الفصل السادس

العصور الوسطى (أولًا)

إن مصطلح «العصور الوسطى» هو في ذاته حكمٌ على قيمتها. وقد كان هذا الحكم أصلًا محِطًّا من شأنها. ويمثل هذا المصطلح ما كان يَعُدُّه واضعوه فترةً امتدت ألف عام، وكانت أشبه بالوادي أو المنخفض بين قمتين شاهقتين: إحداهما تمثِّل الماضي، والأخرى تمثِّل الحديث. وقد شاع استخدام هذا المصطلح، كما شاعت لفظة «الوسيط» التي اشتُقَّت منه وذاع بين الناس في عصر النور في القرن الثامن عشر. ولما حل القرن التاسع عشر تأكد هذا التقسيم الثلاثي إلى القديم، والوسيط، والحديث، حتى لقد استخدمه رجال الغرب في تواريخَ أخرى مثل تاريخ الصين؛ حيث لا يكون له أي معنًى من المعاني البتة.

وللتسمية التقليدية الثابتة على كل حال ميزة واضحة؛ فهي تفقد أكثرَ ما في مضمونها الأول من معنى الثناء أو الهجاء. ونحن ننظر إلى «الوسيط» اليوم على أنه يدل في التاريخ الأوروبي على وجه التقريب على ألف العام التي تمتد من عام ٥٠٠م إلى عام ١٥٠٠م. ولا تزال قرونه الأولى فيما بين عام ٥٠٠م وعام ٩٠٠م أو ١٠٠٠م تُعرف بالعصور المظلمة، وهو اصطلاح لم يستطِع حتى استعماله الدائم أن يمحو عنصر الهجاء فيه. وتُعتبر العصور الوسطى الحقيقية فترةً تمتد من شرلمان في القرن التاسع إلى كولمبس في القرن الخامس عشر، مع شيء من التداخل وعدم الدقة. وكما أن القرن الخامس قبل الميلاد يُعتبر عادة عصر ازدهار ثقافة المدينة الحكومية اليونانية، فكذلك يُعتبر القرن الثالث عشر عادةً عصرَ ازدهار ثقافة العصور الوسطى. وأخيرًا أود أن أقول إن هذه الثقافة كانت ثقافة الجزء الغربي من الإمبراطورية الرومانية، بالإضافة إلى الامتداد الجديد الذي شمل وسط أوروبا، وأيرلندة، واسكتلندة، وإسكنديناوة. أما الجزء الشرقي من الإمبراطورية، الذي طالما اعتدى عليه السلاف، والعرب، والأتراك، فقد لبث في القسطنطينية حتى عام ١٤٥٣م. غير أن تاريخه هو في الواقع تاريخ مجتمع منفصل، بل إن تأثيره الثقافي المباشر في الغرب ربما كان أضعف من تأثير الإسلام.

وقد اختلف الحكم على العصور الوسطى اختلافًا كبيرًا في القرون القلائل التي أعقبت نهايتها. إن الثقافة الإغريقية الرومانية لم تُهاجم إلا منذ عهد قريب جدًّا. ولم يتصدَّ للهجوم عليها إلا أولئك الذين يزدرون التربية الكلاسيكية، في حين أن الكتَّاب والفنانين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر في ذيول العصور الوسطى بدءوا فعلًا ينظرون بعين الاحتقار إلى أسلافهم في تلك العصور. وكثير من القذف المعروف الذي وجِّه إلى ثقافة العصور الوسطى، كذلك الذي يُقال من أن فلاسفة تلك العصور كانوا ينفقون وقتهم في جدلٍ يدور حول عدد الملائكة الذين يستطيعون أن يقفوا على طرف دبوس، يرجع في أصوله إلى هذه السنوات الأولى من الأزمنة الحديثة. أما القذف الذي شاع في العصر الحديث على العصور الوسطى فقد تميَّز بعبارات كهذه: «ألف عام من غير حمام». بل إن صفة «غوطي» ذاتها التي نستخدمها اليوم بنغمة الثناء على فن العمارة في العصور الوسطى، كانت في بداية الأمر اصطلاحًا ينطوي على الازدراء، ويعادل قولنا «بربري».

وقد هبطت سمعة العصور الوسطى إلى أدنى درجاتها في منتصف القرن الثامن عشر، «عصر النشر والعقل». ثم أُغرمت الحركة الرومانتيكية في الجيل التالي، التي تزعمها سير ولتر سكوت، بشعر العصور الوسطى وبما حسبوه لا معقولًا فيها. وبدأ الناس فعلًا في إعادة البناء على النمط الوسيط. ويُقال إن الدرجات الحجرية الغوطية الجديدة في إحدى الجامعات الأمريكية المعروفة قد جُوفت عمدًا كي تبدو قديمة من فعل الأجيال العديدة التي استخدمتها، كما ينبغي أن تبدو الدرجات الغوطية، وكذلك الصبية خلال الإحياء الرومانتيكي لروح العصور الوسطى مثلوا في ألعابهم روبن هود، كما أن مَن يكبرونهم زخرفوا المخطوطات وكتبوا القصص الشعرية.

ثم كانت هناك في أخريات القرن التاسع عشر حركة مضادة أخمدت هذه الحماسة للعصور الوسطى، وإن لم تطفئها تمامًا. أما الطالب الأمريكي المتوسط اليوم فلا يكترث مطلقًا بالعصور الوسطى. وهو على الجملة يميل إلى الحكم عليها حكمًا غامضًا ويَصمها بالتأخر والخرافة. ولكن الأقلية من العشاق والكارهين تعبِّر عن نفسها تعبيرًا واضحًا، وكلاهما يمدنا بمشكلتنا الكبرى في هذا الفصل. ويرى بعضهم، وأكثرهم — وإن لم يكونوا كلهم — من الرومان الكاثوليك، أن العصور الوسطى والقرن الثالث عشر خاصة — تمثِّل قمة العمل الإنساني، وهي مجتمع وإن يكن بغير الثراء الحديث والتكنولوجيا العلمية، إلا أنه يقوم على أساس اجتماعي وخلقي متزن، وعلى عدالة اجتماعية عملية، وأسلوب مسيحي من العيش فيه أكثر من عوض عن اختفاء الوفرة المادية. ويرى آخرون، وأكثرهم — وإن لم يكونوا كلهم — من الوضعيين، الراديكاليين، المضادين للمسيحية، المؤمنين بالتقدُّم إيمانًا جازمًا، أن العصور الوسطى زمن بربري، متخلف، يعتقد في الخرافة، وتسوده الفوارق الطبقية، وهي عصر آلام للكثرة من الناس، وعصر عنف وتظاهر كاذب للقلة منهم. وكلٌّ من هاتين النظرتين يهدينا إلى عناصرَ هامة تعيننا على فهْم العصور الوسطى، وكلاهما إذا أُخذ ككل بغير تعديل بعيدٌ عن الصواب.

مؤسسات الثقافة في العصور الوسطى

أول ما يجب أن يتضح في الأذهان فيما يتعلق بثقافة العصور الوسطى هو أنه كان من المحتم عليها أن تبني في بطء على ما ليس من باب المجاز أن نسميه بالخرائب. وقد شهدت العصور المظلمة — بالرغم من أنها لم تكن منقطعة الصلة تمامًا بمجموعة الخيوط المعقدة التي تربطنا بالماضي — انقطاع جميع هذه الخيوط تقريبًا ونحولها. وليس بوسعنا هنا أن نحاول قياس مدى هذا الانقطاع. ولعله كان كاملًا في المستويات العليا من السياسة والإدارة والحياة الاقتصادية، ولم يكن بمستطاع أحد أن يقوم بعملٍ على نطاق واسع — في التجارة، أو شئون الدولة، أو الاجتماع على أية صورة من الصور — سوى الكنيسة الكاثوليكية بطبيعة الحال. وبقيت الكنيسة خلال هذه العصور المؤسسة «الأوروبية» الوحيدة التي كانت تعمل فعلًا، والتي كانت متماسكة فعلًا؛ إذ إنا لا نستطيع أن نَعُدَّ تقاليد الإمبراطورية الرومانية، أو حتى قوانينها، من المؤسسات المستقرة الفعالة ذات الأثر في هذه القرون. ويبدو أن بعض البلديات الرومانية على الأقل قد استمر، وحتى الكنيسة قد جمعت بحلول القرن العاشر عددًا من المساوئ، مثل زواج القسس أو اقتنائهم المحظيات، وبيع وظائف الكنيسة، والعلمانية بجميع ضروبها، مما كان يتطلب الإصلاح العاجل.

وقد اختفت من أوروبا بهذه الصورة كل مظاهر الحضارة المدنية تقريبًا. ولم تَعُد المدن في غرب أوروبا سوى أسواق محلية. وأما تلك المدن التي كانت تقترب من تصورنا للحياة المدنية فقد كانت عادةً مراكز لإدارة الكنيسة، ومقرًّا للأساقفة وكبار الأساقفة، أو كانت تنمو حول مراكز الأديرة العظمى. وكان الناس في أغلب الأحيان يعيشون في قرًى زراعية صغيرة تكتفي بذاتها من الناحية الاقتصادية. وندُرت التجارة، وانحصر أكثرها في أدوات الترف، أو في المعادن اللازمة لتسليح السيد الإقطاعي وصنْع سيوفه. وحتى الطرق الرومانية قد هُجرت، وانحصر الارتحال في السير على الأقدام أو على ظهور الخيل. وانقسم المجتمع انقسامًا واضحًا إلى الرؤساء المحاربين الإقطاعيين والفلاحين وأرباب الحرف. وكادت تنعدم الطبقة الوسطى. واقتتل الرؤساء المحاربون فيما بينهم، مما كان يؤثِّر عادة في ضعف محصول العامة وفيما يملكون. ولكن الفلاحين على الأقل لم يتحتم عليهم القتال.

أما في فترات الهبوط في القرن السابع أو القرن العاشر، فقد تم انقطاع خيوط ثقافية أخرى كثيرة، واحتفظت الكنيسة بالتفكير الرسمي، ولم تختفِ اللاتينية اختفاء تامًّا قط. غير أن لاتينية العصور المظلمة كانت — على أية حال — لاتينية مبسطة ولا تسير أحيانًا وفقًا لقواعد اللغة. وقد اهتمت الكتابة الجديدة كلها تقريبًا بأمور الدين، وكانت في أغلب الأحيان مجرد جمْع لأعمال قديمة وشرح لها. أما ما يُسمَّى أحيانًا بالنهضة الكارولنجية في القرنين الثامن والتاسع، التي ترتبط بالإمبراطور شرلمان، فلا تكاد تعدو مجرد إحياء مبدئي للاتينية تكون أشد التزامًا لقواعد اللغة، وبداية للتربية الرسمية التي تتميز بها العصور الوسطى، والتي سوف نعود إليها بعد حين.

ولكنا يجب ألا نغالي؛ ففي القمة كانت الكنيسة الكاثوليكية متماسكة، وفي الأسفل، في الحياة المحلية، في الأمور التي تمس حياة الفرد، كانت هنالك خيوط كثيرة متماسكة. وربما كانت وسائل الحصول على العيش في جملتها أقل معاناة مما ظن مؤرخو القرن التاسع عشر. وبالرغم من أن المهارات الزراعية قد هبطت عن أعلى مستوًى روماني، فإن هذا المستوى كان أبعدَ ما يكون عن الانتشار الكامل في الإمبراطورية، وربما عانت كذلك المهارات الفنية بالمعنى التقني، كما أن الخيوط التي تربط الأستاذ بالتلميذ قد وهنت، ولكن ما برح هناك — بالرغم من هذا — شيء من النحت في الحجر على مستوًى ممتاز في كل قرن من القرون تقريبًا. ولعل الرغبة في الإخلاص لنقل الطبيعة في الفن نقلًا فوتوغرافيًّا قد اختفت. ولكن القدرة عليها ما زالت قائمة. ومع أن مهارات الصانع العادي في النَّسْج، والأسلحة والأثاث، وما إلى ذلك، قد اخشوشنت، إلا أنها لم تختفِ على الإطلاق. وقد أدخل الرهبان الذين طهَّروا الغابات وجفَّفوا المستنقعات وسائل جديدة، وحسَّنوا، واخترعوا.

وأخذ هيكلُ الحضارة بِرُمَّته يعود تدريجًا، ولم يَعُد ينكر وجود ثقافة كاملة التطور في ذروة العصور الوسطى؛ أي في القرن الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر، إلا مَن يكره كل شيء وسط كراهية عمياء. وقد بلغت الثقافة في مراكز هذا العالم الجديد في فرنسا، وإنجلترا، والأراضي المنخفضة، وشمالي إيطاليا، والراين — من الناحية المادية — مثل ذلك المستوى الذي بلغه الإغريق والرومان. أما من الناحية العقلية والناحية العاطفية فإن هذه الثقافة الجديدة تمثِّل أسلوبًا من الحياة، لا يزال يفتتن به الكثيرون حتى اليوم كما ذكرنا.

وبقيت الكنيسة في ذروة العصور الوسطى المركز العظيم للحياة العقلية. وظهرت في المجتمع الغربي لأول مرة تربية منظمة متدرجة تخضع للرقابة العامة. ولم تكن تربية عالمية، ولكنها كانت تربية متاحة للصبيان الأذكياء حقًّا — المنكبين على الكتب (ولم تُتَح للبنات بطبيعة الحال)، حتى مَن كان منهم مِن أدنى الطبقات. ولم يكن الإشراف العام من حق مراقبة بيروقراطية وحيدة، كمراقبة الولاية، على التعليم. وإنما كانت للكنيسة الكاثوليكية، بأعضائها العديدين للتربية والإدارة، وبأكليروسها المنظم تنظيمًا يدعو إلى الإعجاب، وبرأسها الأعلى ممثَّلًا في البابا.

وقد نشأت المدارس الأولية حول مراكز الأديرة، أو كملحقات للكاتدرائيات وأحيانًا كمدارس في المدن. وكانت تُعلَّم مبادئ الأشياء، واللاتينية خاصة، التي لم تَعُد لغة للكلام العام اللهم إلا فيما بين العلماء، فقد كانت بالنسبة لهؤلاء لغة للكلام كما كانت لغة للكتابة، وكان الأذكياء من الصبية الصغار يبدءون تعلُّمها في سن جد مبكرة. أما تعليم الطبقات العليا، الذي أُهمل في العصور المظلمة، فقد انتهى تدريجًا إلى معرفة القراءة والكتابة أو شبه المعرفة بهما لعدد كبير من النبلاء، ولكن حتى في هذه الحالة، فإن أكثر تعليم الطبقة العليا كان في الصيد وفنون الحرب وفي التدريب على إدارة الضياع.

أما المؤسسة التربوية التي تتميز بها العصور الوسطى، والتي تُعَد من ميراثها العظيم، فهي الجامعة. ولا يلي الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ذاتها سوى بعض الجامعات، في باريس، وأكسفورد، وبولونيا على سبيل المثال، من حيث كونها أقدم المؤسسات البشرية المتصلة في العالم الغربي في يومنا هذا (وقد يُقال إن فرنسا وإنجلترا أقدم كأمم، ولكنهما لم تكونا بالتأكيد مؤسستين متصلتين من الناحية السياسية). وقد نشأ أكثر هذه الجامعات في وقت مبكر جدًّا في العصور الوسطى، كمدارس كنسية أو ما يشبه ذلك. ولما حل القرن الثاني عشر، والقرن الثالث عشر، بلغت شكلها الذي تميزت به، وهو عبارة عن رابطة رسمية من المدرسين والدارسين في كلٍّ متَّحد يتمتَّع بتحرُّر كبير من السلطات السياسية، ويتمتع على الأقل بحرية الكيان في داخل النظام الكنسي. وكانت هذه الجامعات، بعد امتحان صحيح، تمنح الدرجات العلمية، وتمنح درجة الأستاذية في الآداب التي تؤهل الحاصل عليها لأكثر الوظائف الثقافية، غير أن درجة الدكتوراه سرعان ما أُنشئت لتكون مؤهلًا لأعلى الوظائف.

