الفصل الرابع

عالم واحد: الثقافة الكلاسيكية المتأخرة

كان القرن الرابع قبل الميلاد، قرن أفلاطون وأرسطو، هو آخر القرون التي كانت فيها المدينة الحكومية الإغريقية مستقلة حقًّا، تلك المدينة التي بُنيت عليها الثقافة التي قدَّمنا دراستها. وقد نشأت في القرون الثلاثة التالية على وجه التقريب وحدات سياسية أكبر كثيرًا من عالم البحر المتوسط. وكانت هذه الوحدات هي «الدول المتعاقبة» بعد إمبراطورية الإسكندر الأكبر الزائلة، وهي: مقدونيا، ومصر، وسوريا ودول أخرى أقل منها شأنًا في آسيا الصغرى. وفي الغرب روما وقرطاجنة. وظلت هذه «القوى الكبرى» تتصارع فيما بينها حتى أمكن لروما في عام ۱۰۰ق.م أن تهزمها وتمتصها جميعًا، وكان إذن — لما يقرُب من ثلاثة قرون — للثقافة الإغريقية تأثيرها في مجتمعٍ يخضع لروما من الناحية السياسية. وتحوَّل عَالم القبائل والمدن الحكومية المتقاتلة إلى «عالم واحد» من الثقافة الإغريقية الرومانية المتأخرة. وكان عالمًا موحدًا بدرجة غير مألوفة، عالمًا تسمح فيه الطرق البرية الجيدة والخطوط البحرية المنظمة للأفراد، والأفكار، أن يتنقلوا بحرية، عالمًا كانت الطبقات المتعلمة فيه على الأقل، مهما تكن مواطنهم الأولى: البريطانيون، والغال، والإسبان، والإيطاليون، والأفريقيون، والإغريق، والمصريون يشتركون في ثقافة عالمية حقيقية، عالمًا يتحرَّر مؤقتًا من الحروب بين وحداته التي يتألف منها، ويخضع إجمالًا لإدارة سلمية يقوم عليها إداريون تثقفوا بالقانون الروماني.

وفي هذه القرون نشأت مراكز مدنية كبرى، مثل روما ذاتها، وأنطاكية، والإسكندرية. وفي هذه المراكز أُقيمت المكتبات والجامعات، التي رفعت البحث العلمي، بل وبعض العلوم، إلى مكانة رفيعة. وليس للبحث العلمي (أو الدراسة الدقيقة) لأكثرنا اليوم إلا معنًى يسير، ولكنها — بمضاعفة النصوص — جعلت بقاء العمل العظيم في الثقافة العظمى أكثر احتمالًا. أما العلوم — وبخاصة الرياضيات، والفلك، والفيزياء — فقد كوَّنت أساس ما نعرف اليوم، وانتقل إلينا جانب كبير منها عن طريق العرب ورجال الدراسة في العصور الوسطى.

وأهم من ذلك أن هذه القرون الستة شهدت أثر كثير من الأفكار، وكثير من النظرات إلى الحياة — في إطار العالم الجديد الأوسع؛ عالم مقدونيا وروما — التي نشأت في المدينة الحكومية في عهد اليونان الأعظم. وانتشرت في الخارج الأفكار التي تطورت قصرًا عن الأخلاق والميتافيزيقا عند المفكرين الإغريق الأوائل، وربما لم تنتشر بين جمهرة الناس، ولكنها ذاعت على الأقل بين الأقليات المتعلمة في خمسين قبيلةً وجنسًا بشريًّا. وفقدت الأفكار الإغريقية حدَّتها، وذوقها الأولي، وانثلمت، واختلطت، لكي تلائم استخدام الصفوة العالمية لها. ولا يزال هذا العمل للعاشق المخلص لثقافة اليونان العظمى ترخيصًا للأصل وانحطاطًا به إلى المستوى الشعبي. ولكنه عمل هام بالنسبة إلينا، ما دام عن طريقه أمكن للأفكار الإغريقية أن يكون لها تأثيرها في المسيحية. ولا يزال مدى هذا التأثير أمرًا يُناقَش ويمكن الجدل فيه.

وأهم من هذا كله إذن أن المسيحية نشأت في هذه القرون، وهي — بالإضافة إلى القانون الروماني ﻛ «نظام حي» — ما بقي لدينا من هذا العالم الأوحد في الثقافة اليونانية الرومانية. ويستطيع فلاسفة التاريخ أن يبحثوا في الألف العام التي عاشتها الثقافة الإغريقية الرومانية عن بعض ما يفسِّر لنا مدى حياة جميع الثقافات، كما يستطيعون أن يتبينوا — بالقياس إلى هذه الثقافة — إن كنا اليوم في رائعة النهار، أو في وقت الأصيل. ويستطيع مؤرخو القانون والنُّظم، واللغة والأدب، أن يتلمسوا ألف حلقة مباشرة تربط بيننا وبين أسلافنا من العهد اليوناني الروماني. أو يستطيع أولئك الذين يبتهجون بغزارة التفصيلات التي يمكن أن نعيد بها بناء هذا العصر — عصر التمدن والتعقيد — أن يستمتعوا بالعالم اليوناني الإغريقي لحد ذاته. أما لأولئك الذين لا بد أن يجدوا بيننا وبين الماضي رابطة أكيدة واضحة، فإن الحقيقة الرئيسية الطاغية في هذه القرون هي أنها كانت أساس المسيحية.

وسوف نتعرض في هذا الفصل على التوالي لأثر اليهود، والإغريق المتأخرين (الهلينستيين) والرومان في ميراثنا الفكري.

العنصر اليهودي

إن بذرة المسيحية جاءت من خارج العالم الإغريقي الروماني. كان يسوع المسيح يهوديًّا، وقد وُلد في وقتٍ كان الوطن اليهودي — تحت حكم هيرود الذي تحوَّل إلى الهلينية — يُعتبر وحدة شبه مستقلة في مجموعة الأمم المتشابكة التي نسميها الإمبراطورية الرومانية. ومن الحق أنه كان هناك كثير من اليهود في وقت ميلاد يسوع ممن يتكلمون اليونانية، بل واللاتينية، وكانوا مواطنين من جميع النواحي في ذلك العالم الشامل من الأفكار المتعارضة، والمذاهب الدينية، والعواطف. غير أن أساس المسيحية الأولى يهودي بدرجةٍ قصوى، ينطبع بطابع الخبرة اليهودية الفذة، وهي خبرة أكثر إقليمية وعالمية في آنٍ واحد من أي مدينة حكومية إغريقية كبرى (وليس هنا مفر من هذا التناقض).

وهنا بالذات نلتقي بصعوبةٍ سوف نلاقيها بصورة أحد عند دراسة المسيحية ذاتها. ويجب على المؤرِّخ أن يسأل نفسه لماذا كان اليهود دون سواهم من جميع قبائل وشعوب شرقي البحر المتوسط الذين يتشابهون معهم في البيئة الجغرافية والظروف المادية الأخرى، ولا يختلفون كثيرًا في تاريخهم القديم، لماذا كان اليهود دون سواهم هم الذين صدرت عنهم الديانة التي لا تزال بعد ألفي عامٍ الديانةَ الرسمية في عالمنا الغربي. وربما أجاب المؤرخ عن هذا السؤال — مسترشدًا بالمسيحية الأولى — بأن الله اختار اليهود، وأن كل شيء كان يسير وفقًا لخطة مقدسة، وهذه إجابة واضحة لا تُرد، وهي إجابة تيسِّر على المؤرخ واجبه إلى حد كبير. وهي ليست الإجابة التي ينبغي أن نقدِّمها هنا.

وبغض النظر عن تسليمنا بالإيحاء السماوي الكامل للإنجيل، بعهديه القديم والجديد، فإن هناك مواقف متعددة جدًّا، تنتشر في الواقع على مدًى فسيح من الإيمان الكامل بالإنجيل إلى إنكاره عن عقيدة، هناك مواقف تدعو إلى القول بأن الإنجيل لا يعدو أن يكون مجموعة من الوثائق التاريخية نعاملها كغيرها من الوثائق المشابهة، كإلياذة هومر والأوديسى، أو نبلنجنليد. وأعداء المسيحية من أمثال نيتشه الذين سوف نلتقي بهم في أواخر هذا الكتاب، يميلون أحيانًا بعيدًا إلى الخلف، ويعلنون أن المكتوب في الإنجيل يحتمل بصفة خاصة أن يكون باطلًا.

وسأحاول في هذا الكتاب ألا أتخذ موقفًا عقائديًّا، ولن أقف بالتأكيد في موقفٍ عقائدي ضد المسيحية. ومهما يكن من أمرٍ فإني أفترض هنا أن أفكار اليهودية والمسيحية وعباداتهما هي — من حيث الغرض من التحليل التاريخي — من ثمار الثقافة البشرية في العصر التاريخي. كما أنه من الممكن كل الإمكان أن ننظر إلى حقائق المسيحية — كما ننظر إلى حقائق الأفلاطونية — على أنها حقائق تتجاوز حدود التاريخ — أو لا تتجاوزه — ولكنها في النهاية بالتأكيد لا يمكن تفسيرها في حدود مسير التاريخ. وربما لا يستطيع أحد أن يكون متشككًا في الزمان ومؤمنًا بالخلود. وعلى أية حال سوف أحاول في هذا الكتاب أن أحتفظ بقدْر من التشكك الذي لا يؤذي، بل وبقدْر معيَّن من التواضع.

وقد كان اليهود — في ضوء ذلك — قبيلةً صحراوية صغيرة، تنتمي إلى الأمة التي عُرفت فيما بعدُ بالعرب، أو البدو، والتي نشأت على الأرجح في الجزيرة العربية. وبعد عدة جولات استقروا، فيما بين عامي ١٧٠٠ق.م و١٥٠٠ق.م غالبًا، في المساحة الجبلية التي تقع بين وادي النيل والوادي الذي ينحصر بين دجلة والفرات، أو بين الدولتين العظيمتين — مصر في وادٍ، وبابل أو آشور أو الفرس في وادٍ آخر — كانت كل هذه الرقعة في الأزمنة القديمة منطقة منقطعة، تسكنها قبائل متعددة تتقاتل فيما بينها، وتتعرض بين الحين والحين للغزو و«إقرار الهدوء» من إحدى الدولتين الكبيرتين المجاورتين، إحداهما من الشرق والأخرى من الغرب. وفي مجال السياسة على الأقل كان لليهود تاريخٌ يشبه كثيرًا تاريخ جيرانهم الصغار. وبعد فترة وجيزة، عندما اتحد اليهود كشعب، وعندما كانوا تحت حكم داود وسليمان الشعب صاحب السيادة في المنطقة، انقسمت إسرائيل دولتين: إسرائيل في الشمال، واليهودية في الجنوب. وقامت بين الدولتين منافسات، كما قامت بين اليهود وجيرانهم. وكانت هناك محالفات، ودسائس، وحملات، ومعارك، وكل الأمور المعقَّدة في التاريخ كما تُروى في «سِفر الملوك» وفي التواريخ القديمة. وفي الوقت عينه كانت هناك دولة عظمى ناشئة في الشرق، هي آشور، التي قضت نهائيًّا على إسرائيل في القرن الثامن ق.م، وعندئذٍ استولت عليها دولة عظمى شرقية أخرى، هي بابل. وسيق في الأسْر إلى بابل زهاء عشرة آلاف يهودي من بينهم أكثر الصفوة المتعلمة، وربما كان ذلك جزءًا من سياسةٍ بابليةٍ معينة ترمي إلى تشتيت الجماعات الوطنية العاصية. وبالرغم من أن هؤلاء اليهود المُبْعدين قد عادُوا أخيرًا إلى بيت المقدس، وبالرغم من أن اليهود تمتعوا مرة أخرى بنوع من المكانة السياسية (مع العلم بأنهم لم يكونوا من قبل قطُّ مستقلين) إلا أن تشتيتهم الأكبر كان بالفعل قد بدأ. وكان الوطن اليهودي جزءًا من الإمبراطورية الفارسية الأخمينية في القرنين السادس والخامس ق.م، ووقع تحت نفوذ الثقافة الإغريقية بعد غزوات الإسكندر الأكبر. وفي أيام المسيح كانت هناك دولة يهودية تحت حكم الملك هيرود الذي تحوَّل إلى الهلينية، وهي نوع من المملكة الوطنية تحت الإمبراطورية الرومانية المركَّبة. غير أنه كان هناك أيضًا آلاف اليهود المشتتين، والذين كانوا يتجمعون عادةً في أحياء يهودية خاصة بهم، في أنطاكية، والإسكندرية، وكورنثيا، بل في الواقع في كل الجانب الشرقي من الإمبراطورية. وكان اليهود بالفعل — ما عدا في فلسطين ذاتها — في الأغلب مشتغلين بالبيع، والتجارة، وتسليف الأموال وشئون الثقافة، منعزلين عن البلاد.

ويتضح حتى من هذه الصورة المجردة أن هناك ما يفرق بين اليهود والفلسطينيين، والمالكيين، والمعابيين، والعاموريين، وكل الشعوب المجاورة التي نجد أسماءها مبعثرة في العهد القديم، وهذا الفارق، في أبسطِ صورة له، هو الإصرار على البقاء، وعلى أن يكونوا يهودًا، وأن يكونوا شعبًا. والآن بعد ألفي عام من تاريخ تحطيم الرومان لدولة اليهود ظهرت مرة أخرى على الخريطة السياسية في فلسطين المغتصبة. وليس هناك إجماع في الرأي عن السبب الذي جعل لليهود هذا التاريخ الفذ. ويستطيع اليهودي المتدين — بطبيعة الحال — أن يزعم أن الله خلق اليهود واحتفظ بهم، وسوف يفي بوعده بالمسيح. ولكن الأجنبي الذي يحاول تفسيرًا طبيعيًّا أو منطقيًّا لا يجد هذا الحل المبسَّط بين يديه. وهناك مَن يعتقد أن اليهود هم فعلًا جنس بشري، ولهم في الواقع صفاتٌ بدنية وعقلية موروثة هي التي وجَّهت تاريخهم وِجْهَته. ولا يقبل اليوم أي طالبٍ جادٍّ ممن يدرسون العلاقات البشرية أمثال هذه العقائد الساذجة في الجنس والوراثة الجنسية. غير أنه من الواضح أن التفسير السائد المعاصر للعلاقات البشرية الذي يأخذ الظروف الاقتصادية والبيئات الجغرافية في الاعتبار، والتفسير المادي للتاريخ، هو — بالرغم من ذلك — في هذا الصدد غير شافٍ؛ لأن الظروف المادية التي نشأ فيها المعابيون، والمالكيون، والعاموريون، وغيرهم ممن لم نذكر، كانت على الأرجح مطابقة للظروف التي عملت على تشكيل اليهود على صورتهم.

وإنما يجب أن نبحث عن جانب من جوانب تفسير ما جعل لليهود صفتهم الخاصة في تاريخ الفكر. كان اليهود بين شعوب عالمنا الغربي أوَّل مَن آمن بحرارة وتعصُّب بإله واحد، قادر على كل شيء، غيور، وعلى عزمٍ أكيد بأن يحمي شعبه «ما دام هذا الشعب يُثبِت بعمله أنه شعب الله». وسوف نرى أن كبار كتاب اليهود القدامى وصفوا إلههم بأكثر من ذلك وأنبل. ولكن هذا الحد الأدنى كان دائمًا موجودًا: يهوه، إله المعارك، إله غيور، إله لا يَمُتُّ بِصلةٍ إلى زيوس، أو ديونيسس، أو بعل، بله أن يَمُتَّ بصلةٍ إلى رباتٍ من النساء كأفروديت، أو أشتارت. وتماسك اليهود خلال كلِّ ما مرَّ بهم من محن؛ لأن عندهم يهوه.

