الفصل السادس

ماذا لو كانت الديناصورات هي أصل الطيور؟

نتيجةً لعمل جون أوستروم الرائع في سبعينيات القرن العشرين، أصبح حاليًّا الدليلُ التشريحيُّ على وجود علاقة بين الديناصورات والطيور مفصَّلًا للغاية؛ بحيث صار ممكنًا إعادةُ تكوين المراحل التي يمكن أن يتحوَّل خلالها الدرومايوصور الثيروبودي إلى شكلٍ من أشكال الطيور الأولى.

كانت الثيروبودات الأولى الصغيرة الحجم، مثل كومبسوجناثز، تشبه في مظهرها الطيورَ؛ فكانت لديها أرجل طويلة ونحيلة، ورقبة طويلة، ورأس صغير إلى حدٍّ ما، وعينان كبيرتان للغاية تنظران فقط إلى الأمام، هذا على الرغم من احتفاظها الواضح بسمات الديناصورات، مثل الأيدي ذات المخالب والأسنان الموجودة داخل الفك والذيل الطويل الضخم.

الدرومايوصوريات الثيروبودية

يظهر على الديناصورات التي تشبه الطيور عددٌ من التغيُّرات التشريحية المثيرة للاهتمام على المخطط الأساسي لجسم الثيروبود؛ بعض هذه التغيرات واضح للغاية، وبعضها أقل وضوحًا.

كانت إحدى السمات البارزة «قلة سُمْك» الذيل؛ فقد أصبح الذيلُ أقلَّ سُمكًا وتقوِّيه مجموعاتٌ من العظام الطويلة والرفيعة، والجزء المَرِن الوحيد فيه هو القريب من الوركين (الشكل ٢-١، الصورة العليا). وكما أشرنا من قبلُ، فإن هذا الذيل الرفيع الذي يشبه العمود ربما كان مهمًّا حيث عمل كأداة اتزان عند التحرك، من أجل المساعدة في التقاط الفرائس السريعة الحركة والمراوِغة. مع هذا، فإن الذيل من هذا النوع قد غيَّرَ كثيرًا من وقفة هذه الحيوانات ووضعيتها؛ لأنه لم يَعُدْ دعامةً ثقيلة ومليئة بالعضلات للنصف الأمامي من الجسم. لو لم تحدث تغيُّرات أخرى في وضعية هذا الديناصور، لَكان من الممكن أن يصبح هذا الديناصور كائنًا غيرَ متوازن، ومائلًا طوال الوقت إلى الأمام حتى أنفه.

للتعويض عن فقدان الذيل الثقيل، تغيَّرت أجسامُ هذه الثيروبودات ببراعة؛ فعظمةُ العانة — التي تشير إلى آخِر جزء من الأمعاء، وعادةً ما يكون اتجاهُها إلى الأمام وإلى الأسفل من كل تجويف في وركَيِ الثيروبودات — استدارَتْ إلى الخلف بحيث أصبحَتْ موازيةً لعظم الإسك (عظمة الورك السفلى الأخرى). وبسبب هذا التغيُّر في الاتجاه، يمكن أن تتأرجح الأمعاء والأعضاء المرتبطة بها إلى الخلف لتقع تحت الوركين؛ أدَّى هذا التغيُّر إلى تحويل وزن الجسم إلى الخلف، وعوَّض هذا عن فقدان الذيل الثقيل الذي يساعد في حفظ التوازن. يُرى هذا الترتيب لعظام الورك، مع استدارة عظام العانة إلى الخلف، لدى الطيور الموجودة حاليًّا وحفريات الطيور السابقة، ويُرى أيضًا لدى الدرومايوصوريات الثيروبودية.

ثمة طريقة أخرى على القدر نفسه من التميُّز للتعويض عن فقدان الذيل الموازِن للجسم، وهي تقليص حجم الصدر أمام الوركين، ويُرى هذا أيضًا لدى الثيروبودات الشبيهة بالطيور. يُظهِر الصدر أيضًا علاماتٍ على تصلُّبه، وربما يعكس هذا عاداتِ الافتراس لدى هذه الحيوانات. كان للذراعين الطويلتين واليدين ذواتَي المخالب الثلاثة أهميةٌ في التقاط الفرائس وإخضاعها، وكان لا بد من تمتُّعها بالقوة الشديدة. تعزَّزَتْ بلا شكٍّ منطقةُ الصدر من أجل المساعدة في تثبيت الذراعين والكتفين بإحكام لتتحمَّل القوى الكبيرة المتعلِّقة بالقبض على الفريسة وإخضاعها. تتمتَّع الطيور كذلك بمنطقة صدر قصيرة وصلبة للغاية من أجل تحمُّل القوى المتعلقة بتثبيت عضلات الطيران القوية.