وكانت هذه الجامعات تُعلِّم أقصى ما وصلت إليه الموضوعات التي كانت تتألف منها القاعدة الثابتة للتربية الرسمية في العصر الوسيط، وهي تتكون من مجموعتين: الأولى رباعية وتشمل الهندسة والفلك والموسيقى والحساب؛ والثانية ثلاثية وتشمل قواعد اللغة والمنطق والبلاغة، وأرجو ألا تضللنا هذه الأسماء الرسمية؛ فالواقع أن أكثر ما لا يزال يكوِّن قاعدة التربية الحرة يقع متخفيًا تحت هذه الأسماء الغريبة. ويلاحظ أن العلوم التجريبية غير موجودة، وكذلك لم توجد — بطبيعة الحال — الموضوعات العملية المتنوعة تنوُّعًا مدهشًا، من الآلة ذات الاحتراق الداخلي إلى النجاح في الزواج، التي دخلت بطريقةٍ ما في مناهج التعليم الأمريكية الحديثة. وبعدما كان الطالب في العصور الوسطى يتم تأسيسه في اللاتينية كلغة حية للبحث وكأدب، ويتمه في العلوم الرياضية، وهي المجموعة الرباعية، يحق له أن يبدأ بدراسة إحدى المهنتين اللتين تطلبان المعرفة فعلًا، وهما القانون والطب، أو يحق له أن يلتحق بما يعادل في أساسه دراستنا في الفلسفة والأدب التي يقوم بها الطالب بعد التخرج. والفلسفة والأدب «اللاتيني» كلاهما كان أمرًا مقيدًا بالنسبة إلى الدارس الحديث الذي ألَّف قائمة الاختيار المطولة التي تشمل عدة موضوعات للدراسة في المدارس العليا الحديثة. غير أن الفكر الرسمي في العصور الوسطى كان يتناول — كما سوف نرى — كل مشكلات المعرفة الكبرى.

ولما حلَّ القرن الثالث عشر كان العمل العلمي قد أمسى جزءًا معترفًا به كل الاعتراف من التنظيم الاجتماعي في العصور الوسطى في المستوى العقلي، فكانت هناك وظيفة الإدارة السياسية، ووظيفة القسيس، ووظيفة العالم، بل لقد كان هناك — بين طلبة الجامعة أنفسهم — شيء يشبه ما نعرفه بالحياة الجامعية. إن التباين المعروف بين «حياة المدينة وحياة العلم» قد بدأ منذ العصور الوسطى؛ فقد كان الطلبة يلعبون، ويشربون، ويغنون، وينظمون الألاعيب والمواقف المضحكة. وكانت هناك مشاغبات الطلبة التي كثيرًا ما كانت تسيل فيها الدماء، وقد كان كل هذا أقل تنظيمًا بدرجةٍ قصوى، وأقل عكسًا لعالم الكبار، من ثقافة الشباب الأمريكية كما نعرفها. ولكنا إذا وازنا بين حياة الشباب في اليونان وروما وحياة الطالب في العصور الوسطى ألفينا في الحياة الثانية لونًا حديثًا جدًّا.

إن المعجبين بالعصور الوسطى — وبعض منهم في الواقع من طلبة العلم بالعصور الوسطى الممتازين جدًّا — يصرون على أن الروح الأساسية التي تقوم عليها وظيفة العلم في العصور الوسطى تختلف حقًّا كلَّ الاختلاف من وظيفة العلم في التعليم العالي الحديث. ومن الفوارق الواضحة اختفاء العلم التجريبي من التربية الرسمية في العصور الوسطى، ووجود إيمان ديني واحد يُعترف به في كل مكان. وهذه الفوارق تميِّز عمومًا الحياة العقلية كلها في العصور الوسطى، وسوف نعود إليها مرة أخرى. والفارق الذي يُلاحظ عادة في حياة الطالب ذاتها هو اختفاء روح المنافسة الحادة الحديثة، والرضا بمركز الإنسان في الحياة في العصور الوسطى. والواقع أن الطلبة المساكين لم يتوقعوا بصورة واضحة أن يستخدموا الجامعة في العصور الوسطى عتبةً تُوصل إلى رياسة البنك أو مجلس الإدارة، وذلك بالرغم من أن علماء العصور الوسطى كانوا في الأمور العقلية البحتة على أشد ما تكون المنافسة، وكانوا يتصفون بكلِّ ما يتصف به العالَم من غرور، وجدل، ورغبة في التغلُّب في النقاش على الخصوم. وربما كان الطالب في العصور الوسطى يتصف بزيادة في تكريس ذاته للعلم من أجل العلم بدرجةٍ لا تتوافر لزميله في العصر الحديث، وبالرغم من ذلك كانت وظيفة العلم في كثيرٍ من وجوهها عملًا مفتوحًا لأصحاب المواهب. وفي هذا المجال — كما في غيره من المجالات في العصور الوسطى — يدهش المرء إذ يجد قدْرًا كبيرًا من المنافسة والمضاربة بالنسبة إلى مجتمعٍ المفروض أن يلزم كلُّ امرئ فيه مكانته.

إن أكثر أصحاب الوظائف العلمية — حتى في أوج العصور الوسطى — كانوا ينتمون إلى نوعٍ من أنواع المنظمات الدينية، وكانوا بمعنًى من المعاني جزءًا من الكنيسة. حقًّا إن أكثرهم لم يحصلوا على شفاء الروح؛ أي مسئولية الأبرشية عن الواجب الكهنوتي الذي يحمله راعي القطيع، وكان مفهومًا أن الكنيسة كانت أخف في رقابتها على حياتهم الخاصة منها مع قسس الأبرشيات. بيد أن الكنيسة كانت بدرجةٍ لا نكاد نفهمها اليوم — تتدخل في كل لون من ألوان النشاط البشري وتوجهها، وبخاصة النشاط العقلي. وفي أوائل العصور الوسطى كانت القدرة على القراءة وحدها تعتبر دليلًا على أن المرء قسيس؛ ومِن ثَمَّ ظهر ذلك الاصطلاح، الذي لم يندثر تمامًا حتى الآن، وهو «ميزة الأكليروس»، ومعناه أن الرجل الذي يستطيع أن يثبت قدرته على القراءة، يستطيع من أجل ذلك أن يعتمد — عندما يقع مع السلطات في مشكلةٍ ما — على محاكمته في محكمةٍ دينية لا في محكمة عادية. وكان كل عمل في العصور المظلمة يتطلب المعرفة بالقراءة والكتابة — مثل التسجيل ومسك دفاتر الحسابات وكتابة الرسائل، وتسويد الوثائق — يُعهَد به إلى القسس؛ لأن القسس وحدهم هم الذين كان يتوافر لهم التعليم اللازم لذلك، وبالرغم من أن هذا الاحتكار قد اختفى في أوج العصور الوسطى، فإن الأكليروس — حتى في هذه الفترة — تحملوا عبئًا أضخم من العمل الإداري في الحياة أكثر مما يتحملون اليوم.

ثم إن القسيس — في ألوف الأبرشيات الريفية، بل وفي أبرشيات المدن — كان الحلقة الفعالة التي تصل المرء بالعالم الخارجي؛ عالم الأفكار، وعالم الحروب، والضرائب، والدسائس. وكانت الموعظة هي السبيل إلى نشر المعرفة، وذلك بالرغم من أنها لم تكن قطُّ في مباشرة الكاثوليك لها ذلك الأمر المتسلط كما أمست في بعض المذاهب البروتستانتية. وفي الحق أن المنبر قد أعطى الكنيسة في العصور الوسطى تلك الميزة الكبرى التي كادت تكون احتكارًا لوسائل التأثير على الرأي العام. وكانت الكنيسة وحدها هي التي تستطيع نشر الدعاية المؤثرة، لانعدام الصحف، والراديو، أو ما يشبه الأستاذ الكلاسيكي المتجول (أو الخطيب). ولم تكن هناك وسيلة أخرى لنشر الأفكار بين الجماهير سوى الكلمة الرسمية المنطوقة. ولما كانت البابوية في العصور الوسطى هي التي تملك ما كان يعادل نفوذ الصحافة والراديو، فقد كان ذلك بالتأكيد أحد الأسباب التي جعلت بابوات العصور الوسطى يحتفظون بنفوذهم في وجه نفوذ الحكام العلمانيين الآخذ في النمو لفترة طويلة من الزمن.

وأخيرًا أقول إننا مدينون للكنيسة باحتفاظنا بالأدب الإغريقي واللاتيني. وبالطبع كان المتطرفون من المسيحيين يرون أن الآداب الوثنية من عمل الشيطان، ويطالبون بإعدامها. غير أن الفاكهة المحرمة التي تتمثل في الأدب الخيالي الوثني كان فيها شيء من الجاذبية حتى بالنسبة إلى رجل الدين الورع العادي. وكان الرهبان كذلك يجمعون وينسخون في الشرق والغرب. وبالرغم من أن الخسارة كانت فادحة، وبخاصة خلال السنوات الطويلة التي انهارت فيها الإمبراطورية الرومانية، فإن ما بقي كان مع ذلك يكفي لأن يعرِّفنا معرفة جيدة بثقافة الإغريق والرومان. ولم يقتصر عمل النساخين في الأديرة على نقل الآداب الكلاسيكية، بل لقد نسخوا كذلك — أو نشروا بالتعبير الحديث — ما كتبه باللاتينية علماء الدين والفلاسفة المعاصرون في العصور الوسطى، وما كتبه باللغات القومية الشعراء والقصاصون في هذه العصور. ونحن لا نَدين لهم بشيشرون وحده، بل كذلك بأكويناس و«أغاني رولان».

وإذن فقد كان الرجال الذين يتلقون تعليمهم في الكنيسة، يكادون يحتكرون الحياة العقلية، فكانت الكنيسة منصة المحاضرة، والصحافة، والنشر، والمكتبة، والمدرسة، والكلية. بيد أنه من الخطأ برغم هذا أن نظن أن العصور الوسطى كانت خاضعة كل الخضوع للقسس. كما أنه من الخطأ قطعًا كذلك أن نظن أن كنيسةً أساسية بيوريتانية رقيبة كانت صاحبة السيادة عليها، وكذلك كانت هناك أوجه هامة في الحياة العقلية في العصور الوسطى لم تكن حكرًا للأكليروس بأية حال من الأحوال. وإذا كانت الطبقات العليا في العصور المظلمة لا تكاد تعدو أن تكون جماعة من المحاربين المحترفين، فقد اكتسبوا في أوج العصور الوسطى اهتمامات أوسع نطاقًا — في القانون والإدارة، وفي الشعر والقصص الخيالي، وفي أسلوب الحياة العجيب الذي يُعرف بالفروسية، بل وأحيانًا في البحث والدراسة. وقد كان أعظم فلاسفة العصور الوسطى، سنت توماس أكويناس من النبلاء الإيطاليين مولدًا. وفي الآداب القومية، الإيطالية، والفرنسية، والإنجليزية، وغيرها مما سار شوطًا بعيدًا في العصور الوسطى، نجد كل ضروب العناصر المستمدة من الحياة الشعبية، التي تشتمل على قدْر كبير من العربدة والخشونة لكي تثبت أن الإنسان البدائي لم يفقد صفاته كلها بالتدين، وربما لا يتيسر لنا أن نتبين في العصور الوسطى العلاقة بين مستوى الفكر الرسمي وبين حياة الرجل العادي، كما يتيسر لنا ذلك — على سبيل المثال — في القرن الذي عاش فيه فولتير، وروسو، وجيفرسون، وزملاؤه في عصور النور. غير أن فلسفة العصور الوسطى الشكلية المدرسية لم تكن — برغم هذا — نظامًا قائمًا في فراغ؛ فقد كانت الفلسفة الرسمية في تلك العصور آمنَ في توجيهها للآمال البشرية العادية منها في عصر كعصرنا، حيث تكون الفلسفة في الوقائع دراسة أكاديمية شديدة العزلة، وذلك قطعًا بسبب بناء المجتمع الوسيط، وبسبب المركز الأدبي للأكليروس.

علوم الدين والفلسفة في العصور الوسطى

كانت أصول الدين حقًّا بالنسبة إلى الفكر في العصر الوسيط «سيدة العلوم». وكان المفكر في العصور الوسطى يستخدم لفظتين منفصلتين، هما «أصول الدين» و«الفلسفة»، ولكنهما في الواقع مختلطتان اختلاطًا لا انفصام فيه. وكان هناك دائمًا مجال للغموض، أو للإيمان، ولكن العالم بأصول الدين — كالفيلسوف — كان مفكرًا، وكان رجلًا يعلل ما يجري في الكون، وكان يعتقد أن هناك مكانًا لله، وإن تعذر على كل الناس الوصول إليه، ويستطيع المفكر البشري بالتعليل أن يتوصل إلى مجموعة من الآراء التي تتعلق بمكان الله، وهي مجموعة نافعة بل وضرورية وإن تكن ناقصة.

وقد بنى المفكرون في العصور الوسطى — بطبيعة الحال — على أساسِ ما قام به الآباء المسيحيون الأوائل من عمل، وعلى تصرفات الكنيسة ونظراتها التي ذكرناها في الفصل السابق. ولعل أهم ما كتبه الآباء بالنسبة إلى العصور الوسطى، بل وبالنسبة إلى المسيحية التي جاءت بعد ذلك، كتابات سنت أوغسطين، أسقف هيبو، الذي عاش في أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس. وهو ينتمي إلى سلالةٍ رومانية أفريقية نبيلة، أبوه وثني، وأمه مسيحية (تلقَّبت بالقديسة مونيكا). وقد مات في عام ٤٣٠م في أثناء حصار الوندال — إحدى القبائل الجرمانية — لمقره الأسقفي. ولذلك فهو ابن العالم القديم بمعنًى، وأحد رجال العالم الوسيط بمعنًى آخر. ومن المؤكد أن هذا العالم قد عدَّه فيما بعدُ أعظم الآباء اللاتينيين.

إن أوغسطين إحدى الشخصيات الكبرى في الفكر الغربي، وهو يقف على قدمِ المساواة مع أفلاطون وأرسطو. ولا نستطيع في كتابٍ كهذا أن ننصفه، وإنما يجب أن يُقرأ مباشرة، على الأقل في «اعترافاته»، وهو سيرة حياته بقلمه، وهي من السِّير القلائل التي بقيت من العالم القديم. وبفضل هذا الكتاب، وبفضل بقاء كتاباته الجدلية كلها التي كتبها عرَضًا، وبفضل كتابه «مدينة الله»، ذلك العمل العظيم المنظم، نستطيع أن نتعرف أوغسطين كشخص أحسن من معرفتنا بأية شخصية أخرى في العالم القديم. وهو كثير التناقض، كثير الالتواء والالتفاف، لأنه كان شخصًا عظيم الموهبة، متأثرًا بدنيًّا الثقافة الرومانية المنحلة. وإن المرء ليميل إلى الاعتقاد بأنه اعتنق المسيحية باعتبارها المبدأ الوحيد السليم المتكامل في عالم مضطرب — وبعبارة أخرى يميل المرء إلى الاعتقاد بأن هذا الرجل الذي ينحدر من الرجال المهذبين العمليين المتأثرين بالرومان كان مخلصًا للتقاليد الرومانية المتزنة الدنيوية القائمة على الإدراك العام السليم. ولكن أوغسطين — مع ذلك — كان يجري فيه الدم الإغريقي وإن يكن رومانيًّا. ويستطيع المرء أن يتبين لديه كذلك بنفس الوضوح دافعًا عاطفيًّا، قويًّا، وتعمقًا في الأغوار استمد منه أوغسطين بطريقةٍ ما الهدوءَ الإلهي المعجِز. ومهما يكن من أمر فقد اختبر أوغسطين قبل تحوُّله إلى المسيحية أكثر الملذات الحسية، وكثيرًا من أسباب العزاء الروحاني في دنياه، بما في ذلك مذهب مانيكان والأفلاطونية الجديدة.

