البطء

١

ألحَّت علينا فجأةً فكرة أن نقضي المساء والليلة في واحد من تلك القصور الريفية التي تحوَّل معظمها في فرنسا إلى فنادق. رُقعة من الخضرة ضائعة وسط مساحة صغيرة جرداء وقبيحة، ممرات وأشجار وطيور وسط شبكة واسعة من الطرق الرئيسية. أقود سيارتي وأُلاحظ في مرآة الرؤية الخلفية سيارةً أخرى ورائي، مصباحها الأيسر الصغير يضيء وينطفئ وكأن موجات متلاحقة من القلق ونفاد الصبر تشع من السيارة كلها. سائقها يتحيَّن الفرصة لكي يتجاوزني، وينتظر اللحظة المناسبة، انتظار صقر يتربص بعصفور صغير.

تقول «فيرا» زوجتي: «كل خمسين دقيقة، يموت في فرنسا شخص على الطريق. انظر إلى أولئك المجانين الذين يندفعون في عجلة من حولنا، إنهم نفس الناس الذين يتملكهم الحذر والسكون وهم يشاهدون إحدى العجائز تتعرض للسرقة أمام أعينهم في الشارع. كيف لا يصيبهم الرعب وهم خلف عجلات القيادة؟» وماذا يمكن أن أقول؟ ربما يكون ذلك الرجل المحنيُّ الظهر فوق دراجته النارية لا يفكر سوى في اللحظة الراهنة وهو يطير بدراجته. إنه أسير لحظة من الزمن، مقطوع الصلة بالماضي والمستقبل، مقتلَع من تواصل الزمن، خارج الزمن، أو بمعنًى آخر لعله في حالة من النشوة، الانخطاف، وفي هذه الحال لا يكون على وعي بعمره ولا بزوجته أو أطفاله أو شواغله الحياتية، وبالتالي فهو ليس خائفًا؛ لأن مصدر الخوف يكمن في المستقبل، والشخص المتحرر من المستقبل ليس لديه ما يخشاه!

السرعة هي شكل النشوة التي خلعتها الثورة التكنولوجية على الإنسان. وعلى العكس من سائق الدراجة النارية؛ فإن الشخص الذي يركض يكون دائمًا حاضرًا في جسده، عليه أن يفكر بكل ما فيه، من جروح ربما، أو بثور أو إرهاق؛ إنه عندما يركض يشعر بوزنه، بعمره، ويكون أكثر إحساسًا بنفسه عن ذي قبل … وكذلك أكثر إحساسًا بالزمن. كل ذلك يتغير عندما يوكِّل الإنسان صلاحية السرعة للآلة … من الآن يصبح خارج العملية ويستسلم لسرعة لا جسدية، لا مادية، السرعة البحتة، السرعة ذاتها، سرعة النشوة والانخطاف.

تحالف غريب؛ التجريد البارد للتكنولوجيا مع لهيب النشوة والانخطاف! أذكر سيدة أمريكية من ثلاثين سنة، كان في أسلوبها الصارم المتشدد نوع من الشبق التآمري، (بحياد نظري بارد) ألقت عليَّ محاضرة عن التحرر الجنسي، كانت الكلمة التي تتكرر كثيرًا في حديثها هي «هزَّة الجماع»، ذكرتها ثلاثًا وأربعين مرة … عقيدة هزة الجماع …! المنفعة في الحياة الجنسية …! الكفاءة في مقابل التراخي … الإيلاج عندما يصبح عقبة ويتم التغلب عليها بأقصى سرعة للوصول إلى انفجار من النشوة والتي هي الهدف الحقيقي والوحيد لممارسة الحب … وللكون.

لماذا اختفت لذة البطء؟ ياه! أين ذهبت هوينى السنوات الخوالي؟ أين راح متسكعو الأغنيات الشعبية، المشردون الذين كانوا يتنقلون في تكاسل من طاحونة إلى أخرى ثم ينامون تحت النجوم؟ هل اختفوا مع الدروب والسهوب المعشبة والمساحات التي قطعت أشجارها … مع الطبيعة؟! هناك حكمة تشيكية تصف ذلك الكسل اللذيذ فتقول: «إنهم يحدقون في نوافذ الرب.» والشخص الذي يحدق في نافذة الرب لا يصيبه الملل، بالعكس … هو إنسان سعيد. ولكن في عالمنا أصبح الكسل اللذيذ أو التراخي يعني أنك لا تجد شيئًا تفعله، مع أن الأمر مختلف جدًّا. الشخص الذي ليس لديه ما يفعله إنسان محبط، ضجر، يبحث باستمرار عن النشاط الذي ينقصه.

