مقدمة المؤلِّف
كانت الكتابة أعظمَ حدثٍ حصل في حياتي، فمعها انتبهتُ لقطار عمري وقد وُضِع على سكةِ قطارٍ طويلة شعرت أنها لن تنتهي إلا مع نهاية العمر؛ ربما لأني أدركتُ أن الكتابة هي مهنتي الوحيدة التي سأجيدها … وربما لأنها تناغمت مع أعماقي … وربما لأني كنت أشعر بغُربة عن العالَم الواقعي فجاءت الكتابة لتخلق لي عالمًا متخيَّلًا من الكلمات، أجده منسجمًا مع نفسي وأجد فيه ما عجزتُ عن العثور عليه في الواقع.
وربما هو الخوف … من الآخَرين والمجتمع، فقد شعرتُ أن هناك مَن يريد انتزاعَ حريتي مني، وحرماني من الأمور التي أحبها؛ بل الخوف ما جعلني رقمًا من أرقامهم، وقلتُ فَلْأخترِع لي رقمًا صعبًا ومعادَلةً يصعب فكُّ رموزها، وكان لي هذا عن طريق الكتابة.
ورغم أني مررتُ بالكثير من المهن، فإنها كلَّها كانت غريبةً عني، لم أشعر بأنها تُلامِس روحي وعقلي يومًا، وهكذا قرَّرتُ أن أكون كاتبًا ولا أكون سِواه، فكان لهذا القرار أثرُه العظيم في حياتي؛ حيث اتَّضحَت، يومًا بعد آخَر، أهدافي التي خُلِقتُ من أجلها.
ومثل أي ولادةٍ مقلوبة بدأتُ كتابةَ مذكراتي منذ أن كنتُ صبيًّا صغيرًا، أروي فيها، بسذاجة، ما أمرُّ به من أحداثٍ بسيطة، وما أقرؤه من الكتب، وما أحبُّه من الأغاني والهِوايات المبكِّرة؛ هذه المذكِّرات لا تعدو أن تكون أكثرَ من يومياتِ صبيٍّ مراهِق ما زال في الرابعة عشرة من عمره. ومعروفٌ أن المذكرات هي أصعبُ فنون الكتابة، ولا تأتي إلا في نهاية العمر؛ حيث عُمق الخبرة وطولها، والكَمُّ الهائل من الأحداث التي يواجهها شخصٌ قَلِق ومختلف مِثلي. ولكني، مع ذلك، أشعر اليومَ بالغِبطة؛ لأني أحتفظ بكنوزِ براءةٍ وسَرديات عفوية لا نظيرَ لها تتمثَّل فيما يقرب من ستة دفاتر سميكة من مذكراتٍ دوَّنتُ فيها عمرًا كان يُمكِن أن يتبدَّد ولا يحتفظ إلا بأضغاثِ صورٍ وأحداثٍ مرت بسرعة.
وحين بدأت بكتابة الشعر، كنتُ ساذجَ البدايات أيضًا، ولم يتصلَّبصورة كلها لرامبو عودي فيه إلا بعد زمن، كلما زاد اطِّلاعي على شعر الشعوب، في تاريخها الطويل، وكان ذلك يجري قبل أن أنشر شيئًا في هذا المضمار، ثم بدأت رحلتي الحقيقية مع الشعر حين اختلطتُ بالوسط الأدبي والشعري، في العراق والعالَم العربي، الذي كان مُستعِرًا بالجدل العميق والخلَّاق.
وتقدَّمَت خطواتي أكثر وبشكل أقوى حين نشرتُ مجاميعي الشعرية ابتداءً من ثمانينيات القرن الماضي، حينها تَولَّعتُ بالشعر أيما تولُّع، فسلبَ كلَّ كِياني وبدوتُ كما لو أني منذورٌ له، وأنه خَلاصي الوحيد.
وبعد عَقدٍ من النشر المتواصِل والخوض في غِماره، جاء المسرح ليصبح حقلًا موازيًا للشعر أدركتُ فيه أن ما لا يُمكِن التعبير عنه شعرًا يُمكِن للنصوص المسرحية أن تقوم به، ومرت السنوات وإذا بي في بيدرٍ وارفٍ من الأعمال المسرحية المكتوبة والمنفَّذة إخراجيًّا على خشبة المسرح من قِبَل مُخرِجين كِبار.
