عكازة رامبو

يُحدِّق في طبقات السماء — وحده؟
يُحدِّق في طبقات الأرض — وحده؟

أين ذهب الشعراء؟ يا إلهي … كلُّهم خذلتهم الطبيعة، عيونُه الزرقاء غزيرة بالدمع تشهق، أقدامه معطلة، أين دانتي إذن يعبر الجحيم طائرًا ببوصلةٍ وأدعية، ويفك نصوصَ النَّول بيدين ناحلتين؟ أين أتباعُه يلعبون بروما وببغداد نردًا ويصيدون بشباكهم القمر … يخرجونه من البحر ويقيمون نارًا ويشونَه فوقها؟ أينهم يتابعون نمو النباتِ ويدونون المعادلات والرموز؟

أين البروق ترِّوض نساكًا وصعاليك بين الجبال وتجعلهم يفتتحون النشيد؟

وحده،

والناس يتعددون،

أحنى قوس القزح حتى آخره وكسَره فتسربت السماء بخمورٍ وزرقةٍ وجثث ملائكة، وكاد بابُ الأبدية ينفتح، لكنه في آخر لحظةٍ أغلقه بعناد.

الآن جاء دور قدميه لا يديه.

لا يريد الكتابة … يريد السفر.

لا بد أن يستبدل أقلامه بعكازةٍ ويكتب بها على الأرض شعرًا بلا كلمات. كتبت سبعة كتبٍ صغيرة. الآن سيكتب بعكازته كتابَه الثامن الكبير وسيسمِّيه معنا «عكازة رامبو».

– حسنًا يا صاحب النيافة … الأمير الذي نسميه جان نيقولا آرثر رامبو لماذا تريد تركَ الشعر؟

– لأن طفولتي انتهت، أصبحت الآن رجلًا.

– هل هناك سبب آخر؟

– عليَّ أن أدفن مخيلتي وذكرياتي، مجد رائع تحقق.

– ولماذا سترحل من فرنسا؟

– هربًا من الخدمة في الجيش.

– وهل انتهت دورتُك البيضاء في جليد أوروبا ونصاعتها وشعرائها الباردين؟

– نعم … وسأبدأ بدورةٍ سوداء في غابات أفريقيا وحراشفها ومغامريها الحارِّين.

الباخرة في ساحلٍ تنفخ بخارَها … يركض رامبو باتجاهها خوف أن تفوته … يقفز إليها ويلوِّح لنا … وداعًا.

من هنا مر جان نيقولا. انظري أيتها الغبية، يحمل على طرف عصاه التي علقها على كتفِه الحقول، وصرة ملابسه، خرائطه وخبزه … يشم رائحة الأشجار ويتلذَّذ بالذهب.

كانت سجلاتُه إسطبلًا للمطر، ورغم انتفاخ ركبتيه وترطُّب أوهامه بالحشيش وبالتبن فقد غطَّس عن عمدٍ كتبَه في البحر ومضى إلى الغابات … كفى ماءً.

انظري … خلف خمسين ميل من «دبري زيت» يلوح لي.

شبحُه يعرج من ورمٍ في ركبتيه، أين الكاميرا أصور شبحَه أو أنفاسَه، سقطت من ركبتيه الطرق قبل أن تتورما.

كان يراقب انتفاخ ركبتيه ويبكي (قلَّةُ حظٍّ ممزقة). قرن كامل مضى … الزنجيات يحملن الماء والحطب ويلتفتن له ولي ويضحكن، تتحرك أثداؤهن تحت أثوابهن بخفةٍ ومرح دون سوتيانات ودون أحزمة، ويشعلن الغابة بالضوء.

يدي في حقيبتِه وخطواتي تلاحق أقدامَه … أخذ رامبو
الحطب والحبوب واللبن،
وأعطى لهن المناديل والعقود والأقراط …

صفقن له ولي، وأثداؤهن ارتعشت.

جرعة قوية من الخمر تُنبِت الحشائش، لم تعد تكفي قنينة

واحدة لاجتياز الطريق الوعر هذا. لا بد من غليونٍ

وحشائش وأطعمة.

موظفو المكتبة يُشخِّرون …

يبحث عن كتبٍ سريَّة … يضجرون منه … يتقاعدون ويفتحون دكاكين بقالة، يكمل مزمورَ الجحيم ويدخل في مدونةٍ ذات طبقات.

ساط أوروبا بأقدامه وغنائه، النشيد في يده منتظرًا الانفجار المجيد لها … لكنها مثل قطةٍ تلتف تحت فرو قفازاته وتموء.

«هرر» تنفتح مثل سوسنة … مجساتها تلمس شاربَه وتحيي صنوجَه التويجات … سيعود إلى فرنسا زنجيًّا أبيض أشعث مدندشًا بالذهب والأمراض ولفائف الجغرافيا والبُن.

