالبًا غير المسيحي أمورًا عن الأرض والسماوات وغير ذلك من أجزاء الكون، وعن حركات النجوم ومداراتها، بل أحجامها والمسافات بينها أيضًا، ويتمسك بهذه المعرفة عن يقينٍ بناءً على المنطق والتجربة؛ لذلك فإنه من المشين والمخزي أن يسمع غيرُ المؤمن مسيحيًّا ينطق بتُرَّهَات عن مثل هذه الأمور، مدَّعِيًا أنه يستند فيما يقوله إلى الكتاب المقدس. علينا بذل كلِّ ما في وسعنا لتجنب مثل هذا الموقف المشين، خشيةَ ألَّا يرى غير المؤمن في المسيحي سوى الجهل ويسخر منه مستهزئًا.»4
لم تقتصر فطنة أوغسطينوس على هذا الحد فحسب، وإنما أوضح أيضًا أن الرب قد وضع أحاجي في الكتاب المقدس لمنح الناس متعةَ حلِّها.5 وكان يشير بذلك إلى الكلمات المبهمة والفقرات التي تطلَّبَتْ تفسيرًا مجازيًّا. يبدو أن أوغسطينوس قد استمتع بما انطوى عليه الأمر من منطق ولامنطق، وحاوَلَ تفسير التناقضات الجوهرية. على سبيل المثال، كيف يمكن لأي شخص إدراك أو تقدير خطط الرب على النحو الكامل، على الأقل في غياب السفر عبر الزمن؟6
جاليليو نفسه التزم بموقف أوغسطينوس، ففي خطاب كتبه عام ١٦١٥ لدوقة توسكانا الكبرى، مدام كريستينا دي لورين، قال: «أعتقد في المقام الأول أنه من الورع القول بأنه يستحيل أن ينطوي الكتاب المقدس على أي كذب — شريطة فهم المعنى الصحيح له — ومن الحكمة التأكيد على ذلك.»7 بل ذهب جاليليو كذلك إلى أن هذا الموقف قد تبنَّاه كوبرنيكوس كذلك، مؤكِّدًا على أن كوبرنيكوس «لم يتجاهل الكتاب المقدس، لكنه علم جيدًا أنه في حال إثبات اعتقاده، لن يتعارض مع الكتاب المقدس عند الفهم الصحيح له.»8
وفي ظل تحمُّس جاليليو، كتب أيضًا مُقتبِسًا من أوغسطينوس قوله: «عندما يقارِن أي شخص بين سلطة النص المقدس والمنطق الواضح والجلي، فإنه يعلم ما أخذه على عاتقه؛ إذ يعارِض حقيقةَ الكتاب المقدس بذلك وليس معناه؛ فالمعنى يفوق قدرته على الفهم، أو بالأصح قدرته على التفسير. إنه لا يعارض الكتاب المقدس، وإنما ما وجده داخل نفسه ويتخيَّل أنه موجود بالفعل.»9

أما تناوُل أوغسطينوس الأقل تزمتًا للكتاب المقدس، فقد افترض أن النص له دائمًا معنى منطقي، وأي تناقض ظاهر مع الملاحظات للعالم الخارجي إنما هو تجسيد لسوء فهم القارئ، حتى إن لم يكن التفسير واضحًا. نظر أوغسطينوس للكتاب المقدس كناتج للتجلِّي الإلهي كما يصوغه البشر.

ومن خلال تفسير أوغسطينوس للكتاب المقدس بأنه — على الأقل جزئيًّا — انعكاسٌ لتجارب كاتبيه الشخصية، يأتي تفسيره له مشابهًا لتعريفنا للفن في بعض الجوانب. ولا حاجة للكنيسة إلى تغيير موقفها في مواجهة الاكتشافات العلمية مع أسلوب تفكير أوغسطينوس.

