الفصل الثامن

الحلقة الحاكمة

لستُ ممَّن يميلون للمبالغة؛ إذ أرى عادةً أن الإنجازات أو الأحداث العظيمة تتحدث دومًا عن نفسها. هذا النفور من تنميق الحديث يوقعني دومًا في مشكلات في أمريكا؛ حيث يفرط الناس في استخدام صيغ المبالغة إلى الحد الذي أصبح المدح، الذي لا يتضمن أيًّا من هذه الصيغ، يُساء تفسيره أحيانًا ويُعَدُّ إساءة. يشجعني الآخَرون كثيرًا على إضافة بعض الصفات أو الكلمات الطنَّانة إلى عبارات الدعم التي أتحدَّث بها لتجنُّب أيِّ نوع من سوء الفهم، لكن في حالة مصادم الهادرونات الكبير، سأتبع نهجًا مغايرًا لما اعتدته، وأقول إن هذا المصادم هو لا ريب إنجازٌ مدهشٌ يتميز بهيبة وجمال مذهلين؛ إنه التكنولوجيا في صورتها المبهرة.

في هذا الفصل، سنشرع في استكشافنا لهذه الماكينة المذهلة، وفي الفصل الذي يليه، سنستعرض المغامرة المثيرة لبناء هذا الصرح، وبعده ببضعة فصول، سندخل إلى عالم التجارب التي تسجِّل ما يتوصَّل إليه مصادم الهادرونات الكبير من نتائج. لكننا الآنَ سنركِّز على الماكينة ذاتها التي تعمل على عزل البروتونات العالية الطاقة — التي نطمح في أن تكشف عن عوالم داخلية جديدة — وتعجيلها ومصادمتها.

مصادم الهادرونات الكبير

عند زيارتي لمصادم الهادرونات الكبير للمرة الأولى، أذهلتني تلك الهيبة التي يُحدِثها هذا المكان في النفس، رغم أنه سبقت لي زيارة كواشف ومصادمات جسيمات عدة مرات في السابق، لكن حجم هذا المصادم يختلف عن كل ما رأته عيناي من قبلُ. دخلنا المكان، ووضعنا الخوذات على رءوسنا، سرنا إلى الداخل عبر نفق المصادم، وتوقَّفنا عند الحفرة الضخمة التي سيُنزَل فيها كاشف أطلس (الكاشف الحلقي بمصادم الهادرونات الكبير)، وأخيرًا وصلنا إلى الجهاز التجريبي نفسه. كان لا يزال تحت الإنشاء، ما يعني أن كاشف أطلس لم يكن قد تمت تغطيته بعدُ كما هو الحال عند تشغيل الجهاز، وكان مكشوفًا تمامًا للعيان.

وبالرغم من أن العالِمة بداخلي أحجمت في البداية عن النظر إلى هذه المعجزة التكنولوجية الدقيقة دقةً مذهلة، على أنها عمل فني — بل عمل فني بارز أيضًا — فلم أستطع منع نفسي من إخراج الكاميرا والتقاط الصور له. كم يصعب التعبير بالكلمات عمَّا رأيته من تعقيد وتماسك وضخامة وتداخل في الألوان والخطوط! تأثير مذهل لا يسعك سوى أن تقف أمامه متسمرًا!

وقد كان لرجال الفن ردود أفعال مشابهة عند رؤيتهم لهذا الصرح؛ فعندما تجوَّلَتْ هاوية جمع الأعمال الفنية فرانشيسكا فون هابسبورج في هذا المصادم، اصطحبت معها مصورًا محترفًا ليلتقط صورًا بلغت من الجمال ما جعلها تُنشَر في مجلة «فانيتي فير». وعندما زار المخرج السينمائي جيسي ديلان — الذي يتميَّز بنشأته الثقافية — مصادم الهادرونات الكبير للمرة الأولى، نظر إليه كعمل فني متميز، و«إنجاز بلغ ذروته». ودفع هذا الجمال ديلان إلى الرغبة في مشاركته مع الآخَرين، فسجَّلَ مقطع فيديو للتعبير عن انبهاره بجلال تلك الماكينة وما يُجرَى فيها من تجارب.

أما الممثل المناصر للعلم، آلان ألدا، عند إدارته للجنة مناقشة تناولَتْ موضوعَ مصادِمِ الهادرونات الكبير، فقد شبَّه هذا المصادم بإحدى عجائب الدنيا القديمة. والفيزيائي، ديفيد جروس، شبَّهَه في عظمته بالأهرامات. أما المهندس ورائد الأعمال إيلون ماسك — المشارك في تأسيس موقع «باي بال» الإلكتروني، ومدير شركة «تِسلا» لصناعة السيارات الكهربائية، ومؤسس شركة «سبيس إكس» لصناعة الصواريخ التي ستنقل الماكينات والمنتجات إلى المحطة الفضائية الدولية، ومديرها — فقال عن هذا المصادم: «إنه بلا شك أحد أعظم إنجازات البشرية على الإطلاق.»

سبق لي سماع مثل هذه العبارات في جميع مناحي الحياة. ويُعَدُّ كلٌّ من الإنترنت، والسيارات السريعة، والطاقة الصديقة للبيئة، والسفر إلى الفضاء، من بين أكثر الجوانب إثارةً وفعاليةً في مجال الأبحاث التطبيقية حاليًّا، لكن محاولة فهم القوانين الأساسية للكَوْن أمر مذهل ومثير في حد ذاته، فيتشابه محِبُّو الفنون والعلماء في رغبتهم في فهم العالم وكشف الستار عن أصوله، وقد يجادل البعض بشأن طبيعة أعظم إنجازات البشرية على الإطلاق، لكنني لا أظن أنه يمكن لأحد التشكيك في أن أحد أعظم الأمور التي نقوم بها على الإطلاق هي التأمل فيما يكمن وراء ما هو في متناولنا ودراسته، والبشر وحدهم هم الذين يحملون على عاتقهم مهمة خوض هذا التحدي.