يدخل إلى باريس بعكازته ويتمتم «وا أسفاه … لقد ضاعت الأبدية مني»، أجَّج في الشوارع قطَطَه وأسكر أصدقاءه وخرَّبهم … لم يعد يرى قرب المقابر أحدًا سوى النادبين والطيور … دفن مقهًى من الشعراء ودخَّن.

ينقر القمح أقدامه ويدوس العشب المهزول، يحس نداوة

الحجر … من هنا مرَّ.

كان يرى في الفجر شعبًا من الحمام، وكان يداعب بعكازته الشمس وهي تظهر فوقَ الأفق، عود بين شفتيه وشاربه.

ملطَّخ بالتبن … أقذف له من على بعد قرنٍ كاملٍ قنينة الخمر فيتطلع فيها «ستظلُّ خزعلًا … أي ستظل ضبعًا … إلخ»، ويشرب، أدرك لغط يديه وفك ضماداتهما واحدةً بعد أخرى …

يا للمفاجأة … تحتهما ترقد أسماك ميتة وخواتم … لقد انتهت قوتُهما.

الرغبات مخبأة في محجرين ناعمين يسعلان … لم يعد يرى من الباخرة سوى غنمٍ تعود إلى حظائرها، ولم تستفق في الساحل غير عظام النعاس، لقالق تطير في السماء وتودِّعه.

فانوس بيته يتَّضح وينبض.

سأتركك هذه الليلة تحصين ملابسَك التي اشتريتِها من أسواق أديس، سأتلصص على ليلة رامبو، أقترب من بيته وأقف خلف الشُّباك …

ما زال ساهرًا …

يكتب الشعر أم الرسائل، أقرأ الكتب التي تحيط به:

– مؤلف في صناعة المعادن واستخراجها وتقنيتها.

– الطاقة الهيدرولية المدينية والزراعية.

– البارود وأنواع الملح الخاصة به.

– كتاب الجيب الخاص بالنجار.

– الحداد الممتاز، من وضع برتو.

– استغلال المناجم، من وضع ج. ف. بلان.

– الكتاب الوجيز، للخزاف، والبخاريِّ.

– الكتاب الوجيز لصانع الشموع.

– دليل صانع الأسلحة.

أي عقابٍ لشاعر … أي مقاصل تلعب برقابه …

يخنق عرائس الدمى ويتحلى بكحلةٍ وطيوب.

ماذا بك يا رامبو؟

ماذا بك يا حبيبي؟

وكيف سقطت كل هذه الشُّعل من رأسك كما لو أنَّه مُزِّق بالرصاص؟

تلك أحلامُه تشعشع في «شارلفيل» ويدوخ بها المراهقون كئوس من البيرة أو الليمون في مقاهٍ مضرَّجةٍ بالأنوار، كان يستسلم لليل، ويحتقر المهن.

وردة بين أسنانه … يتفحَّص بعصاه كبد شارلفيل يتعفن. عند حلاقها يسدل شعرَه ويفكر: قبرص، الإسكندرية، عدن، الحبشة، ثم … إلى الصين واليابان … خرائطُه أكثر ضبطًا من خرائط الإسكندر، كلاهما خلط الأرض بالسماء، يقطر.

من هميانِه العاج والغيوم وهو يتثاءب. كان من شق الباب يتأمل الخبز الحارَّ ويتهيَّج.

بوابات مدينتِه تخور في دمها وتبرعم مسلخًا جديدًا تركها وهي تنحت في دخانها شيوخًا وأشجارًا يابسةً وحظائر.

شهوة تشق هذه الكتل وتتحرر من الأصابع، رغبة تتنور وتكتظ في أدوات الطعامِ وأدوات الحلاقة ومنشفتي وحذائي، شهوتي معلقة في الهواء ويُلطِّخها الضوء تحت هذه الدفوف.

ضحكَت منظفة الغرفة مساءً على بعد أمتارٍ من الباب، كان ضحكها ينتفخ ويتفكك وتسقطُ منه فراشات صفر وأنا أماسك نفسي بالخمر وأتحاور مع جان نيقولا، قال لي بالحرف الواحد: لا أود بعثرة كنزي.

قلت له: كم أود أن أعطيك ذهبًا، وأجعلك ترتاح وتكف.

قال بسرعةٍ: إياك … إياك إن تُريني ذهبًا، وإلا ارتميت على السجادة وتلويت.

مر من هنا.

كانت الدوالي في ساقِه تتضخم ولم ينم لخمس عشرة ليلة، لم يغمض له جفن لدقيقةٍ واحدة، هو مِن ألمٍ في ساقِه، وأنا مِن الطلع يكتظ بوجهي ريح مجنونة طوال الليل.

