الفصل السابع

حافة الكَوْن

استيقظت على مضض يوم ١ ديسمبر عام ٢٠٠٩ الساعة السادسة صباحًا بفندق ماريوت المجاور لمطار برشلونة كي ألحق بالطائرة التي كنتُ سأغادر على متنها ذلك اليوم. كنت في زيارة آنذاك لتلك المدينة من أجل حضور عرض أوبرالي صغير — كنتُ قد كتبتُ نصَّه — يُقدَّم للمرة الأولى في إسبانيا عن الفيزياء والاكتشاف. وقد كانت عطلة نهاية الأسبوع مُرضية للغاية، لكن الإرهاق تمكَّنَ مني، وشعرت بتوق شديد للعودة إلى دياري، لكن مفاجأة جميلة عطَّلتني قليلًا صبيحة ذلك اليوم.

كان العنوان الرئيسي للجريدة، التي التقطتها من أمام باب غرفتي بالفندق حينذاك، هو «مهشم الذرات يحطم رقمًا قياسيًّا جديدًا». بدلًا من العناوين الرئيسية المعتادة التي تتناول كارثةً مهولة أو قصةً مشوقة عابرة، كان الخبر الأهم ذلك اليوم هو وصول مصادِم الهادرونات الكبير إلى مستويات غير مسبوقة من الطاقة قبل ذلك التاريخ بيومين. ملأ المقالَ الحماسُ بشأن ذلك الإنجاز المهم لمصادم الهادرونات الكبير.

بعد ذلك اليوم ببضعة أسابيع، وعندما تحقَّق تصادم فعلي بين حزمتَيْ بروتونات عاليتَيِ الطاقة، حمل المقال الرئيسي بالصفحة الأولى لجريدة نيويورك تايمز عنوان «المصادِم يحقِّق رقمًا قياسيًّا، وأوروبا تلحق بركب الولايات المتحدة.»1 وبذلك، لم يكن الرقم القياسي السابق الذي احتفت به الجريدة في برشلونة سوى حلقة أولى فحسب من حلقات سلسلة طويلة من الإنجازات المهمة التي حقَّقها مصادم الهادرونات الكبير في ذلك العقد.

وبذلك، يستكشف مصادم الهادرونات الكبير الآن مسافات أقصر من أي مسافات خضعت للدراسة من قبلُ. وفي الوقت ذاته، تعمل ملاحظات الأقمار الصناعية والتليسكوبات على استكشاف أكبر النطاقات في النظام الكوني، وذلك بدارسة معدل سرعة تمدُّده وتفاصيل إشعاع الخلفية الميكروني الكوني الذي خلَّفه الانفجار العظيم.

لقد صرنا ندرك الآن الكثير من المعلومات عن تكوين الكَوْن، لكن كما هو الحال مع أغلب صور التقدم، طرح العديد من الأسئلة نفسه مع تزايد معرفتنا، وكشف بعضُه عن ثغرات خطيرة في الأُطُر النظرية لأعمالنا، لكننا ندرك في أحيان كثيرة طبيعة الحلقات المفقودة إدراكًا جيدًا يسمح لنا بمعرفة ما نحن بحاجة للبحث عنه وكيفية فعل ذلك.

لذا، دعونا نُلْقِ نظرةً عن كثب على ما يلوح لنا في الأفق؛ أي على التجارب التي في انتظارنا والنتائج المتوقَّعَة منها. يستعرض هذا الفصل بعضًا من الدراسات الفيزيائية والأسئلة الرئيسية التي سيتناولها باقي الكتاب.

تجاوُز النموذج القياسي في مصادِم الهادرونات الكبير

يوضِّح لنا النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات كيفيةَ إجراء التنبؤات فيما يتعلَّق بالجسيمات الخفيفة التي تتكوَّن منها أجسامنا. أيضًا، يصف هذا النموذج جسيمات أخرى أثقل وزنًا تجري تفاعلات مشابِهة، هذه الجسيمات الثقيلة تتفاعل مع الضوء والنوى من خلال القوى ذاتها التي تتعرَّض لها الجسيمات التي تتكوَّن منها أجسامنا والنظام الشمسي.

fig26
شكل ٧-١: يعرض هذا الشكل عناصر النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات التي تمثِّل معظم عناصر المادة الأساسية المعروفة، وتفاعلاتها. الكواركات العلوية والسفلية تستشعر القوى القوية والضعيفة والكهرومغناطيسية، أما اللبتونات المشحونة، فتستشعر القوتين الضعيفة والكهرومغناطيسية، في حين لا تستشعر النيوترينوات سوى القوة الضعيفة فحسب. تعمل الجلوونات، والبوزونات المقياسية الضعيفة، والفوتونات على نقل هذه القوى، أما بوزون هيجز، فلا يزال البحث عنه جاريًا.

