الفصل الخامس عشر

منتصف القرن العشرين: عملٌ لم يتم

لقد عالجت حتى الآن تاريخ الفكر في الغرب دون أن أذكر إلا عرَضًا شيئًا عن أية ثقافة أخرى، وذلك عن قصد وعمْد. وركزت البحث في اتجاهات الناس في الغرب، رجالًا ونساء، إزاء «المشكلات الكبرى»، وإزاء النظرات الكونية. والواقع أن الغرب — على وجه الإجمال — لم يتأثر كثيرًا بالنظرات الكونية، أو حتى بالأفكار الخلقية والجمالية السائدة في الثقافات الأخرى. ولا جدال في أن جانبًا كبيرًا من الشكل الأول من أشكال الثقافة الغربية التي درسناها هنا، وأقصد الشكل الإغريقي، قد نشأ عن ثقافات منطقة شرقي البحر المتوسط في ألوف السنين التي سبقت هومر وأهل أيونيا. غير أن هذه الثقافات الأولى ليست في كثير من الأمور سوى السلف لثقافتنا الغربية. ومهما يكن من أمر فإنها — باستثناء الثقافة العبرية وغيرها من عناصر الشرق الأدنى في المسيحية — قد فعلت فعلها في الأغلب قبل ظهور الثقافة الإغريقية العظمى.

إن الدراسة المفصلة للثقافة الغربية لا بد لها — بطبيعة الحال — من أن تأخذ في الاعتبار أنواعًا كثيرة من الاتصال بالثقافات الأخرى، وبخاصة في الهند والصين، وأن تلاحظ كثيرًا من الأمور كان ميراثنا فيها يختلف عما آل إليه لو أن هذه الاتصالات لم تحدث؛ فهناك أولًا تبادل السلع المادية المعروف، ذلك التبادل الذي يستطيع حتى مَن يتعرض لما قبل التاريخ أن يجد له آثارًا في البقايا الأركيولوجية. كان الغرب في العادة يميل ميلًا شديدًا إلى قبول السلع الغريبة، وأن يجرِّب الأطعمة الغريبة الحارة. وليس الرجل الغربي بذلك المخلص المتفاني في الجديد، أو المبتكر، والخبرة الجديدة كما بدا للتقدُّميين في القرن التاسع عشر، بالرغم من أن المغرمين بالجديد موجودون دائمًا حتى في ثقافتنا، غير أن أية لغة غربية حديثة فيها — برغم ذلك — آثار من الاقتباس من كل صقع من أصقاع العالم: مثل السكر، والكحول، والكاري، والطماطم، والتبغ، والبيجاما، والكاوتاو، والبنجالا، وغيرها من الألفاظ الغربية المستعارة من اللغات الأخرى.

وكان من بين هذه الاستعارات أحيانًا المخترعات والأفكار. وقد ذكرنا مثالًا نموذجيًّا لهذا النوع من التأثير الخارجي في الثقافة الغربية في رمز الصفر، الهندي الأصل والذي استعرناه عن طريق العرب. وهذه الاستعارة وكثير غيرها لها أهمية قصوى، ولولا بعضها على الأقل لما كانت ثقافتنا الغربية على ما هي اليوم. وقد أُعجب العقليون في القرن الثامن عشر بالصينيين كثيرًا في الواقع، وسوف نرى أنهم استخدموا — إلى حدٍّ ما على الأقل — الصينيين الكنفوشيين الحكماء عصيًّا يضربون بها خصومهم المسيحيين. وكذلك أدخلوا الفن الصيني في الفن الغربي — مثل الطراز الصيني في أثاث «الصالونات» على سبيل المثال. كما أن شيوع طراز الشينوازري (الطراز الصيني) هو بداية ذلك الخلط الحديث الذي قد ينشأ عنه طراز آخر مستقلًّا بنفسه. كما أن الفيزيوقراطيين الفرنسيين (الذين ينادون بالحكم وفقًا للنظام الطبيعي) قد تأثروا كثيرًا بأهل الصين.

وبمكتشفات القرن الخامس عشر وبداية التوسع الأوروبي بدأت دراسة البلاد والشعوب غير الأوروبية من جميع الأنواع تأخذ حيزًا كبيرًا في المعرفة الغربية. غير أن نمو أكثر العلوم الرسمية كان بطيئًا جدًّا في هذه القرون الأولى؛ فالأنثروبولوجيا في أصلها علمٌ يرجع إلى القرن التاسع عشر، وحتى دراسة اللغويات المقارنة، والدراسة الجادة للهند والصين، ترجع إلى ما بعد حركة التنوير. وما إن حلَّ القرن التاسع عشر حقًّا — برغم هذا — حتى شاعت بين الباحثين والدارسين الدراسة الدقيقة لكل أوجه الثقافة عند الشعب التي لا تدخل في دائرة التقاليد الغربية، وقد نشرت الصحافة الشعبية، والكتب، ومنصات المحاضرة بين الملايين العديدين من الغربيين شيئًا من المعرفة على الأقل عن الشعوب الأخرى. بيد أن هذه المعرفة لم تكن البتة واسعة أو عميقة. وربما كان قليل من الغربيين مَن يعتقد حقًّا أنه يمكن أن يتعلم شيئًا ما من عبدة الأوثان. وقد لا يكون الرجل البريطاني أو الفرنسي الذي يمثِّل شعبه تمثيلًا صادقًا «مرتبطًا بثقافته»، أو معجبًا بنفسه في تقديره للغرب، كما زعم رجال الفكر الذين أرادوا لنا أن نكون فعلًا عالميين، وفعلًا إنسانيين، نستوعب خير ما في العالم كله. ومع ذلك فإن الاقتباس الذي يجري على الألسنة نقلًا عن تنيسون يمكن أن يُعَدَّ مثالًا طيبًا للقيمة التي نسبها الغرب في القرن التاسع عشر للشرق، وذلك قوله: «إن خمسين عامًا في أوروبا أفضل من عصر مديد في الصين.»

وهناك وجه آخر من أوجه تبادل العلاقات الثقافية يظهر على أوضح صورة في حركة التنوير في القرن الثامن عشر. وذلك هو استخدام نُتَف المعلومات — وهي في الواقع معلومات خاطئة في أكثر الأحيان — عن ثقافة من الثقافات لدفعِ سياسةٍ يريد المرء أن يحض عليها في ثقافته؛ فكان «فلاسفة» القرن الثامن عشر يخترعون أسماء فارسية، وصينية، وهندوسية، ومن سكان الجزر الجنوبية، من الحكماء، الذين يتصلون بالثقافة الأوروبية فيعرضون حكمتهم للنقد الأوروبي. والمشكلة هي أن كل هؤلاء الرجال الصُّفر والسُّود والسُّمر والحُمر، الذين يؤثِّرون بحكمتهم الوطنية المفترضة في المشكلات الأوروبية، هم في الواقع من «الفلاسفة» الأوروبيين، ولهم نفس الأفكار عن الحق والباطل، والجميل والقبيح، والعقل والخرافة، والطبيعة والعرف، التي يراها المستنيرون الآخرون. وليس هؤلاء الرجال غير الأوروبيين سوى أشخاص خيالية، رجال وهميين، يستخدمون عصيًّا لضرب شيء غربي، ولا يدل ذكرهم البتة على أننا — نحن الغربيين — قد تعلمنا فعلًا على المستويات الخلقية والميتافيزيقية العليا شيئًا من الشعوب الأخرى. وبتقدُّم علوم كعلوم الجغرافيا والأنثروبولوجيا في القرن التاسع عشر استحال الاستمرار في هذه الحيلة الساذجة بنفس الطريقة؛ فقد عُرف عن الشعوب البدائية الكثير. ولا تزال حيلة يلجأ إليها — وإن يكن بطريقة أمهر كثيرًا — كما يدل على ذلك «الزوني» المتعاونون في هدوء كما ورد في كتاب «أنماط الثقافة» لمؤلفته روث بنيدكت، وكما يدل عليه أيضًا العذارى المتعففات في كتاب «ساموا تبلغ سن الرشد» لمؤلفته مرغريت ميد.

ونعود إلى موضوعنا فنقول إن من العسير الشاق أن نهتم اهتمامًا شديدًا بثقافات أخرى غير ثقافة الغرب، وبالأخص من وجهة نظر مؤرخ مجموعات الأفكار التي تتعلق بالمشكلات الكبرى التي سادت بلاد الغرب حتى الآن. وليس في هذا القول تعصب إقليمي أو ميل إلى الشر، إنما هو مجرد اعتراف بالواقع. وفي الحق أن طبيعة المؤثرات الهامشية أو الطائفية — على هذا المستوى — التي ترد من خارج الغرب، تتضح من مصير الجماعات الحديثة الصغيرة التي تتجه نحو حكمة الشرق، من البهائية أو من نوع فلسفة مدام بلافاتسكي الدينية إلى إعجاب المتعلمين بحكمة كونفشيوس وبوذا. إن هذه المذاهب المستوردة تخرج كلها عن التيار الأساسي للفكر والشعور الغربي، مهما تحوَّل إليها من أفراد في صدق وحماسة.

ومن المحتمل أن يتغيَّر موقف الغرب من هذا الاكتفاء الذاتي الروحاني وأن تنشأ في القرن المقبل أو ما إلى ذلك في الغرب بل وفي العالم كله، ديانة عظمى توفِّق بين جميع اتجاهات وفلسفة موحدة تنصب فيها حكمة الشرق الطويلة. وربما كان كتاب الأستاذ نورثروب الحديث «التقاء الشرق بالغرب» منبئًا بهذا الحدث ودليلًا على وقوعه. وقد يتوحد العالم روحانيًّا فيمسي بالإمكان توحيده ماديًّا. وقد اتضح فعلًا أن عددًا كبيرًا من رجال الغرب ونسائه لا بد بطريقةٍ ما أن يتعودوا فهْم ثقافات الشعوب غير الغربية، حتى إن كان مثل هذا الفهم لا ينتهي بالتحول التام إلى هذه الثقافات. ولكنا في شك مما يقع في المستقبل البعيد، ومما يحدث في النظرات الكونية الكبرى في القرن الحادي والعشرين أو الثاني والعشرين، ولا ينبغي أن يبعد عن ذهنه حتى أقوى العالميين عقلًا إمكانُ تحوُّل بقية العالم في الأجيال القليلة القادمة على الأقل إلى الحاجات المادية الغربية، وأن يتغلب فورد، وتكييف الجو، والأفلام الهزلية، على كونفشيوس وبوذا.

