الفصل الثاني

كان من عادة أوليفيا (وبطريقة ما كان كلُّ تصرُّف بسيط في منزل عائلة بينتلاند يتحوَّل حتمًا إلى عادة) أن تتجوَّل في أرجاء المنزل كل ليلة قبل صعود الدرج المكسو بالألواح الخشبية، للتأكُّد من أن كل شيءٍ على ما يرُام، وتلقائيًّا مضتْ في جولتها الصغيرة كالمعتاد بعدما غادرت سابين، وأخذت تتوقَّف هنا وهناك تتحدث إلى الخدم وتأمرهم بالذهاب للفراش وتنظيف المكان في الصباح. وفي طريقها وجدت أن باب غرفة الجلوس، الذي كان مفتوحًا طيلة الأمسية، مُغلق الآن لسببٍ ما.

كانت غرفة مُربعة كبيرة تنتمي إلى الجزء القديم من المنزل الذي كانت قد بنتْه عائلة بينتلاند التي جنت ثروتها من تجهيز السفن المسلَّحة وممارسة نوع من القرصنة على التجار البريطانيين؛ غرفة أصبحت بمرور السنين أشبهَ بمتحفٍ مليء بالآثار والهدايا التذكارية لعائلة يُمكن تتبُّع أصولها لثلاثمائة عام إلى صاحب مَتجر صغير مُنشَق وصل إلى ساحل نيو إنجلاند الكئيب بُعَيد وصول المهاجرين الأوائل أمثال مايلز ستانديش وبريسيلا ألدِن. كانت غرفة تستخدمها كثيرًا العائلة كلُّها وتبدو بالية الشَّكل لكنها سائغة المنظر، مما يُعوِّض القُبح والتناقض الناجم عن مجموعة الصور والأثاث. كان بها مقعدان أو ثلاثة من طرازي شيراتون وهيبلوايت، وطاولة قديمة أنيقة مصنوعة من خشب الماهوجني، وأريكة فخمة وكرسي هزَّاز ضخم مجهول الطراز، ومصباح برونزي بَشِع كان هدية من السيد لونجفيلو إلى والدةِ العجوز جون بينتلاند. وكانت بها أيضًا لوحتان قبيحتان بالألوان المائية — إحداهما لنهر التيبر وقلعة سانت أنجلو، والأخرى لقرية إيطالية — رسمتْهما الآنسة ماريا بينتلاند أثناء جولة في إيطاليا عام ١٨٤٦، وكرسي مَحشُو مُزدان بشراريب قماش، مُهدًى من الكولونيل هيجينسون العجوز، ونقْش جاف على الفولاذ لتوقيع إعلان استقلال الولايات المتحدة كان مُعلقًا فوق رف المدفأة الأبيض، ومجموعة كاملة من مؤلفات وودرو ويلسون عن تاريخ الولايات المتحدة مهداة من سيناتور لودج (الذي تُشير إليه العمة كاسي دومًا ﺑ «السيد لودج العزيز»). في هذه الغرفة، جُمعت تذكارات مِن الزيارات الطويلة التي قام بها السيد لويل والسيد إيمرسون والجنرال كورتيس وغيرهم مِن سكان نيو إنجلاند الطيبين، جميع الهدايا التذكارية التي كانت أوليفيا قد تركتها بالضبط كما وجدتها عندما أتتْ إلى المنزل الكبير عروسًا لآنسون بينتلاند؛ ومن منظور أولئك الذين كانوا يَعرفُون الغرفة والعائلة لم يكن ثمة أي شيء قبيح أو سخيف بشأنها. كانت ذات طابع تاريخي. عند دخولها، يكاد المرء يتوقَّع أن يَظهر له مُرشد سياحي ويقول: «يومًا ما كتب السيد لونجفيلو على هذا المكتب» و«كان هذا هو الكرسي المفضَّل للسيناتور لودج.» كانت أوليفيا تَعرف كلَّ قشَّة في هذه الغرفة ويربطها بها إحساس قوي بالألفة.

فتحت الباب بهدوء ووجدت أنَّ الأنوار لا تزال مُضاءة، والأمر الأغرب، أن زوجها كان جالسًا إلى المكتب القديم مُحاطًا بالكتب العتيقة والخطابات والأوراق المُصفرة التي كان يجمع منها بجهدٍ جهيد كتابًا بعنوان «عائلة بينتلاند ومُستعمرة خليج ماساتشوستس». تفاجأت لرؤيتِه؛ لأنه كان مُعتادًا على التوقُّف عن العمل في موعدٍ محدَّد هو الحادية عشرة مساء كل ليلة، حتى في مُناسبة كهذه. كان قد اختفي قبل ساعات من الحفل الراقص، وكان لا يزال جالسًا هنا مُرتديًا بذلة السَّهرة، رغم أن الوقت كان قد تجاوز مُنتصَف الليل بكثير.