أدرك جاليليو ذلك؛ ففي نظره ونظر مَن يفكِّرون مثله، لا يمكن أن يكون هناك صراع بين العلم والكتاب المقدس إذا تمَّ تفسير الكلمات تفسيرًا صحيحًا، وأي صراع ظاهري لا يكمن في الحقائق العلمية، وإنما في الفهم البشري. لعل الكتاب المقدَّس يبدو غير مفهوم للبشر في بعض الأحيان، أو قد يبدو أنه يتناقض ظاهريًّا مع ملاحظاتنا، لكنْ وفقًا لتفسير أوغسطينوس، الكتاب المقدس دائمًا على صواب. كان جاليليو وَرِعًا، ولم يعتقد بأن لديه السلطة لمخالفة الكتاب المقدس، حتى عندما أشار عليه المنطق بذلك، بعد ذلك بعدة سنوات، وصل الحد بالبابا يوحنا بولس الثاني إلى أن يعلن أن جاليليو عالم دين أفضل بكثير ممَّنْ يعارضونه.

لكن جاليليو آمَن كذلك باكتشافاته، وفي نوع من الخطاب الديني الحاد اللهجة، قال جاليليو ناصحًا: «لتنتبهوا يا علماء الدين! في ظل رغبتكم في اعتبار الافتراضات المتعلقة بثبات الشمس والأرض عقائد إيمانية، تعرِّضون أنفسكم في النهاية لخطر إدانة مَن يقولون بثبات الأرض وتحرُّك الشمس بالهرطقة، في الوقت الذي قد يثبت فيه فيزيائيًّا ومنطقيًّا تحرك الأرض وثبات الشمس.»10

من الجلي أن الدين المسيحي لم يلتزم دومًا بهذه الفلسفة، وإلا فما كان جاليليو ليُسجَن، وما كانت الصحف حاليًّا لتنشر أخبارًا عن المجادلات المُثارة حول فكرة التصميم الذكي. وبالرغم من أن العديد من ممارسي الدين يتمتعون بالمرونة في معتقداتهم، فإننا قد نواجه مشاكل من جراء التفسير المُتزَمِّت للظواهر الفيزيائية. من الخطورة التمسك بالقراءة الحرفية للكتاب المقدس؛ فبمرور الوقت، ومع سماح التكنولوجيا لنا بتحديد نطاقات النظم الجديدة، ستزداد المجالات التي يتداخل فيها العلم والدين، وكذلك أوْجُه الاعتراض المحتملة بينهما.

وحاليًّا، يهدف عدد كبير من المتدينين في العالم إلى تجنُّب مثل هذه النزاعات عن طريق اتباع تفسير أكثر تحرُّرًا لمعتقداتهم؛ فلا يعتمدون بالضرورة على التفسير المُتزمِّت للكتاب المقدس أو أي عقيدة معينة، وإنما يؤمنون بأنهم يتمسَّكون بمبادئ الجانب الروحاني في حياتهم مع قبولهم لنتائج العلم الحازمة.

الأسباب المادية

إن المشكلة الجوهرية تكمن في أن التناقضات بين العلم والدين أعمق بكثير مما يمكن لأي كلمات أو عبارات أن تعكسه. وحتى إذا استبعدنا القلق المتعلق بالتفسير الحرفي لأي نص معين، فإن العلم والدين يعتمدان على مبادئ منطقية غير متوافقة، ويتضح ذلك عندما نرى أن الدين يتناول المسائل المتعلقة بعالمنا ووجودنا من خلال فكرة تدخُّل إله خارجي، فالأفعال الإلهية — سواء المؤثرة على الجبال أو على ضميرك — لا تدخل في إطار العلم.

إن التناقض المهم هو ذلك القائم بين الدين، باعتباره خبرة اجتماعية أو نفسية، والدين القائم على فكرة الإله الذي يؤثِّر بفعالية علينا أو على عالمنا بالتدخُّل الخارجي. ففي النهاية، الدين أمر شخصي تمامًا في نظر البعض، ولعل مَن يفكِّرون على هذا النحو يستمتعون بالتواصل الاجتماعي الناتج عن عضويتهم في كيان ديني مشابِه لهم في طريقة التفكير، أو بالفوائد النفسية الناتجة عن النظر لأنفسهم في إطار عالم أكبر. والإيمان بالنسبة لمَن ينتمون لهذه الفئة من البشر يتعلَّق بممارسته وكيفية اختيارهم لسبيل حياتهم. إنه مصدر للراحة في ظل مجموعة مشتركة من الأهداف.