ولك بالطبع أن تسأل كيف تأتَّى لليهود أن يروا في إلههم هذه الصفات. ولو سلَّمنا بأن الفارق بينهم وبين جيرانهم هو — بتعبيرٍ مجرَّد مألوف — إيمانهم في النهاية بوحدانية خلقية رفيعة، بقي أن نسأل: ولماذا تمسَّكوا وحدهم دون جيرانهم بهذه العقيدة؟ والمؤرخ — كما يحدث في أكثر الأحوال — لا يستطيع الإجابة عن هذا السؤال، على الأقل في عبارة بسيطة محدودة المعاني. إنما هذه العقائد استُخلصت من التاريخ اليهودي، وبخاصة فيما بين عامي ١٥٠٠ق.م و٦٠٠ق.م، وقد يرجع بعضها إلى وجودِ رجالٍ عظام، مثل موسى، تكتنفهم الظلال وتحيط بهم الأساطير بالنسبة للمؤرخ. وقد يرجع بعضها إلى نوع الجنس، والصلابة الموروثة في سلالة إبراهيم. ويرجع بعضها بالتأكيد إلى الكهان القدامى الذين احتفظوا بما كان يُروى عن القومية اليهودية؛ لأن هذه العقائد في أرقى صورةٍ خلقية لها تعتمد على أولئك الكهان المتأخرين الذين كانوا يُعرفون بالأنبياء. ويرجع بعض هذه العقائد إلى الاضطهاد الذي نال الأقلية التي أُبعدت إلى بابل في عام ٥٨٦ق.م، وهو اضطهادٌ حدا بهذه الأقلية إلى الشعور برسالتها في رد «طائفتهم الخاصة» إلى ما أحسُّوا أنه وضْعها الصحيح، وهو اضطهادٌ دفعهم إلى التسامي بهذا الوضع، وذلك بأن جعلوا يهوه إلهًا أفضل، وأرفع من الناحية الخلقية. وقد كان ما حقَّقه اليهود في الدين — كما كان ما حقَّقه الرومان في السياسة والأثينيون في الفن — ثمرةَ تاريخٍ طويلٍ لا نستطيع أن نفهمه كله أو نستعيده بأكمله.

وإن لدينا عن اليهود سجلًا رائعًا يُعرف بالعهد القديم، وما جاء به من وجهة نظر المؤرخ الحديث العادي إنما قد ضُم بعضه إلى بعض في أوقاتٍ متفرقة وعلى أيدي أفراد مختلفين، وبعضه كالملاحم، شيء يشبه هومر، وبعضه قواعد كهنوتية قُصد بها الاستخدام المباشر في «المعهد» وبعضها قصائد، وحكم، ودراسات خلقية وطنية. ولما جاء المسيح كان أكثر هذه المواد قد أُضيف بعضه إلى بعض، طبقًا لما وافق عليه المسئولون إلى حد كبير، وأمسى في خدمة اليهود باعتباره مجموعة مقدسة، وهي ما نعرفه جميعًا باسم «الإنجيل». وبات الإنجيل عند المؤمنين كلمة الله، أملاها الله على كتابه، وهو ليس مجرد كتاب بأية حال من الأحوال.

وظلت هذه المجموعة من الأدب القومي اليهودي — بعدما أُدمجت مع العهد الجديد في إنجيل مسيحي — عدةَ قرون كلمة الله، وهي لذلك لا تخضع لأية دراسة نقدية، ولا تخضع إلا للتفسير، أو التأويل. ثم شرع الناس على مهل بعد النهضة وعصر الإصلاح الديني، وعلى عَجل خلال القرن الثامن عشر، أن يدرسوا هذه النصوص دراسة نقدية، كما درسوا نصوص هومر، وفرجيل، وثيوسيديد، وهيرودوت. وتمخَّض هذا في القرن التاسع عشر عن ذلك النصر الذي أحرزه البحث، أو ما يسمونه «النقد الأعلى» الذي أزعج ضمائر أجداد أجدادنا إلى درجةٍ قصوى. ولم يصل «النقد الأعلى» إلى اتفاق تام. وفي أعلى مستوًى يعالج العهد القديم مشكلات المصير البشري، وهي تلك المشكلات الهامة التي لم نتفق عليها قط.

كما أن النقد الحديث القائم على البحوث الأثرية قد تعرَّض بالشك لبعض الوقائع المادية في النقد الأعلى في القرن الماضي. غير أن الجهد الذي بذلته عدة أجيال من الباحثين في هذا الميدان هو — كمثال للعمل الملموس الذي تحقِّقه طريقة من الطرق — أثرٌ رائع لإمكان تحقيق نوع من المعرفة التراكمية في مجالٍ من أشق المجالات. ولا يرفض قبول نتيجة هذا البحث العلمي اليوم «في خطوطه العريضة» إلا المتمسكون بالأسس الأولى.

ومن هذا يتضح للمؤرِّخ أن العهد القديم قد جُمع من مصادر شتى في فترات متعددة. وليس الباحثون على اتفاق في التفصيلات بأية صورة من الصور، وهم لا يزالون يختلفون في الرأي عمَّن كتب هذه الرسالة أو تلك — فردًا كان أم جماعة. وكمثال محسوس لما قام به النقد الأعلى نذكر أسفار موسى، أو الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم، التي تُعزى عادة إلى موسى؛ هنا يشير الباحثون إلى ثلاثة مصادر على الأقل: المصدر الأول يُسمَّى «ج» وهو الحرف الأول من الكلمة الإنجليزية جيهوفا، وهي تعني ما نطلِق عليه بالعربية «يهوه»، وهو أقدمُ المصادر وأكثرها بدائية. ويهوه هو إله اليهود القبلي، وهو لا يزال إلهًا معروفًا له صفات الإنسان، إلهًا كان بوسع هومر نفسه أن يفهمه. أما المصدر الثاني فيُشار إليه بحرف «أ»، وهو الحرف الأول من كلمة الوهيم، وهو اسم من أسماء الله، وهو مصدر جاء بعد الأول، وفِكْرتُه عن الله هي قَطعًا أكثر تمسُّكًا بالأخلاق، وأشد تجريدًا، وأكثر عالمية. ثم المصدر الثالث ويُشار إليه بحرف «ب»، وقد جاء متأخرًا جدًّا، ويكاد يكون من المؤكد أنه من وضع الكهان المختصين بالشريعة، والطقوس، والعبادات الظاهرة التي كانت تضم اليهود بعضهم إلى بعض في وحدةٍ اجتماعية دينية — أو ما نسميه الكنيسة. وقد اتحدت هذه المصادر الثلاثة أخيرًا، وربما كان ذلك في القرن الخامس قبل الميلاد، وتكوَّن منها التاريخ الإنجيلي للأصول اليهودية التي نعرِفها. ولم يتم هذا التوحيد نفاقًا لخداع أي إنسان، إنما هو يمثِّل الأفكار التي كانت عند المثقفين اليهود الجادين في السنوات التي أعقبت خروجهم، عن الرسالة الوطنية لليهود والتاريخ القومي.

وكثير من بقية العهد القديم هو في الواقع نفس هذا النوع من التاريخ، وهو تاريخ مستمد من المصادر القديمة، مع بعض الوثائق المعاصرة، ولكنه كُتِب بقصد تحويل اليهود إلى يهودٍ أفضل، وقد كُتِب وفَزَعُ الخروجِ مخيمٌ على الأذهان دائمًا، كما أنه كُتِب ليكون في النهاية شعرًا، وفلسفة، وأصولًا دينية، لا لكي يكون مجرَّد تاريخ. وعلى ذلك فإن تاريخ اليهود الملحمي يصبح من عمل الأنبياء، أو من «كتاباتهم» ومن أمثالِ ذلك سِفرُ أيوب، والأمثال، وسِفْر الجامعة.

واعتصار هذه المجموعة الكبرى من الكتابات ليس أمرًا مألوفًا، بل وليس من ورائه جدوى.

ليس العهد القديم كتابًا، ولكنه سِجلٌّ — متقطع وإن لم يكن مضللًا — لخبرة شعبٍ له صفاته الخاصة. وهو لا يشبه في شيءٍ ما نسميه العلم إلا في القليل؛ أي إن به في الواقع قليلًا من تلك النظرة إلى العلاقة بين الإنسان والكون التي نسميها أحيانًا التفكير المنطقي. ليس في العهد القديم ما يشبه ثيوسيديد، أو أبوقراط، أو حتى أرسطو. وحتى تلك المجموعة من الحِكَم التي تُسمَّى سِفْر الجامعة، الذي يبدأ بهذه العبارة: «باطل في باطل، الكل باطل»، ليست محاولة لتحليل سلوك الإنسان تحليلًا واقعيًّا، إنما هي شكوى يائسة من إنسان يجد أن التعمُّق لا يكفي لسببٍ ما. وإذن فهذا القدْر الكبير من الأدب هو في الأغلب أدبٌ يستهدف تلمُّس النهائي، وتلمُّس الشعرى، وشيء يتجاوز هذه الحياة. إنه أدبٌ لا يقبل قطُّ عالمنا هذا، عالم الحواس، والأدوات، والآلات — بل ولا يتطلع إلى دراسته.

إن ما يؤديه العهد القديم بصورة رائعة هو متابعة تطور الضمير اليهودي، والنظرة اليهودية إلى العلاقة بين الأفراد كأفراد وربهم المقدس. وهذه العلاقة هي الجانب الرئيسي من الخبرة اليهودية التي انتقلت إلى الخبرة المسيحية. ويهوه — كما ذكرنا — يشبه في أول الأمر نوع الإله الذي شاع في الزمان القديم، وهو ليس البتة إلهًا رحيمًا، وعند أول لقاء لنا به نجده — كالإله اليهودي القبلي — عليًّا، مفردًا، وليس مجرد عضو في مجموعةٍ متنازعة من الآلهة، ولكنه إله اليهود وحدهم.

وكانت للقبائل الأخرى آلهة أخرى. وقد كان يهوه إلهًا غيورًا، ولم يشأ أن يعتنق شعبه الإيمان بأي إله من هذه الآلهة القبلية. والواقع أن بعض الفقرات التي لا يرتاح إليها القارئ في الإنجيل — من وجهة نظر الإنساني أو العقلي في العصر الحديث — إنما تروي كفاح يهوه الطويل الظافر في سبيل الدفاع عن نفسه وعن شعبه ضد إغراء الآلهة والإلاهات المتصارعة. ولم يكن يهوه كأولئك الأشخاص الذين تتحدث عنهم في مدارس الأحد. وكانت له — فوق ذلك — صفات أخرى مما يتميز به إله شعب بدائي؛ كان يمشي على الأرض، ويتحدث إلى إبراهيم، ويمتحن رسول الله، ويظهر لِمامًا ولكن بصورة مجسدة في عِظته لموسى في سيناء.

وقد يميل خصوم الكهنوت، والمناطقة، والعقليون الدينيون المحدثون من كل الطوائف، إلى المبالغة في صفة الشخصية البدائية القبلية الشبيهة بالإنسان التي كان عليها يهوه هذا الذي ورد ذكره في أسفار موسى الخمسة. وربما أكون قد بالغت عن غير قصد في الفقرة السابقة، ومع ذلك فمن العسير أن يقرأ المرء في شيء من العناية كتابًا كسِفر التكوين ولا يَحُسُّ أن الإله الذي يُصوَّر فيه يبعُد كل البعد عن الإله في أية ديانة حديثة عليا قد نكون على علمٍ بها — كاليهودية، والمسيحية، والإسلام، والبوذية.

ولا يتطرق الشك إلى الأسفار المتأخرة في العهد القديم، في الإصحاحات الستة والعشرين الأخيرة من سفر أشعياء، وفي سِفر أرميا وسِفر أيوب. لقد شق اليهود طريقهم إلى فكرة ديانة واحدة عالمية، إلى وحدانية خلقية رفيعة، يعتقد أنبياؤها أنها صادقة لجميع البشر. ويقول أشعياء الثاني خاصة: «أنا الرب … أقدِّمك عهدًا للناس، ونورًا للكفار.» وربما بات اليهود حقًّا — أكثر من أي عهد سبق — الشعب المختار. ولم يخترهم إله الرعاة القديم الصاخب لكي يستمتعوا بالمراعي الخضراء بعد أن يحزوا رقابَ عددٍ كافٍ من الفلسطينيين، وإنما اختيروا لكي يبينوا للناس بسلوكهم — إن هم استطاعوا ذلك — أن الله يريد للناس أن يعيشوا في سلام وعدل: «أنتم شهودي … وخادمي الذي اخترت، لكي تعرفوني وتؤمنوا بي، وتفهموا أنني هو. لم يسبقني إله، ولن يأتي بعدي إله، إنما أنا الرب، وليس هناك غيري مخلِّص.»

وسِفر أيوب هو مِن عملِ شاعرٍ وفيلسوف يهودي متأخر (أو من عمل عديدين؛ لأن أكثر الباحثين يعتقدون أن هناك على الأقل جزءًا واحدًا رئيسيًّا مدسوسًا على الكتاب) يجاهد في حل مشكلةٍ تواجه كل الأديان السامية الأخرى؛ وتلك هي مشكلة الدفاع عن العناية الإلهية مع وجود الشر في الدنيا، أو تبرير تصرُّف الإله مع الإنسان. الله على كل شيء قدير، عليم بكل شيء، خير من كل وجه من الوجوه. فكيف إذن نفسِّر وجود الشر؟ إننا لا نستطيع القول بأن الله يريد أن يقضي على الشر، ولكنه عاجز عن أداء ذلك. كما أننا لا نستطيع كذلك أن نقول إنه — إذ يسمح بالشر — يصنع بنفسه الشر، ولكن العقل الحازم الذي يؤمن بعالمٍ آخرَ يستطيع أن يرى في حاجة كل فرد إلى التغلب على الشر، أو في نقص الفرد، الخطوة النهائية اللازمة نحو الخير، أو الكمال.

ولكن متاعب أيوب — من أحد الوجوه — محسوسة بدرجة أكبر: إنها صورة من صور مشكلة الدفاع عن الإله بالرغم من وجود الشر، وهي المشكلة التي كانت دائمًا تزعج المسيحيين. وإذا سلَّمنا بأن الله يسمح بالشر حتى تُتاح لنا فرصة التغلب عليه، وحتى نحيا حياة طيبة بالرغم من الإغراء بالحياة السيئة، ترتب على ذلك بالتأكيد أن السلوك الطيب يؤدي إلى النجاح والسعادة، والسلوك السيئ يؤدي إلى الفشل والشقاء. غير أنا نرى في كلِّ ما حولنا أن الشرير يفلح والطيب يعاني، وكان أيوب رجلًا طيبًا، ثريًّا، سعيدًا، وسمح الله للشيطان أن يمتحن إيمانَ أيوب بإصابته بسلسلة من الكوارث، وقد احتمل أيوب فقدان ثروته بهذه العبارة الشهيرة: «الله أعطاني، والله أخذ مني. بارك الله في اسم الرب.» واستطاع أيوب أن يحتمل المصائب البدنية. ولمَّا تراكمت على أيوب الآلام، ولمَّا أظهر أصدقاؤه إيمانهم بأن وراء هذه الآلام البادية لا بد أن يكون هناك شر عظيم، بدأ أيوب — لا أقول يشك في الله — محاولةَ البحث عن الحق بنفسه من خلال آلامه. وأخيرًا ظهر الله بنفسه وذكَّر أيوب بأن الإنسان تافه جدًّا، وأن كلمة الله عظيمة جدًّا، وأن إشفاق الإنسان على نفسه هو في الواقع شرٌّ وادعاء. عندئذٍ يتوب أيوب، ويقول: «أعلم أنك تستطيع أن تفعل كل شيء … ولذلك قلت إني لست أفهم. كم من أمرٍ يدعو إلى العجب لم أدركْه … ومِن ثَمَّ فإني أمقت نفسي. وأتوب حتى في التراب والرماد.» عندئذٍ عادت إلى أيوب صحته وثروته، وعاش بعد ذلك عيشة سعيدة.

