القصيدة المزدوَجة في المنطق

نظم:

الشيخ الرئيس أبي علي بن سينا

باسم:

الرئيس أبي الحسن سهل بن محمد السهلي في «كركانج»

وليحفظها:

«عليٌّ» أخو الشيخ الرئيس ناظمها

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي لعبدهِ
نَيل السناء لا له في حمدهِ
والحمد لله كما يستوجبُ
بعزه العالي الذي لا يُغلبُ
والحمد لله الذي برهانهُ
أنْ ليس شأنٌ ليس فيه شأنهُ
والحمد لله بقدَر الله
لا قدر وسع العبد ذي التناهي
والحمد لله الذي مَن ينكره
فإنما ينكر مَن يصوره
ثُم على نبينا الأمين
شارع خير ملَّة ودين
أشرفُ مَن يُبعث في القيامةْ
أفضل من أُرسل للإمامةْ
محمدٍ صلاةُ ربِّ العالم
وآله الغرِّ الكرام الأنجمِ

•••

والحمد للإله رب العقل
والنفسِ حتى خرجت بالفعل
تهيأتْ لأن تكون عالَمًا
مصورًا من كل شيءٍ محكمًا
أشرف من ذي العالم المَحسوس
مبرأً من طينة وسوسِ
فيه الكمال بل هو الكمالُ
جوهره البهاءُ والجمالُ
مرتَّب فيه وجودُ الكلِّ
والعلمُ بالله مُفيض العدلِ
فكلُّ ما تحسه وتعقلهْ
فيه له من الوجود أفضلُهْ
ليس على وجوده الخسيسِ
أعني وجود الشيء في المحسوسِ
هذا إذا أيَّده التوفيقُ
ولم يخالف أخذها الطريقُ
واجتهدتْ للحقِّ حتى تَعقلا
ورغبتْ في الخير حتى تعمَلا
فإن طغتْ ونسيَتْ مولاها
عاقَبها ونفسَها أنساها

•••

وفطرة الإنسان غيرُ كافيةْ
في أن يَنال الحق كالعلانيةْ
ما لم يؤيد بحصول آلةْ
واقية الفكر عن الضلالةْ
فيها بيان الحق كيف يُطلبُ
وإنه لأي شيء يَصْعبُ
وما الذي يُغلِّط الإنسانا
متى أراد الحق والبيانا
وكم وجوهِ دركِ الصوابِ
وكم لكل مطلب من بابِ
وما الذي يُعرَف بالبرهانِ
فيُوقع التصديق بالإيقانِ
وما الذي يوقع ظنًّا عاملًا
مغالطيًّا كان أو مجادلًا
وما الذي يقنع في ما يوجبُ
ويصم النفسَ عساه يكذبُ
وما الذي يؤثرُ التخييلا
لا العقد والتصديق ممَّا قيلا
وكيف حدُّ كلِّ ما يحدُّ
وما الذي في حده يعدُّ

•••

وهذه الآلة «علم المنطق»
منه إلى جُلِّ العلوم يرتقي
ميراثُ «ذي القرنين» لما سألا
وزيرَه العالِم حتى يعملا١
لمن يريد النظر الميزانا
يأمَن فيه زيغه أمانا
فعمل الحكيم ما قد سألهْ
لكنَّ ما بيَّنه وفصلهْ
ليس إلى تحصيله سبيلُ
ما لم تُقدَّمْ قبله أصولُ

•••

قد سأل الشيخَ الرئيس «سهلُ»
ذاك الذي تمَّ لديه الفضلُ
ذاك الذي له أيادٍ عندي
فوق الذي يوقع تحت الحدِّ
أن أُودعَ المنطق نظْم الشعرِ
حتى يكون ثابتًا في الذكرِ
لا سيما ولي أخٌ في حجري
وصيةُ الوالد عند الهَجرِ
أوصى بأن أقضيَ فيه حقهْ
وأن أريه في الصواب طُرْقهْ
فيا «علي» اجعله ظهرَ القلبِ
حتى إذا بلغتَ سن اللبِّ
عقلتَ ما استظهرتَ منه عقلًا
وصرتَ للخير الكثير أهلًا
وإنما الخيرُ الكثيرُ: الحكمةْ
نعمتها أفضل كلِّ نعمةْ
وإن يكنْ أخوك حين تعقلُ
أدركه من المنون الأجلُ
وصار في أخرى حياتَي نفسه
والجسمُ منه مودع في رَمسه
ينظرُ في البرزخ للقيامةْ
ماذا يكون بعدها مقامهْ
فادعُ له والتمس الإخوانا
أنْ يَذكروهُ في الدعا أحيانًا