في الجزء الأمامي من الصدر، بين مفاصل الكتفين، توجد عظمة على شكل الرقم ٧ (هي في الواقع عظام الترقوة المندمجة، الشكل ٢-٢) تعمل بمنزلة فاصل يشبه الشريط المطاطي ويفصل بين الكتفين، وقد ساعدت أيضًا في تثبيت الكتفين في مكانهما عندما تتصارع هذه الحيوانات مع فريستها. تحتوي أجسام الطيور أيضًا على عظام الترقوة المندمجة هذه؛ فهي تشكِّل «عظمة ترقوة» طويلة، أو عظمة الفريقة، التي تعمل كشريط مطاطي آلي يفصل بين مفصلَيِ الكتفين عند الخفقان في أثناء الطيران.

تغيَّرت أيضًا المفاصلُ بين عظام الذراع واليد، بحيث يمكن تحريكها نحو الخارج وإلى الأسفل بسرعة وقوة كبيرتين، من أجل توجيه ضربةٍ للفريسة فيما أُطلِق عليه اسم عملية «تمشيط». ويمكن ثَنْيُ الذراعين أمام الجسم عند عدم استخدامهما. كانت قوةُ هذا النظام وفاعليتُه ذواتَيْ نفعٍ كبير أيضًا لهذه الكائنات؛ لأن عضلات الذراع التي تدير هذه الآلية كانت تقع بالقرب من الصدر، وكانت تحرِّك أوتارًا طويلة تمتد على طول الذراع حتى اليد (بدلًا من وجود العضلات بعيدًا على طول الذراع)، وقد حافظ نظام التحكُّم عن بُعْدٍ هذا في إبقاء ثقل الجسم بالقرب من الأرداف، وساعَدَ في تقليل مشكلة التوازن الدقيقة في حالة هذا النوع من الثيروبودات. إنَّ آليةَ الضربِ بالذراع وثَنْيِها تشبه كثيرًا الآليةَ التي تستخدمها الطيورُ في فتح جناحَيْها وغلقهما في أثناء الطيران وبعد الانتهاء منه.

الأركيوبتركس

يظهر في أول حفرية تشبه الطيور أركيوبتركس (الشكل ٢-١، الصورة السفلى)، كثيرٌ من سمات الدرومايوصوريات الثيروبودية؛ فالذيلُ عبارة عن مجموعة من الفقرات الطويلة والرفيعة للغاية تثبِّت ريشَ الذيل على جانبَيْها، وعظامُ الورك مرتَّبةٌ بحيث تتجه عظامُ العانة نحو الخلف ولأسفل، وفي الجزء الأمامي من الصدر توجد عظامُ الفريقة التي تشبه قوسًا خشبية معقوفة، والفكَّان يحتويان على أسنان صغيرة منشارية بدلًا من المنقار القرني التقليدي الذي يشبه منقار الطيور، والذراعان طويلتان ومزوَّدتان بمفاصل بحيث يمكن مدُّهما وثَنْيهما تمامًا مثل الثيروبودات، واليدان مزوَّدتان بثلاث أصابع ذات مخالب حادة وتشبهان تمامًا في ترتيبهما وأبعادهما يدَيِ الدرومايوصوريات الثيروبودية.
fig34
شكل ٦-١: إعادة بناء لشكل الأركيوبتركس وهو على قيد الحياة.

حُفِظت عينات الأركيوبتركس كحفريات في ظلِّ ظروف استثنائية أتاحَتِ الإمكانيةَ لرؤية الآثار المصوَّرة على نحوٍ رائع لكمٍّ من الريش المستخدَم في الطيران. كان هذا الريش ملتصقًا بالجناحين وعلى طول جانبَيِ الذيل، ويشير إلى أن هذا الكائن كان طائرًا؛ فالريش من السمات الفريدة التي تتسم بها الطيور، ومن ثَمَّ يشير هذا إلى وجود صلة دون أدنى شك. هذا هو أحدُ الأسباب التي دفعت إلى اعتبار الأركيوبتركس من الحفريات المهمة، والسببُ في كونها محورَ هذه المقارنة. ومن المثير أن نتساءل: كيف كان من الممكن تصنيف هذا الكائن، إذا لم تؤدِّ المصادَفةُ إلى حفظ هذا الريش على هذا النحو؟! وعلى الأرجح، كان من الممكن أن يُعاد وصفُه في السنوات الأخيرة على أنه أحد الدرومايوصوريات الثيروبودية الصغيرة على نحوٍ استثنائيٍّ.