أنظر في مرآة الرؤية الخلفية: السيارة ذاتها لا تستطيع أن تتجاوزني بسبب سيل السيارات القادم من الاتجاه المعاكس. هناك امرأة جالسة إلى جانب السائق، لماذا لا يقص عليها شيئًا مسلِّيًا؟ لماذا لا يضع يده على ركبتها مثلًا؟ لا بد أنه، بدلًا من ذلك، يكيل السباب للسائق الذي أمامه لأنه لا يسير بسرعة كافية، كذلك لا يخطر ببال المرأة أن تلمس السائق بيدها … إنها تشاركه القيادة بعقلها … ومن المؤكد أنها أيضًا تلعنني! أتذكر أيضًا رحلة أخرى من باريس إلى قصر ريفي، حدثت منذ أكثر من مائتي عام. رحلة «مدام دي ت» والفارس الفرنسي الشاب الذي كان يرافقها. لأول مرة يقتربان من بعضهما، وجو الشهوة الجنسية حولهما نابع من بطء الإيقاع … حركة السيارة تهز الجسدين فيتلامسان دون قصد في البداية، وبعد ذلك عن قصد وعمد … ثم تبدأ القصة!

٢

هذا ما تقوله لنا رواية «فيفان دينون» القصيرة: شاب في العشرين يذهب إلى المسرح ذات مساء (لا يُذكر اسمه ولا لقبه وإن كنت أتخيله فارسًا فرنسيًّا)، يرى سيدة في المقصورة المجاورة له (تذكر الرواية فقط أن اسمها «مدام دي ت».) هي صديقة للكونتيسة عشيقة الفارس. تطلب منه أن يزورها في منزلها بعد انتهاء العرض، مدهوشًا من هذه الخطوة المفاجئة الواضحة ومرتبكًا لأنه يعرف أن «مدام دي ت» تحب ماركيزًا ما (لا نعرف اسمه … فقد دخلنا عالم السرية حيث لا أسماء)، يجد الفارس المرتبك نفسه في العربة بجوار السيدة الجميلة.

وبعد رحلة ناعمة ممتعة، تقف العربة أمام سلالم القصر الريفي حيث يحييهما زوج «مدام دي ت» وهو مقطب الجبين. يتناول ثلاثتهم العشاء في جو كئيب يتخلله كلام قليل، ثم يستأذن الزوج ويتركهما معًا. وتبدأ ليلتهما … ليلة هي لوحة من ثلاثة أجزاء منفصلة متصلة، ليلة هي رحلة قصيرة على ثلاث مراحل. أولًا … يسيران في الحديقة، ثانيًا يمارسان الجنس وسط خميلة، وأخيرًا يواصلان ممارسة الجنس في غرفة سرية من غرف القصر. عند مطلع الفجر يفترقان. وعندما لا يستطيع أن يتعرف على غرفته في متاهة الممرات يعود الفارس إلى الحديقة. ولدهشته يقابل الماركيز … نفس الرجل الذي يعرف أنه عشيق «مدام دي ت»! ويحييه الماركيز الذي كان قد وصل إلى القصر لتوه، ببشاشة، ويخبره بسبب تلك الدعوة الغامضة: «مدام دي ت» تريد غطاء لعلاقتها، لكي يبقى هو «الماركيز» بعيدًا عن شك الزوج. سعيدًا بنجاح الحيلة، يبدأ الماركيز في توبيخ الفارس الذي قام بتلك المهمة الغريبة وأدى دور العشيق المزيف. وبعد ليلة غرامية مرهقة يغادر الفارس المكان إلى باريس في العربة الصغيرة التي يوفرها له الماركيز.

كانت تلك الرواية القصيرة قد نُشرت لأول مرة في سنة ١٧٧٧م بعنوان «بلا غد» دون ذكر لاسم المؤلف (حيث إننا في عالم السرية)، الذي وضع بدلًا منه ستة حروف، كما نُشرت الرواية مرة ثانية في سنة ١٧٧٩م دون ذكر لاسم المؤلف أيضًا، وفي العام التالي ظهرت باسم مؤلف آخر، ثم طُبعت أكثر من مرة في عامي ١٨٠٢، ١٨١٢م (دون اسم المؤلف) وبعد نصف قرن من الإهمال ظهرت في سنة ١٨٦٦م، ومنذ ذلك الوقت وهي تنسب إلى «فيفان دينون»، ثم ذاعت شهرتها باضطراد على مدى هذا القرن، وتعتبر اليوم من أهم الأعمال الأدبية التي تعبر عن فن وروح القرن الثامن عشر.