(١) ابتداء المنطق

في الألفاظ المفردة

اللفظ إما مفردٌ في المبنى
ليس لجزء منه جزء المعنى
وهو الذي قيل بلا تأليفِ
كقولنا زيدٍ أو الظريفِ
أو الذي تعرفه بالقولِ
للجزء منه دلَّ جزءُ الكلِّ
وهو الذي في ضمنه تأليفُ
كقولنا زيد وهو الظريفُ
وكل لفظٍ مفردٍ فإمَّا
يعمُّ معناه الكثير عمًّا
كقولنا الجسم فإن الجسما
يشمل معناه كثيرًا جمًّا
وهو الذي يُعرفُ بالكليِّ
أما الذي يعرفُ بالجزئيِّ
فهو الذي يوقع بالمعنى الأحدْ
على فريد واحد من العددْ
كقولنا محمد أو حفصُ
وهو الذي له يُقال الشخصُ
وكلُّ كليٍّ فإما إن رفعْ
وجود ما قيل عليه يمتنعْ
كالجسم للإنسان والنباتِ
فهو الذي له يقال الذاتي
أو الذي لو لم يكن معلومًا
للشيء لم يجعل له معدومًا
كالضحك للإنسان والبياض
تلك التي تُعرف بالأعراض
لكن لما ذكرته أقسامًا
حتى يتمَّ خمسةً تمامًا

في الألفاظ الخمسة

إن من الذاتيِّ ما معناه
يكون حقًّا في جوابٍ ما هو
أي ما الذي تكامل الموصوف بهْ
حتى يكون هوَ هوْ بسببهْ
أما الذي وقوعه أعمُّ
كما يقال جوهر أو جسمُ
فإنه أعم من ذي النفسِ
وهو الذي تَعرفه بالجنسِ
أو ما يكون دونه في الجمعِ
وهو الذي تعرفه بالنوعِ
كالجسم ذي النفس فما يعمُّ
دون الذي كان يعمُّ الجسمُ
والنوع نوع جنسه بالطبعِ
والجنس أيضًا هو جنس النوعِ
ومنه ما هو في جواب الأيِّ
كقولنا الإنسان أيُّ حيِّ
يُعرف بالفصْل كقولي ناطقُ
لنوعنا وللحمار ناهقُ
والعرضيُّ منهما قسمان
كالضحك والبياض للإنسان
فالضحك للإنسان ليست خاصةْ
لغيره منه ويدعى خاصةْ
ثم البياض لسواه يَعرضُ
فالثلج والققنس أيضًا أبيضُ
فكلُّ ما أشبهه يسمى
بالعرض العام فحقًّا عمَّا
وكلُّ لفظ مفرد يدلُّ
على كثيرٍ فهو إما فصلُ
أو خاصةٌ أو عرضٌ أو جنسُ
أو هو نوعٌ فهي هذي الخمسُ