يا إلهي كم مضى من العمر وأنا أتسلق في هذه الجنة، تتفطر أقدامي؟ كم مضى وأنا أكسرُ جراري؟ كم مضى وأنا أرش البذور والماء لكي أعثر على أسناني؟

بعصاه وببعض عصافيرِه رتَّب الأرض ونقَّرَها وخلَّف فيها جليدًا وماءً، بعصاه استدار على قبة السماء ووضع لها سمتًا ومحاراتٍ وغيومًا.

ما الذي يمكن أن تفعله امرأة غبية بشاعر؟

أمُّه نشَّطت فيه الجنون وسرَّعت سريان السم في شرايينِه، أختُه كادت تمزق جسدَه غيضًا من هذه الجثة، زوجة فيرلين أحرقت مخطوطة «الصيد الروحي».

قال لي «لست أحب النساء: إن الحب، كما نعلم، ينبغي أن يُكتشف من جديد. فهن، النساء، لم يعد بوسعهن غير الرغبة في مسكنٍ آمن. فإذا ما حُزنَه غفلن الهوى والجمال.»

أسمع من بعيدٍ أمَّه تتكلم معه:

«آرثر حبيبي … خذ هذا الصليب وتيمَّم به … خذ وردة العذراء وشمَّها … خذ القدح وتنفَّس به … خذ منديلي وإياك أن تنسى هيمان الذهب الذي تحت سريرك، إياك أن تنسى حِصَّتي في وصيتك.»

ما الذي تبقى من جثَّتك أو من كراساتك أو أكياسك أيها الرجيم؟! وفي أي دمٍ فاسدٍ كنت تسير؟!

لم تحبَّه النساء … أحبَّته تلة من الأرض، فلم يَمِل إليها، وفي الليل عندما ألقى عصاه ونزع ثيابَه حضنته وناسلَته بالقوة، صباحًا كانت الأعشاب ترف في السهول وفي الغابات، خرج العاج من فم الفيلة والبن في البذور.

يبحث الآن عن أبنائه ويتاجر بهم … يحب وقاحة جسده،

حزنُ فيرلين ينمو في زهرةٍ قربَه.

قلادة رحلاته السوداء

في الإسكندرية يطلب من «رع» سيرتَه فيتوجس.
في قبرص تقوده القِحاب إلى فرنٍ لصنع القرميد، ولا شيء سوى البحر، والصخور في مشاعله.
في عدن ما من شجرة، حتى ولو يابسة، ولا نبتة خضراء، ولا بقعة من الأرض، ولا قطرة من الماء العذب، ماذا دهى الجنة؟ أليست هي أقصى أحلامنا.
في هرر كتب أربعة آلاف بيت وسحره ماكونن ذو العينين الممتلئتين ألغازًا، وله قصر وله حرملك وامرأة ويفاوض على الأسلحة، بعث جميع رسائله إلا رسالة واحدة تركها لشاعرٍ بعد قرن (فليقُبل … فليقبُل الزمن الذي نتعشقه ولتكن متطرفًا على الدوام … إياك أن تعتدل).
في أديس اكتشف طريقًا آمنًا تصلها مع هرر.
في القاهرة وضع خريطة خطٍّ حديدي وسحق بقدميه الأزهار، وتوارى خلف كرسي صديقه الإمبراطور مينيليك.
شعره رمادي مغبر وكيانه مشرف على الانهيار.
(أكثر بطالةً من الضفدع عاش في كل مكان.)

رفرفُ النار في عظامي ينكشف وسرطان يهدِّد قوتي، المنازعات بين أخطاء الأرض ويدي متصلة، كنت أقرع الدفوف بلا هوادةٍ وأتخبط في خرائط أقدامي وتلحقني شتائمُ الحقول، أتبعك … كل يوم تواجه التيفوس والبرص وتواجه الضباع — أسلافي — ولكنك تتقدم، أبدًا لن أنادي بيض السمك المتكاثر عند السواحل وفي طحالي بالملايين، تلك ليلة غاوية أستقبلها بالكثير من الخمر وأشم الريحان.

أمام انحطاط اليدين أضع مدوناتي وأسمل عيوني وأتيه معك … أرزم رسائلَك … أحملُ نقالتَك وأربط ساقَك، قطرة الدواء أم قطرة الكحل، عيناك اللاهبتان تشيخان. خُذ هذا تمر وعجين وضعْه على ركبتِك، هذه كمادات وأعشاب.

عبد الله رامبو أليس كذلك … هل صلَّيت حاسر الرأس باتجاه مكَّة أم باتجاه عدن … باتجاه الله أم باتجاه الفردوس؟ قُل يا عبد الله … قل يا حبيبي، في الغرب أقام شرقًا اسمه الشعر، وفي الشرق أقام غربًا اسمه العمل، كان يلعب بالكمال ويضحك هاربًا منه … هذه هرر تلدغ وكنوزها تنفتح وتنغلق … سهول تشبه فك التمساح تتخبط في عُريها وفي طول راهبٍ يتمشى لوحده في ليلها … أيها الشجاع النادر.

