الفصل العاشر

صنع العالم الحديث: المذهب العقلي

إننا نواجه مرة أخرى لفظة ضخمة، هي: التعقُّل. وكأغلب أمثالها من الألفاظ يمكن تعريفها بطرقٍ متعددة. وسوف نعرِّفها هنا تعريفًا عامًّا جدًّا كمجموعة من الأفكار تعزز الاعتقاد بأن الكون يسير بالطريقة التي يعمل بها العقل البشري عندما يفكر تفكيرًا منطقيًّا وموضوعيًّا، ومِن ثَمَّ فإن الإنسان يستطيع في النهاية أن يفهم كلَّ ما يقع في خبرته كما يفهم — مثلًا — مسألة حسابية أو ميكانيكية. ويأمل العقلي أن تهديه في نهاية الأمر القدرات العقلية عينها التي بينت له كيف يصنع ويستخدم ويصون أية آلة منزلية إلى كل شيء يتعلق بأي أمر من الأمور.

وليس ما سبق إلا توضيحًا غير رسمي للمذهب العقلي. ولكن توضيح الأمر ينبغي أن يُظهِر لنا مدى انصراف العقلي الكامل عن العقيدة المسيحية، حتى عن بعض أشكال العقيدة المسيحية المدرسية التي تؤكد قدرة العقل البشري على فهْم تدبير الله للكون فهمًا جزئيًّا على الأقل. إن هناك بطبيعة الحال كل صنوف التوفيق بين المذهب العقلي والمسيحية، وسوف نلتقي ببعضها في «عصر التنوير». غير أن دفعة المذهب العقلي تتجه بعيدًا عن المسيحية. إن العقلي يميل إلى القول بأن المعقول هو الطبيعي، وأنه «ليس هناك ما هو فوق الطبيعي». وهو لا يعترف على الأكثر إلا بالمجهول، الذي لا بد أن يتحول يومًا ما إلى المعلوم. وليس في نظامه مكان للإله الشخصي، وليس هناك مجال في عقله للاستسلام الصوفي للإيمان. إن ما يمقته الإنسان بشدة كثيرًا ما يدل على معالم فكره. وما يمقته العقلي مقتًا شديدًا هو «الاعتقاد في المستحيل».

وإذن فالمذهب العقلي يميل إلى أن يَبعُد الله وما ليس بالطبيعي من الكون. ولا يُبقي المذهب إلا على الطبيعي، الذي يعتقد معتنقوه أن من الممكن فهمه في النهاية، وذلك في أغلب الأحيان عن طريق ما يعرفه أكثرنا بطرق البحث العلمي. إن نمو المعرفة العلمية — من الناحية التاريخية — واطراد استخدام الطرق العلمية بمهارة، يرتبط ارتباطًا وثيقًا باتساع النظرة العلمية إلى العالم، وبصورة الكون في عين العقلي؛ ذلك لأن أكثر العقليين لهم في الواقع نظرة عالمية شاملة، وهي طريقة من طرق الحياة ترتبط باعتقادهم في العقل. وكثير من العلماء المشتغلين بالعلم كانوا ممن يعتنقون المذهب العقلي. وكل عالم يعتقد أننا لا نملك معرفة صحيحة سوى المعرفة التي نصل إليها باستخدام الطريقة العلمية هو — من الناحية المنطقية — إما من العقليين وإما من المتشككين، غير أن العلم والمذهب العقلي — وهذه ناحية هامة جدًّا — وإن كانا مرتبطين تاريخيًّا، إلا أنهما ليسا قطْعًا شيئًا واحدًا.

فالعلم — سواء بمعنى مجموعة من المعارف العلمية المتراكمة أو بمعنى طريقة من طرق معالجة المشكلات (أي الطريقة العلمية) — لا يعبأ بالميتافيزيقا. وهو — كعلم — لا يمدنا بنظام كوني أو بنظرية من نظريات المعرفة. والعلم كعلم لا يحاول أن يجيب عن المسائل الكبرى التي تتعلق بمصير الإنسان، وتصرف الله في الإنسان، أو الحق والباطل، أو الخير والشر، بل هو لا يسأل هذه الأسئلة. وبعض العلماء كأفرادٍ يكادون ألا يوجِّهوا سؤالًا واحدًا فيما يتعلق ﺑ «المشكلات الكبرى». ويكادون أن يسيروا في حياتهم اليومية بدافع العادة أو السلطان، كما يفعل أكثرنا في أكثر الأحيان. ومعنى ذلك أن بعض العلماء ربما لا تشغلهم الميتافيزيقا، أو تقلقهم — فهم في ذلك كأكثر أبناء الجنس البشري (وهذه نقطة لا يُعرف عنها إلا القليل حتى السيكولوجيون المحترفون — ومؤلف هذا الكتاب يعتقد أن قليلًا جدًّا في الواقع من الكائنات البشرية من يتحرر تحررًا كاملًا من القلق الميتافيزيقي، أو على الأقل من الاهتمام بالميتافيزيقا). ومهما يكن من أمر فإن العالم عندما يسأل ويحاول أن يجيب عن أية مشكلة من «المشكلات الكبرى» يكفُّ عن سلوكه كما يسلك العالم. وهو على أقل تقدير إنما يقوم ﺑ «عمل إضافي»، وربما كان يقوم بعمل «مختلف».

وقد ذكرنا في الفصل الأول من هذا الكتاب أن بعض المفكرين المحدثين ينبذون الفكرة التي تقول بأن العلم لا يقوم البتة مباشرة على أساس القيم. وهي فكرة تتحدى التقاليد الغربية الطويلة التي ترى أن الإنسان لا بد أن يستخدم عقله لكي يفسِّر كل خبراته، وكل عالمه. ومع ذلك فإن التقليد الثابت في مجال العلم هو أن العالم ﻛ «عالم» لا يصدر أي حكم على القيم. والأعماق الفلسفية لهذا الموضوع سحيقة جدًّا في الواقع، وليس بوسعنا هنا إلا أن نسجل النظرة الثابتة، وأن نذكر أن هناك منحرفين؛ منحرفين ليس بينهم في الانحراف اتفاق اللهم إلا في معارضتهم للنظرة الثابتة المعتمدة. وإذا كان هناك موضوع مشترك بين أولئك الذين يعارضون المذهب الأرثوذكسي في العلوم الذي يرى أن العلم لا شأن له بالقيم، فهو إيمانهم بأن الذكاء البشري يستطيع أن يَحُلَّ مشكلات الأخلاق، والجمال، بل وأصول الدين، حلًّا فعالًا ناجحًا، كما يَحُلُّ مشكلات العلوم الطبيعية. والظاهر أن الدلائل لا تؤيد اليوم رأيهم، غير أن المشكلة لا تزال قائمة، والحكم الأخير فيها لم يصدر بعدُ. وربما لا يصدر فيها حكم.

والعقلي — من ناحية أخرى — عنده عادةً مجموعة كاملة من الحلول ﻟ «المشكلات الكبرى»، أو هو على الأقل على ثقة من أن الزمن والمثابرة من جانب المفكرين الذين يفكرون تفكيرًا صحيحًا لا بد أن يتمخضا عن أجوبة، ولا بد أن تكون هذه الأجوبة «صحيحة». إن المذهب العقلي — كما نما في القرنين السادس عشر والسابع عشر في الغرب — هو في الواقع نظام ميتافيزيقي كامل، بل إنه — فوق ذلك — كان لأقلية من الناس — ولا يزال — بديلًا عن الدين، وربما كان من الأفضل أن نطلق على المذهب العقلي — باعتباره نظامًا شبه ديني — صفات معينة، كالمادية، والوضعية، وما إليهما، مما يشير بصورة أدق إلى المركَّب الكامل من العقائد والعادات والنظام الذي يتصل بهما. والموازنة الآتية تعطينا صورة تقريبية: المذهب العقلي هو الاصطلاح العام، كالبروتستانتية؛ والمادية والوضعية، والإلحاد — نعم والإلحاد — بل ومذهب التوحيد، أو حتى الاعتقاد في الله مع إنكار الوحي، هي بمثابة الطوائف، كالطائفة التي تُنكِر وجوب تعميد الأطفال، أو طائفة «الصحابة».

العلوم الطبيعية

ولما حل عام ١٧٠٠م بلغت أكثر العلوم التي نسميها العلوم الطبيعية — والتي كانت تُعرف في ذلك الحين باستثناء الرياضيات ﺑ «الفلسفة الطبيعية» — مرحلة جعلت تركيب نيوتن الضخم أمرًا ممكنًا. وفي القرنين السابقين بلغت أكثر النُّظم العلمية المتفرقة، وبخاصة الطبيعة، وعلم الفلك، وعلم وظائف الأعضاء، درجة النضج كعلوم، وإن لم تصبح بطبيعة الحال علومًا نهائية. وعاد إلى الدنيا مرة أخرى ما كان بالإسكندرية الهلينستية منذ ألفي عام: مجموعة من الباحثين والمعلمين، والمعامل، والمجموعات، ووسائل تبادل المعلومات والأفكار — كان هناك بإيجازٍ بيئةٌ اجتماعية وعقلية تلائم تقدُّم العلوم. ولم يكن الجيل الأول من الإنسانيين بأكثر فائدة للعلوم الطبيعية من أسلافهم المدرسيين في العصور الوسطى. ولكن باقتراب القرن السادس عشر من نهايته ازدهر علماء مثل جاليليو وسط فناني النهضة. وليس القرن السابع عشر قرن العبقريات فحسب، القرن الذي ظهر فيه رجال من أمثال نيوتن وهارفي وديكارت وباسكال، وإنما هو أيضًا قرن تأسيس الجمعيات العلمية الكبرى، كالجمعية الملكية البريطانية (١٦٦٠م). وأكاديمية العلوم الفرنسية (١٦٦٦م)، هو القرن الذي بلغ فيه العلم كنشاط اجتماعي سن الرشد، عندما ضاعف من تقدُّمه مئات من العاملين في جد، الذين تضمهم الجمعيات، ونشر الكتب، ونظام عجيب من نظم المراسلة الخاصة.

ولم يصبح العلم بعد — في عام ١٧٠٠م — أكثر المهن العقلية احترامًا؛ فهو لم يصل بعدُ إلى المكانة والثروة والقيمة الاجتماعية التي بلغها في القرن العشرين. ولم تفسح التربية الكلاسيكية والتربية الحرة في المجال للعلوم الطبيعية إلا بمقدار تلك العناية التي كانت العصور الوسطى تعطيها لمجموعة العلوم التي كانت تشمل الرياضة وتطبيقاتها المعروفة في الموسيقى والميكانيكا. ولم يكن للعلم التجريبي، وللعلم في المعامل، تقديرٌ كافٍ في التربية العادية. غير أن المعرفة العلمية في تلك الأزمنة القديمة تسربت إلى عقول جمهور المتعلمين. وكان العلم إحدى الوسائل التي عاونت على نقل الأفكار العقلية في جميع أرجاء العالم الغربي.

ولا نستطيع أن نجيب في بساطة إجابة نهائية عن هذا السؤال: لماذا ازدهرت دراسة العلوم الطبيعية في هذه النقطة المعينة من الزمان والمكان؟ هناك بالتأكيد عوامل متعددة أدت إلى ذلك، كما حدث في مشكلة مشابهة، وهي مشكلة البروتستانتية. لماذا انشق الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر على الكنيسة الكاثوليكية في الغرب بطريقةٍ لم تسبقها بها أية حركة انشقاق أخرى؟ من العوامل الكبرى، وهو عامل يفهمه جيلنا فهمًا جيدًا مما لا يدعونا هنا إلى تأكيده، العامل الاقتصادي، وذلك هو نمو اقتصاد نقدي معقد يديره أصحاب أعمال رأسماليون (أو أصحاب مشروعات). ومن الواضح أن رجال الأعمال هؤلاء كانوا مشغوفين بالتجديد، يريدون تعضيد العلم بالمال، العلم الذي لا يعوقه ما يلابس كثيرًا من الأعمال العلمية من سوء المعاملة أو انحطاط التقدير، العلم الذي لا تقيده أهواء التربية الكلاسيكية. إننا نلمس هذا كله، وربما يرجع ذلك إلى أن أكثر هذه العوامل كانت تؤثر بصورة أوضح بكثير منذ نهاية القرن الثامن عشر مما كانت عليه في تلك السنوات الأولى. وقد أشرت من قبل إلى أن رجال العلم تعلموا من أصحاب الحرف ومن التكنولوجيين، بخلاف ما نلمسه اليوم من إفادة التكنولوجيين من رجال العلم، كما أن أبرز رجال العلم كانوا من السادة، بل من النبلاء أحيانًا، وقلما كانوا من رجال الأعمال. وقد كان العلم منذ بدايته عالميًّا حقًّا، ولم يتقيد بحدود دينية. وإذا كانت إسبانيا لم تُخرِج إلا قلة من العلماء، في حين أخرجت إنجلترا وفرنسا الكثيرين منهم، فهذا أيضًا ممَّا لا نستطيع أن نعلله ببساطة. ويجب كذلك أن نذكر أن الثروة والتنظيم الاقتصادي الحديث المتزايد يرتبط بازدهار العلوم. وليست هذه العلاقة هي كل قصة العلم، ولكنها جانب واضح منها.