كانت قد دخلت الغرفة بهدوء شديد لدرجة أنه لم يَسمعها، وللحظة ظلَّت تنظر إليه في صمت، كما لو أنها لم تُقرِّر ما إذا كان ينبغي أن تتحدث أم تَنصرِف في هدوء. أما هو فكان جالسًا مُوليًا ظهره إليها؛ بحيث بدا الكتفان المُنحنيان والرقبة النحيلة المجعَّدة والرأس الأصلع إلى حدٍّ ما واضِحين في خلفية الجدران الخشبية البيضاء. وفجأة، وكأنه أدرك كونه مُراقَبًا، استدار ونظر إليها. كان رجلًا في التاسعة والأربعين من عمره لكنه يبدو أكبر من سنِّه، ذا وجهٍ طويل وملامح صارمة مثل وجه العمة كاسي — وجه وسيم لكنه يبدو عليه الإرهاق والشحوب نوعًا ما — وعينَين صغيرتَين مستديرتَين لهما لون الخزف الأزرق الفاتح. عند رؤيته لأوليفيا، ارتسم على وجهه تعبير عابس يدلُّ على الحنق … تعبير كانت تعرف جيدًا أنه يرتسِم على وجهه عندما ينوي الشكوى من شيءٍ ما.

قالت بهدوء، مُتعمدةً استخدام نبرةٍ تُوحي بأنها لم تلاحظ أي شيء غير عادي: «أطلت السهر.»

رد قائلًا: «كنتُ أنتظر التحدُّث معكِ. أريد أن أتحدث معكِ. من فضلكِ اجلسي للحظة.»

بدت طريقة تعامل أحدهما مع الآخر غريبةً إلى حدٍّ ما، وكأنه لم تكن تُوجَد أي مودة بينهما، حتى قبل سنوات عندما كان طفلاهما صغيرين. ومن ناحيته اتَّصَف أسلوبه أيضًا بالتكلف المتسِم بالحدة والعصبية، أسلوب غريب وفيكتوري مُتعجرِف إلى حدٍّ ما، وبه لمسة غريبة من الجُبن. كان رجلًا من النوع الذي ربما لا يُقدِم دومًا على فعل الصواب، لكنه يَفعل ما تَعتبرُه عشيرته «صوابًا».

كانت هذه هي المرة الأولى التي يَتبادلان فيها محادثة منذ الصباح، وهي مُحادثة بدت من النوع النمطي الذي تكرَّر يومًا بعد يوم على مدار سنوات عديدة. عندما كان يقول إنه يُريد التحدث إليها، كان هذا عادةً يعني أن ثمَّة شكوى ما من الخدم، وغالبًا من هيجينز، الذي كان يبغضه بشدة لدرجة غريبة لا يُمكن تفسيرها.

جلست أوليفيا، مُنزعِجةً لأنه اختار هذا التوقيت وهي مُتعَبة، ليبدي تعليقًا تافهًا بشأن أمور تتعلَّق بأعمال المنزل. وبدون تفكير مُسبَق من ناحية ومن ناحيةٍ أخرى من مُنطلَق معرفتها المُباغتة والغاضبة بأنه سيشعر بالضيق لرؤيتِها تُدخن، أشعلت سيجارة؛ وبينما كانت جالسةً هناك، منتظرة حتى يمحو بحرصٍ شديد كل ما كان بالصفحة التي كان يكتب فيها، شعرت ببطء برغبة غريبة غير معتادة في التصرف بشكلٍ غير مقبول، في أن تَخلق بطريقة ما نوعًا من الإثارة من شأنه أن يقضي ولو للحظة على ذلك الشعور بالملل الذي كان يَغمرها؛ ومِن ثم تُهدئ أعصابها. فكرت قائلة: «ماذا حدث لي؟ هل أنا واحدة من أولئك النساء اللاتي يَستمتعنَ بافتعال المشاكل؟»

نهض من كرسيه، بقامته الطويلة جدًّا وجسده النحيل، وكتفَاه منُحنيتان، ونظر إليها بعينَيه الشاحبتَين وقال: «يتعلَّق الأمر بسيبيل. أعلم أنها تذهب لركوب الخيل كل صباح مع هذا الرجل الذي يُدعى أوهارا.»

أجابت أوليفيا بهدوء قائلة: «هذا صحيح. إنهما يذهبان كلَّ صباح قبل الإفطار، وقبل أن يخرج بقيَّتُنا من المنزل.»

قطَّب جبينَه وعلى نحوٍ شِبه تلقائي تقمَّص سلوكًا ينمُّ عن الغضب لكرامته. وقال: «أتقصدين أنكِ كنتِ على علمٍ بذلك طوال الوقت؟»

«إنهما يَلتقيان في المروج بالقُرب من مقلَع الحجارة القديم؛ لأنه لا يهتمُّ بالمجيء إلى المنزل.»

«ربما لأنه يعلم أنه لن يكون مَوضِع ترحيب.»

ابتسمت أوليفيا بسُخرية بعض الشيء. وقالت: «أنا مُتأكِّدة من أن هذا هو السبب. ولذلك لم يأتِ الليلة، رغم أنني دعوته. لا بدَّ أنك تعلم يا آنسون أن شعوري تجاهه مُختلِف عن شعورك.»

«كلا، لا أظنُّ ذلك. نادرًا ما يكون الأمر كذلك.»

قالت بهدوء: «لا داعيَ لأن تكون بغيضًا.»

أجابها قائلًا: «يبدو أنكِ تَعرفين الكثير عن الأمر.»

«سيبيل تُخبرني بكلِّ شيء تَفعله. وأظنُّ أنه من الأفضل أن تسير الأمور بهذه الطريقة.»

راقبته، ومنحها هذا شعورًا بشيء مِن الرضا والارتياح لرؤيته مُنزعجًا من هدوئها، ومع ذلك شعرت أيضًا بشيء من الخجل؛ لأنها أرادت افتعال مشكلة صغيرة، مجرد مشكلة بسيطة للغاية، لتجعل الحياة تبدو أكثر إثارة قليلًا. قال: «لكنَّكِ تعرفين شعور العمة كاسي وأبي تجاه أوهارا.»