خمسمائة كيلومتر داخل الغابات لكي تصل إلى حافة البحر، سقطت البغال في الطرق وبقيت أنت، إشاراتنا في التيه تلتقي أو تتنافر، إشاراتنا في عيون النمور تتفكك أو تُزال. تلك أغنية لك، تعالَ نسمعها، ترددها الغابات والجبال:

يا قمرًا يا بعيدْ،
اسمع دمي يصهل اسمعْ.
يا صديقي الوحيد،
اسمع أنين الماء
في جثتي.
اسمع خرافاتي،
وشُد النشيد،
يا قمرًا يا بعيدْ.

هذه الأغنية تتردد منذ سنين وأنت لاهٍ عنها … هي لك تُبجِّلك ولا تستدرجك.

تراجع الليل وتراجعنا تحت رايتِه العجيبة، خلف هذه البيوت وخلف هذه المسرات المنقرضة ترنَّح رافعو الكئوس وتمزقوا في الشباك.

القصبات تحف بي … ملطَّخ أيضًا وأعشاشي مبهمة، ثدي أسود يشبه إبريق الوردِ يرش الدخان ويملأ بالممرات الأغاني، أين هطولُها؟! أين فحم يديها يلطِّخُ بابي؟!

تقف فاترة كنشيد مبهمٍ ضائعٍ وتضرب بقرة، خفُّها

يتطاير في الريح ويحيط به وغف ومرايا، هذه لك تدلي

بقرمزها القطيع التائه، وبه تتجول بين مستنقعات الذهب

والحليب.

قرب هرر يجذب شمالي آرثر، تتدافع في جنوبي حشودهن، إلى الطين الحار وأنا أتبعُك (صوب غسيل الغروب السوداوي المذهَّب).

معك بغال ومعي امرأة غبية وأنابيب ودوارق وطاعون أبقارٍ يتسلَّى بالعلماء.

اليوم … أكثر حزنًا … الأربعاء يسهر أصدقائي في النادي ويغنون وأنا مقيَّد بأغلالي التي تلمع، وسجني الذي يتَّسع.

حوار ليلي في اتحاد الأدباء

دم فاسد في جنوبه ودم الشمس في شماله، كان ابن الشمس يهذي بها، وكم نحر تحت أقدامِه وأقدامِها العجول.

أيها العتيد … المشَّاء الأكبر بين الشعراء تعال … تعال إلى أصدقائك …

وفي ساعةٍ انخرط في زحمة شارعٍ ببغداد حيث غنَّى مع الحشد المحتفل في ساحة، لا شك أنها ساحة الأندلس، يحيط به عبد الأمير الحصيري وحسين مردان وجان دمو وكزار حنتوش ونصيف الناصري وحسن النواب.

يتوددون له فينفر،

ومن على حائط الاتحاد يجلس ثلاثة شعراء يراقبون

هيبته ويسكرون … ثم ينثرون الماس في الشوارع.

الحساء الحار اللذيذ حيث لا كحول ولا نساء، هذا هراء، الكرة الأرضية يحركها بشر مختلفون وعشيقات مختلفات وكتابات مختلفة ومهن مختلفة … شرط أن ينتجوا البروق.

الصباح السوط الأولُ،

الوظيفة السوط الثاني،

الزوجة السوط الثالث،

الأطفال صالة عبوديةٍ كاملة،

مباهجُنا مؤجلة وقد قطعنا عن عمدٍ حواسنا المتصلة بالمطر ووضعناها في التراب.

في «أديس» لو لمحني أصدقائي مع هذه المرأة الغبية المملوءة دسمًا لاختطفوني …

عقلها صوف وحيواناتها لا تشبع، استجاباتها بطيئة ومتدنية … تحب التبن.

حقل الحمُّص برنينِه الذي يلمع وبشراهته المخزية المعادن تختفي في أظلافه ونحنُ نتجول قرب النهر، ورأيت إلى النهر تشعث في يديك، ونهضت أجنحة في عيونك.

في قبو تعلَّم التاريخ، وفي مراحٍ علَّمنا احتقارَه.

كان مستعجلًا … يريد الكمال والشعر بسرعة، وكان يريد أن يصل إلى الثروة والمجدِ والخلاص، ولكن بدون عمل، نحبُّه بعد أن تتنشف آخر برك الطوفان.

انطرح مثل فجرٍ ولمَّته الغصون وازدهرت بصايتِه المياه.