هذه خلاصة مجردة — وقد تكون خلاصة عقلية بمعنى الكلمة السيئ — لشيء لا يمكن تلخيصه في يُسرٍ. إن معنى سِفر أيوب معنًى عاطفي، وهو شيء يثيره الشاعر نفسه، حتى وإن كان أكثرنا لا يستطيع معرفته إلا مترجمًا. ومع ذلك فإننا إن أردنا أن نفيد من سِفر أيوب في هذه الحياة الدنيا، فإنما يكون ذلك إن عرفْنا أن عقولنا الصغيرة البشرية الحاسبة لا تستطيع أن تبلغ مبلغ علم الله بأية وسيلة من الوسائل، بل ولا تستطيع القرب منه. وليست هناك مشكلة فيما يتعلق بإرادة الله للشر؛ لأننا لو فرضنا وجود هذه المشكلة كان هذا الفرض تصويرًا لأعلى حد من تقرير الذات البشرية الشريرة. إن علاقتنا بالله لا يمكن أن تكون قياسًا، أو تساؤلًا، أو علاقة مفصلة، نفكر فيها كما يفكر المحامي، أو العالم، أو التاجر، في مشكلاته: «أعلم أن الله عظيم، وأننا لا نعرفه.» إننا لا نعرفه، ولا نستطيع أن نعرفه، لأننا لو استطعنا ما كنا بشرًا. ولكوننا لا نستطيع معرفته نؤمن به.

ولم يبلغ كل اليهود مستويات الفكر والشعور التي حاولنا التنويه عنها، وهم في ذلك كالأثينيين؛ فإنهم لم يبلغوا جميعًا مستويات أفلاطون وأرسطو. غير أن اليهود صاغوا من خبرتهم الطويلة ديانة منظمة، ومجموعة من النُّظُم، وأسلوبًا من العيش، وعن هذا الأسلوب نشأت المسيحية. ويجب أن نذكر مرة أخرى أن تاريخ الفكر لا يهتم بالأعمال العظيمة التي قام بها العقل البشري وحدها، كأعمال الأنبياء اليهود، وإنما يهتم كذلك بالطريقة التي طُبِّقت بها هذه الأفكار على السلوك العادي في حياتنا اليومية التقليدية.

إن الشعب اليهودي لم يرَ كله إله اليهود كما رآه أشعياء. وهم كشعب لم يخسروا قط إلههم يهوه في يهوه العالمي. وليس من شك في أن الدين عند الكثيرين منهم كان معناه مراعاة قواعده؛ أي الاحتفاظ بنقاء الطقوس، وذلك بأداء مجموعة من الأحكام والقوانين بكل دقة. وكثير من هذه الأحكام نواة، من ذلك النوع الذي يألفه الكثيرون منا اليوم، ويعرفونه باسم المحرمات، وكذلك الحكم مثلًا الذي يحرِّم على اليهودي أكل لحم الخنزير. وهناك أحكام أخرى — كالختان — تتطلب أعمالًا إيجابية. وكان الأنبياء ثوارًا على المعنى الحرفي لأحكام الدين. وكانوا على أقل تقدير مثاليين دينيين يستهدفون تجاوز الشريعة، وقد وسَّعوا في الواقع وعمَّقوا الحياة الدينية لشعبهم.

ولما جاء المسيح كان هناك أسلوبٌ من العيش يهودي، لا ينطبق تمام المطابقة على أعلى مثل للأنبياء، كما لا ينطبق أسلوب العيش الأمريكي تمامًا على المُثُل العليا لإمرسون وهويتمان، ولكنه أسلوب يختلف كل الاختلاف عن الأسلوب اليوناني، أو الروماني. كان اليهودي يعتقد بإله واحد على كل شيء قدير. وهو — لأسباب لا يستطيع أحكم الحكماء أن يسبر غورها — يسمح على هذه الأرض بنشوب ذلك النوع من النضال، الذي نَحُسُّ نحن بني آدم كأنه نضال بين الخير والشر، بل إن الله ليريد هذا النوع من النضال. وكان اليهودي يعتقد أن الله اختار الشعب اليهودي ليكون رأس الحربة للخير في هذا النضال، وأن الله قد كتب في الواقع على اليهود أن يقودوا بني الإنسان إلى انتصارهم نهائيًّا على الشر. ومن أجل هذا أراد الله أن يبعث لهدايتهم رجلًا عظيمًا حقًّا، موسى آخر، هو المسيح الذي سوف ينشئ لهم أورشليم الجديدة.

وليس من شك في أن كثيرًا من عامة اليهود — بل أكثرهم — استشعروا في كل ذلك وعدًا بالمجد في هذه الدنيا لليهود، وتصحيحًا للإساءات التي لحقت بهم على أيدي البابليين، والمصريين، والفرس، والإغريق، والرومان؛ أي استشعروا في ذلك بإيجازٍ ما نعرفه ونسميه إرضاء الآمال الوطنية. وقد ظن بعض اليهود — قطعًا — أن هذا النصر النهائي لن يكون. في العالم الآخر، وهو ليس انتصارًا صوفيًّا للخير على الشر، وإنما يتم النصر لهم في هذه الدنيا فيما يزعمون، وليس ذلك إلا من باطل الوهم ومحض الخيال.

ولم يكن بالإمكان — برغم ذلك — أن تكون هذه الصورة من صور الأحلام مادية محضة. ولن تستطيع أن تقرأ في أي سِفر من أسفار الأنبياء دون أن تجد الدليل على أنهم أحسُّوا أن هذه العظمة اليهودية المرتقبة هي عظمة الله أولًا؛ ففي سِفر زكريا جاء أنه: «في تلك الأيام يمسك عشرة رجال من جميع ألسنة الأمم بذيل رجل يهودي قائلين نذهب معكم لأننا سمعنا أن الله معكم.» ولم يأمل اليهود أن يكونوا مثل روما أو بلاد فارس إلا بمقدارِ ما يستطيع أن يأمل الإيرلنديون أن يكونوا الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفيتي — مع التسليم بالفوارق بين العالم القديم والعالم الحديث. ولم يشكَّ بعضهم في أن المسيح سوف يسترد عظمة سليمان في مساحة محدودة من الأرض. أما أولئك الذين جاوزوا هذا المثل، فقد كانوا يرون أن المسيح مبشر بنصر روحاني أكثر منه مادي.

وثمة حكم آخر: كان عند اليهودي، حتى ذلك الذي يعدم الخيال، المطاوع، الذي يكتفي بالشريعة، ما كان عند قليل من الإغريق، وأعني به الإحساس بالذنب. كان عند الإغريقي من العامة إحساس بالحق والباطل، ولكن الحق والباطل عنده هما في الواقع نوع من المحاولة والخطأ، الفعل الخاطئ غلطة يمكنك إن كنت عاقلًا أن تصححها في المرة التالية. وبعض الناس — بطبيعة الحال — لم يكن عاقلًا، وعاقبة انعدام العقل يمكن في الواقع أن تكون وخيمة، بل ومأساة. ولم تكن الآلهة نفسها على بينة تامة من الفارق بين الحق والباطل، وهي أيضًا كانت خاضعة لأحكام القدَر المبهمة. ولكن هذا العالم — على أسوأ الظروف — إذا لم يكن قد خُلق لراحة الإنسان، فلم يُخلق — كما كان يرى الإغريقي العادي — لتعذيبه إيثارًا لعالمٍ آخرَ بشكل ملحوظ.

أما اليهودي فكان يَحُسُّ أن ارتكاب الخطأ ذنب، وهو دليل على أن مرتكبه دنس، فاسد، في أعماقه. لم يكن ارتكاب الخطأ غلطة، إنما كان مرضًا. وتستطيع أن تجرِّب الدواء، وربما كان الدواء في سلوكك في الطقوس سلوكًا مستقيمًا. ولكن الله وحده هو الذي يشفيك، وبوسع الله دائمًا أن ينفُذ وراء سلوكك حتى يبلغ أفكارك ومشاعرك الباطنة. ولا بد أن تكون أفكارك ومشاعرك طاهرة، صالحة؛ لأن الله لا يُخدع. وإذا أمكنك فعلًا أن تكون صالحًا، من كل نواحيك، فقد نجوت. والحق أن اليهود لم يعبئوا كثيرًا بمذهب خلود الفرد المباشر، كما فعل المسيحيون فيما بعد. ولكن من المحتمل أن تكون فكرة الخلاص الشخصي عن طريق الصلاح قد شاعت بينهم في الوقت الذي جاء فيه المسيح. ولكن بلوغ الصلاح عند اليهودي أمرٌ شاق. والله يمتحن الأرواح امتحانًا شديدًا. وليست هذه الدنيا في الواقع مكانًا سارًّا، أو حتى مكانًا معقولًا. ولم تُخلق في الحقيقة لكي يعيش فيها الناس كما يتصور الناس المعيشة — وأقصد أولئك العامة من الناس، العاقلين، الأنانيين، الذين لا يتصفون بالبطولة، المنطقيين. إن أمثال هؤلاء الناس إنما يعيشون الحياة التي يريدها لهم الشيطان، وتريدها لهم أمزجتهم، وهي ذلك النوع الواضح من أنواع الحياة؛ حياة الإثم. الآثام تتحوطنا من كل جانب، ولا نستطيع قطُّ أن نكون على ثقةٍ بأننا لا نرتكب الذنوب.

وأرجو ألا تسيئوا الفهم. لم يكن بوسع اليهودي العادي أن ينفق حياته وسط مخاوف تلازمه دائمًا، وهي مخاوف ارتكاب الذنوب. وأهم من ذلك أن السلوك الخاص الذي كان يراه اليهودي آثمًا لم يكن يشبه السلوك الذي نحسبه نحن الأمريكيين آثمًا — إذا تذكرنا هذا المذهب إطلاقًا. لم يكن اليهودي متطهرًا، أو لم يكن بالتأكيد ما نَعُدُّه متطهرًا في تفكيرنا حينًا بعد حين، ولم يكن زاهدًا، وكان يُسمح له بالتمتُّع المعتدل بكثير مما نسميه المتعة الحسية، ولكنه كان — برغم ذلك — أقرب إلى فكرتنا المألوفة عن المتطهر منه إلى أسلوب العيش الإغريقي. إنه لم يحرِّم متعةَ البدن، ولكنه لم يَضَع ثقته فيها. ولم يكن لديه فوق هذا — العقلُ المنطقي، عقلُ مَن يدرُس الهندسة، العقل الذي يسعى إلى فهْم الكون في حدود الأشياء التي يمكن قياسها. كان العالم عنده مكانًا لا يخضع للقياس وهو مكان معاد، على المرء أن يتحسس فيه طريقه كالكفيف، إلا أن يضيئه الله له بنور خاص ليس من هذه الدنيا بتاتًا، نور سرعان ما يضل عنه الإنسان الآثم.

العنصر الهلينستي

في الفترة التي تنحصر بين أيام المدن الحكومية العظمى فيما بين القرنين السادس والرابع، وبين توحيد عالم البحر المتوسط توحيدًا سياسيًّا تحت حكم روما في القرن الأول ق.م، يقع عصرٌ من عصور النضال المضطرب بين الدول العظمى — مصر، وسوريا، ومقدونيا، وروما، وقرطاجنة. وقد انتشر الإغريق فوق الجزء الشرقي من البحر المتوسط كله تحت حكم الإسكندر وجعلوا ثقافتهم — من بعض النواحي — ثقافة كل الأفراد المتعلمين فيما نسميه اليوم الليفانت، أو الشرق الأدنى. ولم تكن هذه الثقافة التي انتشرت على هذه الصورة مطابقة لثقافة المدينة الحكومية. فإن مجرد انتشارها يحتِّم تحويرها. وقد نعت المؤرخون — كما ذكرنا من قبل — هذا العصر بصفة «الهلينستي» ليَدُلوا بذلك عمومًا على ترخيص، وعلى تحوير غير مستحب.

والعصر الهلينستي بالنسبة إلى مؤرخ الفكر له ناحيتان تثيران الاهتمام: الناحية الأولى أنه — باعتباره مرحلة هامة في تطور الحضارة الإغريقية الرومانية، وهي في الواقع المرحلة المؤسفة التي زادت فيها درجة النضج عن الحد المطلوب، وظهرت فيها بداية التدهور — اجتذب دائمًا أنظار فلاسفة التاريخ الذين يرون في تاريخ العالم القديم نمطًا معينًا، بل ونبوءة لا مفر منها، لما سوف يحدث لنا نحن المحدثين، والقرون الهلينستية — باعتبارها هذا النمط — توافق إلى حدٍّ كبير القرون الرومانية، فيجدر بنا أن نؤجل إلى فصلٍ مقبل من هذا الكتاب النظرَ في هذه المشكلة، هل يسير المجتمع الغربي اليوم على طريقٍ يشبه الطريق الذي سلكه المجتمع الإغريقي الروماني؟

والناحية الثانية هي أن الثقافة الهلينستية جزء من ميراثنا الكامل. وقد ساعدت علومها وفنونها وآدابها وفلسفتها على تكوين تلك التربية الشكلية التي نسميها التربية «الحرة» أو «الكلاسيكية»، بالقدْر الذي ساعد به في ذلك عمل العصور الإغريقية التي سبقتها. وكان الباحثون — في هذه الثقافة الهلينستية — وأمناء المكتبات، والنساخون، حلقةً أساسية في نقل أعمال الأجيال السابقة إلينا. وأهم من هذا كله بالنسبة إلينا أن هؤلاء الإغريق الهلينستيين — العامة منهم والمثقفين — كانوا أولئك القوم الذين تحولت في عقولهم وأفئدتهم خاصة المسيحية من مذهب يهودي، أو هرطقة، إلى العقيدة العالمية التي بقيت بعد إمبراطورية روما العالمية.

وهذه القرون الثلاثة التي سبقت المسيح كانت القرون العظمى للعلوم الإغريقية، وقد تفوَّق الإغريق الهلينستيون في الرياضة (وبخاصة الهندسة)، والفلك، والطبيعة. أما في الطب وعلم الأحياء فلم يتحقق ما توقعه أبقراط وأرسطو بأكمله. ولم تكد الكيميا تكون ميدانًا من ميادين الدراسة المعترف بها. ومهما يكن من أمر فقد كانت جملة التقدُّم العلمي عظيمة جدًّا. والعلم يعني عندنا اليوم جماعة من الباحثين المدربين، ومؤسسات غنية تعينهم، ونقل النتائج إلى الزملاء العاملين في الميدان، وبحث لا يني عن النظريات لتفسير الوقائع، وعن وقائع لاختبار صحة النظريات. ومن الجائز أن العلم بهذا المعنى الحديث — حتى أواخر القرن السابع عشر — كاد يتحقق في متحف الإسكندرية تحت حكم البطالسة الأوائل.