عندئذ، ولأول مرة، بدأت أوليفيا تَستوعب الأمر. قالت: «يعرف والدك كل شيء عن ذلك يا آنسون. لقد ذهَب معهما بنفسِه على الفرسِ الحمراء، مرةً أو مرتين.»

«هل أنتِ مُتأكِّدة من ذلك؟»

قالت: «ما الذي سيَجعلني أختلق كذبة سخيفة كهذه؟ علاوة على ذلك، أنا ووالدك مُتفاهمان جيدًا. وأنت تعرف ذلك.» كان ردُّها أشبه بوكزة خفيفة حقَّقت الغرض منها؛ إذ أشاح آنسون بوجهه مغاضبًا. كان ما قصَدَت حقًّا أن تقوله له هو: «والدك يَستشيرني أنا في كل شيء، ولا يَستشيرك أنت. وليس هو مَن يُعارض الوضع وإلا كنتُ سأعلم بذلك.» وجهرًا قالت: «أضفْ لذلك أنني رأيتُه بعينيَّ هاتين.»

قال: «إذن سأتحمَّل أنا مسئولية الاعتراض هنا. لا يُعجبني هذا الوضع وأريد وضع حدٍّ له.»

أثناء حديثهما هذا رفَعَت أوليفيا حاجبَيها قليلًا مع نظرة يُمكن تفسيرها على أنها تُوحي بالدهشة أو السُّخرية أو ربما قليل من كلَيهما. للحظة ظلَّت ساكنة، تفكر، وأخيرًا قالت: «هل أنا على صواب في افتراض أن العمة كاسي وراء كل هذا؟» حين لَمْ يحرْ جوابًا أكملت حديثها قائلةً: «لا بد أن العمة كاسي قد استيقظت مبكرًا جدًّا لرؤيتهما وهما يغادران.» ساد الصمت مرةً أخرى، ثم دفعها الشيطان الصغير الكامن بداخلها إلى أن تقول: «أو ربما حصلَتْ على معلوماتها من الخدم. فهي دائمًا ما تفعل ذلك، كما تعلم.»

ببطء، بينما كانت تتحدث، ازدادت حدة الغضب المُرتسِم على وجه زوجها شيئًا فشيئًا. بدا أن لون بشرته قد تغيَّر وأصبح أخضر فاتحًا نتيجة تأثير الضوء المنبعث من الثُّرَيَّا الفيكتورية الطراز المعلقة فوق رأسه الضيق الأفق.

قال: «أوليفيا، ليس من حقِّكِ التحدُّث عن عمتي بهذه الطريقة.»

فقالت: «لسنا بحاجة للخوض في ذلك. أظنُّ أنك تعرف أن ما قلتُه هو الحقيقة.» وببطء بدأ يُسيطر عليها شعور بالرضا. كانت قد بدأت في إثارة غضبِه. وبعد كل هذه السنوات الطويلة، كان يكتشف أنها لم تكن لطيفة تمامًا.

بدا عليه الآن السخط والذهول. قال بنَبرة أكثر لطفًا: «أوليفيا، لا أفهم ماذا جرى لكِ مؤخرًا.»

وجدت نفسها مُستغرقةً في التفكير، وقالت في نفسها: «لعله يلين. ربما لا يزال يُوجَد احتمال للمودَّة والحنو بداخله. ربما سيُصبح الآن، بعد مرور سنوات طويلة، لطيفًا وعطوفًا وربما … وربما … أكثر من ذلك.»

كان يقول: «أنتِ غريبة جدًّا. وأنا لستُ الوحيد الذي يَظنُّكِ كذلك.»

قالت أوليفيا بنَبرة حزينة بعض الشيء: «بالطبع. تظن العمة كاسي ذلك أيضًا. لقد أخذَت تُخبر الحي بأكمله أنني أبدو تعيسة. ربما يكون ذلك لأنَّني مُرهَقة قليلًا. فأنا لم أحصل منذ وقتٍ طويل على قسطٍ كبير من الراحة … من جاك، ومن العمة كاسي، ومِن والدك … و… منها.» وبينما كانت تنطق بالكلمة الأخيرة، أشارت برأسها بطريقة مثيرة للفضول في اتجاه الجناح الشمالي المظلم من المنزل الكبير.

ظلت تُراقبه، مدركةً أنه صُدِم واندهش لأنها ذكرت دفعةً واحدةً العديد من الأمور التي لم يتطرَّقا إلى مناقشتها مطلقًا في منزل عائلة بينتلاند، أشياء دفَناها في صمتٍ وحاوَلا نسيانها بالتظاهر بأنها غير موجودة.

تابعت حديثها قائلةً بنبرة حزينة: «يجب أن نتكلَّم عن هذه الأمور في بعض الأحيان. في بعض الأحيان التي نكون بمُفردنا تمامًا ولا يمكن لأحد أن يسمعنا، عندما لا يُشكل ذلك أي فارق. فلا يُمكننا التظاهُر إلى الأبد بأن تلك الأمور غير موجودة.»

ظل صامتًا لفترةٍ من الوقت، وبدا عليه التردُّد وهو يبحث بقنوط عن رد. وأخيرًا قال بنبرة واهنة: «ومع ذلك تجلسين طوال الليل تلعبين البريدج مع سابين والسيدة سومز العجوز ووالدي.»