إن التصادمات التي سندرسها في مصادم الهادرونات الكبير تتشابه مع التصادمات التي حدثت في أول جزء من التريليون من الملِّي ثانية بعد الانفجار العظيم، وسوف تقدِّم لنا هذه التصادمات معلومات عن المسافات الصغيرة، وطبيعة المادة، والقوى التي كانت موجودة في تلك المرحلة المبكرة من عمر الكَوْن؛ فيمكنك أن تعتبر مصادم الهادرونات الكبير مجهرًا فائقًا يسمح لنا بدراسة الجسيمات والقوى عند مسافات غاية في الصغر، يبلغ حجمها عُشْر الألف من التريليون من الملِّيمتر.

يحقِّق مصادم الهادرونات الكبير هذه العمليات من السبر الدقيق عن طريق إحداث تصادمات بين الجسيمات بطاقة تفوق أي طاقة تمَّ التوصُّلُ إليها من قبلُ على سطح الأرض؛ إذ تبلغ طاقته سبعة أضعاف طاقةِ أقوى المصادماتِ الموجودة حاليًّا، وهو المصادم تيفاترون في باتافيا بولاية إلينوي. ومثلما أوضحنا في الفصل السادس، توضِّح لنا ميكانيكا الكم واستخدامها للموجات أن هذه الطاقات ضرورية لإجراء الدراسات على مثل هذه المسافات الصغيرة. وفضلًا عن الارتفاع في الطاقة، ستكون الكثافة بالمصادم أعلى من الكثافة بمصادم تيفاترون خمسين مرة، ما يزيد من احتمال اكتشاف الأحداث النادرة التي قد تكشف عن أسرار الطبيعة.

رغم اعتراضي على المغالاة في الحديث، فإن مصادم الهادرونات الكبير ينتمي لعالم لا يمكن وصفه إلا بصيغ المبالغة؛ فهو ليس كبيرًا فحسب، وإنما هو أكبر ماكينة شُيِّدت على الإطلاق. وهو ليس باردًا فحسب، وإنما درجة الحرارة البالغة ١٫٩ كلفن (١٫٩ درجة مئوية فوق الصفر المطلق) واللازمة لعمل مغناطيسات مصادم الهادرونات الكبير الفائقة التوصيل، هي أبرد منطقة ممتدة عرفها الإنسان في الكون، بل إنها أبرد من الفضاء ذاته. والمجال المغناطيسي في المصادم ليس كبيرًا فحسب، وإنما المغناطيسات الثنائية القطب الفائقة التوصيل — التي تنتج مجالًا مغناطيسيًّا تفوق قوته المجال المغناطيسي للأرض بما يزيد عن ١٠٠ ألف مرة — هي أقوى المغناطيسات المُصنَّعة على الإطلاق.

لا تنتهي الحدود القصوى لهذا المصادم عند هذا الحد؛ فالفراغ داخل الأنابيب المحتوية على البروتونات، الذي يساوي عشرة من التريليون من الغلاف الجوي، هو أكثر الفراغات اكتمالًا على نطاق أكبر المسافات التي تَمَّ إنتاجها على الإطلاق. والطاقة الناتجة عن التصادمات هي أعلى الطاقات التي تَمَّ التوصُّلُ إليها على سطح الأرض على الإطلاق، وهو ما يسمح لنا بدراسة التفاعلات التي حدثَتْ في المراحل المبكرة من عمر الكَوْن.

يختزن مصادم الهادرونات الكبير كذلك كميات ضخمة من الطاقة، والمجال المغناطيسي نفسه يختزن كميةً من الطاقة تعادِل طُنَّين من مادة تي إن تي، في حين تختزن الأشعة نحو عُشْر هذه الكمية، وتُخزَّن الطاقة في واحد من المليار من الجرام من المادة، وهو ما يمثِّل جزءًا بالغَ الصِّغَر من المادة في ظلِّ الظروف العادية. وعند انتهاء الماكينة من العمل على الإشعاع، يتم التخلُّصُ من هذه الطاقة الشديدة التركيز في أسطوانة مصنوعة من مركب الجرافيت يبلغ طولها ثمانية أمتار وقطرها مترًا واحدًا، وتكسوها طبقة من الأسمنت وزنها ألف طن.

إن الحدود القصوى التي انطوى عليها مصادم الهادرونات الكبير بلغت بالتكنولوجيا مداها، وقد تحقق ذلك بثمن باهظ للغاية يدفعنا لاستخدام صيغ المبالغة هنا أيضًا؛ فسعر المصادم البالغ ٩ مليارات دولار أمريكي يجعل منه أغلى ماكينة صُمِّمت على الإطلاق، وقد دفعت سيرن ثلثَيْ هذه التكلفة، بمساهمة الدول الأعضاء بالمنظمة البالغ عددها عشرين دولة في ميزانية المنظمة، كلٌّ وفق إمكاناته، وتتراوح نسبة المساهمة من ٢٠ في المائة من ألمانيا إلى ٠٫٢ في المائة من بلغاريا. أما باقي التكلفة، فدفعتها الدول غير الأعضاء، والتي تضمَّنَتِ الولايات المتحدة، واليابان، وكندا. وتساهم سيرن بنسبة ٢٠ في المائة في التجارب نفسها التي تموِّلها صور التعاون الدولية. وبدءًا من عام ٢٠٠٨ الذي شُيِّدت فيه الماكينة، عمل أكثر من ١٠٠٠ عالم أمريكي في تجربتَيِ اللولب المركب للميوونات وأطلس، وساهمت الولايات المتحدة أيضًا بمبلغ ٥٣١ مليونَ دولارٍ في مشروع مصادم الهادرونات الكبير.

بداية مصادم الهادرونات الكبير

منظمة سيرن، التي تضم مصادم الهادرونات الكبير، هي منشأة بحثية تجمع بين العديد من البرامج التي تعمل على نحوٍ متزامنٍ، لكن موارد هذه المنظمة تتركز بوجه عام في برنامج رئيسي واحد. في ثمانينيات القرن العشرين، كان هذا البرنامج هو مصادم «إس بارب إس»،1 الذي توصَّلَ إلى حاملات القوة الضرورية للنموذج القياسي في فيزياء الجسيمات، وقد اكتشفت التجارب المتميزة، التي أُجرِيت في هذا المصادم في عام ١٩٨٣، البوزونات المقياسية الضعيفة — بوزوني W المشحونين، وبوزون Z المتعادل — وهي البوزونات التي تعمل على نقل القوة الضعيفة. كانت هذه البوزونات المكونات الأساسية للنموذج القياسي غير المتوفرة آنذاك، وكان لاكتشافها الفَضْل في حصول قادة مشروع المعجِّل على جائزة نوبل.