الضمي عقدَك الوحيد في الحقول، كان الفراغ بِكرًا، فخرج صوت وخرج جنيُّ الهواء فتناسخا، وأصبحت البذرة امرأةً، فتواطأت مع قوى الظلام، وقامت مرشدة العالمِ ترتِّب أطراف الأنهار، ورتَّبت لي رقبتي … رتَّبت سير حذائي، وظلت تنسخ خرافاتي علي وهنٍ قبل أن يموت …

في رقبته قلادة مكتوب عليها (هوَ … هوَ)،

علامة الزلزال،

متعتُك التي تتسلين بها والأشياء ليست سوي ورقٍ أو مسيحٍ مدلى، يربط ساقَه المريضة برقبته، صعد مدرج الفضة وذهب إلى خشبةٍ تطل على البحر (كان الماءُ ميتًا).

يجر معه أكياس السماء ويسحبُها بصعوبة … قوة ما في

التاريخ تنزح بالشعر نحو النثر وتربِكُه.

روحُه تظهر في أمواج النهر، شاليهات الشمس هذه كان يفرِّقها دائمًا بعصاه، الجسدُ موقده الأخطر، الجسد يا لحزنه … فاكهة مدلاة خارج البستان. أمام شفتين غيمتين وضحك يضخ ورودًا أمام نهرٍ أصم ونساءٍ مطروداتٍ من عافيتي يتحلين بالمكاحل وبمراود ودهون، يد تمد لي نورًا أسود، ماذا أقول لكل هذه الغلالة المترفة، أمُّه تريد إعادة دفن جثته فتجدها بعد عشر سنين من موته ناصعةً قويةً واسمه على القبر لم يمسَّه الصدأ، ماذا أقول ليدين تخطان نورًا ونهرًا؟

يريد جوارب تجعل الشرايين منتفخةً، ولم تعد نقالته صالحةً، شبه مخلوعةٍ وعبيده يتثاءبون.

هجر الشعر وتوعَّد بعصاه البروق … كان يعد كل ليلةٍ

فرنكاته، ويعد قطع العاج، يقضي الوقت مغطَّى بجلدٍ وريشٍ دكتور الخرافةِ هذا.

أغنية

لا تقل أين الخمور …
الليل عرَّش في عيونك.
لا تقل يبست زهور في التراب … ارتجت الغابات،
يدك تحمِّر الليل، وأنفاسُك تردده، وأنت الناي تروي
شهوة الرعاة.
قل يا حبيبي الخمر ضرَّج خدودي …
قل يا حبيبي الخمر خلاني أنام …
قل يا منى أغويت، قل غاويت.

تعالي وانظري فضيحتي … امرأة معي طوال النهار وأغلب الليل … تعيش معي كعذراء وأعيش معها أعذر، ماذا أفعل سوى أن أشرب خمرًا وألطم.

قربي ثلاث عشرة مليون امرأة منطرحة، سوادهن يغطي الكون ويزيده التماعًا وحصى … أشرب وألطم. أسراري أمام الديك لكنه لا يفقه، روائح مستسلمة وأجساد محرمة.

يحسد الحيوان على حريته، يحسد الملاك لأنَّه غير موجود.

حسنًا … هو الحيوان أم الملاك! الشاعر قطعة العملة ملعون ومقدَّس، رقصةُ الأرداف أقوى من الشمعدان المضيء، يتذوق أشباحَه وتنانيرَه ويديه.

يا نهارات أهيلي بوقَك المنسي فيَّ، ورتلي بعنفٍ الورد الذي نسي ترتيله، احنكي مرمرَه الحزين، وأكملي شفراتِه.

لم يعد غير رقصي وسلامي وزهوري، أورثت بدني الهياج فتملَّكَه وتغلبت رنَّة العظام على الروح، جمله موسيقية غاية الشعر كلِّه؛ ولذلك سأهجره.

يجلب له جامي القهوة والنعال، فيقوم بدشداشته ليتوضأ:

«إن الروح لطاغية.»

كانت أشعاره تعوم في ماء المشيمة، وكثيرًا ما كان يتردد على رحم أمه، امرأة تتدرج في الشعر وأسد الشمس

يجفل بين امرأةٍ خرجت من مخزن أحذية، فضيحة يمزقها جمالها وهي هادئة تغذي الماء بالأمواج وتلطِّف نعومتَه بالحلازين تبذرها برخاءٍ وتأن … كومة من الأشعةِ تضعها على المزهرية … كومة خلف زجاج النافذة لكي تضيء الغرفة.

بعد الطوفان أتى بالقبقاب ودخل مراكز المدن وحافات الحقول … عارم بالدمِ ومستخف بنا … كان يتجول ويحترق.

«تعالي أيتها الروح الكبرى … تعالي.»

القوي التائب المستحم …
آخر جملةٍ في أشعاره:
«جسده ونهاره.»