قالت: «هذا مُفيد لي. يجب أن تَعترِف بأنه تغيير على الأقل.»

اكتفى بأن أجاب: «أنا لا أفهمكِ»، وبدأ يتحرَّك جيئة وذهابًا مُنفعلًا بينما كانت جالسة هناك تنتظر، في الواقع تَنتظِر، حتى يَصِل الموقف إلى الذِّروة. انتابها شعور مُفاجئ بالنصر، وبسعادة غامرة لم تشعُر بها منذ سنوات، منذ كانت فتاة شابة؛ وفي الوقت نفسه أرادت أن تَضحك، بقوة وبشكلٍ هستيري على آنسون، الطويل والنحيف جدًّا، الذي أخذ يتحرك وكأنه يتقافز لأعلى ولأسفل.

توقف أمامها فجأةً وقال: «ولا أرى فائدة من دعوة السيدة سومز إلى هنا كثيرًا.»

رأت الآن أن التوتُّر والانفعال بينهما قد بلَغا مبلغًا أعظم مما تخيلت، إذ كان آنسون قد تحدث عن السيدة سومز ووالده، وهذا شيء لم يتطرَّق إليه من قبل أحد من العائلة. وكان قد فعل ذلك بصراحة شديدة، وبمَحض إرادته.

سألته قائلة: «ما الضرر الذي يُمكن أن ينتج عن ذلك الآن؟ وما الفارق الذي يُمكن أن يُحدثه؟ إن ذلك هو مصدر السعادة الوحيد الباقي لتلك العجوز الضعيفة المحطَّمة، وهي أحد القلة الذين بقوا لوالدك.»

بدأ آنسون يُتمتِم في اشمئزاز. «إنها علاقة سخيفة … اثنان من كبار السن … من كبار السن …» لم يُنهِ الجملة؛ لأنه لم تكن تُوجد سوى كلمة واحدة كان يمكن أن تُنهيها وهي كلمة لم يكن يستخدمها مطلقًا أي رجل نبيل وبالتأكيد ما كان ليستخدمها أحد أفراد عائلة بينتلاند للإشارة لوالده.

قالت أوليفيا: «ربما تكون علاقة سخيفة الآن … لكني لستُ مُتأكِّدة من أنها كانت كذلك دومًا»

«ماذا تَقصدين بذلك؟ أتقصدين …» مرةً أخرى تَلعثم بحثًا عن الكلمات، مُحاولًا تجنُّب استخدام الكلمات التي كان مِن الواضح أنها تبادَرت إلى ذهنِه. كان من الغريب رؤيته وهو يُضطرُّ إلى مواجَهة الحقائق، ويبدو عليه العجز الشديد والارتباك. تلعثمَ قائلًا: «هل تَقصِدين أنَّ والدي قد تصرَّف من قبل …» توقَّف قليلًا، عاجزًا على استكمال الحديث، ثم أضاف: «على نحو مُخز؟»

قالت: «آنسون … أشعر بغَرابة كوني صريحة جدًّا الليلة … فقط لمرة واحدة … مرةً واحدة فقط.»

«وأنت لا تُجيدين سوى الخداع.»

قالت: «لا …»، ووجدت نفسها تَبتسِم ابتسامة حزينة، وتُضيف قائلةً: «إلا إذا كنت تقصد أن في هذا المنزل … في هذه الغرفة …» وأشارت بذراعها البيضاء في حركة كاسحة لتلك المجموعة من الهدايا التذكارية الفيكتورية، كل تذكارات العائلة البيوريتانية المتشدِّدة التي كانت تتمتع فيما مضى بالسلطة والنفوذ، ثم قالت: «في هذه الغرفة، الاتصاف بالصدق والأمانة هو الخداع في حد ذاته.»

في هذه اللحظة كان سيُقاطعها في غضب، لكنها رفعت يدَها وتابعت حديثها قائلة: «كلا يا آنسون؛ سأُخبرك صراحة بما أظن … سواء كنت تُريد سماعه أم لا. ولا آمُل في أن يجدي ذلك أي نفع. لا أدري ما إذا كان والدك قد تصرَّف، على حد تعبيرك، على نحوٍ مُخزٍ أم لا. وحقًّا أتمنَّى لو أنه فعل ذلك … آمُل أنه كان حبيب السيدة سومز في الأيام التي كان فيها الحب يعني شيئًا لهما … نعم … الشيء الحسِّي هو ما أقصده تحديدًا … أظن أن ذلك كان سيُصبِح أفضل. أظنُّ أنهما ربما كانا سعيدين … سعادة حقيقية لوقت قصير … وليس مجرد شخصين يعيشان في حالة من الافتتان بينما يومهما هو تكرار لليوم التالي … أظنُّ أن والدكَ، من بين كل الرجال، كان يستحق هذه السعادة.» ثم تنهَّدت وأضافت بصوت خفيض: «حسنًا، ها قد علمت مقصدي!»

مضى وقت طويل وهو واقف دون حراك يُحدِّق في الأرض بعينيه الزرقاوين المُستديرتَين اللتَين كانتا أحيانًا تُصيبانها بالذعر لأنهما كانتا تُشبهان كثيرًا عينَي تلك المرأة العجوز التي لم تُغادر مطلقًا الجناح الشمالي المُظلِم وكانت معروفة في العائلة ببساطة ﺑ «هي»، كما لو أنها من منظورهم لم تَعُد تنتمي للبشر. أخيرًا تمتم عبر شاربه المتدلِّي على شفتيه، كما لو كان يحدث نفسه، قائلًا: «أعجز عن تخيُّل ما حدث لكِ.»