لكن بينما كان مصادم «إس بارب إس» قيد التشغيل، كان العلماء والمهندسون يخطِّطون بالفعل لإنشاء ما يُعرَف باسم مصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير، والذي كان المزمع أن يُحدِث تصادمات بين الإلكترونات والجسيمات المضادة لها المعروفة باسم البوزيترونات بهدف دراسة التفاعلات الضعيفة والنموذج القياسي بتفصيل متقن. وتحقَّقَ هذا الحلم بالفعل في تسعينيات القرن العشرين، عندما درس ذلك المصادم ملايين البوزونات المقياسية الضعيفة عن طريق إجراء قياسات دقيقة للغاية، وهي البوزونات التي قدَّمَتْ للعلماء معرفةً كبيرةً عن تفاعلات فيزياء النموذج القياسي.

كان مصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير مصادمًا حلقيًّا يبلغ محيطه ٢٧ كيلومترًا، وكانت الإلكترونات والبوزيترونات تُدفَع على نحو متكرِّر في هذه الحلقة أثناء دورانها. ومثلما رأينا في الفصل السادس، المصادمات الحلقية قد تفتقر إلى الكفاءة عند تعجيل الجسيمات الخفيفة، مثل الإلكترونات؛ لأن هذه الجسيمات تبعث إشعاعات عند تعجيلها في مسار حلقي؛ ومن ثَمَّ كانت حُزَم الإلكترونات في ظل طاقة مصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير — التي بلغت نحو ١٠٠ جيجا إلكترون فولت — تفقد نحو ثلاثة في المائة من طاقتها في كل مرة كانت تدور فيها. لم تكن تلك بالخسارة الكبيرة، لكننا إذا أردنا تعجيل الإلكترونات في هذا النفق بطاقة أعلى، فستَحُول خسارة الطاقة مع كل دورة دون تحقيق هذا الغرض. وزيادة الطاقة بمقدار عشرة أضعاف كان من شأنها زيادة خسارة الطاقة بمقدار عشرة آلاف ضعف، الأمر الذي كان سيُفقِد المعجِّل كفاءته على نحو غير مقبول.

fig27
شكل ٨-١: يوضِّح هذا الشكل محيط مصادم الهادرونات الكبير. والخط الأبيض يشير إلى النفق الموجود تحت الأرض، بينما تظهر الجبال وبحيرة جنيف في الخلفية (الصورة مُقدَّمة من سيرن).

لهذا السبب، بينما كانت تُوضَع التصورات لمصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير، بدأ التفكير بالفعل في المشروع الرئيسي الجديد للمنظمة الأوروبية للأبحاث النووية، والذي كان من المفترض أن يعمل بمستوًى أعلى من الطاقة. ونظرًا لخسائر الطاقة غير المقبولة للإلكترونات، تعيَّنَ على المنظمة — إذا أرادَتْ تشييد ماكينة ذات مستوًى أعلى من الطاقة — استخدامُ حُزَمٍ من البروتونات، وهي حُزَم أثقل وزنًا وأقل إصدارًا للأشعة. وقد كان الفيزيائيون والمهندسون الذين شيَّدوا نفق مصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير على وعي بهذه الاحتمالية المرغوب فيها؛ لذلك شيَّدوا نفق هذا المصادم ليتَّسِع بما فيه الكفاية لاحتواء مصادم بروتونات محتمل في المستقبل، وذلك بعد تفكيك مصادم الإلكترونات-البوزيترونات.

وأخيرًا، وبعد ٢٥ عامًا، صارت حُزَم البروتونات تُعجَّل الآن داخل النفق الذي حُفِر في الأساس لمصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير (انظر الشكل ٨-١). انتهى تشييد مصادم الهادرونات الكبير بعد بضعة أعوام من التاريخ المحدَّد له، وزادت تكلفته عن الميزانية المحدَّدة له بنسبة ٢٠ في المائة. وهذا أمر مؤسف، لكنه ليس فادحًا مع الوضع في الاعتبار أن مصادم الهادرونات الكبير هو أكبر التجارب التي صُمِّمَتْ على الإطلاق، وأعلاها شأنًا من ناحية المشاركة الدولية والتكلفة والطاقة والآمال المعقودة عليه. وقد قال كاتب السيناريوهات والمخرج جيمس لورانس بروكس مازحًا عند سماعه عن العقبات التي تعرَّضَ لها هذ المصادم وتجاوزه إياها: «أعرف أناسًا استغرقوا القدر نفسه تقريبًا من الوقت لاختيار ورق الحائط المناسب لهم. ولعل فهم الكون أهم بعض الشيء من ذلك، فثمة أمور مذهلة عديدة في انتظار اكتشافنا لها.»

تتابُع الحلقات

البروتونات موجودة حولنا في كل مكان، وهي موجودة أيضًا داخل أجسامنا، لكنها ترتبط — بوجه عام — بالنوى المحاطة بالإلكترونات داخل الذرات. وهي لا تنعزل عن هذه الإلكترونات، ولا تصطفُّ (في خطوط متوازية) داخل الحُزَم؛ ومن ثَمَّ يعمل مصادِم الهادرونات الكبير على فصل هذه البروتونات وتعجيلها أولًا، ثم دَفْعها إلى وجهتها النهائية، وأثناء ذلك تستغل هذه البروتونات ما يتميَّز به ذلك المصادم من حدود قصوى.

والخطوة الأولى في إعداد حُزَم البروتونات هي تسخين ذرات الهيدروجين بحيث تُنزَع الإلكترونات منها وتُترَك البروتونات المعزولة التي تمثِّل نوى هذه الذرات، وتعمل المجالات المغناطيسية على حشد هذه البروتونات في حُزَم، وبعد ذلك يعجِّل المصادم هذه الحزم في مراحل مختلفة بمناطق متباينة، مع انتقال البروتونات من معجِّل إلى آخَر؛ ما يزيد من طاقتها في كل مرة قبل تحوُّلها من إحدى الحزمتين المتوازيتين كي تتمكَّنَا من التصادم.