وليس هناك سبب مقنع كل الإقناع نرد إليه العلاقة بين نهض العلوم الطبيعية والبيئة الاجتماعية التي تنشأ فيها. ولكنا نستطيع أن نخدع أنفسنا بشيء من البساطة فنقول إن كل انقلاب ثقافي تقريبًا في تلك القرون كان له أثره في نمو العلوم؛ لأن العلم — بالرغم من أنه قد يصل إلى أكثر العلوم تجريدًا — يعتمد على المحسوسات، والوقائع، وعلى وفرة العدد في الأشياء المادية المختلفة. ومِن ثَمَّ فإن كل مضاعفة في الوقائع التي يستند إليها له أهميته القصوى بالنسبة إلى أي علم من العلوم الطبيعية. إن المكتشفات الجغرافية في بداية العصر الحديث — التي شجعتها هي ذاتها البحوث العلمية في الفلك، وفنون الملاحة والجغرافيا — قدمت للأوروبيين ألوف الوقائع، وألوف التحديات للعقل المتطلع إلى المعرفة. كما أن اكتشاف البارود في العصور الوسطى بدأ في هذه القرون يُستخدم في أغراض عملية حربية، فحث استخدامه على بذل الجهد لمقاومة تأثيره. وأدَّى ذلك بالتالي إلى بذل الجهود لاختراع مفرقعات أشد منه قوة. وأحب أن أكرر القول بأن هذا من التكنولوجيا والاختراع، وليس من العلم. غير أن هذه المضاعفة في «الأشياء»، وهذا الاهتمام بها، وهذه المحاولة لزيادة الحصول على أشياء معقدة، كل هذا في حد ذاته، ومن حيث تأثيره في عقول الناس، شروطٌ لا غنى عنها من شروط نمو العلوم.

والحرب مثال طيب لذلك. وهناك نظريات — ويقترن أشهرها برجل الاقتصاد الألماني ورنر سمبارت — تقول بأن نمو الحروب القومية على نطاق واسع في تلك القرون هو السبب الجذري في كل شيء آخر نَعُدُّه حديثًا، ما دامت حاجة الدولة إلى المال لكي تدفع رواتب جيش محترف كانت تحث الجهود التي تجعل بناء الدولة أكثر كفاية، وما دامت الحاجة إلى الأشياء المادية التي تُستعمل في القتال تحث على التغيُّر الاقتصادي، وما دامت الحاجة إلى أسلحة أشد فتكًا في الهجوم والدفاع تحث على التكنولوجيا والاختراع. ومن الطبيعي أن تسيء أشد الإساءة إلى الديمقراطيين والأحرار المخلصين هذه النظرية التي تقول بأن الحرب المنظمة هي مبعث الحضارة الحديثة؛ فشرعَ هؤلاء الديمقراطيون والأحرار في تأليف الكتب التي تثبت أن الحرب لا شأن لها بظهور الثقافة الحديثة. والواقع أن الطرفين هراء من نوع الجدل الذي يثور حول الكتكوت والبيضة، أيهما سبق الآخر. إنما تضافرت الحروب مع المكتشفات الجغرافية، والمخترعات، والوسائل الفنية في الأعمال، وألوان الترف الحديثة، والمكتشفات، وعوامل أخرى عديدة، كلٌّ منها يؤثر في الآخر، وكلها مجتمعة تهيئ الجو المادي للعلم الحديث.

والجو السيكولوجي معقَّد أيضًا تعقيد هذا الجو المادي، وهو بالطبع يتأثر أشد التأثر بهذه المضاعفة في «الأشياء»؛ فهناك دائمًا المتطلعون إلى المعرفة، وهناك الكثيرون الذين يحبون أن يتصيدوا التجارب الجديدة. وكان هناك رجال عُرفوا بالصبر والتنظيم في تصنف التفصيلات، وكثيرون اتصفوا بدرجةٍ من درجات غرائز الجمع، فكانوا يكدسون المواد. والواقع أن الباحث المدرسي في العصور الوسطى كانت لديه من قبلُ هذه الصفات بدرجة عالية. وأما ما كان مطلوبًا لخلق حالة عقلية تلائم تنمية العلوم الطبيعية، فهو أولًا الرغبة في تحويل هذه المواهب العقلية، مواهب الصبر، والبحث الدقيق، وجمع الحقائق، من العالم الموقر — عالم البحث الفلسفي والأدبي إلى العالم غير الموقر — عالم الروائح، والأوزان، والمقاييس، والبرودة، والحرارة، وما إلى ذلك مما نألفه اليوم جميعًا، وثانيًا الرغبة في التخلي عن قدْر كبير من الاحترام الشديد لسلطان الكتَّاب السابقين، وبخاصة أرسطو — كما كانت الحال في العصور الوسطى — والأخذ بعادة مراجعة حتى أدق تفاسير الظواهر الطبيعية، وإخضاعها لاختبارات التجربة والتحقيق.

فكان من الضروري إذن أن تصبح دراسة العلوم الطبيعية محترمة بإمدادها بفلسفة، ليس من الضروري أن تكون ميتافيزيقية، ولكنها على الأقل طريقة وغاية، وقد تم ذلك خلال هذه القرون، وبخاصة على يدَي فرانسيس بيكون، الذي سوف نعود إليه بعد حين، ولكنا يجب ألا يضللنا ما يراه فيه العالم الساذج من جدة وتفرد؛ فإن التحول من الباحث، بل من المدرسي، إلى العالم لم يكن في الواقع ثورة معجزة تخلق شيئًا من لا شيء؛ فلقد أخذ العالم الحديث عن أسلافه الباحثين هؤلاء الذين ينظر إليهم اليوم بعين الازدراء كل تلك العادات العلمية الوئيدة في التفكير والعمل، وهي العادات اللازمة للعلوم الطبيعية — الصبر، والدقة، وتراكم الرياضيات والمنطق التي حصل عليها الإنسان بمشقة، والجماعة العظمى من الرجال والسيدات الذين يكرسون حياتهم لتربية العقل.

وقبل أن نأتي إلى محاولة بيكون لجعل العلم محترمًا من الناحية الفلسفية، يجب أن ننظر في عامل ممكن آخر من عوامل نهوض العلم، وهو عامل ربما طرأ على عقل القارئ من قبل. أليست «الحرية» أحد العوامل الأساسية لنهضة العلوم؟ ألم يكن من الضروري للعالم أن يظفر بتحرره من كل صنوف القيود والمحرمات التي عرفتها العصور الوسطى، كما فعل البروتستانتي والإنساني؟ وماذا ترون في جاليليو؟

لنذكر مرة أخرى أن العلاقة بين ازدهار العلوم الطبيعية ودرجة الحرية الفردية أو حرية الجماعة من القيود الشرعية والخلقية في مجتمعٍ من المجتمعات ليست واضحة أو بسيطة بأية حال من الأحوال. قد نرتاح إلى الاعتقاد بوجود ارتباط مباشر: كلما زادت الحرية (الحرية كما نفهمها نحن الأمريكيين) زاد تقدُّم العلوم؛ إذ من الواضح طبعًا أن المجتمع الذي يحرِّم كل جديد لا يخرج عالمًا، ما دام العلم يتوقف على أن ينتج فرد من الأفراد شيئًا جديدًا. غير أن أمثال هذه المجتمعات المستبدة لا وجود لها إلا في الخيال، على الأقل في العالم الغربي، والتاريخ الواقعي يدل على أن العلم نما في أوروبا التي تحكَّم في أغلب أجزائها ملوك ذوو سلطة مطلقة، وأن العلم يَدين بالكثير لرعاية هؤلاء الملوك ووزرائهم. والواقع أن العلم بعدما أثبت شيئًا فشيئًا أنه نافع في تعزيز تسلط الإنسان على بيئته المادية اقتنعت الطبقات المالكة بقيمة العلم لها بعد ما أثبت العلم تدريجًا أنه مما ينفع في تعزيز تسلط الإنسان على بيئته المادية. وكان يَسُرُّ هذه الطبقات المالكة أن تَهِب العلماء المال والحماية. ومهما يكن من أمر فإن اكتشاف قانون الجاذبية لم يعرِّض مصالحهم للخطر بأية طريقة واضحة. إن الحرية للبحث العلمي ليست هي البتة نفس الحرية للتجريب الفني، أو الفلسفي، أو السياسي، أو الخلقي. وليس من شك في أن العلماء يحتاجون إلى أنواع من الحرية، ولكنهم أشد ما يكونون حاجة إلى التحرر من عبء العادة الثقيل ومن سلطان القديم «في ميادينهم الخاصة».

عندما يعلن العالِم اكتشافًا يقلب المعتقدات السائدة رأسًا على عقب، فلا غرابة أن يلاقي مقاومة شديدة، وأن يضطر إلى الكفاح حتى يُسمِع صوته. والنقطة الشائقة في تاريخ المجتمع الغربي أنه يتمكن من إسماع صوته، وأن الرقابة التي تريد أن تخرسه ضعيفة لا يكاد يكون لها أثر. بل إن هذه الرقابة قد تتحول بطريقةٍ ما من عائق إلى حافز. وحتى في حالة الاستشهاد العلمية المشهورة، حالة جاليليو، فإن الرقابة في نهاية الأمر لم تفعل أكثر من أنها حولت عمل جاليليو إلى مسرحية. وهذا العالم الإيطالي نفسه بُني على عمل علماء أسبق منه، حتى رجع في الواقع إلى العصور الوسطى، ولكنه بُني بصفة خاصة على أعمال ذلك الفلكي البولندي كوبرنيكس. والقضية معروفة لنا جميعًا؛ ذلك أن المنظار المقرِّب الذي اخترعه جاليليو اختراعًا جديدًا مكَّنه من تسجيل وقائع إضافية مثل وجود توابع للمشتري، مما أوحى إليه بنموذج للنظام الشمسي، وبوجود بقع سوداء على سطح الشمس التي دلَّت بتناقصها الظاهر على أن الشمس تدور حول نفسها. وهذه الملاحظات وكثير غيرها دعَّمت نظرية كوبرنيكس (وآريستراخ كذلك كما رأينا) التي تقول بأن الأرض تدور حول نفسها في فلك حول الشمس التي تدور هي الأخرى حول نفسها. وكانت العقيدة المسيحية تُلزِم نفسها إلزامًا كاملًا بالنظرية الأخرى التي تقول بأن الأرض ثابتة وأن الشمس تدور حولها. وبفعل المشاعر القوية انحاز كثير من الرجال الأذكياء إلى العقيدة التي ترى أن كوكبنا — المكان الذي ضحَّى فيه المسيح بنفسه — لا بد أن يكون «مركز» كل شيء، والواقع أن الآراء التي كانت تعارض جاليليو كانت لفئات مؤتلفة، ولم تكن قطْعًا لكنيسة كاثوليكية موحدة ترفض في بساطة قبول عِلم الفلك. ومن الفئات القوية المعارضة جماعة الجزويت الذين أساء جاليليو إليهم بتجاهله البحوث التي سبقت الجزويت. والواقع أن العصابة التي عارضت جاليليو خليط يلفت النظر من القديم والجديد، ومن المنافسة الأكاديمية (وهي بالتأكيد ليست شيئًا جديدًا) بين أصحاب المصالح في هذا الصدد، ومن مجرد الغرام بالجديد، وربما أيضًا من نوع من القلق الميتافيزيقي؛ لأن الأمل في اللانهائي — أو على الأقل في التعدد — لعوالم يكشف عنها المنظار المقرب، قد أصاب الكثيرين بالرعب والفزع. وأخيرًا سيق جاليليو إلى المحاكمة أمام محكمة التفتيش، وآثر الإنكار على أن يُحكَم عليه بأنه مذنب. ولكن ما كتبه جاليليو لا يمكن أن يُلغى أو يُمحى. ولم تكن في أوروبا في القرن السابع عشر أية سلطة لها من القوة ما يكفي لكبح هذه الأفكار التي أذاعها جاليليو، فتأكد انتصار نظرية مركزية الشمس.

أما الرجل الذي اقترب جدًّا من تنظيمِ ما كانت تعالجه هذه «الفلسفة الطبيعية» الجديدة في حدود عامة فهو فرانسيس بيكون الإنجليزي الذي أصبح فيما بعدُ اللورد فريولام. ولم يكن بيكون بالرجل الذي يحبه الناس. لم يكن طيبًا أو رحيمًا. وكان يطمع في النفوذ والثراء. وقد تميزت حياته السياسية — التي انتهت بوظيفة حامل أختام الملك — بالانتهازية وانعدام الضمير، وأخيرًا اتُّهم بالخيانة. وقلَّ من العلماء المتأخرين مَن استطاع أن يعفو عنه باعتباره عالمًا سيئًا، لا يحسن السلوك الذي يبشر به. ولكنه مع ذلك كان ابنًا بارًّا للنهضة الإنسانية، وإن يكن ميلاده قد جاء بعد انقضائها، وكان غزير العلم، متنوع المواهب، نشيطًا متحمسًا للتقدُّم في كل اتجاه. بل إن المعجبين به في الأجيال التالية قد نادَوا بفكرةٍ من أعجب الأفكار في تاريخ الفكر، وتلك هي أن بيكون هو الذي كتب الأعمال التي تُنسب عادة إلى شيكسبير.