عجائب الصين

في خلال تسعينيات القرن العشرين، بدأت عمليات التنقيب في محاجر مقاطعة لياونينج في شمال شرق الصين، تُسفِر عن بعض الحفريات المميزة والمحفوظة جيدًا على نحوٍ استثنائيٍّ من أوائل العصر الطباشيري. في البداية، اشتملت هذه الحفريات على طيور بدائية محفوظة جيدًا مثل كونفيوشسورنيس، واشتملت الهياكل العظمية على آثارٍ لريش ومناقير ومخالب؛ ثم في عام ١٩٩٦، وصف جي شيانج وجي شوان هيكلًا مكتملًا لديناصور ثيروبودي صغير يشبه كثيرًا في تشريحه وأبعاده الديناصورَ الثيروبودي الشهيرَ كومبسوجناثز (الشكل ١-١١)، وقد أطلقَا على هذا الديناصور اسم سينوصوروبتركس. كان هذا الديناصور مميَّزًا؛ نظرًا لوجود حافة من التكوينات الشعيرية على طول عموده الفقري وفي جميع أنحاء جسمه؛ مما يشير إلى وجود غطاء من نوعٍ ما على الجلد يشبه «الوبر» على سجادة خشنة؛ كذلك ظهرت أدلةٌ على وجود أنسجة رخوة في تجويف العين وفي منطقة الأمعاء. كان من الواضح أن بعض الثيروبودات الصغيرة كانت أجسامها مغطَّاةً بغطاءٍ ما. أدَّت هذه الاكتشافات إلى تضافُر الجهود من أجل العثور على المزيد من هذه الحفريات في لياونينج، وبدأت تظهر بانتظامٍ متزايد، وقدَّمت بعضًا من الاكتشافات المذهلة حقًّا.

عقب اكتشاف سينوصوروبتركس بوقت قصير، عُثِرَ على هيكل عظمي آخَر؛ كان هذا الحيوان — المسمَّى بروتاركيوبتركس — أولَ ما يظهر فيه ريش حقيقي يشبه ريشَ الطيور ملتصقًا بذيله وعلى طول جانبَيْ جسمه، وكان تشريحه يشبه الدرومايوصوريات أكثر من السينوصوروبتركس. أظهر اكتشافٌ آخَر حيوانًا يشبه الفيلوسيرابتور إلى حدٍّ كبير، لكنه سُمِّي هذه المرة سينورنيثوصوروس (مرةً أخرى بَدَا مغطًّى «بِوَبر» من الشعيرات القصيرة). وضمَّت اكتشافاتٌ أحدثُ حيوانَ كاوديبتركس، وهو كائن ضخم (في حجم الديك) قصيرُ الذراعين إلى حدٍّ ما، اشتهر بخصلات مجمعة ناتئة من الريش في طرف ذيله، وحوافَّ أقصر من الريش على طول ذراعيه؛ ودرومايوصوريات أصغر حجمًا ومغطَّاة بريش أكثر. وفي ربيع عام ٢٠٠٣ ظهر للعالَم درومايوصور مذهل له «أربعة أجنحة» سُمِّي مايكرورابتور؛ كان هذا الكائن الأخير صغيرَ الحجم ويشبه الشكل التقليدي للدرومايوصور، بذيله الطويل والرفيع المعتاد، وتجويف الحوض الذي يشبه حوض الطيور، وذراعَيْه الطويلتين اللتين كان يستخدمهما في الإمساك بالأشياء، وصفوفٍ من الأسنان الحادة داخل فكَّيْه. كان يحد الذيل ريش قوادم الجناح، وكان جسمه مغطًّى بريش ناعم طري. مع هذا، كان من المذهل على نحو فريد حفْظُ الريش المستخدَم في الطيران على طول الذراعين، الذي يشكِّل جناحين يشبهان جناحَي الأركيوبتركس. والأمر غير المتوقَّع على الإطلاق وجودُ حوافَّ من الريش تشبه الموجودة في الجناحين، ملتصقةٍ بالأجزاء السفلى من الأرجل، ومن هنا جاء الوصف «أربعة أجنحة».