إن الفيزيائيين على علم بطبيعة الإلكترون، والجسيمات الأثقل وزنًا ذات الشحنات المشابهة التي تُعرَف باسم «الميوون» و«التاوون». فنحن نعلم أن هذه الجسيمات — المعروفة باسم «اللبتونات» — تقترن بجسيمات متعادلة الشحنة (وهي جسيمات عديمة الشحنة لا تشهد تفاعلات كهرومغناطيسية مباشرة) تُسمَّى «النيوترينوات»، وهي لا تتفاعل إلا بواسطة القوة ذات الاسم المبتذل «القوة الضعيفة». والقوة الضعيفة مسئولة عن تحلُّل بيتا الإشعاعي إلى بروتونات (وتحلُّل بيتا للنوى بوجه عام)، وعن بعض العمليات النووية التي تحدث في الشمس، وجميع مواد النموذج القياسي تتعرَّض لتأثير القوة الضعيفة.

من ناحية أخرى، تتوفَّر لدينا معلومات أيضًا عن الكواركات الموجودة داخل البروتونات والنيوترونات، فتتعرض هذه الكواركات لكلٍّ من القوة الضعيفة والقوة الكهرومغناطيسية، إلى جانب القوة النووية القوية التي تحقِّق التماسُك بين الكواركات الخفيفة داخل البروتونات والنيوترونات. وتفرض القوة القوية بعض المشكلات الحسابية، لكننا ندرك بنيتها الأساسية.

تشكِّل الكواركات واللبتونات، إلى جانب القوى القوية والضعيفة والكهرومغناطيسية، جوهرَ النموذج القياسي (انظر الشكل ٧-١ للاطلاع على ملخص للنموذج القياسي لفيزياء الجسيمات). وبهذه المكونات، حقَّقَ الفيزيائيون النجاحَ في التنبؤ بنتائج جميع تجارب فيزياء الجسيمات حتى يومنا هذا، فنحن على وعي كامل بطبيعة جسيمات النموذج القياسي وكيفية عمل قواها.

لكن مع كل ذلك، لا تزال هناك بعض الألغاز المعقَّدَة التي لم تُحَلَّ بعدُ.

ويُعَدُّ دور الجاذبية في النموذج القياسي أحد أهم هذه المعضلات، وهي معضلة كبيرة أمام مصادِمِ الهادرونات الكبير فرصةٌ لحلها، لكنه أمر ليس مضمونًا على الإطلاق. فلا ريب أن طاقة هذا المصادم — رغم ارتفاعها مقارَنَةً بأي طاقة أخرى شهدها سطح الأرض من قبلُ، وبالطاقة التي سيتطلَّبها تناول بعض الألغاز المعقَّدَة الأخرى — أقل بكثير مما يمكننا من الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالجاذبية الكمية إجابات قاطعة؛ لذا، لفعل ذلك، علينا دراسة الأطوال المتناهية الصغر التي يمكن أن تظهر عندها آثار ميكانيكا الكم والجاذبية، الأمر الذي يتجاوز بكثير حدود ما يمكن لمصادم الهادرونات الكبير الوصول إليه. وإن حالفنا الحظ، ولعبت الجاذبية دورًا كبيرًا في معالجة مشكلات الجسيمات التي سنعتبرها قريبًا مرتبطة بالكتلة، فسنكون أقدر على الإجابة عن هذا السؤال، وقد يكشف مصادم الهادرونات الكبير عن معلومات مهمة بشأن الجاذبية والفضاء نفسه. وفي حال عدم حدوث ذلك، يكون لا يزال أمام الاختبارات التجريبية لأي نظرية كمية عن الجاذبية — بما في ذلك نظرية الأوتار — طريق طويل للغاية عليها أن تقطعه.

لكن علاقة الجاذبية بالقوى الأخرى ليست هي المعضلة الوحيدة الرئيسية التي لم تُحَلَّ إلى الآن؛ فثمَّةَ ثغرة أخرى خطيرة في فهمنا يهدف بلا شك مصادم الهادرونات الكبير لحلها، تتمثل هذه الثغرة في كيفية نشوء كُتَلِ الجسيمات الأساسية. قد يبدو ذلك تساؤلًا غريبًا للغاية (ما لم تكن، بالطبع، قد قرأتَ كتابي السابق)؛ وذلك لأننا ننزع للتفكير في كتلة أي جسيم كسمة جوهرية له غير قابلة للتغيير.

