مقدمة

بقلم  محمود محمود

إن من دلائل النهضة المعاصرة في الشرق العربي هذه الحركةَ القويةَ في الترجمة التي تستهدف نقْلَ كلِّ ما وصل إليه الإنسان في أي ركن من أركان الأرض إلى لغتنا العربية، من أدب، وعلم، وفن، وفلسفة، وتاريخ، وغير ذلك من المعارف الإنسانية؛ لكي تُنشر هذه الأفكار بين الناس وتختلط بتراثٍ غني خلَّفه لنا أسلافُنا الأمجاد، فتنبت نباتًا طيبًا جديدًا، نرجو أن يكون دعامة التقدُّم في هذه البلاد ذات الحضارات القديمة، كما نرجو أن يكون هذا المزيج الثقافي الجديد، الذي يجمع بين ما يكشفه الإنسان بعقله وما يكشفه بقلبه وبصيرته، هاديًا للبشرية ومنقِذًا لها من الضلال الذي تتردى فيه، ومن حالة القلق التي تساوره.

وبالرغم من أننا كنا نودُّ أن تتلفَّت هذه الحركة إلى الشرق فتنقل إلينا تراث الهند والصين والفُرس، وإلى الجنوب فتعرِّفنا بتفكير الإنسان الأفريقي، كما تلفَّتت إلى الشمال والغرب، إلا أنها اتجهت في الواقع بأكثر جهدها نحو الغرب وحدَه فأعطتنا صورة واضحة عن حكمة الإغريق، وسياسة الرومان، ومعالم النهضة الأوروبية، واتجاهات الفلسفة والعلوم الحديثة.

وقد انتقلت إلينا هذه المعارف في أغلب الأحيان في صورٍ شتيتة لا يكاد يربِط بينها رابط؛ فهذا عِلم، وهذا فن، وهذه فلسفة، إلى غير ذلك دون أن ندري إن كان بالعقل الذي أنتج كل ذلك ميزةٌ معينة، أو خصيصة ذاتية يتفرَّد بها بين عقول الأمم الأخرى ولا ندرك مقدار تَغلغُل هذه الأفكار في أذهان عامة الشعب وتأثرهم بها.

ثم وقع بين يديَّ هذا الكتاب، الذي كان أول صدوره في عام ١٩٥٠م، لمؤلِّفه كرين برنتن، أستاذ التاريخ في جامعة هارفارد بأمريكا، وتصفَّحته فوجدت أنه يَسُدُّ هذه الثغرة، ويحاول أن يميز الفكر الغربي بصفةٍ خاصةٍ اتصف بها منذ أقدم العصور حتى اليوم، فرأيت أن أقوم بنقله إلى اللغة العربية، وشجعتني على ذلك مؤسسةُ فرانكلين بالقاهرة، التي سوف تتولَّى نشره في البلاد العربية كافة.

وأبادر إلى القول بأن أهمَّ ما يتميز به الفكر الغربي هو توتُّر شديد في عقول المفكرين الذين يَبغُون الموازنة بين المُثُل الرفيعة العليا التي عرَفها الإنسان من قديم، ونادت بها الأديان، وواقعِ الحياة الذي لا يتَّفق وهذه المثل؛ فهي تحاول أن ترفعنا إلى السماء، ويشدنا الواقع إلى الأرض بقوةٍ لا نستطيع أن نقاومها أو أن نتصدَّى لها.

والنهج الذي سار عليه المؤلِّف في بحثه هو سرد التطورات التي حدثت في الفكر الغربي في هذا الاتجاه سردًا تاريخيًّا مسلسلًا. وقد حاول في ختام الكتاب أن يسلِّط ضوء الماضي على تفكير الإنسان الغربي الحديث لعله يستطيع أن يفسِّر هذه التيارات الجديدة التي ظهرت، والتي لا تؤمن بمنطق العقل كلَّ الإيمان، وإنما ترى أن الإنسان كما يتأثر بالمعقول يتأثر كذلك باللامعقول الذي يرجع إلى رواسبَ عميقةٍ في النفس البشرية لا يمكن أن تُقتَلع من جذورها، وهي رواسبُ من الخرافة والوحي والخيال لا سند لها البتة من العقل.