وإنا لنلمس في أوغسطين الأسقف المسيحي هذا الصراع الشاذ، أو هذا التوتر بين الجسد والروح، وهو صفة مسيحية، ولكن الجسد لم يَعُد يجذب أوغسطين إلى الانغماس في الشهوات، وقد باتت الدنيا عالَمًا يستطيع الأسقف — بل وينبغي له — أن يتناوله، وأن يعاون في تنظيمه، ويعاون في إنقاذه من شرور الفوضى، وقد كان لدى أوغسطين — كما كان لدى بولس — شفاء للنفوس لا يكل، وكان رجلًا عمليًّا ينهمك في تفصيلات الأمور الجارية التي لا حصر لها. ويجب أن نلاحظ أن الدنيا في التفكير الصوفي المحض كمكانٍ لا بد من تطهيره هي أقرب إلى غواية الشيطان بسورة أدق وأخطر منها إلى أن تكون مكانًا يتمرغ فيه المرء. ومع ذلك فإنا إذا نظرنا من خارج هذا التفكير الصوفي، وجدنا أوغسطين نوعًا من المتصوفين، وهو نوع صادق تمامًا. ولم تكن طريقته في التطهير عملية، تؤدي إلى التقدُّم فيما يبدو، وإنما كان يرى أن واجبه الأبدي المستحيل هو التطهير الروحاني الكامل. كان أوغسطين لا يهبط إلى مدينة الأرض إلا لكي يجعلها مدينة الله، ومن الواضح أن هذه النظرة إلى العالم الآخر لم تتسلط عليه وهو يؤدي واجباته اليومية، وإلا لما بقي أسقفًا لهيبو، ولكنها — برغم ذلك — أساس لمذهبه، وهي التي تضعه في المكانة التي يتميز بها في التفكير المسيحي.

ونستطيع أن نذكر هنا ثلاثة أمور عن هذا العمل الضخم: أولها، أن عمل أوغسطين كله عمل مركَّب موسوعي؛ فقد مسَّ كلَّ ما يتعلق بالمذاهب تقريبًا، واستطرد في التفصيل الشديد في الأمور الهامة. ونظرته من أكثر الوجوه تتوسط التجربة المسيحية اللاتينية بدرجةٍ تجعلها صالحة لأن تكون أساسًا للأرثوذكسية في العصور الوسطى؛ فلقد كان أوغسطين فيما يتعلق بالتثليث، وبالتقديس — وبخاصة فيما يتعلق بمعالجة المأساة المسيحية، مأساة الخطيئة والخلاص، بطرق شتى — مصدرًا وأساسًا يدعو إلى الإعجاب والتقدير.

والأمر الثاني، هو أن مؤلَّف أوغسطين العظيم «مدينة الله» قد وضع وجهة النظر المسيحية، أو علم الكون في المسيحية، في صيغةٍ كانت تجتذب دائمًا أهل الغرب بشدة، وهي صيغة تعبِّر عن فلسفة للتاريخ؛ ذلك أن أوغسطين لم يجعل المسيحية مجرد دراما، وإنما تقدُّمًا عبر الزمن. وقد كتب «مدينة الله» من ناحية؛ لأنه أراد أن يَرُدَّ على التهمة الوثنية الشائعة بأن ضَعْف الإمبراطورية الرومانية الآخذ في الظهور الشديد إنما يرجع إلى عقيدة المسيحية بوجود عالم آخر، بل ربما يرجع إلى مجردِ ما في المسيحية من سوء. ولم يجد أوغسطين مشقة في إثبات أن كثيرًا من المدن والإمبراطوريات قد انحل وسقط قبل وحي المسيحية بزمن طويل؛ فإن من طبيعة المدن في هذه الدنيا أن تزول، وليست هناك مدينة أبدية إلا «مدينة الله». ولم تظهر هذه المدينة بعدُ على الأرض، بالرغم من أنَّا قد وُعدنا بها في هذه الدنيا، ولكن الله قد كشف لنا عن وجودها، وهيَّأ لنا جميعًا عن طريق ابنه يسوع فرصة المواطنة فيها. غير أن مدينة الأرض الأخرى سوف تعيش، والمدينتان في حرب أهلية أبدية حتى تنفصلا أخيرًا وإلى الأبد في يوم الحساب. ولا ينقسم بعد ذلك المواطنون فيهما بإمكان التحوُّل من مدينة إلى أخرى؛ فمن يرضى عنهم الله يباركون إلى الأبد، ومَن يغضب عليهم يُعذَّبون إلى الأبد.

والأمر الثالث — كما يبدو لرجلٍ من الخارج على الأقل — هو أن هناك عند أوغسطين جانبًا يدعو دائمًا إلى الهرطقة، وهي هرطقة مَن يعتقد الكمال، وهذا الجانب من عمل أوغسطين يظهر بوضوح فيما قد يكون أقوى مبادئه الدينية، وهو مبدأ القدرية، أو الحتمية. وقد اكتسب هذا المبدأ حدة عندما اصطرع مع بلاجيوس، وهو راهب بريطاني كان يدافع عن حرية الإرادة بدرجة يجعل الدفاع نوعًا من أنواع الهرطقة. والمشكلة في أساسها من أقدم المشكلات التي واجهت التفكير الإنساني، وهي مشكلة حرية الفرد في الاختيار إزاء نوع من أنواع الحتمية. وقد كانت المسيحية دائمًا تجد مشقة في اعترافها بأن الكائنات البشرية تستطيع أن تختار اختيارًا حرًّا (أي تمتلك حرية الإرادة)، وذلك على الأقل لأن مثل هذه الحرية تنم عن الإقلال من السلطان المطلق الذي تعزوه المسيحية إلى الله. كيف يتسنَّى لدودة كالإنسان أن تريد شيئًا لم يرده الله؟ إن الله هو كل شيء حرفيًّا، بما في ذلك أفكاري وأفكارك، ورغباتي ورغباتك. وهو الذي خلق مدينة الله ومدينة الأرض، وله الحكم فيهما، فإذا أصبح بعضنا في الواقع مواطنين في مدينة الله، فليس مرد ذلك إلى أننا نملك القوة لكي نتجنس بجنسية هذه المدينة — إذا جاز هذا التعبير، وإنما مرده إلى أن الله منذ البداية قد أراد لنا أن نكون مواطنين، ولأنه وهبنا نعمةً لا تُقاوم. وهذه الهبة، هبة النعمة — وهي هبة ليس بوسع إنسان أن يكسبها، أو حتى أن يستحقها بمعنًى ما — هبة حرة من الله للمختارين من عباده، وهي تمكنهم من الخلاص؛ أي من التخلُّص من عواقب الخطيئة الأولى. ويستطيع الرجل العادي أن يتعطش إلى النعمة، وأن يدعو الله أن يهبها إياه، ولكن الأمر في ذلك لله، بحكمته المطلقة التي أُبرِمت من قبل كل أمر في كل زمان.

كل هذا منطق طيب (ما دمتَ تفترض وجود إله على كل شيء قدير)، وهو كذلك منطق طيب للعواطف؛ لأن الخضوع التام لمثل هذا الإله عند من تهزهم العواطف إن هو إلا محو الذات، أو السلام. وقد استنفد الناس عقولهم في وضع الاستعارات التي يعبِّرون بها عن هذا الشعور. وقد سبق لي أن استخدمت إحداها، عندما شبهت الإنسان بالدودة. إلا أن هناك — مع ذلك — بعض المشكلات التي تعترضنا في هذه المبادئ الحتمية، وبخاصة من وجهة نظر أولئك الذين يجاهدون في سبيل الإبقاء على سير الأمور في هذه الدنيا. وليس أوضح هذه المشكلات هو أكثرها شيوعًا بأية حالة من الحالات، وإن تكن هي المشكلة التي كانت تبعث القلق دائمًا في نفوس الأرثوذكس المعقولين، وتلك المشكلة هي هذه: إذا كان الله قد قدَّر كل شيء من قبل فلماذا لم يقدِّر للإنسان رغبته في شرب الخمر، وفي السرقة، وفي الزنا؟ وإذا لم يكن الإنسان حرَّ الإرادة فكيف يتحمل أية مسئولية خلقية؟ إن الله هو المسئول عن كل شهوات الإنسان، فكيف يستطيع أن يقاومها، ما دام في مقاومتها إنما يقاوم الله؟!

والواقع أن هذا موقف قلما كان يقفه أحد من الناس. وحقيقة الأمر أن أولئك الذين يعتقدون في القدرية اعتقادًا جازمًا يتصرفون كأن كل لحظة من لحظات حياتهم ليست إلا قرارًا ضخمًا لاتباع الصواب والابتعاد عن الخطأ. غير أن التهديد — عقلًا — بعدم المسئولية الخلقية يحلِّق فوق كل مبادئ الحتمية، وفي الطبيعة البشرية العادية شيء يتصل بالعقيدة التي يصل إليها المرء بإدراكه العام في واقعية الاختبار الفردي، أو في حرية الإرادة. والكنيسة الكاثوليكية ذاتها هي من الناحية العملية شبه أوغسطينية في هذه النقطة؛ فهي تقبل ضرورة الحتمية المفزعة بسبب عظمة الله التي لا تُحَد. ومن الواضح أن الإنسان لا يستطيع في الواقع أن يقاوم الله، ولكنَّا يجب أن نعزو إلى الإنسان نوعًا من المسئولية الخلقية المفوَّضة إليه لكي تتحقق المأساة التي يريد الله أن تحدث فوق هذه الأرض حتى يكون الجهاد واقعيًّا.

وفي الحتمية المتطرفة على كل حال خطرٌ آخر على الأرثوذكسية أكثر شيوعًا. والظاهر أن فكرة وجود قوة عظمى لا تُقاوم «تبعد الأمور عن واقع الأشياء الواضح العادي المبتذل» لها جاذبية عظمى لأصحاب الميول الشديدة نحو العصيان على بيئاتهم. ولم يكن أسقف هيبو دائمًا بأية حال من الأحوال في مثل هذه الحالة من العصيان؛ إذ كان يعتقد أن إرادة الإنسان الحرة تتفق ومعرفة الله المطلقة السابقة — ولكن أوغسطين المتصوف، أوغسطين الذي يحب الله في حماسة شديدة، كان بالفعل عصيًّا. ويبدو من المحتمل بدرجةٍ عجيبة أن الرجل الذي يريد ألا تكون الدنيا كما هي يؤمن بأنه يعرف كيف ولماذا بالضبط لا بد للدنيا من أن تتحول إلى شيء آخر. والمصلح — في كثير من الأحيان ولا أقول دائمًا — يريد أن يعرف بأن خطته هي خطة الله، أو خطة المادية الجدلية. ومما له دلالته بالتأكيد أن اثنين — بعد أوغسطين — من أكبر مؤيدي الحتمية الصارمة، وهما كالفن وكارل ماركس، كانا كذلك قائدين من قواد الحركات الإصلاحية الكبرى، حركات من وحي احتقار المألوف، والمريح، ورتابة الحياة اليومية، فوق كل شيء، وفي الكاثوليكية ميل من جانب الجماعات الإصلاحية إلى الرجوع إلى أوغسطين، كما أن الجماعات الرجعية تعود إلى سنت توماس أكويناس.

ومن أوغسطين يمتد خطٌّ — معتم مضطرب في أول الأمر — يؤدي إلى أوج الفكر الرسمي في «المذهب المدرسي» في العصور الوسطى. وهذا المذهب المدرسي نظام من التفكير ناضج، وقد تم نضجه في عصرٍ من عصور الثقافة الغربية العظمى. والمؤلفات الأصيلة فيه عديدة، وقد حُفِظت حفظًا جيدًا. والتعليق الحديث عليها مسهب مطول. غير أن سعة هذا الكتاب لا تُتيح لنا أكثر من الإشارة إلى بعض النقاط المعينة الكبرى ذات الأهمية في المذهب المدرسي، آملين أن يرجع القارئ مباشرة إلى بعض ما كتب المدرسيون.

ويجب أن نذكر أولًا أن أساس الفكر في العصور الوسطى يمثِّل قصة لها جاذبيتها في ذلك النوع الخاص من التاريخ الفكري الذي يهتم بانتقال المعرفة، وبالدراسة المعقدة للمخطوطات، والترجمات، وتبادل الإخصاب الثقافي. وقد أُضيفت إلى مجموعة المواد الثابتة برغم صغرها، والتي احتفظ بها الغرب خلال العصور المظلمة — وبخاصة في القرن الحادي عشر — كمية ضخمة من المواد المترجَمة عن اللغة العربية؛ فالعرب في عهد محمد وخلفائه توغَّلوا في فتوحاتهم في الجزء الغربي من الإمبراطورية الرومانية، ولما انتصف القرن الثامن كانوا قد اجتاحوا إسبانيا وصقلية وجنوب إيطاليا، واحتفظوا بهذه المنطقة العامة خلال القرون القلائل التالية. وفي الحق أنهم لم يَخرجوا كلية من إسبانيا حتى نهاية العصور الوسطى. وقد أُغرم المؤرخون المعارضون للأكليروس طويلًا بموازنة الحرية العقلية وقوة النفوذ عند العرب في هذه القرون بالسبات والظلمة التي سادت المسيحيين في الغرب. ومن الحق أن العرب فيما بين عامي ٧٠٠م و١١٠٠م كانت لديهم طبقة مفكرة ناشطة، تهتم — فوق كل شيء — بالعلم والفلسفة. وسوف نعود بعد قليل إلى عملهم العلمي. والواقع أنهم لم يكونوا من الناحية الفلسفية مبتكرين بدرجةٍ تسترعي النظر، ولكنهم اتصلوا بالأصول الإغريقية، وبخاصة بأصول أرسطو التي كانت أفضل وأكمل مما كان متيسرًا للغرب، وقد تُرجمت هذه الأصول إلى اللغة العربية، ولما خرج الغرب من العصور المظلمة، وزادت الحروب الصليبية من الاتصال بين المسيحيين والمسلمين، ولما نمَت — بصفة خاصة — جماعات العلماء التي وصفناها آنفًا وتعطشت لمزيد من الكتب، قام المترجمون بنقل هذه المؤلفات الإغريقية من العربية إلى اللاتينية. ويُقال إن أشهر هؤلاء المترجمين، جيرارد الكريموني، الذي كان يعمل في توليدو بإسبانيا، قد نقل من العربية ما يقرُب من تسعين مؤلفًا منفصلًا.

وإذن فلقد كانت هناك المادة الأساسية للمجموعة الثلاثية والمجموعة الرباعية من العلوم، كما كانت هناك مكتبات الكتب الجديدة سريعة النمو، من اليونانية والعربية، ومن الهندية في النهاية فيما يتعلق ببعض كتب الرياضيات، كلها الآن ميسورة باللاتينية. وكانت هناك طبقة كبيرة من النساخين الرهبان المتخصصين، كما كانت هناك مكتبات طيبة، وجماعات علمية، برغم عدم وجود المطبعة. والواقع أن المفكرين العاملين في هذه الجماعات كانوا منذ القرن الحادي عشر يضيفون إلى رصيد المعرفة، ويضعون أسس الفلسفة في العصور الوسطى. ولكي ندرك الروح العامة لهذه الفلسفة دعنا ننظر إلى المشكلة التي ربما كانت أم المشكلات في ذلك الوقت، وأعني بها تلك المشكلة القديمة؛ مشكلة الكليات.