وهذا أمر صحيح إلى حدٍّ ما، فالكتلة إحدى السمات التي تُعرِّف الجسيم، إلى جانب الشحنة والتفاعلات. وطاقة الجسيمات لا يمكن أن تساوي صفرًا، أما الكتلة فهي سمة جوهرية يمكن أن يكون لها العديد من القيم، بما في ذلك الصفر. ومن الأمور المهمة التي أدركها أينشتاين إقراره بأن قيمة كتلة الجسيم توضِّح مقدار الطاقة التي يحملها عند سكونه، لكن الجسيمات لا يكون لكتلتها دومًا قيمة غير متلاشية، والجسيمات التي تبلغ كتلتها صفرًا، مثل الفوتون، لا تكون أبدًا في وضع السكون.

رغم ذلك، فإن الكتل غير الصفرية للجسيمات الأولية، والتي تمثِّل سمة جوهرية لهذه الجسيمات، تُعَدُّ لغزًا بالغ الغموض. فلا يقتصر الأمر على الكواركات واللبتونات فقط فيما يتعلق بالكتلة غير الصفرية، وإنما ينطبق ذلك أيضًا على البوزونات المقياسية الضعيفة، وهي الجسيمات التي تعمل على توصيل القوة الضعيفة. وقد قاس الفيزيائيون التجريبيون هذه الكتل، لكن القواعد الفيزيائية البسيطة لا تسمح بها، ولا تنطبق تنبؤات النموذج القياسي إلا إذا افترضنا أن الجسيمات تحمل هذه الكتل، لكننا لا نعلم مصدرها في الأساس؛ ومن ثمَّ فإن أبسط القواعد لا تنطبق هنا، وثمة شيء أكثر غموضًا يحدث.

يؤمن فيزيائيو الجسيمات بأن السبب الوحيد وراء ظهور هذه الكتل غير المتلاشية هو وقوع حدث جلل في مرحلة مبكرة من عمر الكَوْن، وهو عملية تشتهر باسم «آلية هيجز» نسبةً إلى الفيزيائي الاسكتلندي بيتر هيجز الذي كان من أوائل مَن أوضحوا كيفية تكوُّن الكتل. وجدير بالذكر هنا أن هناك ما لا يقل عن ستة علماء آخَرين طرحوا أفكارًا مشابهة، فيمكن أن تسمع كذلك عن آلية إنجليرت-بروت-هيجز-جورالنيك-هاجين-كيبل. لكنني سألتزم هنا باسم هيجز فقط.2 تتمثَّل هذه الفكرة — أيًّا كان اسمها — في أن تحوُّلًا طوريًّا ما (ربما مثل التحول الطوري لفقاعات الماء السائل إلى بخار غازي) قد وقع وغيَّر طبيعة الكَوْن، فبعد أن كانت الجسيماتُ عديمةَ الكتلة وتتحرك بسرعة الضوء، صارت لها كتلة وصارت أبطأ في حركتها بعد هذا التحول الطوري الذي يتضمن ما يُعرَف بمجال هيجز. توضِّح آلية هيجز كيف أن الجسيمات الأولية تتحوَّل من الكتلة الصفرية في غياب مجال هيجز إلى الكتلة غير الصفرية التي توصلنا إليها في قياسات التجارب.

وفي حال كان الفيزيائيون مُحِقِّين، وكانت هناك آلية هيجز بالفعل في الكَوْن، فسوف يكشف مصادم الهادرونات الكبير عن دلالات تدحض التاريخ المعلوم للكَوْن. ويتمثَّل الدليل على هذه الآلية — في أبسط صور تطبيقها — في جسيم واحد؛ أَلَا وهو بوزون هيجز. وفي النظريات الفيزيائية الأكثر دقةً التي تطبِّق فكرة آلية هيجز، يمكن أن يصاحب بوزون هيجز جسيمات أخرى لها نفس الكتلة، أو يمكن أن يحل محله جسيم آخَر مختلف تمامًا.

وبغض النظر عن كيفية تطبيق آلية هيجز، فإننا نتوقَّع أن ينتج مصادِم الهادرونات الكبير شيئًا مثيرًا للاهتمام، قد يكون هذا الشيء هو بوزون هيجز، وقد يكون دليلًا على نظرية أكثر غرابة، مثل «النموذج الملون» الذي سنتناوله فيما بعدُ، وقد يكون شيئًا غير متوقَّع على الإطلاق. وإذا جرت الأمور كما هو مخطط لها، فسيتوصل مصادم الهادرونات الكبير إلى الجسيم الذي فَعَّلَ آلية هيجز. وبصرف النظر عمَّا سيتوصل إليه، فسيوضح لنا أمرًا مثيرًا للاهتمام بشأن كيفية اكتساب الجسيمات لكتلتها.