خلاصة

ما هي النغمات السائدة، أو الصفات، أو المميزات، التي يمكن أن يُقال إنها من خصائص الثقافة الغربية منذ الإغريق القدماء؟ من الواضح أنه لا يوجد شيء ما — عند هذا المستوى العالي من التجريد — يمكن أن يقنع ذلك النوع من العقل الذي يرفض قبول صحة تشبيهنا بألوان الطيف أو بالخط البياني للتوزيع العادي في أي أمر من الأمور، ومن المحتمل أنك تستطيع أن تشير في وقتٍ ما خلال هذه السنوات الثلاثة الآلاف التي مضت إلى رجل غربي واحد على الأقل في كل لون ممكن تقريبًا من ألوان الخبرات البشرية، ولكن ليس هناك حتى الاتفاق على استمرار الثقافة الغربية. إن رجلًا مثل شبنجلر يعتقد أن ما عالجناه في هذا الكتاب على أنه تيار واحد مستمر هو في الواقع ثلاثة تيارات، لا يتصل أحدها بالآخرين بأية وسيلة من الوسائل — تيار أبولو، أو الإغريقي الروماني، والتيار المجوسي أو العربي، والتيار الفاوستي أو الأوروبي، دام كلٌّ منها ألف عام تقريبًا. وحتى لو كان من رأيك أن شبنجلر رجل ألماني مبالغ في روحانيته، فلا تنسَ أن هناك كثيرين، من عشاق العصور الوسطى وكارهيها على السواء، يعتقدون أن ثقافة العصور الوسطى هي النقيض — بالمعنى العام لا بالمعنى الهيجلي — لثقافتنا في العصر الحديث.

ومع ذلك فإنه من الممكن أن نصدر أحكامًا عامة معينة كبرى عن الجو الثقافي في الغرب، فيجب أن نذكر أولًا أن العلوم الطبيعية لم تزدهر في أية ثقافة أخرى ازدهارها في ثقافة الغرب. نعم إن كثيرًا من الثقافات الأخرى مارسوا تدريجًا دراسة العلوم بنجاح عظيم؛ فالعلم في كثير من الوجوه هو أكثر المجهودات البشرية نجاحًا في تحطيم حدود الجماعات الخاصة التي تعيش على رقعة معينة من الأرض، أو حدود الدول التي تقوم على أساس قومي، وهي في هذا أكثر نجاحًا من التجارة ومن الدين. غير أن العلم في صورته الحديثة يحمل في وضوح طابع الغرب الذي تقدَّم فيه. وما كان له أن يتقدم إلا في الجو الغربي، جو التوتر بين الواقع والمثالي، بين هذا العالم والعالم الآخر. ذلك أن الاستغراق الكامل للعقل — على الأقل — في عالم آخر، والإخلاص الكامل للمنطق الباطني، يجعل العلم أمرًا مستحيلًا. وكذلك الحال في اشتغال العقل الكامل بالدنيا كما هي، والنظر الثاقب في المشكلات الدنيوية المحسوسة، بغير طريقة نظامية، فإن العلم لا يحتاج فقط إلى الاهتمام بالأمور المادية، وإنما هو يحتاج كذلك إلى جهاز عقلي ليضع ترتيب الأمور التي نسميها العلم البالغة في التعقيد. وهو يحتاج — فوق كل شيء — إلى تدريب طويل في استخدام العقل كما أتاحه لنا الإغريق، وإلى فلسفة العصور الوسطى وعلومها الدينية التي يحب الوضعيون المنطقيون أن يَحُطوا من شأنها في سذاجة تامة.

بيد أن العلوم الطبيعية التي أصررنا عليها لا تمدنا وحدها بنظرة كونية شاملة. إنها تنسجم أو تتفق والنظرات الكونية الغربية الحديثة. وهي لا تنسجم إلى هذا الحد مع النظرات الكونية الأخرى؛ فإن كنت على سبيل المثال متصوفًا شرقيًّا ترى أن الجسم ليس إلا وهمًا كاملًا، فليس من شك في أنك بحاجة إلى أن تغذي هذا الوهم بحدٍّ أدنى من الطعام والشراب (وهما أيضًا من الأوهام)، ولكنك لا تجعل من نفسك خبيرًا في الفسيولوجيا البشرية. غير أنك لا تستطيع مع ذلك أن تظفر من العلم بجوابٍ عن هذا السؤال: هل الجسم البشري وهم الأوهام (وهو سؤال ليس له معنًى في التعبير العلمي)، ولن تستطيع أن تظفر حتى بالإجابة عن هذا السؤال: هل من الأفضل أن نَعُدَّ الجسم البشري شيئًا واقعيًّا — كما يَعُدُّه أكثرنا في الغرب — أو أن نَعُدَّه وهمًا (وهذا أيضًا سؤال لا معنى له في العلم). إن متابعة المعرفة العلمية — في كلمة موجزة — قد تكون «جزءًا» من قيمنا الغربية، ولكنها لا يمكن أن «تخلق» قيمنا الغربية.

لِنوضح ذلك بمثال محسوس. إن ذلك الفرع من فروع البيولوجيا الذي يدرُس الوراثة والتناسل قد يزيد من قدرته على السيطرة على مادته إن سار على السوابق. وقد تقدَّم بالفعل تقدُّمًا كافيًا يمكننا من أن نتعلم من الأخصائيين في التناسل كثيرًا من الاحتمالات البيولوجية في السلالات وفي توليد الكائنات البشرية كذلك. ومن الممكن كذلك أن نتعلم من العلوم الاجتماعية التي لا تزال في طفولتها، والتي كثيرًا ما تنكر عليها مكانة العلوم، شيئًا — برغم هذا — عن طريقة إغراء الناس بقبول توصيات عالم البيولوجيا، وشيئًا عن أنواع الجماعات الاجتماعية التي يمكن توليدها إذا نشأنا أنواعًا معينة من الكائنات البشرية، وشيئًا عن كثير غير ذلك من المشكلات المتصلة بالموضوع. والواقع أن كمية الجهل في كل هذه الميادين ضخمة جدًّا، وبخاصة عندما تلتقي؛ فنحن لا نعرف مثلًا ما هي العلاقة بين أشكال الجسم البشري والشخصية الإنسانية. ومع ذلك فلنفرض أننا نعرف — أو نستطيع أن نعرف — ما يكفي لتوليد الكائنات البشرية.

فأي نوع نولِّد؟ هل نتخصص في مثل هذه الأنواع: الفنانين، ولاعبي كرة القدم، والمديرين، والبائعين، والسلسلة المتدرجة من أصحاب الذكاء من المتقدِّمين المفكرين إلى المتأخرين أو الطبقات العاملة الوضيعة كما وصفها أولدس هكسلي في «عالم الطريف» المتجهم؟ أم هل نحاول أن نولد الرجل المتكامل الذي يستطيع أن يستخدم يده وعقله في أي أمر من الأمور؟ أم هل نحاول أن نهمل الجسم في التربية — ما دمنا ننظر بعيدًا إلى الأمام — أو على الأقل ننزل به إلى الحد الأدنى، كما فعل برناردشو في مسرحيته «عود إلى متوشالح» وبذلك نعود إلى الأفلاطونيين ونناقض أنفسنا؟ إن العلم لا يستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة. والعقل البشري — على الأقل بالمعنى البسيط القديم، أعني العقل المنطقي المفكر — لا يجيب في الواقع عن هذه الأسئلة وإنما يُجاب عنها بما نسميه بالإرادة البشرية، وما برحت أفضل تسمية، أو بقوة الشخصية كلها. ويُجاب عنها في الواقع — في الديمقراطية — بما لا ضرر من تسميته بالإرادة العامة، بنوع من أنواع الملاءمة العامة بين الجماعات المتنافسة في غير تباغض، الجماعات التي تسعى إلى غايات متنوعة، وإن لم تكن مختلفة تمام الاختلاف. والقادة، أو الأرستقراطية، أو الصفوة، أو الطبقات الحاكمة في تقاليد الغرب تفعل الكثير لتشكيل هذه الغايات، ولحث الجماهير على قبولها. ولكنهم لا يصنعون هذه الغايات، أو الأهداف، أو القيم، بكاملها — لا يصنعونها على الأقل في النظرة الغربية التقليدية.

ذلك لأن أول حكم من الأحكام العامة التي نستطيع أن نصدرها فيما يتعلق بالفكر الغربي اللاتراكمي هو أن هذا الفكر ينم منذ الإغريق والمسيحيين في العصور الوسطى حتى المستنيرين بالأمس واليوم عن عقيدةٍ بأن إحساس الناس بالقيم إن هو إلا نوع من الإدراك الغامض لتنظيم العالم، وهو تنظيم قد لا يظهر لغير المفكرين، وقد لا يمكن إثباته بالوسائل العلمية، ولا يتضح كله لأفضل الناس وأحكمهم، ولكنه «تنظيم» على كل حال، وليس حالة من حالات الفوضى. وإن أوضح إشارة عامة — خلال القرون الماضية — إلى هذا الإحساس هي وجود اصطلاح «القانون الطبيعي»، وهو تعبير من المؤكد أنه لم يعنِ نفس الشيء تمامًا بالنسبة إلى الرواقي، أو المدرسي، أو فيلسوف القرن الثامن عشر، ولكنه كان يعني لثلاثتهم جميعًا إيمانًا بالوجود الفعلي للأشياء التي يَعقِدون عليها الأمل. ونستطيع بعبارة أخرى أن نقول إن فكرة «القانون الطبيعي» في حد ذاتها تعني أن المؤمنين بها يعتقدون أن الفجوة بين الواقعي والمثالي، بين ما لدينا وما نريد، ليست هوة، وليست في الواقع فجوة «وإنما هي علاقة». وفي «الرسالة إلى العبريين» تلخيص لهذا الرأي في هذه العبارة: «ليس لدينا هنا مدينة دائمة، ولكنا نبحث عنها في المستقبل.»