والمشكلة، التي لمسناها عند أفلاطون في صورة أخرى، تتركز عند مفكري العصور الوسطى في واقعية الصورة النوعية. والحصان مثال كثيرًا ما يُذكر في هذا الصدد. يرى أحد الطرفين (الاسمي) أنه بالرغم من وجود عدد كبير جدًّا من الخيول المتفرقة، وكلٌّ منها واقعي، إلا أن الصورة النوعية (التي يُعبَّر عنها ﺑ «الحصان») لا تقابل شيئًا واقعًا، وليست سوى حيلة يبسِّط بها الناس التفكير، ليست إلا لفظة، أو قُل هي نوع من الاختزال الفكري. ذلك أنه بالرغم من أن دوبين ورانجر وسلفر وبيوسيفالوس هي في الواقع خيول فردية متفرقة — وهي حقيقة نعترف بها بإعطائنا كلًّا منها اسمًا خاصًّا — إلا أنه لا وجود لشيء مثل «الحصان عامة». والواقع أنه ليست هناك شجرة واحدة من شجر البلوط تشبه غيرها، ولكنا إذا أردنا أن نعرف هذه الحقيقة بإعطائنا كل شجرة من أشجار البلوط اسمًا خاصًّا بها كان ذلك علينا عسيرًا. وإذن فاسم النوع ليس إلا للتيسير، وهو ليس أمرًا واقعًا.

والطرف الآخر الذي يناقض هذه النظرة هو فكرة «الواقعي». كان الواقعي في العصور الوسطى يعتقد أن الخيول المفردة ليست إلا اقترابًا ناقصًا من الحصان الكامل، الحصان المثالي، وهو وحده الواقعي. ومن الحق — كما يعترف الواقعي — أننا في هذا العالم، عالم المحسوسات، نقابل عن طريق تجاربنا المستقبلة (إحساساتنا) خيولًا مفردة متفرقة فقط، ولكن قدرتنا على الارتفاع إلى فكرة «الحصان عامة» يجب — برغم هذا — أن تسوقنا إلى الاعتقاد بأن ما نعرفه عن طريق القدرة السامية على التفكير هو أصدق مما نتعلمه من التجربة الحسية وحدها. وإذن فالنوع — دون الفرد — هو الحقيقة العليا.

ولو أنا سِرنا مع المذهب الاسمي إلى غايته، وجدنا أنه من العسير أن نوفِّق بينه وبين المسيحية؛ فهو يميل إلى القول بأنه لا وجود قطُّ إلا لما أُدركه مفردًا، أو مثالًا يتصل بمعرفتي عن طريق حواسي أو إرهافها بالآلات؛ فالحصان، وورقة العشب، بل والميكروب — عندما اختُرِع الميكروسكوب بعد ذلك ببضعة قرون — هذه الأشياء واقعية عند صاحب المذهب الاسمي. ولكن الله، أو حتى الكنيسة منعزلة عن الأفراد الذين تتكوَّن منهم، إنه يتعذر على الاسمي المتطرف أن يجعل منهما أمرًا واقعًا حقًّا. والواقع أن المقتضيات المنطقية للمذهب الاسمي الذي ساد في العصور الوسطى وضع هذا المذهب في صفٍّ واحد مع ما أُطلق عليه فيما بعدُ المادية، أو الوضعية، أو المذهب العقلي، أو المذهب التجريبي.

وكذلك كان للمذهب الواقعي أخطاره من وجهة نظر الأرثوذكسية المسيحية وإن تكن أقل شدة وأقل وضوحًا. نعم إن المذهب الواقعي قد عُني بالله وبالكنيسة، كما عُني بالعدالة وبكل الأفكار الخلقية الأخرى. ولكنه تعرَّض — كغيره من مذاهب العالم الآخر — لخطر المغالاة على يد أحد المفكرين المنطقيين — أو المبالغين في التصوف — إلى حد إنكار ما يشق على الرجل العادي أن يفر منه، هذا العالم المبتذل، عالم الطعام، والشراب، والعمل، والحساب، وغير ذلك من ضروب النشاط اللاأفلاطونية. وقد كانت الكنيسة الكاثوليكية فيما يقرُب من ألفي عام شديدة الحفاوة بالعامة من الرجال والنساء، واهتمت بألا تبالغ في الابتعاد عن عقولهم وقلوبهم.

فالمذهب المدرسي إذن مذهب توفيق من ناحيةٍ ما. وقد سُمِّي أعظم المدرسيين (أكويناس) «أول الأحرار»، كما سُمِّي الرجل السياسي البريطاني المعتدل المحب للتوفيق في القرن الثامن عشر. وإنما ينبغي أن نؤكد — برغم هذا — أن الفكر الرسمي في العصور الوسطى كان يفسح في المجال لجميع ألوان الفلسفة — ربما مع استثناء مذهب الشك الذي كان ينبذه المتعلمون بالإجماع تقريبًا بالرغم من ظهورها أحيانًا عند رجلٍ مثل الإمبراطور فردريك الثاني. ولا ينبغي للمرء أن تضلله مصطلحات مثل «وحدة العصور الوسطى» أو الرأي الذي يقول بأن الفرصة — منذ ارتفاع الكنيسة في الغرب إلى الذروة — لم تُتَح للجدل في القضايا الفلسفية الأساسية. بل إن المدرسيين — على نقيض ذلك — كانوا يتبارون على منصة الخطابة وفي الكتابة بإخلاص لا يقل عما وُجد في أي عصر آخر عظيم من عصور الفلسفة الغربية. وأحد هؤلاء، أبيلارد — على سبيل المثال — كان من الاسميين المتشددين، وقد أُعجب به كثيرًا الوضعيون المحدثون الذين يمقتون العصور الوسطى عامة. وعلى عكس ذلك نجد أن أولئك المحدثين الذين يعشقون العصور الوسطى لوقارها المفروض ولاتجاهها نحو العالم الآخر يمقتون أبيلارد على وجه العموم. والواقع أنك تستطيع — إن عرفت استجابة أحد الأفراد إلى أبيلارد — أن تتنبأ باستجابته لكل ثقافة العصور الوسطى. ولكن أبيلارد كان كشخص — في كثير من الأمور ذلك الفيلسوف المحتج الخالد — مزهوًّا منازعًا، موهوبًا في الجدل بدرجة عجيبة، معلمًا اجتذب إليه أتباعًا متحمسين له، ينقصه التواضع المسيحي، يميل بطبعه إلى الوقوف في وجه الاستقرار، والجمود، والاعتدال، والملل، والنجاح في هذه الدنيا. وإنك لتتوقع مثل هذا المزاج في المجتمعات الحرة؛ فهذا سقراط، أو توم بين، أو برتراند راسل، ولكنك تُدهش أن تجده بكل هذا البروز في العصور الوسطى، ما لم تكن بعيدًا عن الآراء الأمريكية الشائعة في هذا الصدد. وتعليل ذلك أن العصور الوسطى في الغرب كانت في أوجها مجتمعًا من المجتمعات الحرة. وفي هذا المجتمع نال أبيلارد التكريم بارتفاعه إلى مكانة مرموقة، وقد أحس بالطبيعة معارضة الناس الذين هاجمهم هجومًا مريرًا. وعامله خصومه في الواقع معاملة سيئة، ولكنه لم يكفَّ عن الكلام.

وفي بداية التفكير المنظم في العصور الوسطى نجد في القرن التاسع سكوتس إريجينا، وهو أحد طلائع الواقعية، مفكرًا يقترب جدًّا من الأفلاطونية الحديثة، حتى لقد وجدته العصور المتأخرة شديد الخطورة. وفي نهاية القرن الثالث عشر نجد في دنز سكوتس مثالًا آخر من مخاطر الواقعية المدرسية؛ لأن هذا الفيلسوف لم يرضَ البتة عن الحجج الناقصة التي يُثبِت بها بعضهم وجود الكمال. وقد كتب نقدًا لاذعًا لسابقيه، الواقعيين منهم والاسميين. وصاغ دنز سكوتس حججه الخاصة التي يثبت بها موقف الواقعية، وأصبحت مؤلفاته مثالًا يُضرب للمبالغة في الدقة، وأيَّد بعمله العيوب العامة التي لحقت بالمذهب المدرسي في نهاية العصور الوسطى. وكان وليام الأوكهامي — من ناحية أخرى — أشهر الاسميين المتطرفين. وقد وجد أن موقفه الفلسفي جعل من المستحيل عليه أن يَقبل معقولية الكثير من المبادئ الأساسية للكنيسة. ومِن ثَمَّ اختار أوكهام أن يعتقد في هذه المبادئ على أية حال من الأحوال — شأنه في ذلك فيما نحسب شأن الرجل الإنجليزي الطيب؛ لأنه كان كذلك — وإذا نحن لجأنا إلى لغة رسمية بدرجةٍ فوق ذلك قلنا إنه تخلَّى عن المحاولة التي تميَّزت بها العصور الوسطى، وأقصد بها التدليل على أن حقائق المسيحية يمكن إثباتها بالعقل البشري، وارتد إلى موقفٍ يقترب جدًّا من موقف أحد الآباء الأولين، الذي قال: «إني أُومن «لأن» هذا مستحيل.»

وقد وقف مثل هذا الموقف منذ البداية — بطبيعة الحال — كثير من المتصوفين المتحمسين. وفي غضون الفكر الوسيط نجد كثيرًا من هذه المعارضة للمعقول عند الناسك، والتائب، والرجل البدائي الخيالي. غير أن تصوُّف العصور الوسطى لم يكن كله من لون واحد بأية حال من الأحوال؛ فإن أكثر عظماء المتصوفين لم يكونوا في الواقع من المعارضين للمعقول بمعنى معارضة استخدام العقل استخدامًا عاديًّا باعتباره شرًّا أو عديم الأثر. إنما كانوا يعيشون فوق مرتبة الحساب، وكانوا من الناحية الروحانية على مستوًى جعل الكثيرين منهم قديسين. ويُعتبر أشهر كتاب وسيط في التقوى، وعنوانه «تقليد المسيح» الذي يُعزى إلى توماس آكمبس، مثالًا رائعًا للتصوف الكامل، الذي يوفِّق ويواسي بدلًا من أن يَخُزَّ ويَنْخُس. وقد رأينا في الفصل السابق أن عدم الوثوق بالعقل إحدى سمات المسيحية الكامنة فيها. وليس من شك في أن انعدام الوثوق هذا ظاهر في عصر مسيحي جدًّا كالعصر الوسيط؛ فقد كان هناك آدم السنت فكتوري، وسنت برنارد، وسنت فرانسيس الأسيسي. وكان الدور الذي لعبه أولئك الذين عارضوا مناشدة العقل بالطريقة المدرسية طويلًا متنوعًا.

ولما بلغت ثقافة العصور الوسطى أوجها في القرن الثالث عشر كان هناك إذن تنوُّع وتلقائية في التفكير الفلسفي كذلك الذي لمسناه في العصر اليوناني العظيم. وكان هناك كذلك — مثلما كان في اليونان — اتزان، وتوسُّط ووسط ذهبي. وهذا الاتزان في العصور الوسطى هو المذهب المدرسي الناضج، وهو من أنجح الجهود لتخفيف التوتر بين هذا العالم والعالم الآخر، بين الواقعي والمثالي. وقد رجع المدرسيون الناضجون إلى العقل، ولكنه العقل الذي يعمل طبقًا لقواعد وضعها أصحاب النفوذ؛ نفوذ الكنيسة الذي يؤيده نفوذ أرسطو. ولم يكن العقل عندهم تلك القوة القلقة، الفاحصة، الساخطة، والجامحة في أساسها كما كانت في كثير من المواقف في التاريخ البشري — وربما كان فيه تاريخنا أيضًا. وقد ذكرنا أبيلارد مثالًا لهذا النوع من العقل الثائر تمامًا، بيد أن أبيلارد كان أبعد ما يكون عن المدرسي المجيد. إنما المدرسي المجيد يتصف بالتواضع الفكري الذي يبدو جبنًا في نظر الثائرين في الفكر.

ومن الأمثلة الجيدة لهذه القوة المتزنة، والتي تقوم على أساس من الفكر في التفكير الرسمي في العصور الوسطى، ما نجده في بعض المذاهب الدينية، التي أخذت شكلها النهائي في هذه السنين؛ فالعشاء الرباني مثلًا وضع بشكل صارم تلك المشكلة المسيحية التي لا تنتهي، مشكلة هذا العالم والعالم الآخر، وذلك في صورة الظاهر والواقع؛ فالعناصر لا يمكن أن تكون خبزًا ونبيذًا، ولكن لا مناص لها من أن تبدو في شكلها ومذاقها كالخبز والنبيذ. ومخرج الدار الآخرة من ذلك هو إنكار أن العناصر — بعد تقديسها — هي أي شيء بأي حال، سوى جسد المسيح ودمه. أما مخرج هذه الدنيا فهو قبول العناصر كخبز وخمر، والقول بأنها إنما ترمز للمسيح، وتجدِّد ذكرى المسيح عند مَن يتناولها. وهذا المخرج الثاني كان يبدو للكاثوليك الأرثوذكس دائمًا مخرجًا خطرًا؛ لأنه يستبعد المعجزة ويفتح لطرق العقل والإدراك العام مسالك أخرى. وبالرغم من أن الكنيسة الكاثوليكية كانت دائمًا تجد للعقل وللإدراك العام مكانًا، فإنها كانت تسعى دائمًا إلى أن تبقيهما في المكان الذي تراه ملائمًا لهما.

إن مذهب تحوُّل الخبز والنبيذ إلى جسد المسيح ودمه الذي كان من خصائص العصور الوسطى، والذي قبِله رسميًّا مجلس لاتيري الرابع في عام ١٢١٥م (وهو أحد المجالس الخمسة العامة في الكنيسة الغربية)، اتخذ — بعد عدة قرون من الجدل بين علماء الدين — وجهةَ نظر سليمة تنتمي إلى العالم الآخر، ولكنه احتفظ بدقائق الإحساس العام. إن للخبز والنبيذ «مادة»، وهي كيان أساسي أو صفة أساسية، ولهما «أغراض»، وهي الصفات التي نحسها ونراها ونتذوقها، والتي تعاوننا في الظروف العادية على أن نكتسب معرفة تقريبية بمادتهما. وبمعجزة القداس يحوِّل المسيح مادة الخبز والنبيذ إلى مادة جسد المسيح ودمه، ولكنه لا يحدث أي تغيير في الأعراض التي تبقى أعراض الخبز والنبيذ. ونحن لا نذوق إلا الأعراض، ولا نذوق المادة إطلاقًا؛ ولذا فنحن بالطبيعة عند التناول إنما نذوق ما نذوقه دائمًا على مائدة الطعام في المنزل، ولا يحلل الكيموي إلا الأعراض، وهو لا يحلل المادة قط. ومِن ثَمَّ فإن الكيموي الذي يحلل الخبز والنبيذ المقدس بغير ورع لا يجد تحولًا، بيد أن التحول قائم، وهو ذلك التحول المعجز من الخبز والنبيذ إلى الجسد والدم، الذي يتجاوز حواسنا، ولكنه لا يسحقها أبدًا.

