الفصل الأول

التنوع الميكروبي

تُهيمن الكائنات الحية الدقيقة على سائر الأرض. قد يكون من الصعب علينا تقديرُ هذه الحقيقة؛ وذلك لأن أشكال الحياة هذه لا تُرى بالعين المجرَّدة. نحن نرى النباتات والحيوانات ونتفاعل معها بطريقةٍ محدَّدة ومدروسة، وخلال القسم الأكبر من التاريخ البشري لم يكن لدينا أي دليل على وجود أي كائنات أصغرَ من الحشرات. اقترب الفيلسوف الروماني لوكريتيوس من هذه الحقيقة بتكهُّنه بوجود «كائنات دقيقة معينة … تدخل الجسم عن طريق الفم والأنف، وتُسبب أمراضًا خطيرة». بدأت تأملاتُ لوكريتيوس تبدو منطقيةً بعد اختراع المجهر في القرن السابع عشر. كانت أعداد الميكروبات مذهلةً للغاية. فعشَرات الملايين من البكتيريا تعيش في حَفنةٍ صغيرة من التربة، وقطرة واحدة من الماء المالح تحتوي على ٥٠٠ ألف من البكتيريا وعشَرات الملايين من الفيروسات، والهواء مليء بالجراثيم الفطرية المجهريَّة، بالإضافة إلى مائة تريليون من البكتيريا تحتشدُ داخل أمعاء الإنسان. جميع الكائنات الحية التي تُرى بالعين المجردة وجميع الأسطح غير الحية مغطَّاة بالميكروبات؛ فالميكروبات تنمو حول فوهات البراكين والمنفسات المائية الحرارية؛ وتعيش في كُتَل جليد البحار، وفي أعمق أعماق المحيطات، وتنمو في الرواسب القديمة الموجودة في قاع البحر. علم الأحياء الدقيقة هو العلم الذي يختصُّ بدراسة هذه الأشكال متناهيةِ الصِّغر من الحياة. وهو يهتم بدراسةِ كل ما يتعلق بحياة البكتيريا والعتائق والفطريات، وتنوُّع مذهل من الكائنات الحية وحيدةِ الخلية تُسمَّى الطلائعيات. أيضًا يدرس علماءُ الأحياء الدقيقة الفيروسات، التي يكون تركيبها أبسطَ من أي نوع من أنواع الخلايا.

الغالبية العظمى من الكائنات التي يمكن رؤيتها بالعين المجرَّدة تعتمد على الطاقة المستمَدَّة من الشمس عن طريق عملية البناء الضوئي؛ ويشمل ذلك كلًّا من النباتات، والكائنات الحية التي تتغذَّى على النباتات، أو الكائنات التي تتغذَّى على الحيوانات والتي بدَورها تتغذَّى على النباتات. في المقابل، تستخدم الكائنات الحية الدقيقة نطاقًا أوسعَ من عمليات الأيض. فالأنواع الأكثر شيوعًا تؤدي دورَ كائنات مُحلِّلة؛ إذ تعيد تدوير الموادِّ الميتة سواءٌ أكانت لنباتات أم لحيوانات. وبعض الميكروبات ضوئية التغذية. وهذه الميكروبات تشمل البكتيريا الزرقاء وأنواعًا مختلفة من الطلائعيات التي نُطلق عليها اسم الطحالب. وبالإضافة إلى الكائنات المُحلِّلة والميكروبات ضوئية التغذية، تحصل العديدُ من البكتيريا والعتائق على الطاقة من خلال عمليات أيض تقوم على غاز الهيدروجين والكبريت وبعض الجزيئات البسيطة بما في ذلك الأمونيا والميثان. هذه المسارات الكيميائية تُمكِّن الكائنات الحية الدقيقة من دعم أنظمة بيئية كاملة في أماكنَ يَعُمُّ فيها ظلامٌ دائم. وقد شجَّعَت هذه العمليات الكيميائية الحيوية التي تتفرَّد بها البكتيريا والعتائق على الأرض علماءَ الأحياء الفلكية على التنبُّؤ بوجود حياة ميكروبية في محيط موجود تحت سطح القمر يوروبا، أحد أقمار المشتري، ونظام بيئي يعتمد على الميثان مصدرًا للطاقة على سطح القمر تيتان، أحد أقمار زحل.

مكَّنَت التجارب التي أُجرِيَت في البصريات في بداية القرن السابع عشر العلماءَ الأوروبيين، وفيهم جاليليو، من تطوير أول مِجهَر بعد اختراع التليسكوبات بمدة قصيرة. أُجرِيت أولى الملاحظات المجهرية على الحشرات، ونُشِرَت أول الرسوم التوضيحية عام ١٦٦٥ بواسطة روبرت هوك، الذي وصف التراكيب المنتِجة للجراثيم في الفطريات. مضى أنطوني فان ليفينهوك، الذي عاصر روبرت هوك، بملاحظاته حول عالم الميكروبات إلى أبعدَ من ذلك؛ لكونه أول مَن وصف البكتيريا، وفي ذلك البكتيريا الكبيرة هلالية الشكل التي كشَطَها من أسنانه، والعديد من الطلائعيات والخميرة التي حصل عليها من الجِعَة. وعلى الرغم من الدراسات المجهرية المهمة التي اضطَلع بها القليل من العلماء المهَرة في القرن الثامن عشر، لم يُحرَز سوى تقدم طفيف في علم الأحياء الدقيقة، إلى أن حلَّ القرن الذي يليه عندما أوضح لويس باستور أن الحساء المعقَّم يظل معقمًا ما دام بمعزل عن الميكروبات التي تنتقل عبر الهواء. وقد دحض العمل التجريبي الدقيق الذي أُجري في ستينيَّات القرن التاسع عشر الأفكارَ الكلاسيكية حول التولُّد الذاتي للكائنات الحية. فيما بعد، طوَّر باستور لقاحًا للوقاية من داء الجمرة الخبيثة (الذي تُسببه بكتيريا العصَوية الشمعية) وداء الكلب (الذي يُسببه أحد الفيروسات). باستخدام الفئران في التجارِب، تمكن روبرت كوخ من التعرُّف على البكتيريا المسبِّبة لداء الجمرة الخبيثة في سبعينيَّات القرن التاسع عشر، وصمَّم طريقةً منهجيةً للتعرف على سببِ أي مرض مُعدٍ. هذه الطريقة، التي يُطلق عليها فرضيات كوخ، تتطلب من الباحث تحديدَ الكائن الحي المسبِّب للمرض في حيوان مصاب، وزراعة هذا «الميكروب» في مزرعة نقية، واستخدام هذه المزرعة لإصابة حيوان سليم بالعدوى، ثم عزل الكائن الحي نفسه عن العائل الذي تُجرى عليه التجرِبة.