إن النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات، الذي يصف العناصر الأساسية للمادة وتفاعلاتها، نموذج ناجح. فقد تأكَّدَتْ تنبؤاته مرات عدة بدرجة عالية من الدقة. وبوزون هيجز هو الجزء الوحيد المتبقي في أحجية النموذج القياسي.3 فنحن نفترض الآن أن الجسيمات لها كتل، لكننا عندما نفهم آلية هيجز، سنعلم كيف ظهرت هذه الكتل. وتلعب آلية هيجز، التي يستعرضها بقدر أكبر من التفصيل الفصلُ السادس عشر من هذا الكتاب، دورًا محوريًّا في فهم المادة على نحو أكثر دقةً.

ثمَّةَ لغز آخَر أكثر تعقيدًا في فيزياء الجسيمات من المتوقع أن يساعد مصادم الهادرونات الكبير في حله؛ فمن المرجح أن تلقي التجارب التي تُجرَى في هذا المصادم الضوء على حلٍّ للمسألة المعروفة باسم «مشكلة التسلسل الهرمي في فيزياء الجسيمات». فبينما تحاوِل آلية هيجز الإجابة عن السؤال «لماذا تمتلك الجسيمات الأولية كتلًا؟» تتناول مشكلة التسلسل الهرمي السؤال «لماذا تتسم هذه الكتل بما تتسم به من خصائص؟»

لا يعتقد فيزيائيو الجسيمات أن الكتل تنشأ بسبب ما يُسمَّى مجال هيجز الذي يتخلَّل الكون فحسب، وإنما يؤمنون كذلك بأنهم على علم بالطاقة التي حدث بها التحوُّل من الجسيمات العديمة الكتلة إلى الجسيمات ذات الكتلة، ويرجع ذلك إلى أن آلية هيجز تمنح بعض الجسيمات كتلًا على نحو يمكن التنبؤ به، ويعتمد فقط على قوة القوة النووية الضعيفة والطاقة التي يحدث في ظلِّها التحولُ.

الغريب في الأمر أن طاقة التحول تبدو غير منطقية على الإطلاق من الناحية النظرية، فإذا جمعنا بين ما نعرفه عن ميكانيكا الكم والنسبية الخاصة، فسيمكننا فعليًّا حساب المساهمات في كتل الجسيمات، والتي تكون أكبر بكثير مما يتم قياسه. فتوضح لنا الحسابات القائمة على ميكانيكا الكم والنسبية الخاصة أنه إذا لم تكن هناك نظرية أكثر عمقًا، فمن المفترض أن تكون الكتل أكبر بكثير، أكبر بنسبة ١٠ كوادريليون (١٠١٦) مرة، مما هي عليه بالفعل، ولا تتماشى أجزاء هذه النظرية معًا إلا بذلك الهراء الذي لا يخجل الفيزيائيون من تسميته «الضبط الدقيق».

تفرض مشكلةُ التسلسل الهرمي في فيزياء الجسيمات أحدَ أكبر التحديات فيما يتعلق بالوصف الأساسي للمادة. فنحن نبغي معرفة الأسباب وراء التباين الهائل بين حالة الكتل الفعلية وما كنَّا نتوقعه. فحسابات ميكانيكا الكم تدفعنا للاعتقاد بأن المادة من المفترض أن تكون أكبر من «نطاق الطاقة الضعيفة» الذي يحدِّد كتلتها، وعجزُنا عن فهم نطاق الطاقة الضعيفة في أبسط صور النموذج القياسي يمثِّل حجر عثرة أمام وضع نظرية متكاملة الأطراف.

والاحتمال المرجح هو أن تفترض نظريةٌ أكثرُ دقةً وإثارةً للاهتمام نموذجًا أكثر بساطة، وهو الاحتمال الذي يراه الفيزيائيون أكثر إقناعًا من نظرية الضبط الدقيق للطبيعة. ورغم ما يحدونا من طموحات بشأن اتساع نطاق النظريات التي يمكن أن تحل مشكلة التسلسل الهرمي، فمن المرجح أن يلقي مصادم الهادرونات الكبير الضوء على النظرية التي تفعل ذلك بالفعل. فلا توضِّح ميكانيكا الكم والنسبية المساهمات في الكتل فحسب، لكنها توضِّح كذلك الطاقة التي ينبغي أن تظهر عندها الظواهر الجديدة، وهذا هو نطاق الطاقة الذي يستكشفه مصادم الهادرونات الكبير.