في المقولات العشر

وكل نعتٍ فهو إما جوهرُ
قوامه بنفسه مقررُ
وليس بالموجود في الموضوعِ
مثل وجود اللونِ والتربيعِ
بل مثل إنسان ومثل الشجرةْ
أو هو كم مثل قولي عشرةْ
أو مثل قولي الطول وهو الحاوي
فصل التساوي وسوى التساوي
وبعده الكيف كقَولي حَرُّ
أو أبيض أو مُنتن أو مرُّ
وكلُّ مَن شابه أو تشابها
كيفية يَعرفه القوم بها
ثم المضاف وهو بالقياسِ
إلى سواه ثابت كالراسِ
فإنه رأسٌ لشيءٍ ثانِ
كذلك الإخوان للإخوانِ
لا يَعقل العبد ولا مولًى لهُ
والأخُ إن لم يَعتقد أخالهُ
والأينُ أيضًا أحدُ المعاني
كنسبة الشيء إلى المكانِ
كقولنا في البيت أو في الخانِ
وبعده متى من المعاني
كنسبة الشيء إلى الزمانِ
كقولنا في الغد أو في الآنِ
وبعده الوضع كقولي قائِم
أو راكع أو ساجد أو نائم
والوضع حال نسبة الأجزاء
بالانحراف أو على السواء
إلى جهاتٍ أو إلى أماكنا
وبعده الملك كقولي ذا غنا
وبعده الفعل كقولي قطعا
والانفعال مثل قولي انقطَعا
فهذه هي النعوت العشرةْ
والحمد لله على ما يسَّرهْ

في القضايا

والقول إما قابلٌ للصدقِ
والكذْب كالإنسان هو ذو نُطقِ
فإنه صدقٌ أو الإنسانُ
طيرٌ فهذا كَذِبٌ بهتانُ
ومنه ما ليس لذاك قابلا
كقولنا يا ليت لي فضائلا
فإنه لا صادقٌ ولا كَذِبْ
وليس للبرهان في هذا سببْ
وإنما الأول فيه النظرُ
ذاك اسمه قضيةٌ أو خبرُ
أو جازمٌ وذاك إما الأبسطُ
وهو الذي ما فيه شرط يُشرطُ
كقولنا الإنسان حيٌّ ناطقُ
فإنه بغير شرطٍ صادقُ
وهو الذي يعرف بالحَمليةْ
أبسط ما تُوهمه القضيةْ
أو الذي لأجل شرطٍ يشترطْ
يَصير قولًا واحدًا لما ارتبطْ
كقولنا إن كانت الكواكبُ
طالعةً فقرصُ شمس غاربُ
أو قولنا إما النفوس باقيةْ
أو عندما تُبلى الجسوم باليةْ
فبالرباط صار قولًا واحدًا
قولان قد توحَّدا فصاعدا
وأول القسمين يُدعى المتصلْ
وذلك الثاني يُسمى المنفصلْ
فقسمه الأولُ في المثالِ
مقدمٌ وما يَليه تالِ
وكلُّ حمليٌّ له جزءان
أوَّله موضوعه والثاني
محموله ككل جسمٌ جوهرُ
فالجسم موضوعٌ وأما الآخرُ
فإنه المحمول إما واجبًا
مثل الذي قلت وإما سالبًا
كقولنا الأُميُّ ليس كاتبًا
أو قولنا النبي ليس كاذبًا
ليس سوى هذَين قول حَمْلي
وكل موضوع فإما كُلِّي
كالجسم والجوهر والإنسانِ
أو هو جزئي من الأعيانِ
كقولنا زيد وكل حَملي
موضوعه شخص وليس كُلي
فإنه يُعرف بالشخصيةْ
كقولنا زيد من البريةْ
فإن يكُ الموضوع لفظًا كلي
ولم يكن بُيِّن قدر الحملِ
في كله أو بعضه قد حُمِّلا
فإنهم سموه قولًا مُهمَلا
كقولنا الإنسان يمشي أو يكنْ
أبين ما في المهملات لم يبنْ
سُمِّيَ بالمحصور مثل قولي
كل امرئٍ فإنه ذو عقلِ
فمنه ما إيجابه بالكلِّ
كقولنا كل امرئٍ ذو عقلِ
ومنه ما إيجابه بالبعضِ
كقول بعض الناس عدل مرضي
ومنه ما تسلبه عن بعضِ
كليس بعض الناس بالمِبيضِّ
ومنه ما يُسلب بالكليةْ
كقولنا ليس امرؤٌ بحيةْ
وكل محصور من الكلامِ
يُحصر في أربعة أقسامِ
وذلك اللفظ الذي المحصورُ
به يُنال الحصر فهو السورُ
فكلُّ ما عددتُه ثمانِ
اثنان شخصيان ثمَّ اثنانِ
من جملة المُهملة ثم الباقيةْ
محصورة فهذه ثمانيةْ
والحكم إما واجب مؤبَّدُ
كما تقول كل زوجٍ عددُ
أو ممكن ليس يدوم أبدا
كما تقول أن زيدًا قعدا
أو مستحيلٌ دائمُ البطلانِ
كقولك الإنسان غير فانِ