حتى بعد اختراع المجهر، لم يظهر ما يخالف التقسيمَ الكلاسيكي الذي وضعه أرسطو لتصنيف الكائنات الحية إلى نباتات وحيوانات، حتى استحدث إرنست هَيْكِل تصنيفًا ثالثًا للأنواع أحادية الخلية، يُسمى «الطلائعيات»، في ستينيَّات القرن التاسع عشر. اليوم، أصبحنا نُميز بين ثلاثِ مجموعات رئيسية من الكائنات الحية: فوق مملكة البكتيريا، وفوق مملكة العتائق، وفوق مملكة حقيقيات النواة (الشكل ١-١). خلال هذا الكتاب الذي بين أيدينا، سنُشير إلى هذه المجموعات اختصارًا بالبكتيريا والعتائق وحقيقيات النواة، دون استخدام لفظة فوق المملكة. يدرس علماءُ الأحياء الدقيقة الكائنات الحية المجهرية التي تنتمي إلى المجموعات الثلاث جميعها. وجميع البكتيريا والعتائق كائناتٌ مجهرية؛ وأميبا التربة والدياتومات، والطحالب ثنائية الأسواط، والطحالب الخضراء وحيدة الخلية تُعد أمثلةً على حقيقيات النواة المجهرية.
fig1
شكل ١-١: المجموعات الرئيسية أو فوق الممالك الثلاث التي تُقسَّم لها الكائنات الحية، موضَّحة في صورة «شجرة» تطورية، توضِّح التحوُّر الجيني الذي حدث على مدى مليارات السنين من اليسار إلى اليمين. يُظهِر المخطط أن نشأة البكتيريا والعتائق وحقيقيات النواة تعود إلى أصل مشترك وأن مجموعتَي العتائق وحقيقيات النواة ترتبط إحداهما بالأخرى أكثرَ من ارتباط أيٍّ من المجموعتَين بالبكتيريا. تقترح المقارنات الجينية أن فوق مملكة حقيقيات النواة ربما تكون قد تطوَّرَت من فوق مملكة العتائق. ووفقًا لهذه الدراسة، من المنطقي إدراجُ جميع الكائنات الحية في فوق مملكتين: البكتيريا والعتائق.
ثمة فارقٌ جوهري بين كلٍّ من البكتيريا والعتائق، وهما من بدائيات النواة، والميكروبات حقيقية النواة (الشكل ١-٢). تنتظم جينات بدائيات النواة في هيئة كروموسوم دائري مفرَد، يقع في السائل الموجود داخلَ الخلية. وهذا الكروموسوم يُشكِّل جينوم بدائيات النواة. يُعرَّف الجينوم بأنه مجموعُ المعلومات الوراثية في الخلية. يتكون الجينوم، سواءٌ أكان لميكروب أو غيرِ ذلك، من جينات تحمل شفرات البروتينات وتتخلَّل هذه الجينات تتابعات مسئولة عن تنظيم التعبير الجيني، وتتابعات غير مشفِّرة لا تحمل شفرة البروتينات وكان يُطلق عليها «حمض نووي غير وظيفي». (نعلم أن القسط الأكبر من الحمض النووي غير المشفِّر يؤدي وظائفَ حيويةً مهمة.) غالبًا ما تحمل حقيقياتُ النواة معلوماتٍ وراثيةً أكثرَ من التي تحملها بدائياتُ النواة. معظم الجينوم الموجود في خلية حقيقيات النواة يكون مشفرًا في صورة كروموسومات متعددة محاطة بغشاء مزدوج يُغلف النواة. يوجد الحمض النووي أيضًا في هيئة كروموسومات دائريةٍ داخل الميتوكوندريا والبلاستيدات الخضراء في خلايا حقيقيات النواة. الميتوكوندريا هي عُضيَّات تُمِدُّ الخلايا حقيقيةَ النواة بالطاقة. والبلاستيدات الخضراء هي عُضيات تؤدي عمليةَ البناء الضوئي في النباتات والطحالب. تطور كِلَا نوعَي العضيَّات من خلايا بكتيرية استوعبها أسلافُ حقيقيات النواة الموجودة في يومنا هذا. وتُسمى هذه العملية بالمعايشة الداخلية.
fig2
شكل ١-٢: شكل يوضح تركيب خلية بدائيات النواة (البكتيريا والعتائق) البسيط نسبيًّا مقارنةً بتركيب خلية حقيقيات النواة المعقَّد. يقع الكروموسوم المفرَد في البكتيريا والعتائق داخل السيتوبلازم. أما الكروموسومات العديدة في حقيقيات النواة فتقع داخل النواة

استُخدِمت الخصائص التركيبية والوظيفية مثل شكل الخلية والنشاط الأيضيِّ لتمييز بعض مجموعات البكتيريا منذ زمنِ باستور. على سبيل المثال، خلايا البكتيريا المسبِّبة لمرض الزُّهْريِّ (اللولبية الشاحبة أو تريبونيما باليديم) ملتفَّةٌ مثل اللولب. وكان شكلها غيرُ المعتاد جَليًّا في عينات من النسيج المصاب مأخوذة من مَرْضى الزُّهْري وهو سِمَة مُميِّزة للبكتيريا التي نُصنِّفها على أنها بكتيريا لولبية. تُعد مثلُ هذه السِّمات التركيبية دليلًا أقلَّ موثوقيةً لتمييز البكتيريا في حالات أخرى؛ فالبكتيريا والعتائق عصَويةُ الشكل تبدو متماثلةً تحت المجهر. تُعد طريقةُ صِبغة جرام، التي ابتُكِرَت في القرن التاسع عشر، دليلًا استرشاديًّا آخَر للتمييز بين البكتيريا. وتوصف بأنها صبغة مُفرِّقة لأنها تُلوِّن البكتيريا التي لها جدرانٌ سميكة (الموجبة) باللون البنفسجي، والبكتيريا التي لها جدران رقيقة (السالبة) باللون الوردي. وتُعَد تفاعلات التصبيغ أداةَ تشخيصٍ مفيدة؛ إذ تسمح لفنيِّي المعمل بتضييق نطاق أنواع البكتيريا التي يُحتمل وجودُها في مسحة حَلْق لتحديد البكتيريا المسبِّبة للعدوى. لكن صبغة جرام دليلٌ استرشادي ضعيف لتحديد الصلة بين الأنواع. لهذا السبب، حلَّت التقنيات الوراثية بقدرٍ كبير محلَّ الوسائل المجهرية لتطوير مخططات تصنيف حديثة تعكس صلة القرابة التطورية.