٣

في اللغة اليومية يعني مصطلح «مذهب اللذة» الميل اللاأخلاقي لحياة منغمسة في الشهوات الحسية … إن لم يكن في الرذيلة الصريحة. ولكن هذا المعنى ليس دقيقًا بكل تأكيد؛ لأن «أبيقور» أول منظِّر عظيم للذة، كان يفهم اللذة أو السعادة على نحو نزاع للشك … اللذة هي غياب المعاناة؛ فالمعاناة إذَن هي المفهوم الأساسي لمذهب اللذة، والإنسان يكون سعيدًا إلى الدرجة التي تمكنه من تجنب المعاناة، وحيث إن اللذة قد تجلب تعاسة أكثر مما تجلب من سعادة، ينصح «أبيقور» باللذة الحذرة … الحصيفة … المعتدلة! إلا إن حكمة «أبيقور» وراءها خلفية حزينة، فالإنسان الذي قد زُج به في معمعة بؤس الحياة، يرى أن القيمة الواضحة والوحيدة هي اللذة مهما كانت تافهة؛ فهو يستطيع أن يشعر بها في: جرعة ماء بارد، في نظرة إلى السماء (نافذة الرب)، في عناق أو في قُبلة.

وسواء كانت اللذة معتدلة أم لا؛ فإنها لا تخص إلا الشخص الذي يمارسها، ويمكن لفيلسوفٍ ما أن ينتقد مذهب اللذة لكمونها في النفس البشرية، إلا أنني أرى أن نقطة الضعف في هذا المذهب ليست تمركز اللذة حول النفس وإنما (وليتني أكون مخطئًا) في كونها خيالية بكل أسف! وأنا في الواقع أشك في إمكانية تحقيق النموذج في هذا المذهب وأخشى ألا يكون نوع الحياة الذي يزكيه لنا متسقًا مع الطبيعة الإنسانية.

كان فن القرن الثامن عشر يستخلص اللذة من وسط ضباب المحرمات الأخلاقية، ونتج عن ذلك الإطار الذهني الذي نسميه بالخلاعة أو المجون، والذي يشع من رسوم «فراجونارد» و«واتو»، ومن بين صفحات «دي ساد» و«كريبيلون الأصغر» أو «تشارلز دو كلوز»، وهذا سر إعجاب صديقي الشاب «فانسان» بذلك القرن، وسبب تمنيه أن يعلق وجه الماركيز «دي ساد» شعارًا على طية صدر سترته.

أنا أشاركه ذلك الإعجاب، وإن كنت أضيف (دون أن يسمعني أحد) أن القيمة الحقيقية لذلك الفن ليست في الترويج لمذهب اللذة، وإنما في تحليله، وهذا هو السبب الذي يجعلني أعتبر «علاقات خطرة» ﻟ «كوديرلوس دي لاكلوز» واحدة من أعظم الروايات في التاريخ.

شخصياتها معنية فقط بتحقيق اللذة، ورغم ذلك يستطيع القارئ شيئًا فشيئًا أن يكتشف أن تحقيق اللذة هو الذي يجذبهم أكثر من اللذة ذاتها، وليست الرغبة في اللذة إنما الرغبة في الانتصار هي التي تدفعهم إلى ذلك.

و ما قد يبدو في البداية لعبة خليعة أو ماجنة، يتحول تدريجيًّا وعلى نحو لا يمكن اجتنابه إلى صراع حياة أو موت. ولكن ما علاقة الصراع بمذهب اللذة؟ كتب أبيقور: «الإنسان العاقل لا ينشد أي نشاط له علاقة بالصراع.» وكون رواية «علاقات خطرة» مكتوبة على شكل رسائل لا يعني أن بناءها الفني يمكن استبداله بآخر. فالشكل والبناء بليغ في حد ذاته ونعرف منه أن أي شيء يحدث للشخصيات فإنما يحدث لكي يخبرونا به؛ لنقله؛ لتوصيله؛ للاعتراف به؛ ولكتابته. وفي عالم مثل هذا يمكن أن يقال إن فيه كل شيء وأي شيء، يكون السلاح الأكثر توفرًا والأشد فتكًا هو: الكشف.

«فالمو» بطل الرواية يرسل للمرأة التي أغواها رسالة وداع تحطمها، وصديقته الماركيزة «دي مارتيل» هي التي تمليها عليه كلمة كلمة ثم بعد ذلك وبدافع الانتقام، ترى «دي مارتيل» أحد خطابات «فالمو» السرية لخصمه الذي يدعوه للمبارزة … ويموت «فالمو»، وبعد موته تنكشف كل المراسلات السرية بينه وبين «مارتيل» وتقضي الماركيزة بقية أيامها محتقرة، مطرودة، مطاردة. لا شيء في تلك الرواية يظل سرًّا مقصورًا على اثنين، كل واحد يبدو كمن يعيش داخل محارة بحرية رنانة، ضخمة، كل كلمة مهموسة فيها يتردد صداها ويتضاعف إلى ما لا نهاية. عندما كنت صغيرًا، كانوا يقولون لي إنني إذا وضعت محارة على أذني فسوف أسمع همهمات البحر السحيقة. وبنفس الطريقة، كل كلمة ينطق بها في عالم «لاكلوز» تظل مسموعة إلى الأبد؛ فهل هذا هو القرن الثامن عشر؟ هل هذه هي جنة اللذة الشهيرة؟ أم يا تُرى كانت البشرية تعيش دائمًا داخل محارة رنانة دون أن تدري؟