قالت أوليفيا: «لا شيء. لا شيء. أنا كما كنتُ دائمًا، كل ما هنالك أنني الليلة انتهيتُ من الطاعة العمياء وقول «نعم، نعم» لكلِّ شيء، وانتهيت من التظاهر الدائم، حتى نتمكَّن جميعًا هنا من الاستمرار في العيش بهدوء في حلمنا … مؤمنين دومًا بأننا أعلى شأنًا من أي شخصٍ يعيش على هذه الكرة الأرضية، وأنه بسبب كَونِنا أغنياء فنحن أصحاب نفوذ وأبرار، وأنه بسبب … أوه، لا جدوى من الكلام … أنا تمامًا كما كنتُ دائمًا، كل ما هنالك أنني الليلة جاهرتُ بمكنون صدري. جميعُنا هنا نعيش في حلم … حلم سيتحوَّل يومًا ما إلى كابوس. عندها ماذا سنفعل؟ ماذا ستفعل أنتَ … والعمة كاسي والباقون؟»

في غمرة انفعالها تورَّدت وجنتاها ونهضت فجأة، بقامتها الطويلة وجمالها، مُتَّكئة على رف المدفأة؛ لكنَّ زوجَها لم ينتبه إليها. بدا شاردًا في تفكير عميق، واتَّخذت ملامح وجهه تعبيرًا يدلُّ على التركيز بتجهُّم.

بعد قليل قال: «أعلم ما حدَث. إنها سابين. ما كان يَنبغي أن تعود إلى هنا أبدًا. دائمًا ما كانت هكذا … تُثير المتاعب … حتى عندما كانت طفلة صغيرة. لقد اعتادَت على مقاطعتنا أثناء اللعب بقولها: «لن ألعب لعبةَ البيت. من يمكن أن يتصف بالحماقة لدرجة التظاهر بأن المياه المُوحِلة أرجوانية داكنة! إنها لعبة سخيفة.»»

«هل تقصد أنها تقول ذلك مرةً أخرى الآن … إنها لعبة سخيفة أن نتظاهَر بأن المياه الموحلة أرجوانية داكنة!»

أشاح بوجهه دون إجابة، وبدأ مرةً أخرى يسير فوق الورود الكبيرة الباهتة المرسومة على السجادة الفيكتورية الطراز. بعدها قال: «لا أعرف ما الذي تُلمِّحين إليه. كل ما أعرفه أن سابين … امرأة شريرة.»

«هل تكره سابين لأنها صديقة لي؟»

لقد لاحظَت على مدار سنوات عديدة أنه يكره صديقاتها، ويُدبِّر لأن يتخلَّص منهنَّ بطريقةٍ ما، وأن يمنعها من رؤيتهنَّ، ويُجبرها على حضور حفلات العشاء الكثيرة التي تُقام بمنازل الرجال الذين يَعتبرهم موضع ثقة، الرجال الذين درسوا بنفس كليتِه وينتمُون إلى ناديه، الرجال الذين لن يفعلوا أبدًا أي شيء غير مُتوقَّع. وفي النهاية، كانت تفعل دائمًا ما يريدُه منها. ربما كان ذلك تعبيرًا عن استيائه من كل أولئك الذين لم يكن يستطيع فهمَهم بل وحتى (كما ظنَّت) كان يَخشاهم قليلًا؛ تصرُّف رجل لن يَسمح للآخرين بالاستمتاع بما لا يُمكنُه أن يستحوذ عليه. كانت هذه المرة الأولى التي تتحدَّث فيها عن هذا المسلك الذي يُماثل المثَل الشهير عن الكلب في المذود الذي يرفض أن تأكُلَ الخيلُ القشَّ الذي لا يُمكنه هو أن يأكله، لكنها وجدت نفسها غير قادرة على التزام الصمت أكثر من ذلك. شعرت وكأن قوةً خارجيةً قد استحوذت على جسدها. كان لديها إحساس غريب بالخزي في نفس اللحظة التي تحدثت فيها، بالخجل من صوتها، الذي كان مُتوترًا وهيستريًّا قليلًا.

وكان هناك شيء غريب أيضًا في مشهد آنسون وهو يتحرَّك جيئةً وذهابًا في الغُرفة القديمة المليئة بالهدايا التذكارية الدالَّة على ذلك الوقار المُتفسِّخ الذي يُحيط به نفسه … بخطوات تَنطوي على الخيلاء يبدو فيها كل إجحافه، ومَظانِّه وخُرافاته. والآن كانت أوليفيا قد أزاحت الستار عن الحقيقة بمُنتهى القسوة مُسَلِّطَةً الضوء عليها.

قال بمرارة: «يا لسخافة ما تقولين!»

تنهدت أوليفيا. وقالت: «كلَّا، لا أظنُّ أن كلامي سخيف … أظنُّ أنكَ تعرف بالضبط ما أقصده.» (كانت على دراية تامة بالحيلة التي تُمارسها العائلة، المتمثِّلة في التظاهُر بعدم فهم أي عبارة صادقة ومُزعِجة بالنِّسبة إليهم.)