لقد عثر على الأبدية … قل … قل ما هي يا رامبو:

«إنها البحر الممتزج بالشمس.»

يدي في شعره، وحقيبته على كتفي، ويصفر في فمي قرب أسد يهوذا كما لو كنتُ أخاه.

تداخل نظامي ونظامُه، والتبست الموجة، وظهرت في «أديس» لطخات حمراء، وتشقق جلدُ المدينة، كانت «هرر» تهيئ صهريج وردٍ له، والزنجيات يحملن الحطب له والماء لي.

– ماذا ستفعل في اللحظة الأخيرة؟

– سأهجم يمينًا ويسارًا.

ساحل من دموعِك الحارَّة، وجاروشة عطورٍ تدور، لا ارتكابات جديدة.

والآن هالك أنت ومطوَّب على عجلةٍ يا مالئ الفردوس بالجراثيم … ويا مالئ الجحيم بالورود. نهر نورٍ يسقي خدودَك، ونهر ظلامٍ يسقي محاجرَك، ملاك عنيف يتسرب فيكَ وأراد بعدك أن يدخل الشعراء، فساوموه فأصبح ملاكًا رقيقًا … تُف.

شيطان أزرق ومدمى تسرَّب إلى محجريك، فتطنطل أكثر ومضى يهش البروق ولا يقعد … انتقل إلي فجعلت منه شيطانًا مؤدَّبًا، ثم حولتُه إلى أيقونةٍ أتباهى بها … تُف.

ما أسرع ما يتحول الشاعر إلى عانسٍ،

أنت أعظم زنجيٍّ أما نحن فزنوج مزيفون، هذا ورد لك، وهذه أطالس وتصاوير وأعتدة.

تكتب كتابًا في جغرافيا الحبشة … هكذا إذن يا رامبو؟

حسنًا سأغوي أنا هذه السمينة التافهة التي معي.

«عُد … عُد … يا رامبو.»

ولكن هيهات … النهر لا يعود إلى مصبِّه أبدًا.

هذه الكلاب تملأ حقول القمح وتسد فراغ السماء وسلسلة المطر، ظلامُنا يتفتحُ في الأخاديد وأنت تمشي في الغابات بجدائلك ولا تخاف … إبليس تريد أن تذيبَني بفتنتك. لماذا أدركت تدرجاتي امرأة سافرت الشمس على جسدِها ودفعت أعمدة الأرض إلى أمام وتعصَّمت بالوسادة؟ تركتُها هناك في مستشفى الحُميات تغزل النول وتنتظرني.

حفيدة «كمياب» تم جسدُك وتم ما أودعك إياه الله. عجنتني وأكلمت جسدي، وشقَّقت الفتحات، وجعلت الخمر على لساني أبدًا وكان جسدُك الأشياء الخضراء، تجلبين الكينونة والعميق السماوي ينهض في اتصالك بي، ويتقوَّى بنصوص يديك، امرأة تقفز في الشغف ويباركها مساء آدمي، خاتمها معي يجر أمعاء الغابة، ويتحسر جان على لبسِه، خاتمها يباسط التلول.

كأن طوابيرَنا لا تنتهي، كأننا نفيق بين عصرٍ وعصرٍ،
على نبع الأنوثة فينا، ونهدِّد مُدن الحديد والرماد …

المرأة أمِ الشيطان يسكن في أعماق الشاعر، الشيطان جنين في المرأة أم هي جنينُه؟

هذه سلالة النساء تُنزعنا كل حقبةٍ من أصابِعها وتنفصل عن ينابيعِنا فنحارُ ونقلِّب التاريخ … نبتكر الحروب.

كان يقرأ في المطبخ … هل البيت ضيِّق أم لأن امرأةً قربَه دائمًا … أمه أم أخته؟ المرأة تنزع سوتيانها وقلادَتها وتفك أضمدة الخلق عنها …

المرأة تشفي من رقًى وتعاويذ وأدعية … ينفل شبك الكون حبةً حبةً وخيطًا بعد خيط. نار تطبخ الفخار وتطبخ شايًا وتعوي … هذه جرَّة الأعاجيب.

«ألمز» تتدافع بين النساء وترقص معي بجنون،

أخاف من الإيدز، تمسك برقبتي وتتنطَّط حولي.

١٢٣ رقم غرفتي … تطرق الباب وأنا أبكي من الخوف والرغبة … الإيدز يطوف حولي … ألم أقل لك إننا مزيفون.

أعرج مثلك يا رامبو … لك ساق متورمة ولي ساق.

كيف أهملت النساء؟

كيف طردتَهن من حظيرة حياتِك؟

أما أمُّك فكانت في المركز … أردت بها أن تحب كل النساء … هكذا أنت شامل حاذق مركز، تضرب ضربةً واحدةً وتكف.