تحدث مرحلة التعجيل الأولية في معجِّل الجسيمات الخطي بسيرن، وهو عبارة عن امتداد خطي لنفق تُعجَّل فيه البروتونات بفعل الموجات اللاسلكية، وعند وصول الموجة اللاسلكية إلى ذروتها، يعمل المجال الكهربي لها على تعجيل البروتونات التي تنجرف بعد ذلك بعيدًا عن هذا المجال حتى لا تقل سرعتها مع ضعف المجال. ومن ثم تعود إليه عند وصوله إلى ذروته مجدَّدًا، وبذلك تعجل من ذروة إلى أخرى. وهكذا، فإن الموجات اللاسلكية تعمل على تعجيل البروتونات مثلما تدفع طفلك على الأرجوحة؛ فتدفع الموجات البروتونات، معزِّزة من طاقتها، لكن بقدر ضئيل فقط في هذه المرحلة الأولية من التعجيل.

في المرحلة التالية، تدفع المغناطيسات البروتونات إلى داخل سلسلة من الحلقات؛ حيث تخضع لمزيد من التعجيل، وكلٌّ من هذه المعجِّلات يعمل مثل المعجِّل الخطي الموضَّح فيما سبق. لكن نظرًا لأن هذه المعجِّلات التالية تتَّخِذ شكل حلقات، يمكنها رفع طاقة البروتونات على نحو متكرِّر أثناء دورانها آلاف المرات؛ ومن ثَمَّ تنقل هذه المعجِّلات الحلقية قدرًا هائلًا من الطاقة.

هذا «التتابع من الحلقات»، الذي يعجِّل البروتونات قبل دخولها الحلقة الكبيرة لمصادم الهادرونات الكبير، يتكوَّن من «معزِّز المعجِّل الحلقي التزامني للبروتونات» الذي يزيد من سرعة البروتونات لتصل إلى ١٫٤ جيجا إلكترون فولت، و«المعجِّل الحلقي التزامني للبروتونات» الذي يزيد من سرعتها لتصل إلى ٢٦ جيجا إلكترون فولت، ثم «المعجِّل الحلقي التزامني الفائق للبروتونات» الذي يزيد من طاقتها لتصل إلى ما يُعرَف بطاقة الحَقْن، والتي تساوي ٤٥٠ جيجا إلكترون فولت (انظر الشكل ٨-٢ لمشاهدة رحلة البروتون). وهذه هي الطاقة التي تحملها البروتونات عند دخولها مرحلة التعجيل الأخيرة في النفق الضخم البالغ طوله ٢٧ كيلومترًا.
fig28
شكل ٨-٢: المسار الذي يسلكه البروتون عند تعجيل مصادم الهادرونات الكبير له.

ويعود أصل بعض حلقات التعجيل السابق ذكرها إلى مشروعات سابقة بسيرن؛ فقد احتفل أقدم هذه المعجِّلات، وهو المعجِّل الحلقي التزامني للبروتونات، بيوبيله الذهبي في نوفمبر ٢٠٠٩، ولعب كذلك معزِّز المعجِّل الحلقي التزامني للبروتونات دورًا مهمًّا في عمل آخِر المشروعات الرئيسية للمنظمة، وهو مصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير، في ثمانينيات القرن العشرين.

وبعد أن تغادِر البروتونات المعجِّل الحلقي التزامني الفائق للبروتونات، تبدأ مرحلة الحقن الطويلة البالغة مدتها ٢٠ دقيقة. وفي هذه المرحلة، تُدفَع البروتونات الناتجة عن هذا المعجِّل الفائق، التي تبلغ طاقتها ٤٥٠ جيجا إلكترون فولت، إلى داخل النفق الضخم لمصادم الهادرونات الكبير. وفي هذا النفق، تتحرك البروتونات في حزمتين منفصلتين تسيران في اتجاهين متعاكسين عبر أنابيب ضيقة يبلغ حجمها ٣ بوصات، وتمتد على مدى حلقة المصادم الموجودة تحت الأرض البالغ طولها ٢٧ كيلومترًا.

إن النفق البالغ عرضه ٣٫٨ أمتار (١٢ قدمًا)، الذي شُيِّدَ في ثمانينيات القرن العشرين، ويضم الآن حُزَمَ البروتونات في مرحلة تعجيلها الأخيرة؛ يتميَّز بالإضاءة الجيدة، وتكييف الهواء الجيد، واتساعه بما يسمح للسير في أرجائه بيُسْر، وهذا ما أُتِيحَتْ لي فرصةُ فِعْلِه بينما كان مصادم الهادرونات الكبير لا يزال في مرحلة التشييد. جُبتُ ذلك النفق لفترة قصيرة أثناء جولتي في المصادم، لكن ذلك استغرَقَ مني فترة أطول بكثير من الفترة البالغة ٨٩ جزءًا من المليون من الثانية التي تتطلَّبُها البروتونات المعجَّلة العالية الطاقة التي تنتقل بسرعة تبلغ ٩٩٫٩٩٩٩٩٩١ في المائة من سرعة الضوء في هذا النفق.

يقع النفق على عمق نحو ١٠٠ متر تحت الأرض، ويتراوح عمقه على نحو الدقة من ٥٠ إلى ١٧٥ مترًا، ويقي هذا العمقُ سطحَ الأرض من الإشعاعات الناجمة عن التصادمات، وهو يعني أيضًا أن سيرن لم تضطر لشراء (وتدمير) كل الأرض الزراعية الواقعة فوق النفق أثناء مرحلة البناء. ومع ذلك، فإن حقوق الملكية تسبَّبَتْ بالفعل في تأخُّر حفر النفق في فترة الثمانينيات، عندما كان الهدف منه هو احتواء مصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير. تمثَّلَتِ المشكلة آنذاك في أن حقوق الملكية لملَّاك الأراضي في فرنسا تمنحهم حقَّ ملكية المنطقة بأكملها من سطح الأرض وصولًا إلى مركزها، وليس فقط الأرض الزراعية التي يحرثونها؛ لذلك لم يكن من الممكن حفر النفق سوى بعد تصديق السلطات الفرنسية على العملية بتوقيع «إعلان منفعة عامة» يجعل من الصخور الموجودة تحت سطح الأرض — ونظريًّا الصُهارة — ملكيةً عامةً.