في النقيض

إن يتفقْ قولان في الأجزاءِ
في اللفظِ والمعنى على السواءِ
واتَّفقا في الجزء والزمانِ
والفعلِ والقوةِ والإمكانِ
وفي الإضافاتِ وهذا واجبُ
وذلك الآخرُ قول سالبُ
وذاك جزئيٌّ وهذا كُلي
فهو النقيض في جميع القولِ

في العكس

إن نُكِّس الموضوعُ والمحمولُ
في القول وهو مثل ما تقولُ
كل امرئ إنسٌ وكل إنسِ
امرءٌ وليس قلته بالعكسِ
فكلُّ ما يصدق مهما نُكِّسا
ذاك الذي يدعونه مُنعكسا
فإن سلب الكل مثل نفسهِ
يصيرُ سلب الكل عند عكسهِ
والموجب الجزئيُّ والكليُّ
فالعكس منه موجبٌ جزئيُّ
وسالب البعض بغير عكسِ
أن ليس كل جوهرٍ بأنسِ
ولا تقولُ ليس كل إنسِ
بجوهرٍ على طريق العكسِ

في القياس

إنَّ القياس هو قولٌ وضعا
في ضمنِه أشياء كي يجتمعا
منها مقال غيرها يستلزمُ
وكان مجهولًا فصار يُعلمُ
فمنه ما يلزم باقترانِ
ومنه بالشرط وذاك ثانِ
ولا اقتران قط ما لم يذكرْ
في خبرين واحد مكررْ
وكل ما سميته قضيةْ
شرطية تكون أو حمليةْ
ففي القياس سَمِّه مقدمةْ
وجزءَها حدًّا وما قد لزمهْ
نتيجةً وسمِّ حدًّا أوسطًا
ما قيل في القولين حتى ارتبطا
وما بقي فالطرفَين سمُّوا
كقولنا مكوَّن أو جسمُ
في قولنا الجسم له تمكُّنُ
وكل ذي تمكُّن مكوَّنُ
فإن ذا التمكُّن المكررُ
وقد بقي لكل قولٍ آخرُ
والباقيان منهما حصولُ
نتيجة القياس إذ تقول
من بعد ما قلنا فكل جسمِ
مكوَّن أي موجَدٌ فسمِّ
موضوعَ ما ينتج حدًّا أصغرا
كالجسم والثاني حدًّا أكبرا
كقولنا مكوَّن فالكبرى
ما فيه حدٌّ أكبر والصغرى
ما فيه حدٌّ أصغر والأوسطُ
أحواله ثلاثة إذ يربطُ
منها بأن يُوضع ثم يُحملا
وشكله هذا يُسمى أوَّلا
كقولنا كلُّ امرئٍ مجسَّمُ
وكلُّ جسمٍ جوهرٌ مكمَّمُ
وبعده أن يحملَ الحدان
عليه هذا الشكل يُدعى الثاني
كقولنا الجسم يُرى والعقلُ
ليس يُرى فالحالتان الحملُ
وبعده أن يُوضعَ الحدان
له وهذا ثالث المباني
كالقول كل طائرٍ ذو صلمِ
وليس كل طائرٍ ذو صممِ
ما لم تكن كبرى البناء الأولِ
كليَّةً تحمل أو لم تحملِ
ولم تكن صُغراه قولًا موجبا
أمكن ما ينتجه أن يكذبا
ما لم تكن كبرى البناء الثاني
كليةً ولم يلِ الجزءانِ
في السلب والإيجاب لن يتفقا
أمكن ما ينتج أن لا يصدقا
ما لم تكن صُغرى البناء الآخرِ
أوجب للموضوع حمل الأصغرِ
في نظمِه وكان قولي كُلي
فيه وليس منتجًا في الشكلِ
لو كان في القولَين قول سالبا
فليس ما يَنتج منه واجبا
لو كان في القولين قول جزئي
فليس ما ينتج قولًا كُلي
ما لم يكن في الأولين كلي
فكل ما يَنتج قول جزئي
لكنه في ثالث الأشكالِ
لا ينتج الكلي في الأقوالِ

