الفصل الثاني

نهضة الديناصورات

اكتشاف «المخلب الرهيب»

في صيف عام ١٩٦٤ كان جون أوستروم ينقِّب عن حفريات في صخور طباشيرية بالقرب من بلدة بريدجر بولاية مونتانا، وجمَعَ بقايا متجزئة لديناصور مفترس جديد وغير مألوف، ومع استمراره في عملية الجمع حصل على بقايا أكثر اكتمالًا، وبحلول عام ١٩٦٩ تمكَّنَ أوستروم من وصف هذا الديناصور الجديد بتفاصيل كافية وأطلق عليه اسم داينونيكس (أي المخلب الرهيب)؛ نسبةً إلى مخلبه المعقوف بطريقة مؤذية، الذي يشبه الخُطَّاف الحديدي، والموجود في قدمَيْه الخلفيتين.

كان الداينونيكس (الشكل ٢-١) ديناصورًا مفترسًا متوسط الحجم (يتراوح طوله بين مترين وثلاثة أمتار)، وينتمي إلى فئة تُعرَف باسم الثيروبودات. أشار أوستروم إلى عدد من الصفات التشريحية غير المتوقَّعة، وقد هيَّأت هذه الصفاتُ الساحةَ الفكريةَ لثورةٍ حطَّمَتِ الآراءَ الراسخة إلى حدٍّ ما في ذلك الوقت عن الديناصورات، بوصفها كائناتٍ عتيقةً وغابرةً شقَّتْ طريقَها بتثاقُل حتى انقرضت في نهاية حقبة الحياة الوسطى.

مع هذا، كان أوستروم مهتمًّا بفهم التكوين الحيوي لهذا الحيوان المحيِّر أكثر من مجرد سرْدِ سمات هيكله العظمي. كان هذا الأسلوب بعيدًا كلَّ البُعد عن اللقب التحقيري «جمع الطوابع» الذي أُطلِق على عِلم الحفريات، ويشبه طريقةَ لويس دولو في محاولاته المبكرة لفهم التكوين الحيوي للهياكل العظمية الأولى المكتمِلة لديناصور إجواندون (الفصل الأول). يوجد كثير من الأمور المشتركة بين هذا الأسلوب والطب الشرعي الحديث؛ إذ إنه يسعى إلى جمع كمٍّ كبير من الحقائق من عدد من المجالات العلمية المختلفة، من أجل التوصُّل إلى تفسير دقيق — أو فرضية — على أساس الأدلة المتاحة، وهذه إحدى القوى المُحرِّكة المتعدِّدة وراء علم الدراسة الحيوية للحفريات في عصرنا الحالي.

fig16
شكل ٢-١: (في الأعلى): ثلاثة أشكال للهيكل العظمي للديناصور داينونيكس. (في الأسفل): رسم تخطيطي لديناصور أركيوبتركس دون ريش لإظهار وجه الشبه الأساسي بينه وبين عائلة الثيروبودات.

سمات الداينونيكس

(١) من الواضح أن الحيوان كان ثنائي القدمَيْن (يجري على قدمَيْه الخلفيتين فقط)، وكانت قدماه طويلتين ونحيفتين.

(٢) كانت قدماه مميَّزتين؛ فمن بين الأصابع الثلاث الضخمة الموجودة في كل قدم، كان إصبعان فقط مصمَّمَتَيْن لتُستخدَمَا في السير، والإصبع الداخلية كانت تبعد عن الأرض و«منتصبةً» كما لو كانت جاهزةً للانقضاض (تشبه قليلًا نسخةً ضخمةً من المخالب الحادة القابلة للطيِّ والانكماش في كفِّ القطة).

(٣) يوازن الجزءَ الأمامي من جسم الحيوان عند وَرِكه ذيلٌ طويل، إلا أن هذا الذيل لم يكن من النوع العضلي الضخم المتوقَّع وجوده عادةً في هذه الأنواع من الحيوانات، وإنما كان من النوع المَرِن ويحتوي على عضلات بالقرب من الوركَيْن، حيث يضيق للغاية (بما يشبه العمود تقريبًا) ويستمِدُّ صلابتَه من مجموعةٍ من القوائم العَظْمية الرفيعة المنتشرة على طول الجزء المتبقي منه.