ثمَّةَ جدلٌ قائم بين الفيزيائيين حول ما إذا كان السبب وراء الميل الموجود في قاع النفق جيولوجيًّا أم إنه مُعَدٌّ خصوصًا ليزيد من انحراف الإشعاع، لكن الحقيقة هي أن هذا الميل يساعد في كلا الأمرين. فالأرض غير المستوية كانت إحدى العقبات المهمة أمام عمق النفق وموقعه. والمنطقة الواقعة أسفل مقر سيرن تتكوَّن في الغالب من نوع من الصخور المضغوطة يسمَّى المولاس، لكن أسفل الرواسب البحرية والنهرية يوجد حصى ورمال وطفال تحتوي على مياه جوفية، وما كان ذلك المكان ليصلح لحفر النفق به؛ ومن ثَمَّ فإن الانحدار الموجود بالقاع يحافظ على وجود النفق بين الصخور المناسبة. وقد سمح أيضًا بأن يكون قسم واحد من النفق الموجود أسفل جبال جورا الجميلة الواقعة على أطراف سيرن أقل عمقًا، بحيث يكون من الأيسر (والأرخص) قليلًا إدخالُ العناصر وإخراجها من العواميد الرأسية في هذا الموقع.

والمجالات الكهربية المعجِّلة النهائية في هذا النفق ليست مرتَّبَة على نحو حلقي دقيق، وإنما يتكوَّن مصادم الهادرونات الكبير من ثمانية أقواس كبيرة بالتبادل مع ثمانية أقسام مستقيمة يبلغ طول كلٍّ منها ٧٠٠ متر، وكلٌّ من هذه الأقسام يمكن تسخينه وتبريده على نحو مستقل، ما يلعب دورًا مهمًّا في عمليات الإصلاح واستخدام المعدات. وبعد أن تدخل البروتونات النفق، فإنها تُعجَّل في كلٍّ من هذه الأقسام المستقيمة القصيرة بفعل الموجات اللاسلكية، مثلما حدث في مراحل التعجيل السابقة التي أوصلتها إلى مستوى طاقة الحقن. ويحدث التعجيل في «تجاويف الترددات اللاسلكية» التي تحتوي على إشارة لاسلكية يبلغ تردُّدها ٤٠٠ ميجا هرتز، وهو التردد ذاته الذي تستخدمه عندما تفتح باب سيارتكَ عن بُعَدٍ. وعندما يعجِّل هذا المجال مجموعةً من البروتونات التي تدخل في أحد هذه التجاويف، تزيد طاقة البروتونات بمقدار ٤٨٥ جزءًا من المليار من التيرا إلكترون فولت فقط. قد تبدو هذه النسبة بسيطة، لكن البروتونات تدور في حلقة المصادم ١١ ألف مرة في الثانية؛ ومن ثَمَّ يستغرق الأمر ٢٠ دقيقة فقط لتعجيل حزمة البروتون لينتقل من طاقة الحقن الأولى له (٤٥٠ جيجا إلكترون فولت) إلى الطاقة المستهدَفة التي تبلغ ٧ تيرا إلكترون فولت؛ أي أكثر ١٥ مرة من طاقة الحقن الأولى. تُفقَد بعض البروتونات أثناء عمليات التصادم أو تنحرف شاردةً، لكن أغلبها يستمر في الدوران نصف يوم تقريبًا قبل أن تتبدَّدَ ويتمَّ التخلُّص منها في باطن الأرض، وتُستبدَل بها بروتونات مُحقَنة جديدة.

والبروتونات، التي تدور في حلقة المصادم، ليست موزَّعة بالتساوي، وإنما يُدفَع بها حول الحلقة في مجموعات (يبلغ عددها ٢٨٠٨ مجموعات) يحتوي كلٌّ منها على ١١٥ مليار بروتون. في البداية، يبلغ طول كل مجموعة ١٠ سنتيمترات وعرضها ملِّيمتر واحد، ويفصلها عن المجموعة التالية لها نحو ١٠ أمتار. يساعد ذلك في عملية التعجيل؛ إذ يتم تعجيل كل مجموعة على حدة، علاوة على ذلك، يضمن تجمعُ البروتونات في مجموعات على هذا النحو تفاعُلَ هذه المجموعات بعضها مع بعض على مدار فواصل زمنية تبلغ مدتها ٢٥–٧٥ نانوثانية على الأقل، وهي المدة الكافية لتسجيل تصادم كل مجموعة على حدة. ونظرًا لقلة عدد البروتونات في المجموعة عن الحزم بكثير، فإن عدد التصادمات التي تحدث في الوقت نفسه تكون تحت قدر أكبر من السيطرة؛ لأن المجموعات — وليس البروتونات بأكملها الموجودة في الحزمة — هي التي تتصادم في كل مرة.

مغناطيسات التبريد الثنائية القطب

لا ريب أن تعجيل البروتونات للوصول إلى مستوًى عالٍ من الطاقة إنجاز مذهل، لكن الإنجاز التكنولوجي الاستثنائي بحق في تشييد مصادم الهادرونات الكبير هو تصميم المغناطيسات الثنائية القطب العالية المجال المغناطيسي، وإنشاؤها، للحفاظ على دوران البروتونات على نحو ملائم حول الحلقة. فبدون هذه المغناطيسات الثنائية القطب، ستتحرك البروتونات في خط مستقيم. ويتطلب الحفاظ على دوران البروتونات العالية الطاقة في حلقةٍ مجالًا مغناطيسيًّا هائلًا.

نظرًا لحجم النفق المُشيَّد بالفعل، كانت العقبة الهندسية الفنية الكبرى التي لزم على مهندسي مصادِم الهادرونات الكبير التغلُّب عليها هي بناء مغناطيسات على أكبر قدر ممكن من القوة من الناحية الصناعية، بمعنى أنه يمكن إنتاجها بكميات كبيرة؛ فيتطلب الأمر مجالًا قويًّا للحفاظ على البروتونات العالية الطاقة في المسار الصحيح داخل النفق الذي استُخْدِم من قبلُ في مصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير. والحفاظ على دوران بروتونات ذات مستوًى أعلى من الطاقة يتطلَّب إما مغناطيسات أقوى وإما نفقًا أكبر، لتتمكَّن مسارات البروتونات من الانحناء بما فيه الكفاية للبقاء في المسار الصحيح. وفي حالة مصادم الهادرونات الكبير، كان حجم النفق محدَّدًا مسبقًا؛ ومن ثَمَّ كانت الطاقة المستهدفة محكومة بأقصى مجال مغناطيسي يمكن الوصول إليه.