والحكم الثاني، هو أن هناك — طوال تاريخ الفكر في الغرب ۔ شعورًا بما يُسمَّى عادةً ﺑ «كرامة الإنسان». وقد تنوَّع المجال — أو المجموعة البشرية — التي تنطبق عليها الفكرة الأساسية التي تقول بأن الناس لا ينبغي أن يُعامَلوا كأشياء أو حيوانات؛ فكانت هذه المجموعة عند الإغريق الأوائل محصورة من بعض النواحي في المنتمين إلى القومية الهلينية. وكذلك كانت محصورة بمثل هذا الوضوح في المنتمين إلى العبريين الأوائل، ثم مد الرواقيون الإغريق والأنبياء العبريون هذه الفكرة إلى الجنس البشري بأسره. والناس جميعًا في نظر المسيحي سواسية من حيث امتلاك الروح الخالدة. وكذلك كانت مبادئ «الحرية والإخاء والمساواة» الديمقراطية الأساسية — مرة أخرى — جزءًا من المدينة السماوية كما تخيلها القرن الثامن عشر. وهذه الفكرة هي في نظرتنا الكونية الحديثة الانعكاس المباشر، والخلف المباشر للفكرة المسيحية عن المساواة بين الأرواح أمام الله. ونستطيع هنا أن نذكر على هامش الكلام أن التقاليد الغربية الرئيسية قد فصلت فصلًا تامًّا بين الإنسان وبقية الطبيعة، التي تأبى أن تعزو إليها المكانة الخاصة التي يكتسبها الإنسان من مساهمته في النضال الخلقي. والحيوانات في نظر أهل الغرب لا روح لها. وليس مذهب وحدة الكون وتأليهه، أو مذهب تناسخ الأرواح، من المبادئ المسيحية العادية. والواقع أن الهندي الذي يرى فينا خشونة شديدة يحسَب أننا لا نبالي بمشاعر زملائنا من الحيوان.

وهناك من ناحية ثالثة استمرارٌ عجيب في الأفكار الغربية بشأن الحياة الطيبة في هذه الدنيا. ولا مناص لنا — مرة أخرى — من العودة إلى التشبيه بألوان الطيف. ويتوسط هذه الألوان أسلوب الحياة الذي كان المثل الأعلى في ثقافة الإغريق الأرستقراطية — فكرة عدم المغالاة، أو الوسط الذهبي. ولا يقبل هذا القول أولئك الذين يعتقدون أن الفكرة المسيحية الرئيسية — التي تحققت عمليًّا في القرن الثالث عشر — هي فكرة التزهد، والتطلع إلى العالم الآخر، وهي فكرة يعجز عنها التعبير. ولا يقبل هذا القول كذلك أولئك الذين يرون أن الاتجاه الرئيسي في الثقافة الغربية هو نوع من أنواع الاندفاع الجنوني نحو المرتفعات، أيًّا كانت هذه المرتفعات. وما دمنا في الواقع نستطيع أن نقول إن الاتجاه الرابع العام في الثقافة الغربية يبيِّن — مع استثناء فترة العصور المظلمة — تنوعًا مذهلًا في الآراء والمسالك، خلقية كانت أو جمالية، وما دام المجتمع الغربي — حتى في أشد حالات استقراره — قلما اقترب من النموذج الإسبرطي الذي يسير على أسس التوحيد والنظام، ما دام الأمر كذلك فإن من الجلي الواضح أن أسلوب التزهد في الحياة والأسلوب الجنوني (هل أقول الفاوستي؟) كلاهما قائم في تقاليدنا. ولكن الوسط الذهبي الذي قال به الإغريق القدامى لا يزال — برغم ذلك قائمًا — كحل من الحلول التي تتردد حينًا بعد حين للتوتر المعقَّد بين جهاد الغرب نحو المَثل الأعلى، والكمال الذي لا يتحقق، ومتعة أهل الغرب واهتمامهم بالعالم القريب. ويظهر هذا الحل أحيانًا — كما ظهر عند أكويناس، أو شوسر، أو حتى جون مل، في أشكالٍ ربما كان من المتعذر على بركليز أن يتعرفها. ومن المشكلات الحديثة الحادة هذه المشكلة: إلى أي حد تستطيع الجماهير في المجتمع أن تقترب من هذا الناموس الأخلاقي الأرستقراطي. إن العقيدة الأساسية لفلاسفة القرن الثامن عشر الذين صاغوا الفكرة الديمقراطية هي أن الرجل العادي يستطيع أن يحقق هذه الصورة من الحياة الطيبة بعد ما أمكن تيسير الأساس المادي للجميع، وهو الأساس الذي كانت تعوزه الجماهير الإغريقية.

ولا نستطيع أن نجاوز باطمئنان هذه الأحكام العامة التي تخيِّب رجاء المتضلعين في فلسفة التاريخ، وليس بوسعنا أن نزعم إمكان الإجابة عن هذه المشكلة التي تحيِّر الألباب، وهي: لماذا كان مجتمعنا الغربي «أنجح» المجتمعات حتى الآن في التاريخ البشري — على الأقل بمعيارنا الذي ليس ذاتيًّا كله الذي نقيس به البقاء في حركة التطور. إن الإجابة عن هذا السؤال تنحصر في أمورٍ متعددة لا نستطيع أن نفصل أحدها عن الآخر، ولا نستطيع كذلك أن نجمعها فيما يشبه أن يكون صيغة عامة. وربما لم تكن هناك حتى الجذور العميقة، أو العوامل الفاصلة من ذلك النوع الذي يحدِّده الماركسيون في وسائل الإنتاج. والماركسي بطبيعة الحال لا يقدم لنا صورة مقنعة حقًّا عن السبب الذي من أجلِه اختلف تطوُّر الحياة الاقتصادية في الغرب من بساطة الكوخ إلى تعقيد الحياة الصناعية الحديثة عن تطور وسائل الإنتاج في كل مكان آخر فوق الكرة الأرضية. إن جيلنا لا يثق بالتفسير البيئي البسيط، كذلك التفسير المستحب الذي يقول بأن التربة والمناخ في شبه الجزيرة الأوروبية الصغيرة التي تمتد من كتلة الأرض الآسيوية الشاسعة كانا صالحين بصفة خاصة لأي نوع من أنواع المزايا التي تشتد الحاجة إليها — فيما يظهر — لتفسير نجاح المجتمع الغربي — كالنشاط، والقدرة على الابتكار، والخيال، وحب المنافسة، وما إلى ذلك. وأكثرنا لا يثق في أنواع التفسير الساذجة — أو حتى المركبة — التي تعزو استعلاءً فطريًّا لجماعات معينة أو أجناس بشرية معينة، من إهداء الله أو من أثر التطور. وليس بوسعنا أن نعتقد أن هناك في الواقع أي نوع من أنواع «الأجناس البشرية الطارئة»، كالجنس الآري، أو النوردي، أو القوقازي، أو غير ذلك، عنده استعداد بيولوجي موروث يختلف اختلافًا كافيًا عن أي جنس من الأجناس غير الغربية، مما يمكن أن نعلِّل به النجاح الحديث الذي أصبناه في المنافسة بيننا وبين المجتمعات الأخرى. وأكثرنا لا يثق كذلك بأي نوع من أنواع التفسير المثالي، أي نوع من أنواع التفسير الذي يعزو إلى «عقل» الرجل الغربي الشكل الذي اتخذته ثقافتنا. والواقع أن كثيرًا من القراء ربما نبذوا الفكرة العقلية المعتدلة التي قدمناها في هذا الكتاب، والتي تقول بأن نمو المعرفة التراكمية (وهي بالتأكيد المعرفة التي اكتسب أهل الغرب عن طريقها الأسلحة التي هزموا بها بقية العالم، والوفرة المادية التي أخضعوهم بها) إنما يرجع إلى ذلك التوازن المقبول الذي استطاعت أن تحتفظ به نظمنا الكونية الكبرى بين هذا العالم (عالم التجربة) والعالم الآخر (عالم المنطق والتخطيط، وروح النظام).

ومع ذلك فإن كل هذه التفسيرات، التي نلفظها بحق حينما ندعي أنها التفسيرات الوحيدة دون سواها، ربما كانت عناصر في ذلك المركَّب غير المستقر الذي نسميه الثقافة الغربية. فإن أنت استبعدت أحدها، وأي عنصر من العناصر الكثيرة الأخرى التي لم تتعرض لها بالتحليل، ما استطعت تصوير الثقافة الغربية التي نعرفها. إنك إن استبعدت الفحم والحديد من غربي أوروبا، لما قامت بطبيعة الحال الثورة الصناعية كما نعرفها. وإن أنت استبعدت القديس بولس والقديس أوغسطين، وكالفن وكارل ماركس، لما تكونت نظرتنا الغربية إلى الحياة.