في القياس المُستثنى المعروف بالشرطي

أما القياس من كلام متصلْ
فاستثنِ من مقدَّمٍ كما حُملْ
بُعيده ينتج عين التالي
كقولنا إن كان كل حالِ
كيفيةً سريعةَ الزوالِ
فالخُلقُ ليس أحدَ الأحوالِ
لكنَّ كل ما يكون حالا
كيفية ما تُسرع الزوالا
فالخُلق ليس أحد الأحوالِ
واستثنِ أيضًا بنقيض التالي
كقولنا إن كان جسمٌ سرمدًا
لم يَقبل الأعراض قط أبدًا
لكنه لها قبول حاملُ
فقولنا الجسم قديم باطلُ
وعين تالٍ ونقيض الأولِ
فليس ما ينتج في المتصلِ
لكن في المُنفصلات استثنِ
إن شئت بالنقيض أو بالعينِ
ينتج إن كان له جزءانِ
خلاف ما استثنَيته في الثاني
العين بالنقيض لا بالعينِ
وعكسه وذاك في الجزئينِ
وإن تكن كثيرة الأجزاءِ
وكان ما قد قيل في استثناءِ
عين فإن سائر التوالي
نقيضها نتيجة المقالِ
فإن يكُ النقيض فالتوالي
باقية بحالة انفصالِ
حتى إذا جميعهنَّ استثنيا
أنتج عين واحد قد بقيا
وإن يكن في واحد الأجزاءِ
سلب فلا ينتج باستثناء
عين بل النقيض مثل إما
أن لا تكون النفس قطُّ جسمًا
أو تتجزأ صورة المعقولِ
لكن تجزيها من المحيلِ
ينتج أن النفس ليست جسمًا
فقد قضينا في القياس حُكمًا

في الاستقراء

وإن يكن حكمٌ على كليِّ
لأجل ما شوهد في الجزئيِّ
فذلك المعروف باستقراء
قوَّته بكثرة الأجزاء

في التمثيل

وإن يكن على شبيه حُكمًا
بمثل ما في شبهه قد عُلما
فذلك المعروف بالتمثيل
وعند بعض الناس بالدليل

في مواد المقدمات

لا يُعرف المجهول بالمجهولِ
وإنما يُعرف بالمعقولِ
وإن حكمنا أن كل ما علمْ
قد كان مجهولًا فهذا يَنتظمْ
بغير حدٍّ وبلا نهايةْ
وليس عند أحدٍ درايةْ
بل عندنا مقدِّمات أوَلُ
منها يُحاز علم ما قد يجهلُ
فبعضها مقدمات الحسِّ
كظلمة الليل وضوء الشمسِ
وبعضها توجبها الأوهامُ
فإن يكن موضوعها الأجسامُ
وكل ما تدركه الحواسُّ
فليس فيما أوجبته باسُ
وإن تكن في مبدأ الجسومِ
وفي أمورهنَّ في العمومِ
أعمُّ من لواحق الأجسام
كالفرد والكثرة والتمامِ
والنقص والعلة والتناهي
فإن حكم الوهم فيها واهي
لكنه يَعرض للإنسانِ
كأنه من جملة الأيقانِ
فإنَّ فعْل الوهم في النفوسِ
فعلٌ سوى المحسوس كالمحسوسِ
وإن يكن أوجب ما قد قيلا
حكمًا كما مهما أحس نيلا
ولم يكن يحكم مثل النفسِ
إلا على ما يقتضيه الحسي
يشكُّ في ذاك وإن لم يَعترِ
وكان فيه الوهم ليس يَمتري
كقولنا لا بدَّ من خلاءِ
في خارج العالم أو ملاءِ
وقولنا ما ليس في مكانِ
فليس بالموجود في الأعيانِ
وبعضها مقدِّمات ذائعةْ
محمودة في العاقِلين شائعةْ
صارت لنا موقنة بمرةْ
كأنها حاصلة بالفطرةْ
فبعض هذا صادقٌ لكنَّهْ
ليس بديهيًّا كما قد ظنهْ
كقولنا الظلم قبيحٌ والكَذِبْ
عارٌ وإن العدل خيرٌ مستحبْ
والبعض يُعطيه الصوابَ الشرطُ
وبعضه لا صدقَ فيه قطُّ
ولو توهَّمنا بأنَّا الآنا
جئنا إلى الدنيا وما أتانا
رأيٌ ولا رسمٌ ولا آدابُ
أمكننا في كلها ارتيابُ
وبعضها ذائعة في البادي
إن فتشت عادت إلى العنادِ
كالقول عاونْ ظالمًا أخاكا
فربما أقنَع إن فاجاكا
وبعضها يُعرف بالمقبولةْ
كرأي من ترضى وتهوى قيلهْ
كما قبلنا نحن عن إمامنا
جواز أن نَنوي في صيامنا
قبل الزوال والدماءُ يُنقضُ
من أي عضو خرجت منه الوضو
وبعضها مقدِّمات العقلِ
كالقول إن الجزء دون الكلِّ
حصولها لعقلنا بالفطرةْ
لا يُمكن التشكيك فيه الفكرةْ
وبعضها مقدمات موهتْ
ببعض ما ليست به قد شُبِّهتْ
وهي التي تُعرف بالمغلَّطة
يجمع منهن قياس السفسطةْ
وبعضها مقدِّمات إنما
تقال للتخييل لا أن تعلما
كقولنا هذا السخي بحرُ
أو قولنا هذا الوسيم بدرُ