كان هذا الكمُّ الكبير من الاكتشافات الجديدة والمذهلة، التي خرجت من محاجر لياونينج على مدى فترة زمنية قصيرة أكثر من أي وقت مضى؛ ممَّا يستحيل معه تقريبًا أن نتخيَّل ما يمكن اكتشافه فيما بعدُ.

الطيور والثيروبودات وقضية التكوين الفسيولوجي للديناصورات

تسهم الاكتشافات المذهلة الجديدة من لياونينج على نحوٍ مهم في النقاش السابق حول التكوين الحيوي والفسيولوجي للديناصورات، لكنها — كالمعتاد — لا تجيب عن كمٍّ كبير من الأسئلة كما كنَّا نتمنَّى.

بادئ ذي بَدء، أصبح من الواضح الآن أن أجدادنا في العصر الفيكتوري لم يكونوا مُحِقِّين؛ ففي النهاية ليس الريش وحده هو ما يميز الطيور؛ فثمة أنواع عديدة من غطاءات الجلد التي يبدو أنها وُجِدت في كمٍّ كبير من الديناصورات الثيروبودية، بدايةً من الغطاء بشعيرات شعثاء، وغطاءات الجسم التي تشبه الريش الناعم الطري، ووصولًا إلى شكل الريش المكتمِل المعالم وريش الطيران. تُجبِرنا اكتشافاتُ لياونينج على التفكير في مدى الانتشار الذي كانت عليه مثل هذه الأنواع من غطاءات الجسم، ليس فقط بين الثيروبودات، وإنما ربما أيضًا لدى مجموعات الديناصورات الأخرى. وفي ظل التوزيع المعروف لأنواع غطاء الجسم، من المنطقي للغاية التفكيرُ في احتمال وجود نوعٍ ما من الغطاء الجلدي لدى عمالقة مثل التيرانوصور ريكس (الذي كان أحد أنواع الثيروبودات من أقارب السينوصوروبتركس)، حتى إنْ كان هذا في صِغَرها فقط. إن مثل هذه الأسئلة المثيرة لا يمكن الإجابة عنها في الوقت الحالي، وتتطلب اكتشافَ رواسب جيولوجية جديدة، تشبه في جودة حفظها للحفريات تلك التي عُثِرَ عليها في لياونينج.

من الواضح للغاية أيضًا أن أنواعًا كثيرة من الثيروبودات المكسوَّة بالريش، وما نعرفها حاليًّا بوصفها طيورًا حقيقية (كائنات لديها جهازُ طيرانٍ مُكتمِل)؛ قد تعايشت معًا خلال العصرين الجوراسي والطباشيري. ظهر الأركيوبتركس في أواخر العصر الجوراسي (منذ ١٥٥ مليون سنة)، ومن الواضح أنه كان مكسوًّا بالريش ويشبه الطيور. مع هذا، أصبحنا نعلم الآن يقينًا أنه في أوائل العصر الطباشيري (منذ ١٢٠ مليون سنة تقريبًا) عاش عدد وافر من أنواع «الديناصورات الطائرة» هذه، مثل المايكرورابتور وأقاربه، مع الطيور الحقيقية جنبًا إلى جنب. إن كمَّ التنوُّع — أو وفرة الأنواع الحيوية — من هذه «الديناصورات الطائرة» محيِّر بعض الشيء، ويُخفِي إلى حدٍّ ما الأصولَ التطوُّرية للطيور الحقيقية التي نراها من حولنا في عصرنا الحالي.

لكن من المنظور الفسيولوجي، فإن الدليل على وجود ديناصورات ثيروبودية ذات نوع من الغطاء العازل لأجسامها، يشير على نحوٍ قاطع إلى حقيقة أن هذه الديناصورات (على الأقل) كانت فعليًّا من ذوات الدم الحار؛ وثمة سببان للاعتقاد في هذا:
  • (١)

    كان كثير من هذه الديناصورات المكسوَّة بالريش صغيرَ الحجم (يتراوح طوله بين ٢٠ و٤٠ سنتيمترًا)، وكما نعلم فإن الحيوانات الصغيرة تتمتَّع بمساحة سطح كبيرة نسبيًّا، وتفقد الحرارةَ من أجسامها في البيئة بسرعة كبيرة؛ ومن ثَمَّ، فإن العزل باستخدام الشعيراتِ (التي تحاكي الفراء الذي نراه على أجسام الثدييات الموجودة حاليًّا) والريشِ الناعم الطري، ربما كان ضروريًّا إذا كانت هذه الكائنات تولِّد حرارةَ الجسم الداخلية.