ولسنا نعرف على وجه الدقة شيئًا عن تنظيم هذا المتحف. وقد كانت الإلاهات الإغريقيات التسع التي عُرفت باسم «ميوزس» — وهو الاسم الذي اشتُقت منه كلمة متحف بالإنجليزية — في الواقع سيداتٍ أديباتٍ أكثرَ منهن عالمات. ولكن الأدب تحت النظام الإسكندري الذي كان يشجع على البحث وراء المعرفة كان تحت رعاية «المكتبة» العظمى، التي عُني القائمون عليها بما يُسمَّى في الجامعات الحديثة بالعلوم الإنسانية. والظاهر أن المتحف كان من بعض نواحيه شبيهًا بمتاحف التاريخ الطبيعي في العصر الحاضر — مكانًا تُعرض فيه نماذج لها أهميتها. ولكنه كان — من ناحية أخرى كذلك معهدًا للبحث العلمي، وللتعليم، على الأقل فيما يتصل بالعلاقة المباشرة بين الأستاذ والتلميذ.

وليس من شك في أن شرطًا من الشروط الأساسية لازدهار العلم، أعني وجود مركز مُعَدٍّ للتعليم والبحث، قد توافر في العصر الهلينستي. وليست هناك فائدة كبرى من سرد الأسماء هنا. ومهما يكن من أمر فقد كان أرشميدس في سرقسطة عالمًا طبيعيًّا من طبقة نيوتن. كما كتب إقليدس كتابًا مدرسيًّا استُعمل في تدريس الهندسة أكثر من ألفي عام. وكذلك وضع أرستارخوس في ساموس نظامًا لميكانيكا الأجرام السماوية، الشمس بمقتضاه تتوسط الكواكب، والأرض وغيرها من الكواكب تدور حول الشمس، ولما كانت كتاباته الرئيسية لم تصل إلينا وجب علينا أن نصدِّق في ذلك ما ذكره عنه أرشميدس أساسًا. كما أن أراستوثينس قد أخذ بالنظرية العلمية السابقة التي تقول بأن الأرض كرية. وعلى هذا الأساس قدَّر طول محيطها برقمٍ يقترب من الحقيقة بدرجة تدعو إلى العجب. أما مدى صحة الرقم الذي قدَّره فيتوقف على المقياس الحديث المضبوط المساوي لوحدته في القياس، وهي الاستاديوم (وهو نحو ٢٠٢ ياردات، وإن كنا لا نعرف على وجه الدقة). ولكنه على الأرجح قدَّر رقمًا يبلغ نحو ٢٨٠٠٠ ميل بدلًا من ٢٥٠٠٠ ميل تقريبًا بتقدير الجغرافيين المحدثين.

وبالرغم من أن جانبًا كبيرًا من هذا العمل العلمي نظريٌّ بحت، تمَّ بالدراسة كما تتم الفلسفة، إلا أن الإسكندريين لم يتخلوا عن العملِ الشاقِّ المُحطِّ بالكرامة الذي يتعلق بالملاحظة والتجربة. وقد قدَّر أراستوثينس — على سبيل المثال — طول محيط الأرض بقياسه قياسًا دقيقًا الظلَّ الذي يلقيه عمود رأسي في الإسكندرية وقت الظهيرة تمامًا في يوم الانقلاب الصيفي، وقد عرف أن الشمس عند سايين (وهي جنوبي الإسكندرية تمامًا) في تلك اللحظة من ذلك اليوم لم تلقِ البتة أي ظل — وإذا أخذنا بالتعبير الحديث قلنا إن سايين كانت على مدار السرطان، وعرف المسافة بين الإسكندرية وسايين. وبهندسة مبسطة جدًّا استطاع أن يقيس ذلك القوس من سطح الأرض الذي تمثله المسافة بين الإسكندرية وسايين، ووجد أنها ٧° ١٢ أو ٥٠ / ١ من الدائرة. وقد نشأ خطؤه الأساسي من عدة أخطاء ثانوية؛ فسايين لا تقع جنوبي الإسكندرية تمامًا، فهي ليست على مدار السرطان تمامًا، وربما لم يأخذ في حسابه نصف قطر الشمس ذاتها عند قياس زاويته الرئيسية. ومهما يكن من أمر فقد كان العمل الذي قام به جليلًا، وكان مذهبًا علميًّا يقوم على النظريات والوقائع.

وقد قام بعض الإسكندريين المتأخرين — وإن لم يكونوا فنيين أو مخترعين بالمعنى الحديث — بجانب كبير من التجريب في الميكانيكا، ورِثوا عن أسلافهم جزءًا كبيرًا من المعرفة الأساسية عن صفات السوائل والغازات، وعن الروافع، و«السيفون»، والمضخات، وما إلى ذلك (وكان العلم قد أمسى بالفعل من قبلُ معرفة تراكمية بصورة واضحة)، فصنعوا آلات بخارية صغيرة، وآلات تدور بوضع العملة فيها، وعصافير تصفر وتكفُّ عن الصفير من تلقاء نفسها، وأبواب المعابد التي تتفتح من تلقاء ذاتها إذا اشتعلت النار. ومن المحتمل أن القسس كانوا يستخدمون بعض هذه المخترعات عن قصدٍ لكي يضاعفوا من تأثير الحفلات التي يقيمونها. ولكن ليس لدينا سجل عن أي تاجر إسكندري كان يستخدم الآلات التي تدور بوضع العملة فيها في بيع سلعة، أو أي مهندس إسكندري يستخدم الآلة البخارية في تحريك أي شيء.

وإذن فقد كان تاريخ العلم في العالم الإغريقي الروماني المتأخر متقطعًا غير متصل. كانت هناك عقول جبارة كرَّست نفسها لدراسته، وكانت هناك على الأقل بداية لنظام تربوي وتنظيم اجتماعي يكفل الاستمرار في دراسة العلم والتزيد فيه. ولكن لم تَقم — مع ذلك البتة أية علاقة مثمرة بين العلم، وتطبيقه، والإنتاج الاقتصادي. وفي القرون الأولى من حكم العالم الروماني توقَّف العلم عن النمو، وتوقف عن توسيع نطاقه. ومشكلة توقُّف العلم عن النمو بهذه الصورة من أشد المشكلات تشويقًا في تاريخ الفكر. وليس بالإمكان تفسير ذلك ببساطة؛ فهنا — كما في تاريخ البشر دائمًا تقريبًا — تواجهنا عدة عوامل، وعدة اتجاهات، ولكلٍّ منها ضلع في تطور الموضوع. ولا يمكن أن نرتِّب هذه العوامل والاتجاهات في صورة معادلة وليس بوسعنا إلا أن نزنها وزنًا تقريبيًا.

وأحد هذه العوامل كثيرًا ما يُبالغ فيه، بالرغم من وجوده قطعًا، وذلك هو ما نستطيع أن نسميه عنصر «التهذيب والرقة» في التقاليد الإغريقية، وأقصد أن رجال الثقافة المهذبين إنما يهتمون بالموضوعات الرشيقة كالموسيقى والفلسفة، ولا يهتمون بالعمل الدقيق، الشاق، غير الكريم، في المعمل أو في حقل التجارب. وإذا عبَّرنا عن ذلك بأسلوب عقلي آخر، قلنا إن هذا العامل هو الإيمان بأن المرء يبلغ الحق بالتأمُّل الباطني، وبالوحي، وبالاطلاع على الأعمال العظمى للأساتذة، ولا يبلغه بالكشف عن وقائع التجربة الحسية وتناولها. وبعبارة أخرى نقول إن رجال الفكر من الإغريق والرومان ساروا في أثر أفلاطون ولم يسيروا في أثر أبقراط.

وقد يكون هذا القول صادقًا من بعض نواحيه، ولكن من غير المحتمل أن دقة التقاليد وتهذيبها في حد ذاتها قد اعترضت العلم القديم؛ فقد كان هناك كثرة من الأفراد العلماء، من أبقراط إلى أرشميدس وأراستوثينس، ممن أسلموا أنفسهم للمهمة غير الكريمة؛ مهمة التنقيب عن الوقائع. وربما لم تنجذب خير العقول نحو العلم، وإن يكن مثل هذا التفسير لا يقوم على دليل مقطوع به.

وهناك عامل آخر ينبغي أن نقر به؛ فسوف نرى مرة أخرى الرأي الذي يقول بأن انتصار المسيحية — باهتمامها بالعالم الآخر — هو الذي يُعزى إليه فشل الإغريق والرومان في علاج المشكلات المتعددة في هذه الدنيا، بما فيها — بطبيعة الحال — مشكلات العلم، ولكن عامل الزمن — في هذه الحالة بعينها على الأقل — يبرِّئ المسيحية من المسئولية، ذلك أن المسيحيين لم يكن لهم في الواقع تأثير في الإمبراطورية الرومانية حتى ختام القرن الثاني بعد الميلاد. وكان العلم الهلينستي قد بلغ قمِّته وبدأ يتدهور، أو يتطور مع الزمن، قبل ذلك بعدة قرون.

وإنما العامل الهام هنا إنما ينبغي في الواقع أن يُلتمس في فشل العلوم البحتة في تأثيرها في الهندسة ونواحي النشاط الاقتصادية الأخرى، أو التأثُّر بها. ونستطيع أن نؤكد أن العلم الحديث قد اتخذ صورته، وأنه تقدَّم وعاش بسبب الثورات التجارية والصناعية في الأزمنة الحديثة إلى حدٍّ كبير. وإذا عبَّرنا تعبيرًا مبتذلًا قلنا إن العلم قد عاد علينا بالمنفعة، في حين أنه لم يكن نافعًا في العالم القديم. والواقع أننا نرتد هنا إلى سؤال آخر، وهو لماذا لم تَقُم في الأزمنة القديمة ثورة صناعية؟ كانت هناك بداية في التطبيق، وفي أعمال البنوك وفي التكنولوجيا على السواء. ولكن لم يكن هناك نقص في العمال. وكيف تكون هناك مشكلة العمال مع وجود الرق؟ ومِن ثَمَّ فلم يكن هناك حافز على إنتاج الآلات التي توفِّر العمل.

ونستطيع أن نقول في إيجاز إن من بين المصادر المعقدة كلها التي تمخضت عن العالم العلمي الحديث — الفكرية، والاقتصادية، والاجتماعية، والروحية — لم يتطور تطورًا كاملًا إلا المصدرُ الفكري في العالم الإغريقي الروماني.

أما الفرض بأن زيادة التقدُّم في العلوم وما يتبعها من صناعات كان من الممكن أن يحمي العالم القديم من التدهور الذي أصابه أخيرًا؛ فمسألة تستحيل الإجابة عنها. وقد كان المتفائلون في الغرب في القرن التاسع عشر يميلون إلى الاعتقاد بأن نشوب ثورة صناعية وعلمية كان من الممكن أن ينقذ العالم القديم. وهناك كثير من المفكرين في الوقت الحاضر يشكون في أن هذه الثورة قد أنقذت عالمنا فعلًا.

ويرى أكثر النقاد المحدثين أن كل الإنجازات الفنية والأدبية الهلينستية، بل والإغريقية المتأخرة، أقل شأنًا من مثيلاتها في العصر الأعظم الذي سبقها. ومع ذلك فإن بعض أولئك الذين لعبوا أعظم دور في التربية الكلاسيكية في الأجيال المتأخرة في أوروبا وأمريكا ينتمون إلى هذه السنوات المتأخرة — كاتب السير والأخلاق بلوطارخ، والمؤرخ بوليبيس والشاعر ثيوقريطس، والإمبراطور المفكر ماركس أوريليوس. ثم إن تلك الظاهرة الثقافية — حسنة كانت أم سيئة — التي نسميها البحث العلمي ظهرت أول ما ظهرت بوضوح في العالم الغربي في تلك السنوات.

ويقابل «المتحف» العلمي في الإسكندرية من الناحية الأدبية «المكتبة». وربما كانت هذه المكتبة في أوجها تشتمل على ما يقرب من خمسمائة ألف ملف، أو مجلد بتعبير اليوم. وكانت هذه الكتب مخطوطة باليد على صحائف طويلة من أوراق البردي، وهو نوع من الورق مصنوع من غابٍ عادي، وملفوف على صورة قريبة الشبه بصحائف عازف البيانو القديمة. وكان لا بد من فضها — بطبيعة الحال — لكي تُمكن قراءتها. وكانت «تُنشر» عن طريق نسخها باليد، وهي عملية شاقة كانت تقوم بها عادة الطبقة العليا من الرقيق.

وبالرغم من انعدام الجهاز الآلي الحديث في البحث، فإن الباحثين الإسكندريين — كمعاصريهم من العلماء — قد طوَّروا ما نعرفه في العصر الحديث بالنقابة. وكانوا في القديم يقابلون ما نعرفه في الوقت الحاضر بحَمَلة الدكتوراه. كانوا يجمعون، ويصنفون، ويذيلون، ويحللون ويلخِّصون أعمال أسلافهم العمالقة من هومر إلى أرسطو. وقد بقيت إلى اليوم هوامشهم وتعليقاتهم بين السطور، التي دوَّنوها في مخطوطات حقيقية وأسموها الحواشي، فيسرت كثيرًا من الدراسة الكلاسيكية الحديثة. وهكذا ترى أن الإسكندريين كانوا حلقة أساسية في السلسلة التي تربطنا بثقافة الإغريق العظمى. وكما يحدث للباحثين منذ ذلك الحين، نظر أصحاب الخيال والكتَّاب المبدعون إلى عملهم بعين الازدراء، وحط النفعيون من شأنهم، ورمقتهم الجماهير عامة بشيء من الحيرة. ولكني أرى أن أي شيء عاش بمثل النجاح الذي عاشت به هذه الدراسة لا بد أن تكون له عند المجتمع قيمة، على الأقل طبقًا لنظرية دارون. ومهما يكن من أمرٍ فإن من المخاطرة في الرأي أن نقول إن ظهور هذا النوع من البحث هو في حد ذاته دليل على التدهور الثقافي.

ولم تكن المكتبات التي يقوم فيها هؤلاء الباحثون بالدراسة شبيهةً بمكتباتنا الأمريكية الدورية؛ إذ لم تكن ميسَّرة للجماهير. إنما كانت أماكن تُحفَظ فيها الكتب التي لا يستخدمها إلا الباحثون. ومع ذلك فلا ينبغي لنا أن نبالغ في تقدير معرفة الكتابة والقراءة كمقياسٍ لسهولة الوصول إلى الأفكار. وقد كانت القدرة على الكتابة والقراءة محصورة في نسبة ضئيلة من السكان. وقد لاحظنا أن الأثينيين كانوا يتحدثون عن الأفكار أكثر مما يقرءون عنها. وبانتشار أسلوب الحياة اليوناني في الشرق، حمل الإغريق معهم عادتهم في الجدل العلني الحي. وكذلك حملوا لغتهم التي فقدت شيئًا من رشاقتها في أتيكا ولكنها لم تهبط قطُّ إلى مستوى الرطانة بالإنجليزية التي يستخدمها أهل الشرق الأقصى، وأصبحت اليونانية تُعرف باسم «كويني» أي اللسان الشائع، لغة القديس بولس. ثم إن نظام المحاضرة الإغريقي القديم قد تطوَّر حتى أمكن للمفكرين أن يكسبوا عيشهم — وكان الكسب عظيمًا جدًّا في الأزمنة المتأخرة للموهوبين بصفة خاصة وللمحظوظين — بطريقة تشبه طريقة الشوتوكوا الأمريكية في أول أمرها، أو الليسيه (أي إلقاء المحاضرات العامة لقاء أجرٍ يتقاضاه المحاضر في شتَّى فنون المعرفة). ويَعرف أكثرنا أن المصارعين المتفوقين — كلاعبي البيسبول المجيدين اليوم — كانوا يتقاضون أجرًا عاليًا في العالم الإغريقي الروماني، وكذلك أيضًا كان الخطباء الناجحون، أو المحاضرون العامون. وكانت الثقافة الأدبية والفلسفية في العالم الإغريقي الروماني منتشرة بوضوح من بعض نواحيها. ولم تكن بالتأكيد محصورة في طبقة صغيرة عليا. وانتشرت المسيحية بين قومٍ ألِفوا تبادل الأفكار علانية.