صمَّم بيكون عملًا عظيمًا أسماه «نوفم أرجانم» أو «الأداة الجديدة» ونفَّذه إلى حدٍّ كبير في عام ١٦٢٠م، وهو من المؤلفات العظمى البذرية الأخيرة في ثقافتنا مما كُتب باللاتينية. وكثير مما تضمنه من آراء قد ظهر من قبل في كتابه «تقدُّم المعرفة» الذي أخرجه بالإنجليزية في عام ١٦٠٥م. ومن ضلال الرأي أن نقول إن هذا العمل الفريد قد رُسم ليكون نوعًا من المعارضة ضد أرسطو والرجال المدرسيين. إنما كان هذا الكتاب يطمع في أن يصنِّف الدراسات العلمية الجديدة ويضع لها منهجًا، وهي الدراسات التي كان يأمل أن يظفر الناس عن طريقها بسيادة جديدة على بيئتهم. والكتاب مفعم بالهجمات على أرسطو وتلاميذه في العصور الوسطى، وعلى منطق الاستنباط، مفعم بالنداءات بالرجوع إلى دليل الإدراك الحسي، والرجوع إلى الوقائع، واستخدام الاستقراء. وإليكم بعض الفقرات الهامة من كتاب «الأداة الجديدة»:

إن دقة الطبيعة تفوق أضعافًا مضاعفة دقة الحواس والفهْم؛ ولذلك فإن كل تلك التأملات، والنظرات المموهة، وكل تلك المظاهر البراقة التي ينغمس الناس فيها، بعيدة عن الغرض. وإنما ليس هناك مَن يلاحظها.

إن القياس المنطقي لا يُطبَّق على المبادئ الأولى للعلم، كما يُطبَّق عبثًا على البديهيات المتوسطة؛ لأنه لا يتكافأ مع دقة الطبيعة. إنه لذلك يتطلب الموافقة على الغرض، ولكنه لا يتملك الموضوع.

القياس المنطقي يتألف من فروض، والفروض من ألفاظ، والألفاظ من رموز لأفكار، ومِن ثَمَّ فإن كانت الأفكار ذاتها مضطربة (وهي جذور الموضوع)، وإذا كانت قد تجردت من الحقائق على عَجَل، فإن البناء لا يمكن أن يكون ثابتًا، ولذلك فإن أملنا الوحيد ينحصر في استقراء حقيقي.

إن أفكارنا — سواء في المنطق أو في الطبيعة — تتجرَّد من الصحة. والمادة، والنوع، والعمل، والميل، والجوهر ذاته، ليست بالأفكار السليمة. وأقل منها سلامة صفات الثقل، والخفة، والغزارة، والندرة، والرطوبة، والجفاف، والتوليد، والفساد، والجاذبية، والنفور، والعنصر، والمادة، والشكل، وما إليها. كلها وهمي، غير محدد التعريف.

وليس هناك — ولا يمكن أن يكون هناك — سوى طريقتين للبحث في الحقيقة واكتشافها: الطريقة الأولى تقفز من الحواس والتفصيلات إلى البديهيات العامة. ومن هذه المبادئ — التي تَعُدُّ صدقها ثابتًا لا يتزعزع — تسير نحو الحكم ونحو اكتشاف البديهيات الوسطى. وهذه الطريقة شائعة في العصر الحاضر، والطريقة الثانية تستمد البديهيات من الحواس والتفصيلات، وترتفع في صعود تدريجي لا يتعثر، حتى تبلغ أعم البديهيات آخر الأمر. وهذه هي الطريقة الصحيحة، ولكنها لم تُجرَّب بعد.

وقد كتب مؤرخو الفلسفة والعلوم في إسهاب عن فكرة بيكون عن الاستقراء. وربما كان رأيه فيه — من وجهة نظرنا — ساذجًا؛ إذ كان يعتقد أن العالم إذا لاحظ من الوقائع ما يكفي وجد أن هذه الوقائع — بطريقةٍ ما — ترتِّب نفسها في نظام هو المعرفة الصحيحة. ومن المؤكد أنه في جدله ضد المدرسيين يفترض أن العملية التي نسميها التفكير لا تلعب دورًا في عمل العالم. وذلك من غير شك لأنه يطابق بين منطق القياس، الذي يزدريه، والحركة العقلية المجردة. إن قراءة بيكون قراءة فاحصة تقنع الناقد العادل أنه لم يؤمن فعلًا بأن العالم ليس عليه إلا أن يتصيد الوقائع ويسجلها، وإن كان لم يفهم في الواقع كما نفهم (وليس فهمنا جيدًا جدًّا) ما يدور في عقل العالم العظيم الخلاق.

ما كان أبعده عن ذلك! إن ما ضلل نقاد بيكون هو في صميمه ما يربطه بالمدرسيين الذين حاربهم حربًا مريرة، ويجيل الإنسانيين في النهضة التي ينتمي إليها. كان بيكون يبحث عن حلول ﻟ «المشكلات الكبرى». وظن أنه وجد السبيل إلى «اليقين»، ومِن ثَمَّ إلى الاتفاق، في تلك الأمور التي تجادَل الناس فيها طويلًا دون أن يصلوا إلى اتفاق. والعالم الحديث — كما سوف نرى — لا يهدف إلى النظريات التي تتصف بالصدق المطلق الذي لا يتغير. أما بيكون فيهدف إلى ذلك. وهو بميله الطبيعي من «الاسميين» بمعنى الكلمة في العصور الوسطى تقريبًا؛ فهو يبدأ بواقع «الأشياء» التي يدركها بحواسه، بيد أنه يتلمس طريقًا لكي يصل إلى صيغة من الصيغ الثابتة وسط تيار المعارف الحسية التي يقول الواقعيون في العصور الوسطى إنهم يعرفونها عفوًا، بمجرد التفكير أو الاعتقاد. وإذا تبسطنا جدًّا في الشرح قلنا إن بيكون يريد أن يبدأ بالأفكار الاسمية وينتهي بالأفكار الواقعية.

وهو يريد أن يحقق ذلك بسلسلة طويلة صابرة من الملاحظات والتسجيلات التي تبرز فيها «المادة» تدريجًا من «الأحداث» — وأنا هنا أستخدم مصطلحات مدرسية كانت تُغضِب بيكون نفسه — والثابت من العارض. وبالرغم من كراهية بيكون للمصطلحات الفلسفية القديمة فإنه يجد نفسه مرغَمًا على استخدام اللفظة التي تعني «الشكل، أو الصيغة». وإليكم فقرة ذات أهمية كبرى:

لما كان «شكل» الشيء هو الشيء ذاته، والشيء لا يختلف عن الشكل إلا مثلما يختلف الظاهر عن الواقع، أو الخارج عن الداخل، أو الشيء من حيث صلته بالإنسان عن الشيء من حيث صلته بالكون، لما كان الأمر كذلك فإنه يترتب عليه بالضرورة أن الطبيعة لا يمكن أن تُؤخذ على أنها الشكل الحقيقي إلا إن كان الشكل يتناقص دائمًا كلما تناقصت هذه الطبيعة، وكذلك يتزايد كلما تزايدت هذه الطبيعة.

وإذا حاولت أن أسترسل بعد ذلك كنت معتديًا على ميادين الفيلسوف المحترف. وربما لم يعد بيكون أنه يسبق في ألفاظ مثل «الظاهر» و«الواقع» ما أسماه لوك فيما بعد ﺑ «الثانوي» و«الأولي» — أي إن اللون، على سبيل المثال، صفة ثانوية تختلف فيها انطباعاتنا الحسية، والكتلة صفة أولية يمكن قياسها قياسًا موضوعيًّا بالطرق العلمية. وربما كانت «أشكال» بيكون لا تعدو ما قصد به العلماء المتأخرون من «القوانين» أو «الصور المتشابهة». غير أن هذه الأشكال بالنسبة لبيكون تمكن في النهاية معرفتها، وهي في الواقع أمور مطلقة.

إن دور العلوم المتفرقة يبدأ الآن في الازدحام بالأسماء والمكتشفات حتى إن مؤرخ العلم ليحتاج إلى صفحاتٍ لا تقل في عددها عما يحتاج إليه عادةً مؤرخ الحرب والسياسة. ولا يسعنا هنا إلا أن نلخص في إيجاز. لقد واصلت علوم الرياضة التقدُّم الذي أحرزته منذ أوج العصور الوسطى، وبلغت حدًّا استطاعت عنده أن تجابه المشكلات الجديدة التي عرضها علماء الفلك والطبيعة. وقد اخترع فلمنج سيمون ستيفن في أواخر القرن السادس عشر الحساب العشري، وهو وإن يكن لا يعدو أن يكون حيلة من الحيل، إلا أنه كالصفر حيلة لا غنَى عنها. واخترع عالم الرياضيات الاسكتلندي جون نابير اللوغاريتمات في ذات الوقت تقريبًا. وفي القرن التالي أدخل ديكارت — الذي سوف نعود إليه ثانية — تعديلًا في تلك الحيلة النافعة التي نعرفها اليوم باسم الأبعاد المتساوية الديكارتية، التي عنها انبثقت تلك الرسوم البيانية التي يستطيع أن يفهمها اليوم حتى رجل الشارع. كما أن باسكال — الذي نعرفه أساسًا كأديب من الأدباء — دفع الهندسة ونظرية الاحتمالات دفعة قوية هامة.

وتتابعت في الفلك أسماء شهيرة: كوبرنيكس، تيكو براه، كبلر، جاليليو — ومن هؤلاء انبثقت نظريتنا عن مركزية الشمس في نظامنا الشمسي بصورة واضحة، كما بدأت معرفة الكون العظيم خارجًا عن النظام الكوكبي، وقد ذكرنا من قبل كيف أن تلخيص جاليليو وتثبيته لذلك كله أدى إلى محاكمته — وكانت هذه المحاكمة طريقة جيدة من طرق نشر آرائه. وإذا أضفنا ما قاله كبلر إلى ما قاله جاليليو وجدنا أنهما وضعا فكرة الكون الذي يسير طبقًا لقوانين الرياضة، ولكنه «يتحرك» قطعًا، ولا يشبه في ذلك السماوات الثابتة التي لا تتغير التي رُويت عن أرسطو. وقد بيَّن أول قانون من قوانين كبلر على سبيل المثال أن الكواكب لا تدور حول الشمس في دوائر كاملة (وإذا كانت تدور طبقًا لأرسطو فلا بد أن يكون دورانها في دوائر كاملة. وما كان لأحد أن يتقدم بالملاحظات الدقيقة أو الحساب المعقد الذي يلزم لإثبات أنها لا تتحرك)، وإنما تتحرك في أشكال بيضية، الشمس فيها أحد المراكز. وقد عرف الإغريق الشكل البيضي من دراسة الصور المخروطية، غير أنهم لم يطبقوها قطُّ على محاولة للتثبت من أي «قانون من قوانين الطبيعة».

وكان كبلر بروتستانتيًّا ألمانيًّا، مليئًا بالرؤى والحماسة. والظاهر أنه أخذ علم الفلك مأخذ الجد، كما فعل كل أهل زمانه فيما خلا المغالين في التشكك أو في العقيدة المسيحية. وقد وضع مشروعًا مستفيضًا أسماه «عجائب الكون» وفيه يحاول أن يتبين صلات رياضية بين الكواكب والشمس، صلات تثبت تتابعًا في العلاقات ثابتًا مجردًا محضًا قام بحسابه من قديم الفيثاغوريون في اليونان القديمة — وهي الأجسام الكاملة «الأفلاطونية»: الهرم، والمكعب، ومثمن الأضلاع، والجسم ذو الاثني عشر سطحًا، والجسم ذو العشرين سطحًا. ولكن لما اكتشف كبلر أنه قد أخطأ في الحقائق الأولية — فقد قدَّر المسافة بين بعض الكواكب والشمس تقديرًا خاطئًا — تخلى عن نظريته. وربما لا نستطيع أن نحصل على خلاصة مركزة لأهمية الطريقة العلمية أفضل من هذه. كان كبلر يبحث عن نظرية للكون، عن مجموعة من الحقائق عن الطبيعة الحقيقية للعالم، تمامًا كما كان يفعل أفلاطون أو أكويناس. ولكن لما كان تدريبه تدريب العالم، فإن تصحيح الملاحظة — أو القياس — حتَّم عليه أن يتخلى عن طريقته ويبدأ من جديد. إن الحقائق الأولية الواقعية لا تقف في وجه الفيلسوف بهذه الصورة الواضحة.

وفي هذه القرون اكتمل علم الفيزياء، وبخاصة فرعاه: الميكانيكا والبصريات. وهنا أيضًا نجد لجاليليو أهمية بالغة. وتجربته مع الأجسام الساقطة من برج بيزا المائل هي من أكثر النظريات شيوعًا في تاريخ العلم. وكان أرسطو قد قال بأن الأجسام تسقط بسرعة تتناسب وأوزانها؛ فالجسم الثقيل يسقط أسرع مما يسقط الجسم الخفيف. وقد أسقط جاليليو مثل هذين الوزنين من برج بيزا المائل، ولاحظ أن مسلكهما لم يكن كما قال أرسطو. ومن هذه الملاحظات، وبتجارب ورياضيات أكثر تقدُّمًا، طوَّر نظرياتنا الحديثة عن السرعة وعن الحركة المركبة. ويلاحظ مرة أخرى أن نظرية أرسطو هي نظرية عن شيء «كامل» — الدوائر بدلًا من الأشكال البيضية، والحركة المستقيمة التي تحددها طبيعة الجسم المتحرك. أما النظرية العلمية الحديثة فهي أكثر من ذلك تعقيدًا بكثير، وهي بحاجة إلى رياضة أعقد للتعبير عنها، ويجب أن تُراجع دائمًا بالنسبة إلى الملاحظة لكي نرى إذا كانت الحركات التي تفرضها (أو تتنبأ بها) تقع فعلًا.