  • (٢)

    بالمثل، فإن التمتُّع بطبقة خارجية عازلة على الجلد، من شأنه أن يجعل الاستلقاءَ تحت أشعة الشمس للحصول على الحرارة صعبًا — إن لم يكن مستحيلًا — لأن الطبقة العازلة ستعيق قدرتَها على الحصول على الحرارة من الشمس. والاستلقاء في الشمس هو طريقة الكائنات ذات الدم البارد في الحصول على الحرارة لأجسامها؛ لذلك فإن وجود سحلية مغطَّاة بالفراء أو الريش أمرٌ مستحيل من الناحية البيولوجية.

الطيور تنحدر من الديناصورات: تفسير تطوُّري

إن دلالات هذه الاكتشافات الجديدة مذهلة حقًّا؛ فقد قيل بالفعل — بالمنطق وبقدر من القوة — إن الديناصورات الثيروبودية الصغيرة كانت حيواناتٍ عاليةَ النشاط وسريعةَ الحركة و«معقَّدة» بيولوجيًّا؛ وعلى هذا الأساس بَدَا منطقيًّا ترشيحُها لتكون من ذوات الدم الحار المحتملة؛ إذ تشير استنتاجاتنا بشأن أسلوب حياتها إلى أن معظمها كان سيستفيد كثيرًا من كونه من ذوات الدم الحار. هذا، وتؤكِّد اكتشافات لياونينج أن كثيرًا من هذه الديناصورات العالية النشاط التي تشبه الطيور كانت حيوانات صغيرة الحجم، وهذه نقطة محورية؛ لأن صِغَر الحجم يمارِس ضغطًا فسيولوجيًّا بالغًا على ذوات الدم الحار؛ نظرًا لأن نسبة كبيرة من حرارة أجسامها المولَّدة داخليًّا يمكن فقدانها عبر سطح الجلد؛ لذا من المتوقَّع أن تعزل ذوات الدم الحار النشيطة الصغيرة الحجم أجسامَها من أجل تقليل فقدان الحرارة؛ ومن ثَمَّ، طوَّرت الديناصورات الثيروبودية الصغيرة نظامَ عزلٍ من أجل منع فقدان الحرارة؛ لأنها كانت من ذوات الدم الحار، لا لأنها «أرادت» أن تصير من الطيور.

تشير اكتشافات لياونينج إلى تطوُّر أنواع عديدة من أغطية الجسم العازلة، على الأرجح عن طريق تعديلات خفية لأنماط نموِّ حراشف الجلد المعتادة؛ بدايةً من شعيرات تشبه الشعر وحتى الريش المكتمِل النضج. فمن المحتمَل أن ريش الطيران الشبيه بالموجود لدى الطيور لم يتطور حقًّا لأغراض الطيران، وإنما كان له أصل أكثر عمليةً بكثير؛ فيبدو أن عدَّةً من «الديناصورات الطائرة» المستخرجة من لياونينج لديها خصلاتٌ مجمَّعة من الريش في نهاية الذيل (تشبه إلى حدٍّ ما مراوح الراقصات اليابانيات)، وحوافُّ من الريش على طول ذراعَيْها أو على رأسها أو تصل إلى أسفل عمودها الفقري. من الواضح أن التحيُّزات في عملية الحفظ قد تلعب أيضًا دورًا في طريقة حفظ هذا الريش، وفي تحديد أجزاء الجسم التي يُحفَظ عليها. لكن في الوقت الحالي، يبدو من المحتمَل على الأقل أن يكون هذا الريش قد تطوَّر كتكوينات ارتبطت بسلوك هذه الحيوانات؛ ربما لتقديم إشاراتٍ للتعرُّف، كما هو الحال في الطيور الموجودة حاليًّا، أو استُخدِمت كجزءٍ من طقوس تزاوُجِها، قبل وقت طويل من ظهور أي وظيفة طيران حقيقية.