يتوقَّع العلماء ظهور نظرية أكثر إثارةً للاهتمام في مصادم الهادرونات الكبير، وهذه النظرية التي ستتناول الأسرار المحيطة بالكتل، ينبغي أن تظهر مع ظهور تناظرات أو قوًى وجسيمات جديدة، وهي أحد الأسرار المهمة التي نطمح في أن تكشف التجاربُ بمصادم الهادرونات الكبير الستارَ عنها.

والحل في حد ذاته أمر مثير، لكنه سيدلنا على الأرجح إلى أفكار متعمقة بشأن جوانب أخرى للطبيعة، وأكثر الحلول المقترَحة إقناعًا لهذه المسألة تتضمن إما التوسُّع في تناظرات الزمان والمكان، أو مراجعة مفهومنا الحالي عن الفضاء.

توضِّح السيناريوهات التي يستعرضها الفصل السابع عشر بقدر أكبر من التفصيل أن المكان قد يتضمن ما هو أكثر من الأبعاد الثلاثة التي نعرفها: «الأعلى-الأسفل»، و«الأمام-الخلف»، و«اليمين-اليسار». على وجه التحديد، يمكن أن يتضمن المكان أبعادًا خفية تمامًا يمكننا من خلالها فهم خصائص الجسيمات وكتلها. وإن كان هذا هو الحال، فسيقدِّم مصادم الهادرونات الكبير الدلائلَ على هذه الأبعاد في صورة الجسيمات المعروفة باسم جسيمات «كالوزا-كلاين»، التي تنتقل عبر الزمكان الكامل ذي العدد الأكبر من الأبعاد.

أيًّا كانت النظرية التي ستقدِّم حلًّا لمشكلة التسلسل الهرمي، فمن المفترض أن تقدِّم أدلةً يمكن التوصُّل إليها تجريبيًّا في نطاق الطاقة الضعيفة، وسيربط المنطق النظري بين ما نتوصل إليه في مصادم الهادرونات الكبير وما سيحل هذه المعضلة في النهاية، أيًّا ما كان. وقد يكون شيئًا توقَّعناه أو لم نتوقَّعه، لكنه سيكون مذهلًا في كلتا الحالتين.

المادة المظلمة

فضلًا عن القضايا المتعلقة بفيزياء الجسيمات الموضحة فيما سبق، يمكن أن يساعد مصادم الهادرونات الكبير كذلك في توضيح طبيعة «المادة المظلمة» الموجودة في الكَوْن، وهي المادة التي تُحدِث تأثيرًا جاذبًا، لكنها لا تمتص الضوء أو تشعُّه. فكل شيء نراه من حولنا — الأرض، الكرسي الذي تجلس عليه، الببغاء الصغير الذي تربيه — مكوَّن من جسيمات النموذج القياسي التي تتفاعل مع الضوء، لكن المادة المرئية التي تتفاعل مع الضوء ونستوعب تفاعلاتها لا تشكِّل سوى أربعة في المائة فقط من كثافة الطاقة في الكَوْن، ونحو ٢٣ في المائة من طاقة الكون يحملها ما يُسمَّى بالمادة المظلمة، وهي المادة التي لم يتم تعريفها بعدُ تعريفًا مؤكدًا.

المادة المظلمة هي بالتأكيد مادة، بمعنى أن أجزاءها تتماسك بفعل تأثير الجاذبية؛ ومن ثَمَّ فهي (إلى جانب المادة العادية) تساهِم في تكوين البِنى المختلفة، مثل المجرات. لكن على عكس المادة المألوفة التي تتشكل منها أجسامنا والنجوم في السماء، مثلًا، لا تشع هذه المادة ضوءًا ولا تمتصه؛ لذا تصعب رؤية المادة المظلمة؛ وذلك لأننا بوجه عام «نرى» الأشياء بواسطة الضوء الذي تشعه أو تمتصه.

في الحقيقة، مصطلح «المادة المظلمة» تسمية خاطئة؛ إذ إنها ليست مظلمة بالمعنى الحرفي للكلمة، فالمواد المظلمة تمتص الضوء، ويمكن رؤيتها بالفعل عند امتصاصها للضوء. أما المادة المظلمة، فهي لا تتفاعل مع أي شكل من أشكال الضوء على أي نحو يمكن ملاحظته، ومن الناحية العملية، المادة «المظلمة» شفافة، لكنني سأواصل استخدام المصطلح المتعارَف عليه، وأشير إلى هذه المادة المحيرة باسم المادة المظلمة.