ولعل أهم ما يتعرَّض له المؤلِّف في كتابه هذا هو روايةُ قصةِ الحلول المختلفة التي كان يتخذها الإنسان في الغرب للإجابة عمَّا يسميه الكاتب ﺑ «المشكلات الكبرى»؛ مشكلات الوجود الإنساني ومصيره: ما فائدة الحياة؟ وكيف يستطيع الناس أن يَحيوا حياةً طيبة؟ وما هو الأمل في بلوغ مثل هذه الحياة الطيبة؟ أين نحن من هذا الكون؟ إلى أين المسير؟ ثم ما هو المصير؟ ماذا نَعني بالحق والباطل؟ والخير والشر؟ والجميل والقبيح؟

هذه كلها أمورٌ لا بد للإنسان في كل زمان ومكان من الإجابة عنها، وقد حاول المؤلِّف أن يقص علينا تاريخَ هذه المشكلات في الغرب، وما رآه المفكرون فيها، وما آمن الناس به في مختلف العصور؛ فكان مؤرِّخًا للفكر في الغرب، بأوسع معاني هذا التعبير، ولم يكن مجرَّد مؤرِّخ للفلسفة في حدودها الضيقة التي لا تشتمل على أكثر نواحي التفكير البشري، من دِين أو فن أو علم أو أدب، والتي لا تعبأ بأي الأفكار في حياة الناس.

وفي هذا الصدَّد يقسِّم الكاتب المعرفة الإنسانية إلى نوعين مختلفين: المعرفة التي يمكن تراكمها، والمعرفة التي لا يمكن أن تتراكم.

وخيرُ مثال للمعرفة التراكمية هو المعرفة التي نسميها عادة بالعلوم الطبيعية، ومجرد العلوم؛ فقد أخذت أفكارنا في علوم الفلك والطبيعة — مثلًا — تتراكم منذ بدأ الإنسان يَدرُس هذه العلوم في شرق البحر المتوسط، وفي غضون آلاف السنين التي مرَّت بعد ذلك، حتى أخذت تتكوَّن تدريجًا في صورة علوم الفلك والطبيعة كما نَدرُسها اليوم في المعاهد والكليات. ولم تكن عملية التكوين هذه منتظمة مطردة، غير أنها كانت ثابتةً بوجه عام. ولا تزال بعض النظريات التي ظهرت منذ البداية صادقةً حتى اليوم، نظرية أرْشِميدس في الكثافة النوعية. كما أن كثيرًا جدًّا من النظريات قد أُضيفت إلى الرصيد القديم، وكذلك نبذنا الكثير من هذا القديم لِما ثبت فيه من أخطاء. وكانت النتيجة نظامًا، أو عِلمًا، له أساس متين مقبول في كل مكان من المعرفة المتراكمة، وله حدود من المعارف الجديدة المضافة آخذة في الاتساع. ولا يختلف العلماء في الأسس، وإنما يدور بينهم الجدل — والعلماء يتجادلون كما يتجادل الفلاسفة وعامة الناس — في هذه الحدود النامية دون القاعدة المستقرة. أما هذه القاعدة أو هذا الأساس فإن جميع العلماء يسلِّمون بصدقه.

وخير مثال نَعرِفه هنا للمعرفة اللاتراكمية يُستمَد من ميدان الأدب؛ فالأدباء يُقدِّمون فروضًا معينة، وأفكارًا معينة عن سلوك الأفراد، وعن الحق والباطل، وعن الجميل والقبيح. وقد كتب فيها الأدباء الإغريق باليونانية منذ أكثر من ألف عام، وكان غيرهم من المفكرين في نفس الوقت يكتبون أيضًا باليونانية عن حركات النجوم أو عن نظريات الأجسام الصلبة في الماء. ولكنَّ أدباءنا المعاصرين يكتبون اليوم في نفس الموضوعات التي عالجها الأدباء الإغريق وبنفس الطريقة والأسلوب إلى حدٍّ كبير، وبغير زيادة واضحة أو معينة في المعرفة. أما علماؤنا فإن لديهم عن علوم الفلك والطبيعة معارفَ وأفكارًا وفروضًا تربو كثيرًا على ما كان عند اليونان.

ولا بد لمؤرِّخ الفكر من دراسة تطور المعرفة التراكمية والمعرفة اللاتراكمية على حد سواء، أن يَدرُس أثرَ كلٍّ منهما في الحضارة الإنسانية والسلوك البشري. ومن أجل ذلك فإن مؤلِّف الكتاب لم يهمل النظر في هذه الناحية أو تلك.