(٤) كان صدر الحيوان قصيرًا ومكتنزًا، وتخرج منه ذراعان طويلتان توجد في نهايتهما يدان بهما ثلاث أصابع ذوات مخالب حادة (للافتراس)، مثبتتان على معصمَيْن يسمحان لليدين بالتأرجح في قوسٍ منحنٍ (بما يشبه أيدي السرعوف المُتعبِّد (فرس النبي)).

(٥) كانت رقبة الحيوان نحيلة ومقوَّسة (تشبه إلى حدٍّ ما رقبةَ الإوزَّة)، لكنها تحمل رأسًا كبيرًا للغاية مزوَّدًا بفكَّيْن طويلين بهما أسنان حادة ومقوَّسة وقاطعة، وتجويفَيْن كبيرين للعينين بارزين للأمام على ما يبدو، وجمجمة أكبر بكثير من المتوقَّع.

استنتاج التكوين الحيوي للداينونيكس وتاريخه الطبيعي

مع فحص الداينونيكس بهذا المنظور الخاص بالطب الشرعي، ما الذي يمكن أن تخبرنا به هذه السماتُ عن الحيوان وطريقة حياته؟

يؤكِّد الفكُّ والأسنان (الحادة ذات الحواف المقوَّسة والمنشارية) أن هذا الديناصور كان ضاريًا قادرًا على تقطيع فريسته وابتلاعها. كانت عيناه كبيرتين وجاحظتين للأمام، وربما أمَدَّتاه بقدر من الرؤية المجسَّمة، التي ربما كانت مثاليةً لتقدير المسافات بدقة؛ وهي سمة مفيدة للغاية للإمساك بفريسة تتحرك بسرعة، بالإضافة إلى فائدتها في رصد الحركات الرشيقة في مساحة ثلاثية الأبعاد. يساعد هذا الأمر — ولو جزئيًّا على الأقل — في تفسير الدماغ الكبير نسبيًّا (المتوقَّع ضمنيًّا من جمجمته الضخمة)؛ فلا بد أن تكون الفصوص البصرية كبيرةَ الحجم حتى تستطيع معالجةَ كثيرٍ من المعلومات البصرية المعقَّدة حتَّى يتمكَّن الحيوان من الاستجابة سريعًا، وكذلك لا بد أن تكون المناطق الحركية في الدماغ كبيرةً ومعقَّدةً؛ حتى تعالج الأوامرَ من مراكز الدماغ العليا، ثم تنسِّق الاستجابات العضلية السريعة للجسم.

تأكَّدتِ الحاجةُ أكثرَ إلى دماغ معقَّدٍ عند دراسة البنية الخفيفة والأبعاد النحيفة لقدميه، اللتين تشبهان أقدامَ الحيوانات السريعة الحركة في عصرنا الحالي، وتشيران إلى أن الداينونيكس كان عدَّاءً. يعكس صِغَرُ حجمِ كلِّ قدم (حيث كان يمشي على إصبعين فقط بدلًا من المشي الأكثر ثباتًا على ثلاث أصابع، بما له من تأثير أشبه بحامل «ثلاثي القوائم») ضرورةَ أن يكون إحساسه بالتوازن متطورًا على نحوٍ استثنائي، ويتأكَّد هذا أكثر من خلال حقيقة أن هذا الحيوان كان ثنائيَّ القدمين، ومن الواضح أنه كان يستطيع السيرَ باتزانٍ على قدمَيْن فقط (وهو إنجاز — كما يبرهن على ذلك الأطفال الرُّضَّع يوميًّا — يحتاج إلى تعلُّمٍ وإتقانٍ عن طريق التغذية الاسترجاعية بين الدماغ والجهاز العضلي الحركي).

فيما يتعلَّق بموضوع التوازن والتنسيق الحركي هذا، كان من الواضح أن كلَّ قدم في ديناصور «المخلب الرهيب» كانت تحتوي على سلاح هجومي، وهو ما يُستدَلُّ به على نمط الحياة الضاري لهذا الحيوان. لكن كيف كان يُستخدَم فعليًّا؟ يتبادر إلى الذهن احتمالان: أحدهما أنه كان يستطيع توجيه ضربات قاطعة نحو فريسته بأيٍّ من قدميه، مثلما يفعل بعض الطيور الداجنة الكبيرة الحجم كالنعام والشبنم في عصرنا الحالي (يشير هذا ضمنيًّا إلى قدرته على التوازن على قدم واحدة من وقتٍ لآخَر). والبديل الآخَر أنه ربما كان يهجم على فريسته ركلًا بكلتا قدمَيْه معًا، عن طريق القفز عليها أو الإمساك بها بذراعَيْه، ثم توجيه ركلة مزدوجة قاتلة لها، وهذا الأسلوب الأخير في القتال يستخدمه الكنغر عند الصراع مع منافسِيه. ومن غير المحتمَل أن نتمكَّن من تحديد التخمين الأقرب إلى الحقيقة بين تلك التخمينات.