نحن نعلم بوجود المادة المظلمة بسبب تأثيراتها الجاذبة، لكنْ دون رؤيتها مباشَرةً لن نعلم ماهيتها. فهل تتكون من عدد كبير من الجسيمات الدقيقة المتماثلة؟ وإن كان هذا هو الحال، فما كتلة هذه الجسيمات؟ وكيف تتفاعل؟

لعلنا سنتوصل قريبًا إلى مزيد من المعلومات في هذا الشأن. في الواقع، قد يتضمن مصادم الهادرونات الكبير القدر اللازم من الطاقة لتكوين الجسيمات التي يمكن أن تمثِّل المادة المظلمة. والمعيار الأساسي للمادة المظلمة هو أن الكَوْن يحتوي على القدر الكافي منها لإحداث التأثيرات الجاذبة التي تم قياسها، ويعني ذلك أن «الكثافة الباقية» — وهي كمية الطاقة المُخزَّنة التي تشير النماذج الكونية إلى بقائها إلى يومنا هذا — ينبغي أن تتفق مع هذه القيمة التي تم قياسها. الحقيقة المدهشة هنا أنك إذا كان لديك جسيم مستقر تتوافق كتلته مع نطاق الطاقة الضعيفة الذي سيستكشفه مصادم الهادرونات الكبير (عن طريق معادلة ط = ك س٢)، والذي يتضمن تفاعلاته أيضًا جسيمات تحمل هذا النوع من الطاقة؛ فإن كثافته الباقية ستكون أقرب للمادة المظلمة.

ومن ثَمَّ، فإن مصادم الهادرونات الكبير لن يقدِّم لنا معلومات دقيقة فحسب عن المسائل التي تتناولها فيزياء الجسيمات، لكنه سيمنحنا كذلك دلائل على ما ينطوي عليه الكَوْن الآن، وكيف كانت بدايته، وهي الأسئلة التي يتضمَّنها علم الكونيَّات الذي يكشف لنا عن كيفية تطور الكَوْن.

وكما هو الحال مع الجسيمات الأولية وتفاعلاتها، يدرك العلماء قدرًا مذهلًا من الحقائق عن تاريخ الكَوْن، لكن كما هو الحال أيضًا مع فيزياء الجسيمات، لا تزال هناك بعض الأسئلة المهمة التي لم يتم التوصُّل إلى إجابات بشأنها بعدُ. ومن بين هذه الأسئلة الصعبة: ما المادة المظلمة؟ ما الكيان الأكثر غموضًا من المادة المظلمة والمُسمَّى «الطاقة المظلمة»؟ ما الذي تسبَّبَ في فترة التمدد المتسارع للكَوْن في مرحلة مبكرة من عمره، تلك الفترة المعروفة باسم «التضخم الكوني»؟

يشهد العصر الحالي ملاحظات مذهلة قد تفضي بنا إلى إجابات عن هذه الأسئلة، ودراسات المادة المظلمة تأتي في مقدمة الجوانب التي تتداخل فيها فيزياء الجسيمات مع علم الكونيَّات. وتفاعلات المادة المظلمة مع المادة المألوفة — أي المادة التي يمكننا استخدامها في تصنيع الكواشف — ضعيفة للغاية، بل ضعيفة لدرجة أننا لم نعثر بعدُ على أي دليل على المادة المظلمة خلا تأثيراتها الجاذبة.

ومن ثَمَّ، فإن الأبحاث الحالية تعتمد على تسليمنا بأن المادة المظلمة — رغم أنها تكاد تكون غير مرئية على الإطلاق — تتفاعل على نحو ضعيف (لكنه ليس مستحيلًا) مع المادة التي نعرفها. وذلك ليس مجرد تخمين نرغب في تصديقه، وإنما هو استنتاج قائم على العملية الحسابية المذكورة أعلاه، والتي توضِّح أن الجسيمات المستقرة التي ترتبط تفاعلاتها بنطاق الطاقة الذي سيستكشفه مصادم الهادرونات الكبير، تتسم بالقدر الصحيح من الكثافة اللازمة لأن تكون مادة مظلمة. ورغم عدم تعرُّفنا على المادة المظلمة بعدُ، تحدونا الآمال في أن تسنح لنا الفرصة لاستكشافها في المستقبل القريب.