ومن الواضح أن الجهد لا بد أن يُبذل لكي تتطور المعرفة اللاتراكمية — وبخاصة في الميادين الاجتماعية وعلوم النفس والأخلاق — حتى ترقى إلى مستوى التقدُّم العلمي الذي تم بالتراكم، وبذلك ترقي الحكمة التي توجِّه تطبيق العلم، والتي يسير الإنسان على هداها، فتؤدي به إلى حياة السِّلم والرفاهية. ولا يكفي أن تدور الحكمة في رءوس قلة من العباقرة المفكرين، بل لا بد من نشْرها بين الناس كافة، بالتعليم والصحافة والإذاعة وغيرها من الوسائل، حتى يمكن لقادة الدول المخلصين أن يحققوا ضروب الإصلاح المختلفة بالطريق الديمقراطي السليم، فترفع العامة من شأن نفسها عن عِلم وخبرة ومعرفة، ولا تكون ثمَّة حاجةٌ إلى قوة أعلى أو سلطة متحكمة تفرض عليها مسلكًا معينًا ترغمها عليه إرغامًا دون وعي منها أو اقتناع من جانبها.

ومن هذه الأفكار التي يرى مؤلِّف الكتاب أن الغرب قد ألحَّ دائمًا في تاريخه على نشْرها بين الناس والأخذ بها، والتي كافح من أجْلها كثيرٌ من المفكرين: الإيمان بديمقراطية الحكم السليمة، وبحق كل فرد في التعبير عن نفسه، قولًا وسلوكًا، دون أن يُلحِق الأذى بأخيه. وقد أراد الغرب دائمًا أن يثبِّت قواعد الحرية والمساواة لكي يحقق السعادة للجميع، بالرغم من الحربين العالميتين اللتين نشبتا في هذا القرن العشرين، فزعزعتا كِيان الديمقراطية والحرية الفردية وهزَّت أركانهما لفترةٍ نرجو ألا تطول.

وقد يكون من العسير على الفرد العادي أن يدرك الأساس العقلي الذي يبرِّر ضرورة المساواة والحرية والإخاء بين الناس، ومن ثَم كان لا بد له من الإيمان بهذه المُثُل العليا عن طريق الدعوة الدينية. ومن أجل هذا فإن أثرَ المسيحية لم يختفِ قطُّ في تاريخ الفكر الغربي منذ ظهورها حتى اليوم.

وترجع أسس التفكير الغربي إلى مصادرَ عدة، أولها المصدر الإغريقي؛ فقد وضع الإغريق أسسَ الأدب والفلسفة والتاريخ الغربي. وكانوا أول مَن استخدم العقل بطريقةٍ مبتكرة لم يسبقهم إليها شعبٌ من الشعوب، فكانوا بحقٍّ واضعي أسس التفكير الموضوعي، والتفكير المنطقي. وكانوا أول مَن حاول أن يعلل بالعلم ظواهرَ الطبيعة. وظهر من بينهم زعماء الفلسفة في تاريخ الغرب؛ فكان منهم سقراط، الذي استشهد في سبيل حرية الرأي والديمقراطية والتقدُّم الفكري، وكان منهم أفلاطون، صاحب نظرية المُثُل، وكان منهم أرسطو، ذلك الرجل الموسوعي، الذي ينادي بالتوسُّط في جميع الأمور.

اليونان هم منبع ما نعرفه بالثقافة الكلاسيكية، وهي أكثر من فلسفة مجردة، إنما هي أسلوبٌ من أساليب العيش، يؤمن صاحبه بأن لبدنه عليه حقًّا، ولا يكفي للرجل المثقف أن يُشبِع تطلعاته العقلية، بل لا بد له أيضًا من أن يسُدَّ حاجاته الجثمانية ولكن في «غير إسراف» كما كان يعبِّر الإغريق؛ فهم أول مَن بشَّر بأن الوسط هو خير الأمور، وقد نعتوه بالوسط الذهبي.

وبلغت الثقافة الكلاسيكية ذروتها في عهد بركليز، ثم أخذت بعد ذلك في التدهور، وكان ذلك في القرن الرابع قبل الميلاد، عندما ضَعُف نظام المدن الحكومية، وأخذت الأفكار تميل نحو الوحدة العالمية، ونشر الثقافة في جميع أنحاء الأرض، وهو الدور الذي أرادت المسيحية أن تقوم به، والمسيحية كما نعلم تستمد كثيرًا من أصولها من الثقافة العبرية؛ فعن طريقها تسرَّبت هذه الثقافة إلى أوروبا.