إن ذراعَيْه الطويلتين ويدَيْه ذواتَي المخالب الحادة، قد تكون كلَّابات فعَّالة تفيد في الإمساك بالفريسة وتقطيعها إربًا في أيٍّ من هذين التصوُّرين لطريقة الإمساك بالفريسة، كما أن الحركة المائلة المثيرة للاهتمام التي تساعد في تحقيقها مفاصِلُ المِعْصَم، تدعم قدراتِ الافتراس هذه كثيرًا. بالإضافة إلى ذلك، فإن الذيل الطويل الشبيه بالسوط ربما يؤدِّي وظيفةَ الدعامة — مثل العصا التي يحملها المهرِّجُ عند سيره على حبلٍ مشدود — من أجل مساعدته في الاتزان عند توجيه الضربات لفريسته بقدم واحدة، أو ربما يكون بمنزلة أداة توازُن فعَّالة، تتأكَّد فاعليتها عند مطاردة فريسة سريعة الحركة بإمكانها تغيير اتجاهها بسرعة كبيرة، أو عند الانقضاض على الفريسة.

في حين أن هذا ليس تحليلًا تفصيليًّا للداينونيكس بوصفه كائنًا حيًّا، فإنه يقدِّم لمحةً عن بعض الأفكار المنطقية التي جعلت أوستروم يستنتج أن الداينونيكس كان ديناصورًا ذا بِنْية جسمانية قوية، وحركته منسَّقة على نحو مذهل، وربما كان أيضًا حيوانًا مفترسًا ذكيًّا. لكن لماذا يُعتبَر اكتشافُ هذا الكائن مهمًّا للغاية في مجال الدراسة الحيوية لحفريات الديناصورات؟ للإجابة عن هذا السؤال، من الضروري الحصول على رؤيةٍ أشمل عن الديناصورات بأكملها.

النظرة التقليدية للديناصورات

طوال الجزء الأول من القرن العشرين، كان يُفترَض على نطاق واسع (وربما لسبب منطقي تمامًا) أن الديناصورات مجموعة من الزواحف المنقرضة. لا يمكن إنكارُ أنَّ بعضًا منها كان ضخمَ الحجم للغاية أو غريبَ الشكل مقارَنةً بالزواحف الحديثة، لكنها ظلَّت في الأساس من الزواحف. أكَّد ريتشارد أوين (وجورج كوفييه مِن قَبله) أن الديناصورات من الناحية التشريحية كانت أكثرَ شبهًا بالزواحف الحية، مثل السحالي والتماسيح؛ وعلى هذا الأساس، وُضِعَ استنتاجٌ منطقيٌّ بأن معظم صفاتها الحيوية ستكون مشابِهةً — إن لم تكن مطابِقةً — لصفات الزواحف الحية؛ فقد كانت تضع بيضًا له قشرة صلبة، ولديها جلد مغطًّى بالحراشف، ومن الناحية الفسيولوجية كانت تنتمي إلى الحيوانات ذوات «الدم البارد» أو الخارجية التنظيم الحراري.

للمساعدة في إثبات صحة وجهة النظر هذه، اكتشف روي تشابمان أندروز أن الديناصورات المنغولية كانت تضع بيضًا له قشرة صلبة، وحدد لويس دولو (وآخرون غيره) سماتٍ بشأن جلودها الحَرْشَفية؛ لذا، كان من المتوقَّع أن تشبه هذه الديناصورات من الناحية الفسيولوجية بوجهٍ عامٍّ، الزواحفَ التي تعيش في عصرنا الحالي. لم يؤدِّ هذا المزيجُ من الصفات إلى تكوين رؤية استثنائية تمامًا عن الديناصورات؛ فهي حيوانات ضخمة وحَرْشَفية، لكنها في الأساس كائناتٌ بطيئةُ الفهم وكسولةٌ، يُزعَم أن عاداتها تشبه عاداتِ السحالي والثعابين والتماسيح، التي لم يرَ معظمُ علماء الأحياء غيرَها قطُّ في حدائق الحيوان. تمثَّل اللغزُ الوحيد في أن الديناصورات كانت أكبر حجمًا بكثيرٍ من أكبر التماسيح المعروفة.