وكانت مبادئ الخلاص الأولى تفتقر إلى العمق المنطقي والعاطفي، بالرغم من أنها لا تمثِّل من مخاطر الهرطقة الكبرى ما يمثله العشاء الرباني. كان آباء الكنيسة الأولى قد اطمأنوا إلى مذهب الفداء، الذي استرد بمقتضاه المسيحُ الإنسانَ من براثن الشيطان بما عانى على الصليب. وكانت هذه العقيدة مقبولة جدًّا عند عامة الناس، وشاعت إلى درجة كبيرة لعدة قرون. ولكن مثل هذا الفداء بدا للعقول المدققة أشبه بالتبادل التجاري. وذلك فوق أنه وضع الإله في مكانةٍ لا تليق بكرامته وقدرته على كل شيء. وقد أظهر القديس أنسلم في مبدأ التكفير تفسيرًا منطقيًّا أكثر قبولًا للطريقة التي أتى بها المسيح بالخلاص، وأنسلم هذا هو أول الواقعيين الكبار في العصور الوسطى، وربما كان أشد المفكرين في ميدان العلوم الدينية ابتكارًا في العصر الوسيط. قال إن خطيئة آدم ضد الإله لا يمكن محوها بأي نوع من أنواع المحاسبة التجارية، ولا يمكن قطْعًا محوها بأي تبادل تجاري مع الشيطان. إن الإنسان مَدينٌ لربه بالصلاح، ولكنه في حالة سقوطه لا يستطيع البتة أن يقوم بهذا الصلاح. وإنما يستطيع يسوع كإله أن يخطو الخطوة الأولى نحو سد الدَّين الذي سدَّه فعلًا كإنسان مكابد. كان يسوع بغير إثم، ربًّا وإنسانًا، ومِن ثَمَّ فقد كان بوسعه أن يكفِّر في حرية عن خطيئة آدم، أو قُل إنه كان بوسعه أن يخفِّف بشفاعته من غضب الله مع أبنائه، وهو غضب له ما يبرره. وقد حمل يسوع النقصَ طائعًا — وحمل الآلام التي تلازم النقص؛ لأنه كابد الآلام كإنسان — وذلك حتى يستطيع الناس أن يخطوا الخطوة الأولى نحو الكمال الإنساني، وهي الخطوة التي كانت تستحيل عليهم بغير هذا. وهذا مذهب دقيق، وهو عند كثير من أصحاب العقول الحديثة خِلْوٌ من المعنى. ولكنه محاولة لإرضاء عنصر التفكير عند الإنسان — وهي محاولة خطرة عند أولئك الذين يميلون بحماسةٍ نحو الإيمان بعالم آخر. وأقول مرة أخرى إنه من الأيسر لنا أن نردد ترتوليان ونقول إن يسوع يُخلِّص بطريقةٍ يجب أن تبقى دائمًا سحيقة لا يَسبِر غورها الإنسان الذي يربط بين الألفاظ في تفكيره.

غير أن هذه الطريقة لم تكن الطريقة المدرسية، ولم تكن قطْعًا طريقةَ أعظم المدرسيين، وأعني به سنت توماس أكويناس، الذي خلَّف لنا قدْرًا كبيرًا من الكتابة، بالرغم من أنه مات في سن التاسعة والأربعين. وكتابه: «بحث في معارضة الأمميين»، وكتابه الآخر: «بحث في قواعد الدين»، موسوعتان للمعرفة والفلسفة في العصور الوسطى، ولكنهما موسوعتان منظمتان، كل شيء فيهما منسَّق طبقًا لنظرة أساسية واحدة، وليستا مجرد معارف متنوعة، ضُم بعضها إلى بعض، كالموسوعة الحديثة، في ترتيب أبجدي. والنظرة الأساسية هي المسيحية الكاثوليكية الأرثوذكسية يعرضها واقعي معتدل (بمعنى هذه الكلمة في العصور الوسطى الذي استخدمناه في هذا الفصل)، منطقي مرتَّب لا يميل قطُّ إلى المبالغة حتى في المنطق، باحث عظيم اتصلت حلقاته بطريقةٍ ما بعالم الإدراك العام.

كان أكويناس يرى هذا العالم معقولًا، وإن لم يكن البتة موقرًا، سعيدًا، ميسرًا. وقد خلق الله هذه الأرض أصلًا كمكانٍ ملائم للإنسان الذي خلقه على صورته. ومن الجلي إذن ألا يتناقض مع خلقه أي نشاط بشري هام كالتفكير، ولا يمكن أن يعتبر في الواقع أي نشاط، من الواضح أنه من طبيعة الإنسان، في حد ذاته خطأ — نعم إن هناك احتمالات كثيرة يرتكب فيها الناس الأخطاء، والحياة فوق هذه الأرض نضال مستمر ضد قوى الشر الحقيقية. ولكن هنا يعطينا الله ابنه الأوحد، ويعطينا في الكنيسة التي أسَّسها هذا الابن فوق هذه الأرض مرشدًا لا يخطئ في تنفيذ مشيئته.

وإذن فلقد بدأ أكويناس بالعقلية الثابتة في الديانة المنزَّلة من عند الله، وبدأ بتلك الحقائق التي ننالها مباشرة من الله. وكل تفكيرنا — إذا أديناه صوابًا — طبقًا لأكويناس، إنما يثبت هذه الحقائق، ويعاوننا في حياتنا اليومية التي نحياها على تطبيقها. وقد وقف المذهب المدرسي وقفة ثابتة في تلك المشكلة — المسيحية الأبدية، مشكلة الإيمان ضد العقل (وأذكر هذه العبارة: إنني أُومن لأنه مستحيل). ليست هناك مشكلة؛ إذ ليست هناك معارضة بين الإيمان والعقل مفهومة فهمًا صحيحًا. فإذا ما ضم المرء حجة إلى حجة وانتهى إلى نتيجة تناقض ما كان يعتقد فيه الكاثوليك الأرثوذكس، فهو آثم، وإثمه استخدام منطق خاطئ، ويمكن باستخدام المنطق الصحيح أن نتبين على الفور موطن خطئه. والواقع أن توماس أكويناس — كأكثر المدرسيين المتأخرين — كان يستمتع بالتلاعب بالحجج الموضوعة ضد العقائد المقبولة، ثم يقابل بين هذه الحجج وبين مجموعة أخرى من الحجج أشد براعة تتجاوز قليلًا مقتضيات الإيمان البسيطة. ثم يوفِّق بين هذه وتلك بمهارة عقلية تذكِّر بقدرة الرياضي المدرَّب على السيطرة على التوقيت والتنسيق. وليس في هذا التشبيه ما يضلل؛ فالرياضي — كالمفكر المدرسي — يجب أن يتجنب الإفراط والتفريط، والتبكير والتأخير، ويجب أن يوجه القدْر الصحيح من طاقته نحو المكان الصحيح.

والمنطق الصحيح عند أكويناس هو طريقة أرسطو بعد إحيائها وفهْمها فهمًا تامًّا مرة أخرى. وقد بينَّا أن أرسطو نفسه كان بطبيعته رجلًا يقف وسط الطريق؛ فهو لم يستطِع أن يقبل العالم الآخر المثالي لأفلاطون، ولم يستطِع البتة أن يقبل هذه الدنيا كما هي. وقد اتفقت مشاعر أرسطو نحو الاستهداف في الحياة البشرية اتفاقًا تامًّا مع ميول المسيحية نحو الإصلاح. وكذلك اتفقت طريقة أرسطو في التفكير، التي تبدأ بالحقائق البينة، والتي يتفرع عنها باستمرار نمطٌ من الفروض الواضحة المنسقة، وذلك بطريقةٍ طبيعية للإنسان فيما يبدو، أو للإنسان في الغرب على الأقل — اتفقت هذه الطريقة اتفاقًا تامًّا مع قبول أتباع المذهب المدرسي لحقائق الوحي وعادات التأمُّل عندهم. وقد عرفتم أن هذه الطريقة في التفكير يُشار إليها بالاستنباط، ويكاد يكون من المؤكد أنكم قد انسقتم إلى موازنتها بطريقةٍ أخرى للتفكير، نالت التقدير بانتصار العلم الحديث، وعُرفت بالاستقراء، وحكمتم بفضل الطريقة الثانية على الطريقة الأولى. والواقع أن هذه المباينة بالغة التبسيط — إن لم تكن خاطئة — وسوف نعود إليها عندما نتحدث عن شخصية فرانسيس بيكون العظمى.

أما الآن فيكفينا أن نذكر أنك أذا طبقت طريقة الاستنباط هذه من نقطة بداية ثم سرت بضع خطوات في صفٍّ واحد دون الرجوع إلى الوقائع (أو التجربة الحسية) فالراجح أنك سوف تصل إلى نتيجةٍ لا تطابق الوقائع. غير أن هذا لا يتحتم بالضرورة أن يكون هدامًا إلا إذا كنت من ذلك الضرب من الناس الذي نعرفه بالعالم التجريبي، أو إلا إذا كنت تحاول — كالطبيب الباطني أو ميكانيكي السيارات — أن تؤدي عملك على أساس التفكير العام كما يفعل العالم. وقد تريد — مثلًا — كما يريد المدرسيون، أن تبحث عن أنماط من السلوك تشجِّع رغبتك في العيش حياة طيبة. وقد تحب أن تجد شيئًا أفضل من الوقائع. وقد تحب أن ترى إلى أين يؤدي بك عقلك كما يفعل الرياضي. وفي كل ذلك وفي أغراضٍ كثيرة أخرى يخدمك الاستنباط خدمة كبرى، وبخاصة إذا رجعت من تفكيرك — كما يفعل المدرسيون — بين الحين والحين على الأقل إلى حقائق السلوك البشري.

ومن المؤكد أن أكويناس كان يستند إلى قاعدةٍ لم يبتعد عنها قطُّ كثيرًا، حتى في جدله الذي بلغ غاية الدقة و«المدرسية». وتلك القاعدة هي مجموعة حقائق الديانة المسيحية الملهمة، يكملها الإدراك العام والتجربة في كثير من نواحي العلاقات البشرية، ويفسرها عقل معتدل في طبيعته، يميل إلى التوفيق، ويستطيع الوصول الكامل إلى الآباء، وإلى الرجال المدرسيين الأوائل، وأرسطو خاصة، الذي كثيرًا ما يُشار إليه في «البحث» بمجرد الفيلسوف.

وإليك مثالًا من طريقة أكويناس وعقله. وهو جزء من «البحث في أصول الدين» قليل الأهمية نسبيًّا، ولكن من اليسير لنا أن نتابعه، كما أنه يبين في وضوحٍ أشدَّ مما تبين الأجزاء الأعظم، كالجزء الخاص بحرية الإرادة، كيف كان أكويناس قريبًا جدًّا من الإدراك العام. في هذا الجزء يناقش الشروط الخاصة ﻟ «حالة الإنسان الأولى»، حالة البراءة قبل «السقوط». وهنا يلقي سؤالًا — وهو سؤال تقليدي في الأدب، بالرغم من غرابته في نظر المحدثين — وهو: كيف كان الأطفال في حالة البراءة؟ بل نراه يلقي السؤال في صيغة أخص، فيقول: هل وُلدوا بقوة بدنية كاملة تمكِّنهم من استخدام أعضائهم استخدامًا كاملًا عند الميلاد، أم هل كانوا كأطفال اليوم، كائنات متحركة عاجزة عند ميلادها؟ قد يتصور المرء أن أية صورة من صور العجز — في جنات عدن — تحطُّ من قدْر الكمال، وما دام الله قد جعل الحياة البشرية شديدة الاختلاف عما صارت إليه فيما بعد، فلماذا لم يخلق الطفل البشري قويًّا كاملًا منذ البداية، بل ولماذا لم يشأ أن يُولد الرجال والنساء بالغين؟ والواقع أن فكرة الكمال المطلق في العالم الآخر تميل إلى أن تبعد جنات عدن عن صفات الأرض بقدْر المستطاع، ولم يكن كذلك أكويناس؛ فقد كانت حتى عدن عنده «طبيعية» بقدْر ما يستطيع تصويرها.

«بالإيمان وحدَه ندرك الحقائق التي تعلو على الطبيعة. وما نعتقد فيه يستند إلى الرواية، ومِن ثَمَّ فلا بد لنا عند افتراض أمرٍ من الأمور من الاسترشاد بطبيعة الأشياء، إلا فيما يتعلق بتلك الأشياء التي تعلو على الطبيعة، والتي تصل إلى علمنا بالإرادة السماوية، وواضح أنه من الطبيعي ومن الملائم لمبادئ الطبيعة البشرية ألا تكون لدى الأطفال قوة تكفي لاستخدام أعضائهم بعد الميلاد مباشرة؛ وذلك لأن الإنسان بالنسبة إلى الحيوانات الأخرى له بالطبيعة ذهن أكبر. وعلى ذلك فمن الطبيعي بالنسبة إلى ليونة الذهن الشديدة عند الأطفال ألا تكون الأعصاب — وهي أدوات الحركة — معدة لتحريك الأعضاء. ثم إن الكاثوليك — من ناحية أخرى — لا يشك في أن الطفل يمكنه بقوة السماء أن يستخدم أعضاءه بعد الميلاد مباشرة.»

وطبقًا لما جاء في الكتاب المقدس (في سِفر الجامعة، الإصحاح السابع، العدد ٣٠) «صنع الله الإنسانَ مستقيمًا.» وهذه الاستقامة — كما يقول أوغسطين — تنحصر في خضوع الجسد للروح خضوعًا تامًّا. ولذلك فكما كان من المستحيل في الحالة البدائية أن نجد في الأعضاء البشرية أي شيء تنفر منه إرادة الإنسان المنظمة، فكذلك كان من المستحيل على تلك الأعضاء أن تعجز عن تنفيذ توجيهات الإرادة. وإرادة الإنسان تكون منظمة حينما تميل إلى الأعمال التي تلائم الإنسان. غير أن الأعمال عينها لا تلائم الإنسان في كل مرحلة من مراحل الحياة. ومِن ثَمَّ وجب علينا أن نصل إلى هذه النتيجة وهي أن الأطفال لا يصح أن تكون لديهم القوة التي تكفي استخدام أعضائهم بقصد أداء كل ضرب من ضروب العمل، فيما خلا تلك الأعمال التي تلائم حالة الطفولة، كالرضاعة وما إليها.

وفي هذه الفقرة التافهة في ظاهرها نجد الكثير مما يمثِّل التوماسية — كالسيادة الواضحة التي تُعطى ﻟ «الحقائق التي تعلو على الطبيعة»، التي نتمسك بها بالإيمان ونصل إليها بالنص السماوي، وقبول القدرة السماوية الكاملة قبولًا تامًّا، والاعتقاد في أن الله عمومًا يؤثِر أن يجعل الطبيعة تسير في مجراها، وأن هناك «لياقة» في أعمال البشر تتفق وقوانين الطبيعة التي تمكن ملاحظتها، وأن قوانين الطبيعة هذه هادفة في أساسها من حيث حدود الحياة البشرية، ثم أخيرًا الرجوع إلى النص، وهو في هذه الحالة نص العهد القديم وأوغسطين.

ومن المؤكد أن قراءة أكويناس تشق على الأمريكي العادي في القرن العشرين، وإن تكن ليست أشق مِن كانت، أو من أرسطو نفسه. ويرجع جانب من المشقة إذن إلى أن أكويناس فيلسوف محترف له قدرة فنية فائقة، ولديه اهتمام الرجل الفني في الدقة والتحديد، مما لا يتوافر عند الهواة. والواقع أنه في «البحث في أصول الدين» خاصة قد كتب بأبسط ما يستطيع؛ لأنه وجَّه الخطاب إلى الطلاب الجادين، ولم يوجهه إلى زملائه الأساتذة وحدهم. وليس من شك في أن جانبًا من المشقة التي يلاقيها رجل حديث غير مؤهل في قراءة أكويناس تنحصر في الفروض شديدة الاختلاف التي كان يفترضها الفيلسوف في العصر الوسيط، كما تنحصر في غرابة الجو الفكري (بالنسبة إلينا) في العصور الوسطى. وسوف نعود إلى هذه الغرابة فيما بعدُ في محاولة للتعبير عن «روح العصر» في العصور الوسطى.