في هذا السياق، فإن الانزلاق والطيران بدلًا من أن يكونَا شرطًا أساسيًّا في أصول الطيران، أصبحَا فيما بعدُ فوائدَ «إضافية». من الواضح وجود إمكانيةٍ لاستخدام الريش في أغراض حركية هوائية؛ فكما هو الحال تمامًا لدى الطيور في العصر الحديث، ربما تكون القدرة على القفز والرفرفة قد حسَّنت عروضَ التزاوُج لدى «الديناصورات الطائرة»؛ على سبيل المثال: في حالة الكائن الصغير مايكرورابتور، ربما تكون مجموعة الريش الممتدة على طول حواف الذراعَيْن والرِّجْلين والذيل، قد أمدَّتْه بالقدرة على القفز في الهواء من الأغصان أو من مواقع مرتفعة أخرى مشابهة. ومن هذا النوع من نقاط الانطلاق، يبدو الانزلاق والرفرفة في أثناء الطيران «خطوةً» قصيرةً نسبيًّا في واقع الأمر.

مشكلات مستمرة

مع هذا، ينبغي ألَّا ننجرف كثيرًا وراء السيناريو المطروح آنفًا؛ فعلى الرغم من أن اكتشافات لياونينج على جانب مذهل فعلًا من الأهمية؛ إذ إنها تقدِّم — كما أوضحنا — إطلالةً غنيةً بالتفاصيل على تطوُّر الديناصورات والطيران في العصر الطباشيري، فإنها لا تقدِّم بالضرورة كلَّ الإجابات. فثمة نقطة بالغة الأهمية لا بد من تذكُّرها، وهي أن المحاجر في لياونينج تنتمي لأوائل العصر الطباشيري؛ ومن ثَمَّ فإن حفرياتها أحدث بكثير (بنحو ٣٠ مليون سنة على الأقل) من أقدم ديناصور مكسوٍّ بالريش محفوظ جيدًا يتمتَّع بجناحين معقَّدَيْن ومتطوِّرَيْن للغاية: الأركيوبتركس. فأيًّا كان المسار الذي سلكته الديناصورات الطائرة الأولى في تطوُّرها، وأدَّى في النهاية إلى ظهور الطيور، فإنه بالتأكيد لم يكن عبر الديناصورات الاستثنائية المكسوَّة بالريش التي استُخرِجت من لياونينج. إن ما نراه في لياونينج هو لقطة عن التنوُّع التطوُّري للثيروبودات الطائرة (وبعض الطيور الحقيقية)، ولا يعبِّر عن أصل الطيور؛ فأصل الطيور لا يزال مغطًّى برواسب من منتصف العصر الجوراسي، أو ربما حتى من أوائله، قبل أن يظهر الأركيوبتركس على سطح الأرض. ويشير كلُّ ما نعرفه حتى الآن إلى علاقةٍ وطيدة للغاية بين الديناصورات الثيروبودية والطيور الأولى، لكن الثيروبودات المهمة التي ظهرت في أوائل العصر الجوراسي ومنتصفه، والتي انحدر منها الأركيوبتركس، ما زالت لم تُكتشَف بعدُ، ونأمل أن تحدث في السنوات القادمة اكتشافاتٌ مذهلة تملأ هذا الجزءَ من القصة.

انتهى الفصل الخامس بالرأي القائل إن الديناصورات عاشت في وقتٍ من تاريخ الأرض كان يحابي الكائناتِ ذات الأجسام الضخمة والنشاط العالي، التي كانت قادرةً على الحفاظ على درجة حرارة أجسامها ثابتةً ومرتفعةً، دون أن تتكبَّد معظمَ تكاليف كونها فعليًّا من ذوات الدم الحار. تشير «الديناصورات الطائرة» من لياونينج إلى عدم صحة هذا الرأي؛ إذ كان لا بدَّ ببساطةٍ للثيروبودات الصغيرة المغطَّاة بطبقة عازلة أن تكون من ذوات الدم الحار، كما أن صلتها الوثيقة بالطيور — التي نعلم أنها من ذوات الدم الحار — تؤكِّد ببساطة هذه النقطةَ.