ثم جاء الرومان، وقد أخذوا عن المدنية الإغريقية أصولها، وأضافوا إليها القوانين الموضوعة، وهندسة الطرق، فكانت من عناصر الثقافة الفردية فيما بعد.

واستمرت المسيحية في انتشارها وبسْط نفوذها على عقول الناس، وقد انتصرت على غيرها من المذاهب؛ لأنها جاءت أملًا للضعفاء والمساكين، تواسيهم وتؤازرهم، كما أتت بفكرة الخلاص للبشر من ذنوبهم عن طريق تضحية المسيح.

وربما كان أهم الأدوار التي لعبتها المسيحية في تاريخ الغرب قد تم أداؤه في الفترة التي تُعرَف في التاريخ بالعصور الوسطى؛ عصور الفروسية والإقطاع، التي كان الناس ينقسمون فيها إلى طبقتين اثنتين؛ فهم إمَّا سادة وإمَّا عبيد، ولا تكاد الطبقة الوسطى يكون لها وجود.

وفي هذه العصور كانت الكنيسة هي أهم المؤسسات الثقافية، ونفوذها أقوى من نفوذ أية هيئة أخرى، والفلسفة كلها تدور حول موضوعات الدين. ومن أجل دراسة الدين وعلومه أُنشِئت الجامعات في هذه الحقبة من تاريخ الغرب، وكان لها هي الأخرى سلطانٌ يلي في أهميته سلطانَ الكنيسة.

وبالرغم من اتساع الهوَّة بين المُثُل الرفيعة التي ينادي بها الدين وواقع الحياة كما كان في العصور الوسطى، فقد كان المجتمع في تلك القرون من تاريخ أوروبا مجتمعًا مستقرًّا، يعتقد فيه الإنسان أن الدنيا هكذا خُلقت، وأن تقسيم الناس إلى نبلاء وأرقاء من طبيعة الأمور. وإذا كنا نقول اليوم بالتطوُّر المستمر في الخليقة وفي المجتمع البشري، وفي التقدُّم المتصل في شئون الحياة، وفي علاقات الناس بعضهم ببعض، إذا كنا نعتقد ذلك منذ القرن الثامن عشر على الأقل، وبعد الدفعة القوية التي دفعها داروين بفلسفته، فقد كان أسلافنا في العصور الوسطى يؤمنون بالثبات وبالاستقرار الدائم فوق الأرض.

بَيْد أن هذا الإيمان بالثبات الذي أخذت به تلك العصور الوسيطة لم يَحُل دون اطراد التقدُّم في العلوم وفي نظام المجتمع، ولم يكن الدين وحدَه هو كل شيء في حياة المرء؛ فقد كان هناك الفُرْسان والرُّهبان على السواء. ولا نغالي إذا قلنا إن ثقافة العصور الوسطى لم تكن ثقافة مستقلة في حد ذاتها منقطعة الصلة عمَّا قبلها وما بعدها؛ إذ إنها — مهما يكن من شيء — كانت حلقة في سلسلة تطوُّر الفكر الغربي، بل لعلها كانت مقدمة للفكر الحديث. وبالرغم مما كان يسودها من روح التشاؤم فلم تخلُ من بارقةِ أملٍ في المستقبل تحول في نهايتها وفي بداية العصور الحديثة إلى نظرة متفائلة إلى حياة الإنسان في هذه الدنيا.

ومن ثقافة تلك العصور انبثقت نهضة أوروبا في العلوم والفنون في القرن السادس عشر، وحركة الإصلاح الديني البروتستانتي، وهما نزعتان إنسانيتان، ترميان إلى تخليص المرء من كثير من الخرافات العلمية والدينية، وإلى الدعوة إلى الاعتقاد في «الطبيعي» ونبْذ كلِّ «ما وراء الطبيعي» من الأمور الخارقة التي لا يسندها العقل أو يعلِّلها المنطق.

واشتد الإيمان بالعقل تدريجًا حتى هلَّ القرن الثامن عشر وقامت حركة عامة في أوروبا تُعرف بحركة التنوير تقرِّر إمكان تحقيق الكمال المنشود في هذه الدار الأولى بجهد العقل الإنساني، فتفاءل الناس واستبشروا بحياتهم بعدما كانوا ينظرون إلى هذه الحياة نظرة متشائمة قاتمة، ويؤمنون بأن الحياة الكريمة، والسعادة والنعيم، لا تتحقق إلا في الدار الآخرة، في الفردوس كما جاء وصفه في الكتاب المقدس.