ورد العديد من صور الديناصورات في كتب شهيرة وعلمية، تصوِّر الديناصورات وهي تتقلَّب في المستنقعات، أو وهي تجلس القرفصاء كما لو أنها بالكاد تتحمَّل أجسامَها الضخمة. أيَّدَتْ تلك المفاهيمَ بعضُ الأمثلة الجديرة بالذكر، مثل ديناصورَيْ ستيجوصور وبرونتوصور لأوثنيل تشارلز مارش؛ فقد تمتَّعَ كِلا الديناصورين بجسم ضخم ودماغ متناهي الصغر (حتى إنَّ مارش علَّقَ — في حالة من عدم التصديق — على التجويف الدماغي الذي «في حجم حبة الجوز» للستيجوصور). كان الستيجوصور يعاني نقصًا شديدًا في القدرة العقلية، حتى إنه كان من الضروري اختراع «عقل ثانٍ» له في منطقة الوركَيْن، ليكون بمنزلة محطة احتياطية أو محطة لإعادة إرسال المعلومات من أجزاء الجسم البعيدة، ويؤكِّد هذا بدوره «غباء» أو «بساطة تفكير» الديناصورات دون أدنى شكٍّ معقول.

في حين أن الأدلة المُقارَنة تدعم بلا شكٍّ هذا المفهومَ بعينه عن الديناصورات، فإنها تجاهلَتِ الملاحظاتِ المتناقضةَ — أو ببساطة قلَّلَتْ من أهميتها — فديناصورات كثيرة، مثل ديناصور كومبسوجناثز الصغير الحجم (الشكل ١-١١)، كانت تُعرَف بخفة وزنها وقدرتها على الحركة السريعة؛ ويُفهَم ضمنيًّا من هذا أنها تمتَّعَتْ بمستويات من النشاط لا تشبه بالأحرى ما لدى الزواحف.

في ضوء هذه المجموعة من الآراء السائدة وملاحظات أوستروم وتفسيراته المبنية على ديناصور داينونيكس، يمكننا أن نعرف بسهولةٍ أكبر الكيفيةَ التي كان يستخدم بها هذا الكائنُ عقلَه؛ فقد كان الداينونيكس مفترسًا سريع الحركة وكبير الدماغ نسبيًّا، قادرًا على الركض على قدمَيْه الخلفيتين والانقضاض على فريسته؛ من الناحية المنطقية لم يكن هذا الديناصور نوعًا عاديًّا من الزواحف.

تبنَّى روبرت باكر — أحد تلاميذ أوستروم — هذه الفكرةَ عن طريق ردِّه الشديد على وجهة النظر القائلة بأن الديناصورات كائنات كسولة وغبية؛ فأشار باكر إلى وجود أدلة مُقنِعة على أن الديناصورات أكثر شبهًا بالثدييات والطيور الحالية. ولا بد ألَّا ننسى أن هذه الحُجَّة تحاكي تعليقات ريتشارد أوين البعيدة النظر على نحوٍ لا يُصدَّق في عام ١٨٤٢، عندما تخيَّلَ لأول مرة فكرة وجود الديناصورات. تُعتبَر الثدييات والطيور كائنات «مميَّزة»؛ لأنها تستطيع الحفاظَ على مستويات نشاط مرتفعة تُعزَى إلى طبيعتها الفسيولوجية، بوصفها من ذوات «الدم الحار» أو ثابتة الحرارة. تحافظ الكائنات الحية من ذوات الدم الحار على درجة حرارة الجسم مرتفعةً وثابتةً، وتتمتع برئتين على قدر كبير من الكفاءة من أجل الحفاظ على مستويات ثابتة من النشاط الهوائي، ولديها القدرة على التصرُّف بنشاط كبير أيًّا كانت درجة الحرارة المحيطة بها، ولديها أدمغةٌ كبيرة ومعقَّدة؛ وجميعها صفاتٌ تميِّز الطيور والثدييات عن الفقاريات الأخرى الموجودة على الأرض.