كثيرٌ من هؤلاء الناس يعتبرون أنفسهم روحانيين، يعزز الدين من وجودهم؛ إذ يمنحهم السياق والمعنى والغاية، وكذلك الشعور بروح الجماعة، ولا يرون أن دور الدين هو تفسير آليات عمل الكون؛ فالدين يتناوَل حِسَّهم الشخصي بالدهشة والتعجُّب، وقد يساعدهم في تفاعلاتهم مع الآخَرين والعالم من حولهم، والكثيرُ منهم يذهبون إلى أن الدين والعلم يمكنهما التعايش معًا على نحو ممتاز.

لكن الدين في أغلب الأحيان يتجاوز بكثير كوْنه مجرد أسلوب حياة أو فلسفة؛ فتنطوي أغلب الديانات على إله قادر على التدخُّل بطرق غامضة تفوق ما يمكن للناس وصفه أو للعلم اشتماله. مثل هذا الإيمان — حتى في نظر أكثر المتدينين انفتاحًا في التفكير والذين يرحِّبون بالتقدم العلمي — يتسبَّب في معضلة حتمية بشأن كيفية تحقيق التوافق بين هذا التدخل وما يمليه علينا العلم. فإذا قبلنا بفكرة أن الإله أو أي قوة روحية أخرى قد أحدثت تأثيرًا في السابق كمُسبِّب رئيسي لما نشهده الآن، فليس من الممكن من وجهة النظر العلمية أن يستمر الإله في هذا التدخل دون تَرْك أي أثر مادي على أفعاله.

لكي نفهم هذا الصراع — ونُقدِّر طبيعة العلم على نحو أفضل — علينا فهم وجهة النظر المادية للعلم فهمًا كاملًا، وهي وجهة النظر التي تنص على أن العلم ينطبق على كَوْن مادي، وأن التأثيرات الفعَّالة لها مسبِّباتٌ ماديةٌ مرتبطة بها. ويرتبط بوجهة النظر هذه الفكرة التي عرضناها في الفصل الأول من هذا الكتاب، والتي تقول بأنه يمكننا التعرُّف على مكونات المادة عند كل مستوًى من مستويات بنيتها، وما يوجد في النطاقات الكبيرة يتألَّف من المواد الموجودة في النطاقات الصغيرة. وبالرغم من أنه لا يمكننا بالضرورة تفسير كل شيء عن النطاقات الكبيرة عن طريق معرفة العناصر المادية المكونة لها، فإن هذه المكونات ضرورية، والتكوين المادي للظواهر التي تُهمنا لا يكفي دومًا لتفسيرها، لكن الأسباب المادية المرتبطة بها تلعب دورًا مهمًّا في وجودها.

يلجأ بعض الناس إلى الدين للإجابة عن الأسئلة الصعبة التي لا يعتقدون أن العلم سيصل إليها مطلقًا. ولا ريب أن وجهة النظر العلمية المادية لا تعني ضمان فهمنا لكل شيء بالضرورة، على الأقل ليس عن طريق فهم المكونات الأساسية؛ فمن خلال تقسيم الكون إلى نطاقات، يدرك العلماء أنه من غير المحتمل أن نجيب عن كل الأسئلة مرةً واحدةً، وأنه على الرغم من أن التكوين الأساسي قد يكون ضروريًّا، فإنه لا يجيب بالضرورة على جميع أسئلتنا مباشَرَةً. وحتى عندما نتعلَّم ميكانيكا الكم، نظل نستخدم قوانين نيوتن؛ لأنها توضِّح لنا كيف تنتقل الكرة عبر مجال جاذبية الأرض على نحو قد يكون فهمُه من الناحية الذرية صعبًا للغاية. تحتاج الكرة إلى ذرات بالطبع ليكون لها وجود، لكن الجانب الذري لا يفيد في تفسير مسار الكرة، وإن كان متَّفِقًا معه بالطبع.