كان من المفترض أن يوجد «المصادم الأمريكي الفائق ذو الموصلية الفائقة» — في حال استكماله — داخل نفق أكبر من ذلك بكثير (وهو النفق الذي بدأ حفره فعليًّا)، على أن يبلغ محيطه ٨٧ كيلومترًا. وكان مخططًا أيضًا أن يصل هذا المصادم إلى طاقة مقدارها ٤٠ تيرا إلكترون فولت؛ أي نحو ثلاثة أضعاف الطاقة المستهدفة لمصادم الهادرونات الكبير. وكان من الممكن الوصول إلى هذه الطاقة الهائلة بالفعل لأن المصادم الأمريكي صُمِّم من الصفر، دون أن يتقيَّدَ في حجمه بنفق موجود بالفعل وما يتطلَّبه ذلك من مجالات مغناطيسية هائلة غير واقعية. رغم ذلك، فإن الخطة الأوروبية المقترحة تفوَّقَتْ على هذا المصادم الأمريكي بميزة عملية؛ ألا وهي أن النفق والبنية التحتية العلمية والهندسية واللوجستية الخاصة بسيرن موجودة بالفعل.

وكان من أكثر الأشياء إبهارًا التي رأيتها عند زيارتي للمنظمة الأوروبية للأبحاث النووية نموذج أولي للمغناطيسات الأسطوانية الضخمة الثنائية القطب الموجودة في مصادم الهادرونات الكبير (انظر الشكل ٨-٣ للاطلاع على مقطع عرضي لها). يصل عدد هذه المغناطيسات إلى ١٢٣٢ مغناطيسًا، ويبلغ طول كلٍّ منها ١٥ مترًا ويزن ٣٠ طنًّا. ولم يتحدَّد الطول استنادًا إلى الاعتبارات الفيزيائية، وإنما إلى النفق الضيق نسبيًّا بمصادم الهادرونات الكبير، وقيود نقل المغناطيسات بالشاحنات على الطرق الأوروبية. ويكلِّف كلٌّ من هذه المغناطيسات ٧٠٠ ألف يورو، لتصل بذلك التكلفةُ الصافية لمغناطيسات مصادم الهادرونات الكبير وحدها إلى أكثر من مليار دولار.
fig29
شكل ٨-٣: مخطط لمغناطيس تبريد ثنائي القطب. تواصِل البروتونات دورانها حول حلقة مصادم الهادرونات الكبير بفضل ١٢٣٢ مغناطيسًا من هذه المغناطيسات الفائقة التوصيل.

تمتد الأنابيب الضيقة التي تحمل حُزَم البروتونات داخل المغناطيسات الثنائية القطب، التي تتصل أطرافها حتى تصل إلى نهاية الجزء الداخلي لنفق مصادم الهادرونات الكبير. وتنتج هذه الأنابيب الضيقة مجالًا مغناطيسيًّا يمكن أن تصل قوته إلى ٨٫٣ تسلا؛ أي ما يساوي حوالي ألف مرة مقدار المجال المغناطيسي لمغناطيس الثلاجة المتوسط الحجم. ومع زيادة طاقة حزم البروتونات من ٤٥٠ جيجا إلكترون فولت إلى ٧ تيرا فولت، يزيد المجال المغناطيسي من ٠٫٥٤ إلى ٨٫٣ تسلا، وذلك من أجل مواصلة دوره في توجيه البروتونات ذات المستوى المتزايد من الطاقة داخل المصادم.

والمجال المغناطيسي الذي تنتجه هذه المغناطيسات ضخم إلى حدٍّ يمكن أن يجعله يزيح المغناطيسات نفسها جانبًا في حال عدم وجود قيود تحول دون ذلك. وتتمثل هذه القيود في الشكل الهندسي للبكرات الذي يخفِّف من قوة هذا المجال. لكن ما يحافظ حقًّا على المغناطيسات في مكانها هو الأطواق المصنَّعَة خصوصًا من صلب يبلغ سمكه أربعة سنتيمترات.

وتكنولوجيا التوصيل الفائق هي المسئولة عن المغناطيسات القوية التي يضمها مصادم الهادرونات الكبير. وقد استفاد مهندسو المصادم من هذه التكنولوجيا التي طُوِّرت من أجل المصادم الأمريكي الفائق ذي الموصلية الفائقة، ومصادم الإلكترونات-البوزيترونات الألماني الموجود في مركز المعجِّل الحلقي التزامني الألماني للإلكترونات في هامبورج.

تتميز الأسلاك العادية — مثل الأسلاك النحاسية الموجودة في منزلك — بمقاومتها، ويعني ذلك فقدان الطاقة عند مرور التيار الكهربي بهذه الأسلاك، أما الأسلاك الفائقة التوصيل، فلا تبدِّد الطاقة، وتسمح بمرور التيار الكهربي بها دون عرقلة؛ ومن ثَمَّ فإن بكرات الأسلاك الفائقة التوصيل يمكن أن تضم مجالات مغناطيسية هائلة تظهر بمجرد تشغيل هذه الأسلاك.

ويحتوي كل مغناطيس ثنائي القطب في مصادم الهادرونات الكبير على بكرات كابلات فائقة التوصيل مصنوعة من النيوبيوم والتيتانيوم، وكل كابل من هذه الكابلات مكوَّن من أسلاك رفيعة مجدولة لا يتجاوز سُمكها ٦ ميكرونات؛ أي أصغر بكثير من شعرة الإنسان. ويحتوي مصادم الهادرونات الكبير على ١٢٠٠ طن من هذه الأسلاك الرفيعة المميزة، التي إذا بُسِطت فستبلغ من الطول ما يكفي لتطويق مدار كوكب المريخ.