أيًّا كانت الحال — وحتى لو كانت محارة رنانة — فإن ذلك ليس عالم «أبيقور» الذي أوصى تلاميذه: «… ستعيشون مختفين!»

٤

الرجل الموجود في مكتب الاستقبال بالفندق شخص لطيف، أكثر لطفًا من موظفي الاستقبال في العادة. عندما تذكَّر أننا لم نأتِ إلى هنا منذ عامَين، راح يخبرنا بالتغيرات التي حدثت. الآن لديهم قاعة كبيرة للمؤتمرات تصلح لكل أنواع الاجتماعات، كما أنشَئُوا مسبحًا رائعًا. كنا متلهفين لرؤيته، عبرنا بهوًا مضاءً ذا نوافذ كبيرة يطل على الحديقة، في نهاية البهو سلم عريض يؤدي إلى المسبح المسقوف بالزجاج. تذكِّرني «فيرا»: «في المرة الماضية كانت هنا حديقة ورد صغيرة»، نستريح قليلًا في الغرفة ثم نخرج إلى الحديقة حيث تنحدر المروج الخضراء ناحية نهر السين. كل شيء جميل ورائع ونحن نشعر بالسعادة. قررنا أن نبدأ نزهة طويلة على الأقدام … بعد دقائق قليلة لاح أمامنا فجأة طريق واسع وسيارات تندفع في جنون فقفلنا عائدين.

العشاء ممتاز، والكل في أجمل ملابسه وكأنهم يحتفلون بما مضى من الزمن الذي تحوم ذكرياته هنا تحت السقف. يجلس إلى جوارنا رجل وزوجته وطفلاهما. أحد الطفلَين يغني بصوتٍ عال. ينحني النادل على طاولتهما بطبق كبير، تحدق فيه الأم بثبات محاولة أن تجعله يقول شيئًا مشجعًا للطفل، الذي وقف على كرسيه ورفع عقيرته بالغناء عندما وجد أن الجميع ينظرون إليه! على وجه الأب تلوح ابتسامة رضًا. نبيذ رائع، بط، حلوى (هي سر المهنة في هذا المكان) وأنا و«فيرا» نثرثر في رضا ودعة. نعود إلى غرفتنا.

أفتح التلفزيون للحظة. على الشاشة أيضًا مزيد من الأطفال ولكنهم في هذه المرة سود … يحتضرون. يتصادف وجودنا في الفندق مع تلك الفترة التي كانوا يعرضون فيها على الشاشة، ولعدة أسابيع متوالية، أطفال بلد أفريقي نسيت اسمه (كان ذلك منذ عامَين أو ثلاثة، فكيف يمكن للمرء أن يتذكر كل تلك الأسماء؟!) خربته الحرب الأهلية وضربته المجاعة. الأطفال مهزولون، منهكون، لا يستطيعون طرد الذباب الذي راح يرتع ويلعب على وجوههم.

تقول «فيرا»: «هل يموت الكبار أيضًا في ذلك البلد؟» لا … لا … الغريب في تلك المجاعة، والذي يجعلها فريدة من نوعها بين ملايين المجاعات التي حدثت على الأرض، أنها كانت لا تحصد سوى الأطفال! لم نشاهد على الشاشة شخصًا بالغًا واحدًا يعاني، رغم أننا كنا نحرص على مشاهدة الأخبار كل يوم لنتأكد من تلك الظاهرة غير المسبوقة؛ لذا كان من الطبيعي جدًّا أن يهبَّ الأطفال وحدهم للتمرد على قسوة الكبار، بكل عفوية الأطفال بدءوا تلك الحملة الشهيرة «أطفال أوروبا يرسلون الأرز إلى أطفال الصومال» … الصومال! طبعًا! هذا الشعار الشهير هو الذي ذكرني بالاسم الذي نسيته. ياه! كم هو مؤسف أن يضيع ذلك الأمر كله في عالم النسيان! لقد اشتروا أكياس الأرز بأعداد كبيرة. الآباء تأثروا كثيرًا بذلك الشعور الكوني بالتعاطف من قبل الصغار وتبرعوا بمبالغ نقدية، وكذلك هرعت كل المؤسسات للمساعدة.