إنَّ نطاق الأدلة التي استخدمها باكر مهمٌّ عند التفكير فيه من منظورنا الحالي الأكثر «انضباطًا» بعض الشيء عن الدراسة الحيوية للحفريات. استعان باكر بالملاحظات التشريحية لأوستروم — التي تتفق مع أوين من قبله — ووجد أنه:
  • (١)

    للديناصورات أرجل منسَّقة مثل الدعامات تحت أجسامها (تمامًا مثل الثدييات والطيور)، وليست أرجلًا على جانبي الجسم، كما يُرَى في حالة السحالي والتماسيح.

  • (٢)

    لبعض الديناصورات رئتان معقَّدتان تشبهان ما لدى الطيور، ربما سمحت لها بالتنفُّس بكفاءة أعلى، وهو ما كانت تحتاجه كائناتٌ عاليةُ النشاط مثلها.

  • (٣)

    تستطيع الديناصورات — بناءً على أبعاد أطرافها — الركضَ بسرعة كبيرة (على عكس السحالي والتماسيح).

مع هذا، أشار باكر — في اقتباسٍ من مجالات علم الأنسجة وعلم الأمراض والفحص المجهري — إلى أنه عندما فحص مقاطعَ رفيعةً من عظام أحد الديناصورات تحت المجهر، توافر لديه دليل على وجود تركيبٍ معقَّدٍ، وإمدادٍ غني بالدم سمح بدوران المعادن الأساسية بين العظام وبلازما الدم — يضاهي تمامًا ما نراه لدى الثدييات في عصرنا الحديث.

الْتَفتَ باكر إلى مجال علم البيئة، فحلَّلَ الوفرةَ النسبية للحيوانات المفترسة وفرائسها المفترضة بين عينات الحفريات، التي تعبِّر عن مجموعات موزَّعة بحسب المتوسط الزمني، بدءًا من السجل الحفري وحتى عصرنا الحالي. وبالمقارنة بين المجموعات الحديثة من ذوات الدم الحار (القطط) وذوات الدم البارد (السحالي المفترسة)، استنتج أن ذوات الدم الحار تستهلك — في المتوسط — عشرةَ أضعاف حجم الفريسة خلال الفترة الزمنية نفسها. وعندما درس المجموعات «البرمية» القديمة، عن طريق إحصاء الحفريات المنتمية للعصر البرمي في مقتنيات المتحف، لاحَظَ أن أعداد الحيوانات المفترسة المحتمَلة وفرائسها متشابِهةٌ إلى حدٍّ ما. وعندما فحص بعض مجموعات الديناصورات من العصر الطباشيري، لاحَظَ وجودَ عدد أكبر بكثير من الفرائس المحتمَلة مقارَنةً بعدد الحيوانات المفترسة، وتوصَّلَ إلى استنتاجٍ مشابهٍ بعد دراسة مجموعات من الثدييات منتمية للعصر الثلاثي.

باستخدام هذه النماذج التمثيلية البسيطة بكل تأكيد، افترض باكر أن متطلبات التمثيل الغذائي لدى الديناصورات (أو على الأقل الديناصورات المفترسة) كانت حتمًا أكثرَ شبهًا بمتطلباته لدى الثدييات؛ فلكي تحتفظ المجتمعات بقدر من التوازن، كان لا بد من توافر فرائس كافية لسد شهية الحيوانات المفترسة.