يستند البحث حول صلة القرابة التطورية، المعروف باسم تحليل تطور السلالات الجزيئي، إلى المقارنات بين تتابعات الحمض النووي (دي إن إيه) لمختلِف الأنواع. بالنسبة للبكتيريا، يُعد الجين الذي يحمل شفرة جزء من تركيبٍ للخلية يُسمى الريبوسوم ضروريًّا لتحديد الأنواع. الريبوسومات أدواتٌ جزيئية مسئولة عن إنتاج البروتينات. بشكلٍ عام، إذا اختلف تتابعُ جين الحمض النووي الريبوزي الريبوسومي (16s rRNA) في البكتيريا المعزولة أو سُلالات البكتيريا بنسبة ثلاثة بالمائة أو أقل، فإن هذه الكائنات الحية الدقيقة تُعتبر أعضاءً في النوع نفسِه. هذه الطريقة ليست مثالية، ومن المرجَّح أن تقديرها لعدد الأنواع أقلُّ من الحقيقي، لكنها مفيدة جدًّا للتعرُّف على البكتيريا من عينات مأخوذة من البيئة. تُستخدم المقارنات بين تتابعات الجين 16s rRNA لإنشاء أشجار تطور السلالات التي تكشف عن العلاقات التطورية بين الأنواع المختلفة والصلات بين مجموعات البكتيريا (شكل رقم ١-٣). ويُعد تحليل الجينات الأخرى ضروريًّا للتمييز بين سلالات البكتيريا في النوع الواحد. أيضًا استُخدِمَت المقارنات بين الجينوم بالكامل بنجاح باهر لفحص تفاصيل التطور البكتيري.

وضع المختصون بدراسة تصنيف البكتيريا قائمةً بأكثرَ من ١١ ألف نوع من البكتيريا. كانت هذه القائمة متحيزةً للبكتيريا التي لها أهميةٌ طبِّية وتلك التي يمكن أن تنموَ في مزرعةٍ بسهولة. وتُظهِر التجارِبُ التي حُددت فيها تتابعات الجينات البكتيرية دون زراعة خلايا في المعمل أن ملعقة صغيرة من التربة يمكن أن تحتويَ على آلاف الأنواع غير المعروفة. تُعد أجسامنا موطنًا لمجموعةٍ هائلة من الكائنات الحية الدقيقة، فقد كشف تحليلٌ جزيئي عن ٢٣٦٨ «نوعًا» من البكتيريا التي تعيش في سُرة الإنسان! وقد شجَّعَت هذه النتائجُ الباحثين على القول باحتمالية وجود عشرات أو مئات الملايين من أنواع البكتيريا. وبالفعل يُعَد إحصاءُ عدد من البكتيريا والكائنات الحية الدقيقة بأقلَّ من العدد الموجود من الموضوعات المهمة في إطار التحديات المعاصرة لتطوير مقاييسَ موضوعية للتنوع الحيوي.

fig3
شكل ١-٣: شجرة تطورية تعرض العلاقات بين أنواع البكتيريا العصوية (باسيلوس) بناءً على المقارنات بين تتابعات جينات آر إن إيه الريبوسومي فيها. المجموعة الخارجية التي اختِيرَت لتكون مرجعًا للمقارنة بين أنواع بكتيريا الباسيلوس هي بكتيريا ميكروكوكس لوتس.

بوضعِ هذه الحالات من عدم التيقُّن في الحسبان، وضع علماء الأحياء الدقيقة تسميةً لثمانين أو أكثرَ من المجموعات الفرعية، أو شُعب البكتيريا. تُشكِّل البكتيريا البروتينية الشعبة البكتيرية الأكبر، وتضم العديد من أشكال الخلايا وآليات إنتاج الطاقة. تتضمن البكتيريا البروتينية كلًّا من «الإيشيرشيا كولاي»، وهي بكتيريا مِعويَّة درَسها علماء الوراثة بوصفها كائنًا تجريبيًّا نموذجيًّا منذ أربعينيَّات القرن العشرين، والبكتيريا المسببة لمرض التيفويد (السالمونيلا المعوية) والكوليرا (ضمة الكوليرا)، والبكتيريا المثبتة للنيتروجين، والبكتيريا البنفسجية ضوئية التغذية، والبكتيريا ذات الزوائد الخَلوية، والبكتيريا المخاطية التي تُكوِّن أجسامًا ثمرية جميلة متعددةَ الخلايا. البكتيريا البروتينية هي بكتيريا سالبةُ الجرام تُحاط خلاياها بغشاءين دُهنيَّين يُطلق عليهما الغشاء الداخلي والخارجي، ويفصل بينهما جدارٌ خَلوي رقيق نسبيًّا. تتكون الجدران البكتيرية من بوليمر يُسمى الببتيدوجلايكان. يتكون الببتيدوجلايكان من سلاسلَ من أزواجٍ متبادَلة من كلٍّ من جزيئات السكر الأميني إن-أسيتيل جلوكوز أمين وجزيئات حمض أستيل الميوراميك، وتربط بين هذه الأزواج وصلاتٌ مستعرضة من الببتيدات. الليزوزيم هو إنزيم مضاد للبكتيريا، يوجد في الدموع، والحليب البشري، والمخاط، يقتل البكتيريا من خلال فصل الروابط بين السكريات الأمينية في جدار الببتيدوجلايكان. يستهدف البنسلين أيضًا الجدارَ البكتيري، ويعمل على تثبيط عملية تخليق الببتيدوجلايكان.

يكون جدار الببتيدوجلايكان في البكتيريا البروتينية والمجموعات الأخرى سالبة الجرام؛ أرقَّ بكثيرٍ من جدران خلايا البكتيريا موجَبةِ الجرام، بما في ذلك مجموعة تُسمى متينات الجدار. وتُعد كلٌّ من البكتيريا المِطَثِّية والبكتيريا العَصَوية من متينات الجدار التي تُنتج جدرانًا سميكة تُسمى الجراثيم الداخلية. تفتقر البكتيريا موجبةُ الجرام للغشاء الخارجي الذي تتميز به الأنواعُ سالبة الجرام. أما البكتيريا التي في الشعبة الثالثة، وهي الرخصيات، فلا تحتوي على جدار الببتيدوجلايكان. وهي تُعرَف أكثرَ باسم المفطورات، والعديد منها يسبب أمراضًا للثدييات. ونظرًا إلى أنَّها لا تحتوي على جدران خلوية، فإنها تُقاوم إنزيم الليزوزيم والمضادات الحيوية التي تستهدف بوليمر الببتيدوجلايكان. ويبلغ قُطر الخلية في بعض المفطورات ٠٫٢ ميكرومتر. هذا بالمقارنة مع متوسط طولِ قُطر البكتيريا ذات الجدران البالغ ١ ميكرومتر. يوجد عددٌ قليل من الأمثلة على البكتيريا العملاقة، مثل بكتيريا مؤكسدة للكبريت، هي لؤلؤة الكبريت الناميبية، التي يتراوح قطر خلاياها إلى ٧٥٠ ميكرومتر أو ٠٫٧٥ مليمتر (مم).