أسباب القلق في العصر الحاضر

عند الاستعراض العام لتاريخ الفكر في الغرب نستطيع أن نرى أن كثيرًا من المشكلات التي قد تبدو عند أصحاب النفوس الثائرة منا جديدة، تتطلب منا إيجاد الحل وتحتمه، ليست في الواقع إلا مشكلات قديمة جدًّا استطاع الرجال والنساء في الثقافة الغربية أن يعيشوا بعدها دون أن يجدوا حلًّا لها. وأخص بالذكر الفلاسفة الذين يتعرضون لمصير الإنسان، الذين يعتقدون أن الرجال الغربيين في العصر الحديث لا بد أن يتفقوا في «المشكلات الكبرى»، وأنه لا بد لنا من الفرار من حالة تعدُّد المذاهب الحالية إلى عصر إيمان جديد — هؤلاء الفلاسفة يجدون وراءهم آلافًا عديدة من سنوات التاريخ الغربي اختلف فيها الناس في هذه الموضوعات الأساسية. ولكنا إذا تجاوزنا مشكلة الاختلاف هذه فيما يتعلق بالمشكلات الكبرى وجدنا أمامنا مشكلة كونية معينة، وهي من مشكلات العصر الحديث المحسوسة: هل نستطيع أن نستمر على الاعتقاد حتى في أفكار التقدُّم كما عُدلت في القرن الثامن عشر، والأفكار التي ترى أن بإمكاننا أن نسُدَّ على الفور تلك الهوَّة التي تفصل بين «ما هو كائن» و«ما ينبغي أن يكون»، وهي هوة نرى كمؤرخين أن الإنسان الغربي لم يقترب قطُّ من سدِّها، ولكنه لم ييأس قطُّ منذ أمد بعيد حتى الآن من سدِّها؟

إن الاحتمال بأن الأجيال المقبلة لن تشهد تحولًا في النظرة الكونية الغربية، وأننا سوف نستمر إجمالًا على قبول الإجابات عن «المشكلات الكبرى» التي نقبلها اليوم، بكلِّ ما فيها من تنوُّع يحيِّر الألباب وتناقض متبادل — إن هذا الاحتمال قائم دائمًا. واستمرار هذه الحالات العقلية القائمة ممكن بطبيعة الحال، بل ومحتمل عند أصحاب أمزجة معينة. ونحن بالتأكيد لا نعرف بالفحص الطبي مقدار التنوُّع — في الاتجاهات إزاء المشكلات الأساسية في القيم والسلوك الذي يحتمله المجتمع. ومع ذلك فيبدو من غير المحتمل أن أولئك المتنبئين الذين لا يفتئون يتحدثون عن الأزمات، واختلاف الآراء، وقِصَر ما تبقَّى من الزمن على خطأ «تمامًا»؛ إذ لا مناص لنا من مزيد من التطوير للتركة التي ورثناها عن حركة التنوير. ذلك لأن الفجوة بين مُثُلنا وسلوكنا، بين العالم الذي نظنه ممتعًا — العالم الضروري الذي يكون في الواقع أساس الخلق القويم — والعالم الذي لا بد لنا من العيش فيه، هذه الفجوة بقيت منذ حركة التنوير فجوة ذات صفة نفسية مختلفة جدًّا عن الفجوة التي عرفها المسيحيون التقليديون وأحسوها.

إن الفجوة بين ما ينبغي أن يكون وبين ما هو كائن ربما كانت قائمة في عقول الناس جميعًا، أو هي بالتأكيد قائمة في عقول الناس المتمدنين جميعًا. غير أن عامة الناس وقادتهم «لا ينبغي أن يكونوا دائمًا على وعى بهذه الفجوة يزعج خواطرهم». ويجب في أكثر الأحيان أن يُقنِعوا أنفسهم بطريقةٍ ما أن الفجوة لا وجود لها — وإن كان المُشاهد من الخارج قد يرى أن في موقفهم نفاقًا؛ فهناك وسائل عدة لسد هذه الفجوة. هناك شعائر وطقوس في حياة الفرد الخاصة، وهناك إيمان بالانتماء إلى مجموعة من الصفوة الممتازة، وهناك خضوع صوفي لإرادةٍ أسمى — وكل ذلك يعاون على سد الفجوة. أما أولئك الذين ينظرون إلى الإنسانية جملة واحدة، فالسبيل إليهم — أشق أمام المصلح المتفائل الذي يرمي إلى سد الفجوة — بقانون واحد نهائي وبموعظة واحدة أخيرة. وهناك أيضًا النظرة المسيحية إلى هذه الفجوة — وهي أنها لا يمكن أن تسد هنا فوق هذه الأرض، ولكن أولئك الذين يعملون بإخلاص وعدالة وحرص لسدها في هذه الدنيا سوف يجدونها مسدودة تمامًا في الجنة، كما سوف يجدها مسدودة تمامًا في الجحيم أولئك الذين لا يعملون بهذا الإخلاص وذلك الحرص وتلك العدالة.

ولكن الفجوة — بالنسبة إلى الكثيرين من ورثة حركة التنوير — لا تزال قائمة بصورة مؤلمة، فاغرة فاهَا كما كانت في أي عهد سبق. وفكرتهم عما يقع على الجانب الآخر، الجانب المثالي من الفجوة — أعني السلام، والوفرة، والسعادة بكل مستوياتها من راحة الكسل والخمول إلى وثبات القلب — ثابتة لا تتغير. إنهم يعتقدون أننا نحن بني الإنسان ينبغي أن نحصل على ما نريد، وأننا لا نستطيع أن نفلح في سد الفجوة التي تفصل بين ما نريد وما نملك بالألفاظ، والطقوس، أو بأي وهم آخر نواسي به أنفسنا. ومن أجل هذا ولأسباب أخرى فإن التوفيق الفكتوري — من وجهة النظر التاريخية الطبيعية — لم يثبت، كما رفضت الطبقات الدنيا أن تبقى خامدة، ودعت الاشتراكية إلى الحاجة إلى الديمقراطية الاقتصادية، لا مجرد المساواة الروحانية. إن الطقوس — مهما تكن — الاقتصادية، لا مجرد المساواة الروحانية. إن الطقوس — مهما تكن — لا يمكن أن تُشبِع رغبة الفقير في أن يصبح أغنى من الناحية المادية. إن المُثُل المادية في القرن الثامن عشر تخدع ببساطتها. ولشدة بساطتها ولشدة ماديتها شقَّ علينا أن نزعم أننا حققناها، في حين أننا لم نحققها.

وقد يمكن اليوم أن نخفِّف من عمق الفجوة بين الواقعي والمثالي برد المثالي شوطًا بعيدًا إلى الوراء نحو الواقعي، وبوضع أهداف صغيرة متواضعة في كل ناحية من النواحي؛ فلا نقول بمنع الخمر، وإنما نقول بالإقلال من تعاطي الكحول بالدرجة التي تؤدي إلى ارتكاب الجرائم. ولا نقول بالحياة الجنسية الكاملة في هذه الدنيا، وإنما نقول بالإقلال من حالات الطلاق. ولا نقول باستبعاد «تقليد الأوبرات» وإنما نقول بزيادة الاتزان في برامج الراديو، ولا نقول بالضمان الاقتصادي الكامل، وإنما نقول بتخفيف الأزمات القاتلة بتخفيف انتشار البطالة. ولا ندعو إلى حكومة عالمية تكفل السلام إلى الأبد، وإنما ندعو إلى «هيئة للأمم» تعيننا على منع نشوب الحرب، وعلى التخفيف من ضراوتها إن هي اشتعلت. ونستطيع أن نسترسل في الأمثلة إلى ما لا نهاية. إن الواقعي المعتدل يطالب بأن تتخلى الديمقراطية عن شيء من تفاؤل القرن الثامن عشر بالخير الطبيعي والتعقل الطبيعي عند الإنسان، وبالأثر الساحر للبيئة الاجتماعية والسياسية التي تتغير باطراد (في قوانينها، ودساتيرها، ومعاهداتها، ونظمها وبرامجها التعليمية الجديدة)، وباقتراب حلول العهد السعيد. إنه يطالب بأن تقبل الديمقراطية شيئًا من تشاؤم المسيحية التقليدية كما يتجسد في مبدأ الخطيئة الأولى، وشيئًا من الإحساس المؤلم بالحدود البشرية الذي أوحى بالآداب العظمى، وشيئًا من الشكوك حول قدرة الناس عامة على التفكير المستقيم كما بيَّن لنا علم النفس الحديث، وشيئًا من الوعي العملي، وعي الإدراك العام، باستحالة الكمال الذي يشعر به أكثر المشتغلين في ميادين النشاط التي يعمل المرء فيها تحت عبء المسئولية.

إن الديمقراطيين الغربيين قد يستطيعون أن يزيلوا عن كواهلهم عبء التفاؤل الباهظ بالكمال البشري الذي ورثوه عن حركة التنوير، وأن يكيفوا مُثُلهم على هذا العالم الخشن. وكثيرون منهم يتزايد وعيهم بضرورة القيام بعملٍ ما لسد الفجوة بين الأمل والعمل، وهي الفجوة التي فتحتها السنون في الديمقراطيات الغربية. إنهم لا يستطيعون أن يسيروا مع المثاليين الذين يخدعون أنفسهم والذين قد يحسَبون أن كلَّ ما يلزم هو تأكيد الأمل بثباتٍ أشد من ذي قبل. وذلك لأنهم قد بدءوا يلمسون شيئًا من المرارة التي تؤكد لهم أن المثاليين أنفسهم يستطيعون أن يتلفتوا حواليهم. وإنك لتجد الفكرة التي تقول بأن الديمقراطية راغبة في مجابهة حقائق الحياة مصوغة في عبارة قوية في كتاب «المركز الحيوي» الذي وضعه مستر أ. م. شلزنجر الصغير. ولا يُستبعد بتاتًا أن تفوز وجهة النظر هذه فوزًا حقيقيًّا في السنوات القلائل المقبلة في الغرب.