ومن البين بالرغم من هذه المشاق أن أكويناس ينتمي إلى أصحاب النُّظم الفلسفية العظام في الفكر الغربي. ونظامه نظام جميل البناء، استحق الثناء لهذه الميزة فيه، حتى من الوضعيين والماديين المحدثين — وإن يكن مشوبًا بشيء من الحقد — وهم أولئك الذين يخالفون كلَّ ما يعتقد في صحته المذهب المدرسي تقريبًا. وهو نظام يضع — في جملته — الإنسان موضعًا مريحًا، وإن لم يكن مريحًا بدرجة زائدة في عالمٍ يمكن للعقل البشري أن يدركه، في عالم لا تستطيع الإرادة البشرية حقًّا أن تحوره كل التحوير، ولكنها تستطيع أن تتلاءم معه، عالم أكويناس عالم مسيحي، ينتمي إليه الإنسان، ويطمئن إليه. ونظام أكويناس أخيرًا نظام متزن بدرجةٍ مذهلة، يقف موقفًا وسطًا في كل مشكلات الفلسفة الكبرى، ويقف هذا الموقف في يسر المهارة الفائقة. وهنا نضع مرة أخرى صورة الرياضي، ونذكر ذلك الذي يمشي على الحبل المشدود. ولكن أكويناس لم يكن قطُّ متظاهرًا، ولا يبدو قطُّ كأنه يجاهد في سبيل بلوغ هذا الطريق الوسط، هذا الطريق الوسط — إذا استخدمنا لفظة محببة إليه لفظة لم تزعجه كما تزعج عصرنا هذا الذي يهتم بتحليل معاني الألفاظ. جزء من «طبيعة» الإنسان.

إن ما أداه أكويناس من أعمالٍ لا بد بالضرورة أن يبدو مملًّا لكثير من أصحاب النفوس المتحمسة، المتطلعة، أو الساخطة إن لم تكن هذا أو ذاك. لم يكن أكويناس صليبيًّا — وهو شبيه ببيرك — يريد الإصلاح لكي يحافظ على التقاليد. وهو لا يضحك، ولا يخاطر بالاستخفاف. وقد كانت الفلسفة وأصول الدين بالطبع في عهده موضوعات ذات طابع جدي رفيع. ولكن أكويناس لم تكن لديه أية لمسة من لمسات السخرية. وقد ذكرنا أن جنات عدن عند أكويناس طبيعية بقدْر ما استطاع تصويرها وربما لم تكن لديه صورة عاطفية عن جنة عدن. وقد كان لديه قدْر كبير من الإدراك العام. ولكن لا تحسبوا أنه يستخدم هذا الإدراك العام لكي يطهِّر، أو يصحح، أو يخفف العبء الضخم من عدم الإدراك العام الذي تحمله المسيحية، بل الذي يحمله الجنس البشري كله. إن أكويناس الذي يبدو لمؤلف هذا الكتاب قليل التصوف حقًّا، كان — برغم هذا — يأخذ الميراث المحسوس من التصوف المسيحي، أو النظرة المسيحية إلى العالم الآخر، في يسرٍ يدعو إلى العجب، وبغير كفاح، على أنه جزء مما قُدِّر له. كان يسالم هذا التصوف، أو قُل إنه كان يروِّضه. ولم يكن أكويناس فيلسوفًا للمسيحي الذي يود لو أن السماء انفطرت. وإنما كان فيلسوفًا يدعو إلى العجب للمسيحي الذي يسعى إلى هدوء النفس، وكان فيلسوفًا مزعجًا للطمأنينة النفسية التي قد يحسها غير المسيحي.

نظريات العصور الوسطى في العلاقات الإنسانية

حاولنا أن نبيِّن كيف أن فلاسفة العصور الوسطى ورجال العلم فيها بنَوا على المواد التي تركها لهم آباء الكنيسة، وعلى جانب كبير من التقاليد الكلاسيكية، حتى وصلوا إلى الفلسفة الشكلية التي نسميها المذهب المدرسي. وقد رأينا أن التفكير الرسمي في العصور الوسطى يشمل مجالًا يكاد يبلغ في اتساعه ما يشمله الفكر الكلاسيكي. وقد وجدنا أن النظام الذي يتسنم الذروة في المذهب المدرسي هو اعتدال أكويناس الشامل، الجامع مع هنا وهناك لكل شيء تقريبًا، الذي يقوم على الإدراك العام. وقد كانت حلول العصور الوسطى للمشكلات الكبرى مختلفة جد الاختلاف عن حلول الإغريق. أما طُرق التفكير في العصور الوسطى فلم تبلغ هذه الدرجة من الاختلاف. وهذا من الأسباب التي مكَّنت الرجال المدرسيين من الإفادة من أرسطو مباشرة. أما في المشكلات الأخف — والتي يمكن أن تُعَد أيضًا من المشكلات الكبرى في سلوك البشر وفي التنظيم السياسي، فقد كانت حلول العصور الوسطى كذلك جديدة. ولا مفر من أن تبدو الآراء المسيحية في الخير والشر، كما تبدو ظروف الحياة الوسيطة الملموسة — في مجال الأخلاق والسياسة — أشد وضوحًا منها في مجالات علوم الدين والفلسفة الأشد تجريدًا. ومن العسير — فوق كل شيء أن نتجاهل في مشكلات العلاقات الإنسانية تلك المشكلة الملحة، مشكلة العلاقة بين النظرية والتطبيق، وهي العلاقة التي يمكن دائمًا أن ينبذها الميتافيزيقيون الواثقون في الميتافيزيقية وثوقًا كافيًا باعتبارها لا تدخل في الموضوع أو باعتبارها علاقة لا توقير فيها.

وقد يُقال أحيانًا إن الفجوة بين المُثُل وتطبيقها في العلاقات البشرية تبلغ أقصى مداها — بالنسبة إلى الرجل الغربي — في العصور الوسطى. إن مشكلة العلاقة بين النمط النموذجي والواقع في المجتمع مشكلة دائمة في تقاليدنا. وليس من شك في أن أفلاطون كان مدركًا لها كل الإدراك. ولا يمكن أن تكون هذه الفجوة مما يمكن قياسه على خط بياني، كالفارق بين الهدف من جمع الأموال لمشروعٍ خيري وبين ما جُمع فعلًا من معونات. وإني أتصور أننا إذا استطعنا أن نقيس في المجتمعات الغربية المختلفة الفجوة بين المُثُل والواقع لوجدناها واحدة في كل حالة من الحالات. أما أولئك الذين يعتقدون أن هذه الفجوة كانت أعمق في العصور الوسطى فيقدمون الدلائل الآتية: كانت العصور الوسطى — في المُثُل — تمد الناس على هذه الأرض بحياة منظمة مرتبة ترتيبًا حسنًا؛ فالكنيسة ترعى نفوس البشر، والنبلاء الإقطاعيون يحتفظون بالنظام المدني، والفلاحون وأرباب الحرف يؤدون أعمالًا نافعة، باطراد وبغير حقد. وهناك مجموعة من الحقوق والواجبات منسقة تنسيقًا جميلًا وتربط بين كل فرد وآخر، من راعي الخنازير إلى الإمبراطور والبابا. كل رجل يعرف مكانته، آمنٌ فيها، سعيدٌ بها؛ فلقد كان هذا مجتمعًا «مستقرًّا» بدلًا من المنافسات الجنونية والشكوك التي نلمسها في المجتمع الحديث، ولكنه مجتمع وضعت فيه الفكرة المسيحية عن مساواة جميع الناس أمام الله أرضًا صلبة — إن جاز هذا التعبير — تحت قدمي أكثر الناس تواضعًا وفقرًا. كان مجتمعًا — في عبارة موجزة — من الأفراد المتحررين خلقيًّا، مجتمعًا منظمًا، مقسمًا إلى طبقات واضحة.

أما من الناحية العملية — ويسرد في ذلك خصوم العصور الوسطى تفصيلات مرعبة — فقد كان هناك — حتى في القرن الثالث عشر، وهو أعظم القرون، وحتى في وسط إنجازات العصور الوسطى شمالي أوروبا (فرنسا الحديثة، وإنجلترا والأراضي المنخفضة، وبلاد الراين) — حروب عصابات دائمة بين النبلاء الإقطاعيين. وكان هناك فساد، وتراخٍ، واهتمام بشئون الدنيا، تجده حتى عند رجال الدين، وفقر بين الجماهير الضخمة، وأمراض متوطنة، ومجاعات متكررة، وانفجارات في حروب طبقية — كان هناك في إيجاز، وعلى أحسن الفروض — سوء السلوك والبؤس المألوف الذي يجده المرء في الجنس البشري، بل ربما كان أسوأ من المعتاد في بعض النواحي.

إن الفجوة بين المثالي والواقعي موجودة في جميع المجتمعات. ولسنا في حاجة إلى أن نذكر الفجوة بين النظرية الديمقراطية الأمريكية وتطبيقها. وما ذكرنا آنفًا مبالغة في الكمال البريء الذي يدل عليه «ما ينبغي أن يكون» في العصور الوسطى، كما أنه مبالغة أيضًا (ربما بدرجة أشد) في انحطاط «ما هو كائن» في العصور الوسطى. ولكنا يجب مرة أخرى أن نؤكد أن في الفكرة الشائعة عن وجود فجوة ملحوظة بين النظرية والواقع في العصور الوسطى، بين النوايا الطيبة عند الأخلاقيين في العهد الوسيط، وما يسميه رجل معجب بهذه الصور أيما إعجاب، مثل هنري أزبورن تيلور «الواقع الملطخ»، أقول إن في وجود هذه الفجوة شيئًا من الحق.

وقد يرجع اتساع الفجوة، إلى حدٍّ ما، إلى أن الطبقة المثقفة في العصور المظلمة وفي أوائل العصور الوسطى كانت أبعد عن معاملات الحياة اليومية منها في أي مجتمع غربي آخر، وربما مال قادة الفكر في المجتمع النامي الجديد إلى تأكيد أهمية الترتيب، وأهمية النُّظم الثابتة التي تربط كل فرد بدور معين في المجتمع، ربما مالوا إلى ذلك عندما واجهتهم الفوضى، وانهيار السلطة المركزية، والعودة الجزئية إلى بربرية العصور المظلمة. ومهما يكن من أمر فإنه مما يذهلنا اتجاه المُثُل الخلقية والسياسية عند أكثر مفكري العصور الوسطى نحو مجتمع مستقر. غير أن مجتمع العصور الوسطى منذ القرن الحادي عشر كان في الواقع مجتمعًا متطورًا، يزداد في عدد السكان، والثروة، والسيطرة الفنية على الموارد، وهو لذلك يخضع لحكم الظروف وضغطها، وهو ما كانت النظريات الاجتماعية في ذلك العهد تميل إلى إنكار وجوده. ودعنا الآن — دون أن نحاول أن نحشو ميدان البحث بأسماء الكتَّاب — نختار ناحيةً واحدة من الميدان ملموسة مما يتميز به، ونحاول أن نجعل المشكلة واقعية.

ومن المفارقات الشائعة بين النظرية الاجتماعية وتطبيقها ذلك الفارق الذي يفصل مجتمعًا تتجمد فيه الطبقات ومجتمعًا يستطيع الفرد فيه أن يتحرك حركة كاملة من طبقة إلى أخرى. في الطرف الأول يُولد المرء في مكانٍ معيَّن من المجتمع — من حيث الوظيفة، والدخل، والدور الاجتماعي، ومجموعة الآراء — يبقى فيه طوال حياته. ويبدو المجتمع المثالي الأفلاطوني لبعض المفسرين قريبًا جدًّا من هذا الطرَف، كما أن النمل والنحل بطبيعة الحال تحيا فعلًا في مجتمع كهذا، وفي الطرَف الآخر مجتمع نجد فيه جميع الأعضاء متحررين بعضهم عن بعض قدر المستطاع، وكل فرد فيه يؤدي ما يبدو له مستحبًّا في أي وقت من الأوقات، لا يرتبط فيه أحد بوظيفة، أو أسرة، أو وضع اجتماعي، أو بمكانة معينة بإيجاز. ومن الطبيعي أنه لم يوجد مثل هذا المجتمع الأخير في أي عصر من العصور، ولكنا نستطيع أن نقول إن كثيرًا من الأمريكان يحسبون أن مجتمعنا يتألف من أفراد أحرار، متساوين، متنقلين. ونستطيع فوق ذلك أن نقول إن مجتمعنا في الواقع — إذا قُورن بالمجتمعات البشرية التي ولى عهدُها في الماضي — أقرب من أكثرها إلى الطرَف الذي يقع فيه إمكان التنقل الاجتماعي للأفراد. ومن الأقوال الشائعة: «ثلاثة أجيال تنقلك من طبقة إلى طبقة.» وهذا القول مَثَل محسوس لهذا الوضع.

إن مثل هذا القول لم يكن ليحمل أي معنًى لرجال العصور الوسطى ولكنه في الفترة الأخيرة من هذه العصور لم يكن البتة بعيدًا جدًّا عن الواقع؛ فقد شهد القرن الخامس عشر خاصة كثيرًا من النبلاء الإقطاعيين الذين لَحِقهم الفقر، وكثيرًا من التجار الأغنياء المحدثين والمقربين إلى البلاط. المجتمع نظريًّا عند المدرسيين، بل وعند المفكرين الذين تأثَّروا بالقانون أكثر مما تأثَّروا بأصول الدين، كل مرتب، أو كائن عضوي، الأفراد فيه أجزاء أو أعضاء. ولدينا في «بوليكراتيكس» الذي ظهر في القرن العشرين للراهب الإنجليزي جون سولزبري عرْض كامل لما أُطلق عليه فيما بعدُ «النظرية العضوية» للمجتمع. والأمير — طبقًا لسولزبري — هو الرأس في جسم الأمة، ومجلس الشيوخ (الهيئة التشريعية) قلبها، والقضاة وحكام الأقاليم عيونها، وآذانها، ولسانها، والموظفون والجند أياديها، والموظفون الماليون معدتها وأمعاؤها، والمزارعون «يقابلون الأقدام، التي تلتصق بالأرض دائمًا». وهذا التشبيه، أو إذا حسبت أنه يستحق اسمًا أسمَّى من ذلك فقُل هذه النظرية العضوية للدولة أو المجتمع، تلقى استحسانًا شديدًا عند أولئك الذين يقاومون التغيير؛ لأنه من الواضح أن القَدَم لا تحاول أن تمسي ذهنًا، كما أن اليد لا تَغار من العين. والجسم في أحسن حالاته — وأجزاؤه في أحسن حالاتها — حينما يؤدي كلُّ عضو ما أرادت له الطبيعة أن تؤديه.

إن العامل في الحقل، والحداد، والتاجر، والمحامي، والقسيس، والملك نفسه — كلٌّ من هؤلاء وُكِل إليه جزء من عمل الله على الأرض. والفكر الوسيط يصر على كرامة كل حرفة وقيمتها، حتى أقلها شأنًا. ويستطيع أقل الناس شأنًا فوق هذه الأرض — بطبيعة الحال — أن يأمل في «سعادة كاملة» أبدية كأي ملك من الملوك في العالم الآخر. وإنك لن تجد احتقارًا — أو على الأقل لا مبالاة — لطبقة العمال كما تجد عند أفلاطون الذي يسميهم «معدة المجتمع». ولم تكن النظرية السياسية في العصور الوسطى — فوق ذلك — مطلقة بأية حال من الأحوال. وبوسع المرء أن يفترض أنه في مجتمع منظم — كما يبدو في هذه المجموعة من الآراء — لن تكون هناك وسيلةٌ ما لمقاومة ما يقوم به إنسان أعلى. ومن المؤكد أن مفكري العصور الوسطى لم يكونوا ديمقراطيين بمعنَى أنهم يعتقدون بأن للناس حقَّ إبعاد حكامهم. ولو نمى إلى هؤلاء المفكرين قول جيفرسون المشهور بأنه ينبغي أن تَهُبَّ الثورة كل تسعة عشر عامًا أو ما يقرب من ذلك لصُعِق أكثرهم، بل ولما كان هذا القول مفهومًا لديهم، ولكنهم لم يعتقدوا — كما كان يحتم عليهم المنطق — بأن الاحتفاظ ﺑ «الحالة كما هي» أمرٌ واجب، ما دام الله قد فرض السلطة والكرامة كما هما الآن في هذه الدنيا.