أكسَبَني ولَعي بالشعر والمسرح قوةً ومَرانةً هائلتَين، واستمر الحقلان مَلاذًا لي يَنسجان شخصيتي الأدبية ويرتقيان بي إلى مَدارِك لم أحلم بالوصول إليها.
وسواء، في الشعر أو المسرح، كانت الأساطير تشدُّني دونَ غيرها حتى قادني هذا إلى الاطِّلاع على طيفٍ واسعٍ من أساطير الشعوب ومَلاحمها، ومن وَفرة ما اطَّلعتُ عليه منها، قراءةً، كنتُ أقارن بينها وأدقِّق فيها، وأزيد تنويع مراجعها شرقًا وغربًا.
من هنا جاء الحقل الثالث في اهتماماتي، وهو الأساطير وعلم الأساطير (المِيثولوجي)، الذي تَصاعَد بحثي فيه مع دراستي الأكاديمية للتاريخ القديم وتراثه.
ولأن الأساطير مكوِّنٌ واحد من مكوِّنات الدِّين الثمانية، وجدتُ نفسي في طريق البحث في الأديان وعلم الأديان، وظهَر لي مبكرًا مجموعةُ كتبٍ منتظِمة في تاريخ الأديان.
وحين توسَّعَ بحثي في أديان الشعوب وسَّعتُ اهتمامي في حقل الحضارة والدراسات الحضارية لكل الشعوب، وأصبَح هذا المشروع واعدًا بأن يكوِّن موسوعةً كبرى في تاريخ الحضارات.
نشْرُ هذه الأعمال في كتبٍ إلكترونية خطوةٌ طَمُوحة بلا شك جاءت مُتوِّجةً لكل هذا الجهد الواسع في الكتابة.
ستشمل هذه المجموعةُ جميعَ الكتب الإبداعية والكتب الفكرية موضوعةً بطريقة متداخلة من التنوُّع والتشكيل؛ فالأعمالُ الشعرية شملَت المجموعات الشعرية التي صدرت من عام ١٩٨٠م وحتى يومنا هذا، والأعمالُ المسرحية شملَت المسرحيات التي ظهرت منذ ١٩٩٠م وحتى يومنا هذا، ومن ضِمنها المسرحيات التي لم تُنفَّذ، إخراجيًّا، للمسرح بعدُ.
تناولَت الأعمالُ الفكرية تيارات الفِكر الأربعة الأساسية في العلوم والتاريخ: الحضارات، الأديان، الأساطير، الأدب.
ينتج عن المسار الطويل في تجرِبة الكتابة ما يُشبِه الحكمة التي يَشُوبها الحزن، فبقدر ما يزداد حجم الحكمة في تراث الإنسان، يزداد، في مقابله، حجمُ الحزن والألم الذي يضعنا في مفترقِ طرقٍ واسعة؛ لأن الإنسانَ لا تُسيِّره الحكمة، بل تُسيِّره الغرائزُ والحاجات السريعة، وكذلك العنف والغضب.
الحلمُ المثالي في الوصول إلى حياة غنيَّة بالحكمة يتحقق عن طريق تراكُمها بوصفها رصيدًا جماعيًّا وخبرةً فردية، ولعلَّ الكتابةَ والاطِّلاعَ يوفِّران هذا ويجعلان منه واقعًا قابلًا للتداوُل.
منذ زمن بعيدٍ أدركتُ أننا في بلادٍ تفتقر إلى الحرية ومن الصعب مُمارَستها؛ ولذلك وجدتُ أثناء إقامتي في تلك البلاد أن الحرية أمرٌ شخصي وداخلي ولم أذُق طعمَها الجماعي يومًا، وحتى حين عشتُ في الغرب، لم أتمتَّع بثمارها، بل ظلت شأنًا داخليًّا ينمو تحت شجرة الأمان والقانون فقط.