ينطبق هذا الدرس بوجه عام على الكثير من الظواهر التي نراها في حياتنا اليومية، فيمكننا عادةً تجاهُل التكوين أو التفاصيل الجوهرية، رغم أن المادة المكونة نفسها مهمة؛ فلا حاجة لنا لمعرفة آليات العمل الداخلية للسيارة لكي نقودها، وعندما نطهو الطعام، فإننا نُقدِّر ما إذا كان السمك طريًّا، وقلب الكعكة جافًّا، والشوفان هشًّا، والسوفليه ناضجًا ومرتفعًا، لكننا إذا لم نكن متخصِّصين في فن الطهي الجزيئي، فنادرًا ما سننتبه إلى التركيب الذري الداخلي لهذه الأشياء، المسئول عن هذه التغييرات. بَيْدَ أن ذلك لا يغيِّر حقيقة أن الطعام دون جوهر لا يكون مرضيًا؛ فمكونات السوفليه لا تشبه على الإطلاق الناتج النهائي له (انظر الشكل ٣-٢). رغم ذلك، فإن الجزيئات والعناصر المكونة لطعامك التي تسعد بتجاهلها ضرورية في صنعه.
fig12
شكل ٣-٢: يختلف السوفليه تمامًا عن مكوناته. وبالمثل، قد يكون للمادة خصائص مختلفة تمامًا — أو تبدو أنها تتبع قوانين فيزيائية مختلفة تمامًا — عن المادة الأكثر جوهريةً التي تتكون منها.

على نحو مماثل، من الصعب على أي أحد تعريف الموسيقى تعريفًا دقيقًا، لكن أي محاولة لوصف هذه الظاهرة واستجابتنا العاطفية لها ستتضمن على الأرجح النظر إليها على مستوًى بعيد عن الذرات والخلايا العصبية. ورغم أننا نفهم الموسيقى عندما تسجل آذانُنا الموجاتِ الصوتيةَ الصادرةَ عن آلات مضبوطة بشكل خاص، فإن الموسيقى أكثر بكثير من مجرد ذرات الهواء الفردية المتذبذبة التي تصدر الصوت أو رد الفعل الفيزيائي لآذاننا وأمخاخنا عليها.

لكن تظل وجهة النظر المادية قائمة، وتظل المادة الركيزة عنصرًا ضروريًّا. تنتج الموسيقى عن جسيمات الهواء، وإذا تخلَّصْتَ من رد الفعل الميكانيكي لأُذُنِكَ تجاه الظواهر المادية، فلن تستمتع بالموسيقى بعد الآن (ففي الفضاء، لا يمكن لأحد سماع صراخك). الفكرة هي أن إدراكنا وفهمنا للموسيقى يتجاوز ذلك الوصف المادي، ولن يكون من الممكن تناوُل المسائل المتعلقة بكيفية إدراكنا كبشر للموسيقى إذا ركَّزنا فقط على الجزيئات المتذبذبة؛ إنَّ فهْم الموسيقى يتضمن تقديرَ الأوتار والأنغام، وافتقاد الإيقاع، وذلك على نحوٍ لا دخْل فيه إطلاقًا للجزيئات أو التذبذبات. رغم ذلك، فإن الموسيقى تتطلب وجود هذه التذبذبات، أو على الأقل الانطباع الحسي الذي تُخلفه في أمخاخنا.

على النحو ذاته، فَهْم المكونات الأساسية للحيوان ليس سوى خطوة واحدة فقط نحو استيعاب العمليات التي تتشكَّل منها الحياةُ، ولا يمكننا على الأرجح فهم كل شيء في هذا الشأن دون أن نتمتع بقدر أفضل من المعرفة عن المكونات التي تتجمع معًا لإحداث الظواهر التي نعرفها. إن الحياة «ظاهرة ناشئة» تتجاوز حدودَ مكوناتها الأساسية.