وهناك إيطالي آخر اسمه تورشلي اخترع البارومتر، وألماني اسمه فون جريك اخترع المضخة الهوائية. وعمال كثيرون مجهولون عاونوا على اطراد التحسن في العدسات وغيرها من الآلات التي جعلت المقاييس والملاحظة الأدق أمرًا ممكنًا، ودرس بويل ومساعده هوك الهواء والغازات الأخرى، وبدأ العملية التي استغرقت عامًا والتي انتهت باكتشاف الأوكسيجين وتأسيس الكيميا الحديثة.

وقد أشارت كل هذه البحوث إلى مبدأ عظيم ميكانيكي يكمن وراء الطبيعة، إلى مجموعة من قواعد شديدة التعقيد لا يمكن صياغتها إلا في حدود الرياضة العليا، ولكنها مع ذلك قواعد تشير إلى أن الطبيعة كلها إن هي إلا آلة. وقد ألهمت هذه النظرية بالضرورة الباحثين في الميدان الذي نسميه اليوم بالبيولوجيا، وليس الاكتشاف العظيم في الفسيولوجيا في القرن السابع عشر إلا محاولة لتأثر الآراء التقدُّمية التي قدَّمها علماء الطبيعة. وفي عام ١٦٢٨م نشر هارفي تجربته التي تقول بأن قلب الإنسان هو في الواقع مضخة، وأن دم الإنسان يخرج من القلب ويسير في دورة لها نظام معين. وبيَّن بوريلي أن ذراع الإنسان إن هي إلا رافعة، وأن العضلات تقوم «بعمل» آلي. وأخيرًا استُخدم المنظار المكبِّر والمنظار المقرِّب، وحققا نصرًا أوليًّا باكتشاف الكائنات الميكروبية، وربما كان أشهر هؤلاء الميكروسكوبيين الأوائل الرجل الهولندي فان ليوينهوك، غير أن كثيرًا من العاملين الأقل أهمية والذين لا نذكرهم اليوم عاونوا — كما كان يحدث دائمًا في نمو العلوم — في تجميع الوقائع في صبر، وفي تفسير معناها تفسيرًا محدودًا.

وأخيرًا يظهر رجل يضم كل هذه الأعمال تحت حكم عام علمي ضخم، تحت قانون أو قاعدة موحدة — لا تزال في حدود العلوم الطبيعية — تبسط وتشرح، وتربط بين قوانين كثيرة أو قواعد عامة متفرقة في قانون عام واحد يلخص البحوث التي استغرقت ملايين الساعات من وقت الإنسان. والقانون الجديد (وما زلنا في حدود العلم) ليس قانونًا نهائيًّا، كاملًا، لا يتغير؛ فمن المؤكد أنه سوف يُعدَّل أو يتبيَّن — فيما نتصور — أنه خاطئ من بعض جوانبه، وذلك بعد مرور الوقت الكافي وإجراء بحوث أخرى. ولكنه لا يزال ثابتًا «نسبيًّا»، وهو بمثابة الأرض المستوية، أو الاستراحة المؤقتة. وكاد جاليليو ينجز هذا العمل، كما أن زهاء الاثني عشر شخصية كبرى غيره مثل كبلر أسهموا إسهامًا أساسيًّا في هذا الحكم العام العظيم، ولكن نيوتن — على كل حال — كان الرجل الذي ضم كل شيء بعضه إلى بعض وكوَّن منه الصورة الآلية الكبرى التي أطلق عليها «آلة نيوتن العالمية». وسوف نعود إلى نيوتن في الفصل الذي سوف نعقده على القرن الذي قدَّسه، وهو القرن الثامن عشر.

إن أي حكم عام ضخم كهذا الذي حققه نيوتن لا بد أن يؤثر في الفكر الإنساني بعدة طرق، ولا بد أن يكون له صدًى في مجالات خارج العلوم — في الفلسفة، وفي علوم الدين، وفي الأخلاق، بل وفي الفن والأدب، ولا بد أن نكرر القول بأن العلم — كعلم — لا يمدنا بنظرية كونية، ولكن ما حققه العلم، على الأقل في العالم الحديث، قد تُرجم إلى ميتافيزيقيات. وقد كان العلماء في هذين القرنين مجموعة متنوعة، لها ديانات متنوعة ونظريات مختلفة. وكان بعضهم لا يستطيع أن يقاوم الإغراء بأن يرى أن الله هو الميكانيكي الأول (بل ربما لم يحسبوا أن للإغراء دخلًا فيما يرون)، أو يرى أن رياضياته هي المفتاح للحياة كلها والموت كله، أو أن يتصيد في المعمل نوعًا من أنواع الحقيقة المطلقة. بل إن بعضهم كروبرت بويل، ذلك الرجل التقي، باعد بين علمه وديانته ولم يمزج بينهما، وهو موقف يستطيع كثير من العلماء أن يقفه حتى اليوم وهو مطمئن سعيد.

ومهما يكن من أمر فإن مجموعة المعارف العلمية المتزايدة كانت تُترجم أساسًا إلى نظرة نحو العالم نسميها هنا بالتعقل. وقد أظهر العلماء في أوائل العالم الحديث كيف أن درجة عظمى من النظام تنطوي تحت ظواهر طبيعية كثيرة متنوعة، وكيف أن كثيرًا من الآراء التي يراها الإنسان طبيعية بإحساسه العام — مثل شروق الشمس وغروبها — لم تكن أوصافًا دقيقة لما كان يحدث فعلًا. إن الظاهر والواقع يتباينان تباينًا شديدًا في أثرِ كلٍّ منهما. والحق أن أثرهما يوحي بأن نظام العالم الضخم ليس البتة كما قال أرسطو والآباء المسيحيون، وأن هذا النظام لا يمكن إدراكه بالإيمان، أو بالتعليل طبقًا لكلمة منقولة، وإنما يمكن إدراكه بإعادة فحص كل شيء في الثقافة البشرية فحصًا دقيقًا، يقوم به الإنسان بتلك القدرة الخادعة المعروفة، قدرة العقل.

الفلسفة

يمكن أن يتصدر فرانسيس بيكون هذا الفصل؛ لأنه كان إلى الفيلسوف أقرب منه إلى العالم، وقد ذكرنا من قبل أنه كان يبحث عن الحق المطلق وعن طريقة لا تخطئ لبلوغ الحق، غير أن موقف بيكون من الفكر، وربما كان أيضًا تأثيره الأكبر في الفكر الغربي كان بصفته عدو الاستنباط وبطل الاستقراء. وبالرغم من أن كثيرًا من حكمه كان ذا نفع كبير لذلك الصنف من الناس الذين نسميهم العقليين، فإن عمله كان في جملته عمل المبشِّر في العلوم الطبيعية. وكذلك كان في زمانه على الأقل عمل الرجل الذي يمثل تمثيلًا كاملًا بدرجة غير عادية التطور الفلسفي الكامل للمذهب العقلي في القرن السابع عشر، وأعني به الرجل الفرنسي رينيه ديكارت الذي ذكرنا اسمه عرَضًا كعالم رياضي. كان ديكارت — ككثير من الشخصيات الذين تعرضنا لهم في سنوات النهضة — متنوع المعارف. كان رجلًا ذا اهتمامات علمية ودراسية متنوعة.

وبالرغم من أن ديكارت انشق على المدرسية في العصور الوسطى، وعلى الأفلاطونية الغامضة المخففة التي كانت تقريبًا كلَّ ما أنتجت النهضة وهي في أوجها في الفلسفة الرسمية، إلا أنه تحدَّث بلغة الفلسفة، وصاغ أفكاره — على الرغم من ثوريتها بالتأكيد إلى حدٍّ ما — في قالب يميزه أي فرد بأنه فلسفي. ولم يكن مفكرًا بسيطًا، شأنه في ذلك شأن كل كبار الفلاسفة، ويستطيع الشارحون حتى اليوم أن يلتمسوا عنده شيئًا لم يجده أحد من قبل، وعلى الأقل يمكن أن تُكتب فيه حتى اليوم رسائل للدكتوراه. ويمكن على أية حال لأغراضنا هنا أن نبسطه؛ فنحن هنا، كما نحن في أي موضع آخر، نهتم بما أفاد المتعلمون العاديون من عمل أي مفكر عظيم، ويجب أن نقر بأن ديكارت لم يتسرب إلى غير المتعلمين، إذا استثنينا بطريقة عامة غامضة اعتباره أحد أولئك الرجال الذين مهَّدوا لعصر التنوير. إنه يقدم للرجل العادي الذي لم يألف مشكلات الفلسفة الرسمية الشائكة ذلك الضرب من المشكلات الذي يقدمه أكثر كبار الفلاسفة. ومع ذلك فقد كتب بلغة فرنسية واضحة وإن تكن جافة. ومؤلفاته، حتى في ترجماتها يمكن أن تُقرأ كما يتوقع الإنسان. وأساس أفكاره الفلسفية الهامة «حديث عن الطريقة» الذي نشره في عام ١٦٣٧م.

نشأ ديكارت في عالم متعلم مليء بالطوائف والأفكار المتعارضة، عالم متعلم في طور انتقال واضح من المدرسية الشائعة إلى مركب من نوع جديد، وقد قرر في جلاء ووضوح أن معاصريه ومعلميه في حالة عقلية مضطربة فيما يتعلق بالكون، وأنه قد وُلد لإنهاء هذا الاضطراب. وقد وصف بنفسه الخطوات التي مر بها في تقدُّمه من نبذ كل سلطان للقديم إلى اكتشافه لما ظن أنه الحق الثابت الأكيد المطلق العميق الذي يستطيع أن يبني عليه، يقول:

«ورأيت … أنه ينبغي لي أن أنبذ كل الآراء التي يمكنني أن أفترض فيها أقل مقدار من الشك باعتبار هذه الآراء باطلة بطلانًا مطلقًا، وذلك لكي أتأكد إذا كان يتبقى بعد ذلك أي شيء في اعتقادي مما كان لا يحوطه البتة أي شك. ومِن ثَمَّ، ومن حيث إني رأيت أن حواسنا تخدعنا أحيانًا، فقد كنت أميل إلى الفرض بأنه لا يوجد شيء مثل هذا فعلًا مما يعرض لنا. ولما كان بعض الناس يخطئ في التفكير، ويقع في المغالطات المنطقية، حتى في أبسط موضوعات الهندسة، فقد نبذت كل تعليل اتخذته للتدليل من قبلُ باعتباره باطلًا، وذلك لاعتقادي أني معرَّض كغيري للخطأ. وأخيرًا لما رأيت أن نفس الأفكار (أو ما يعرض لنا من أمور) التي نمارسها في اليقظة تُمكن ممارستها كذلك ونحن نيام، حينما لا تكون إحداها في هذا الوقت صادقة، فقد افترضت أن كل الأشياء (كل ما يعرض لنا) التي دخلت في عقلي من قبل في أثناء اليقظة، ليس فيها من الصدق أكثر مما في أوهام أحلامي. ولكني تبعًا لذلك لاحظت في الحال — وأنا في الحالة التي رغبت فيها أن أعتقد في بطلان كل شيء — أن مما لا بد منه أن أكون أنا الذي فكَّر هذا التفكير شيئًا ما. ولما لاحظت أن هذه الحقيقة «أنا أفكر، أنا إذن موجود» فيها من التأكيد ومن الدلالة ما يستحيل معه على المتشككين أن يهزوها بأدنى ريبة، مهما أسرفوا، لمَّا لاحظت ذلك انتهيت إلى أني أستطيع — من غير وسوسة — أن أقبلها باعتبارها أول مبادئ الفلسفة التي كنت أبحث عنها.»

ويجب أن يتضح في الأذهان أن هذه هي لغة الفلسفة الرفيعة مهما بلغت الجرأة بديكارت في تحديه للتقاليد القديمة. وقد يسأل المتشكك الصادق، أو المتشكك الذي لا نرتاح إليه: «ولماذا لا نقول: أنا أعرق، أنا إذن موجود.» ولكن ديكارت من هذه العبارة الشهيرة: «أنا أفكر، أنا إذن موجود» استرسل في بناء نظام فلسفي سار به حتى بلغ الإله. وهو إله بعيد غير شخصي — يقول ديكارت في الفصل السادس من تأملاته: «أنا لا أعني الآن بالطبيعة شيئًا آخر غير الله نفسه، أو نظام المخلوقات الذي وضعه الله.» ولا عجب إذا كانت الكنيسة الكاثوليكية لم تشعر أن الفيلسوف قد تخلَّص من شكوكه الأولى، وأن الكنيسة قد اعتبرته منذ ذلك الحين من المنتمين إلى صفوف أعدائها.

وقد عبَّر ديكارت عن النظرية الأساسية للمذهب العقلي أوضح مما فعل بيكون بدرجة كبيرة. وليس العالم بذلك المكان المضطرب المهوش كما بدا في تأملاتنا الساذجة الأولى التي أوحاها الإدراك العام. وكذلك ليس العالم هو عالم التقاليد المسيحية، بما فيها من إله كامن يتدخل في مجرى الأمور، ومعجزاته التي لا يمكن التنبؤ بها، وبما فيها من عالم آخر لا معقول، وأكداس غير معقولة من وسائل العصور الوسطى. بل وليس العالم أيضًا هو ذلك العالم الأفلاطوني الجديد الذي صوَّره في النهضة البريئة الناشئة عشاق الحياة ومَن خلفهم بعد أن زالت عنهم الأوهام. إنما العالم في الواقع عدد ضخم من جزيئات مادية، تدور، وتتحد، مكونة أنماطًا جذابة تبلغ من التعقيد ما يوقعنا في كل ضروب الإدراك العام الزائف، وكل الآراء الفلسفية السابقة لديكارت، ومع ذلك فإن الجزيئات تخضع في الواقع لمجموعة واحدة من القواعد، وتؤدي دورها في نغم متسق، وتعمل بانسجام كما كان يعمل عقل رينيه ديكارت الهندسي. وإذن فالمفتاح الذي يكشف لنا عن الغامض والمضطرب في خبراتنا هو علم الرياضة. وينبغي لنا أن نفكر في كل مشكلاتنا كما نفكر في المسائل الرياضية، مع الحرص في التعاريف. ويجب أن نخطو كل خطوة بعناية وتعقُّل، ونحن ننشد — فوق كل شيء — الوضوح وعدم التناقض، دون أن نزج أنفسنا في متاهات البحوث المدرسية ودون أن نجادل لمجرد الجدل. ولم يكن ديكارت عبدًا للاستقراء كما كان بيكون، وكان يزدري الوقائع الأولية التي ندركها بالحواس ازدراء كاملًا يليق برجل يؤمن بالمذهب العقلي.