لكنه رفض الرد على قولها هذا أيضًا. وبدلًا من ذلك، التفت إليها، أكثر شراسةً وانفعالًا مما رأته في أيِّ وقتٍ مضى، وثائرًا جدًّا لدرجة أنه بدا للحظة وكأنه يتمتَّع بوميضٍ باهِت من القوة والكرامة. قال: «ولا يُعجبني المظهر الغريب لابنتِها، التي جابت معها العالَم وملأت عقلها بالأفكار الهمجية.»

عند النظر إليه وسماع نبرة صوته خطرت لأوليفيا فكرة مُفاجِئة فسَّرت مسار محادثتهما بأكمله، بل وفسَّرت في الواقع كل السنوات التي قضتْها هنا في منزل عائلة بينتلاند أو في المنزل الحجري الضخم البُني اللون في شارع بيكون ستريت. عرفت فجأة ماهية ما أَخافَ آنسون والعَمة كاسي وعالم العائلة المعقَّد بأكمله. كانوا يخشَون أن تنهار أُسس وركائز وجودهم تاركةً إياهم بلا حول ولا قوة، ويَنكشِف كبرياؤهم وغرورهم، ويُجرَّدوا من كل القوانين وأشكال الإجحاف التي ابتدعوها لحماية أنفسهم. ولهذا السبب كرهوا أوهارا، الرجل الأيرلندي، الذي يتبع الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. فقد كان يُهدِّد أمْنَهم. وكان انكشافهم هكذا سيكون كارثة، لأنه في أي عالم آخر باستثناء عالَمهم، في عالَم يقفون فيه دون حمايةِ كلِّ تلك الأموال الموجودة في صناديق ائتمانية مُستقرَّة، لن يكون لهم أي وجود على الإطلاق. سيَظهرون فجأة على حقيقتِهم.

رأت كل ذلك، لأول مرة، بمُنتهى الوضوح، وقالت بهدوء: «أظنُّ أنك تكره تيريز لأسبابٍ فيها ظلم للفتاة. إنك لا تَثِق بها لأنها مختلفة عن الأخريات … عن نوعية الفتيات اللاتي تمرَّستَ على الاعتقاد بأنهنَّ كاملات. يعلم الربُّ أنه يُوجَد ما يكفي منهنَّ هنا … فتيات متشابهات كأنهن نُسَخ مُكرَّرة بعضهنَّ من بعض.»

«وماذا عن هذا الفتى الذي سيأتي للإقامة مع سابين وابنتِها … هذا الفتى الأمريكي الذي يَحمل اسمًا فرنسيًّا ولم يرَ بلاده قط حتى الآن؟ أظنُّ أنه سيكون غريبًا مثل الآخرين كلهم. من الذي يعرف أي شيء عنه؟»

قالت أوليفيا: «سابين.»

قاطعها قائلًا: «سابين! سابين! وهل تهتمُّ بمن هو أو مِن أين أتى؟ لقد طوتْ صفحة الأشخاص المُحترمين منذ زمنٍ بعيد، عندما فرَّت من هنا وتزوَّجت ذلك الوغد الغريب. سابين … سابين لا تفعل شيئًا سوى جلب المتاعِب لنا … نحن، العائلة التي تَنتمي إليها. إنها تَكرهنا … هي بشقِّ الأنفس تستطيع التحدُّث معي بطريقةٍ مُتحضِّرة.»

ابتسمت أوليفيا بهدوء وألقت بسيجارتها في الرماد أسفل النقش الفولاذي لتوقيع إعلان الاستقلال. بعدها قالت: «بدأت تتفوَّه بالهراء يا آنسون. دعنا نَلتزم بالحقائق، لمرَّة واحدة. لقد التقيتُ بالفتى في باريس … عرفتْه سيبيل هناك. إنه ذكي ووسيم ويُعامل النساء باحترام شديد. لا يزال يُوجَد قليلات منَّا ممَّن يُفَضِّلن أن يُعامَلْن هكذا … كنساء … قليلات منَّا حتى هنا في دورهام. بالطبع لا أتصوَّر أنك ستهتمُّ لأمره. فهو لا يَنتمي لناديك أو كليتك، وسيرى الحياةَ بطريقة مُختلفة. ولن يقبل أن يُلَقَّن آراءً جاهزة، مُعَدةً في انتظاره.»

«إنني أُفكِّر في ابنَيَّ … لا أريدهما أن يَرتبِطا بأي شخص، بأول شخص يطرق بابهما.»

لم تَبتسِم أوليفيا. أشاحت بوجهِها الآن وقالت بهدوء: «إذا كنت تشعر بالقلق على جاك، فلا داعيَ لذلك بعد الآن. فهو لن يتزوَّج تيريز. لا أظنك تعلم كم هو مريض … أحيانًا، أظن أنك لا تعرف أي شيءٍ عنه على الإطلاق.»

«أتحدث دومًا مع الأطباء.»

«إذن عليك أن تُدرك مدى سخافة … الكلام الذي تقوله.»

رد قائلًا: «ومع ذلك، ما كان يجب أن تعود سابين إلى هنا أبدًا.»