بحث باكر أيضًا داخل مجال الجيولوجيا والمجال «الجديد» للدراسة الحيوية للحفريات، عن أدلة حول التطوُّر الكلي (أنماط تغيُّر واسعة النطاق في وفرة الحفريات) مأخوذة من السجل الحفري؛ فحص باكر أوقات بداية ظهور الديناصورات وانقراضها من أجل البحث عن أدلة قد تكون لها صلةٌ بتكوينها الفسيولوجي المُفترَض. تزامَنَ وقتُ ظهور الديناصورات — خلال أواخر العصر الترياسي (منذ ٢٢٥ مليون سنة) — مع وقت تطوُّر بعض الكائنات الأكثر شبهًا بالثدييات؛ حيث ظهر أول الثدييات الفعلية منذ نحو ٢٠٠ مليون سنة. افترض باكر أن السبب وراء تطوُّر الديناصورات حتى أصبحت فئةً ناجحةً، يرجع ببساطة إلى ظهور التمثيل الغذائي الثابت الحرارة لديها قبل الثدييات بوقت قليل؛ وإن لم يحدث هذا — على حدِّ قوله — فإن الديناصورات لم تكن لتتمكن أبدًا من التنافس مع الثدييات الأولى الفعلية من ذوات الدم الحار. وإمعانًا في دعم هذه الفكرة، أشار باكر إلى أن الثدييات الأولى الفعلية كانت صغيرةَ الحجم، وربما كانت كائناتٍ ليليةً تأكل الحشرات وتتغذَّى على الفضلات طوال حقبة الحياة الوسطى بأكملها، عندما سادت الديناصوراتُ الأرضَ، ولم يحدث التنوُّعُ المذهل في أشكالها الذي نعرفه اليومَ إلا بعد انقراض الديناصورات في نهاية العصر الطباشيري. على هذا الأساس — كما أشار باكر — كان «لزامًا» على الديناصورات أن تصبح من ذوات الدم الحار، وإلا لكانت الثديياتُ ذات الدم الحار التي يُزعَم أنها الثدييات «العُليا»، غزتِ الأرضَ وحلَّت محلَّ الديناصورات في أوائل العصر الجوراسي. بالإضافة إلى ذلك، عندما بحث باكر في وقت انقراض الديناصورات عند نهاية العصر الطباشيري (منذ ٦٥ مليون سنة)، اعتقد أن ثمة أدلةً على أن العالَمَ تعرَّض لفترة مؤقتة من انخفاض درجات الحرارة العالمية. ونظرًا لأن الديناصورات كانت — في رأيه — حيواناتٍ ضخمةً ومن ذوات الدم الحار و«عارية» (بمعنى أن أجسامها كانت مغطَّاة بالحراشف، ولم يكن لديها شعر ولا ريش يحافظ على دفء أجسامها)؛ لم تتمكَّن من النجاة من فترة التبريد السريع التي مرَّ بها المناخ، ومن ثمَّ انقرضت، أما الثدييات والطيور، فقد استطاعت أن تنجو وظلَّتْ على قيد الحياة إلى يومنا هذا. كانت الديناصورات ضخمة للغاية، ومن ثمَّ لم تتمكَّن من الاختباء في الجحور، كما فعلتِ الزواحف الحديثة التي من الواضح أنها نجتْ من الكارثة التي وقعت في العصر الطباشيري.

بالدمج بين كلِّ هذه الحُجج المنطقية، استطاع باكر أن يقترح فكرةَ أن الديناصورات كانت أبعد ما يكون عن الكسل والغباء؛ فالديناصورات كانت كائنات ذكية وعلى درجة كبيرة من النشاط، سرقَتْ سيادةَ العالم من قبضة الثدييات العُليا على مدى اﻟ ١٦٠ مليون سنة المتبقية من حقبة الحياة الوسطى. وبدلًا من أن تُطرَد من العالَم بالظهور التطوُّري للثدييات العُليا، تخلَّتْ عن سيادتها بسبب حادثة مناخية غريبة وقعت منذ ٦٥ مليون سنة.

من المفترض أن يكون قد اتضح الآن أن برنامجَ العمل البحثي لعلم الدراسة الحيوية للحفريات أكثرُ اتساعًا إلى حدٍّ ما من الناحية الفكرية، فلم يَعُدْ بإمكان «الخبير» الاعتماد على معرفة متخصِّصة في مجال خبرته الضيق. مع هذا، لا ينتهي هذا الجزء من القصة هنا، فقد لعب جون أوستروم دورًا مهمًّا آخَر في هذه الملحمة.