ولكن هل مثل هذه الديمقراطية المتشائمة محتملة أو ممكنة؛ أعني الديمقراطية التي ترفض رفضًا باتًّا أن تَعِد بالجنة على الأرض، ولا تعود في الوقت عينه إلى الجنة الأولى في العالم الآخر؟ لقد أكدنا في أكثر من موضع من هذا الكتاب عنصرًا قويًّا جدًّا في النظرة الكونية الديمقراطية، وهو إنكار ما فوق الطبيعي، إنكار الحياة الأخرى. وفي الحق أنا قد رأينا أن جانبًا كبيرًا من النظرة الكونية الديمقراطية قد اتجه نحو الاتفاق مع المسيحية التي ترود الكنيسة رسميًّا على صورة من الصور. ولكنا لاحظنا أيضًا أن جانبًا يسيرًا جدًّا مما هو مقدس، وأن المعجز وما وراء الطبيعة، لم يجد له مكانًا في الإيمان الرسمي بالعقل، وبخاصة فيما بين الجماعات البروتستانتية المتحررة. وأخيرًا لا يفوتني أن أقول إنه ما برح في جميع الديمقراطيات الغربية ملايين البشر ممن يتراوحون بين الوضعية العنيفة ومعاداة رجال الدين، واللامبالين الدنيويين تمامًا، ملايين ليسوا مسيحيين في بساطة. فهل يستطيع هؤلاء الناس أن يجدوا المصادر الروحية المطلوبة لمواجهة المشقات، وخيبة الآمال، والنضال، والبؤس؛ وكل الشرور التي لُقِّنوا الإيمان بزوالها من الحياة الإنسانية بعد قليل؟ وبالرغم من بقاء كثير من الجماعات المسيحية — خلال القرون الثلاثة الماضية — التي تمسكت بروح ونص العقيدة التقليدية، إلا أنه قد نشأت كذلك جماعات معينة ذات عقائد جديدة تَحُلُّ محل العقيدة المسيحية التي فقدها الكثيرون، أو التي تحولت إلى مذهب عقلي متفائل يشبه المسيحية وليس بها. وهذه العقائد الجديدة هي الديمقراطية، والقومية، والاشتراكية، والفاشستية، وما تفرَّع عنها من مذاهب وطوائف متنوعة عديدة. وأكثر هذه العقائد الجديدة تشترك في الاعتقاد بإمكان الكمال للناس في هذه الدنيا وشيكًا — بشرط اتخاذ الإجراء السليم. وأكثرها ينكِر وجود كائن فوق الطبيعي بوسعه أن يتدخل في شئون هذه الدنيا، وإن يكن كثير منها يحتفظ فعلًا بفكرة وجود نوع من أنواع المبادئ المرشدة أو الخير الهادي؛ نوع من الإله غير الشخصي. وكلها يؤمن بأن العالم يمكن أن يتحول إلى مكانٍ يطمئن المرء إلى العيش فيه. ويكمن وراءها جميعًا الاتجاه العام أو النظرة الكونية التي شاعت في القرن الثامن عشر، التي ربما اتخذت أحسن صورة تمثلها في نوع نظام القيم المتحرر، الديمقراطي، الذي تلمسه عند جون مل. بيد أن الشكل النظامي الواقعي، وأعني به ما يشبه الكنيسة لهذا الإيمان الجديد، هو الحكومة القومية التي ترتبط برقعةٍ معينة من الأرض، حتى لقد اتحدت الديمقراطية والقومية على صورة معقدة متغيرة. والاشتراكية في أصلها تطور منحرف للتفكير الديمقراطي القديم — أو إن شئت فقُل إنها تعميق للأهداف الديمقراطية — وقد ربطت هي أيضًا نفسها — حيثما نجحت — بالحكومة القومية وبالوطنية.

إنني قد عبَّرت عمْدًا عن هذه العقائد غير الشخصية — هذه الديانات اللاإلهية التي تتخذ من الأفكار المجردة كالفضيلة، أو الحرية، أو من جماعات كالجماعة القومية الخاصة أوثانًا — بالنائبة عن غيرها بكل مدلول هذا اللفظ عن شيء تركيبي غير «بديل» يكفي تمامًا لأن يَحُلَّ محل شيء آخر. وعجز هذه العقائد غير الشخصية إذا قُورنت بالمسيحية يتبين بصفة خاصة فيما يتصل بمشكلات الفرد الذي يلاقي المتاعب. وهذه العقائد غير الشخصية ضعيفة في علاجها للأرواح. ومن الحق أنها في مراحل كفاحها ونضالها الحماسي — كالاشتراكية قبلما تظفر بالحكم مثلًا — قادرة على استغلال الحماسة الروحية بكل قوَّتها عند كثير من المؤمنين، وأن تمدَّهم بإحساس بالانتماء إلى شيء عظيم حقًّا، وأن تذيب أنانيتهم التافهة في نوعٍ من الاستسلام العاطفي. غير أن هذه العقائد غير الشخصية بعد استقرارها، وبعدما تجابه هذا العالم الرتيب لا تملك إلا القليل الذي تقدِّمه للتعساء، غير المنسجمين في هذه الدنيا، والمكابدين المتألمين.

وربما كانت القومية أقوى هذه العقائد. إنها تحُضُّ الضعفاء والعاجزين بعضويتهم في الكل العظيم، وبإسهامهم في «التقدير الذاتي المشترك» الذي تضفيه عليهم الوطنية، وقد استطاعت في أوقات الأزمات أن تعتمد على صبر الناس وعلى شجاعتهم على السواء، ولكنها لا تَحُلُّ محل الإله الذي يواسي. وقد كانت ماريان، رمز الجمهورية الفرنسية، شخصية بطولية تخترق المتاريس. غير أنه من العسير أن يصلِّي المرء لماريان — كما صلَّى لمريم العذراء. ويبدو أن قدرة الاشتراكية على المواساة أقلُّ حتى من ذلك. وليس من شك في أنه مما يشجع الماركسي المخلص للمذهب أن يعلم أن المادية الجدلية تجاهد في السعي إلى تحسين الأوضاع بالنسبة إلى المظلومين. غير أن التعساء حقًّا بحاجة إلى شيء أكثر إنسانية، شيء أشد وعيًا «بهم»، لا باعتبارهم فريسة مؤقتة لطريقة الإنتاج، ولكن باعتبارهم كائنات بشرية هامة، فذة، سيدة على نفسها، تستحق من الله أو من وكلائه الرعاية المباشرة.

ثم إن هناك ضَعفًا نفسانيًّا آخر في هذه العقائد الجديدة التي أُريد بها أن تَحُلَّ محل العقائد الدينية القديمة؛ ذلك أن العقائد الدنيوية الجديدة يشق عليها أن تسمح بالتوبة والندم؛ ففي المحاكمات العديدة للخيانة (أو المذاهب المنحرفة) التي أُجريت في روسيا السوفيتية، لم يمكن البتة العفو عن المتهمين وإعادتهم إلى حظيرة المخلصين، وذلك بالرغم من أنهم كثيرًا ما انهارت أعصابهم واعترفوا بأخطائهم اعترافًا كاملًا. والظاهر أن الولايات المتحدة تميل في هذه الأيام إلى الاعتقاد بأن «الشيوعي إذا تشيَّع يظل شيوعيًّا إلى الأبد»، وبخاصة في حالة الإنجليز وغيرهم من الأوروبيين الغربيين. ولا تزال وزارة الخارجية الأمريكية فيما يظهر ترى أن الرجل الفرنسي المثقف، الذي يقر بأنه التحق بالحزب الشيوعي في الأيام المظلمة في الثلاثينيات من هذا القرن ولكنه أعلن توبته منذ ذلك الحين، ما فتئ شيوعيًّا. غير أن الظاهرة واضحة في أية دراسة للحركات الاجتماعية والسياسية الحديثة؛ ففي الثورة الفرنسية العظمى — مثلًا — كان من العسير، بل من المستحيل، للرجل الذي يعطي صوته بصراحة ﻟ «المعتدلين» في عام ١٧٩٠م أن يبرئ نفسه في عام ١٧٩٣م أمام المتطرفين الظافرين في ذلك الحين، باعترافه بخطئه، وبإعلانه أنه تاب ورأى النور الجديد، وكان ينتهي عادة بالمقصلة؛ إذ إنه من المتعذر أن يتوب المرء توبة مقبولة في هذه الديانات اللاشخصية.

ومع ذلك فإن العفو عن المذنب التائب كان إحدى نواحي القوة في المسيحية. وإحدى الوسائل التي خفَّفت بها القيادة المسيحية الرشيدة آلام الجو على الإنسان العادي، وربما كان الموقف الصارم إزاء الندم الذي تُظهِره العقائد الجديدة اللاشخصية مرتبطًا بالمَثل الأعلى المجرد الكامل — وهو مَثَلٌ ينفصل عن الواقع انفصالًا غير صحيح — المَثَل الذي يراه أصحاب هذه العقائد في السلوك البشري في العالم الأمثل الذي خُلقوا لتحقيقه في هذه الدنيا، فإن أولئك الذين يتمسكون بهذه المُثُل يرغبون في حماسة أن يبلغ الإنسان من الكمال حدًّا لا يجعلهم يتسامحون معه في أية بادرة من بوادر النقص مهما تكن طفيفة. إن الرجل الذي يتمسك بمَثَل أعلى يتحقق في هذه الدنيا يشق عليه أن يتجنب محاولة استبعاد أولئك الذين لا يسلكون طبقًا لمَثَله. وليس من شك في أن الديمقراطيات الناضجة، كالديمقراطية الإنجليزية، أقل تشددًا من الشيوعيين، وأقوى إرادة في التسامح في الضعف البشري. غير أن هذه الديمقراطيات برغم ذلك لا تقدِّم — فيما يظهر — لقادتها فرصة للتوفيق المثمر — الذي لا يخجل البتة صاحبه — الذي يهيئه اشتراط المسيحية العفو عن التائب النادم (لأني أرى أن العفو شرط من شروط المسيحية اللازمة). كما أن هذه الديمقراطيات لا تمد مَن يخلص لها بالطمأنينة الروحية، والنظام المرن، كما يفعل مبدأ المسيحية الذي يؤمن بالذنب والعفو عنه.