رأت الآن أن الحديث يَمضي في مساره العقيم المحتوم، حيث سيَستمران في الدوران في حلقة مفرغة، مثل سناجب في قفص، لن تُؤدِّي بهما إلى أي شيء. كان هذا ما حدث مرات عدة. استدارت عازمةً على إنهاء هذه المناقشة، واتَّجهت نحو المدفأة … وقد عاد إليها شحوبها وأسفل عينَيها الداكنتَين ظهرت هالات بنفسجية باهتة. كما ظهر عليها الوهن، كما لو أن هذه الروح الغريبة التي تأجَّجت فجأة بداخلها كانت عنيفة جدًّا ولم يقوَ جسدُها على تحملها.

قالت بصوت خفيض: «آنسون، من فضلك، لنكن عقلانيِّين. سوف أنظر في علاقة سيبيل وأوهارا هذه وأحاول اكتشاف ما إذا كان أيُّ شيء خطير يحدث. وإذا لزم الأمر، سأتحدَّث مباشرةً إلى كليهما. أنا أيضًا لا أُوافق على هذه العلاقة، ولكن ليس لنفس السبب. فهو كبير جدًّا في السن عليها. لن تُواجه أيَّ مشاكل. وليس عليك فعل أي شيء … أما فيما يخص سابين، فسأستمر في رؤيتها بقدر ما أشاء.»

وفي خضمِّ حديثها أصبحت فجأة، وعلى نحو خطر، هادئةً بالطريقة التي كانت تُزعج أحيانًا زوجها والعمة كاسي. تنهَّدت قليلًا، ثم تابعت قائلةً: «لقد تحليتُ، يا آنسون، لسنوات عدة بالطيبة واللطف، والآن، الليلة … الليلة أشعر أنني لم أعد قادِرة على ذلك … أقول هذا فقط لتعلم أن الحال لا يُمكن أن يستمرَّ بهذه الطريقة إلى الأبد.»

التقطت وشاحها، ودون أن تنتظر ردَّه، استدارت واتجهت نحو الباب، ولا يزال يَلُفُّها الهدوء المخيف نفسه. وعند مدخل الباب التفتت. ثم قالت: «أظن أنه يُمكننا أن نعتبِر أن هذه المسألة قد حُسِمَت في الوقت الحالي، أليس كذلك؟»

طوال الوقت كان واقفًا هناك يُراقبها بعينَيه الزرقاوَين الباردتَين وعلى وجهه نظرة ذهول كما لو كان يرى زوجتَه لأول مرَّة بعد كل تلك السنوات؛ ثمَّ ببطء تبدَّدت نظرة الذهول هذه مُتحوِّلةً إلى نظرة خبث، تكاد أن تكون كراهيةً، كما لو كان يقول في قرارة نفسه: «إذن هذه هي حقيقتكِ! وهذا ما كان يجُول في ذِهنكِ طوال هذه السنوات، ولم تُصبحي واحدةً منَّا مُطلقًا. بل كنتِ، طوال الوقت، تشعُرين نحوَنا بالكراهية. لقد كنتِ دائمًا غريبةً عنا؛ مجرَّد دخيلة سوقية، من الرعاع.»

استحال لون شفتَيه الرفيعتَين المُمتعضتَين إلى اللون الرمادي الشاحب، وعندما تحدَّث كان ذلك بعصبية، ويشُوبه اليأس، مثل حيوان صغير مُحاصَر في زاوية. خرجت الكلمات من بين الشفتَين الرفيعتَين في سيل جارف وعنيف، مثل اندفاع الفولاذ الساخن إلى حد البياض الذي يتحرَّر من مرجل … كلمات منطوقة بنَبرة فاترة ومحمَّلة بالكراهية.

قال: «على أيِّ حال، على أيِّ حال لن أسمح بزواج ابنتي من أيرلندي من طبقة مُتدنِّية … فالعائلة بها ما يكفي من أمثاله.»

للحظة تلكأت أوليفيا عند عتبة الباب، وقد اتَّسعت عيناها الداكنتان في ذهول، وكأنَّها تجد أنه من المُستحيل تصديق ما سمِعته. ثم بهدوء وحزن شديد وسكينة في صوتها، تمتمَت وكأنها تحدث نفسها: «يا لحقارة ما قلتَه.» وبعد وقفة قصيرة، قالت، كما لو كانت لا تزال تُحدِّث نفسها: «إذن، هذا ما كنت تفكر فيه على مدار عشرين عامًا»، وصمتَت مُجددًا، ثم قالت: «ثَمَّة رد قاس جدًّا على كلامك هذا … إنه قاسٍ لدرجة أنني لن أُصرِّح به، لكنني أظن أنك … أنت والعمة كاسي تعرفان جيدًا ما هو.»

صفَقت الباب خلفها بسرعة، وتركتْه هناك، في حالة من الذهول والغضب، وسط كل الهدايا التذكارية الخاصة بعائلة بينتلاند، وببطء، وهي تَشعر وكأنَّها في كابوس، مضت نحو الدَّرَج، مارةً بالموكب الطويل مِن صور أسلاف عائلة بينتلاند — المهاجر صاحب الحانوت، وقاتل الساحرات، والمبشِّر المُحترف، وصاحب السفن الشراعية، والجميلة سافينا بينتلاند — وصعدت السُّلَّمَ المظلم المؤدِّي إلى الغرفة التي لم يتبعها زوجها إليها منذ أكثر من خمسة عشر عامًا.