يندرج الوعي على الأرجح تحت هذه الفئة أيضًا، ورغم عدم وجود نظرية شاملة للوعي، فإن الأفكار والمشاعر متأصلة جوهريًّا في الخصائص الكهربية والكيميائية والفيزيائية للمخ، ويمكن للعلماء ملاحظة الظواهر الميكانيكية المادية المرتبطة بالأفكار والمشاعر في المخ، حتى إن لم يكن بإمكانهم التوصُّل إلى كيفية عمل هذه الظواهر. ووجهة النظر المادية هذه ضرورية، لكنها ليست كافيةً بالضرورة لفهم جميع الظواهر في عالمنا.

ما من شيء يضمن لنا فهم الوعي من خلال مكوناته الأساسية، لكن يظل بوسعنا التوصُّل إلى المبادئ التي تنطبق على نطاق مركب أو ناشئ أكبر بعض الشيء. وبفضل التقدم العلمي في المستقبل، سيتوصَّل العلماء لفهمٍ أدق للكيمياء الأساسية والقنوات الكهربية للمخ؛ ومن ثَمَّ سيفهمون المكونات العاملة الأساسية له. وسيُفسَّر الوعي في الغالب كظاهرة لن يستوعبها العلماء إلا من خلال التعرف على الأجزاء الصحيحة المكونة لها ودراستها.

يعني ذلك أن تحقيق التقدُّم لا يقتصر على علماء الأعصاب الذين يدرسون كيمياء المخ الأساسية، وإنما ثمة احتمال كبير أن يحقِّق اختصاصيو علم النفس التطوري — الذين يبحثون في جوانب الاختلاف بين تفكير البالغين والأطفال الرُّضَّع،11 أو غيرهم ممَّن قد يتساءلون عن أوْجُه الاختلاف في التفكير بين البشر والكلاب — تقدُّمًا أيضًا. وأظن أن الوعي، شأنه شأن الموسيقى، لا يتكون من عنصر واحد فقط، وإنما له العديد من المستويات. ومن خلال طرح أسئلة على مستوًى أعلى، يمكننا اكتساب معلومات دقيقة عن الوعي نفسه، وعن الأسئلة التي يمكن طرحها عندما نبدأ في دراسة اللبنات المكونة له؛ أي العمليات الكيميائية والفيزيائية الخاصة بالمخ. وكما هو الحال مع السوفليه اللذيذ، يلزم علينا فهم النظم الناشئة أيضًا، لكن ما من فعل أو فكر بشري سيحدث دون أن يؤثِّر على بعض المكونات الفيزيائية في جسدنا.

والفيزياء — وإن كانت أقل غموضًا من نظرية الوعي — تحقِّق التقدم من خلال دراسة الظواهر في نطاقات مختلفة؛ فيطرح الفيزيائيون أسئلةً مختلفةً عند دراسة الأحجام والمكونات المتباينة. على سبيل المثال، تختلف الأسئلة التي نطرحها بشأن إرسال سفينة فضاء إلى المريخ اختلافًا تامًّا عن الأسئلة التي نطرحها عن كيفية تفاعل الكواركات. كِلا النوعين من الأسئلة مشروعٌ، لكن لا يمكننا استنتاج أحدهما من الآخَر. ومع ذلك، فإن المادة التي تُرسَل إلى الفضاء مصنوعة من المكونات الأساسية التي نطمح في فهمها في النهاية.

سمعت أحيانًا الناس يستهزئون بالمنظور المادي الذي يتبنَّاه الفيزيائيون، منتقدين إياه بوصفه منظورًا مخلًّا في التبسيط، ومشيرين إلى الظواهر التي لا — أو لن — نتناولها في إطاره. تتمثل هذه الظواهر أحيانًا في العمليات الفيزيائية أو الأحيائية، مثل عمل المخ أو الأعاصير، وأحيانًا تكون ظواهر روحانية، وأتحير قليلًا هنا بشأن ما يعنيه الناس، لكنني لا أملك سوى التأكيد على أننا لا نتناول هذه الظواهر بالفعل. فالنظريات الفيزيائية تركز على التركيب من أكبر النطاقات إلى أصغرها، وهي نطاقات يمكننا افتراضها أو دراستها من خلال التجارب. وبمرور الزمن، نكوِّن صورة مُتَّسِقَة حول كيفية الانتقال من أحد مستويات الواقع إلى مستوًى آخر. والعناصر الأساسية ضرورية لفهم الواقع، لكن العلماء الأَكْفَاء لا يصرُّون على أن معرفة هذه العناصر في حد ذاتها تفسِّر كلَّ شيء؛ فالتفسيرات تتطلب مزيدًا من البحث.