ساهَمَت الكتابة أيضًا في تعزيز حريتي الداخلية وجعلها نابضةً بالحياة والمحبة. وكانت سياحتي الطويلة في الحضارات قد أعطَتني أبلغَ الدروس عن الأشكال المتنوِّعة للحضارات وإمكانية تشكيلها وفقَ البيئة والمجتمع وسيكولوجيا الجماعة، وكلُّ هذه الحضارات طرقٌ في التكيُّف والعيش، وليس بالضرورة أن يكون كلُّ تاريخ الحضارات «متحضِّرًا»، أو أن يكون جوهرها تحضُّرًا كاملًا ونقيًّا؛ لأن هذا يخالف طبيعةَ الإنسان التي يَسكنها الشرُّ والدمار والكراهية مثلما تَسكنها نزعات الخير والمحبَّة، فالحضارات تصطرع مع نفسها، بين هذا وذاك، ونتيجةُ هذا الاصطراع هي التي تعطينا لونَ تلك الحضارة ونكهتَها، المختلفَين عن لون الحضارات الأخرى ونكهتها.
الكتابة عن الحضارات أمر مُبهِج جدًّا؛ لأنها تجمع أدقَّ التفاصيل وتُبوِّبها في حقولٍ ومفردات شِبه ثابتة، وبذلك يُمكِن أن نقارن بين الحضارات بيُسرٍ شديد.
الأديان، من ناحيتها، تقدِّم التطلُّع والدأب الروحي نحوَ الأعالي والمطلَق، وتترك نصوص الدِّين، بصفةٍ عامة، تشوُّقات الإنسان لهذا العالَم المحجوب عنَّا، ولا شك أن لتاريخ الروح الحصةَ الأكبر في تاريخ الأديان، ومن الأديان نعرف كيف تنشط روح الإنسان نحوَ المجهول، ومنها نتعلَّم كيف يجري السطو على الهاجس الروحي وتحويله إلى هاجسٍ سياسيٍّ ومنفعي.
ظلَّ تاريخ الأديان يلازم شغفي المعرفي، بعدَ أن كانت الفلسفة سيدةَ ذلك الشغف، وكان يحرِّك بي طاقةً عجيبة تذكِّرني بطاقة الشعر، التي نَمَت معي مبكرًا، حتى تيقَّنت أن الكثيرَ من ثمار الروح والشعر والفنون تَساقَط في حقل الدِّين، ذلك الحقل المجاوِر لنا، الذي هو حقل الشعوب عبر تاريخها الطويل.
لكنَّ دراسة كلِّ دِين، على حِدَة، تستوجب منِّي معرفةً جيدة بعلم الأديان، وأن تلازُم علمِ الأديان وتاريخ الأديان أمرٌ لا بد منه؛ ولذا كان، من الطبيعي، أن أعمل على تقصِّي مكوِّنات هذا العلم ومناهجه وعلمائه، وكان لي ما أردت.
الأساطير هي الأخرى خزائنُ العلوم والفلسفات والمعتقَدات البدئية، هي بذرةُ كلِّ هذا، وهي الحوار السردي الطويل بين العالَم وحواس الإنسان، في نصوصٍ لا تَرقى إلى أن تكون فكرًا ناضجًا؛ ولذا فهي لغةٌ بريئة مشحونة بالطاقة المقدَّسة.
وكان لتاريخ الآداب والفنون والعلوم سِحره الخاص في وجداني ومؤلَّفاتي، فقد نهلتُ منه الكثيرَ وحاولتُ أن أجسِّد بعض محطاته.
يَتغذَّى عقل الإنسان ويستنشق كلَّ هذه الخُلاصات الجمالية والروحية والنفسية لكي يَغتني ويجعل العالَمَ حوله وفيه أفضل، وتأتي القراءة أولًا ثم الكتابة كأنفاقٍ جوَّانية لسَبْر كل هذه الأغوار وجعلها تنطق بالعجائب والنوادر.
أتمنى أن تقدِّم هذه الأعمال شيئًا للقارئ، وأن تصل بعضَ الخيوط التي أسَّست قصة الدأب والمواظَبة على حياكة ونسج مشروعٍ تجاوَز زمنُه أكثرَ من نصف قرن.
٧ / ١٢ / ٢٠٢١م