عندما تكون المغناطيسات الثنائية القطب قيد التشغيل، يجب أن تكون شديدة البرودة؛ وذلك لأنها لا تعمل إلا عندما تكون درجة الحرارة منخفضة بالقدر الكافي. وتتم المحافظة على درجة حرارة الأسلاك فائقة التوصيل عند ١٫٩ درجة فوق الصفر المطلق؛ أي ما يساوي ٢٧١ درجة مئوية تحت درجة حرارة تجمد المياه، وهذه الدرجة أقل من درجة حرارة إشعاع الخلفية الميكروني الكوني في الفضاء الخارجي، والتي تبلغ ٢٫٧ درجة. بعبارة أخرى، يضم نفق مصادم الهادرونات الكبير أكثر المناطق الممتدة برودةً في الكون بأسره، على الأقل وفق ما توصَّلَتْ إليه معرفتنا حتى الآن؛ ولذلك تُعرَف هذه المغناطيسات بمغناطيسات التبريد الثنائية القطب للتعبير عن طبيعتها التبريدية الخاصة.

إلى جانب تكنولوجيا الأسلاك الرفيعة المتميزة المُستخدَمة في المغناطيسات، يُعَدُّ نظام التبريد كذلك من الإنجازات المذهلة التي تجعل هذا المصادم يفوق غيره من المصادمات الأخرى. وهذا النظام، في الواقع، هو الأكبر على الإطلاق في العالم. يحافظ الهليوم المتدفق على درجة الحرارة الشديدة الانخفاض هذه، فيحيط غلاف يبلغ نحو ٩٧ طنًّا متريًّا من الهليوم السائل بالمغناطيسات لتبريد الكابلات، وهو ليس غاز هليوم عادي، وإنما هليوم يتمتَّع بالضغط اللازم للحفاظ عليه في مرحلة «الميوعة الفائقة». والهليوم الفائق الميوعة ليس عرضة للُّزُوجَة التي تتعرض لها المواد العادية؛ ومن ثَمَّ يمكنه تبديد أي حرارة تنتج في نظام المغناطيسات الثنائية القطب بكفاءة مذهلة؛ فيتم تبريد ١٠ آلاف طنٍّ متري من النِّتروجين السائل أولًا، ويؤدي ذلك بدوره إلى تبريد ١٣٠ طنًّا متريًّا من الهليوم الذي يدور في المغناطيسات الثنائية القطب.

ومن الجدير بالذكر هنا أن ليس جميع أجزاء مصادم الهادرونات الكبير موجودةً تحت الأرض، فالمباني الموجودة فوق سطح الأرض تضم المعدات والأجهزة الإلكترونية وتجهيزات التبريد، والمبرد التقليدي يبرد الهليوم حتى درجة ٤٫٥ كلفن، ويحدث التبريد النهائي مع انخفاض الضغط. تستغرق هذه العملية (بالإضافة للتسخين) حوالي شهر، وهو ما يعني أنه في كل مرة يتم فيها تشغيل الماكينة وإيقاف تشغيلها، أو محاولة إجراء أي إصلاحات، سيتطلب التبريد وقتًا طويلًا ليحدث.

وفي حال وقوع أي خطأ — إذ يمكن، مثلًا، لقدرٍ طفيفٍ من السخونة أن يرفع درجة الحرارة — يَخمُد النظام، الأمر الذي يعني القضاء على الموصلية الفائقة. مثل هذا الخمود يمكن أن يكون كارثيًّا في حال عدم تبديد الطاقة على النحو الملائم؛ نظرًا لأن كل الطاقة المخزنة في المغناطيسات ستنبعث فجأةً؛ لذا يوجد نظام خاص للكشف عن حالات الخمود وتسريب الطاقة. يبحث هذا النظام عن الاختلافات في الجهد الكهربي غير المُتَّسِقة مع الموصلية الفائقة، وعند اكتشاف أيٍّ من هذه الاختلافات، تتسرب الطاقة في كل مكان في أقل من ثانية واحدة، وبذلك لا يصير المغناطيس الثنائي القطب فائقَ التوصيل.

حتى في ظل تكنولوجيا الموصلية الفائقة، تظل هناك حاجة لكميات هائلة من التيارات الكهربية للوصول إلى مجال مغناطيسي تبلغ قدرته ٨٫٣ تسلا. فتصل قوة التيار إلى نحو ١٢ ألف أمبير، وهو ما يفوق التيار المتدفق في المصباح الموجود على مكتبك بنحو ٤٠ ألف مرة.

ومع وجود التيار الكهربي والتبريد، يستخدم مصادم الهادرونات الكبير عند تشغيله كميةً هائلة من الكهرباء، وهي الكمية المساوية تقريبًا لما يتطلَّبه استهلاك مدينة صغيرة، مثل مدينة جنيف القريبة من المصادم. ولتجنُّب تكاليف الطاقة الباهظة، يعمل المعجِّل حتى بداية شهور الشتاء الباردة بسويسرا فقط، والتي ترتفع فيها أسعار الكهرباء (فيما عدا عام ٢٠٠٩ الذي استمر فيه تشغيل المعجِّل في الشتاء). ولهذه السياسة ميزة أخرى تتمثَّل في منح المهندسين والعلماء العاملين في المصادم إجازةً طويلةً في أعياد الميلاد.

من الفراغ إلى التصادمات

إن آخِر جوانب تفوُّق مصادم الهادرونات الكبير هو الفراغ الموجود داخل الأنابيب التي تدور بها البروتونات. فينبغي الحفاظ على النظام خاليًا قدرَ الإمكان من أي مواد لا لزوم لها من أجل الحفاظ على الهليوم البارد؛ فأي جزيئات شاردة يمكن أن تنقل الحرارة والطاقة. والأهم من ذلك أن مناطق حزم البروتونات يجب أن تكون خاليةً من الغاز قدر الإمكان؛ ففي حال وجود غازات بها، يمكن أن تصطدم بها البروتونات، وتعوق التدوير الجيد لحزم البروتونات؛ ومن ثَمَّ فإن الضغط داخل الحزم بسيط للغاية، إذ يقل بمقدار ١٠ تريليونات مرة عن ضغط الغلاف الجوي، وهو الضغط الموجود على بُعْد مليون متر فوق سطح الأرض حيث يندر الهواء للغاية. وفي مصادم الهادرونات الكبير، تم تفريغ ٩٠٠٠ متر مكعب من الهواء للحصول على المساحة اللازمة لحركة حزمة البروتونات.