حتى إذا تمكَّنتْ نظرية الأوتار من تفسير الجاذبية الكمية، فستظل «نظرية كل شيء» تسميةً خاطئة مفزعة لها، وفي حال وصول الفيزيائيين — وهو الأمر المُستبعَد — إلى هذه النظرية الأساسية الشاملة لكل شيء، سيظل علينا مواجهة العديد من الأسئلة بشأن الظواهر التي تقع على مستوى النطاقات الأكبر، تلك الظواهر التي لن يمكن الإجابة عليها ببساطة من خلال معرفة المكونات الأساسية. ولا يمكن للعلماء أن يطمحوا في تفسير المواد الفائقة التوصيل، والأمواج العاتية في المحيط، والحياة بوجه عام، إلا عندما يستوعبون الظواهر المُجمَّعة التي تظهر على نطاقات أكبر من تلك التي تصفها الأوتار الأولية. وفي أثناء ممارسة العلوم، سنتناول نطاقات الظواهر واحدًا تلو الآخَر، وسنبحث في الأجسام والعمليات على نطاق مسافات أكبر مما قد يمكننا تناوله إذا حاولنا تتبُّع كلِّ مكوِّنٍ من مكوناتها.

وبالرغم من تركيزنا على مستويات مختلفة من الواقع في أثناء تناولنا لأسئلة مختلفة، فلا ريب أن وجهة النظر المادية ضرورية. تعتمد الفيزياء وغيرها من العلوم على دراسة المادة الموجودة في العالم، والعلم في جوهره يعتمد على الأجسام التي تتفاعل نتيجةً للأسباب الميكانيكية وتأثيراتها. إن أيَّ شيءٍ يتحرك بسبب تأثير قوة ما عليه؛ فالمحرك يعمل بسبب استهلاكه للطاقة، والكواكب تدور حول الشمس بسبب تأثير الجاذبية، ووفقًا لوجهة النظر العلمية، يتطلب السلوك البشري أيضًا عمليات كيميائية وفيزيائية، حتى إن ظللنا بعيدين عن فهم كيفية عمله. ينبغي أن ترتبط خياراتنا الأخلاقية كذلك — على الأقل جزئيًّا — بجيناتنا؛ ومن ثَمَّ بتاريخنا التطوري؛ فالتركيب الفيزيائي يلعب دورًا في أفعالنا.

قد لا نتناول جميع الأسئلة المحورية مرة واحدة، لكن المادة الأساسية ضرورية دومًا للوصف العلمي. وفي نظر العالِم، العناصر الميكانيكية المادية هي أساس توصيف الواقع، والأسبابُ الفيزيائية ذات الصلة ضروريةٌ لأي ظاهرة في العالم، حتى وإن لم تكن كافيةً لتفسير كل شيء.

تتناسب وجهة النظر المادية هذه تمامًا مع العلم، لكنها تؤدي حتمًا إلى خلافات منطقية عندما يثير الدينُ فكرةَ الإله أو أي كيان آخَر خارجي لتفسير سلوك الناس أو العالم، وتكمن المشكلة هنا في أنه للإقرار بوجود كلٍّ من العلم والرب — أو أي روح خارجية — الذي يتحكم في الكون أو النشاط البشري، ينبغي للمرء التفكير في السؤال «متى يتدخل الإله؟ وكيف يفعل ذلك؟» وفقًا لوجهة النظر المادية الميكانيكية للعلم، إذا كانت الجينات التي تؤثِّر على سلوكنا هي نتاج التنوعات الجينية العشوائية التي تسمح للأنواع الحية بالتطور، فلا يمكن أن يكون الرب مسئولًا عن سلوكنا إلا إذا تدخَّلَ ماديًّا بإنتاج تنوُّع جيني عشوائي من الناحية الظاهرية. ولتوجيه أنشطتنا الحالية، ينبغي أن يؤثِّر الرب على التحوُّل الجيني العشوائي ظاهريًّا، والذي لعب دورًا محوريًّا في تطوُّرنا. وإذا كان قد فعل ذلك، فكيف؟ هل استخدم قوةً معينة أو حوَّلَ طاقةً ما؟ هل يغيِّر الرب العمليات الكهربائية في عقولنا؟ هل يدفعنا للتصرُّف على نحو معين أو يحدث عاصفة رعدية كي لا يتمكَّن شخص معين من الوصول إلى وجهته؟ وعلى نطاق أوسع، إذا كان الرب قد جعل للكون هدفًا، فكيف يحقِّق إرادته؟