كان متنوع المعارف، يهتم بكثير من الميادين؛ فكان لديه على سبيل المثال مجال ضيق في تاريخ الفسيولوجيا؛ لأنه قام ببعض الدراسات في عمل الجهاز العصبي. ولكنه هنا كالعادة فيلسوف، وليس باحثًا في المعمل صابرًا، كان في الواقع يبحث عن مقر الروح (وقد ظنها خاصة بالإنسان، لا تمتلكها الفقريات الأخرى). وظن أنه وجد مقر الروح في الغدة الصنوبرية، التي نعدها اليوم أثرًا من آثار عضو حي كانت له أهميته في وقتٍ ما عند أسلافنا.

وقد رأى ديكارت أن من المهم إيجاد مكان للروح في الجسد؛ لأن نظامه قد ورَّطه في مشكلة فنية ذات أهمية قصوى في مستقبل تاريخ الفلسفة الشكلية. وسوف نكتفي هنا بأن نلفت نظر القارئ إلى هذه المشكلة. ويستطيع القارئ أن يتابعها إلى لوك، وبركلي، وكانت في قلب القرن التاسع عشر، بل وفي القرن العشرين. وهي ليست مشكلة تحرِّك العالم، مهما حرَّكت الفلاسفة. وهي في الواقع مثال طيب يبيِّن كيف أن مؤرخ الفلسفة ومؤرخ الأفكار من حيث تأثيرهما في الجماهير يجب أن يستخدما طريقتين مختلفتين، وأن يركز كلٌّ منهما اهتمامه في موضوعات مختلفة.

وفي إيجاز إذن انطلق ديكارت من مبدئه الأول: «أنا أفكر، أنا إذن موجود» إلى سيكولوجيا ونظرية من نظريات المعرفة يتباين فيها الفكر الواضح مع عالم حسي مضطرب يخرج عن الفكر إلى درجةٍ ما، ولكنه مع ذلك يتصل بالفكر بعض الصلة، ما لم يكن المرء في حالة من حالات الجنون المطلق. إن الروح توجِّه تفكيرنا — وربما قصد بذلك ديكارت أنها «تصنع» تفكيرنا — وهي تدل الجسم على ما يفعل، وربما كان ذلك عن طريق الجهاز العصبي، على صورةٍ ما. أما الحيوانات الأخرى فقد اعتبرها ديكارت بصورة قاطعة مجرد آلات، تستجيب — بطريقةٍ أقرب ما تكون إلى ما نسميه الفعل الشرطي المنعكس — إلى بواعث البيئة. وأما الناس فليسوا آلات بهذا المعنى. إنما يصرف الناس شئونهم عن طريق أرواحهم، وهي الأرواح التي تشارك في معقوليتها القوانين العلمية، والرياضيات، والإله.

وقد حاول كثير من الفلاسفة منذ ديكارت أن يعالجوا هذه الثنائية في الروح والجسد، أو المادة والروح، أو الفكر والحس، وهبط هذا الموضوع إلى المستويات الشعبية في القرن التالي، كما نلمس في «حياة جونسن» لبوزويل. وقد حلَّ المشكلة الفيلسوف الإنجليزي جورج بركلي عندما قرَّر أن «المادة» لا وجود لها، وأن «الوجود هو ما نتصوره» وقد عبَّر عن ذلك بعبارة لاتينية كما فعل ديكارت في قوله «أنا أفكر، أنا إذن موجود»، وقال إن الواقع كله هو فكرة في عقل الإله. وبإدراكه العام ثار سام جونسون على هذا المرض الذي يقول: إن المادة لا توجد. وطبقًا لما رواه بوزويل ركل عمودًا يعترض الطريق، وصاح قائلًا في حزم وثبات: «هكذا يا سيدي أعارضه.»

وإنما تظهر اتجاهات المعضلة اللامعقولة في مشكلة أخرى، لا يمكن أن تنشأ إلا في تتابع الفكر الديكارتي، وهي هذه: إن عمليات تفكيري تنبئني بكلِّ ما أعرف، وهذه العمليات تعتمد في معلوماتها على الانطباعات الحسية التي تسجلها أطراف الأعصاب ثم تنتقل منها إلى المخ. ولكن لا أمس «فعلًا» ما يقع خارج هذه الأطراف العصبية، تلك الأسلاك التلغرافية التي تأتي إلى مخي. وربما كانت كل هذه الرسائل زائفة — وربما لم يكن هناك شيء ما، وربما كنت أنا الشخص الوحيد في العالم، وكلُّ مَن سواي وهْم. أنا «أفكر» ﻓ «أنا» إذن موجود — ولا يتحتم أن يكون هناك موجود آخر. وهذا موقف بالطبع يقع على الحافة الجنونية للفلسفة، ولكن المشكلة كلها التي تثيرها الثنائية الديكارتية ليس لها في الواقع حل، ويوجد اليوم فلاسفة يكادون يضمونها إلى قضية زينو المتناقضة التي أشرنا إليها عند الكلام على تفكير الإغريق في الفصل الثاني من هذا الكتاب، باعتبارها مشكلة لا تعدو أن تكون لغزًا عقليًّا.

ولا ينبغي أن نظن أن ديكارت هو الفيلسوف العقلي الوحيد في تلك القرون، وإن يكن ربما كان خير مثال لهم؛ فلقد كان هوبز، الذي التقينا به باعتباره فيلسوف الدولة الجبارة، في كثير من النواحي، عقليًّا كاملًا كما كان ديكارت. وكثير من المؤرخين والفلاسفة رأَوا من المفيد أن يضعوا المذهب الذي أسمَوه التجريبي مقابل المذهب العقلي، ومثل هذا التصنيف «يقبل» في الواقع المصطلحات ووجهة النظر التي ترد في الثنائية الديكارتية. العقليون هم أولئك الذين يؤكدون ما يتصل بالعقل، أو الفكر، أو الجانب «المثالي» من قطبي الروح والجسد. أما التجريبيون فهم أولئك الذين يؤكدون الجانب المادي البدني الحسي من القطبين. والجانبان على كل حال: الفلسفة التجريبية والفلسفة العقلية على السواء، من بيكون، إلى ديكارت، إلى هوبز، إلى لوك ذاته، رأيا أن العالم ليس له معنًى إلا لأنه معقول، ولأنه ينطوي على النمط الكامن الذي نلمسه في أوضح صورة في التقدُّم الرياضي والعلمي في هذين القرنين. وبعبارة أخرى نستطيع أن نقول إن الروح عند أحد الفلاسفة كانت تفعل نفس ما تفعله المادة عند فيلسوف آخر. وهناك بطبيعة الحال فوارق كثيرة وعظيمة في النظرات العالمية التي كان يراها رجال من أمثال هوبز ولوك، وكثير من المشكلات الفلسفية التي لا يتفقون فيها. ولكن المذهب العقلي والمذهب التجريبي في أوائل القرون الحديثة فيهما في الواقع — برغم ذلك — شيء واحد هام مشترك: ذلك أنهما يريان أن العالم له معنًى — وهو معنًى رياضي في صميمه.

والواقع أن المذهب العقلي بلغ بسبينوزا فيلسوف القرن السابع عشر اليهودي حدًّا من فراغ العقل العميق كما بلغ عند أفلاطون. وينتمي باروخ سبينوزا إلى أسرة يهودية برتغالية استقرت في هولندا، وقد كرَّس كل حياته للآراء الشعبية التي يعتنقها الفيلسوف الذي لا يتحيز. وقد رفض أن ينجح في عالم يقيس النجاح — كما يرى أصحاب النفوس الحساسة — بمقاييس همجية مبتذلة. وفي القرن الذي كافأ الرجال من أمثال ديكارت بحفاوة الجماهير الشديدة بهم، انصرف سبينوزا، وكسب قُوتَه من قطع العدسات في الهيج — وهو عمل كان شديد الإتقان له. وقد طردته الكنيسة اليهودية بسبب آرائه المخالفة للأصول، وعاش أبسط معيشة، وكتب — على غرار زمانه — ميتافيزيقيات فكَّر فيها تفكيرًا دقيقًا. وليس بوسعنا هنا أن نحاول تحليلًا حقيقيًّا لفيلسوف الفلاسفة هذا. وربما كان أشهر مؤلفاته في علم الأخلاق، وقد عرضه عرضًا رياضيًّا، واستخدم فيه الصيغ الظاهرية للعرض الرياضي لكي يصل إلى الله وإلى الخير الكامل. ويُطلق على سبينوزا أحيانًا «المعتقد بألوهية الكون» غير أن هذه الصفة باردة لا شعور فيها بالنسبة إلى مثل هذا الرجل المتحمس للبحث عن إله كامل وبعيد في آنٍ واحد، وهو مع ذلك لا يجاوز إدراكنا الناقص البشري، ويقوده العقل إلى استسلام صوفي، «إلى حب الله محبة عقلية».

«وهذه المحبة العقلية في الأفئدة للإله هي محبة الله عينها التي يحب الله بها نفسه، لا بمقدار ما هو لا نهائي، ولكن بمقدار ما يمكن لجوهر العقل البشري أن يعبِّر عنه، عندما ننظر إليه في صورة الخلود؛ أي إن محبة العقل الفكرية لله جزء من المحبة اللانهائية التي يحب الله بها نفسه. ومن ذلك ندرك بوضوح أنى يكون خلاصنا، أو بركتنا، أو حريتنا، إنه يكون في حب لله أبدي لا يتغير؛ أي في حب الله للناس. وهذه المحبة أو البركة هي ما يُسمَّى في الكتاب المقدس بالمجد.»

ومن العار أن نعرض سبينوزا هذا العرض الموجز؛ فهو جدير بالتفات أي امرئ يريد أن يتغلغل في مزاجٍ كان دائمًا يظفر بإعجاب المثقفين، مزاج الرجل الثائر العذب، الذي لا ينتمي إلى هذا العالم، الرجل القادر على الثبات المذهل في الأمور العقلية. وأما نحن فيكفينا أن نذكر أن سبينوزا — في تقدُّم العلوم العظيم، وباشتغاله بالرياضيات — قد وصل إلى فلسفةٍ تَمُتُّ إلى العالم الآخر بصلةٍ، كما يَمُتُّ أي مفكر في العصور الوسطى، وما أكثر الطرق التي تؤدي إلى مجاهل التصوف.

الأفكار السياسية

إن الأفكار السياسية للعقليين الأوائل هي في الأغلب من النوع الذي ناقشناه في الفصل السابق. وقد نبذ هوبز خاصة النظريات التي تشبه نظرية حق الملوك المقدس؛ لأن العقلي يتحتم عليه أن ينكر ما هو مقدَّس بالمعنى المسيحي التقليدي. ولكنه مع ذلك كان يعتقد بوجود نظام للعلاقات السياسية «الصحيحة» التي يمكن الكشف عنها إذا فكرنا في فروض معينة تتعلق بالسلوك البشري — كالفرض الذي يقول إن الناس جميعًا يريدون الأمن أولًا، والفرض القائل بأن الناس في حالة الطبيعة لا يتوافر لهم أمن. ويترتب على ذلك «عقلًا» — كما يرى هوبز — أن الناس يتجمعون ويضعون عقدًا ليقيموا سيدًا عليهم، مطلقًا كأي سيد مقدس، ولكنه من خلق الناس في الطبيعة. إن المفكرين من أمثال هوبز وهارنجتون وبودين كانوا إنسانيين متأثرين بالتيار العقلي في زمانهم، وكلهم يعمل في إطار تقليدي من التفكير. وقد مهَّدوا الطريق لسياسة عصر التنوير، وهي النظرات السياسية التي نرثها نحن الأمريكيين وراثة مباشرة، ولكنهم لم يصلوا إلى التفاؤل الكامل الذي اتصف به فلاسفة القرن الثامن عشر.