يركض الشاعر ومعه البذورُ،

ينام الشاعر وفي داخلِه الضوء،

كيف غسلتَ الضوء يا رامبو؟

كيف دثَّرتَه وخزنتَه وخمَّرتَه في عُلَبِك؟

كان يهتز بين سماءٍ وأرضٍ تشبه القهوة، وأربعة زنوجٍ يحملونه … ست عشرة ساعة بلا غطاءٍ تحت المطر، يرمونه أرضًا عندما يصلون «أروينا» فيعاقِبُهم بجزية أربع تاليرات.

القدر يعاقب الآن ويقتص ممن خرجوا على الطبيعة، لا بد من ألمٍ طويلٍ وشاقٍّ لكلِّ شاعرٍ مارق … لا بد أن يدفع ثمن تجديفِه.

كان حشد من الخيول يتراكض في غابته، وكانت الأزهار تنبح وراءَها … مادة العالم في يديه يركض بها، ويريد أن يضعَها على مصطبةٍ ليبدأ التكوين … يركض أكثر خوفَ أن تتصلب … يركض أكثر فلا يستطيع يضعها قرب ضفة نهر … ويتربَّص.

«وداعًا للعائلة … وداعًا للمستقبل.» صرخة تكسَّر أسطولها وبدَّد في ولهٍ أنعامَه وضحاياه بنزهاتٍ حمقاء عبر الجبال الوعرة.

أب يترنَّح بين قبعةٍ وعصا، والحِنطة تنمو على ظهر حمارِه … الحنطة في يد ابنته، ثديُها أسود ويهتز، في الغبار، لاقى وردًا فتنحَّى الورد عن الثدي … الزجاج تنحَّى، وفى الأفق ظهرت براعم وأمطار.

يتقدم الثدي وهي على الحمار ويهتز … فأمص شفاهي وشعر لحيتي ينمو ويتلطَّخُ بالأزهار، أبوها يضرب الحمار على ظهره وقبَّعتُه تميل، ساق ابنته على بطن الحمار يلمع مثل ماسةٍ سوداء، يتهدج جردل فخذِها،

وتضرب الحمار على ظهره … جسدُها فانوس مشتعل تحت ثوبٍ ممزقٍ بسخام، لحيتي تُنبت زهرًا هذه المرة.

لو أنني فقدت حصافتي وتدفقت في معدنٍ — امرأة معي تُخطئ في كل شيء … في مشيتها … في كلامها … في غضبها … في كتابة اسمها — لو أنني خرجت من ربيع الشجر إلى ربيعي.

ماذا عن شوارع أديس؟ ماذا عن هدوء النساء المرعب؟ هدوء في الشارع … وهدوء في البيوت وعلى الأشجار، وفراشي حزين ومضطرب وكهل … عربات الفلاحين … شفقاتهم … عصيُّهم … وملابسُهم الممزقة، وكامرتي، التقطتُ أربعًا وعشرين صورة كلها لرامبو:

يصطاد في الغابة،

يدخِّن من موقدٍ،

يصنع الذهب،

يعانق الفجر،

يعبر الطوفان بقبقابٍ،

يمشي وتمس جبهتَه السماء،

يزحف على ركبتيه أمام الذهب،

يضحك للشلال الأشقر،

يرقد سكرانًا على ساحل الرمل،

قرب كاتدرائيةٍ يضحك،

يعلِّم أطفال «هرر» القرآن،

يلبس سترةً حمراء وجزمَةً،

ينتزع الزرقة من السماء،

ينام مع القردة،

يحترم مريم،

ينهزم من المطر،

يتبع حشرةً في الليل،

يقبِّل يد جامي،

الشمس تضربُه بالعصا،

يشعل شمعةً ويقف خلف تابوتِه،

الورد الخالص في يديه،

مرآة كبيرة يتدافع معها،

يحاول أن ينمسخ إلى سمكةٍ،

وأخيرًا … عجلة العالم تطحنُه تحتَها.

كل هذه الصور أحتفظ بها لمن يطلبُها … أما تاريخ التقاطها فهو ١٥ / ١١ / ١٩٨٩م.

«الوجع يهز أعصابه حتى الكاحل»، يمضغ النعاس بعصاه، ويلف عليها الليالي، ويخيطُ أرتاله وركبتيه، شيء يتحرك في العصب الأصم … شيء يفوج بأدغالِه وسراياه … شيء يقفز من دمِه ويتحرك حولَه. أسد يهوذا ينهض في غيمةٍ فوق أديس ويبلِّل الشارعَ بمبخرتِه، ويرش المساء على لمعان المرمر ولمعان الباستيل الجديد.

سيف رامبو المكسور قرب جسده، فرجارُه وعاجُه وفرنكاتُه … قرب «كيون» الترابُ الأحمر المسود يتمزق وتخرج منه أجساد سود تسبح في ماءٍ أسود.