لا تكمن المشكلة هنا في أن جُلَّ هذا يبدو سخيفًا فحسب، وإنما أيضًا في أن هذه الأسئلة يبدو أن ليس لها أجوبة معقولة تتسق مع العلم كما نفهمه. كيف يمكن أن يعمل هذا «السحر الإلهي»؟

من الجليِّ أنَّ مَن يرغبون في الإيمان بأن الرب يمكنه التدخُّل لمساعدتهم أو تغيير العالم، عليهم في مرحلة ما الاستعانة بالتفكير غير العلمي. فحتى إن لم يكن العلم يوضِّح لنا بالضرورة الأسباب وراء حدوث الأشياء، فإننا نعلم بالفعل كيف تتحرك هذه الأشياء وتتفاعل، وإذا لم يكن للرب أي تأثير مادي، فلن تتحرك الأشياء، حتى أفكارنا التي تعتمد في النهاية على الإشارات الكهربائية التي تتحرك في عقولنا، لن تتأثر.

وإذا كانت هذه التأثيرات الخارجية متأصِّلة في الدين، فإن المنطق والتفكير العلمي يشيران إلى أنه لا بد أن تكون هناك آلية ينتقل بها هذا التأثير. إن الاعتقاد الديني أو الروحاني، الذي يتضمَّن قوةً غير مرئيةٍ لا يمكن التنبؤ بها لكنها تؤثِّر في الوقت نفسه على تصرفات البشر والعالم وسلوكياتهم؛ يُسفِر عن موقف لا يكون أمام المؤمن فيه خيار سوى التمسُّك بإيمانه والتخلِّي عن المنطق، أو بالأصح عدم الاكتراث به.

وإنني لأرى في هذا التنافر بين الدين والعلم مأزقًا منطقيًّا لا مخرجَ منه، سواء في الأساليب أو الفهم. و«المجالان غير المتداخلين»، اللذان زعم ستيفن جاي جولد وجودهما (بمعنى أن يتناول العلم الكَوْن التجريبي، في حين يتولَّى الدين المسائل الأخلاقية)، يتداخلان في حقيقة الأمر، بل يواجهان أيضًا تناقُضًا يتعذَّر حله. فمع أن المؤمنين قد يحيلون الأمور الأخلاقية بالفعل للدين، ومع أن العلم لا يزال عليه الإجابة عن بعض الأسئلة الجوهرية العميقة التي تُهِمُّ البشرية، فإننا عندما نتحدث عن المادة والنشاط — سواء أكان ذلك فيما يتعلق بالعقل أم الأجرام السماوية — يقع هذا في نطاق سلطة العلم.

خلافات عقلانية وحلول غير عقلانية

بالرغم مما أوضحناه فيما سبق، فإن التنافر بين العلم والدين لا يزعج بالضرورة جميعَ المؤمنين. تصادَفَ ذات مرةٍ أثناءَ وجودي على متن طائرة متجهة من بوسطن إلى لوس أنجلوس أنْ جلستُ بجوار ممثِّل شابٍّ تلقَّى في السابق تدريبًا في علم الأحياء الجزيئية، لكنه كانت لديه آراء غريبة بشأن التطور، وقبل أن يشرع في شق طريقه بمجال التمثيل، عمل مُنِّسِقًا لدروس العلوم مدة ثلاثة أعوام في المدارس الموجودة بالمدن. عندما التقيت به، كان عائدًا من مراسم تنصيب أوباما رئيسًا للولايات المتحدة، وكله حماس وتفاؤل ورغبة في تحويل العالم إلى مكان أفضل؛ فإلى جانب مواصَلَة مسيرته الناجحة كممثل، كان يطمح أيضًا في إقامة مدارس بجميع أنحاء العالم لتدريس العلم والمنهج العلمي.