إن الجديد والمبتكَر في التفكير السياسي في هذه القرون هو كتاب ميكافيلي. وهو يتفق مع كل أولئك الذين أسميناهم العقليين في الإنكار البات لفكرة وجود أي شيء فوق الطبيعي، أو أن هناك أي إله يتدخل في شئون الناس اليومية. ومكيافيلي لا يلقي بالًا لفكرة العصور الوسطى بأن الله وراء النظام الخلقي. وهو يبدأ بتطلع النهضة للكشف عن الطريقة التي يسلك الناس سلوكهم وفقًا لها. وسوف نرى أن لديه أيضًا في الواقع آراء ثابتة عن الطريقة التي ينبغي للناس أن يسلكوا تبعًا لها. غير أن هناك في الواقع أساسًا لما أثنى عليه به فرانسيس بيكون حين قال عنه: إننا مَدينون بالكثير لمكيافيلي لأنه أنبأنا بما يفعل الناس بدلًا من أن ينبئنا بما ينبغي للناس أن يفعلوه. وبعبارة أخرى نستطيع أن نقول إن جانبًا على الأقل من عمل مكيافيلي هو من نوع العمل الذي يقوم به العالم الطبيعي فهو ينبني على الملاحظة، وعلى جمْع الحقائق، باعتبار ذلك نقطة البداية في كل تفكير في الموضوع، وبعض تفكيره قائم على الوطنية، على كراهية الإيطاليين للدول الأجنبية التي سادت إيطاليا. وهو ليس البتة من خصوم المذهب العقلي المحدثين. وهو كبيكون يحمل في نفسه كثيرًا من سمات العصور الوسطى. ولكنه أيضًا كبيكون، وبخاصة في صفحات كتابه «الأمير» يحاول أن يحلل الحقائق التي يجمعها ويضم بعضها إلى بعض دون أن يأبه بالأخلاق أو بالميتافيزيقا.

وقد نُشر كتاب مكيافيلي الصغير الشهير — ولعله عند الكثيرين لا يزال كتابًا شائنًا — الذي أُطلق عليه اسم «الأمير» عام ١٥٣١م؛ أي بعد وفاة مؤلفه بأربع سنوات. وهو بالإضافة إلى كتابه «تعليق على ليفي» يعطينا صورة صادقة عن تفكير مكيافيلي وطريقته. وفي «الأمير» يشرع مكيافيلي في وصف الوسائل التي يستطيع بها الحاكم الفرد (أو الأمير) أن يحتفظ بنفوذه كحاكم، وأن يقويه بطريقة مؤكدة. وهو لا يحاول أن يبين ما يفعله الأمير الطيب، أو أفضل الأمراء، أو مبررات الطاعة، أو ما هو الحق وما هو الباطل حقًّا في السياسة. وإنما هو يحدِّد لنفسه مشكلة فنية وهي: إذا توافرت شروط معينة، فما هي الشروط الأخرى التي تحفظ، أو تعزِّز، أو تُضعِف الشروط الأولى. وإليك عبارته في هذا الصدد:

«بقي علينا أن نبحث فيما ينبغي أن تكون عليه الآداب والآراء التي يعتنقها الأمير إزاء رعيته وأصدقائه. ولما كنت أعرف أن الكثيرين قد كتبوا في هذا الموضوع فإني أشعر أني قد أُعَدُّ مدعيًا فيما أريد أن أقول إذا كنت في ملاحظاتي لا أسير على الخطوط التي رسمها غيري. ولكن لما كان في نيتي أن أكتب شيئًا قد ينفع القارئ الفطِن، فقد بدا لي من الأحكم أن أتابع الحقيقة الواقعة في الموضوع دون ما تتخيله عن هذه الحقيقة؛ لأن الخيال قد خلق كثيرًا من الإمارات والجمهوريات التي لم يشهدها أحد أو عُرف أن لها أي وجود حقيقي؛ إذ إن طريقة العيش تختلف كل الاختلاف عما يجب أن تكون عليه طريقة العيش، حتى إن مَن يدرس ما ينبغي أن يعمل دون ما يعمل فعلًا إنما يعرف السبيل إلى سقوطه، لا إلى بقائه. إن الرجل الذي يحاول بكل وسيلة أن يكون طيبًا يلاقي حتفه وسط العدد العديد من غير الطيبين. ومِن ثَمَّ تحتم على الأمير الذي يريد أن يحتفظ بنفوذه، أن يتعلم كيف يكون سيئًا وأن يستخدم معرفته أو يمتنع عن استخدامها طبقًا لحاجته … ثم إنه ينبغي ألا يعبأ بارتكاب مساوئ الرذائل التي يتعذر بدونها احتفاظه بدولته. وإذا نحن أنعمنا النظر في الموضوع رأينا أن بعض العادات التي تبدو فاضلة تؤدي إلى الدمار إذا طُبِّقت. وبعضها الآخر مما يبدو من الرذائل يؤدي إلى الأمن وإلى رفاهية الأمير.»

ويستطرد مكيافيلي ليختبر في المشكلات المحسوسة صحة هذه النظرية العامة. هل ينبغي للأمير أن يكون جوادًا أو بخيلًا؟ وهل ينبغي أن «يُقال عنه» إنه جواد أو بخيل؟ وأيهما أحكم: القسوة أو الرحمة؟ ويجيب عن ذلك مكيافيلي — كطبيب أو، في الأمور العادية البسيطة، كأي إنسان عنده إدراك عام — بأن — كل ذلك يتوقف على العناصر الأخرى في الموقف، أو على «الاتجاهات» الأخرى في الموقف الإنساني، وهو موقف أعقد من أن يُعبَّر عنه بمعادلة رياضية. ودعنا مرة أخرى نقتبس نموذجًا من تعبير الرجل:

وهنا ينشأ هذا السؤال، هل الأفضل أن تُحَبَّ أكثر مما يُخشَى بأسك، أو أن يُخشَى بأسك أكثر مما تحب؟ والجواب أن الأفضل أن تكون هذا وذاك. ولكن لما كان هذا عسيرًا فآمنُ لك أن يُخشى بأسك على أن تُحَب إن كان لا بد لك أن تختار أحد الأمرين؛ لأن هذه الملاحظة تَصدُق على الناس عامة: إنهم ناكرون للجميل، هوائيون، مخادعون، مشغوفون بتجنب الأخطار، جشعون في الكسب. وما دمت نافعًا لهم فهم جميعًا معك، يهبونك دماءهم وملكهم وحياتهم، وأبناءهم ما دام الحظ بعيدًا، كما ذكرت من قبل، ولكنهم ينقلبون عليك إذا أقبل الحظ. إن الأمير الذي يكتفي بالثقة بألفاظهم، ولا يقوم بأي استعداد آخر، لا بد أن ينتهي إلى الدمار؛ لأن الصداقة التي يشتريها المرء بثَمَنِها، ولا يشتريها بعظمةِ روحه ونُبلها، تلقى في الواقع ثوابها، ولكنها صداقة لا يمتلكها صاحبها، ولا يستطيع أن يستنجد بها عند الحاجة؛ فالناس أقل ترددًا في الإساءة إلى رجلٍ يحبونه منهم إلى رجل يخشونه؛ لأن المحبة ترتبط برباط من المسئولية يمكن أن يَهُن — ما دام الناس أشرارًا — كلما أوحت بذلك المصلحة الخاصة. في حين أن الخوف يُصطَحب بخشية العقاب الذي لا يكون فيه قطُّ تهاون.

ومع ذلك فيجب على الأمير أن يُكتسَب الخوفُ منه بطريقةٍ تُمكِّنه — إذا كان لا يستحق معها المحبة — على الأقل من تجنُّب الكراهية؛ لأن الخوف من امرئ مع عدم الكراهية له قد يتلازمان. والواقع أن الأمير قد يحقق هذه الغاية إذا هو اكتفى باحترام ملكية رعيته ومواطنيه ونسائهم. وإذا بات من الضروري أن يحكم بالإعدام على فردٍ ما، وجد التبرير السليم، والقضية العامة. وينبغي له — فوق كل شيء — ألا يمد يده إلى ملك غيره؛ لأن المرء أسرع إلى نسيان موت أبيه منه إلى نسيان فقدان ميراثه. ثم إن الدعاوى الباطلة للاستيلاء على الملك لا تنعدم قطُّ. وإذا ما بدأ الأمير يعيش على الاغتصاب فإنه لا يعدم الحجة قطُّ لنهب الآخرين. وعلى عكس ذلك نجد أن الدعاوى الباطلة للحكم بالإعدام أكثر ندرة وأسرع استنفادًا.

وقد تبدو هذه الفقرات صادقة أو باطلة، أو بين هذا وذاك، للقارئ في منتصف القرن العشرين، ولكنها لا تبدو جديدة؛ فقد عوَّدنا علماء النفس أن ندرس الأفكار التي تتعلق بأعمال الناس السيئة كما نحكم عليها، بل لعل دراستها أهم من الحكم عليها، غير أن ذلك كله كان جديدًا كل الجدة حينما صاغه مكيافيلي كلامًا مكتوبًا. وبالرغم من أن الناس في العصور الوسطى لم يسلكوا سلوكًا أفضل من وصف مكيافيلي لثبات الطبيعة البشرية، فإن الناس الذين ألَّفوا الكتب لم يفعلوا أكثر من ذكر وجود هذا السلوك، وقد بشَّروا خاصة ضدها، وامتعضوا لانحرافها عن قواعد الأخلاق، وأهم من هذا كله، أنهم اعتقدوا أنه سلوك غير طبيعي بالنسبة للكائنات البشرية، وإن شق عليهم إنكار وجوده.

وإذن فقد كان مكيافيلي مبتكرًا، على الأقل في محيط الثقافة المسيحية الغربية، في تحليله السياسي الواقعي. وهو يحاول من بعض النواحي أن يقوم بما شرع في أدائه العلماء الطبيعيون — ملاحظة الظواهر ملاحظة دقيقة وترتيب هذه الملاحظات في صورة قوانين (أشكال موحدة، أو أحكام عامة) تمكِّن من التنبؤ الصحيح بالظواهر في المستقبل في محيط معين. غير أنه لم ينجح في ميدانه كما نجح العلماء في ميدانهم. ونستطيع أن نذكر هنا ثلاثة مواطن فشل مكيافيلي فيها في تطبيق الطريقة العلمية على دراسة السياسة (وهي لم تُطبَّق بعدُ بنجاح تام، وهناك مَن يعتقد أنها لا يمكن البتة أن تُطبَّق تطبيقًا نافعًا، على دراسة العلوم السياسية).

ولست أحسب إلا أنكم قد لمستم أولًا — حتى في المقتبسات القصيرة التي قدَّمتها — نظرة جد وضيعة أو متشائمة إلى الطبيعة البشرية. وهو يقول إن الناس بعامة ناكرون للجميل، هوائيون، مخادعون. وربما كان من المستحيل — من الناحية العلمية — أن نصدر حكمًا عامًّا معقولًا من هذا القبيل على الكائنات البشرية. والمشكلة التي تشبه هذه المشكلة هي — من إحدى النواحي العلمية — غير ذات معنًى، غير أن أكثرنا يصدر حكمًا ما — يضعه في الميزان — عن إخواننا في البشرية بوجه عام. بيد أن هناك نظرات مختلفة على طول الخط ما بين المحبة الواثقة في الزملاء إلى الاحتقار الشديد لهم، وهي نظرات — وإن تكن في أغلب الأحيان حكيمة ونافعة للأفراد الذين يأخذون بها — إلا أنه لا يمكن وصفها بالأحكام العلمية. ونظرة مكيافيلي فيها مغالاة شديدة في السخرية البالغة، وربما دعا إليها إلى حدٍّ ما التمرُّد على الآراء العامة المسيحية التي تتصف بالتقوى، وهي الآراء التي برغم قبولها لمبدأ الخطيئة الأولى ليست في الواقع متشائمة في حكمها على الكائنات البشرية، بل هي في الحقيقة أكثر اهتمامًا بإمكان خلاصهم. ويبدو أن مكيافيلي قد أراد أن يصدم الشعور العام، وأن يظهر بمظهر الرجل الحكيم الشرير، وربما كان في الواقع مثاليًّا معكوسًا، أو متشائمًا لأنه إنما يريد كمالًا أوفر. وهنا تجد مشكلات سيكولوجية خطيرة، يشق علينا حلها في دراسة الأحياء، وتكاد تستحيل فيما يتعلق بشخصيات الماضي، والواقع أن مكيافيلي يظهر بمظهر الرجل المثقف خائب الرجاء، وهو يقف في جلاء موقفًا لا يقفه السوقي، أو الرجل من عامة الناس، أو المثقف ثقافة تقليدية في عهده.

والأمر الثاني هو أن تجرُّد مكيافيلي إنما يتقيد تقيدًا شديدًا بوطنيته الإيطالية الحارة. وليس كتاب «الأمير» في هدفه رسالة أكاديمية أو علمية في فن الحكم. إنما هو رسالة في فن الحكم في إيطاليا بالأسلوب الذي شاع فيها في القرن السادس عشر. وهي رسالة تحث الأمير على أداء واجب توحيد إيطاليا وطرد الأجنبي منها؛ فهو واجب ومنفعة في آنٍ واحد. والفصل الأخير في كتاب «الأمير» لمكيافيلي إنما هو دعاء حارٌّ لخلاص إيطاليا، وقد كان سببًا في استرداد مكيافيلي لسعته عند الأجيال المتأخرة التي كانت تَعُدُّ الوطنية الإيطالية قضية نبيلة. ولسنا هنا بحاجة إلى أكثر من الإشارة إلى أن هذا أيضًا تشويه لجهد مكيافيلي الذي بذله لكي يرى الأمور كما هي على حقيقتها. ولقد أراد أن تتغير الأمور، وأراد أن يتغير الإيطاليون، حتى إنه لم يستطِع أن يبلغ درجة التجرد.