وأخيرًا أقول إن هذه العقائد المجردة خطر جسيم على الرجل المثقف الحديث، ما دامت تيسِّر له أن يفترض معرفته بما في هذا العالم من خلل، وطريقة تصميمه، بل إن هذه العقائد تضفي على هذا الافتراض صفة النبل والشرف. إن هذه العقائد تشجع على فصل المثالي عن الواقعي — كما ذكرنا — لأنها تبالغ في تبسيط الطبيعة البشرية. غير أن الرجل المثقف الحديث — الذي انفصل بالفعل عن جمهرة إخوانه بصدعٍ لم يَضِق بالتأكيد منذ اتخذ شكله الحديث في بداية القرن التاسع عشر — بحاجة إلى أن يُرَد إلى الدراسة القريبة الواقعية لكل ألوان السلوك البشري بحيث لا يُسمح له بالتمادي في آرائه «عما ينبغي أن يكون» مع شعوره بالاستياء الشديد. والواقع أن هذه الآراء حتى بعد أن تتخذ شكلًا واقعيًّا، فتقبل «الأمور كما هي» قبولًا لا مرية فيه، صورة واضحة جد الوضوح من تلك «المثالية المقلوبة» التي لمسها بعض الكتَّاب من قبلُ في مكيافيلي. إن الاتزان، أو تخفيف التوتر القائم بين المثالي والواقعي تخفيفًا سليمًا هو لب الموضوع. ومن المؤكد أن هذا التوازن يمكن أن يُساق — كما ساقه كثير من المفكرين المحدثين من أمثال باريتو — بعيدًا جدًّا عن المثالية. غير أن الانحياز إلى جانب المثالي — في هذه اللحظة من لحظات التاريخ — وأقصد المثالي المغالي في تبسيطه — خطر جسيم تقابله فجاجة عقائدنا الجديدة التي نريد أن نُحِلَّها محلَّ الدِّين وبساطتها. إن رجل الفكر يمكن أن يستسلم ببساطة للتفكير. وإذا رجعنا إلى الماضي وجدنا أن هذا الاندفاع الحماسي نحو المثالي في رجلٍ مثل كارليل — على سبيل المثال — هو ما يعرضه لتهمة التبشير بالفاشستية، وهي تهمة لولا ذلك لكانت باطلة. إن كارليل — كنيتشه — كان قطْعًا لا يرضى عن النازية التي تريق الدماء، ولكنه ألقى في غير مبالاة على الإطلاق بكثير من الأفكار الدقيقة غير الكريمة التي أثبت الكثير منها فيما بعد أنه أفكار نازية فعالة.

وموجز القول إذن أن هذه العقائد الجديدة لا تتصف بالغزارة وبالعمق في إدراك ماهية الكائنات البشرية على حقيقتها، كما اتصفت الديانات القديمة. وهي من أجل ذلك أقل قدرة من الديانات القديمة في معالجة مشكلة العلاقات الإنسانية في وقت الأزمات. نعم إن الديمقراطية والاشتراكية قد أفلحتا نسبيًّا حتى الآن، بمعنًى ما، في عالمٍ أكثر الاتجاهات المادية ترتفع فيه ارتفاعًا حقيقيًّا في خطٍّ بياني يصعد باطراد. ولم يقابلهما بعدُ من جانب العدد العديد من البائسين من الرجال والنساء الذين لا يرون فيهما — حتى عن بُعد — جنة الله على الأرض، صيحات التهديد الطبيعية التي تنادي قائلة: «حقِّقوا لنا الأماني أو كفُّوا عن الكلام.» وربما لا تقابلهما هذه الصيحات، وربما اتخذت الكتلة الجماهيرية في الغرب الموقف الذي لم يقِفْه حتى الآن سوى الخاصة من الناس كالرواقيين، فيرون أن دنيانا هذه دنيا مشقة، لا يسعد فيها إنسان، وعلى كل فرد فيها أن يجابه متاعبه، دنيا ليس فيها قبل الموت جزاء. غير أن هذا أمر بعيد الاحتمال؛ فإن الكتلة البشرية — حتى في الغرب — لم يكن بوسعها قطُّ أن تنظر هذه النظرة الحزينة دون الاستعانة بديانة شخصية، ديانة كانت حتى اليوم تتجاوز الوجود، وتحلِّق فوق الطبيعة، وتتطلع إلى عالم آخر. ومِن ثَمَّ فإن الديمقراطية إذا لم ترتدَّ بكل قلبها إلى المسيحية (وهناك اليوم الكثيرون ممن يريدون لها هذا الارتداد) لا مناص لها — بشكلٍ ما — من الاتجاه نحو علاج الأرواح.

وثمَّة صعوبة أخرى — وهي صعوبة أمعن في معقوليتها — تقف عقبة في سبيل نوع من أنواع الديمقراطية الواقعية المتشائمة التي لا تؤمن بما فوق الطبيعي. ذلك أن هذه الديمقراطية يتحتم عليها أن تبسط فوق كل نوع من أنواع نشاطنا الميل إلى المحاولة، والرغبة في التجريب، والصبر، وقبول الأناة، والاعتراف بحدود الجهود البشرية التي تفرضها هاتان اللفظتان: «المستحيل» و«ما لا يحل» مما يتميز به عمل العالم كعالم، ومما نحققه جميعًا — ولو إلى حد — في الواجبات المعينة التي لا بد لنا من أدائها. في مثل هذه الديمقراطية لا مندوحة لعدد كبير جدًّا من الناس في الواقع عن تجاوز لذة اليقين. وذلك التأكيد الذي ينشأ عن المعرفة السابقة بأن بعض الأحكام المجردة صادق، وأن هناك شيئًا ما لا يتغير قطُّ، شيئًا لا يكون جزءًا من التاريخ، ولكنه يكون جزءًا من أنفسنا. بيد أنه من الحق أننا نحن البشر نتشبث باليقين، وأولئك الذين فقدوا اليقين المسيحي سرعان ما حاولوا أن يبحثوا عن اليقين العلمي، أو اليقين التاريخي، اليقين في أي مجال يجدونه فيه. كما أننا نتشبث بالعلم بكل شيء باعتبار هذا العلم الشامل ملازمًا لليقين — نتشبث بقوًى عليمة بكل شيء، إن لم يكن بإله بكل شيء عليم. فإذا ما طُلب إلى مواطنينا الجدد في الديمقراطية المتشائمة أن يتقدموا بنسبية في القيم لا هوادة فيها (ولا أقول بطبيعة الحال بنوع من أنواع الانعدام في القيم) — والظاهر أن مثل هذه النسبية وحده هو ما يمكن أن يجد فيه تشاؤمهم سندًا قويًّا، وما يمنعهم على الأقل من الأمل في نوع جديد من أنواع المتعة في السماء — أقول إننا إذا تطلبنا ذلك وجدنا أنه من العسير جدًّا في واقع الأمر أن نقيم مثل هذه الديمقراطية في عصرنا الحاضر. إننا إن فعلنا ذلك تطلبنا من الطبيعة البشرية الضعيفة أكثر مما تحتمل، وأكثر في الواقع مما تطلبت الديمقراطية المتفائلة ما دام المواطن العادي في الديمقراطية المتفائلة القديمة كان يُسمح له باعتناق نوع من أنواع الديانة القديمة التي تدعو إلى الاطمئنان.

وتقابلنا في منتصف القرن العشرين — فوق ذلك — نفس الصعوبة التي التقينا بها في أثينا القديمة: وهي ما هي العلاقة تمامًا بين نظرة المثقفين إلى «المشكلات الكبرى» وكل بناء المجتمع، أو كل توازنه؟ إن أدنى انتباه إلى ما يجري بين المثقفين في الغرب — الوجوديين في فرنسا، وأتباع بارث ونيبور في ألمانيا وأمريكا، والمرتدين إلى الكاثوليكية في إنجلترا من الشباب اللامع — يوضح لنا أن المثقفين يضيِّقون على أنفسهم القيود الروحانية، ويتهيئون لموجةٍ من موجات العُسر، ويزدادون ازدراء للديمقراطيين المبتهجين أمثال بنيامين فرانكلن، أو الديمقراطيين السطحيين أمثال توماس جفرسن. وقد تتعرض حركة التنوير لهجومٍ أشد مرارة من الهجوم الذي تعرضت له من الرومانتيكيين لعهد وردزورث. غير أن الإنسان يتعذَّر عليه أن يتصور الرجل الأمريكي العادي — أو حتى الرجل الأوروبي العادي — في الحالة العقلية عينها التي مرَّت بطليعة المثقفين في الغرب حالة اليأس الشامل من كلِّ ما في هذه الدنيا، الذي مبعثه شدة الحساسية وقوة التفكير. إن هناك درجة من الخشونة — كتلك التي تنم عنها «الحكايات الخرافية» التي شاعت في منتصف القرن الثالث عشر بين أصحاب العقول المفكرة — نشك في أنها سوف تبقى على شيء من حرارة الغليان لفترةٍ ما حتى في عالمنا هذا الحزين.

فلا يجدر بنا أن ننتهي إلى أن ثقافتنا الغربية توشك أن تتحول تحولًا أساسيًّا وتدخل في عهدٍ آخر من عهود الإيمان. ويكاد يكون من المؤكد أن النظرة الكونية الديمقراطية سوف تتعرض لإعادة النظر فيها بدرجة أشمل حتى من تلك الإعادة التي أولاها القرن التاسع عشر لميراثه الأساسي الذي ورثه عن حركة التنوير. وليس بوسعنا بتاتًا في عام ١٩٥٠م أن نكون على ثقةٍ من الاتجاه الذي ستتجه إليه هذه الإعادة؛ فإن جانبًا كبيرًا منها سوف يتوقف على نتيجة النضال بين الولايات المتحدة وروسيا السوفيتية، وهو نضال يعرِّض النظرة الكونية كلها للخطر. وقد تدفع ضرورات النضال ذاتها الغرب إلى مجتمع أكثر تجنيدًا مما تبيحه تقاليد الغرب؛ لأن من الحقائق البغيضة عن العلاقات الإنسانية — وهي حقيقة من أنواع الحقائق التي لا بد للديمقراطيين الواقعيين الجدد من مجابهتها — أننا نحتاج في أوقات الحروب — ساخنة كانت أو باردة — إلى سلطة أكثر وحرية أقل مما نحتاج إليه في أوقات الهدوء والسلام.