لكن مناقشتنا تحوَّلَتْ تحوُّلًا عجيبًا آنذاك؛ فقد كان يخطِّط أن يحتوي المنهج الدراسي الذي ينوي تدريسه على مادة واحدة على الأقل عن الدين. كان الدين جزءًا مهمًّا في حياته، وكانت لديه ثقة في إصدار الناس أحكامهم الخاصة في هذا الشأن، لكن المفاجأة الكبرى هي أنه واصَلَ حديثه حول إيمانه بانحدار أصل الإنسان من آدم، وليس بتطوُّره. لم أفهم كيف يمكن لشخص حصل على تدريب في علم الأحياء ألَّا يؤمن بالتطور؛ هذا التناقض يفوق أي انتهاك لفكرة الكَوْن المادي بطرح فكرة تدخُّل الرب على النحو الذي تناولته فيما سبق. أخبرني الشاب بأن بإمكانه تعلُّم العلم وفهم المنطق، لكنهما لا يمثلان سوى الأسلوب الذي يعبِّر به الإنسان — أيًّا كان ما يعنيه ذلك — عن الأمور من حوله. ومن وجهة نظره، استنتاجات «الإنسان» المنطقية ليست كما تبدو عليه ظاهريًّا.

توصَّلْتُ من خلال هذه المحادثة إلى السبب الذي سيجعلنا نواجه صعوبة كبيرة في الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالتوافق بين العلم والدين؛ فالعلم القائم على التجربة والمُستمَد من المنطق وطبيعة الإيمان المُلهمة، منهجان مختلفان كل الاختلاف لمحاولة الوصول إلى الحقيقة! فما من تناقض بدون قواعد منطقية، والمنطق يحاول حل التناقضات، في حين أن أغلب الفكر الديني يقوم عليها. إذا كنتَ تؤمن بالحقيقة المُلهَمة، فأنت بهذا قد خرجت عن حدود قواعد العلم؛ ومن ثَمَّ لا يكون هناك تناقض. المؤمن بوسعه تفسير العالم على نحو غير عقلاني يرى — من وجهة نظره — أنه يتوافَق مع العلم؛ أي إن يقبل بفكرة «السحر الإلهي»، ويمكنه أن يقرِّر العيش في ظل التناقض، مثلما فعل رفيقي بالطائرة.

لكن إن كان بإمكان الدين تجنُّب التناقضات المنطقية، فلا يمكن للعلم أن يفعل ذلك؛ فمتبنُّو وجهة النظر الدينية، الذين يرغبون في قبول التفسيرات الدينية لكيفية عمل العالم والتفكير العلمي، يضطرون لمواجهة الصدع الهائل بين الاكتشافات العلمية والتأثيرات غير الملحوظة وغير المُدرَكة، وهو الصدع الذي لا يمكن رَأْبُه بأساليب التفكير المنطقية، وليس أمامهم خيار سوى طرح التفسيرات المنطقية (أو على الأقل الحرفية) جانبًا في أمور الإيمان، أو على الأقل عدم الاكتراث بالتناقض.

وفي الحالتين، لا يزال من الممكن أن يكون المرء عالِمًا بارعًا. ولا ريب أن الدين قد يقدِّم لنا فوائد نفسية قيِّمة، لكن أي عالِم متدين سيكون عليه مواجهة صراع بين الجانب العلمي ومعتقده الديني يوميًّا؛ فالجانب الديني بمخك لا يمكنه العمل في الوقت نفسه مع الجانب العلمي؛ لأنهما ببساطة غير متوافقَيْن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