وأخيرًا أقول إنه بالرغم من أن مكيافيلي قد مر بتجربة معينة في العلاقات الدولية وفي شئون الحكم الأخرى على مستوى الوظائف أو البيروقراطية، إلا أنه كتب هذه المؤلفات الشهيرة في شيء يشبه العزلة الأكاديمية. وكما أنه بذل الجهد محاولًا ألا يكتب كتابة ورعة عن كائنات بشرية لا وجود لها (كما فعل جون سولزبري فيما كتب — في ظنه)، فكذلك بذل الجهد في ألا يكون عقليًّا أكاديميًّا، وإنما رجلًا دنيويًّا. وهذا الاتجاه الأخير نكبة من النكبات، وانحراف من أسوأ أنواع الانحرافات؛ فإن مكيافيلي يبذل جهدًا فوق طاقته لكي يكون دنيويًّا، وقد صدم الناس في مشاعرهم لعدة قرون، وهؤلاء الناس يتمسكون بالقديم وإن انعدم لديهم الضمير. وإن مجرد اشتهار الرجل بالشر — أو بنصحه بالشر — هو في حد ذاته دليل على فشله، والمعرفة العلمية لا تحتوي على هذه المرارة الكاوية التي نلمسها في تفكير مكيافيلي.

ومع ذلك فإن مكيافيلي يُعَدُّ بحق أحد الرواد الذين بذلوا جهودًا في دراسة سلوك الإنسان في المجتمع كما يدرس العالم سلوك الغازات أو الحشرات. وهذه الجهود قد يُحكم عليها بالفشل مقدمًا، كما أن «العلوم الاجتماعية» كما نعرفها اليوم قد تبدو بعد قرون قلائل من الطرق المقفلة التي يسير الناس فيها أحيانًا. ولكن لما كنا في العصر الحاضر ملزمين بمتابعة دراستها، فلا مندوحة لنا من الاعتراف بالجميل لمكيافيلي. نعم إن كثيرًا مما قاله قد قيل من قبلُ، وإن كثيرًا منه ورد في التفكير السياسي عند الإغريق؛ فقد لاحظ أرسطو — مثلًا — بعض أنواع السلوك التي يسلكها الناس في الحياة السياسية ودون ملاحظاته. كما أن هناك أدبًا كاملًا عن الحكم والمقالات الصغيرة عن الطبيعة البشرية، وعن حِيَل الناس ونقائصهم، وعن حماقاتهم ما صغُر منها وما كبُر. إلا أن أكثر ما كُتب في هذا السبيل إنما هو من قبيل الإدراك العام أو نوع من أنواع حكمة الجماهير. وهو يشبه التنبؤ بالجو بمجرد الخبرة الذي عرفه الإنسان القديم. ولكن العلم يجب أن يحاول دائمًا أن ينظِّم وأن يقيس وأن يصوغ في مصطلحاتٍ قوية إلى حدٍّ ما — وهي مصطلحات نافعة جدًّا في نهاية الأمر — ما تضعه حكمة الجماهير في عبارات غير مستقيمة. وقد يكون علماء الجو الأوائل أقل دقة من الرجال المحنكين بالخبرة في معرفة تقلبات الجو. وقد يكونون سذجًا أو مبالغين أو غير عمليين. بيد أن العلم المنظَّم لا بد أن يظفر آخر الأمر.

ومكيافيلي كالعالِم في مرحلته الأولى التي تزداد فيها حساسيته؛ فهو يتجه نحو ما يقع فعلًا خلف هذه الألفاظ البراقة التي يستخدمها الناس عندما يكتبون في السياسة أو في الأخلاق. وهو لا يقنع ببعض التأملات الاعتباطية في هذه الأمور. إنه يدرس دراسة منظمة بعض المشكلات، لا ليكتشف ما هو حق، ولكن ليكتشف ما هو قائم فعلًا. وهو لا ينجح كل النجاح في الاحتفاظ بمزاج هادئ، أو في تجرُّده كما ينبغي أن يتجرد، وهو يفشل — فوق كل شيء — في أن يدرك أن آراء الناس ومُثُلهم الأخلاقية لها «بعض» العلاقة بأفعالهم — حتى إن كانت هذه العلاقة طارئة بسيطة. وبعبارة أخرى فإن مكيافيلي يرتكب الخطأ الذي لا يزال يقع فيه بعض كتابنا المدربين المختصين في علوم السياسة والأخلاق، وهو ينكر اعتراف الناس بالعمل الطيب لأنهم لا يقومون بهذا العمل فعلًا في حياتهم.

وكذلك ينتمي فرانسيس بيكون في مجاله إلى أولئك الذين حاولوا دراسة السلوك البشري كما يدرس العالِم التشريح أو الفسيولوجيا، وهو يرسم في الفصل الأول من كتابه «الأداة الجديدة» الخطوط العريضة لموضوعٍ اهتم به اهتمامًا بالغًا السيكولوجيون الاجتماعيون والسياسيون في عصرنا هذا — وأعني به الدراسة المنظمة للطريقة التي يتأثر بها العقل البشري في عمله بالعوامل غير المنطقية وغير التجريبية. وأقول مرة أخرى إن الناس قد عرفوا منذ بدأت ثقافتنا في الظهور أن «الإدراك البشري ليس ضوءًا صافيًا» كما قال بيكون. وقد عرفنا من قديمٍ أن الرغبة تولد التفكير، وأن الناس يتصفون بالأهواء، بل إن لغتنا ذاتها مليئة بالتعبيرات الغامضة، وبما يؤدي إلى معنيين مختلفين، حتى إن الرغبة في الدقة والموضوعية قد توجد ولكن الطريق إليهما يظل وعرًا شائكًا. ولكن تحليل بيكون لهذه الوعورة تحت عنوان «الأوثان» لا يزال مصدرًا للإيحاء، ولا يزال محاولة من أفضل المحاولات المنظمة لتبويب أنواع التبرير عند الإنسان.

وهو يهتدي إلى أربعة أصناف من الأوثان (أو الأوهام) التي تخيم على عقول الناس: «أوثان القبيلة»، و«أوثان الكهف»، و«أوثان السوق»، و«أوثان المسرح». وبأوثان القبيلة يعني الأخطاء التي ترجع في أصولها إلى الطبيعة البشرية ذاتها، في أجهزة الحواس عند الناس وفي عقولهم. والقول ﺑ «أن الإنسان هو مقياس كل شيء» يعني في الواقع أن معاييرنا حتى في العلوم تميل إلى الاختلاف اختلافًا ذاتيًّا. وبأوثان الكهف يعني بيكون شيئًا قريبًا من المعنى العادي للأهواء، وهي الأخطاء التي تصوغها شخصياتنا وتصدر عنها، وهو يعني ذلك الكهف الصغير الذي يشقه الإنسان لنفسه في هذا العالم العنيف. وبأوثان السوق يعني ما يجب أن نسميه مغالطات الدعاية والإعلان، أو تلك الإثارة المتبادلة بين الناس التي تحدث عند التجمهر، أو عند أي نوع من أنواع الاتصال الاجتماعي وهي أخطاء الناس عندما يتجمعون. وبأوثان المسرح يعني بيكون الأخطاء التي يراكمها الناس عندما يحاولون وضع تفسير نظامي للكون — وتلك هي أخطاء الفلاسفة ورجال الفكر، الأخطاء التي تنشأ عن بناء النُّظم، وهي الأخطاء التي يسهل علينا أن نقول إن بيكون نفسه قد وقع فيها، وقد وصف هذا الوثن الأخير في العبارة التالية:

«وأخيرًا هناك الأوثان التي انتقلت إلى عقول الناس من الأقوال اليقينية في الفلسفة، وكذلك من القوانين الخاطئة للتجربة. وأنا أسمي هذه الأوثان بأوثان المسرح؛ لأني أرى أن كل النُّظم التي انتقلت إلينا ليست سوى مسرحيات عديدة، تمثِّل عوالم من إبداعها بطريقة مشهدية غير واقعية. ولا أتحدث عن النُّظم السائدة الآن وحدها، أو عن المذاهب والفلسفات القديمة وحدها؛ لأن مثل هذه المسرحيات قد يُؤلَّف الآن وفيما بعدُ بنفس الطريقة المصطنعة التي أشرت إليها؛ لأني أرى أن الأخطاء وإن اتسعت رقعة الخلاف بينها، تنشأ عن دوافع متشابهة إلى حدٍّ كبير. ولست كذلك أرى هذا في النُّظم الكاملة وحدها، ولكني أراه أيضًا في كثير من مبادئ العلوم وأولياتها، التي تواترت بالتقليد، والتصديق، والإهمال.»

ولست بحاجة إلى القول بأن محاولة تطبيق طرق شبيهة من بعض الوجوه بطرق العلوم الطبيعية على دراسة العلاقات الإنسانية لم تؤتِ الثمرة التي أتت بها عند تطبيق هذه الطرق على العلوم الطبيعية. وحتى اليوم ليس هناك إجماع على العلوم الاجتماعية — وإن يكن من الشائع قطعًا أن نوازن بينها وبين العلوم «الحقيقية» فنغمطها حقَّها.

وكما أن المذهب العقلي لديكارت والمذهب التجريبي لبيكون كانا في الواقع يهدفان إلى تكوين نظرية كونية، وإلى معرفة أكيدة بكل العلاقات الممكنة في العالم، فكذلك نجد أن أكثر أولئك الذين انشقوا على آراء العصور الوسطى بشأن التفكير السياسي كانوا هم أنفسهم يضعون نظامًا في السياسة يخرج في نظرهم بشكلٍ ما عن نقائص السياسة كما تُمارس. وسوف نرى في الفصل المقبل أن التفكير السياسي والخلقي في أوائل الأزمنة الحديثة تحول قطعًا في القرن الثامن عشر إلى تيارات عقلية ولكن النتيجة لم تكن علمًا في السياسة بمقدار ما كانت أيدولوجية سياسية أخرى، أو على الأصح مجموعة من الأيدولوجيات. وإنا لا نذكر هذا على سبيل الشكوى. فما لم يغيِّر الناس من طبيعتهم تغييرًا أساسيًّا فان الأيدولوجيات السياسية والنُّظم الميتافيزيقية ستظل ضرورية للحاجات الروحية البشرية؛ فنحن ما زلنا نعيش في مجموعة الأفكار التي تتعلق ﺑ «المشكلات الكبرى» وهي المجموعة التي أُعدت في أوائل القرون الحديثة وآتت ثمارها في القرن الثامن عشر.

صنع العالم الحديث: خلاصة

تكوَّنت الثقافة الحديثة في المجتمع الغربي فيما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر. ولما حلَّ القرن الثامن عشر كان المتعلمون من الرجال والنساء، وأعتقد أيضًا كثيرون من غير المتعلمين، قد وصلوا إلى معتقدات معينة عن أنفسهم وعن العالم، وعما يستحق العمل في هذه الدنيا، وما يمكن أداؤه فيها — وهي معتقدات لم يتمسك بها أسلافهم في العصور الوسطى. كانوا يعيشون في عالَم بدا لهم جديدًا، ما دامت أفكارهم عنه جديدة، وهي أفكار لم تكن بطبيعة الحال جديدة كل الجدة؛ فإن أكثر المجتمع الغربي كان من المسيحيين في عام ١٧٠٠م، كما كان في عام ١٤٠٠م. ومن الأفكار الأساسية في هذا الكتاب أن الكثير مما كان يعتقد فيه الرجال والنساء في القرن الثامن عشر والقرون الأخيرة كان لا يتفق وبعض النواحي الهامة في العقيدة المسيحية التقليدية. وفي عبارة أخف من ذلك وقعًا نستطيع أن نقول إن «التنوير» قد «حوَّر العقيدة المسيحية تحويرًا أساسيًّا». ومع ذلك فمن الواضح أن جانبًا كبيرًا من المسيحية قد بقي. ولم يقتصر أثرها على التنظيم الشكلي للكنائس.

ومهما يكن من أمرٍ فإن هناك تغييرًا بسيطًا لا لبس فيه، واضحًا لكل ذي عينين؛ ذلك أنه لم يكن في القرن الثالث عشر سوى هيئة دينية واحدة منظمة في الغرب، وهي الكنيسة الرومانية الكاثوليكية. أما في القرن الثامن عشر فقد كان هناك فعلًا بضع مئات من المذاهب في مجموع المجتمع الغربي. وحتى في أقطار مثل فرنسا حيث كانت الكنيسة الكاثوليكية لا تزال في الظاهر صاحبة السيادة كانت هناك مئات الألوف العديدة من البروتستانت، وعدد غير معروف من المؤمنين بالله وحده مع إنكار الوحي ومن الملحدين، والمتشككين، وكلهم صريح فيما يعتقد وفيما لا يعتقد فيه. وقلَّ منهم مَن تعرض لخطر جسيم من العقوبة التي كانت توقع على أمثالهم في العصور الوسطى. وينبغي ألا تضللنا رسائل فولتير ضد إعدام كالا ودي لابار على أيدي الكاثوليك الذين اضطهدوهما؛ فإنما كانت حالتهما من الحالات «الشاذة» على الأقل في الغرب. وكذلك تفتت الوحدة الفعالة للمسيحية. ولما حلَّ عام ١٧٠٠م كانت هناك كتابات تدافع عن الرأي القائل بأن الفروق الدينية «ينبغي» أن تكون موضع التسامح، وأن الكنيسة والدولة تنفصلان بحق، وأن للمرء أن يؤمن بما يشاء فيما يمس العقيدة الدينية. والواقع أن الطريق كان ممهَّدًا للأفكار التي سادت في القرن الثامن عشر كالفكرة التي تنادي بأن هناك «بعض» الصدق في كل الديانات — حتى في الديانات غير المسيحية.