كان يتم تجميع الأرز في المدارس ويُنقل إلى الموانئ ويحمل في البواخر المتجهة إلى أفريقيا، وكان الكل يتابع ملحمة الأرز المجيدة.

مباشرة بعد صور الأطفال المحتضرين، تظهر على الشاشة فتيات في عمر الزهور … في السادسة أو الثامنة يرتدين ملابس أكبر من عمرهن ويتصرفن بنفس أسلوب المراهقات في الغنج والدلال.

شيء فاتن، مؤثر، مضحك، عندما يتصرف الأطفال مثل البالغين. الأولاد والبنات يقبلون بعضهم البعض في الفم … ثم يظهر رجل يحمل طفلًا رضيعًا بين ذراعيه ليشرح للمشاهدين أفضل الطرق لغسل «الكفولة» التي بللها الرضيع! بعد ذلك تقترب امرأة جميلة وتفتح فمها، تخرج منه لسانًا ظالم الشهوة شهي الجنس ليخترق الفم الطيب لذلك الذي يحمل الرضيع.

تغلق «فيرا» التلفزيون وهي تقول: «حان وقت النوم.»

٥

الأطفال الفرنسيون الذين هبوا لمساعدة أصدقائهم الأفارقة الصغار يذكرونني دائمًا بوجه أحد المثقفين واسمه «بيرك» كانت تلك أيام مجده. وكما هي الحال عادة مع المجد … كانت الهزيمة هي الحافز. دعنا نتذكر …

في ثمانينيات هذا القرن صُدم العالم بوباء يسمى الإيدز، الذي كان ينتقل عن طريق الاتصال الجنسي، والذي انتشر بداية بين الشواذ. وللوقوف ضد المتعصبين الذين كانوا يعتقدون أن الوباء كان نوعًا من العقاب السماوي ويتجنبون المرضى كما لو كانوا يحملون الطاعون، قام بعض المتسامحين ليعبروا عن روح الأخوة مع المرضى وليظهروا للناس أن لا خطر من صحبتهم. والذي حدث أن «دوبير كس» عضو الجمعية الوطنية والمثقف «بيرك» نظَّما حفل غداء في مطعم باريسي شهير لمجموعة من المصابين بالإيدز، وتم كل شيء في جوٍّ ودي. ولكيلا تفوته فرصة تقديم مثال جيد، دعا النائب «دوبير كس» كاميرات التصوير أثناء تناول الحلوى. لحظة ظهور الكاميرات على عتبة المطعم، نهض من مقعده واقترب من أحد المرضى ورفعه من كرسيه وقبله في فمه وعليه آثار الحلوى التي كان يتناولها. فوجئ «بيرك» بالمشهد وفهم فورًا، طالما أن المسألة مصورة؛ فإن قبلة «دوبير كس» سيكتب لها الخلود والشهرة؛ لذلك وقف في الحال وفكر في أن يقبِّل هو الآخر أحد المرضى.

في المرحلة الأولى من التفكير قاوم ذلك الإغراء؛ لأنه لم يكن في قرارة نفسه متأكدًا من أن ملامسة فم المريض لا تنقل العدوى. في المرحلة الثانية قرر أن يتغلب على حذره، مدركًا أن لقطة هذه القبلة تستحق المخاطرة، ولكنه في المرحلة الثالثة وأثناء توجهه نحو الفم الذي يحمل آثار الحلوى واللعاب أوقفته فكرة أخرى … أنه لو قبل رجلًا مريضًا هو الآخر؛ فلن يجعله ذلك ندًّا ﻟ: «دوبير كس»، بالعكس، سيكون مجرد «دوبير كس» مقلد، تابع، وبهذه المحاكاة السريعة؛ فإنه سيضيف مزيدًا من الشهرة والتألق لمجد الرجل الآخر … ولذلك خمد حماسه واستقر وراح يبتسم في تفاهة! ولكن لحظات التردد تلك كلفته الكثير لأن الكاميرات كانت هناك لتفضحه … ففي أخبار المساء قرأت فرنسا كلها على وجهه مراحل حيرته الثلاث وضحك الجميع في كمه!