أما فيما خلا ذلك فقد كانت الثقافة الهلينستية تختلف اختلافًا بيِّنًا عن ثقافة العصر العظيم، وإن يكن الأسلوب الكلاسيكي ما بَرِح ملحوظًا حتى في حالة التدهور والانحراف. وليس بوسعنا هنا إلا أن نشير إلى بعض اللمحات أو الصفات في الثقافة الهلينستية.

فأولًا زادت الموضوعات التي كانت تتناولها الثقافة القديمة وتنوَّعت. وإنك لتلمس في الفن والكتابة الإغريقية والرومانية المتأخرة المدوَّنة كلَّ لون من ألوان الخبرة البشرية تقريبًا. ولنضربْ مثلًا له أهميته وإن لم تكن له كرامته: إن الإنسان الغربي الحديث لم يُضِف جديدًا إلا في القليل لمجموعةِ ما وصل إلينا من أدبٍ فاحش، وربما كان هذا التنوُّع انعكاسًا — إلى حد كبير — للفردية التي حلت محل التربية النظامية العامة والمعايير العامة في المدينة الحكومية. كان هناك في العالم الهلينستي تطلع إلى المكانة والنفوذ، والثراء، والتفات الجماهير (وهو هدف إنساني كثيرًا ما يحط من شأنه رجال الاجتماع وعلوم السياسة). وكان من بين الوسائل التي يميِّز الفرد بها نفسه أن يؤدي غير المألوف، وأن يتطرف، وأن يكون مبدعًا مبتكرًا؛ فظهر مثلًا ذلك الشاب الذي أشعل النار في معبد ديانا في أفيسس كي يخلَّد اسمه في التاريخ — وقد خُلِّد. ومن السيكولوجيين مَن يسمي شهوة الشهرة المتطرفة «عقدة البطولة».

وإذن فقد امتدت أنماط الثقافة القديمة، وتحوَّرت، وانتشرت بعدة وسائل. ومن اتجاهاتها — التي تتجلى خاصة في فن النحت — السعي وراء المعبِّر، والمحرِّك للشعور، والمؤسِّي، والمثير. وقد حلَّ محل الهدوء البادي في تماثيل البارثينون لاوكون وأبناؤه يتضورون ألمًا وسط الأفاعي الملتوية، والغال الميت، وتماثيل هومر الكفيف التي تدعو إلى الحسرة. ومن الحق أن الوسائل القديمة كذلك ظلت باقية؛ فهناك فينوس دي ميلو والنصر المجنح في ساموزريس، وهي من أعمال العصر الهلينستي.

وهناك اتجاه آخر يتمثل في زيادة الزينة، وزيادة الترف، وبخاصة في المساكن الخاصة. وحتى في بناء المعابد حلَّ الطراز الكورنثي الذي يتميز بأوراق الأقنثا (نوع من النبات الشوكي) الذي كان يؤثره الرومان محل الطراز الدوري البسيط. وبدأ الناس يتفاخرون بضخامة المباني، وإن يكن المهندسون المعماريون في العالم الإغريقي الروماني القديم عامة لم يحاولوا أن يقيموا ارتفاعًا رأسيًّا شامخًا، كما فعل بناة الكاتدرائيات في العصور الوسطى وبناة ناطحات السحاب في العصر الحديث.

وهناك اتجاه آخر نحو ما نألفه في العصر الحديث وما نسميه التهرُّب. وربما كانت دقة البحث والعلوم مهارب للإغريقي الهلينستي، ولكن أوضح مثال هو شيوع الشعر الرعوي في مجتمع مدني؛ فقد كان الرجال والنساء من الطبقة العليا، الذين كانت تحوطهم أسباب الدعة والراحة في مدينةٍ غاية في التقدُّم، يحبون أن يقرءوا عن الرعاة والراعيات، وعن الأودية التي تنمو فيها الغابات، وعن وجبات الخبز والجرجير، وعن الحب الصادق. ومما لا شك فيه أن كثيرًا منهم تحوَّل من القراءة إلى حماماتهم الساخنة، وأدوات الزينة، والرق، والولائم، والحب غير الصادق. وبقيت قلة منهم لا تسيغ هذه الأشياء. ولكنهم لم يكونوا يتهربون بمعنًى ساذج. كانوا ثائرين، مستعدين للقيام بأمورٍ أكثر جدية من أناشيد الرعاة لثيوقريطس. كانوا في الواقع مستعدين للمسيحية، وسوف نعود إليهم.

والفكاهة أيضًا صفة هلينستية مميزة. وهي صفة تظهر دائمًا في كل ثقافة ناضجة. حقًّا لقد كانت الفكاهة موجودة عند أرستوفان، مصحوبة بكثير من الابتهاج والصراحة. غير أن الفكاهة الهلينستية أشد حقدًا، وأكثر تهذيبًا، وهي تتحول إلى سخرية في يسر وسهولة. وقد كانت أسلوبًا يقول به المؤلف شيئًا ظاهرًا للعامة، وشيئًا آخر يُفهم تلميحًا للأذكياء والمطَّلعين. وأحيانًا توجَّه الفكاهة إلى النقائص ومواطن الضعف في طبيعتنا البشرية المشتركة. وكان الإغريق المتأخرون، وأتباعهم من اللاتينيين، مغرمين برسم الشخصيات رسمًا دقيقًا، وبالسخرية، التي قد تكون مريرة جدًّا، أو مرحة جدًّا. وكثيرًا ما كان هؤلاء الساخرون واقعيين كذلك. وفيما يلي — على سبيل المثال — ترجمة لقصيدة لأحد الكتاب المتأخرين، قد حُفظت ضمن مجموعة رائعة من الشعر اليوناني عُرفت باسم «مجموعة بالاتين». وهي تبيِّن لنا عرضًا أن العالم الوثني كان به نباتيون:

انطلقَ وسط جذور النبات في بستانه،
وتناول سكينًا وحزَّ رقاب الجذوع،
وقدَّم لنا كومةً فوق كومةٍ من طعام أخضر،
كأن ضيوفه غَنَمٌ لها ثغاء،
من سدب، وخس، وبصل، وحبق، وكرات،
وفجل، و«شكوريا»، وحلبة، وجنجل، ونعناع،
وترمس مسلوق — ولم يقف عند حد.
ولما أقبلت آخرًا من خوفي،
حسبت الطعام المقبل برسيمًا مجفَّفًا.

أما بالنسبة إلينا فإن أهم اتجاه سارت فيه الثقافة الهلينستية هو الواقعية، أو الاتجاه نحو استعادة جانب من جوانب الحياة الخارجية، أو الطبيعة، أو استعادة أمينة بالمجهود البشري. والواقعية بهذا المعنى تتغلغل في الثقافة الهلينستية لدرجة التطرف؛ لأن الصدق في هذه الدنيا يمكن في الواقع أن يساير الخيال. وفي العالم الخارجي مجال فسيح أو مدًى واسع من الأمثلة المحسوسة تبلغ من العظمة بمقدارِ ما يستطيع الخيال البشري أن يحيط. والتطرف نادر، وهو نادر جدًّا أحيانًا، واستخدامه قصدًا في عمل فني، وبخاصة في الفنون التشكيلية، كان ممَّا لا يرضى عنه الإغريق في العصر العظيم. في حين أن استخدامه بهذه الطريقة كان مما يتفق ومزاج الإغريق في العصر الهلينستي، بل لعله كان يشبعه ويرضيه. ومهما يكن من أمرٍ فإن الإغريق الهلينستيين تمادَوا فصوَّروا كل تجعيدة في الجلد، وكل زائدة، وكل نتوء.

وفي هذا العصر — على سبيل المثال — تُروى حكايات عجيبة عن الواقعية التي حقَّقها كبار المصورين، وتُروى قصص عن الناظرين إلى الصور الذين حاولوا أن يجمعوا الثمار من الصورة أو أن يجذبوا الستائر المصوَّرة فوق الجدران. واحتلت الكوميديا الواقعية الجديدة لميناندر، الذي وضع على خشبة المسرح رجالًا ونساء عاديين، وجعلهم يسلكون سلوك الذكور والإناث، واحتلت هذه الكوميديا مكانة الكوميديا القديمة لأرستوفان، التي كانت لا تزال مرتبطة بتقاليد الطقوس التي تُقام في حفل ديونيسس. وقد كتب أحد النقاد المعجبين بميناندر عنه هذه العبارة: «أي ميناندر … أيتها الحياة … إني لأعجب أيكما نقل عن الآخر؟» ولم يصل إلينا من أعمال ميناندر إلا مقطوعات مجزَّأة، ويجب أن نذكر أن العبارة السالفة بمقاييسنا فيها شيء من المبالغة؛ لأن تعلُّق ميناندر بحكايات اللقطاء، والإغواء، وتقلُّبات الحظ المفاجئة، ومشاهد اللقاء، يبدو لنا فيه شيء من الافتعال والتكلُّف.

ولكنا نستطيع على وجه العموم أن نرى في هذه الواقعية الأدبية والفنية شيئًا مألوفًا لنا. وإذا كان هؤلاء الواقعيون يجدون الواقع في كثير من الأحيان كئيبًا أو تافهًا، أو كلا الأمرين معًا، فكذلك كان الواقعيون في القرن التاسع عشر. وإذا كان الواقعيون أحيانًا يثبون من المألوف العادي إلى العجيب الرائع فنحن أيضًا على علمٍ بهذا الوثب. ونستطيع أن نرى أنفسنا في رجال ونساء الفن الهلينستي، أيسر كثيرًا مما نرى أنفسنا في رجال ونساء فن الثقافة العظمى؛ لأنهم يبتعدون عنا إلى درجةٍ ما بما لديهم من كمال — وبما لديهم من أسباب النقص. وإليك جزءًا من تمثيلية صامتة لثيوقريطس، وقد ردَّدته الألسن أجيالًا عدة مع التعليق بأن هذا الجزء كان من الممكن أن يُكتب بالأمس فقط. هنا نجد جورجو، وهي سيدة من الإسكندرية، تنادي صديقتها براكسينو، التي كانت في دارها مع طفلها ووصيفتها:

جورجو : هل براكسينو بالدار؟
براكسينو : أنا هنا أخيرًا يا عزيزتي، على أتم استعداد …
جورجو : إن بلوغي هذا المكان قصة تدعو إلى العجب …
براكسينو (إلى الوصيفة) : يونو، هاتِ للسيدة مقعدًا، وَأْتي لها بوسادة.
جورجو : المكان مريح كما هو.
براكسينو : اجلسي هنا هنيهة.
جورجو : لماذا لا يبقى الناس في بيوتهم؟ كدت ألا أبلغ هذا المكان حية … الجمهور في كل مكان يسير بغير هدف، ومئات من الناس ينتقلون في العربات … هنا أحذية أعقابها عالية، وهناك جنود، والطريق لا نهاية له … لقد اخترت لنفسك مسكنًا قصيًّا.
براكسينو : إنه ذلك المجنون … الذي طار إلى أقصى العالم، ثم جاء إلى هنا. واختار جحرًا، ولم يختر بيتًا، حتى لا نتجاور، وكل هدفه — هذا الوحش الغيور — أن يفرِّق بيننا، وهذا طبعه، وهو كذلك دائمًا.
جورجو : احذري يا عزيزتي في حديثك عن زوجك، كوني حريصة، وبخاصة حينما يكون صغيرك بجوارك. ما أقسى نظرته إليك! (إلى الطفل) حسنًا يازوبريون، يا حبيبي الصغير، إنها لا تعني أباك، إن أمك لا تعنيه.إنه يلاحظ — ولا يزال الوقت مبكرًا وربتي … هل أنت في انتظار أبيك الحبيب؟
براكسينو : هذا «الأب الحبيب»، كنتُ ذات يوم في حاجة إلى صابون وأحمر الشفاه، وطلبت إليه أن يُعنى باختيارهما، فتوجَّه إلى الحانوت، وعاد إليَّ هذا الأحمق، هذا الأخرق الضخم الطويل، بملح! وإني لأصدقك القول …

إن التفكير الشكلي الهلينستي يتمم الفلسفة الإغريقية. وقلَّ ما أضافوه إلى عمل الفلاسفة في عصر الثقافة الأعظم في أكبر المشكلات، مشكلات الميتافيزيقا والكون. بيْد أن المفكرين الهلينستيين توسعوا — في مشكلات الحياة اليومية، والأخلاق — بشيء من التفصيل، وبكثير من التنوُّع في الاتجاهات الرئيسية التي أخذوها عن الفلاسفة الأولين. وتناولوا بالدرس الدقيق وفي شغفٍ شديدٍ الفلاسفةَ والأدباء، واتسع مجال الفلسفة، أو أصبح على الأقل أشد وضوحًا، حتى إنا لنستطيع أن نقول مرة أخرى إن الغرب الحديث لا يكاد يضيف جديدًا على ميراثه الفلسفي الكلاسيكي.

وإذن فقد كانت هناك أولًا كلُّ صنوف الخبرات الفلسفية الأساسية والفرعية، وهذا التنوع يتمثل — كما تمثَّل في الحكايات التي رُويت عن فن التصوير — في التفسير الشعبي لما كان يفكر فيه الفلاسفة. وكان هناك المتشككون الذين شكُّوا في أنهم يشكُّون فيما كانوا يشكُّون فيه. وهناك ديوجنيز الساخر، أو الفيلسوف الكلبي، الذي كان يعيش في حوض، وعرفناه رجلًا مُرَّ اللسان، فطنًا، ثائرًا على التقاليد، أكثر مما عرفناه زاهدًا متطلعًا إلى العالم الآخر. وهناك العقليون الأبرياء، أو المناطقة، الواثقون بأنفسهم، الذين كان بوسعهم أن يفسروا (أو يعللوا) كل شيء، وبخاصة العقائد الدينية التي نبذوها. وقد تأملوا بغير هوادة ذلك الذي نسميه الأساطير اليونانية، وفسَّروها تفسيرًا دقيقًا؛ ففسَّر العقليون قصة أكتايون، ذلك الصائد الذي التهمته كلابه؛ لأنه أساء إلى الإلهة أرتميس، على أنها قصة شاب بوهيمي مسرف، استنفد كل أمواله في تربية قطيع من كلاب الصيد، فانقض عليه دائنوه.

وكذلك كان للاعقليين — إذا جاز لنا أن نستخدم في حياءٍ لفظًا أُسيء استخدامه — مَن يمثلهم. ولم تحدث المبالغة في فلسفة أفلاطون التي تنتمي إلى العالم الآخر، والتي نسميها في كتب الدراسة «الأفلاطونية الجديدة» إلا في العصر الروماني، لا في العصر الهلينستي على وجه التحديد. غير أن أفلوطين، الذي وُلد في عام ٢٠٤ بعد الميلاد، وهو أعظم فلاسفة الأفلاطونية الجديدة، ليس إلا حلقة من سلسلة طويلة من المتصوفة، وبعضهم مسيحي، وبعضهم الآخر وثني. وقد كان أفلوطين يؤمن بتلك العقيدة الشائعة بين المتصوفين، وهي أن الفرد إذا دُرِّب تدريبًا صحيحًا يمكنه أن يبلغ حالةً من النشوة التي «لا يدري» فيها بنفسه كحيوان، أو إنسان واعٍ، يكتسب الخبرة بحواسه. إن الروح الصافية — عند أفلوطين — يمكن بالفعل أن تخفي العالم المادي في الوجود الذي هو حقيقته، وتتحد مع نور الإله.