في البرهان

مقدماتُ حجةِ البرهانِ
ما كان بالفطرة للإنسانِ
أو مكان محسوسًا بلا إشكالِ
كما ضربناه من المثالِ
فبعضه برهان أن إنما
يفيد أن الشيء موجود وما
يفيد للوجود منه سببا
بل ربما كان له مُسبِّبا
كقولنا قد ستَر الشمسُ الأرَضْ٢
عن قمر قد جاز في السير العَرَضْ
لأنه منكسفٌ فهذا
أفاد أنَّا لم يفد لماذا
ليس الكسوف علَّة للسترِ
بل هو معلول له في البدرِ
فإن يكن أوسطه معلولًا
فإنهم يدعونه دليلًا
وبعضه برهان لم أوسطهْ
علة ما ينتجه ويربطهْ
كقولنا غدًا كسوفٌ للقمرْ
لأنه يَحصل عند الجوزهرْ
فإن كون قمر في الجوزهرْ
علَّة إحداث الكسوف في القمرْ
فصار هذا علة البيانِ
وعلة للشيء في الأعيانِ
وكان من وجهين هذا علهْ
ليس على ما قد ذكرنا قبلهْ
إذ كان ذاك علة البيانِ
لا علة للشيء في الأعيانِ
وكان لا يعطي اليقين دائمًا
بل قُدِّر ما يبقى الوجود قائمًا
مهما سمعت مطلق البرهانِ
فاعلم بأن القصد هذا الثاني
أوائل البرهان صدقٌ سرمدًا
ضرورةً لا يستحيل أبدًا
لذاك ليس الحمل فيها كلي
إلا الذي يشمل عند الحملِ
كلًّا وفي كل زمان كلهْ
فليس يخلو واحد عن حملهْ
والحمل فيها أوَّلي ذاتي
مناسب المطلوب في الحالاتِ
والأوليُّ أن يكون الحملُ
ليس على الأعم منه قبلُ
كحملك الحي على الإنسانِ
لا الجسم إن الجسم حمل ثاني
فكل ذاتي فإما حاصلُ
في حد موضوعاته وداخلُ
كالحي للإنسان والأقطارِ
للجسم والناهق للحمارِ
أو داخل موضوعه في حدهْ
لأنه يوجد فيه وحدِهْ
مثل القنا للأنف والتربيعِ
والسطح إذ يُحدُّ بالموضوعِ
وكل محمول على الجميعِ
وأوَّليُّ الحمل للموضوعِ
وحمله في جملة الزمانِ
فذلك الكلي في البرهانِ
إن كانت الحدود في البرهانِ
ذاتيةً وعلةَ البيانِ
وعلة الوجود في الأعيانِ
أيضًا فلا يدخل في البرهانِ
غير الذي يُناسب المطلوبا
وليس من طباعه غريبا