لكن أغلب تجارب علم الكونيَّات لا تُجرَى في المعجِّلات، وإنما التجارب المخصصة الموجهة للخارج وتُجرَى على سطح الأرض وفي الفضاء، هي المسئولة مسئولية أساسية عن فهمنا للحلول الممكنة للقضايا الكونية وتطوُّر هذا الفهم.

على سبيل المثال، أرسل الفيزيائيون الفلكيون أقمارًا صناعية إلى الفضاء لرصد الكَوْن من بيئة لا تحجبها الأتربة والعمليات الكيميائية والفيزيائية الموجودة على سطح الأرض أو بالقرب منه، وتعمل التليسكوبات والتجارب التي تُجرَى هنا على سطح الأرض على منحنا المزيد من المعلومات الدقيقة في إطار بيئة يمكن للعلماء التحكُّم فيها مباشَرَةً، وتهدف التجارب التي تُجرَى في الفضاء أو على سطح الأرض إلى إلقاء الضوء على العديد من الجوانب المتعلقة بكيفية نشوء الكَوْن.

ونحن نطمح في أن تمكِّنَنا أيَّةُ إشارة قوية بما فيه الكفاية نجدها في أيٍّ من هذه التجارب (التي سنستعرضها في الفصل الحادي والعشرين) من كشف أسرار المادة المظلمة؛ فيمكن أن توضِّح لنا هذه التجارب طبيعة المادة المظلمة، إلى جانب الكشف عن تفاعلاتها وكتلتها. وإلى أن يتحقَّق ذلك، يقدح المُنَظِّرون زناد فكرهم بشأن جميع النماذج المحتملة للمادة المظلمة، وكيفية استخدام جميع هذه الاستراتيجيات الاستكشافية لمعرفة الماهية الحقيقية للمادة المظلمة.

الطاقة المظلمة

لا يساوي حاصل جمع المادة المألوفة والمادة المظلمة إجمالي الطاقة الموجودة في الكَوْن؛ فهما لا يشكِّلان معًا سوى ٢٧ في المائة فقط من هذه الطاقة الإجمالية. وما يفوق المادة المظلمة غموضًا هو ما يشكِّل النسبة المتبقية من طاقة الكون (٧٣ في المائة)، ونعني بهذا الطاقةَ المعروفةَ الآن باسم الطاقة المظلمة.

يُعَدُّ اكتشافُ الطاقة المظلمة الاكتشافَ الأهم في تصحيح مسار الفيزياء في نهاية القرن العشرين. ورغم أننا ما زلنا نجهل الكثير عن نشأة الكون، فقد نجحنا في تحقيق فهم مذهل لهذه النشأة بناءً على ما يُعرَف بنظرية الانفجار العظيم، وأتم هذا الفهم فترة التمدد المتسارع للكون المعروفة باسم التضخم الكوني.

وقد توافَقَتْ هذه النظرية مع عدد من الملاحظات، مثل ملاحظات الإشعاع الميكروني في السماء، وهو إشعاع الخلفية الميكروني الكوني المتخلف عن الانفجار العظيم. في الأصل، كان الكون عبارة عن كرة نارية كثيفة حارة، لكن في خلال ١٣٫٧٥ مليار عام من وجوده، خفَّ وزن هذه الكرة النارية وبردت للغاية، مخلفةً هذا الإشعاع الأكثر برودةً الذي لا تتجاوز درجة حرارته ٢٫٧ كلفن حاليًّا؛ أي أعلى ببضع درجات مئوية عن الصفر المطلق. وتظهر بعض الأدلة الأخرى على صحة نظرية الانفجار العظيم في الدراسات الدقيقة للمجموعات الوفيرة من النوى التي نتجت عن النشأة المبكرة للكون، وفي قياسات تمدُّد الكون ذاته.

والمعادلات الأساسية التي نستخدمها للتوصُّل إلى كيفية نشأة الكون، هي المعادلات التي وضعها أينشتاين في مطلع القرن العشرين وتوضِّح لنا كيفية اشتقاق مجال الجاذبية من توزيع معين للمادة أو الطاقة. تنطبق هذه المعادلات على مجال الجاذبية بين الأرض والشمس، وتنطبق في الوقت نفسه أيضًا على الكون ككل، وفي جميع الأحوال، لكي نتوصل إلى نتائج هذه المعادلات، علينا معرفة المادة والطاقة اللتين تحيطان بنا.