تتميز الشعاويات أو الأكتينوبكتيريا بأنها تنمو في شكل خيوط. وهي تتضمَّن مُسببات الأمراض التي تُسبب مرضَ السُّل (المتفطرة السُّلِّية) وتُسبب الجُذام، أو مرضَ هانسِن (المتفطرة الجُذامية)، ونوع المتسلسلة أو الستريبتوميسيتيس الذي يُنتج الستربتومايسين والتتراسيكلين وغيرها من المضادات الحيوية. تنتج بكتيريا المتسلسلة مستعمراتٍ من الخيوط والفروع الهوائية التي تتجزأ إلى سلاسلَ من الجراثيم. تتبع بعضُ البكتيريا الزرقاءُ أيضًا أنماطَ نموٍّ خيطية (شكل رقم ١-٤). وتُعد عملية البناء الضوئي التي تقوم بها البكتيريا الزرقاء البحرية من العوامل الرئيسية لتثبيتِ الكربون العالمي. تمتصُّ أنواعٌ كثيرة من البكتيريا الزرقاء النيتروجينَ من الغلاف الجوي، وتُكوِّن الأمونيا والمركبات الأخرى، وبذلك تلعب دورًا حيويًّا في دورة النيتروجين. تنمو بعضُ البكتيريا الزرقاء داخل العُقَد الجذرية في البقول، وبعضها ينمو مع الفطريات لتكوين الأشنات. هذه العلاقات تُسمى علاقاتِ تبادُل المنفعة أو التكافلِ التبادلي.
fig4
شكل ١-٤: خيوط من خلايا البكتيريا الزرقاء ضوئيةِ التغذية. يُطلق على كل خليتَين من الخلايا الدائرية سميكةِ الجدار في التركيب الخيطي اسم الحويصلات المتغايرة ووظيفتها هي تثبيت النيتروجين. تطورَت البلاستيدات الخضراء في حقيقيات النواة ضوئية التغذية من خلايا البكتيريا الزرقاء التي استوعبَها أسلافُ الطحالب حقيقية النواة منذ أكثرَ من مليار سنة مضَت.
شُعبة المكورات الحرارية الغريبة هي مجموعةٌ صغيرة تتضمَّن بكتيريا لها قدرةٌ مذهلة على تحمُّل الأشعة المؤينة والحرارة. يموت الإنسان عند التعرض لجرعة واحدة مقدارها خمسة جراي من الأشعة المؤيَّنة أو الحرارة، وهو ما يعادل خمسة جولات من الطاقة لكلِّ كيلوجرام من كتلة الجسم. في المقابل، يمكن للمُكوِّرات الغريبة المقاوِمة للإشعاع تَحمُّل ١٥ ألفَ جراي من الإشعاع، وقد أُطلِق عليها اسم «بكتيريا كونان». عُزِلَت بكتيريا المستحرة المائية قريبة الصِّلة بهذه المكوِّرات في حوض جيسر السفلي في منتزَه يلوستون الوطني في الولايات المتحدة الأمريكية في ستينيَّات القرن العشرين، وتزدهر عند درجة حرارة ٧٠° مئوية (١٥٨° فهرنهايت). كان أحد الإنزيمات المستخرَجة من هذا النوع، ويُسمَّى بوليمراز المستحرة المائية أو تاك بوليميريز، الإنزيم الأصلي المستخدَم في تفاعل البوليميريز المتسلسل (PCR). أحدثَت قدرة بوليمراز المستحرة المائية على نسخ الدي إن إيه في درجات الحرارة العالية ثورةً في مجال الأبحاث الوراثية، وقدَّمَت تحقيقات جنائية تستند إلى أسسٍ عِلمية، كما نتج عنها العديدُ من التطبيقات في الطب الحديث.
تمتلك أنواعٌ كثيرة من البكتيريا القدرةَ على الحركة، وتستخدم دوران الأسواط كي يدفَعها للأمام أو يسحبَها للخلف خلال البيئات السائلة. تُعد الأسواط البكتيرية أعجوبة الهندسة التطورية (شكل رقم ١-٥). الخيط الذي يمتدُّ من سطح الخلية عبارة عن أنبوب مجوَّف من ٣٠ ألف وحدة فرعية من بروتين مفرَد يُسمى فلاجيلين. وهو متصل بالجسم القاعدي للسوط عن طريق هيكل منحنٍ، يُسمى الخطاف. يتكون الجسم القاعدي من قضيب يمرُّ خلال سلسلة من الحلقات البروتينية في الغشاء الخارجي (للبكتيريا سالبة الجرام)، وجدار الببتيدوجلايكان، والغشاء الداخلي حيث يتصل بدَوَّار. تؤدي بروتينات إضافية في الغشاء الداخلي (البروتينات المحرِّكة) دور قنوات لنقل البروتونات (يُرمَز لأيونات الهيدروجين بالرمز H+) يتسبَّب تدفُّق الأيونات خلال هذه القنوات في تغيرات في تكوين البروتينات التي تمنح الدوار حركتَه المغزلية. التركيب بالكامل عبارةٌ عن محرك كهربي نانوي قابلٍ للانعكاس يُدوِّر الخيط ١٠٠ دورةٍ في الدقيقة.
fig5
شكل ١-٥: التركيب المعقَّد للسوط البكتيري الذي يتضمَّن مكونات البروتينات منظمة في صورة حلقات في السيتوبلازم (داخل الخلية)، والغشاء الداخلي، وجدار الببتيدوجلايكان، والجدار الخارجي للبكتيريا سالبة الجرام. تُدوِّر البروتينات في الغشاء الداخلي، التي ترتبط بالجدار، التركيبةَ المجمعة في حركة مغزلية ١٠٠ دورة في الثانية.