ولكنهم سرعان ما وجدوا لهم مخرجًا من هذه الورطة. قالوا إن الله قد خلق الناس درجات في هذه الدنيا، وجعل العلاقة بين الأعلى والأدنى ركنًا من أركان عمله فوق الأرض. ومن المصطلحات التي تميَّزت بها العصور الوسطى التي تعبِّر عن هذه العلاقة استعمالهم لفظة «الدومنيوم» أو «السلطان»، وأول مَن استخدمها بهذا المعنى في أوائل القرن الرابع عشر أجديوس رومانوس، أحد المبررين لسلطة البابا؛ إذا كان وضع المرء فوق غيره فله عليه «سلطان»، وعلى غيره أداء الخدمات. ولكن المرء قد يسيء استخدام «سلطانه»، وقد يعامل غيره كأنه مجرد حيوان وليس نفسًا خالدة. وفي هذه الحالة فإن المرء لا يمارس «السلطان»، وإنما مجرد «التملك». «السلطان» هو العلاقة الإنسانية الصحيحة الكريمة، و«التملك» هو العلاقة الإنسانية الخاطئة التي لا تُحتَمل. وللمرء أن يمتلك شيئًا، وليس له أن يمتلك شخصًا. وعليك أن تقبل «سلطاني»، ولكن عليك أن ترفض «تملكي» إذا كانت ممارسته تثير حسك الخلقي. ولا ينبغي أن يعامِل إنسان إنسانًا كشيء أو أداة. ويقول جون سولزبري: إن الأمير نفسه إذا أساء السلطة التي أعطاها إياه الله حُقَّ عليه القتل كحاكم ظالم، ولن يكون قاتله إلا أداة الله وليس في الواقع كائنًا بشريًّا مسئولًا يرتكب جريمة القتل. ومذهب جون هذا مثال طيِّب ملموس يوضِّح كيف كان مفكرو العصور الوسطى يختلفون، ولم تكن بينهم في الواقع تلك الوحدة التي تعتبر أحيانًا من صفات العصور الوسطى. ولم يكن مذهبه في قتل الظالم يتفق مع الأرثوذكسية.

وفي هذا المجتمع الطبقي حيث يكون لكل فرد مكانه الذي يستحق، كان كل امرئ يتناول — نظريًّا على الأقل — حقه الاقتصادي العادل. وقد أُعجب المفكرون المحدثون كثيرًا بهذه الآراء الاقتصادية الوسيطة ليعارضوا بها حياة العمل في عصرنا التي يرون فيها منافسة مستنكرة. كان العمل عند أصحاب النظريات في العصور الوسطى شرفًا كله، وهو جزء مما قدَّر الله للإنسان، ولم يكن العمل طريقًا يرتقي به العامل في السُّلم الاجتماعي. وأهم من هذا أن المرء لم يعمل لكي «يكسب المال» بالمعنى الحديث؛ لأن اكتساب المال بهذا المعنى لا يتحقق إلا بخداع شخص آخر، أو بأن يأخذ المرء أكثر من نصيبه العادل. فإن العمل، ولنفرض أنه حذاء من صُنْع صانع ماهر، لم يُنظر إليه كسلعة في السوق الحرة، تطلب ما يدفعه فيها الشاري، وتُباع بثَمَن مرتفع إذا قلَّت الأحذية وقت المبيع، وبثَمَن بخس — بل وبالخسارة — إذا كانت هناك وفرة من الأحذية. إنما الحذاء يستحق ثمنًا محددًا، هو «ثمنه العادل». وهذا الثَّمن العادل يشتمل على تكاليف المادة الخام، وعلى المبلغ المطلوب للعامل لكي يحفظ أوده على مستوى الحياة التي ألِفها، وذلك خلال الفترة التي يقضيها في صنع الحذاء (أعني قيمة العمل)، ويُضاف إلى ذلك قدْر ضئيل من المال لا يُعَدُّ ربحًا بمقدارِ ما يُعَدُّ أجرًا للبائع على إدارته.

ولضمان هذه العدالة الاقتصادية وضع المجتمع الوسيط — وبخاصة في القرون المتأخرة — نظامًا دقيقًا لما نسميه اليوم بالرقابة. وكان التجار والصناع على السواء ينتظمون في روابط مهنية تُسمَّى النقابات. وهذه النقابات هي التي تحدِّد الأسعار والمستويات وتهيمن على التحاق العمال الجدد وأصحاب الأعمال في كل حرفة من الحرف، ولكنها لم تحدِّد بالضبط القدْر الذي تنتجه كل شركة من شركات الحرفة، ولم «تخطِّط» الإنتاج بالمعنى الحديث لهذه الكلمة. ومن الواضح أن الشركة (وهي صاحب العمل والعمال) في مجتمعٍ ثابتٍ تؤدي من العمل ذلك القدْر الذي كانت تؤديه منذ القِدَم. وتتحكم العادة في المقدار الذي تنتجه. أما عن التخطيط فذلك قد قام به الله نفسه منذ زمن بعيد. وكذلك كانت العادة تَحُلُّ محل التخطيط في مجتمع العصور الوسطى. وقد كانت قوانين الحكومات المحلية تعزز هذه الرقابات.

وأخيرًا أقول إن المجتمع الوسيط لم تكن به من الوجهة النظرية رأسمالية للتمويل، لم يكن به مَدد من المال السائل أو الرصيد يستطيع أن يسحب منه المرء إن أراد أن يتوسع في عمله. وكانت نظريات العصور الوسطى — وهنا نجد أكويناس مصدرًا واضحًا جيدًا بصفة خاصة — تَعتبر قبول الربح على السُّلف المالية بمثابة الحصول على شيء نظير لا شيء، وهو استغلال الدائن لحاجات المَدين العاجلة؛ فإن أنا أدنتك مبلغًا من المال مدة اثني عشر شهرًا، ثم استرددته كما هو، فأنا لم أربح ولم أخسره، وإن أنا استرددت أكثر مما أدنت فإنني أحصل على دخل غير مكتسب. نعم إن المَدين إذا لم يدفع خلال الفترة المتفق عليها فمن حقي أن أطالب بنوع من التعويض؛ لأن ذلك قد يخل بمشروعاتي. غير أن هذا الإجراء وما يشبهه لا يوازي الاعتراف بمشروعية الربح. والواقع أن ما نسميه الربح في العصور الوسطى كان يُعَدُّ من الربا. وما كان يرفضه الناس في العصور الوسطى — وهذا الرفض طبيعي جدًّا في مجتمع مستقر يسوده حكم مطلق — هو أن المال الذي يستدينه صاحب مشروع يمكن أن يُستثمر استثمارًا منتجًا بحيث يوجد في نهاية فترة التسليف مزيد من السلع الاقتصادية يفوق ما كان موجودًا في بدايتها. ولكن حتى عندما بدأت مثل هذه السلع الاقتصادية المتزايدة في التدفق، وحتى عندما صار الاقتصاد في أواخر القرون الوسطى ديناميكيًّا (متحركًا)، فإن المفكرين في تلك العصور لم يستطيعوا إدراك هذا التحول، ومن المؤكد أنهم لم يروه. وسوف نعود إلى هذه التفرقة بين الديناميكي والاستاتيكي (أو الثابت والمتحرك)، وهي تفرقة لها أهمية قصوى في فهْم نظرة العصور الوسطى التي تباين نظرة العصر الحديث.

وإليكم مثالًا أخيرًا. وقد بيَّنا من قبلُ أن الفكرة الحديثة، فكرة سن القوانين، ووضع الدساتير التي تغيِّر من النُّظم القضائية القائمة، لم تكن موجودة في أكثر المجتمعات القديمة الساذجة. والواقع أن التعبير ﺑ «النُّظم» الذي استخدمناه الآن بالغريزة ربما كان لا يلائم مثل هذه المجتمعات البتة إذا نحن طبَّقناه على شيء له ما للقانون من توقير وتقديس. والقانون في ذهن الرجل في العصور الوسطى — بل في ذهن رجال القانون أنفسهم — يُوجَد ولا يُوضَع؛ فالقانون بالنسبة إلى الأغراض العامة اليومية هو ما نسميه العُرف، وطريقة معرفة العُرف هي البحث بين الناس المستقرين في بيئة معينة من أصحاب التجارب، ثم معرفةُ ما تم عمله في ناحية من النواحي من قديم الزمن. والعادات (أو العُرف) قد تتضارب في حالةٍ ما، ولكن البحث الصحيح بين الأفراد المعنيين يعزِّز الدليل الذي يرجِّح رأيًا دون رأي في هذه الحالة.

وفي الحق كان هناك شيء وراء العُرف، وراء القانون بمعنَى ما ألِف الناس أداءه؛ ذلك أن الفكر الوسيط في أوجهِ كان يعزِّز فكرة «قانون الطبيعة» الذي عرفنا أنه صادر من العالم الإغريقي الروماني، وهي فكرة لم تختفِ كليةً حتى في العصور المظلمة. وقانون الطبيعة عند المفكر في العصور الوسطى كان يشبه كلمة الله مترجمة إلى عبارات يمكن للرجل العادي فوق هذه الأرض أن يستخدمها. كان هذا القانون هو المعيار، والمَثل الأعلى، وما «ينبغي أن يكون» الذي يمكن لأصحاب الإرادة الذين يصيبون التفكير أن يروه. ولمَّا كان رجالٌ من أمثال أجديوس رومانوس والثائر الإنجليزي المشهور وايكليف يميزون كما بينَّا بين «السلطان» و«الملكية» فإنهم يضعون وراء السلطان القوة الكاملة لقانون الطبيعة، و«الملكية» إذا كانت تشمل الأشخاص حتى تكون ضد قانون الطبيعة.

وقانون الطبيعة هذا ليس قانونًا طبيعيًّا كما يفسِّره أكثر العلماء المحدثين. والواقع أن العالِم الذي يألَف الاختبارات العملية لبيان صحة الفوارق عنده، قد يرى هذه الفوارق التقليدية الخلقية غامضة، ذاتية إلى حدٍّ كبير، وعرضة دائمًا للخلاف وسوء التفاهم. إن الترمومتر — بل والإدراك العام — يهدينا إلى تجمد الماء. ولكن أين الآلة، وأين القدرة البشرية، التي تهدينا بوضوحٍ متى يصبح «السلطان» «ملكية»؟ وإذا زعم زاعم أن «السلطان» عند فرد ما هو «الملكية» عند الآخر، أو أن «السلطان» ليس إلا لفظة جميلة تصف نفس الظاهرة التي تصفها «الملكية» وصفًا غير مستحب، إذا زعم هذا لنا زاعم، فبماذا نجيبه؟ إن أمثال هذه الصعوبات التي نصادفها من جرَّاء عدم الدقة الظاهر وحالة التغير في الأحكام الخلقية كانت شائعة شيوعًا كافيًا بين الأثينيين في أيام سقراط، وهي كذلك شائعة بيننا اليوم، ولكن هذه الصعوبات لم تزعج المفكر في العصور الوسطى، حتى إن كان «جامد الفكر» كما حاول أبيلارد أن يكون.

ذلك لأن المفكر في العصور الوسطى يجيبك بأن الترمومتر — بل وإدراكك العام — لا يمكن أن يبت إلا في مسائل محدودة من الواقع المادي. أما إذا استخدمنا قدراتنا البشرية كاملة كما أراد لنا الله استطعنا أن نجيب بوثوقٍ أشدَّ عن المشكلات الكبرى، مشكلات الحق والباطل. إن مصادر المجتمع البشري كلها مطلوبة: كلمة الله كما تتبين في الكنيسة المسيحية، والحكمة التي ورثناها عن الأسلاف، والمهارات والمعارف التي اكتسبها كلٌّ منا في حياته، والإدراك العام للمجتمع، مع زيادة الاعتماد على أولئك الذين تؤهلهم مراكزهم تأهيلًا خاصًّا. إننا في حاجة إلى كل ذلك لكي نتمكن من إصدار قرارات إن لم تكن كاملة فهي عادلة عملية. والشيطان يفعل فعله دائمًا فوق هذه الأرض، ويمكن أن يلحق الإغراء أفضل الناس. والعادة أننا إذا أخطأنا كأفراد أو جماعات فإن الخطأ لا يكون في نقص المعرفة إنما يكون في نقص الإرادة. والفكر الوسيط يصر — على وجه العموم — أن المرء لا يتصرف بالضرورة تصرُّفًا صحيحًا، حتى إن جاز أن يعطيك اختبارك بالإدراك العام، أو تعطيك أداتك، الجواب الصحيح. وليست هناك أداة (أي ليست هناك معرفة علمية) تستطيع أن تحمي المرء مما يسميه الناس في العصور الوسطى — في التقليد المسيحي — ذنْبًا. ولا يحمينا من الذنب إلا قبولنا شفاعة المسيح المعجزة، وانتماء المرء بالمعنى الاجتماعي الكامل إلى الكنيسة المسيحية. إن العضو في هذه الكنيسة يعرف عن طريق عضويته الفارق بين الحق والباطل، وبين الطبيعي وغير الطبيعي.

ووراء هذه الأمثلة المحسوسة الثلاثة من موقف العصور الوسطى إزاء الإنسان في المجتمع — وأعني بها فكرة الطبقية في المجتمع الذي يؤدي فيه كل فرد الدور الذي أرسله الله لأدائه، وفكرة الثَّمن العادل والنظام الاقتصادي الذي لا يتوقف على تلاعب العرض والطلب، وفكرة القانون الطبيعي الذي يُدرَك بالعقل الطبيعي، والذي ينظِّم ويفسِّر العلاقات الإنسانية فوق الأرض — وراء هذه الأفكار كلها فكرة العصور الوسطى عن هذا العالم، هذا العالم «الواقعي»، الذي ترى أنه عالم لا يتغير، أو إذا عبَّرنا عن ذلك تعبيرًا سلبيًّا، قلنا إن هذه الآراء تتفق وفكرة العصور الوسطى التي ترى التغيُّر عرضًا، عشوائيًّا، وليس ما نسميه تقدُّمًا مُطردًا.

ومن الحق الظاهر أن نقول إن أكثر الأمريكان يعتقدون في صورةٍ من صور التقدُّم، وإنه ليس في العصور الوسطى مَن كان يعتقد، أو يمكن أن يعتقد في التقدُّم بمثل هذا المعنى. وليس معنى هذا — بطبيعة الحال — أننا نختلف وإياهم كل الاختلاف في النظر إلى أي لون من ألوان التغير فيما يمس الحياة اليومية؛ فلقد كان العاشق في العصور الوسطى الذي تتخلى عنه معشوقته يحس إحساس العاشق في العصر الحديث الذي تهجره معشوقته. وكان العمال في العصور الوسطى — كما سوف نرى — يحسِّنون آلاتهم فعلًا، وينغمسون في تلك الصورة الحديثة من صور التغيُّر التي نسميها الاختراع. وكان بعض التجار في العصور الوسطى يجمعون المال بوسائل لا تختلف كثيرًا عن الوسائل التي نجمعه بها اليوم. وفي الواقع الملطخ في القرون القلائل الأخيرة من العصور الوسطى، ظهر الفساد، والمنافسة، والتغير الاجتماعي السريع، بصورة واضحة جدًّا، رآها كل فرد حتى أصحاب النظريات. وقد أدرك وايكليف وكثير غيره من العصاة تمام الإدراك أن مجتمعهم مجتمع متغير. ولكنهم كانوا يرون أن مجتمعهم قد تدهور عما أراد له الله وأراد له القانون الطبيعي، ولم ينظروا إليه كأنه مجتمع في الطريق إلى مُثُل جديدة تصدر عن ظروف واقعية جديدة وتؤثر فيها.