(هذه هي الحصيلةُ: أنا جالس أنهض بين وقتٍ وآخر وأنطنط مائة خطوةٍ بالعكازات.)

يفتح رامبو القرآن ويقرأ لأطفال هرر فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَردَةً كَالدِّهَانِ … يُغلقُه … يا إلهي! ما الذي أتى بالإشراقات إلى هنا؟

ما الذي أتى بالأسماك على أرض الفندق؟ طفحت من الأعماق ورقصت؟

كان يتمنى أن يتزوج وأن ينجب ولدًا يسميه «محمد» ويجعل منه مهندسًا.

كان يبكي طوال الليل ويتفطر،

الثدي الكحل … الشفاه الغاسقة،

السطوة الشبكة الشاملة الحارة والصخر.

ينكسر الجليد في الجسد ويتحرر حيوان الخريف

في نهضته يلم الزنابق أو يتراصف كالعجل.

هذه الطبقات التي تتورد في النور، هذه المرايا التي تتشمر في بؤبئه.

لماذا لست معي يا رامبو؟ لماذا لست معك؟

لماذا لا نسكر أو نقامر أو نغوي … لماذا يا أبهة؟

ميراث هذه السلالة المخيفة … المدافع بذيولٍ مهلهلة، الموائد بعجائز ثرثارات … النيران بأيدٍ باردة، تعاونه خرائط البحار والمجلات المصورة وأكياس نقوده.

يضَع عكازتيه على الأرض ويصالبهما ويدق مسمارًا فيثبِّت الصليب … كان يتراصفُ على الصليب … يضع يديه عليه ويضع جسدَه ثم رأسَه.

دخلت عليه وأنا بعمامةٍ وجُبَّةٍ أحمل طاستي وكتابي … كان رامبو يتراصف على الصليب تمامًا ويجوِّد … كمنجةٍ يابسةٍ قربه ويداه تتمتمان، ليس السرطان هو الذي يصعد في عظامِه، بل الذهب. يمسك وردةً ويشمُّها ويضحك … هل الورد انحطاط القلب وشكلُه الأول؟ هذه الشبهات ما زالت، النوتة غير واضحة … لا أعرف كيف أعزف؟

اتصالات النار والكلمات والذهب،

يا إلهي … لماذا أنا هنا؟

تأملته وهو يقرأ،

خرجت منه وأنا أبكي … وخرج، من الباب الآخر، كاهن يحمل الصليب، وكان يبكي هو الآخر فلاقتنا إيزابيل.

أصل إلى أيمانه، قال الكاهن ذو الصليب: آمين.

(ينام وعيناه مفتوحتان تحيطهما دائرتان سوداوان، وحين يستيقظ كان يقص أجملَ القصص عن الممرضات والراهبات … قصص مخجلة لكنها جميلة.)

يهيئ الجراح مقصاتِه وضمادتِه …

كان رامبو يحمل في يديه المفاتيح.

كان يتلو أسرارَه الأخيرة … يقول الأطباءُ: «عيناه تُفيقان وتلتمعان … هاتان العينان الجميلتان اللتان ما عرفتا من قبلُ جمالًا وذكاءً كهذا … أمر فريد من نوعه.»

آخر القصص كانت تنحدر من فمِه، قصص الصليب والتجديف والمال والعاج والجغرافيا وهروبِه من المعسكرات. شحبت الشموع في أديس ورأيت «عكازة رامبو» قرب جثَّته، ورأيتُ «هرر» تشيخ وتتورم سيقانُها، سبع وثلاثون إطلاقة في وجهِك أيها العالم المخزي، سبع وثلاثون بصقة.

لماذا تموت الزنابق بهذه السرعة، كان يبحث في فضلات الطعام وتشربُه الشوارع، يتستر بالوحل ويبيع ساعتَه …

يمزق قمصانَه وبنطلوناته ويتدثَّر.

لماذا يحل الربيع بأجفانه ويديه؟ السرير مبقع بالدم والكحول، وملائكة وشياطين ترف حول جسدِه المسجَّى، زهرة فُلفلٍ بين أصابعه.

(أمتنع عن إبداء الرأي في ماضيه ﮐ «شاعر»، لكنني أؤكد، بكل قواي، أنه كان تاجرًا متحمسًا وحاذقًا). يقول تاجر:

قبل أن يشرب آخر جرعات السم

كنت أطوف وألتقط صورًا فاشلةً له، ولما يتساقط منه وهو يمر بين أديس وهرر محمولًا على نقالةٍ يحملُها زنوج تحت المطر.

أنزل القدح الأخير من فمه وقال لأختِه:

إيزابيل … يا إيزابيل،

سأمضي تحت الأرض،

وأنت ستمشين تحت الشمس،

الله … الله كريم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