يمكن للبكتيريا أن تُدفَع بواسطة سوطٍ واحد (التنظيم القطبي)، أو من خلال تجمُّع خصلات الأسواط عند أحد طرَفَي الخلية أو كِليهما (كما في البكتيريا سَوطية الطرَف والبكتيريا ذات السَّوطَين المتقابلَين)، أو من خلال العديد من الأسواط المتمركزة عند نقاطٍ عديدة على السطح (كما في البكتيريا محيطية السِّياط). البكتيريا صغيرة الحجم جدًّا لدرجة أن لزوجة البيئة المحيطة تتحكم في حركتها؛ وذلك لأن قُصورها الذاتيَّ يساوي صفرًا. تُدفع الخلايا للأمام أو تُسحب للخلف في الماء بواسطة الأسواط الضاربة، وتتوقف عن الحركة تمامًا لحظةَ توقُّف مُحركات الأسواط. تبلغ السرعة النمطية لسباحتها ٢٥ ميكرومترًا في الثانية، وهذه السرعة تُقارَن بسرعة الفهد، قياسًا على حجم الكائن الحي. لا تملك البكتيريا الزرقاء خيطيةُ الشكل والبكتيريا المخاطية أسواطًا، وتستخدم آليات انزلاق بما في ذلك إطلاق مادةٍ لزجة أو مدُّ بروتينات سطحية للتحرك على الأسطح أو بالانزلاق واحدةً تِلو الأخرى.

على عكس العدد الكبير من المجموعات الفرعية من البكتيريا، ينقسم معظمُ الأنواع المحددة من العتائق البالغ عددها ٥٠٠ إلى شعبتَين؛ هما: العتائق العريضة والعتائق المصدرية. تعيش هذه الكائنات الحية الدقيقة في البيئات المتطرفة بما في ذلك الينابيع الحارَّة، والمُنفِّسات المائية الحرارية في قاع المحيطات، والأحواض المشبعة بالأملاح، والموائل ذات الملوحة أو القلوية العالية. تنمو العتائق أيضًا في المحيطات المفتوحة حيث تكون المكوِّنَ الرئيسي لعوالق المياه العميقة، وتعمل على تخصيب الماء من خلال تحويل الأمونيا (NH3) إلى النيتريت (NO2). تتيح مجموعةٌ من الآليات الفسيولوجية هذا التنوُّعَ البيئي؛ فهي تُتيح للعتائق أداءَ وظائفها في موائل هوائية ولاهوائية، وإمدادَ أنفسِها بالطاقة عن طريق الطاقة الكيميائية في جزيئات الهيدروجين (H2) وذرات الكبريت (S0) والمركبات التي تحتوي على الحديد. تحتجز البدائياتُ المولِّدة للميثان ثانيَ أكسيد الكربون أو «تُثبِّته»، مستخدمةً الهيدروجين مصدرًا للطاقة. يُستخدم بعضُ الكربون الذي تُثبته هذه الأنواع لتخليق موادِّها الخلوية، والباقي يُطلَق في صورة غاز الميثان (CH4). تعيش العتائق المولِّدة للميثان في الأجهزة الهضمية للنمل الأبيض والحيوانات المجترَّة، وهي جزءٌ مهم من التجمعات الميكروبية، أو الميكروبيوم، في أمعاء الإنسان. على الرغم من عدم وجود عتائق ضوئية التغذية، فإن العتائق المحبَّة للملوحة التي تعيش في الأحواض شديدةِ الملوحة، تستخدم صِبغةً تمتصُّ الضوء تُسمى بكتيريورودوبسين كي تُمدَّ نفسَها بالطاقة في مستويات الأكسجين المنخفضة.
كما هو الحال في البكتيريا، تحتوي العتائقُ على خلايا صغيرة ويكون الجينوم فيها مُشفَّرًا في صورة كروموسومات فردية. لا تحتوي العتائق على جدران ببتيدوجلايكان أو أغشيةٍ خارجية. ويُطلق على نوع الجدران الأكثرِ شيوعًا في العتائق اسم الطبقة S (ترمز S إلى كلمة «سطح»). وهو يتكون من جزئياتِ بروتين متشابك، أو بروتين سُكَّري، ويبدو مثل الأرضية المبلَّطة تحت المجهر الإلكتروني. لبعض العتائق المنتجة للميثان جدارُ ببتيدوجلايكان كاذب، وهو، مثل الببتيدوجلايكان البكتيري، يحتوي على سلاسلَ من جزيئات السكريات الأمينية التي ترتبط عَرْضيًّا عن طريق الببتيدات. أشكال الخلايا الشائعة بين العتائق هي القضبان والمكورات (الخلايا المستديرة) والخيوط، إلا أن خلايا بعض العتائق المحبة للملوحة تنمو في هيئةِ مربَّعاتٍ ومثلثات مسطحة. وتُعد البكتيريا الحراريةُ والعتائق المؤكسِدة للحديد من العتائق التي تفتقرُ إلى جُدران خَلوية. تعيش هذه الكائنات الحية الدقيقة في تُربة حمضية حارَّة. يبلغ قُطر بعض العتائق التي تفتقر إلى جدران ٠٫٢ ميكرومتر، وهي بذلك تُشبه المفطورات البكتيرية. العتائق القادرة على الحركة مزوَّدةٌ بخصلات أسواط، يختلف تركيبها الجزيئي اختلافًا تامًّا عن أسواط البكتيريا.

تحتوي البكتيريا والعتائق على جينوم أصغرَ بكثيرٍ من الجينوم في حقيقيات النواة. ويحتوي الكروموسوم الدائريُّ لبكتيريا الإيشيرشيا كولاي (السلالة كيه-١٢) على ٤٢٨٨ جينًا يحمل شفرة البروتينات. تضمُّ البكتيريا المخاطية أكبرَ جينوم بكتيري، وهو يحمل شفرةَ أكثرَ من تسعةِ آلاف جين. يرتبط هذا التعقيد الجيني بدورات حياة البكتيريا المخاطية التي تشمل تكوينَ الأجسام الثمرية متعددةِ الخلايا. يوجد أصغرُ الجينومات البكتيرية في الأنواع المتكافلة التي تعيش داخل خلايا الحشرات. تحتوي جينومات العتائق على ٤٣٠٠ جين. لمقارنة ذلك، فَكِّر في أن أزواج الكروموسومات البالغِ عددُها ٢٣ زوجًا تحمل شفرة أكثرَ من ٢٠ ألف جين.