وهكذا جاءت حكاية الأطفال الذين يجمعون أكياس الأرز للصومال لكي تنقذه في الوقت المناسب؛ فكان يستغل كل فرصة ليجلد الجمهور بالقول المأثور: «الأطفال فقط هم الذين يعيشون الصدق» ثم سافر إلى أفريقيا لكي تلتقط له الصور وهو يقف بجوار طفلة سوداء تحتضر ووجهها يغطيه الذباب. اشتهرت الصورة في العالم كله أكثر من شهرة صورة «دوبير كس» وهو يقبِّل مريض الإيدز؛ لأن طفلة تموت تساوي أكثر من شخص بالغ يموت، وهي حقيقة واضحة تدل على أن الوقت لم يكن في صالح «دوبير كس» ولكن الرجل لم يعتبر نفسه مهزومًا … وبعد أيام قليلة يظهر على شاشة التلفزيون كمسيحي محافظ على دينه، كان يعرف أن «بيرك» ملحد، الأمر الذي جعله يفكر في إحضار شمعة معه، وهي سلاح يحني رأسه أمامه أشد الكافرين عنادًا، ويخرجها من جيبه أثناء المقابلة التليفزيونية، ويشعلها بغرض شرير وهو تسفيه اهتمام «بيرك» بالبلاد البعيدة الغربية، ثم راح يتحدث عن أطفالنا المساكين، في قرانا وضواحينا، ويدعو إخوانه المواطنين إلى الخروج للشوارع، يحمل كل منهم شمعة في مسيرة كبرى تجوب شوارع باريس تضامنًا مع الأطفال الذين يعانون، ثم (وهو يكبح طربه) يوجه الدعوة إلى «بيرك» ليجيء وينضم إليه في مقدمة الموكب. كان على «بيرك» أن يختار: إما أن يشارك في المسيرة ويحمل شمعة كما لو كان مرتلًا في الكنيسة وراء «دوبير كس»، أو أن يتهرب من الدعوة ويخاطر بتحمل لوم اللائمين. كان ذلك بمثابة فخ عليه أن يتخلص منه بفعل جسور مفاجئ؛ قرر أن يطير مباشرة إلى بلد آسيوي كان الناس فيه في حالة ثورة … هناك يمكن أن يصرخ بأعلى صوته مؤيدًا للمضطهدين والمظلومين. ولكن للأسف لم تكن الجغرافيا أبدًا لعبته ولا ما يناسبه. كان العالم بالنسبة له عبارة عن «فرنسا» و«غير فرنسا» وكان دائمًا ما يخلط بين البلدان والأقاليم، ولذلك هبط من الطائرة في بلد آخر يعيش في سلام ولا يعرف إلا الهدوء والاستقرار، كان المطار الجبلي مغطى بالجليد وأعمال الخدمة متوقفة، وكان عليه أن ينتظر هناك ثمانية أيام إلى أن تحمله طائرة إلى باريس يطحنه الجوع والإنفلونزا. أما «بونتيفان» فكان تعليقه: «بيرك هو سيد شهداء الراقصين.» مفهوم «الراقص» تعرفه دائرة ضيقة فقط من أصدقاء «بونتيفان» وهو من اختراعه، ومن أسف — ربما — أنه لم يوسعه في كتاب أو يجعله موضوعًا لعدة ندوات، ولكنه لا يهتم بالشهرة … أما أصدقاؤه فيستمعون إليه باهتمام ودهشة.

٦

يقول «بونتيفان» إن جميع السياسيين هذه الأيام بداخل كل منهم جزء من الراقص! وجميع الراقصين متورطون في السياسة، الأمر الذي ينبغي ألا يجعلنا نخلط بينهم … الراقص يختلف عن السياسي في أنه لا ينشد السلطة … بل المجد! ليس لديه الرغبة في أن يفرض على العالم هذا المشروع الاجتماعي أو ذاك، وإنما في أن يستحوذ على المسرح لكي يلمع تحت الأضواء، والاستحواذ على المسرح يتطلب أن تبعد الآخرين عنه، وهذا يلزمه تكتيكات قتالية من نوع خاص. المعركة التي يخوضها الراقص يسميها «بونتيفان» «الجودو الأخلاقي». الراقص يخلع القفاز للعالم كله: من الذي يستطيع أن يبدو أفضل خلقًا (أكثر شجاعة، أكثر لطفًا، أكثر إخلاصًا، أكثر تضحية بالنفس، أكثر صدقًا) منه؟ وهو يستغل كل وسيلة تجعله يضع الآخر في منزلة أقل. وإذا وجد الراقص فرصة ليدخل اللعبة السياسية فسوف يرفض كل الصفقات السرية بطريقة مظهرية (الصفقات التي كانت دائمًا ساحة اللعب للسياسة الحقيقية)، وبينما يستنكرها باعتبارها مضللة وغير شريفة ومنافقة وقذرة؛ فإنه يضع مقترحاته علنًا على المنصة ويغني ويرقص، وسوف يدعو الآخرين بأسمائهم ليفعلوا نفس الشيء.