وفي هذا العصر أيضًا انتهى الفلاسفة وتلاميذهم إلى تكوين جماعات خاصة، تُعرف بالمدارس، التي كانت تحتفظ بفكرة الأستاذ، وورَّثوا الفكرة للأجيال التالية، بعد تحويرها تحويرًا ليس منه مناص. واتخذ أتباع أفلاطون اسمهم من الأكاديمي، وهو تلك الغرفة الأثينية التي كان يُعلَّم فيها. أما أتباع أرسطو فقد أُطلق عليهم اسم «المشائين» (أو المتحركين)، وذلك على الأرجح لأنهم كانوا يمشون وهم يحاضرون ويتفلسفون. ولكن مدارس الفلسفة الهلينستية التي يتميز بها هذا العهد هي تلك التي عرفت بالرواقيين والأبيقوريين، وكلاهما مستمَد من المدارس التي سبقتهما بشكل واضح، وكلتا المدرستين تهتم بالمشكلات الكبرى التي تتعلق بملاءمة الإنسان لبيئته الطبيعية والبشرية أكثر مما تهتم بالمشكلات الكبرى في الميتافيزيقا، وكلتاهما فلسفة يتعزَّى بها الإنسان، ووسيلة يتحصن بها الفرد في عالمٍ قاسٍ شديد.

والأبيقورية، التي تُسمَّى باسم أبيقور، زعيم المدرسة، أصبحت منذ أيام زعيمها من أكثر الفلسفات التي أُسيء استخدامها. يؤمن الأبيقوري بإله بعيد، ولكنه رحيم، وبحياة هادئة فوق الأرض، وبتحاشي النضال والألم. وكان أبيقور يعتقد أن هدف الحياة الطيبة هو اللذة (وتُوصف فلسفته وما يشبهها من فلسفات باللفظة اليونانية هيدوني «أي اللذة» التي اشتُقَّت منها الكلمة الإنجليزية «هيدونزم»؛ أي مذهب اللذة). واكتفى خصومه، كما اكتفى الجمهور العام بكلمة «اللذة»، ففرضوا في الحال أن أبيقور قصد الانغماس في اللذة الحسية وفي كل ضروب الفساد، وهذا بالذات ما لم يقصده، أو كما قال:

«حينما نقول إن اللذة هي الهدف وهي القصد، لا نعني ملذات الإسراف أو ملذات الحس، كما يفهم بعضهم أننا نعني ذلك عن جهالة، أو تعصُّب في الرأي، أو تفسير خاطئ مقصود. إنما نعني باللذة انعدام الألم في الجسم والطمأنينة في الفؤاد، ليست اللذة سلسلة متصلة من مجالس الشراب والعربدة، وليست الحب الجنسي، وليست الاستمتاع بأكل الأسماك وغيرها من لذائذ الموائد المترفة التي تؤدي إلى حياة سارة. إنما اللذة هي التفكير الصاحي، والبحث عن أسباب كل اختيار وكل مجانبة، والقضاء على تلك العقائد التي تسيطر على النفس بسببها الجلبة والضجة العظمى.»

ومن الطبيعي أن يصبح بالإمكان تطبيق الفلسفة التي ترى أن اللذة هي الخير على الأمزجة المختلفة؛ فكان هناك — من غير شك — أبيقوريون أشرار، ولكن يجب أن نذكر أيضًا أن في كل عقيدة فلسفية رجالًا أشرارًا. وقد مال إلى الترحيب خاصة بالأبيقورية كفلسفة، بعضُ أفراد الطبقات صاحبة الامتياز الذين اتجهت أذواقهم نحو الفنون والشعر والدراسات الهادئة، وكان يظهر بين الحين والحين أبيقوري من النوع الصارم حقًّا، كالشاعر اللاتيني ليوكريشس، الذي يدافع دفاعًا حارًّا في كتابه «العودة إلى الطبيعة» عن الإلحاد. ولكن الطبقات العليا كانت رواقية على وجه العموم — وبخاصة أولئك الذين انتهى إليهم تدريجًا حكم «العالم الواحد» في الإمبراطورية الرومانية.

فالرواقية إذن هي أهم مجموعة من مجموعات العقائد في العالم الإغريقي والروماني المتأخر، ما خلا المسيحية الناشئة بطبيعة الحال. ومؤسسها زينو — الذي لم يصل إلينا من أعماله إلا شذرات — كان يُعلِّم في «ستوا بويكيل» في أثينا، ومن هذا المكان اشتُق اسم أتباع المذهب، وهو بالإنجليزية «ستويك»، أو أولئك الذين ينتمون إلى السقيفة (أوستوا). وبتطور الرواقية إلى أسلوب من العيش أصبحت عند الخاصة في الإمبراطورية الرومانية ديانة كما كانت فلسفة، ومن الجلي أنها لم تسيطر كثيرًا على قلوب عامة الناس في أي مكان. كانت العقيدة عقيدةَ تقشُّف، ولكنها لم تكن عقيدة زهد. وكانت تقوم أساسًا على العقل، وتنطوي على الوعي بالمسئولية الخُلقية، ولا تضع أملًا كبيرًا في هذه الدنيا أو في الدار الآخرة. ولن نلتقي بعقيدة شديدة الشبه بهذه، أو عقيدة اتسع انتشارها بين المتعلمين على هذه الصورة، حتى نصل إلى الاعتقاد بالله وحده مع إنكار الوحي والنُّظم الدينية، ذلك الاعتقاد الذي ظهر في القرن الثامن عشر.

وكان الرواقي يؤمن بإلهٍ واحد، وإن يكن قد عبده تحت أسماء عدة. وكان إلهًا رحيمًا قادرًا على كل شيء، يهتم بأبنائه ويريد لهم أن يحيوا حياة فاضلة. أما لماذا لم يحيوا حياة فاضلة — وتلك هي مشكلة الرذيلة — فقد كان موضوعًا شائكًا بالنسبة للرواقيين كما كان لغيرهم ممن يعتقدون بوجود الله. ولكن الرواقي العادي كان يؤمن بأن الرذيلة أمرٌ لا بد من مكافحته، ومن واجب المرء أن يلبي دعوة الجهاد، والحياة الفاضلة لا تختلف في ممارستها عند الرواقي عنها عند الأبيقوري — البساطة، والرقة، وأداء ما يطلب إلى المرء عمله في هدوء. وكذلك لا تختلف الرواقية العملية كثيرًا عن المسيحية العملية من الناحية الخلقية. وقد أُعجب الكتَّاب المسيحيون إعجابًا شديدًا بخير كتاب أُخرج في الرواقية، وهو «التأملات» للإمبراطور ماركوس أوريليس. ولكن الرواقية لم تتحوَّل قطُّ إلى كنيسة أو إلى منظمة إكليريكية، ولم يكن لها قطُّ مجموعة رسمية من العقائد. غير أن ما قدَّمته للإمبراطورية الرومانية كان جليلًا؛ فإن أكثر الرجال الذين أقاموا صرح هذه الإمبراطورية كانوا رواقيين — لم يكونوا مؤمنين مذهبيين، ولم يكونوا مفكرين متزمتين، ولم يكونوا ممن يؤلفون الكتب وإنما كانوا رجالًا الرواقيةُ عندهم أسلوبٌ من أساليب العيش. ثم إن النظرة الرواقية العقلية إلى المساواة بين الناس كانت — كما سوف نرى في القسم الآتي — جزءًا أساسيًّا من المواطنة الدولية في الإمبراطورية.

وفي كل هذه النظم الأخلاقية، بل وفي كثير من ثقافة العهد الفنية والأدبية، تستطيع أن تلمس عنصر التهرُّب؛ فإن الحياة الطيبة عند الأبيقوري والرواقي على السواء يمكن أن تعني — بل لقد عنيت فعلًا بكل وضوح في أواخر عهد الإمبراطورية — بالنسبة إلى كثير من الرجال المهذبين، تجنُّب الأمور المبتذلة، وتجنُّب عَرَق النِّضال وقذارته، والتراجع إلى شيء يشبه العالم الآخر الصوفي الذي لمسناه عند أفلاطون وأفلوطين. إن شعارات المدارس الأخرى قد توحي بالهروب بدرجةٍ أوضح — مثل الراحة عند المتشككين، و«الاكتفاء الذاتي» عند الكلبيين المتشائمين. ولكن عنصر التهرُّب لا ينبغي المبالغة فيه، وبخاصة بالنسبة للرواقيين؛ فإن أساليب العيش هذه التي نادَوا بها لم تكن متطرفة، ولم تكن مدعاة إلى الحيرة، كما عبَّر عنها الأدب — وذلك على الأقل عندما تسرَّبت هذه الأساليب إلى عقول عامة المتعلمين. وبين هذه الأساليب شيء مشترك، وهو أنها تميل إلى قبول العالم، لا كما هو، وإنما كشيءٍ لا يمكن تعديله كثيرًا على وجه الإجمال، وهي تحاول أن توفِّق بين الفرد وبين قبوله في تواضعٍ وكرامة لما أتى له به «الله»، أو الآلهة، أو «القدر»، أو «العناية الربانية». وليس هذا القبول سلبيًّا إلى آخر حد؛ فالفرد — والرواقي خاصة — يؤدي واجبه في زمانه ومكانه، ويعاون معاونة إيجابية على استمرار هذه الدنيا في مسيرها. والواقع أنه لم يعبِّر عن وجهة النظر هذه في إيجازٍ مثلما فعل رجل فرنسي بعد ذلك بنحو ألفي عام: وذلك هو فولتير الذي كان بالإمكان أن يكون من الإغريق المتأخرين مثل لوشيان، عندما أنهى روايته «كانديد» بهذه العبارة: «لا بد أن نزرع حديقتنا.»

العنصر الروماني

عندما حل القرن الثاني قبل الميلاد كانت سلسلة الحروب الدولية العظمى التي بدأها الإسكندر الأكبر قد انتهت بانتصار إحدى القوى العليا المتنازعة، وتلك هي المجموعة الرومانية. ثم كان قرن آخر من الاضطراب عندما اختلف فيما بينهم قادة الجمهورية: يوليوس قيصر، وبومبي، ومارك أنتوني، وأغسطس، وغيرهم، فيما كان من وجهة نظر المؤرخ محاولةً صادقة لتطبيق أداة دولة واحدة على حكم العالم بأسْرِه. وقد تم هذا التطبيق في عهد أغسطس، وعند بداية العصر المسيحي تقريبًا ظهر في الوجود ما نسميه الإمبراطورية الرومانية. ولنحو أربعة قرون بعد ذلك أصبح مجتمعنا الغربي، من بريطانيا وغربي ألمانيا إلى مصر وبلاد النهرين، وحدةً سياسية، هي العالم الواحد الروماني. ولم يكن هذا العالم في سلام كامل بأية حال، بل كانت الحروب الأهلية بين المتنازعين على العرش الإمبراطوري كالوباء المتوطن في بعض الأحيان. وكان هناك ضغط مستمر في القرون المتأخرة من البرابرة الجرمان المهاجرين. أما في الشرق فقد كان الفرس والبارثيون — وهما لم تكونا قطُّ من الدول الكبرى — مستقلتين برغم ذلك، وخطرًا دائمًا يهدِّد الإمبراطورية. ومع ذلك فقد ساد السلام على رقعة من الأرض أكبر من أيةِ رقعةٍ أخرى استمتعت منذ ذلك التاريخ بمثل هذا السلام في مجتمعنا الغربي، وبخاصة في عصر الأنطونيين الذي يمتد بين عام ٩٦ بعد الميلاد وعام ١٨٠ بعد الميلاد.

وقد بدأت روما ذاتها كمدينةٍ حكومية أخرى بناها شعبٌ يتكلم اللاتينية، وهي لغة أوروبية هندية. وربما كانت تتألف من أجناسٍ مختلطة كما كان الأيونيون في أتيكا. وليس من شك في أن روما تَدين بشيء من عظمتها لموقعها الجغرافي؛ إذ كانت تقع فوق تلال في موقع حصين على بُعد بضعة أميال من مصب نهر تيبر، وهو أهم الأنهار في غربي إيطاليا. وربما كانت مدينة إلى ظهورها في فترة متأخرة على مسرح السياسة الدولية، وقتالها المعركة الأخيرة وهي في عنفوانها نسبيًّا. ولا ينفي هذا أن روما قد دفعت إيطاليا الموحدة إلى القتال. وبمعنًى آخر، حلَّت روما المشكلة التي عجزت أثينا وإسبرطة وكل وحدة إغريقية أخرى عن حلها، وهي مشكلة تجاوز المدينة الحكومية. كانت إيطاليا الرومانية عندما حل القرن الأول قبل الميلاد وحدة أرضية عظمى على الأقل — إن لم تكن حكومة قومية بالمعنى الحديث — ذات مواطنة عامة، وقوانين عامة، ومصلحة مشتركة بين أجزائها (كومنولث)، ولم تكن مجرد دولة استبدادية. ولا تزال الأعمال السياسية والقانونية التي قام بها الرومان أشد ما يلفت النظر إليهم، حتى عند مؤرخ الفكر.

ومن لغو القول أن نقول إن ثقافة الرومان الفلسفية والأدبية والفنية مستمدة من الإغريق. ويعرض الموضوع بعضهم في صورةٍ أقوى فيقولون بأنهم «قلَّدوا» الإغريق. ومع ذلك فإن مجموع الكتابات اللاتينية الوثنية، والأمثلة الباقية من الفن الروماني، يستحق أكثر من تلخيص مخل؛ ذلك أنه حتى عام ١٤٥٠م على وجه التقريب كان الميراث الإغريقي المباشر مجهولًا لنا في الغرب، وكانت روما لغرب أوروبا كله الناقلة الكبرى للثقافة اليونانية. وهي من هذه الزاوية وحدها ذات أهمية عظمى في تاريخ الحضارة. وإذا كنا نفتقد في الفلسفة الشكلية أية كتابة لاتينية ممتازة (وقد كتب الإمبراطور ماركوس أورليس باليونانية) فقد كان الأدب اللاتيني، لاتينية فرجيل، وشيشرون، وتاسيتس، وكاتلس، وأضرابهم، من أروع آداب العالم، لما تَدين به للإغريق بالذات. كان أدبًا له ذوقه الخاص، ولكتابة شخصياتهم الخاصة.

والتعميم في مثل هذه الأمور — كما ذكرنا من قبل — لا يحتمل الصياغة العلمية؛ فإن أولئك الذين يحاولون وصف الروح الروماني، والأسلوب الروماني، يختلفون كما يختلف أولئك الذين يحاولون أن يصفوا ما هو أمريكي، وما هو فرنسي، وما هو روسي، ومن اليسير أن نقول إن الثقافة الرومانية أكثر من الثقافة اليونانية واقعية، وتسبقها من الناحية العملية، ومن اليسير أن نقول إنها أقل شغفًا بالسير نحو ما يمكن معرفته في النهاية — أو ما يمكن تصوُّره — في الكون، ومن اليسير أن نقول إن الثقافة الرومانية، هي الثقافة التي تلائم شعبًا استطاع أن يرتفع من توفيقٍ إلى توفيق حتى حَكمَ العالم. لو قلنا ذلك لكنا في كلِّ ما نقول صادقين. واللاتينية — برغم كل شيء — حتى باعتبارها لغة، أشد ألفة من اليونانية.