لا تَستخدِم حقيقياتُ النواة المجهرية مجموعةَ آليات الأَيْض الموجودةَ في البكتيريا والعتائق. تُصنِّع الطحالب (والنباتات) الغذاءَ بطريقة البناء الضوئي التي تستخدمها البكتيريا الزرقاء، وتحصل جميعُ حقيقيات النواة الأخرى على احتياجاتها من الطاقة عن طريق هضمِ الكائنات الأخرى أو فضَلاتها. على الرغم من أن حقيقيات النواة تفتقر إلى تنوُّعٍ في عمليات الأيض، تتجلَّى مقاييسُ أخرى لتنوُّع حقيقيات النواة على المستوى الوراثي، ويتضح ذلك في النطاق الهائل من الخواص التركيبية والشكلية. توجد ثماني مجموعاتٍ فرعية من حقيقيات النواة (شكل رقم ١-٦)؛ جميعها تتضمن كائناتٍ وحيدةَ الخلية، وخمسةٌ منها ميكروبية بالكامل. تتضمَّن الأميبيات الأميبا المتقلبة Amoeba proteus، وهي تُمثل الشكلَ الأيقوني لأحياء البِرَك التي تتحرك عن طريق مدِّ أقدامها الكاذبة إصبَعيَّةِ الشكل في اتجاه أحد أطراف الخلية، وسحبِ السيتوبلازم الخلفي. وتتغذى عن طريق ابتلاع البكتيريا والكائنات الأخرى من خلال عملية البَلْعَمة. تَستخدم خلايا الكائنات حقيقية النواة عمليةً تُعرَف بالبلعمة لامتصاص الجُسيمات بما في ذلك البكتيريا التي تهضمها في السيتوبلازم. وهذه العملية بمنزلة آليةِ تغذية، وتستخدمها الخلايا في الجهاز المناعي للإنسان لتدمير مُسبِّبات الأمراض. وتُعد بعض أنواع الفطر المخاطي أيضًا من الأميبيات. يوصف الفطر المخاطي Dictyostelium discoideum بأنه نوعٌ من الأميبا تتجمع خلاياه الفردية لتكوين جسمٍ ثمري له ساقٌ وفي أعلاه جراثيم.
fig6
شكل ١-٦: عجَلة الكائنات الحية حقيقية النواة. ثماني مجموعات رئيسية مرتَّبة على محيط العجلة، وتتصل بالمحور الرئيسي الذي يرمز لأسلاف حقيقيات النواة عن طريق قضبان. النماذج الأولية المشتركة التي توحِّد بعضَ المجموعات ممثلة بالقطاعات المتوسطة.
تتضمن الهكروبيات الطحالب المساترة أو مخفيَّة النبت التي تحتوي خلاياها على أربعة جينومات منفصلة (شكل رقم ١-٧). كانت أسلافُ المساترات ضوئيةُ التغذية تحصل على غذائها عن طريق عملية البلعمة، وحصَلَت على البلاستيدات الخضراء عن طريق ابتلاع خليةٍ طحلبية حمراء قاوَمَت الهضم. ويُعد هذا مثالًا على آلية المعايشة الداخلية التطورية التي ورَد ذِكرها فيما سبق. تحتوي البلاستيدات الخضراء للمساترات على تركيبٍ خلوي يُسمى نوكليومورف وهي نواةٌ متبقِّية من الطحالب الحمراء المتكافلة (التركيب ١)، بالإضافة إلى كروموسوم دائري من البكتيريا الزرقاء الأصلية (التركيب ٢). يُعد كروموسوم البكتيريا الزرقاءِ دليلًا على أن أسلاف الطحالب الحمراء ابتلعَت بكتيريا، وأن هذه البكتيريا أصبحَت تؤدِّي دور البلاستيدات الخضراء. وعلى مدى ملايين السنين تكرَّر أن ابتلع كائنٌ حقيقيُّ النواة، يحتوي على نواة، بكتيريا زرقاءَ، هذه البكتيريا تحوَّلَت إلى بلاستيدة خضراء في هذا الكائن، ثم ابتلع كائنٌ حقيقيُّ النواة آخرُ (التركيب ٣) هذه الخليةَ المختلطة أو الخيمرية (طحلب أحمر)، وتحوَّلَت إلى بلاستيدة خضراءَ له. يوجد الجينوم الرابع في المساترات في الميتوكوندريا (التركيب ٤). كروموسومات الميتوكوندريا بكتيرية الأصل ويرجع وجودها إلى سَلف جميعِ حقيقيات النواة.
fig7
شكل ١-٧: تركيبٌ معقَّد للطحالب المساترة الناتجة عن اندماج خلية أميبية مع أحد الطحالب الحمراء ضوئية التغذية. الدليل على هذه العملية موجودٌ في تركيب يُسمى نوكليومورف محصور بين غشاءَي البلاستيدة الخضراء (التركيب ١). النوكليومورف هو جينوم ثانويٌّ مشتق من نواة الطحالب الحمراء المتكافلة.

تُعد الدياتومات أمثلةً على طحالب السترامينوبيلس ضوئيةِ التغذية. تعمل الدياتومات البحرية، جنبًا إلى جنبٍ مع البكتيريا الزرقاء العوالق، على امتصاصِ قدرٍ من ثاني أكسيد الكربون يُعادل القدْرَ الذي تمتصُّه جميع النباتات الموجودة على اليابسة، وتُنتج نصفَ الأكسجين الموجود في غِلافنا الجوِّي. الفطريات المائية هي نوعٌ ثانٍ من طحالب السترامينوبيلس. وهي تُنتج خلايا عائمةً تُسمى الأبواغ السوطية، وتُشبه الفطريات في أنها تُكوِّن مستعمرات من خلايا خيطية الشكل تخترق مصادرَ الغذاء. المسبِّب الفطري فيتوفثورا إنفستنس هو نوعٌ يتسبَّب في وباء اللفحة المتأخرة في البطاطس الذي عصَف بسكان أيرلندا في أربعينيَّات القرن التاسع عشر. تُعد طحالبُ الكيلب العملاقة، التي يمكن لأوراقها السرخسية أن تستطيلَ لتبلغ ارتفاع ٥٠ مترًا، الأكبر بين طحالب سترامينوبيلس. تُعد الطلائعيات السناخية والطلائعيات الجذرية دون غيرِها من وحيدات الخلية. تتضمَّن الطلائعيات السناخية كلًّا من السوطيات الدوارة ضوئية التغذية وغير ضوئية التغذية وهي تُعد من الميكروبات العوالق الشائعة للغاية في المياه العذبة والبيئات البحرية، والشعاعيات والمثقبات (الفورامينيفرا) مجموعتان تندرجان ضمنَ الطلائعيات الجذرية.

يُعتبَر الكثيرُ من الطحالب الخضراء من الكائنات الحية الدقيقة وترتبط بالنباتات التي تندرج معها ضِمن مجموعة «الصانعات العريقة» الرئيسية. تتضمَّن الطحالب الخضراء المجهرية كراتٍ طافيةً صغيرة؛ أي طحالب كلاميدوموناس، وخلايا أخرى تُشكِّل خلايا سوطيَّة، وطحالب الدسميد نَجْمية الشكل رائعة الجمال، ومستعمرات طحالب فولفوكس متعددة الخلايا. تتضمَّن الطلائعيات الكهفية طحالبَ اليوجلينات والطفيليات المعوية جيارديا التي تنتشر عن طريق الماء الملوَّث.