وفي أواخر القرن الثامن عشر اندلع لهيب الثورة في فرنسا لتقضي على ما تبقَّى في حياة الناس من آثار الإقطاع، فأخذت بفكرة التقدُّم وأيدتها، ثم عزَّزها بالعلم داروين. وآمن الناس بالحرية الفردية إلى أقصى الحدود، ولعلهم بالغوا في هذا الاتجاه إلى درجةٍ تكاد تبلغ حد الفوضى، حتى أشرف القرن التاسع عشر، وكان عصر حكم الملكة فكتوريا في بريطانيا، فأخذ المفكرون يَحدُّون من هذا التطرف، ويحاولون أن يَقِفوا من الحرية موقفًا وسطًا، فلا ينطلق الفرد دون مبالاة بحقوق المجتمع؛ فكانت فترة من فترات التوفيق والاتزان.

وهذا التوازن بين الأضداد هو من سمات القرن التاسع عشر في أوروبا؛ التوازن بين سلطة المجتمع وحرية الفرد، بين الولاء للأمة والولاء للإنسانية قاطبة، بين قبول الجديد والاحتفاظ بالتقليد، بين الإيمان بالله والإيمان بالآلة … وهكذا، حتى كان هذا القرن العشرون الذي نعيش فيه، فاضطرب الميزان، واشتعلت الحرب العالمية الأولى في مستهله، والحرب العالمية الثانية في منتصفه، وكان الإنسان يريد أن يشق طريقه إلى المعرفة الصحيحة بقوة السلاح! وكان من أثر ذلك أن تبيَّن لأصحاب الرأي بعد حربٍ فكرية ضروس أن التوسُّط لا بد أن يمتد أيضًا إلى مجال الملكية، فلا يتملَّك الفرد حسبما شاء، ولا يفقد كلَّ ما يملِك، فوُضِعت أسس الاشتراكية السليمة. كما تبيَّن لأهل الرأي أيضًا أن العقل وحدَه لا يهدي؛ فكانت الدعوة إلى اللامعقول، بالمعنى الواسع لهذا الاصطلاح الذي يقيم للعواطف الإنسانية وزنًا إلى جوار العقل البشري، وكانت الدعوة إلى دراسة علوم الاجتماع والإنسان إلى جانب علوم الطبيعة، وكانت هناك — فوق كل هذا — الدعوةُ إلى الإيمان بالله قوة كبرى تعلو قدرة العقل وكفاية العلم.

•••

أما بعد، فهذه خطوط عريضة للمنهج الذي سار عليه المؤلِّف في كتابه الذي أراد به أن يستعرض تاريخ الفكر الغربي، مع التنويه بآثار القادة في توجيه الثقافة وبثِّها في عقول العامة. ومن ثَم كان عنوان الكتاب: «أفكارٌ ورجال».

ولعل مما يُؤخذ على المؤلِّف أنه يميل إلى الاعتقاد بأن الفكر الأوروبي كان فكرًا مستقلًّا لم يتأثَّر، إلا في القليل، بتفكير أهل الشرق، وإلى أن حضارة الغرب هي أرقى الحضارات. ولكن مما يخفِّف من هذه النظرة المتحيزة ما يُعبَّر عنه من أمل في اختلاط جميع ثقافات العالم في مستقبل تاريخه بحيث تكون هناك ثقافة واحدة عالمية في القرن الحادي والعشرين أو الثاني والعشرين.

ويعزو المؤلِّف تفوُّق ثقافة الغرب — حسبما زعم — إلى أثر البيئة والمناخ في أوروبا، وإلى تفوُّق الأجناس الغربية على غيرها، وإلى النمو المطرد في المعرفة التراكمية في تلك البلاد. كما يعزو أسباب القلق والسخط في هذه الثقافة إلى الفجوة العميقة التي تقع بين «ما هو كائن» و«ما ينبغي أن يكون» أو بين «الواقعي» و«المثالي».

ولكنه — كما بينْت — يتفاءل بظهور الأفكار الجديدة التي تدعو إلى الاشتراكية والاعتماد على العناصر اللاعقلية في تفكير الإنسان إلى جانب العناصر العقلية، والتمسُّك بالمبادئ الديمقراطية، والعودة إلى الإيمان بالله والدين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