ويبدو أن بكلٍّ من الولايات المتحدة وروسيا مجموعة مجسمة من الأفكار التي تعارض الطرف الآخر، وأن هذه الأفكار قد اتحدت على صورة من الصور واستطاعت حتى الآن أن تعزز ذلك التوتر الذي يُعَدُّ من مميزات الغرب، وذلك بوجه عام جدًّا، ومع مراعاة كل أنواع الالتواءات والانحرافات في كلٍّ منهما مما يتعارض وهذا الحكم العام الذي ألقيناه؛ فلسنا بطبيعة الحال على حرية خالصة وليسوا على تسلُّط محض. ونحن لا نمثل الفردية المطلقة التي تمثل ذاتية القطط، وهم لا يمثلون الجماعية التي تشبه جماعية النمل أو النحل. ولسنا على تنوع وليسوا على توحيد. ولا يعيش أي منَّا طبقًا للتطرف في مجموعة القيم التي نعتقد فيها، غير أن التعارض قائم برغم ذلك، وهو تعارض حقيقي. إننا نمثل على وجه الإجمال سلسلة القيم التي عالجناها في هذا الكتاب باعتبارها القيم الرئيسية في ثقافة الغرب — الشعور بشيء لا يقبل التجزئة في كل كائن بشري لا تزال أفضل إشارة إليه بهذه الكلمة القديمة العتيقة «الحرية»، وهو شعور قد يتوقف قليلًا وينقلب على نفسه عندما تواجهه المشكلات الحقيقية التي توحي بها أمثال هذه العبارات: «يجب أن نرغم الناس على الحرية.» أو «أنت حر عندما تفعل الصواب ولكنك عبد عندما ترتكب الخطأ.» أو «الحرية لا الفوضى.» ولكنه برغم ذلك عميق في نفوسنا، يدفعنا إلى التمسك الشديد بأن هذه المتناقضات لا لزوم لها. إن التقاليد الغربية، التي نُعَدُّ اليوم أهم المدافعين عنها تدعو إلى «الفردية» في ثبات، وإن لم يكن في يقينية جامدة، أو مثالية بعيدة عن الواقع.

إن الفرصة المتاحة لنا للتمسك بتقاليد الغرب، وللاحتفاظ بها في صورة لا نتعسف إذا وصفناها بالديمقراطية، أعظم مما يقر المتنبئون منَّا المتشائمون؛ لأنه إذا كان اللامعقول الذي شاع في عشرات السنين القلائل الماضية قد أضعف من الأمل الساذج في قيام الجنة على الأرض عن طريق كمال الطبيعة البشرية، أو عن طريق تحرير الطبيعة البشرية من بيئتها السيئة، إلا أنه قد قدَّم لنا ما يبرر الاعتقاد بأننا إذا أرسينا فعلًا طريقتنا الديمقراطية في الحياة في عاداتنا، وتقاليدنا، ومشاعرنا، وأفعالنا الشرطية المنعكسة، وذواتنا العليا، فإنها تستطيع أن تتغلب على الواقع الجاف وتحيا برغم منه. إن ما بدا لأسلافنا قوة للديمقراطية، وهو اعتمادها على معقولية البشر، يبدو اليوم في الواقع سببًا في ضَعفها. ومهما يكن من أمر فلربما كانت الديمقراطية — برغم هذا كله — لا تعتمد على معقولية البشر. إن الغرب الديمقراطي قد استطاع أن يصمد أمام حربين كان من المفروض — لإغراقه في التنوع، وانعدام النظام، وتعدُّد الاتجاهات الروحية، بل ولما فيه من دعة وراحة — أن ينهزم فيهما أمام التنظيم الأعلى، والخشونة، وإجماع الرأي بين خصومه اللاديمقراطيين. بيد أنه لم ينهزم، بل انتصر برغم — بل ربما كان بسبب — ما بدا من نواحي الضعف في نظر بعض النقاد.

لأن ما يبدو في التحليل العقلي المحض انحلالًا، وعراكًا، وعجزًا فاحشًا عن الاتفاق على أي شيء مهما يكن قد لا يعدو أن يكون اختلافًا في شئونٍ اختلفنا فيها نحن الغربيين صراحة وبعنف في أكثر الأحيان منذ ما نبَّه سقراط الأذهان في أثينا — وإذا أنت فكرت فيما تتضمنه المذاهب الكاثوليكية، والبروتستانتية، واليهودية، والمادية الماركسية، ذُهلت حقًّا من أن أصحابها قاتلوا جنبًا إلى جنب في القوات الأمريكية في الحربين العالميتين. وقد تقول إن أصحاب هذه المذاهب لم يعتقدوا فعلًا في مذاهبهم الرسمية كما هو الشأن في الولايات المتحدة، غير أن هذه النظرة أمعن في المنطق من أن تقبل التصديق. وقد تقول إنهم آمنوا بالتسامح الديني وعَدُّوه خيرًا إيجابيًّا، وذلك صادق من غير شك إلى حدٍّ ما عند الكثيرين منهم. غير أن أصدق ما تقول هو أنهم لم يفكروا قطُّ في مشكلة التسامح الديني العامة، وأن أكثرهم آمن في بساطة بوجود الكاثوليك، واليهود، والبروتستانت، وكل أنواع المادية، باعتبارها من حقائق الحياة. وباعتبارها من الأمور التي يتقبلها المرء كما يتقبل الجو. وإذن فإن جانبًا كبيرًا من طريقة الحياة الغربية يستقر في ركن من الأركان عند الأمريكيين العاديين، لا في غشاء أذهانهم على الأرجح، ولكن في مكان آمن من أن يحدِّد الفسيولوجيون موضعه تمامًا — في قلوبهم، كما ألفنا التعبير.

ونعود إذن إلى افتراض أن العلاقة بين قوة مجتمع معيَّن ودرجة الاتفاق في شئون النظرات الكونية العامة بين أفراد هذا المجتمع لا يمكن تحديدها، على مدى ما نعرف حتى الآن في حدود العلوم الاجتماعية التراكمية. ويبدو أن هناك دليلًا قويًّا على أن جانبًا كبيرًا من التنوع في الأمور التي تتعلق بعلوم الدين، والميتافيزيقا، والفن، والأدب، بل والأخلاق، يمكن أن يبقى إذا كان وجود مثل هذا الاختلاف لا يُؤخذ مأخذ المَثل الأعلى في التسامح، والتقدُّم عن طريق التنوع (وإن يكن هذا هو الحق عند كثير من رجال الفكر)، وإنما يُؤخذ مأخذ الأمر الطبيعي للكائنات البشرية. فإذا كانت الديمقراطية تعني حقًّا شيئًا غير طبيعي — في نظر المثقفين الغربيين — كالاتفاق الفكري، لفقدنا كل أمل فيها. إلا أن مجرى تاريخنا الفكري كله يشير إلى أن رجال الفكر في الغرب — بطريقة عنيدة جامحة — سعَوا دائمًا إلى تأكيد الفوارق بينهم، وأن هذه الفوارق — بطريقةٍ ما — لم تُزعِج مَن ليسوا من رجال الفكر إزعاجًا يكفي لاختلال التوازن الاجتماعي. وليس هناك دليل معقول حتى اليوم على أن الإنذارات الفكرية لعصرنا، عصر الهموم الفلسفية، قد تجاوزت فعلًا ذلك الجزء الصغير من السكان الذي يسلك استعدادات لغوية قوية، بل ولسنا حتى على يقين من أن علماء النفس من أمثال إريك فروم على حق في زعمهم أن القلق العصبي، بل والنورستانيا، أمر شاع في جميع أجزاء المجتمع إلى درجةٍ تهدِّد طريقتنا في الحياة الديمقراطية التقليدية. وربما كان الفِرار من الحرية أمرًا مبالغًا فيه.

ولكن حتى إن كان هؤلاء المشخصون على صواب، وحتى إن كان مجتمعنا مجتمعًا مريضًا حقًّا، فمن غير المحتمل أن يكون المفكرون الجادون الذين يحثوننا على التجمع وعلى الاعتقاد المشترك في شيء سامٍ على جادة الصواب. إذا كان لا بد لنا من دِين جديد، فإن كل السوابق الغربية تشير إلى أن الدين لن ينبع من رجال الفكر، وإنما من مصدر أكثر من ذلك تواضعًا، وإنه سوف يكون ثقيل الوقع لفترةٍ على الأقل على المفكرين الثابتين — بل وعلى أولئك الذين تنبئوا بظهوره.

وهناك مشكلة فكرية خطيرة أخرى لا يستطيع أن يتجنب مجابهتها أي ديمقراطي مفكر. لقد سلَّمنا — طبقًا لتيار اللامعقول الحديث، وربما كان طبقًا كذلك لتيار الإدراك العام — بأن الجنس البشري يملك طاقة عميقة الغور وصلابة لا يمكن أن يحتويها أي نظام فكري، وأن لثقافتنا مصادر للقوة لم تتأثر كثيرًا بما عندنا من فلسفة، أو بما ليس عندنا من فلسفة. وحتى باريتو يذكر من بين «رواسبه القوية» «رواسب القدرة على الاشتقاق» — أي رواسب التفسير العقلي للأمور. إن الحاجة إلى إشباع رغبتنا في الفهم، وفي تماسك خبراتنا بالمنطق، وبألا نقع في التناقض بدرجةٍ قوية تصدم الآخرين، وبألا نكون منافقين في نظر أنفسنا وفي نظر الآخرين — هذه الحاجة قوية جدًّا عند الكائنات البشرية. ولا نتجاوز الصواب إذا قلنا إنه لم تنشأ حضارة من الحضارات بقيادة طبقة من الطبقات المفكرة، مالت إلى الاعتقاد بأن عالَم القيم في أعينهم، وبأن تفسيرهم للسبب في وجودهم في مكانهم، ليس إلا زعمًا باطلًا، ونفاقًا، وزورًا وبهتانًا. ولن تبقى طويلًا في أية ديمقراطية من الديمقراطيات طبقة مفكرة لا تؤمن، وطبقة غير مفكرة تؤمن، ولا يمكن لطبقة مفكرة متشككة، أو متشائمة، أن تضع دِينًا للجماهير.