وقد باتت أمثال هذه الأفكار بالنسبة للأمريكيين في العصر الحاضر من الشيوع بحيث يتعذر عليهم أن يدركوا مقدار جدتها، ومقدار تناقضها مع ما كان الرجال والنساء منذ قرون قلائل يفترضون صدقه بنفس الدرجة من الوثوق. وهي أفكار تتضمن معيارًا جديدًا للحقيقة — ميتافيزيقية كانت أو دينية — ولا تدعو إلى التخلي عن البحث عن مثل هذه الحقيقة، وكان الناس في العصور الوسطى يعتقدون أن هذه الحقائق من الوحي، وهي كاملة في الإيحاء بها. وقد تغيب عن أنظار الناس، بل وقد لا يتبعونها باعتبارهم ورثة لخطيئة آدم. ولكن لا يمكن للإنسان أن يكون «على حق»، أو أن يعرف الصدق ثم يعارضه في سلوكه. وفي ضوء هذه الأفكار الوسيطة يمكن فهْم إحراق الزنادقة؛ فهم ثمرة فاسدة، وإذا تُركوا وشأنهم فقد يفسدون الثمرة السليمة. ثم إنهم فوق ذلك ملعونون، وإقصاؤهم عن الحياة الواقعة لا يضرهم في شيء؛ فهم قد أوقعوا الضر بأنفسهم على أنفسهم من قبل. وبعبارة أخرى إنك لو عرفت أنك على صواب، فإن كل مَن يختلف عنك لا بد أن يكون على خطأ. وعلى الناس أن يلزموا الصواب لا الخطأ. ولا يمكنك أن تسمح للأفكار الخاطئة بالانتشار دون أن تكون بالغ الأذى.

وبالرغم من أن تبرير أو تعليل التسامح الديني كان في بداية انتشاره ونموه في أوائل القرن الثامن عشر، إلا أن خطوط الدفاع الرئيسية واضحة. ومع أن أنواع التبرير قد تختلف في التفصيل فإنها تنضم إلى أحد فروض ثلاثة: أن هناك حقًّا جديدًا أعمق من الحقيقة المسيحية التقليدية، وهو حق إذا تسامحنا فيه يقتلع العقيدة المسيحية في النهاية من جذورها أو يحورها تحويرًا شديدًا، وأن الحق لا يُوحى به للناس كاملًا غير منقوص، وإنما ينبغي الكشف عنه تدريجًا عن طريق التجربة والخطأ، وعن طريق البحث، وبذل الجهد البشري. والفرض الثالث — وهو فرضٌ قلَّ مَن تمسك به في تلك الأيام الأولى — هو أنه ليس هناك حقيقة ثابتة أو وثوق تام في مثل هذه الأمور، وأن كل ضروب الحقيقة «نسبي»، وأن الوحي والتفكير والدراسة لا يمكن أن تنتهي إلى الحقائق المطلقة. غير أن هذه الفروض كلها تتفق على الأقل في نبذ شيء في الميراث المسيحي الذي تحدر إلينا من العصور الوسطى. وهي كلها تزعم أنها تؤدي إلى شيء جديد وشيء أفضل.

ويظهر الاختلاف في الأساسيات ظهورًا واضحًا في أخريات القرن السابع عشر ومستهل القرن الثامن عشر في مجادلة ظاهرها عديم الأهمية بين رجال الأدب في فرنسا وفي إنجلترا، وهي مجادلة تحمل عادة اسمها بالفرنسية، وهو بالعربية «النزاع بين القدامى والمحْدَثين». ومن آثارها الباقية في الجانب الإنجليزي رسالة سويفت الشائقة، وعنوانها «معركة بين الكتب». وموجز الكتاب أن أحد الجانبين يعتقد أن الإغريق والرومان قد انتهَوا إلى ثقافة في عمومها وفي تفصيلها لا تُبارى. وقد كانوا العمالقة الذين ارتادوا ميادين الثقافة البشرية ووضعوا الأمثلة التي ليس بوسعنا إلا أن نحذو حذوها على مبعدة؛ فالثقافة الكلاسيكية بالنسبة إلى هؤلاء نوع من الفردوس العلماني أو الإنساني. ومن الكفران أن يعتقد المرء أن مثل هذه الثقافة سوف يظهر مرة ثانية فوق الأرض. أما الجانب الآخر فكان يعتقد أن إنجازات الإغريق والرومان كانت عظيمة حقًّا، بيد أنها أقرب إلى أن تكون أرقامًا قياسية أُتيح للأوروبيين المحدثين أن يتجاوزوها. والثقافة الحديثة قد تعادلها أو تَفضُلها في كل ميدان. وليس هناك أي جدوى من التمسك بأن القدماء يتفوقون علينا قطعًا؛ لأننا نستطيع أن ننتفع بأعمالهم، وأن نبني على أساسهم فنسمو على ارتفاعهم.

وموقف المحدثين في النزاع هو من الأشكال الأولى لمبدأ هام جدًّا، هو مبدأ التقدُّم، الذي يألفه الأمريكيون جميعًا اليوم، وهو المبدأ الذي لا يرى الجدة وهمًا أو تدهورًا، وإنما هي السير الطبيعي طبقًا لخطة عالمية من نوعٍ ما. ونحن لا ندري كيف حدث هذا التغير الأساسي الثوري في وجهة النظر. وإنما نحن نعلم يقينًا أن العملية كانت معقدة وبطيئة نسبيًّا وهي عملية نستطيع أن نلمس فيها ثلاثة مكونات عقلية أساسية.

الأول تلك السلسلة الكبرى من التغيرات التي حدثت في عبادات المسيحية ومُثُلها تحت اسم البروتستانتية. وقد كان للحركة البروتستانتية نصيبها الأكبر من البطولة الإنسانية والضعف الإنساني، ومن الكفاح والمصادفات والنهايات العجيبة. وقصة تاريخها رواية جذابة، ولكنا لا نستطيع في كتابٍ كهذا إلا أن نمر عليها مر الكرام. غير أن مؤرخ الفكر قد يرى أن الأهمية الكبرى للبروتستانتية تنحصر في كونها «محلولًا» يوهِن من سلطة العصور الوسطى، وقد كان هذا المحلول في أقوى حالات تأثيره في تلك الأيام. وقد حطمت الحركة البروتستانتية الوحدة الشكلية التي احتفظ بها العالم المسيحي الغربي لألف وخمسمائة عام، وأقامت مجموعات أو مذاهب كبرى بالعشرات ومذاهب صغرى بالمئات، كلٌّ منها يبيح لنفسه المطالبة بالسلطة الدينية الكاملة في مجاله. وقد مهَّدت البروتستانتية بانقسامها إلى مذاهب رئيسية ومذاهب فرعية الطريق إلى الشك الديني؛ لأن العقل الذي يميل إلى الشك، أو الذي يتمسك بالمنطق، يرى أن وجود عدد كبير من المعتقدات المتناقضة المتضاربة — كلٌّ منها يزعم احتكار الحق — يمكن أن يكون دليلًا على أنه ليس هناك حق يُحتكر. ومن ناحية أكثر إيجابية كانت البروتستانتية — وبخاصة في صورتها الأنجليكانية واللوثرية — بمثابة الدعامة التي تقوي المشاعر الوطنية عند أعضاء الدول القومية الجديدة التي تقوم على أساس تقسيم الأرض. وما برح الله إلهًا لكل الجنس البشري (ولو قيل غير ذلك لكان معناه التخلي عن المسيحية كلية)، ولكنه يؤثِر قومًا على قوم بمعنًى من المعاني، فيعامل الإنجليز أو البرويسيين أو الدنماركيين كأطفاله المدللين. وهذه الكنائس الوطنية الجديدة في ممارسة الحياة الدينية اليومية وإدارتها ليس لها نصيب في حياة دولية أو عالمية من النوع الذي كان للكنيسة القديمة في العصور الوسطى. والبروتستانتية الكالفنية خاصة شجَّعت في الموالين لها مزيجًا متناقضًا من الشوق إلى الاتحاد بالله في العالم الآخر — وهو شوق يبرز في كل الحياة البيوريتانية — واحترام دنيوي بحت للرجل الذي يكافح وينجح في حياته المادية، ولكن البروتستانت الأوائل لم يخلقوا عالمًا جديدًا. واعتقدوا في الخطيئة الأولى، وفي وحي الإنجيل، وفي سلطةٍ لا تنشل قطعًا في البابا في روما، ولكنها مع ذلك سلطة تسمو على عمليات التجربة والخطة التي تقع في الحياة العادية. وكان البروتستانت يؤمنون بإله كامن، لا يشبه البتة قوانين الرياضة. وكانوا يؤمنون بنار الجحيم، وبالنعيم المقيم للصفوة من الناس.

والإنسانية — وهي القوة الثانية في صنع التحول — كانت أكثر من مجرد تطبيق الروح البروتستانتية أو التحررية الغامضة على الحياة الدنيوية وكانت تشترك مع البروتستانتية في تأثيرها المدمر على ما تبقَّى من معايير العصور الوسطى. وقد تشككت في سلطان العادة المباشرة وفي الفلسفة المدرسية المستقرة. كانت عصيانًا إيجابيًّا من جانب الفنانين والباحثين. وقد أتقن بعض فنانيها وسائلهم إتقانًا باهرًا (مستعينين بالطرائق التي صنعتها أجيال ممن تدربوا على طرائق العصور الوسطى) وأنتجوا فنًّا عظيمًا جدًّا. وكثيرون منهم كانوا مغامرين، أحرارًا في معيشتهم، خياليين، قومًا يدعون إلى الإثارة فعاونوا على وضع المعايير الحديثة للفنان والكاتب، وهي المعايير التي يتحتم بالضرورة أن تكون غير تقليدية، وغير نافعة عمليًّا، معبرة عن الأنانية، ولكن تأثيرها برغم ذلك كاسح. ولم تكن الفضيلة لديها مَثَلًا من المُثُل المسيحية بأية صورة واضحة، وإنما كانت المَثَل الذي يتطلع إليه الشباب الرياضي. وتتصف الإنسانية — كما تتصف الكالفنية بتناقض بعيد الغور فيها؛ فقد ثار الإنسانيون على سلطة رجال الدين وعلى عبء التقاليد. ويبدو على الأقل في أعمالهم أنهم يؤمنون بالفكرة الجديدة التي تقول بأن الناس «يصنعون» معاييرهم، و«يصنعون» الحق عندهم، ولا يكتشفونه فحسب. ولكنهم مع ذلك — كمجموعة — وقفوا موقف التقديس للأساتذة القدماء، الذين سلطوهم عليهم سلطانًا مطلقًا كأي سلطان قدسته العصور الوسطى. وكانوا على وعي محدود بما كان يُنتظر من انتشار الأفكار والآمال بين الجماهير. كانوا فئة ممتازة من المتعلمين، يميلون إلى المُثُل الأرستقراطية والملكية، ولم يكونوا ديموقراطيين بأي معنًى من المعاني. ولم يعتقدوا أن الدنيا يمكن أن تكون مكانًا أفضل، اللهم إلا إن كان ذلك لهم وحدهم.

والمذهب العقلي — وهو القوة الثالثة — كان كذلك عاملًا من عوامل الهدم، أقلَّ وضوحًا وأضعف قوة في السنوات الأولى من العصر الحديث من البروتستانتية أو الإنسانية، ولكنه أهم وأقوى في نهاية الأمر. وقد نبذ العقليون من المسيحية الكاثوليكية التقليدية أكثر مما نبذ البروتستانت أو الإنسانيون. وهم لم يكتفوا بإبعاد ما فوق الطبيعي من العالم، بل كانوا على استعداد لوضع الإنسان نفسه بكليته في إطار الطبيعة أو «العالم المادي»، كما آمنوا حقًّا بأن الإنسان عليه أن يسترشد بمعايير الحق والباطل. وقد ظن العقليون في القرون الأولى من عصرنا الحديث أن هذه المعايير ثابتة وأكيدة، وأن الناس إنما «اكتشفوها» ولم يصنعوها. ولكن إذا كان المسيحيون في العصور الوسطى قد وجدوا هذه المعايير في العادة، وسلطان القديم، وفيما كان كما هو منذ أزمنة لا يذكرها العقل، فإن العقليين كانوا يسعون إلى اكتشاف هذه المعايير وراء الظواهر، والعادات، والاختلافات الظاهرة، ويسعون إلى اكتشافها بالبحث الدءوب الذي يجد فيه التفكير العقلي الحقيقة الرياضية وراء الظواهر ذات الأشكال والألوان السوقية المتنوعة. والمذهب العقلي ليس به شيء من المتناقضات الظاهرة في البروتستانتية والإنسانية — اللهم إلا إن بلغ بك التشكك الواقعي حدًّا يجعلك ترى من التناقض أن يحاول المرء أن يفكر في أي نوع من أنواع النُّظم المرتبة فيما يقع في خبرة الإنسان في هذه الدنيا. وحتى في هذه السنوات كان المذهب العقلي يَدين بالكثير من نفوذه الآخذ في النمو البطيء إلى ما أنجزته العلوم الطبيعية. وأخيرًا لما نجح العلم على يد نيوتن في بلوغ نظام للكون كامل كمالًا يدعو إلى العجب، نظام يمكن اختباره رياضيًّا، وله فائدة عملية بمعنَى أنه مكَّن للناس من التنبؤ الصحيح، لمَّا حدث هذا بات المسرح معدًّا للنظرة العالمية العقلية الجديدة، ولنظرية كونية تختلف عن نظرية سنت أوغسطين أو سنت توماس أكويناس، كما كانت نظريات هذين الرجلين تختلف عن نظرية الإغريق في القرن الخامس قبل الميلاد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