حتى مع هذا الضغط الشديد الانخفاض، يظل هناك ثلاثة ملايين جزيء من الغاز في كل سنتيمتر مكعب من الأنبوب؛ ومن ثَمَّ تصطدم البروتونات بين الحين والآخَر بهذه الجزيئات وتنحرف عن مسارها، وإذا اصطدمت كمية كافية من هذه البروتونات بأحد المغناطيسات الفائقة التوصيل، فستخمده وتقضي على الموصلية الفائقة له؛ ومن ثَمَّ تنظم موجهات الحزم الكربونية حزم البروتونات بمصادم الهادرونات الكبير لإزالة أي جسيمات شاردة عن الحزم تقع خارج الفتحة البالغ حجمها ثلاثة ملِّيمترات، وهي الفتحة الكبيرة بما يكفي للسماح للحزمة البالغ عرضها حوالي ملِّيمتر واحد بالمرور عبرها.

مع ذلك، يظل تنظيم البروتونات في مجموعات يبلغ عرضها ملِّيمترًا واحدًا مهمةً صعبة. ويحقِّق هذا نوع آخَر من المغناطيسات يُعرَف بالمغناطيسات الرباعية الأقطاب، وهي المغناطيسات التي تركِّز الحزمة وتضغطها على نحو فعَّال. ويحتوي مصادم الهادرونات الكبير على ٣٩٢ مغناطيسًا من هذا النوع. تشتِّتُ المغناطيسات الرباعية الأقطاب أيضًا حُزَم البروتونات من مساراتها المستقلة حتى تتمكَّن من التصادم فعليًّا.

ولا يمكن للحُزَم أن تتصادم تصادمًا دقيقًا أو مباشرًا تمامًا، وإنما تصطدم بزاوية متناهية الصغر تبلغ حوالي واحد على الألف من الزاوية نصف القطرية؛ وذلك لضمان تصادم مجموعة واحدة فقط من كل حزمة في المرة الواحدة، وبذلك تصبح البيانات أقل إرباكًا وتظل الحزمة سليمة.

وعند تصادم مجموعتين متقابلتين، يواجِه مائة مليار بروتون عددًا مماثلًا من البروتونات. والمغناطيسات الرباعية الأقطاب مسئولة أيضًا عن المهمة الصعبة المتمثِّلة في تركيز الحُزَم في المناطق التي تحدث بها التصادمات، وتُجرَى التجارب لتسجيل ما يقع من أحداث. في هذه المواقع، تعتصر المغناطيسات الحزم وصولًا إلى حجم دقيق يبلغ ١٦ ميكرونًا، ويجب أن تكون الحزمُ شديدةَ الصِّغَر والكثافة لزيادة احتمال عثور المائة مليار بروتون الموجودة في إحدى المجموعات على المائة مليار بروتون في المجموعة الأخرى عند تقاطعها.

لكن معظم البروتونات الموجودة في إحدى المجموعات لن تجد البروتونات الموجودة في المجموعة الأخرى، حتى عند توجيه كلٍّ منهما تجاه الأخرى ليحدث التصادم؛ فقطر البروتونات الفردية لا يتجاوز واحدًا على المليون من النانومتر. ويعني ذلك أنه على الرغم من الحفاظ على كل هذه البروتونات في صورة مجموعات يبلغ قطرها ١٦ ميكرونًا، لا يصطدم إلا نحو ٢٠ بروتونًا فقط تصادُمًا مباشِرًا في كل مرة تتقاطع فيها المجموعات.

وهذا في الحقيقة أمر طيب للغاية، فإذا حدث عدد كبير من التصادمات في آنٍ واحدٍ، فستكون البيانات محيِّرة، وسيكون من المحال تحديدُ أيِّ الجسيمات نتج عن أي التصادمات. ولا شك أن عدم حدوث تصادمات أيضًا أمر سيئ؛ فعن طريق تركيز هذا العدد من البروتونات فقط في هذا الحجم فحسب، يضمن مصادم الهادرونات الكبير وقوع العدد الأمثل من الأحداث في كل مرة تتقاطع فيها المجموعات.

وعندما تحدث تصادمات البروتونات الفردية، فإنها تقع في الوقت عينه تقريبًا؛ في وقت يقل عن الثانية الواحدة بمعامل قدره ٢٥، ويعني ذلك أن الفترة الزمنية بين تصادمات مجموعات البروتونات تتحدَّد بالكامل بمدى تكرُّر تقاطع المجموعات، والذي يحدث كل ٢٥ نانوثانية في أقصى قدرة له. فتتقاطع الحزم أكثر من عشرة ملايين مرة في الثانية الواحدة، ومع هذه التصادمات المتكررة، يُصدر مصادم الهادرونات الكبير كمية هائلة من البيانات، لنحو مليار تصادم في الثانية. ولحسن الحظ، الفترة الزمنية بين تقاطع المجموعات طويلة بما فيه الكفاية للسماح لأجهزة الكمبيوتر بمتابعة التصادمات الفردية المثيرة للاهتمام دون الخلط بين التصادمات التي نشأت في مجموعات مختلفة.

وبذلك يمكننا القول في النهاية إن الحدود القصوى لمصادم الهادرونات الكبير ضروريةٌ لضمان وقوع أكبر عدد ممكن من تصادمات الطاقة ومن الأحداث التي يمكن للتجارب التعامل معها. تواصِل أغلب الطاقة الدوران لكن لا يحدث سوى عدد نادر من أحداث تصادم البروتونات الجديرة بالاهتمام. ورغم الطاقة الهائلة للحزم، فلا تزيد طاقة تصادمات المجموعات الفردية إلا بقدر ضئيل عن الطاقة الحركية لبعض البعوض الطائر؛ فهذا تصادم للبروتونات، وليس للاعبي كرة قدم أو سيارات. وتعمل الحدود القصوى لمصادم الهادرونات الكبير على تركيز الطاقة في منطقة متناهية الصغر، وفي تصادمات الجسيمات الأولية التي يمكن للتجارب متابعتها. وسوف نتناول لاحقًا بعضًا من المكونات الخفية التي قد تعثر عليها هذه التجارب، والمعلومات الدقيقة عن طبيعة المادة والفضاء التي يطمح الفيزيائيون للتَّوَصُّل إليها من خلال هذه الاكتشافات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