وإذن فإن النظرة العالمية (وهي بالألمانية لفظة ثقيلة ولكنها معبِّرة Weltanschauung) حتى عند المثقف في أواخر العصور الوسطى تختلف جد الاختلاف عن نظرة الرجل المثقف في العصر الحاضر، لمجرد أن الأول يفترض أن الكون في أساسه ثابت، والثاني يفترض أن الكون في أساسه متغير. الأول يفترض أن القوانين التي تحكم العمل الإنساني الصحيح قد وضعها الله في سمائه لكل العصور — إن جاز لنا أن نقول ذلك — وأن هذه القوانين واضحة للرجل المسيحي الطيب. والثاني يفترض أن القوانين التي تحكم العمل الإنساني الصحيح يتم وضعها في الواقع في نفس عملية الحياة، والقتال، والحب، والتخطيط، وكسب المال، ولا يمكن لأحد أن يعرفها تمام المعرفة مقدمًا، وأن هناك قوانين جديدة يتم وضعها باستمرار خلال الحياة البشرية. ولما كان الإنسان لا يعيش في جو فكري خالص لأحد الطرفين المتناقضين، فقد كان الرجل في العصور الوسطى يخلط مع فكرته عن الاستقرار قدْرًا كبيرًا من إمكان التغير عمليًّا. كما أن الإنسان في العصر الحديث يعتقد إلى حد كبير في بعض الأمور المطلقة التي تعلو عملية التغير الثوري، مهما يكن الإنسان الحديث في ذلك على شيء من التناقض. أو قل إن الإنسان في العصر الحديث يعتقد على أقل تقدير بأن التغير الثوري هادف بشكلٍ ما. غير أن الاتجاه العقلي عند الرجل في العصر الوسيط وعنده في العصر الحديث يختلف اختلافًا بينًا في السلوك في كثير من ميادين النشاط البشري.

إن الإنسان الوسيط في حيرته يميل إلى أن يَحُلَّ هذه المشكلة بالرجوع إلى سلطة الرأي، وهي السلطة الطبيعية، أو أفضل السلطات، التي نشأ على الإيمان بها — سلطة أرسطو إن كان من المدرسيين، والقانون الأرضي العرفي إن كان من رجال القانون، وعادات أبيه في الزراعة إن كان من المزارعين، وهو يميل إلى الاعتقاد — وهذا أمر هام جدًّا — بأن مشكلته ليس لها حل كامل مُرضٍ ميسور فعلًا، أو يميل إلى الشعور أنه لا يصلح حالًا حتى يرقى إلى السماء. أما الإنسان الحديث في حيرته فيميل على الأقل إلى أن يستشير سلطات مختلفة متعددة ويوازن بينها قبل أن يقر قراره. وقد يحاول أن يجرِّب، وأن يقوم بمحاولات مبدئية في اتجاهات جديدة يوحي إليه بها رجوعه إلى سلطاتٍ مختلفة وإلى خبراته الخاصة، إن كان قد نال تدريبًا حسنًا في بعض النُّظم ذات الصبغة العلمية أو العملية. وهو يميل إلى الشعور بأنه قد يَحُلُّ في الواقع مشكلته إن هو سار سيرًا صحيحًا في هذا الاتجاه. والاتجاه الصحيح للرجل الوسيط قائم فعلًا، وما عليك على الأكثر إلا أن «تجده»، أما الاتجاه الصحيح للرجل الحديث فقد «يشق» أو «يخلق».

وبالرغم مما بين النظرتين من تباين، فإن هناك الكثير في الفكر الاجتماعي والسياسي مما ثبت أنه أساسي لتفكيرنا. نعم إنك لن تجد فكرة التقدُّم أو التطور المطرد المادي في تفكير العصور الوسطى، ولن تجد تأكيدًا قويًّا للمنافسة والفردية أو حتى التخطيط المنظَّم، ولن تجد الجو الذي يشير إلى «الأعظم والأفضل»، بل ولن تجد جدلًا حول «طريقة الحياة الديمقراطية»؛ ذلك أن نظرية العصور الوسطى — كما رأينا — تؤكد الخضوع، والاستقرار، والعُرف، والبناء الطبقي الثابت، والسلطة. ولكن العلاقات الاجتماعية في تلك العصور لم تكن في الواقع ثابتة مستقرة كما كانت كذلك من الوجهة النظرية؛ فقد ظهرت التغيرات المادية، والتقدُّم الذي ساعد على تحطيم النظريات الوسيطة، من بعض ضروب النزاع الفعلي في حياة العصور الوسطى. وكذلك ظهرت — حتى في أوج العصور الوسطى — أفكار أو «ميول» لا تتفق إلا بمشقة زائدة مع مبادئ السلطان، والخضوع، ونظام المراتب الاجتماعية الذي لا يتغير. وسوف نعود إلى النوع الأول من التغير في الفصل اللاحق. وليس النوع الثاني مستقلًّا بتاتًا عن النوع الأول، ولكنه يتوقف أيضًا على ضروبٍ من الصراع سبقت في تاريخها كثيرًا نوع الصراع الاقتصادي الذي ظهر في الأزمنة الحديثة.

ويمكن عرض الموضوع في إيجاز وبساطة شديدة كما يلي: إن المجتمع البشري الذي لا يتغير، الصارم نسبيًّا، الذي يعتمد على السلطة، يحتاج إلى سلطة عليا تكون لها السيادة، وتكون قراراتها في الواقع نهائية. وطالما كانت إسبرطة مجتمعًا كهذا — على سبيل المثال — كانت قرارات الكبار إجماعية ومقبولة. وفي الجزء الشرقي من الإمبراطورية الرومانية القديمة كان الإمبراطور وخليفته القيصر في روسيا، يمثل هذه السلطة العليا، ويملك أن يملي إرادته حتى على الكنيسة. ومِن ثَمَّ ظهر هذا الاصطلاح الثقيل «البابوية القيصرية» الذي يعني النفوذ المطلق لخلفاء قيصر في الشرق. في حين أن أقل دراية بالتاريخ السياسي في الغرب خلال العصور الوسطى تبيِّن في جلاء أنه لم يقُم في الغرب قطُّ ذلك القبول للسلطة الفردية النهائية التي لا مناص منها لقيام ذلك النوع من المجتمع الذي يظن كثير من مفكري الغرب أنه كان يسود — أو على الأصح يوشك أن يسود. كان البابوات والأباطرة — في أعلى المستويات — يزعمون أن لكلٍّ منهم في الغرب سلطةً عليا. وكان الأباطرة القادرون المحظوظون يمارسون شيئًا من هذه السلطة التي ربما كاد يبلغها في الواقع البابا أنوسنت الثالث في أوائل القرن الثالث عشر. وكان لكلٍّ من الجانبين انتصاراته في النضال الطويل. وكان لكل جانب مَن يؤيده من أصحاب النظريات البالغين في قدرتهم، والواقع أن كل مفكري العصور الوسطى تقريبًا انحازوا في هذا النضال — إن عاجلًا أو آجلًا — إلى هذا الجانب أو ذاك. وقد أنفق دانتي — على سبيل المثال — جهدًا كبيرًا في رسالةٍ سياسية طويلة «عن الملكية» يحث فيها على حكم الإمبراطور للدنيا كحل للشرور التي جلبتها الحروب في عهده. وكذلك كان لسلطان البابوية الأعلى مَن يدفع عنه، ومن بينهم أجديوس رومانوس. وقد انتهى توماس أكويناس إلى أن للبابا «سلطانًا غير مباشر في شئون الدنيا»، وفي هذا مثال آخر لميله نحو الاعتدال.

وقد استنفد هذا الصراع بين سلطة البابا وسلطة الإمبراطور جانبًا كبيرًا مما يَعُدُّه المختص موضوعًا جذابًا للتأمُّل. ومن النتائج الواضحة التي ترتبت على ذلك أن المطالبة المتطرفة بالسلطة من كلا الجانبين لم تَعُد تلقى قبولًا في أواخر القرون الوسطى. ولم يقف الأمر في هذا النضال في سبيل الدعاية — وقد كانت في الواقع كذلك — عند حد إساءة الإمبراطوريين للبابويين، والبابويين للإمبراطوريين. ولم يقف الأمر عند حد ثبوت الإساءة بدرجةٍ أشد من ثبوت الثناء الذي كان يضفيه كل جانب على نفسه، كما يحدث عادةً في الدعايات. لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن كلَّ جانب كان عليه فوق ذلك أن يلتمس ما يؤيده مطالبته بالسلطة، وقد كان بعض هذا التأييد حديثًا جدًّا؛ فقد وجد مارسيجليو البادوي، مؤلف «دفاع عن السلام» في القرن الرابع عشر، وهي رسالة إمبريالية، أن المصدر الوحيد للسلطة في أية مجموعة من الأمم (كومنولث) هو مجموع المواطنين. وليس من شك في أن مارسيجليو قد أخذته الحماسة، وربما لم يقصد أن يكون حديثًا كما صوَّره شارحوه. فما عتَّم يستخدم المصطلحات الوسيطة، والنُّظم الدستورية والأفكار التي تتصل بالسيادة الشعبية التي تُعزى إليه تبعد كثيرًا عن فكرتنا عن الاعتماد على تعداد السكان عندما نريد البت في قرار سياسي. ولكن مارسيجليو كان يقصد جادًّا كل الجد ما قصده كثيرون غيره من مفكري العصور الوسطى، حتى أولئك المنحازين إلى الجانب البابوي: وذلك هو أنه ليس من حق إنسان مهما بلغت مكانته في سُلَّم المراتب — حتى إن كان في أعلى درجات هذا السُّلم — أن تكون أوامره دائمًا وبغير جدل مطاعةً منفَّذة ممن يدنونه في المرتبة.

والعلاقة الإقطاعية ذاتها — التي يرتبط فيها الناس برباط السيد والتابع طوال الفترة التي سادها نظام النبلاء — مثال رائع لإصرار العصر الوسيط على أن سُلَّم المراتب لا يستند إلى مجرد القوة. وقد ابتذل معنى «التابع» بمرور الزمن، ونكاد نعتقد اليوم — بمقدارِ ما بقي هذا الاصطلاح حيًّا — أنه يعني العبودية المفروضة على صاحبها. ولا يزال الناس — فوق هذا — يخطئون إذ يحسَبون أن العصور الوسطى كانت فترة من فترات الفوضى والاستبداد الشخصي. والواقع أن أتباع السيد كانوا من بين الرجال المهذبين وحدهم. وكانت العلاقة تُرسم في حفلات معقَّدة في بدايتها. وكانت علاقة «ولاء» — وكانت تُعتبر دائمًا علاقة متبادلة، فيها أخذ وعطاء؛ أي إنها كانت في الواقع نوعًا من علاقات العقود المبرمة بين طرفين. وكان التابع يَدين للسيد بخدمات معينة، والسيد يَدين للتابع بخدمة كبرى، هي الحماية. ويُعتبر أسلوب الحياة المعقَّد الذي يُعرف بالفروسية، الذي تطوَّر تدريجًا في هذه الطبقة الإقطاعية، من أشد النُّظم البشرية إصرارًا على الكرامة الشخصية والمكانة التي يتمتع بها الأعضاء الجدد في نظام الفروسية.

وحتى هنا لم تتفق النظرية مع تطبيقها. وقد كان للتطبيق شأن كبير بانبثاق المجتمع الحديث عن المجتمع الوسيط. كانت العلاقة الإقطاعية نظريًّا نظامًا ثابتًا لسُلَّم المراتب، كنظام الجيش، يبدأ بأدنى الفرسان وينتهي بالإمبراطور (أو لعله كان البابا). فإذا كان الكونت تابعًا للدوق، والدوق للملك، فإذن فلقد كان على كلٍّ منهم واجبات وله حقوق، تؤدَّى بطريقة واضحة سبق وضعها. وإنما كانت تنشأ المشكلة إذا امتلك الكونت أرضًا عليها واجبات إقطاعية لدوق آخر، أو للملك مباشرة، أو حتى لمن هو أدنى منه في المرتبة. عندئذٍ ينشأ الخلاف، وفي اضطراب العلاقات الإقطاعية قد يجد التابع نفسه مقاتلًا ضد سيده — على الرغم من تناقض ذلك مع النظرية. وأقول بإيجاز، إن نظام الإقطاع ربما كان من الجائز أن يتجمد في صورة مجتمع طبقي ثابت، إلا أنه لم يفعل ذلك؛ لأن أعضاءه قلما كانوا يرضون عن مكانتهم في سُلَّم المراتب، بل كانوا أحيانًا غير واثقين البتة بالدرجة التي يحتلونها في هذا السُّلم؛ فقد كانت هذه المكانة في النهاية، في أذهان الناس في العصور الوسطى، تعتمد على الحق دون القوة. وبالرغم من أن «الحق» هنا — كما كان في غير ذلك من المواضع في العصور الوسطى — كان من اليسير جدًّا وفي أغلب الأحيان يُفهم على أنه «العادة»؛ أي الأسلوب الذي جرت عليه الأمور، إلا أن استناد الحق إلى إرادة الله في النهاية كان ماثلًا دائمًا يعبِّر عنه قانون الطبيعة.

وأعود ثانية إلى ذلك الحكم العام الشامل الذي ساد العصور الوسطى، وأعني به النظام الطبيعي، أو قانون الطبيعة وهو قانون أرضي يقترب بقدرِ ما يستطيع الإنسان من قانون السماء، وهذا المبدأ الذي يتميز به الغرب من الأدلة الميسورة دائمًا التي تُساق لتأييد فكرة التغير، والتغير الثوري إن اقتضى الأمر؛ لأنه يبرز في جلاء — كما بينا من قبل — فكرة النظام الأفضل، وهو مع ذلك نظام واضح — ما دام «طبيعيًّا» أنه ممكن التحقيق، وليس نظامًا مثاليًّا من العالم الآخر. وإذا كانت الفكرة — عند كثير من الناس — عن الأمر الطبيعي، تختلف كل الاختلاف — كما حدث في القرن الثامن عشر — عنها عند مَن يعلونهم اجتماعيًّا وسياسيًّا، كان الموقف ثوريًّا. أما إذا كان هناك على الأقل اتفاق عام بين المتعلمين على ما هو طبيعي، كما كانت الحال عمومًا في القرن الثالث عشر، فإن المجتمع يكون مستقرًّا نسبيًّا. ولكن فكرة القانون الطبيعي — في أواخر القرن الثامن عشر عندما زاد من حدة العداوات الطبقية النامية الحروب، والأوبئة، وغير ذلك من أسباب الخلل في زمنٍ تسوده القلاقل — انقلبت إلى إيحاء بالعصيان ضد أصحاب السلطان الذين لا يحققون النظام — أو العدالة — الذي يسعى القانون الطبيعي إلى تحقيقه. وقد كان القرن الخامس عشر — بالرغم من الفوارق الواضحة في المصطلحات وفي العادات والتفكير إلى حدٍّ ما — يتفق في كثير من الأمور مع القرن الثامن عشر.

ومع ذلك فإن العصور الوسطى — حتى في سنواتها الأولى، وحتى في أوجها — لم يكن من المستحيل فيها أن تتحد الفوضى وخلل النظام في الواقع (أو في التطبيق) مع الوحدة في المُثُل كما تصورها الكتب الدراسية الأمريكية أحيانًا. ولم تكن العصور الوسطى في الغرب قطْعًا زمنًا يسود فيه الإيمان بالمطلق. الله وحده — في نظريات العصور الوسطى — هو المطلق. أما البشر الذي يعمل عن طريقهم فوق الأرض فليسوا سوى عملائه. وهم كبشر يمكن أن يحكم عليهم غيرهم من البشر إذا هم عارضوا قانون الله — أو قانون الطبيعة. ومما جعل الحكم المطلق المستقر جد مستحيل في المعاملات الغربية في العصور الوسطى انقسام السلطة بين القوى العلمانية والقوى الروحية، والمطالب المتعارضة لألوف السادة الإقطاعيين، والرجوع إلى العُرف ليكون حكمًا في كل مكان. إن جذور الديمقراطية الحديثة تمتد إلى العصور الوسطى، في حين أن مبدأ الإيمان بالمطلق لم يحتل مكانة بارزة إلا في القرون القلائل الأولى من العصر الحديث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