في المطالب

كل سؤال فهو إما عن هَلْ
أو ما هو الشيء الذي قد يُسألْ
أو لمْ هوَ الشيء الذي يرادُ
والأيُّ أيضًا ربما يزادُ
والهلُّ إما هلْ وجود الشيِّ
وذاك قبل اللمْ وما والأيِّ
ذاك وأما هل كذا محمولُ
على كذا وهو كما تقولُ
هل تبطل النفس إذا انحلَّ الجسدْ
هل الزمان هو قدر أو عددْ
والماء إما طالبُ حدِّ الذاتْ
كقولنا ما الحيوان والنباتْ
أو طالب معنى اسم شيء كالخلا
يسبق هذا اسم في الماء الهلا
وشرح معنى الاسم في المفهومِ
يكون للموجود والمعدومِ
والحد للموجود دون ما فقدْ
فإن ما ليس بشيء لا يحدْ
واللمُّ يبغي علَّة المعلولِ
يروم طورًا علة المقولِ
وتارة علَّة نفس الأمرِ
وهو الحقيقي على ما ندْري

في الجدل، والخطابة، والشعر، والمغالطة

الذايعات واللواتي تقبلُ
فإنما موضوعهنَّ الجدلُ
والذايعات باديَ السماع
فللخطابات وللإقناعِ
وذلك الوهميُّ والمشبَّهُ
مغالطي علمه مموَّهُ
وذلك المَوقع للتخييلِ
يصلح في الشعر سوى الدليلِ
فهذه ما قيل في التصديقِ
والحمد لله على التوفيقِ

في الحد

العلم منه ما هو التصورُ
ومنه تصديق لشيء يخبرُ
ويَحصل التصديق بالقياسِ
وقد شرحناه بلا التباسِ
والحدُّ منه يحصل التصورُ
والرسم أيضًا منه فيه أثرُ
إذا أردتَ أن تحدَّ حدًّا
فرتِّب الجنس القريب جِدًّا
فإنه يَحصر كل ذاتي
يكون للمحدود في الصفاتِ
ثم اطلبِ الفصول فهي الحادةْ
من صورة أخذتَها أو مادةْ
أو فاعل أو غاية للشيِّ
كالنُّطق للإنسان بعد الحيِّ
والأنف للأفطس والصفراءِ
للغبِّ والصحة للدواءِ
وإن وجدت واحدًا مميزًا
فلا تقف حتى يكون موجزًا
فذاك نقصان وليس القصدُ
ساذج تمييز يُفيد الحدُّ
بل اطلب الفصول حتى تنفدا
فإن قصد العقل فيما حُدِّا
إن يحصل الشيء على جميع ما
به من الأوصاف قد تقوَّما
محصَّلًا في ذاته معقولًا
فإن أضعت مرةً فصولًا
إذ صير التمييز فصلًا حاصلًا
فما علمت الشيء علمًا كاملًا
لأنَّ ذات الشيء كل وصفهِ
ما كان ذاتيًّا ولم يكفهِ
بعض صفات ذاته أن يوجدا
كذاك لا يكفيه أن يُحدَّدا
هذا وأما الرسم فهو قولُ
مميِّز وليس فيه فصلُ
بل عرض كقولنا للبَشَرِ
في رسمه حي عريض الظفرِ
منتصب القامة بادي الجلدِ
والجنس في الرسم كما في الحدِّ
إذا أريد الرسم رسمًا كاملًا
وكل قول لم يكن مشاكلًا
كما حدَدناه فحدٌّ ناقصُ
أو هو رسمٌ ناقصٌ لا خالصُ
فلنختم الآن الكتاب ختمًا
فقد نظمنا العلم فيه نظمًا
١  يريد «الإسكندر المكدوني» بن «فليبس» ووزيره «أرسطو».
٢  حرَّك الراء لضرورة الشعر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