وأؤكد: لا يفعل ذلك بهدوء (يعطي الآخر وقتًا للتفكير ومناقشة المقترحات الأخرى)، بل علنًا وإن أمكن بطريقة مفاجئة؛ «هل أنتم مستعدون الآن (مثلي) أن تتنازلوا عن راتب شهر أبريل لصالح أطفال الصومال؟» ولا يكون أمام الناس الذين تأخذهم المفاجأة سوى أحد خيارَين: إما أن يرفضوا ويظهروا بمظهر أعداء الأطفال، أو أن يقولوا «نعم» مع عدم ارتياح مخيف، من المؤكد أن الكاميرا سوف تفضحه بطريقة شريرة كما فضحت تردد «بيرك» المسكين في نهاية حفل الغداء على شرف مرضى الإيدز.

«لماذا أنت صامت يا دكتور H بينما يسحقون حقوق الإنسان في بلادكم؟» هذا السؤال وُجِّه إلى الدكتور H في لحظةٍ ما — أثناء إجرائه عملية جراحية لأحد المرضى — فلم يحر جوابًا، ولكن عندما انتهى من خياطة البطن المفتوح كان عار صمته يغطيه لدرجة أنه بلا تفكير اندفع يقول كل ما يتمنى أن يسمعه منه إنسان، وبعده قال الراقص الذي كان يلقنه: «أخيرًا! حتى وإن جاء ذلك متأخرًا بعض الشيء …» (وهذه قبضة أخرى في الجودو الأخلاقي وهي قبضة قوية).

قد تنشأ ظروف (في ظل الدكتاتوريات مثلًا) عندما يكون من الخطر أن تتخذ موقفًا معلنًا. بالنسبة للراقص، الأمر أقل خطورة عنه بالنسبة للآخرين؛ لأنه عندما يدخل دائرة الضوء ويكون مرئيًّا من جميع الزوايا، يصبح في حماية اهتمام العالم من حوله، ولكن هناك معجبوه المجهولون الذين يستجيبون لمواعظه، ونصائحه الرائعة … الخرقاء … عن طريق توقيع البيانات وحضور الاجتماعات الممنوعة والتظاهر في الشوارع، هؤلاء الناس سوف يعاملون بلا رحمة، ولكن الراقص لن يستسلم للإغراء العاطفي ويلوم نفسه على ما جلبه لهم، معتقدًا أن الهدف النبيل أهم من هذا الفرد أو ذاك. ويعترض «فانسان» على «بونتيفان»: «الكل يعرف أنك تكره «بيرك» ونحن معك في ذلك، ولكن حتى وإن كان غبيًّا أو حمارًا إلا أنه قد ناصرَ قضايا نعتبرها نبيلة، أو إن شئت دعنا نقول إن غروره هو الذي ناصرها. وأنا أريد أن أسألك: إذا كنت تريد أن تدخل ساحة الحوار العام وتجذب الانتباه نحو خطر أو خوفٍ ما، أو تساعد إنسانًا يعاني من الاضطهاد … فكيف تفعل ذلك اليوم دون أن تكون راقصًا أو دون أن تبدو كذلك؟»

ويجيب «بونتيفان» الغامض: «مخطئ إن أنت تصورت أنني أقصد الهجوم على الراقصين، أنا بالعكس أدافع عنهم، وأي شخص يكرههم أو يحاول أن يشوه سمعتهم سيواجه عقبة لا يمكن تذليلها: لطفهم! الراقص، بتعرضه المستمر للجمهور يعتبر نفسه خالٍ من العيوب، فوق مستوى اللوم، إنه لم يعقد اتفاقًا مع الشيطان مثل «فاوست»، بل عقد حلفًا مع الملاك يسعى لأن يجعل حياته عملًا فنيًّا وهذا ما يساعده عليه الملاك، ولا تنسَ أن الرقص فن أيضًا. جوهر الراقص تراه في الهاجس الذي يسيطر عليه بأن حياته تحتوي على مادة الفن، هو لا يقدم الأخلاق أو الفضيلة من خلال الوعظ، إنه يرقصها! يتمنى أن يحرك العالم ويبهره بجمال حياته التي يعشقها كما يعشق النحات التمثال الذي يقوم بصنعه!