خلفيات السوط هي المجموعة الرئيسية الثامنة من حقيقيات النواة التي تشمل الفطرياتِ والحيوانات. لا يمكن لأحدٍ إنكارُ أوجه التشابه الوراثية بين أشكال الحياة المتفاوتة ظاهريًّا هذه، ونشترك نحن البشر معها في العلامة الممَيِّزة الشائعة المتمثلة في الخلايا السوطية. تسبح الأبواغ السوطية القادرةُ على الحركة في الفطريات البحرية باستخدام سوطٍ واحد، في حين تُنتج الحيواناتُ أنواعًا عديدة من الخلايا السوطية (توصَف الخلايا بأنها مهدبة عندما تحتوي على العديد من الأسواط). مُيِّز أكثرُ من ٧٠ ألفَ نوع من الفطريات وقد يتجاوز عددُها الإجمالي المليون. بالإضافة إلى الأنواع البحرية القادرة على الحركة، تنمو الفطريات في صورة خمائرَ وحيدة الخلية تتكاثر عن طريق التبرعُم، أو في صورةِ مستعمَرات من خلايا خيطية يمكنها الانتشارُ على مساحات واسعة من الأراضي. يُعيد إنماء فطر عيش الغراب، بواسطة الفطريات الدِّعامية، توزيع الكتلة الجوفية الحيوية، التي تتراكم خلال مرحلةِ تغذية المستعمرة، في هيئة أجسام ثمرية فوق سطح الأرض بغرضِ تكوين الأبواغ ونشرها. لا تُنتج الغالبيةُ العظمى من الفطريات أيَّ تراكيبَ تُرى بالعين المجردة وتُكوِّن الأبواغَ على سطح مستعمراتها مباشرةً.

من الاستنتاجات المذهلة من منظور تقسيم حقيقيات النواة إلى مجموعات رئيسية أن الكائنات الحية الكبيرة تُمثل نسبة ضئيلة جدًّا من التنوع الحيوي. فالنباتاتُ والحيوانات هي الكائنات الحية الكبيرة الوحيدة في حينِ تُمثل الكائنات الحية الدقيقة الغالبيةَ العظمى من المحيط الحيوي. تُعرف النباتات بأنها كائناتٌ حية كبيرة توجد ضِمن الصانعات العتيقة. وعلى الرغم من أنه يمكن رؤية معظم الحيوانات بالعين المجردة، فإن كُلًّا من ديدان التربة الخيطية والعوالق من القشريات والدوارات وعُثِّ الغبار أمثلةٌ على الحيوانات المجهرية أو شبهِ المجهرية. ويُبَت في تنظيم هذه المجموعات الرئيسية بفحصِ تتابُع في الحمض النووي يُسمى المنطقة آي تي إس. تحمل منطقة آي تي إس شفرةَ ثلاثةِ مكوِّنات مختلفة من الريبوسوم (أداة إنتاج البروتين) في حقيقيات النواة وتصل بين تتابعات الحمض النووي المتداخلة التي تُسمَّى الفواصل الداخلية المنسوخة. وقد أظهر هذا أن خلفيات السوط والأميبيات ينحدران من سلفٍ مشترك، وأن ثَمة أصلًا آخَر يُوحِّد كلًّا من السترامينوبيلس والطلائعيات السناخية والطلائعيات الجذرية، ويُرجعها إلى حقيقيات النواة البدائية. كلُّ مجموعة رئيسية من المجموعات الثلاثة المتبقية تربطها علاقةُ نَسَبٍ مختلفةٌ بهذا الجَدِّ الأعلى. بالإضافة إلى قيمة تضخيم تتابعات الحمض النووي الريبوزي الريبوسومي في الأبحاث التطورية، فإنه يُعد مفيدًا في تحليل العينات البيئية؛ إذ يُكمل عملية تحديد بدائيات النواة من تتابعات الحمض النووي الريبوزي الريبوسومي 16S. كما هو الحال في بدائيات النواة، العديد من الكائنات الدقيقة حقيقية النواة لا يمكن زراعتها، ومن الصعب جدًّا التمييزُ بين الأنواع باستخدام المجهر. يتجلى الانحياز لصالح الحيوانات والفطريات والنباتات في الدراسات المَسْحية حول التنوع الحيوي من التحليل الوراثي للعينات المأخوذة من البيئة، التي تكشف عن تنوعٍ مذهل من الميكروبات حقيقيةِ النواة وبدائية النواة. أسفرَ تكبيرُ الجينات الموجودة في عينات من التربة والماء المالح والماء العذب وحتى ماء الشرب المضاف إليه الكلور، عن اكتشافِ شعبةٍ جديدة من الفطريات وحيدةِ الخلية عام ٢٠١١، أُطلِقَ عليها اسمُ كريبتوميكوتا. ويبدو التنوعُ الوراثي في هذه المجموعة المبهمة الأنواع أكبرَ من جميع الفطريات التي كانت معروفة من قبل.

على عكس آليَّة الأيض التي تقوم بها حقيقياتُ النواة، يتنوَّع تركيب حقيقيات النواة تنوُّعًا كبيرًا. بدءًا من سطح الخلية، تُكوِّن بعض الأميبيات أصدافًا واقيةً عن طريق ترتيب الجسيمات المعدِنية والبقايا الأخرى الموجودة على سطحها، وتُفرز الدياتومات جُدرانًا زجاجيةً جميلةً من السليكا تُسمَّى محارات دياتومية، وتُقوَّى الجدران الخلوية للفطريات باستخدام ليفياتٍ دقيقة من الكيتين. وتحتوي الخلية حقيقيةُ النواة في داخلها على النواة، وجهاز إفرازي مركَّب يُسمى جهاز الغشاء الداخلي، والميتوكوندريا، والفجوات العُصارية والعضيات الأخرى المحاطة بأغشية. أسواط حقيقيات النواة أكثرُ تعقيدًا من الأسواط في البكتيريا والعتائق. فهي تَبرز من الخلية مغلَّفةً بطبقةِ غشاء خَلوي، وتحتوي على سلسلةٍ من الخيوط الطويلة التي يُطلَق عليها الأنيبيبات الدقيقة التي تنزلق لأعلى ولأسفل مثل المكبس مُسببةً انحناءَ السوط. وحركة الأنيبيبات الدقيقة مدفوعةٌ ببروتين محرِّك يُسمى داينين. الأنيبيبات السوطية متجذرةٌ داخل الخلية حيث تتصل بهيكلٍ خلوي أكبرَ من الأنيبيبات، وشبَكةٍ من خيوط الأكتين الدقيقة. يشترك هذا الهيكلُ الخلوي الداخلي في عملية النمو والتطور، ويتحكم في حركة الكروموسومات وانقسام الخلية، ويُشكِّل نظامَ توجيهٍ للمواد التي تنتقل من سطح الخلية وإليها.