•••

وما إن دخلت غرفتها، حتى أغلقت الباب بهدوء ووقفت في الظلام، تنصت، وتنصت، وتنصت … في البداية لم يكن هناك أي صوت باستثناء هديرٍ بعيد غير واضِح للأمواج المُتكسِّرة وهي تشقُّ طريقها نحو الكثبان البيضاء، وعواء كلب بيجل آتٍ من بعيد من اتجاه بيوت الكلاب، ثم بعد قليل، سمعت صوتًا خافتًا لتنفُّسٍ هادئ وسلِس آتيًا من الغرفة المجاورة. كان منتظمًا وسلسًا وهادئًا، كما لو كان ابنها بقوة أوهارا أو هيجينز أو ذلك الشاب القوي دي سيون الذي التقت به مرة واحدة لمدة قصيرة بمنزل سابين في باريس.

غمرها الصوت بسعادة جامحة، حتى إنها نسيت ما حدث في غرفة الجلوس قبل قليل. وبينما كانت تخلع ثيابها في الظلام، أخذت تتوقَّف بين الفينة والأخرى، لتنصت مجددًا في حالة من التوتُّر الشديد، كما لو كان باستطاعتها منع الصوت من التلاشي بمجرَّد أن تتمنَّى ذلك. لأكثر من ثلاث سنوات لم تدخُل هذه الغرفة مرةً واحدة دون أن يتملَّكها الرعب من أنه ربما لا يَنتظرُها فيها سوى الصمت. وأخيرًا، بعد أن أوتْ إلى سريرها وراحت في النوم، استيقظت فجأة فَزِعةً على صوت آخر، مختلف تمامًا، صوت صرخة جامحة، شِبه بشرية … متوحِّشة وشريرة، وتلاها صوت ارتطام حوافر تضرب بوحشية على جدران الإسطبل، ثم صوت هيجينز، مروض الخيول، وهو يصبُّ اللعنات. كانت قد سمعت هذا الصوت من قبل؛ صوت الفرس الشريرة الجميلة الحمراء اللون، المملوكة للعجوز جون بينتلاند، وهي تضرب جدران إسطبلها وتصرُخ بشدَّة. كان ثمَّة كراهيةٌ فائقة ولدودٌ بينها وبين هذا الرجل الغريب الأخرق … ومع ذلك كان بينَهما أيضًا نوع من الانجذاب.

وعندما انتصبَت جالسةً في فراشها، تُنصت، وهي لا تزال في حالة ذهول من الصوت الجامح، سمعت ابنها يقول:

«أمي، هل أنتِ هناك؟»

قالت: «أجل.»

نهضت وذهبَت للغرفة الأخرى؛ حيث رأت، في الضوء الخافت المنبعث من المصباح، الصبيَّ جالسًا في فراشه، وشعره الأشقر أشعث، وعيناه مفتوحتان على اتساعهما وتُحدِّقان قليلًا.

همست قائلة: «هل أنتَ بخير يا جاك؟ هل ثمَّة خطبٌ ما؟»

ردَّ قائلًا: «لا، لا شيء. رأيت حلمًا مُزعجًا وبعد ذلك سمعتُ صوت الفرس الحمراء.»

بدا شاحبًا ومَريضًا، وبرزت العروق الزرقاء على صدغَيه؛ لكنها كانت تعرف أنه الآن أقوى مما كان عليه طيلة شهور. كان في الخامسة عشرة من عمره، لكنه كان يبدو أصغر من ذلك، وكأنه صبي في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة، لكنَّه بدا، أيضًا، كبيرًا في السن كدأب أولئك الذين يُعانون من مرضٍ مزمن.

سأل قائلًا: «هل انتهى الحفل؟ … هل غادرُوا جميعهم؟»

قالت: «أجل يا جاك … سيَطلع الصباح قريبًا. من الأفضل أن تُحاول النوم مرةً أخرى.»

استلقى دون أن يردَّ عليها، وبينما كانت تنحني لتطبَع قُبلةً على جبينه وتتمنى له ليلةً طيبة، سمعَتْه يقول بصوت خافت: «ليتني كان بوسعي حضور الحفل.»

ردَّت قائلةً: «يومًا ما ستتمكَّن من حضور الحفل يا جاك — في القريب العاجل. فأنت تزداد قوة يومًا بعد يوم.»

مرةً أخرى ساد الصمت، بينما أخذت أوليفيا تقول في قرارة نفسها: «إنه يَعرف أنني أكذب. يعرف أن ما قُلته مُنافٍ للحقيقة.»

وجهرًا قالت: «ستخلد للنوم الآن … مثل فتى مُطيع.»

قال: «أتمنى أن تُحدثيني عن الحفل.»

تنهَّدت أوليفيا. وقالت: «إذن، لا بدَّ أن أغلق باب غرفة المربية، حتى لا نُوقظَها.» ثم أغلقت الباب المؤدي إلى الغرفة التي كانت المربية العجوز نائمةً فيها، وجلست عند طرف فراش ابنها، وبدأت تسرد على مسامعه شيئًا فشيئًا، بحرصٍ وبكلِّ ما تمكَّنت من استحضاره من مهارة، أسماء من حضروا الحفل، وما حدث فيه. أرادت أن تَمنحه، هذا الفتى المسكين الذي كانت لديه فرصة ضئيلة للبقاء على قيد الحياة، كلَّ أحاسيس الحياة التي كانت قادِرةً على استحضارها.

ظلَّت تتحدَّث وتتحدَّث، حتى لاحظت أن الصبيَّ قد راح في النوم، وأنَّ لون السماء فوق الأهوار قد بدأ يتحوَّل إلى الرمادي والوردي والأصفر مع إشراق ضوء النهار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