ولكن الكتَّاب اللاتين لا يصرون دائمًا بأية حال من الأحوال على مكانتهم. وهم إن لم يستطيعوا أن يتسنموا الذرى، يستطيعون أن يسبروا الأغوار. وكان كاتلس — وهو مِن أقدم الشعراء اللاتين — يكشف عن نفسه في صراحة كأي أديب رومانتيكي في القرن التاسع عشر. والسخرية — وهي تعبيرٌ عن نوع من أنواع الاشمئزاز الخلقي — في أيدي اللاتين أرقى منها في أيدي الإغريق. وكان الروماني يستطيع أحيانًا أن يندفع نحو حياة الفحش والتطرف، والفجور — شأنه في ذلك شأن الكثيرين غيره من الرجال العمليين ذوي العقول القوية. وهذه البذاءة — بذاءة العيش في ثكنات عسكرية — تنعكس انعكاسًا مباشرًا في كثير من الكتابات اللاتينية، وتنعكس بطريقٍ غير مباشر في صدود رجال الأخلاق عنها.

ولكن الروح الرومانية في أحسن حالاتها — كما يعبِّر عنها الأدب — تبلغ درجةً عظيمة من الوقار، كما يتبين في فرجيل — وإن تكن هناك على الأقل أقلية تجد هذا الوقار الروماني ثقيلًا، جافًّا، مملًّا، كما يحدث دائمًا في مثل هذه الأمور، وليس طلاب المدارس وحدهم هم الذين يجدون شيشرون ثقيلًا متكلفًا. وإنك لتستطيع — على أية حال — أن تجمع مما خلَّف الرومان من أدبٍ جانبًا كبيرًا من الحكمة المتعلقة بالكائنات البشرية؛ وذلك لأن الرومان وجَّهوا اهتمامهم إلى السلوك البشري أكثر مما وجهوه إلى الميتافيزيقا، أو علوم الدين، أو العلوم الطبيعية. وبعض هذا الأدب حديث بدرجة مذهلة، مثل ذلك الذي قاله كاتلس عن لزبيا «إنني أحب وأكره»، وبهذه العبارة كان سبَّاقًا لجانب كبير من الأدب الحديث الذي يتصل بالثنائية السيكولوجية. ثم إن الروماني — كرجلٍ من رجال الأخلاق يبدو لبعض النقاد عاديًّا وواعظًا — كما كان سنكا على سبيل المثال — أو أرستقراطيًّا زائدًا في نضجه — كما كان هوراس مثلًا.

أما في الفنون التي تتعلَّق بالأشياء أكثر مما تتعلق بالألفاظ، فقد بلغ الرومان أعلى مستوًى لهم في المنشآت العامة التي صُمِّمت لاستغلالها دنيويًّا. كانت معابدهم، مثل «ميزون كاري» في نيم جنوبي فرنسا، الذي حُوفظ عليه محافظة شديدة، مصممة على الطراز الإغريقي إلى حدٍّ كبير، ولكن المهندسين الرومان طوَّروا القوس بصورةٍ لم يعرفها الإغريق. واستطاعوا أن يقيموا القنوات فوق القناطر، وملاعب السرك، والملاعب الكبرى، والقاعات العامة الفسيحة، التي كانوا يسمونها «الكنائس المستطيلة». وربما كانت بقايا القناطر — وتوجد منها واحدة كذلك تدعو إلى الإعجاب قريبًا من نيم، تُعرف باسم قنطرة دي جار — هي اليوم أشد الآثار المرئية تأثيرًا، التي تدل على عظمتهم، وهي أمثلة رائعة لفن العمارة الذي تُقصَد منه المنفعة. وقد أقام الرومان هذه القنوات المقوَّسة العظيمة عبْر الأودية، لا لجهلهم بقواعد «السيفون» أو ضغط الماء، وإنما فعلوا ذلك لأنه لم يكن بوسعهم أن يصنعوا المواسير التي تحمل تحت الضغط كميةً كبيرة من الماء بتكاليف زهيدة.

أما في فن النحت، وربما في فن التصوير أيضًا، فقد كان الرومان مقلِّدين للإغريق مباشرة. ولا يشذ عن هذه القاعدة إلا سلسلة التماثيل النصفية التي بقيت لدينا من العصر الروماني المتأخر — وإن كان الإغريق الهلينستيون قد أُغرموا بالواقعية في النحت كذلك. وكانت هذه التماثيل — بطبيعة الحال — لرجالٍ من ذوي المراتب العليا، كالأباطرة وأعضاء مجلس الشيوخ وكبار ملاك الأراضي. أما عامة الناس فلا يُمثَّلون بالحجر. وكان حكام العالم الروماني هؤلاء رجالًا جذابين، ضخام الجسوم غالبًا، أكتافهم عريضة، صلع في كثير من الأحيان، لا يشبهون كثيرًا الذكور الإغريق المنحوتين في الحجر في عصر بركليز، وإنما كانوا رجالًا من الواضح أنهم يعرفون كيف يشقون طريقهم في هذه الحياة. وهم في الواقع كمجموعة يشبهون شبهًا عجيبًا صور رجال الأعمال ورجال السياسة الأمريكيين الناجحين.

إن أية مجموعة أمريكية من هذه المجموعات لا بد أن تشمل بعض رجال القانون، وكذلك كانت أية مجموعة رومانية؛ فقد كان أكثر رجال الأعمال الرومان على شيء من المعرفة بالقانون. والواقع أن ما نربطه أولًا بروما الوثنية ليس أدبها، أو حتى هندستها، وإنما هو صنعهم للقانون الروماني. والحق أن هذا القانون لم يَمُت قطُّ، وإنما هو باقٍ على صورة من الصور في النظُم القضائية الحية في المجتمع الغربي خارج البلاد التي تتكلم الإنجليزية، وحتى في هذه البلاد التي تتكلم الإنجليزية كان للتشريع الروماني أثرٌ كبير في صياغة النظام القضائي الحديث. وإن كنت إلى الناحية العملية أشدَّ ميلًا منك إلى الناحية الجمالية أو الفلسفية فإنك تَحُسُّ أن روما بقانونها وهندستها خدمت حضارتنا أكثر مما فعل الإغريق اللامعون.

إن كلمة «القانون» — بخاصة في اللغة الإنجليزية — تؤدي عدة معانٍ، وهي من نوع الألفاظ الذي يهم علماء المعاني؛ فهي لا تُستخدم فقط في المتشابهات في ميادين العلوم — كقانون الجاذبية مثلًا — ولكنها في اللغة العادية كذلك اللفظ الوحيد لما تدل عليه في أكثر اللغات الغربية الأخرى لفظتان: «القانون» و«الحقوق» بالفرنسية، وما يماثلهما في الألمانية واللاتينية. نعم إن بالإنجليزية اصطلاحًا للقانوني المحترف يدل على «العدالة»، وهو اصطلاح نشأ في إنجلترا نتيجةً لمحاولةٍ مقصودة لعلاج المظالم التي قد تترتب على التطبيق الحرفي الصارم للقانون. واللفظة الأولى من اللفظتين الفرنسيتين، أو الألمانيتين، أو اللاتينيتين، تدل على القانون بمعنى القاعدة الحقيقية التي تطبِّقها السلطات القضائية، واللفظة الثانية تدل على القانون بمعنى القاعدة السليمة من الناحية الخلقية. واللفظة الإنجليزية ﻟ «العدالة» هي محاولة تعديل اللفظة الأولى بالرجوع إلى الثانية. وهذان الضربان (أو هاتان الفكرتان) من القانون، يكادان يتطابقان — على وجه العموم — عند الأفراد الراضين في المجتمع. أما الأفراد الساخطون فيميلون إلى التفرقة بينهما. وأقول بهذه المناسبة إن أداء لفظة «قانون» في اللسان الإنجليزي والأمريكي للمعنيين معًا ربما جاء عَرَضًا، وقد يدل على «جمود عقلنا»، ولكنا من الناحية العملية ندرك تمام الإدراك الفرْق الكائن في القانون «كما هو» وفي القانون كما ينبغي أن يكون.

وكذلك كانت بشكلٍ واضحٍ كلُّ الشعوب القديمة التي تعرَّضنا لها في هذا الكتاب. والواقع أنه من الراجح أن أكثر الشعوب بدائية تفرِّق بين الظروف القائمة والظروف المستحبة، وهذا التمييز هو من الناحية السيكولوجية الفارق الأساسي البسيط الذي بحثناه، ولكنا — دون أن نتعمق مشكلات فلسفة القانون المعقدة — نجد فارقًا آخرَ يتصل بما نحن بصدده، وهذا الفارق يبين بصورة أكمل صفةَ الابتكار في القانون الروماني بشكله الناضج، وأهمية هذا القانون. قد يُنظر إلى «القانون» نظرة تقديس حتى تتعلَّق جميع تطبيقاته العملية بذلك النوع من القانون الذي يستهدف «ما ينبغي أن يكون». ومثل هذا القانون يمكن كسْرُه في عالم «الكينونة»، ولكنه في مثل هذه الظروف في نظر الرجل البدائي ينكسر بالمعنى الذي نفهمه مِن كسرِ قانون الجاذبية — وهنا يجب على الأمريكي الحديث أن يستخدم خياله لكي يفهم الشعوب البدائية. ويستطيع المرء أن يقفز من فوق سطحٍ في محاولة كسر قانون الجاذبية، غير أن المحاولة بطبيعة الحال لا يمكن أن تنجح. ويستطيع اليهودي البدائي أن يمس تابوت العهد بالرغم من أن قانون يهوه يحرم عليه ذلك، ولكنه يهلك بطبيعة الحال لتوه إن هو حاول ذلك. ﻓ «القانون» إذن من هذه الناحية شيء يسمو على قدرة التفكير البشري، شيء أُوحي به أو وُجد، لم يصنعه البشر، ولكنه كامل، لا يتغيَّر، وهو شيء مطلق.

هذه المشابهة التي ذكرناها آنفًا بين القانون الموحى به، والشريعة الموسوية مثال معروف له، وقانون الجاذبية كما يفهمه أكثرنا هذه المشابهة — كأكثر المشابهات — لها نقائصها المنطقية، ولكنها نافعة من الناحية السيكولوجية، ويمكن أن نتابع السَّير فيها قليلًا للانتفاع بها. قد يطرأ على ذهنك مَن يتحدَّى الجاذبية «وقد يكون مزودًا بالباراشوت» (أو بالبالون أو الهليكوبتر). إنه في هذه الحالة «لا يكسر» أو يتحدى قانون الجاذبية، ولكنه على الأقل «يتحايل عليه» بطريقةٍ ما، أو قُل إنه يطبِّقه على أغراضه. وكذلك — من وجهة نظرنا الحديثة على الأقل — فإن الرجال الذين وُكل إليهم حُكمُ هذه المجتمعات القديمة تحت «القانون الموحى به» فعلوا شيئًا من هذا القبيل بهذه المجموعة من الأحكام الجليلة المطلقة؛ فقد تحايلوا عليها واخترعوا ما نسميه (لا ما يسمونه هم) الشكل القانوني. لقد قاموا بالفعل بشيء جديد، شيء مختلف، شيء من المواءمة، ولكنهم استخدموا الأشكال القديمة، والألفاظ القديمة، والوسائل القديمة «الصحيحة»، يقول القانون لا يفعل كذا وكذا إلا الابن. ولم يكن لسمبرونيس ابن، ولكنه يستطيع أن يتخذ له بالتبني ولدًا، ويزعم أن ابن غيره هو في الحقيقة ابنه. ثم يؤدي طقوسًا معينة، فيكون له ولدٌ يقوم بالأعمال التي ليس لغير الابن أن يقوم بها. إنه بذلك لا يتحدى القانون، ولكنه يتحايل عليه قطعًا. وليس هذا الضرب من السلوك معدومًا بأية حال من الأحوال حتى في المجتمعات الحديثة كما قد يظن بعض العقليين منا.

ومع ذلك فقد ألفنا نحن المحدثين أن نحسب أن القوانين إن هي إلا تنظيمات لتيسير المعاملة في العلاقات الإنسانية، فإن أردنا أن نقوم بعملٍ جديد، فمن عادتنا أن نفسح قانونًا قديمًا ونضع قانونًا جديدًا. ولدينا في التعديل الثامن عشر والحادي والعشرين للدستور الأمريكي مثال طيب. ويبدو أن اليهود، والإغريق، والرومان، جميعًا قد بدءوا بفكرة القانون الموحى به الذي لا يتغيَّر، ولكنهم حوَّروا هذا القانون من الناحية العملية. أما إلى أي حد كان زعماؤهم — وبخاصة في الأزمنة القديمة — يدركون ما هم فاعلون، وإلى أي حدٍّ كانوا بالفعل يزعمون أنهم يتبعون القانون في حين أنهم في واقع الأمر لا يتبعونه — أما هذا فهو أمر شائق ولكنه شائك. ويجوز لنا أن نتغاضى عنه هنا.

وقد تجاوز الرومان بصورةٍ أوضح عما فعل أي شعب قديم آخر مرحلةَ تحوير قوانينهم مع الزعم بأنهم لا يقومون بأي تحوير. وعندما حلَّ العصر الإمبريالي كان القانون الروماني في الواقع مجموعةً من القواعد المذهبية المعقَّدة اعترف المشرِّعون أنفسهم أن لها مصادر متعددة، أساسها قوانين الجمهورية، معدَّلة باللوائح، وأحكام القضاة، وتفسير الخبراء الباحثين، والقرارات الإمبراطورية — أو المراسيم — منذ عهد أغسطس. تغيَّر القانون بشكل واضح، وكان لا يزال يتغير. وأدرك الناس إدراكًا تامًّا ما نستطيع أن نسميه اليوم الأساس الاجتماعي للقانون، تقريبًا في الوقت الذي توقَّف فيه عن النمو القانون الروماني — في صورته الأولى ومداه الأولي. وقد تمَّت في «الشرق» أعظم صياغة قانونية — وهي التي أُنجزت تحت حكم الإمبراطور جستنيان في القرن السادس بعد الميلاد — قبيل حلول العصور المظلمة «بالإمبراطورية الشرقية». أما التطوير الآخر للقانون الروماني، وتطبيقه على الكنيسة المسيحية، وعلى المجتمعات الأوروبية في العصر الوسيط والعصر الحديث، فقصة أخرى.

لقد جعل الرومان أولًا القانون شيئًا حيًّا ناميًا، يطبِّقه رجال القانون عن وعي على المطالب البشرية المتغيرة. وكذلك يرجع إليهم الفضل في عملٍ آخرَ يتصل بهذا الصدد. لم يكن القانون عند الشعوب الأولى، عند اليهود على سبيل المثال، مجرَّد مجموعة من القواعد السماوية، كاملة لا تتغير، إنما كان مجموعة من هذه القواعد التي وُضعت لهم دون غيرهم؛ فليس لأحد غير اليهودي أن يطيع الشريعة الموسوية. ولا يُحاكم طبقًا لقانون أثينا إلا الأثيني. وقد رأينا أن الأنبياء اليهود قد ارتفعوا إلى تصوُّر إله — يهوه، وقانون سماوي، يشترك فيه الناس أجمعون. وكذلك استطاع الإغريق من الناحية الفلسفية — حتى عندما بلغت المدينة الحكومية أوجهَا — أن يتصوروا بشريةً تتجاوز التمييز بين الإغريق والبرابرة. أما الرومان — بصفة خاصة — فقد فعلوا شيئًا من هذا القبيل لا بالمعنى الفلسفي أو الديني، ولكن بطريقة عملية؛ «ذلك أنهم نقلوا قوانينهم إلى غيرهم من الشعوب».