لكن الملاحظة الصادمة كانت أن عمليات قياس خصائص الكون تطلَّبَتْ وجود نوع جديد من الطاقة لا تحمله المادة، هذه الطاقة لا تحملها الجسيمات أو أي مواد أخرى، ولا يتماسك بعضها ببعض مثل المادة العادية. لا تقل كثافة هذه الطاقة مع تمدُّد الكون، بل تحافظ على ثبات كثافتها. يتسارع تمدُّد الكون ببطء نتيجةً لهذه الطاقة الغامضة التي توجد في جميع أنحائه، حتى إن خَلَتْ هذه الأنحاء من المادة.

كان أينشتاين أول مَن اقترح هذا النوع من الطاقة من خلال ما أسماه «الثابت الكوني»، لكنه بعد فترة قصيرة، اعتقد أنه قد أخطأ. وهذا ما حدث بالفعل، فقد جانَبَه الصوابُ عندما استخدم هذا «الثابت الكوني» في تفسير سبب ثبات الكون؛ فالكون يتمدَّدُ بالفعل، وهذا ما أوضحه إدوين هابل بعد فترة قصيرة من طرح أينشتاين لهذه الفكرة، وهذا التمدُّد ليس حقيقيًّا فحسب، لكن يبدو الآن أن ما يشهده حاليًّا من تسارُع يحدث نتيجةَ ذلك النوع الغريب من الطاقة الذي أشار إليه أينشتاين وتراجَعَ عنه سريعًا في ثلاثينيات القرن العشرين.

يرغب العلماء في التوصُّل إلى فهمٍ أفضلَ لهذه الطاقة المظلمة الغامضة، والملاحظات الآن تهدف لتحديد ما إذا كانت هذه الطاقة هي طاقة الخلفية التي اقترحها أينشتاين للمرة الأولى، أم إنها نوع جديد من الطاقة يتغيَّر مع الوقت، أم إنها أمر غير متوقَّع على الإطلاق لم نعرف حتى كيف نفكِّر فيه من قبلُ.

الأبحاث الأخرى في علم الكونيات

ما سبق إيضاحه ليس سوى عينة فقط — وإن كانت عينة مهمة — لما نُجرِيه حاليًّا من أبحاث. فإلى جانب ما استعرضته فيما سبق، يُجرَى العديد من الأبحاث الأخرى في مجال علم الكونيات، فمن المنتظر أن تدرس كواشف موجات الجاذبية الأشعة الجاذبة الصادرة عن الثقوب السوداء الناشئة، وغيرها من الظواهر المثيرة الأخرى التي تنطوي على قدر هائل من الطاقة والكتلة، ومن المنتظر أيضًا أن توضِّح لنا التجارب على الموجات الميكرونية الكونية مزيدًا من المعلومات عن التضخُّم الكوني، وأن تكشف الأبحاث حول الأشعة الكونية عن تفاصيل جديدة بشأن محتوى الكون. هذا إلى جانب ما يمكن أن تتوصل إليه كواشف الأشعة تحت الحمراء من أجسام غريبة جديدة في السماء.

في بعض الحالات، سنصل إلى فهم جيد للملاحظات يمكننا من معرفة ما تعنيه هذه الملاحظات فيما يتعلق بطبيعة المادة الأساسية والقوانين الفيزيائية، وفي أحيان أخرى، سنستغرق وقتًا طويلًا في كشف الستار عن هذه المعاني الضمنية. وبغض النظر عما سيحدث، سيؤدي بنا التوفيق بين النظرية والبيانات إلى تفسيرات أرقى للكون من حولنا، وسيصل بمعرفتنا إلى آفاق غير مسبوقة.

لعل بعض التجارب ستتوصل إلى نتائج قريبًا، في حين قد تستغرق تجارب أخرى سنوات عدة لتحقيق ذلك، ومع ظهور بيانات جديدة، سيضطر العلماء إلى إعادة النظر في التفسيرات المقترحة — بل التخلي عنها تمامًا أحيانًا — كي يتمكَّنوا من تطوير ما يضعونه من نظريات وتطبيقها تطبيقًا صحيحًا. قد يبدو ذلك مثبطًا للهمم، لكنه في الحقيقة ليس على هذا القدر من السوء؛ فنحن نتوقَّع في شغف التوصُّل إلى أدلة من شأنها مساعدتنا في الإجابة عما نطرحه من أسئلة، بينما توجهنا نتائج التجارب في أبحاثنا وتضمن لنا تحقيق التقدم، حتى عندما تتطلب النتائج الجديدة طرح الأفكار القديمة جانبًا. تقوم فرضياتنا في البداية على الاتساق والجمال النظري، لكن التجربة — وليس الاعتقاد الراسخ — هي ما تحدِّد في النهاية ما هو صحيح، وهذا ما يتضح على مدار هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