وليست طبقاتنا المفكرة اليوم في مثل هذه الورطة بأية حال من الأحوال. غير أن الكثيرين منهم في حيرة، ومن المحتمل أن تشتد حيرتهم حتى يفلحوا في التغلب على مشكلة تعديل ميراثنا الذي انتقل إلينا من حركة التنوير في القرن الثامن عشر. ولْنأتِ بخلاصة موجزة نهائية لهذه المشكلة.

إن النظرة الديمقراطية العالمية قد تكوَّنت في القرن الثامن عشر في نهاية ثلاثة قرون من التغير تُوِّجت بالنصر العظيم للعلوم الطبيعية في العمل الذي قام به نيوتن وزملاؤه. وأيًّا ما كانت الآراء الفلسفية والدينية لهؤلاء العلماء العاملين في حياتهم الخاصة — ولا يزال الكثيرون منهم إلى يومنا هذا مسيحيين مخلصين للمسيحية — فقد كان لا بد لهم كعلماء من استخدام طريقة عقلية يصلون بها إلى الأحكام العامة، وهي طريقة كانت بكليتها تحت رحمة الوقائع الملاحَظة. وقد كانت هذه الوقائع في نهاية أمرها — مهما تفوَّقت الأدوات التي تسجلها عن الحواس البشرية — أحكامًا على عالم الخبرة الحسية، أحكامًا على هذا العالم، لا على غيره. وكان لا بد للحكم الذي يصدر طبقًا لطرائق العلوم الطبيعية — في إيجاز — أن يتفق ووقائع هذه الدنيا، ولا يتجاوز الحكم هذه الوقائع ولا يناقضها.

غير أن حكمَين من الأحكام العامة الهامة عن العقيدة الديمقراطية كما برزت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهما مبدأ الخير الطبيعي عند الإنسان ومعقوليته، ومبدأ التقدُّم غير المخطَّط الذي لا مفر منه نحو كمال الإنسان على هذه الأرض، إما يتجاوزان النظرة العلمية إلى الحق أو يتناقضان معها. وليس علينا إلا أن نتابع خلال العصور من ثيوسيديد إلى مكيافيلي إلى أقدرِ العلماء الاجتماعيين المحدثين لكي نرى أن التقليد السائد بين أولئك الذين يلاحظون فعلًا مسلك الكائنات البشرية بدقة هو الإيمان بأن الناس إنما وُلدوا للمتاعب، وأن الطبيعة البشرية — في الفترة التي سجلها التاريخ على الأقل — لم تتغير كثيرًا. وإذا أنت درست سلوك الجنس البشري الذي سجَّله التاريخ من أقدمِ الأزمنة إلى منتصف القرن العشرين بروح العالم الطبيعي وبطرائقه (بمقدار ما يسمح النقص في التسجيل التاريخي بمثل هذه الدراسة) لما استطعت أن تأخذ بوجهة من وجهات النظر التي تشبه ما ارتآه كوندرسيه على سبيل المثال، أو حتى ما ارتآه بين وجفرسون. ولَما أمكنك أن تَعُدَّ الآراء التي تتعلق بالخير الطبيعي وبمعقولية الإنسان واطراد الكمال في حياتنا على الأرض، بالمقاييس البشرية، أحكامًا علمية عامة ولو على سبيل التقريب.

إن الديمقراطية — في عبارة موجزة — هي «إلى حدٍّ ما» نظام من الأحكام التي لا تتفق مع ما يراه العالم حقًّا. وما كان هذا التناقض ليخلق المشكلات — وما كان على الأقل ليخلق بعض المشكلات التي يخلقها اليوم — لو أن الديمقراطي استطاع أن يقول بأن مملكته ليست مما يَمُتُّ إلى هذه الدنيا، لو أنه استطاع أن يقول إن الحق عنده ليس من ذلك النوع الذي يمكن للعالم اختباره بأية وسيلة، إلا بمقدارِ ما يستطيع التحليل الكيماوي للخبز والنبيذ أن يختبر صدق العقيدة الكاثوليكية في القربان المقدس. إن مثل هذا الحل للورطة الفكرية التي وقع فيها الديمقراطي ليس بالحل السعيد، ولكنه ليس كذلك بالحل الذي لا يمكن تصوُّره. إن الديمقراطية قد تصبح إيمانًا بشيء يجاوز الطبيعة حقًّا، إيمانًا لا يُضعِف العقيدة فيه انعدام الاتصال بين الفروض التي تُقدِّمها ووقائع الحياة فوق هذه الأرض. وهناك من المتشائمين الذين يقولون إن الأمريكي عندما يفخر بانعدام التمييز الطبقي في بلده لا يزعج قطُّ خاطره بالواقع، واقع بنائنا الطبقي، وواقع الزنوج، واليهود، والمكسيكيين، وغيرهم، ونحن الأمريكيين لا نجد البتة مشقة في إدراك أن المبادئ الأساسية في تلك الهرطقة الديمقراطية، وأعني بها الماركسية، تتعارض تقريبًا مع كل مبدأ من البناء الحقيقي للحياة الاجتماعية في روسيا المعاصرة. إننا ندرك أن «الديمقراطية» الروسية تُعرَّف تعريفًا يختلف جد الاختلاف عن تعريف ديمقراطيتنا. إن الديمقراطية — في إيجاز — قد تستطيع أن تنزع جنَّتها الموعودة من هذه الدنيا، وتضعها في عالم الطقوس التي تُؤدَّى، في عالم العقائد فيما فوق الطبيعة، في إشباع الحاجات البشرية بطريقة أخرى، وتستطيع أن تجعلها مَثلًا أعلى لا يتلطخ بالواقع الملوث.

كما أننا قد نرى تطور النظرة الديمقراطية نحو العالم الذي يقبل حدود الطبيعة البشرية العادية، الذي يقبل نظرة التشاؤم إلى هذه الدنيا، وهي ديمقراطية لا تتطلع إلى المتعة في السماء، ولا ترى في مخزن الطعام غذاء مستساغًا من كل الوجوه، أو مشبعًا من جميع النواحي. ولطالما قال أعداء الديمقراطية عنها إنها أمر لا يتم إلا في الجو الملائم، لأنها تضع للطبيعة البشرية مستويات لا يمكن الاقتراب منها في السلوك البشري إلا في أوقات الهدوء والرخاء، حتى عندما يكون تحقيقها للحرية والإخاء والمساواة ناقصًا. أما في أوقات الشدة فنحن — كما يقولون — نحتاج إلى النظام، والقيادة، والتماسك الذي لا يتحقق إذا نحن سمحنا للأفراد أن يسيروا وراء رغباتهم الخاصة، حتى ولو نظريًّا أو في الخيال. نعم إن الناس يقبلون مثل هذا النظام في أوقات الأزمات، كما أثبتت أيما إثبات الديمقراطيات الغربية في الحرب الأخيرة، وقد تقبَّل الإنجليز بقليل جدًّا من الانهيار النفساني بدرجةٍ تُذهِل العقول قذفَ المدن بالقنابل الذي وضع كل المدنيين في خطوط القتال حقيقة لا مجازًا. وأدعى من ذلك إلى الذهول، بشكلٍ ما، الروح التي ذهبت بها أكثر الأمريكيين إلى هذه الحرب الأخيرة. ولشد ما كان جزع أصحاب العقول المرنة من المثاليين عندما رأوهم يذهبون إلى الحرب دون ما اعتقاد — إلا في القليل — أنهم سيخلقون عالمًا أفضل، وبقليل جدًّا من الروح الصليبية التي ظهرت في حرب ١٩١٤–١٩١٨م. لقد ذهبوا إلى هذه الحرب باعتبارها واجبًا غير محبَّب ولكنه ضروري، وهم قادرون على إجادة أدائه حقًّا، وإن كانوا لا يرون سببًا يدعوهم إلى ادعاء الابتهاج بها أو تقديسها. «ذهبوا إلى الحرب كما يذهب إليها الواقعيون لا المتشائمون».

وبهذا أختتم الكتاب بمقدار ما يمكن لكتابٍ من هذا النوع أن يُختتم. إن الديمقراطية «المثالية»، الديمقراطية «المعتقدة» (بالمعنى القديم للعقيدة الدينية التي تجاوز الطبيعة) ربما كانت ممكنة وإن شقَّ على هذه الديمقراطية أن توائم بين ميراثها العلمي الذي ينتمي إلى هذه الدنيا والإيمان الذي ينتمي إلى العالم الآخر، وإن إلهها ليحتاج على أقل تقدير إلى أن يتفق في شيء من المشقة مع المعالج النفساني. أما الديمقراطية «الواقعية» المتشائمة — الديمقراطية التي يقترب فيها المواطنون العاديون من قواعد الأخلاق والسياسة بالرغبة في مجابهة النقص الذي يتصف به الفلاح الطيب، والطبيب المجيد، والمشرف البارع على علاج الأرواح، سواء أكان قسيسًا، أم من رجال الأكليروس، أم من المرشدين النفسانيين، أم الأطباء النفسانيين — أما هذه الديمقراطية فإنها تتطلب من مواطنيها أكثر مما تطلبت أية ثقافة بشرية من قبل، ولو أمكن إجابتها إلى ما تتطلبه لكانت أكثر الثقافات نجاحًا. وهناك أخيرًا ديمقراطية «ساخرة»، ديمقراطية يعترف مواطنوها في هذه الدنيا بمجموعة من العقائد، ويعيشون غيرها، وهي ديمقراطية مستحيلة كل الاستحالة. إن مثل هذا المجتمع لا يمكن أن يبقى طويلًا في أي مكان. والتوتر بين المثالي والواقعي قد يخِفُّ بعدة وسائل في المجتمع السليم، ولكنا لا يمكن أن نتجاهل وجوده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