والظاهر أن روما — تلك المدينة الحكومية الصغيرة القائمة على سبعة تلال على ضفاف التيبر — كانت لها في أول الأمر قوانينها السماوية الخاصة بها وحدها دون سواها. وكانت هذه القوانين امتيازًا ومِلكًا للمواطنين الرومان مولدًا. ولم يَمُدَّ الرومان قاعدة المواطنة الرومانية إلا تدريجًا. وكان حكامهم — مستعينين في حذرٍ بمجلس الشيوخ — يمنحون المواطنة الرومانية للأفراد الأجانب الذين يحبون أن يضموهم إلى جانبهم، ثم للمجتمعات، وأخيرًا لمساحاتٍ أفسح. وفي وقتٍ مبكر اخترعوا نوعًا من المواطنة الوسط، وهي اللاتينية، التي كان صاحبها يشترك في الامتيازات التجارية النافعة وما إليها، ولا يشترك في الامتيازات الشخصية، والسياسية، وشبه الدينية، التي يتمتع بها المواطن الروماني الكامل. وفي الفترة التي تقع بين عام ٥٠٠ق.م وعام ١٠٠ق.م، التي كان يتشكل فيها الرومان قطعًا، فلم يكن ذلك كله يتم طبقًا لنظرية مقصودة تستهدف توسيع رقعة السيادة السياسية، أو على غرار طريقة الأمريكان في اكتساب المواطنة بالتجنُّس — بمنح الجنسية الرومانية قصدًا.

وقد وسَّع من المواطنة الرومانية، ومن الحكم الروماني عامة، رجال أعمالٍ حاولوا أن ينجزوا أمورهم بتخفيف التوتُّر، والشد والجذب، بين شعوب كثيرة. ولما حلَّ الوقت الذي واجهت فيه روما المنازعات الدولية في السنوات القليلة الأخيرة قبل الميلاد، كان لديها ما لم يكن لدى أية مدينة حكومية إغريقية، رقعة أرضية ممتدة، حكمُها فيها مقبول، وقانونها فيها سائد. ويدل على بطء عملية التوحيد السياسي هذه أنه، حتى في عام ٩٠ قبل الميلاد — وهو وقت متأخر — ثار على روما حلفاؤها الإيطاليون، لأسبابٍ لا تختلف كثيرًا عن الأسباب التي ثار من أجلِها حلفاء أثينا عليها في القرن الخامس. وقد هزمت روما الثوار في الميدان — ثم أعطتهم ما يريدون؛ المواطنة الرومانية الكاملة. وفي النهاية أصبح كل الأحرار مولدًا، كما أصبحت كل الشعوب المختلطة من بريطانيا إلى سوريا، مواطنين رومانيين تحت حكم الإمبراطور كراكلا. وبالرغم من أن الرومان كان لديهم قانون متقدم للحكم بالنيابة، إلا أنهم لم يفيدوا قطُّ من هذا القانون من الناحية السياسية، ولم تكن لديهم مجالس تمثيلية؛ إذ كان لا بد للمواطن الروماني من أن يقطن روما لكي يكون له حق التصويت. ومن الطبيعي أن تُحكم الدولة الرومانية العالمية بواسطة الإمبراطور، والبيروقراطية، والجيش. والواقع أن المواطنة في عهد كراكلا لم تَعنِ إلا القليل من الناحية السياسية.

وما زلنا بحاجةٍ إلى قاعدةٍ عامةٍ أخرى بشأن القانون الروماني. لقد وصفنا هذا القانون بأنه شيء تام، وأنه لم يكن ثمرةً للتفكير المجرد، وإنما كان ثمرة للحاجات العملية لشعبٍ لم يتجه كثيرًا نحو التفكير المجرد. وما ينبغي لنا — برغم ذلك — أن نَحسَب أن القانون الروماني هو من إنتاج قوم غير مفكرين، انتهازيين يغتنمون الفرص، رجال معادين للمنطق، فخورين بالمسير العشوائي. إنما كان القانون الروماني — على نقيض ذلك بشكل واضح — ثمرة أجيال من التفكير المنطقي الصارم. وأهم من ذلك أن رجال القانون لم تَغِب عنهم قطُّ فكرة المثل الأعلى، وفكرة القانون «كما ينبغي أن يكون» — وأعني بإيجاز فكرة العدالة، وهي (بالإفرنجية) لفظةٌ لاتينية، ولكنهم لم يستطيعوا في العالم الروماني المعقَّد الذي جاء في عهدٍ متأخر أن يحتفظوا بالعقيدة الساذجة القديمة بأن الآلهة قد أوحوا مباشرة بقانون العدالة. ولمَّا كانوا قومًا عمليين، معقولين، تعوَّدوا حمل المسئولية، فقد كان لا بد لهم من الإيمان بالعدالة. ولم يكن بوسعهم أن ينظروا إلى العدالة كفكرة نبيلة، ولكنها فكرة مجردة غير واقعية، أو أن المرء يستطيع أن ينصرف عنها، أو أن الحق هو القوة. إن ما فعلوه هو أنهم وضعوا الطبيعة مكان الآلهة. اخترعوا فكرة «القانون الطبيعي» التي لعبت دورًا هامًّا في كلِّ ما جاء بعد ذلك من تفكير سياسي.

والقانون الطبيعي بهذا المعنى ليس وصفًا عامًّا لما يجري فعلًا في هذه الدنيا الطبيعية، دنيا خبرتنا الحسية. وهو ليس قانونًا طبيعيًّا بمعنى أن قانون الجاذبية قانون طبيعي. إنما هو تحديدٌ ووصف للعالم «كما ينبغي أن يكون». ومع ذلك فإن لفظة «ناتورا» (أو الطبيعة) باللاتينية، ومقابلتها «الفيزيقا» بالإغريقية، تحمل بالتأكيد الدلالة على الموجود، على ما يكون في الزمان والمكان، على «هذه» الدنيا. وربما كان من بين الأسباب الكبرى لنجاح فكرة القانون الطبيعي هو أنها، وإن كانت في الواقع فكرة من العالم الآخر، فكرة مثالية، إلا أنها تشير إلى هذه الدنيا في ثباتٍ يجعلها فكرة عملية، وليست فكرة خيالية قطُّ. إن الطبيعي ليس طيبًا فحسب، إنما هو ممكن جدًّا أيضًا.

وقد تسربت إلى المعنى الخاص للقانون الطبيعي كما تطور في العالم الإغريقي الروماني اتجاهات فكرية وتجريبية مختلفة متعددة، وكانت الفكرة الكلاسيكية الناضجة عن القانون الطبيعي — بشكلٍ ما — إحدى النواحي الناجحة التي امتزج فيها التفكير الإغريقي بالتفكير الروماني.

وأبسط هذه الاتجاهات الفكرية ما اتجه إليه المشتغلون بالقانون في روما، وقد رأينا أن الدولة الرومانية مدت حق المواطنة — أو جزءًا من هذا الحق — في وقت مبكر إلى أفراد وجماعات متعددة. وبقيت بعض هذه الجماعات — مع ذلك — أجنبية في الواقع وإن كانت محالفة، وسرعان ما تولدت عن التعامل التجاري بين هؤلاء الأفراد ذوي الأوضاع المختلفة مشكلات عرضت للحكم فيها أمام المحاكم الرومانية، ولم يستطع رجال القانون تطبيق القانون الروماني تطبيقًا كاملًا، ذلك القانون الذي كان لا يزال حقًّا، أو احتكارًا شبه ديني، للمواطنين الرومان الخالصين وبيد أن المتخاصمين — وقد يكون أحدهما من نابلي والآخر لاتيني — قد نشآ في ظل قانونين مختلفين. فكان ما يفعله القاضي الذي ينظر في أمثال هذه الأمور هو أن يحاول أن يجد حكمًا عامًّا، أو نوعًا من المضاعف البسيط في كل هذه القوانين والعادات والتقاليد المحلية؛ فالاتفاق التجاري في مكانٍ ما قد يعني مجموعة الصيغ التي يجب تنفيذها، وقد يعني في مكانٍ آخر مجموعة أخرى من الصيغ مختلفة عنها كل الاختلاف. ولكن ما هو المشترك بين الاتفاقين، وماذا وراءهما كليهما، ما هو الاتفاق الذي يصلح في المكانين معًا؟ هذه هي الأسئلة التي وجَّهها رجال القانون الروماني إلى أنفسهم. وعند الإجابة عنها انتهَوا إلى ما أسموه قانون الشعوب، الذي يتميز عن القانون الروماني الصحيح.

وقد انتهوا إلى هذا القانون الدولي العملي، إلى هذه الأحكام للبت في القضايا التي تنشأ بين أفراد من مواطن مختلفة، أو من وحدات سياسية مختلفة، بالموازنة بين القوانين الوطنية، أو المدنية، أو القبلية، القائمة ومحاولة إيجاد المشترك بينها. وفعلوا ذلك بنوعٍ من التفكير ينطوي على التصنيف طبقًا لمميزات «مستخلصة» من الكليات الحية المحسوسة التي بدءوا منها. ولم تكن القوانين التي وازنوا بينها شديدة التشابه باعتبارها كليات تخضع للممارسة. وإن كنت على معرفة يسيرة بعلم النبات أدركت أن ما فعلوه يشبه كثيرًا ما يفعله العالم بتصنيف النباتات التي يقل بينها التشابه، كالتوت والورد، والتفاح، والأعشاب المتسلقة، أعضاء في الواقع من أسرة واحدة، هذا الضرب من التفكير في التصنيف والتبويب نوع شائع من التفكير، يُستخدم على مستويات مختلفة من الإدراك العام إلى العلوم.

وإلى هذا الحد لم يفعل رجال القانون الرومان أكثر من إخراجهم أداة نافعة في البت في القضايا القانونية التي تشتبك في نُظُم قضائية مختلفة. لم يفعلوا في الواقع أكثر من أنهم مدوا إلى النظم المختلفة ما قاموا به بالنسبة إلى الأحكام القانونية المختلفة المتعارضة داخل نظامهم الخاص. إلا أنهم لم يكن بوسعهم إلا أن يحسوا أن «قانون الشعوب» المستحدث كان أكثر «عالمية» بشكلٍ ما، وأكثر كمالًا، وأشد صلاحية لجميع الناس، من النظم المحلية المنفصلة التي بدءوا منها. وهنا تدخل الفلاسفة الإغريق — وبخاصة الرواقيون — ليعاونوهم، ويحولوا قانون الشعوب إلى «القانون الطبيعي».

ذلك لأن الرواقيين كانوا قد توصلوا إلى نوع من العالمية الأرستقراطية التي تؤكد ما عند الناس من قدْر مشترك يقابل ما بينهم من خلاف ظاهر، وما يلاحظه الرجل العادي، غير الحكيم — كما يرى الرواقيون — هو المظهر المختلف في هذه الدنيا وسكانها من بني آدم. أما ما يلاحظه الرواقي الحكيم فهو الوحدة الكامنة في كل خلق الله. إنه يرى الدائم، ولا يرى المؤقت أو العارض. والطبيعة تخدع غير الحكيم فتحمله على الظن بأنها متغيرة، متقلبة، متعددة الجوانب، والطبيعة في الواقع عند أولئك الذين يستطيعون التغلغل في أسرارها، منتظمة، مرتبة، موحدة، لا تناقض فيها. ويرى الفيلسوف الرواقي أن «قانون الشعوب»، وهو القانون الدولي الشائع بين كثير من الأمم أقرب إلى الطبيعي من القوانين المنفصلة المتعددة، ومن نُظُم المدن، والقبائل، والأمم، وقد أمسى «قانون الشعوب» عند الطبقات الحاكمة في العالم الروماني، الذين نشئوا على دراسة القانون والأفكار الرواقية على السواء، نمطًا معينًا ﻟ «القانون الطبيعي»، ولكنه لم يتحقق قطُّ تحقيقًا كاملًا.

وجدير بنا ألا نغفل أن العام، والعالمي، و«الطبيعي» الذي ينشده رجل القانون أو الفيلسوف لا يعني بالضبط ما يعنيه أكثرنا ﺑ «المتوسط» أو «الأكثر شيوعًا». وكثير من النقاد المعادين لرجال القانون والفلاسفة زعموا أن فكرتهم العليا عن الطبيعي هي التوسط المميت، أو النقطة المتوسطة التي لا تثير الشعور في الخط البياني المنحني الذي يمثل انتظام الترداد في أمرٍ من الأمور. وهم بالتأكيد لم يسووا بين «العالمي» و«المتوسط». ولم يكن العالمي عند رجل القانون هو أكثر الأعمال القضائية شيوعًا، وإنما كان ذلك الذي يستطيع أن يميزه عقله على أنه المبادئ الخفية التي توحِّد جميع النظم القضائية. لم يكن المثل الأعلى عند الرواقي هو سلوك الرجل المتوسط، رجل الشارع، كلا لم يكن ذلك، وما كان أبعده عن هذا، وإنما مَثَله الأعلى قواعد السلوك التي تُستخلص من الاتصال الطويل بحكمة الأجيال. «الطبيعي» في القانون الطبيعي «ليس ما هو كائن، وإنما ما ينبغي أن يكون» ولكنه يستند إلى نوع من أنواع «الكينونة» — وتلك هي «كينونة الإيمان».

الطبيعي أمر «ينبغي أن يكون»، وهو أمر نعلم من التاريخ أنه استهوى على الأقل المواطنين المتعلمين من الأصول الجنسية المتنوعة — من بريتون، وغال، وإسبان، وإغريق، ورومان، ومصريين، وسوريين. القانون الطبيعي — أو ما يظهر أنه أقرب تجسيد دنيوي له، وهو القانون الروماني المتطور في أروع نظام له — وُضع لجميع الناس، لا كما كان القانون اليهودي أو الأثيني. ولم يكن القانون الروماني مِلكًا لقبيلة وحدها دون سواها. كما أن هذا القانون الطبيعي — من ناحية أخرى — لم يكن مجرد مجموعة من القواعد العملية التي يُقصد منها أن يبقى كل شيء على ما هو عليه. إنما كان هو الآخر مجموعة من المُثُل، قانونًا أعلى، محاولة لإنزال العدالة من السماء إلى الأرض. كان القانون الطبيعي — وهو ثمرة من ثمار القانون الروماني والفلسفة الإغريقية — من أكثر الأفكار المجردة أهمية في المجتمع الغربي. وسوف نلتقي به مرة أخرى، وبخاصة في القرون الوسطى، وفي القرن الثامن عشر، وسوف نلتقي أيضًا عند ختام هذا الكتاب بمفكرين محدثين من غير العقليين يرون أن فكرةً كهذه — فكرة القانون الطبيعي — كلام فارغ ليس له معنًى، أو هو على أحسن الفروض محاولة لإخفاء حقيقة أن المجتمعات البشرية تحكمها دائمًا جماعة صغيرة لها امتيازات. ونستطيع هنا أن نتخلى عن مشكلة أهمية الأفكار المجردة كفكرة القانون الطبيعي في العلاقات الإنسانية، ونكتفي بالتنويه عن أن الفكرة الإغريقية الرومانية عن القانون الطبيعي كانت ﻛ «مَثَل أعلى» فكرة عن الوحدة بين جميع البشر، فكرة ديمقراطية في أساسها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