في العموم، الخلايا حقيقية النواة أكبرُ حجمًا من خلايا البكتيريا والعتائق؛ إذ تتراوح بين ١٠ و١٠٠ ميكرومتر (أو ٠٫١مم). يمكن دراسة الخلايا حقيقيَّةِ النواة بتكبيراتٍ منخفضة باستخدام المجهر الضوئي. في المقابل، تبدو البكتيريا كأنها تَشويش في الخلفية عند مثلِ هذه الدرجات من التكبير. لهذا السبب، يستخدم علماءُ الأحياء الدقيقةِ غالبًا عدسةً شيئيَّة بقوةِ تكبير تُعادل ١٠٠ ضِعف، بالإضافة إلى عدسةٍ عينية بقوةِ تكبير مقدارها ١٠ أضعاف؛ لإحصاء البكتيريا ورصدِ حركتها وتسجيلِ نتائج عملية صبغة جرام. وحتى عند مقدار التكبير الإجمالي الذي يُعادل ١٠٠٠ ضِعف تكون التراكيبُ داخل البكتيريا غيرَ مرئية، لكن التباينات في شكل الخلية تكون واضحة. يكون المجهر الضوئيُّ العادي على وشك التعرُّف على أصغرِ الخلايا التي تُنتجها المفطورات (٠٫٢ ميكرومتر أو ٢٠٠ نانومتر). وذلك لأنها أصغرُ من نصف الطول الموجيِّ للضوء المرئي، ولا تُنتج أنماطًا منفصلة من الضوء المتفرق تُمكِّننا من رؤية أجسام منفصلة (يبلغ أقصرُ طولٍ موجي مرئي عند الطرَف البنفسجي من الطيف ٣٩٠ نانومتر). يتراوح حجم الفيروسات بين ٢٠ و٦٠٠ نانومتر، وهو ما يجعل معظمَها غير مرئي تحت المجهر الضوئي. والطول الموجي الأقصر بكثير لحُزمة الإلكترونات المستخدَمة في المجاهر الإلكترونية يعطي قوةَ تكبير مقدارها مليون ضِعف، موضحًا تراكيبَ يبلغ قُطرها ٠٫١ نانومتر ويكشف عن تفاصيلِ التركيب الفيروسي.

fig8
شكل ١-٨: تركيبٌ لفيروس يُظهِر الغِلاف الخارجي الدهني مرصَّعًا بالجليكوبروتينات، والغلاف البروتيني للفيروس، والجينوم في منتصف الجزيء، ويكون مشفرًا إمَّا في صورة شريط دي إن إيه، أو آر إن إيه.
لا تُعد الفيروسات من الكائنات الحية لأنها تفتقرُ إلى عملية الأيض الخاصةِ بها، ولا بد أن تُصيب خلايا حيةً كي تتكاثر. بالإضافة إلى عملية العدوى الأولية، تحدث جميعُ الأنشطة الحيوية للفيروس داخل جسم العائل. استخدم بعضُ العلماء مصطلح «كائن جُزيئي» لوصف الفيروسات وهو مفيدٌ لتمييزها عن بدائيات النواة وحقيقيات النواة أو «الكائنات الخلوية». يكون الدي إن إيه أو الآر إن إيه الفيروسيُّ معبَّأً داخل غلافٍ بروتيني يُسمى الغلافَ البروتيني للفيروس (شكل رقم ١-٨). وبعض الأغلفة البروتينية للفيروسات محاطةٌ بغشاءٍ أو غلاف دهني. ولقد عُدِّلَت هذه التوليفة البسيطة من التراكيب بحيث تُمكِّن الفيروسات من إصابة أيِّ كائن حي خلوي. يُهاجم كلٌّ من بكتيريوفاج دي إن إيه وبكتيريوفاج آر إن إيه البكتيريا؛ كما أن فيروسات دي إن إيه الخيطيةَ والمِغزَليةَ الشكلِ تُصيب العتائق، وتستهدف الفيروساتُ حقيقيات النواة وحيدة الخلية الموجودة في جميع المجموعات الرئيسية، والفطريات والنباتات والحيوانات. تتباينُ أحجام الجينومات كثيرًا. فجُزيء دي إن إيه مفرَدُ الشريط لفيروسٍ حلقي يُسبب العدوى للحيوانات يحمل شفرةَ بروتينَين فقط: أحدهما يُمثل الوحدة الفرعية المجمَّعة داخل الغلاف البروتيني للفيروس، والآخر يدخل في عملية نَسْخ دي إن إيه الفيروس الحلقي داخل خلية العائل. وعلى النقيض من أحجام الجينومات الفيروسية توجد جينومات الفيروسات المحاكية التي تحمل شفرةَ أكثرَ من ١٠٠٠ بروتين. تُصنَّف الفيروسات المحاكية باعتبارها فيروسات دي إن إيه كبيرةً نوويةً سيتوبلازمية. لهذه الفيروسات المركَّبة طبقةٌ دهنية داخل الغلاف البروتيني للفيروس كما تحتوي على إنزيمات تُحفِّز تخليق الدي إن إيه ونسْخَه. بل إنها أيضًا تنتج إنزيمات تتحكَّم في العديد من تفاعلات الأيض، وهو ما يجعل من الصعب تحديدَ ما إذا كانت كائناتٍ جزيئيةً أم خلوية.

تَنتج بعض حالات العدوى الفيروسية عن اندماجِ جينات فيروسية في جينوم العائل. يُطلَق على هذا النمط الكامنِ للفيروس اسمُ كمون طليعة الفيروس. يمكن للفيروسات أن تحمل المعلوماتِ الوراثيةَ من عائلٍ لآخَر، وبذلك تعمل على النقل الأفقيِّ للجينات.

هذه العمليات مفيدة للغاية للتطور؛ فهي تُغيِّر الصفات الوراثية للكائنات الحية، وتُتيح للعوائل المصابة بالعدوى أن تنقل جيناتٍ ذاتَ أصل فيروسي عن طريق آليات التكاثر الخاصة بها. على سبيل المثال، قد يحتوي الحمضُ النووي البشري على ١٠٠ ألف جزء لجينات من فيروسات راجعة داخلية، تُمثل ٨ بالمائة من الجينوم البشري. تلعب الفيروسات أيضًا دورًا مِحوريًّا في النظام البيئي العالمي. إذ يحتوي مليمتر واحدٌ من ماء المحيط الأطلنطي على ١٥ مليونًا من البكتيريوفاج التي تُدمر ما يُقَدَّر بنحو ٤٠ بالمائة من البكتيريا الزرقاء العالقة كلَّ يوم. توجد الفيروسات في كل مكان كما أنها تحمل بداخلها قدرًا كبيرًا من التنوع الجيني الموجود في المحيط الحيوي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