إن ردِّي على هذا يجمع بين الإثبات والنفي؛ فليس ثمة ما يدعو إلى الشك حاليًّا في أن الديناصورات الثيروبودية الشبيهة بالطيور كانت من ذوات الدم الحار فعليًّا. لكنني أعتقد أن الحُجج التي تشير إلى أن معظم الديناصورات التقليدية كانت كائناتٍ قليلةَ النشاط ثابتةَ الحرارة (فقد أتاحت لها أجسامُها الضخمة التمتُّعَ بدرجة حرارة داخلية مستقرَّة)؛ لا تزال قائمةً. ثمة بعض الأدلة المؤيِّدة لوجهة نظري، يمكن العثور عليها بين ذوات الدم الحار الموجودة حاليًّا؛ فالأفيال، على سبيل المثال، معدَّلُ أيضها أقلُّ بكثيرٍ من الفئران، للأسباب نفسها. فالفئران صغيرة الحجم وتفقد الحرارةَ سريعًا في البيئة، ولا بد لها من الحفاظ على معدل أيض عالٍ من أجل تعويض الحرارة المفقودة؛ أما الأفيال فهي ضخمة (في حجم الديناصورات عمومًا)، وتتمتَّع بدرجة حرارة ثابتة داخل أجسامها نظرًا لحجمها، وليس فقط لأنها من ذوات الدم الحار. في الواقع، تمثِّل ضخامةُ الحجم لدى ذوات الدم الحار — ولو بصفة جزئية على الأقل — تحدِّيًا فسيولوجيًّا؛ فعلى سبيل المثال: تعاني الأفيال من مشكلات إذا تحرَّكَتْ بسرعة كبيرة؛ فتولِّد عضلاتُ الحفاظ على وضعية الجسم وعضلاتُ الأرجل كمًّا كبيرًا من الطاقة الحرارية الكيميائية الزائدة، وتحتاج إلى استخدام أذنَيْها الكبيرتين «سريعتَي الخفقان»، من أجل مساعدتها في إخراج الحرارة سريعًا لتجنُّب السخونة المفرطة المميتة.

كانت الديناصورات إجمالًا على قدر فائق من الضخامة، وكانت أجسامُها قادرةً على الحفاظ على درجة حرارة داخلية ثابتة؛ ونستنتج من حالة الفيل أن الديناصورات لم يكن في مصلحتها أن تكون فعليًّا من ذوات الدم الحار، في عالم كان شديدَ الحرارة على أية حال. ونظرًا لتطوُّر الديناصورات فسيولوجيًّا ككائنات ضخمة ثابتة الحرارة (درجة حرارة الجسم الداخلية ثابتة نظرًا لحجمها الضخم)، فإن المجموعة الوحيدة منها التي خالفَتِ الاتجاهَ العام الذي يميل نحو الحجم الضخم لدى الديناصورات، والتي تطوَّرت لتصبح مجموعةً من الديناصورات من ذوات الأجسام الصغيرة؛ كانت الدرومايوصوريات الثيروبودية.

يتضح، من التشريح وحده، أن الدرومايوصوريات كانت عالية النشاط، واستفادت من ثبات درجة الحرارة، كما أن أدمغتها الكبيرة نسبيًّا كانت تتطلَّب إمدادًا ثابتًا من الأكسجين والعناصر الغذائية. والمفارقة أن ثبات درجة الحرارة لا يمكن الحفاظ عليه في ظلِّ حجم الجسم الصغير، دون وجود غطاءٍ عازل للجسم؛ نظرًا لفقدان الحرارة الذي لا يمكن احتمالُه عبر الجلد. كان الاختيار واضحًا وسهلًا؛ فقد كان لزامًا على الثيروبودات الصغيرة إما أن تتخلَّى عن نمط حياتها المتَّسِم بارتفاع النشاط وتصبح فعليًّا من الزواحف، وإما أن تزيد من إنتاج حرارتها الداخلية وتصبح حقًّا من ذوات الدم الحار، وتتجنَّب فقدان الحرارة عن طريق تطوير آليةِ عزلِ الجلد؛ لذا، أقترح أن هذه الحالة لا تنطبق عليها مقولة «كل شيء أو لا شيء»؛ فمعظم الديناصورات كانت في الأساس كائنات ضخمة ثابتة الحرارة، وكانت لديها القدرة على تحمُّل مستويات مرتفعة من النشاط دون تحمُّل التكاليف الكاملة لأنماط ثبات درجة الحرارة لدى الثدييات أو الطيور، ومع هذا أُجبِرت الثيروبودات الصغيرة — لا سيَّما الدرومايوصوريات — (وسلالتها من الطيور الحقيقية) على تطوير نظامٍ مكتمِلِ النمو، لإنتاج حرارة داخلية ثابتة وغطاءٍ عازل للجسم مرتبط بها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