أوستروم والطائر الأول: أركيوبتركس

بعدما وصف أوستروم الداينونيكس، استمر في فحص الصفات الحيوية للديناصورات، وفي أوائل السبعينيات من القرن العشرين حدث اكتشاف بسيط في أحد المتاحف في ألمانيا، كان من شأنه أن يعيده إلى صدارة بعض المناقشات المحتدمة؛ فبينما كان أوستروم يفحص مجموعات من الزواحف الطائرة، لاحَظَ أن إحدى العيِّنات — التي استُخرِجت من محجر في بافاريا — لم تكن لأحد التيروصورات — أو الزواحف الطائرة — كما كان يشير الملصق الموجود عليها؛ كانت جزءًا من إحدى الأرجل يضمُّ الفخذَ ومفصلَ الركبة وقصبةَ الساق. ذَكَّرَ شكلُها التشريحيُّ المُفصَّلُ أوسترومَ بالداينونيكس، وعند فحصها عن قرب استطاع رؤيةَ آثار ريش طفيفة! من الواضح أن هذه كانت عيِّنةً غيرَ مُتعرَّف عليها للطائر الأول الخرافي أركيوبتركس (الشكل ١-١٠). تحمَّس أوستروم كثيرًا لاكتشافه الجديد، وارتبك بطبيعة الحال للتشابُه الواضح مع الداينونيكس، فشرع يدرس مجددًا كلَّ عينات الأركيوبتركس المعروفة بعناية.
كلما درس أوستروم الأركيوبتركس، زاد اقتناعُه بمدى التشابُه التشريحي بين هذا الكائن وديناصور الداينونيكس المفترس الأكبر حجمًا بكثير الذي اكتشفه (الشكل ٢-١). دفعه هذا إلى إعادة تقييم الأبحاث المهمة والموثوق بها في هذا الوقت، عن أصل الطيور التي كتبها عالِم الطيور والتشريح جيرهارد هيلمان في عام ١٩٢٦؛ فقد دفعتْ أوجهُ الشبه التشريحية العديدة بين ديناصورات الثيروبودا الآكِلة لِلُّحوم والطيور الأولى أوستروم، إلى التشكيك في استنتاج هيلمان المطروح في هذه الأبحاث بأن أوجه الشبه هذه نتجت فقط عن التقارُب التطوُّري.
fig17
شكل ٢-٢: مقارَنة عظامِ الترقوة لكلٍّ مما يلي: (أ) ديناصورات الثيروبودا الأولى، (ب) ديناصور الأركيوبتركس (عظام الترقوة ملتحمة معًا)، (ﺟ) الطيور الحديثة.

تمكَّن أوستروم — مدعومًا بمزيدٍ من الاكتشافات الحديثة لديناصوراتٍ حول العالَم — من إثبات أن عددًا من الديناصورات امتلك بالفعل عظامَ ترقوة صغيرة؛ وبذلك أزاحَ بضربة واحدة عائقًا كبيرًا وضعه هيلمان أمام انتساب الطيور في الأصل للديناصورات. تشجَّع أوستروم باكتشافه هذا وملاحظاته المفصَّلة على الثيروبودات والأركيوبتركس، وشنَّ هجومًا شاملًا على نظرية هيلمان في سلسلةٍ من المقالات في أوائل سبعينيات القرن العشرين، وأدى هذا إلى التقبُّل التدريجي للغالبية العظمى من علماء الحفريات لانتساب الطيور لديناصورات الثيروبودا، وهو استنتاج كان من شأنه دون شكٍّ أن يُسعِد هكسلي بعيدَ النظر ويُغضِب أوين كثيرًا.

زاد التشابُه التشريحي — ومن ثمَّ الحيوي — الوثيقُ بين الثيروبودات والطيور الأولى، من حدة الجدل الدائر حول حالة التمثيل الغذائي لدى الديناصورات؛ فالطيور كائنات من ذوات الدم الحار وعلى درجة كبيرة من النشاط، وربما كانت ديناصورات الثيروبودا تمتلك أيضًا تمثيلًا غذائيًّا عاليَ المستوى. ومن ثمَّ، أصبح الحدُّ الفاصل الذي كان واضحًا في وقتٍ ما بين الطيور المكسوَّة بالريش — من حيث تشريحها وتكوينها الحيوي المميِّز اللذان جعلَاها منفصلةً عن أنواع الفقاريات الأخرى، بوصفها فئةً مميزةً تُسمَّى فئة الطيور — وبين الأعضاء الأُخَر الأكثر نمطيةً في فئة الزواحف (التي تنتمي إليها الديناصورات بوصفها إحدى مجموعاتها المنقرضة)؛ أصبح هذا الحدُّ ضبابيًّا وغيرَ واضح على نحوٍ مثير للقلق، وأصبح هذا الخطُّ الضبابي ملحوظًا أكثرَ في السنوات الأخيرة (كما سنرى في الفصل السادس).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