٧

أعجب لماذا لا ينشر «بونتيفان» أفكاره المثيرة هذه! على أية حال ليس لديه الكثير ليفعله، ذلك الدكتور المؤرخ الذي يجلس ضجرًا في مكتبه بالمكتبة الوطنية … ألا يهتم بوصول نظرياته إلى الناس؟ الأمر، في الواقع، ليس على هذا النحو بالضبط، إنه يكره الفكرة نفسها. الشخص الذي ينشر أفكاره يغامر بإقناع الآخرين بوجهة نظره ويؤثر عليهم وهكذا ينتهي به المطاف في دور أولئك الذين يطمحون لتغيير العالم. هل قلت تغيير العالم؟! يا له من هدف شديد البشاعة في نظر «بونتيفان»! ليس لأن العالم جميل ورائع كما هو، وإنما لأن أي تغيير لا بد أن يؤدي حتمًا إلى شيء أسوأ! ولأن من وجهة نظر أنانية أي فكرة تنتشر سوف تنقلب على صاحبها عاجلًا أو آجلًا وتصادر بذلك متعة أو لذة التفكير فيها؛ لأن «بونتيفان» أحد مريدي «أبيقور»: وهو يخترع أفكاره ويطورها لمجرد أن ذلك يحقق له لذة. إنه لا يحتقر البشرية التي يعتبرها مَعينًا لا ينضب للأفكار الشريرة … الممتعة! ولكنه لا يشعر بأدنى رغبة في أن يكون وثيق الصلة بها، إنه محاط بعصابة من الأقران يلتقون في «مقهى جاسكون» … وهذه العينة من البشر كافية تمامًا بالنسبة له، و«فانسان» من بين أولئك الأقران هو الأكثر براءة والأكثر تأثيرًا. أنا أحبه، وتحفظي الوحيد عليه (وهو مشوب بالحسد حقيقة) هو الإعجاب الطفولي الذي يكنه ﻟ «بونتيفان» والذي أعتبره زائدًا عن الحد. ولكن حتى هذه الصداقة فيها شيء مؤثر. و«فانسان» يسعده الانفراد ﺑ «بونتيفان» لأنهما يناقشان كثيرًا من الموضوعات التي يحبها: الفلسفة، السياسة، الكتب، كما أن «فانسان» مليء بالأفكار الغريبة المستفزة، و«بونتيفان» الذي يأسره ذلك أيضًا يوجه تلميذه، يلهمه، يشجعه، ولكن الشيء الوحيد الذي يجعل «فانسان» غير سعيد هو ظهور شخص ثالث؛ لأن «بونتيفان» يتغير في الحال: يصبح صوته أعلى وأكثر متعة.

مثلًا: ها هما وحدهما في المقهى و«فانسان» يسأله: ما رأيك فعلًا في ما يحدث في الصومال؟ وبصبر شديد يعطيه «بونتيفان» محاضرة عن أفريقيا! يعترض «فانسان»، يتجادلان، وربما تبادلا النكات دون ادعاء للذكاء … ولكن لمجرد إعطاء نفسيهما بعض الخفة في إطار حوار على درجة كبيرة من الأهمية.

ثم يجيء «ماشو» مع امرأة غريبة جميلة. يحاول «فانسان» الاستمرار في الحوار: «ولكن قُل لي يا «بونتيفان»: ألا تعتقد أنك مخطئ في قولك أن …» ثم يخترع قضية جدلية تعارض نظريات صديقه.

يتوقف «بونتيفان» طويلًا عن الكلام، هو سيد الوقفات الطويلة، ويعرف أن الجبناء فقط هم الذين يخشون وقفاته عندما لا يعرفون ماذا يقولون ويندفعون في تعليقات مزعجة تظهرهم بمظهر شاذ.

«بونتيفان» يعرف كيف يسكت بطريقة مهيبة، لدرجة أن المجرة ذاتها — متأثرة بسكاته — تنتظر رده بشغف ولهفة! دون كلمة، ينظر إلى «فانسان» الذي يخفض عينيه خجلًا بلا سبب، ثم يبتسم وينظر إلى المرأة … ثم يعود إلى «فانسان» بعينَين مثقلتَين باهتمام مصطنع «إن إصرارك على تلك الأفكار الذكية في حضور امرأة يدل على هبوط مقلق في شهوتك الجنسية!»

يرتدي وجه «ماشو» ابتسامته البلهاء المعهودة، وتنظر المرأة الجميلة نظرة رثاء وعطف إلى «فانسان» الذي يحمر وجهه ويشعر بالحرج! الصديق الذي كان منذ دقيقة واحدة معجبًا به أيما إعجاب، يسيء إليه فجأة لمجرد أن يترك انطباعًا لدى امرأة!

ويجيء أصدقاء آخرون ويجلسون، وتستمر الثرثرة. يروي «ماشو» بعض القصص، «جوجارد» يعلِّق تعليقاته الجافة ويستعرض معلوماته … وصوت ضحكات نساء!

ويظل «بونتيفان» صامتًا ينتظر، وبعد أن ينضج صمته بما فيه الكفاية يقول: «صديقتي تُلح عليَّ دائمًا أن أكون عنيفًا معها.» يا إلهي! إنه يعرف جيدًا كيف يتكلم … الجالسون على الطاولات القريبة يكفون عن الحديث ويستمعون إليه، ينتشر الضحك شغوفًا في أرجاء المكان. ما المضحك في كون صديقته تريده عنيفًا معها؟! ربما كان سحر صوته هو السبب. «فانسان» يشعر بالغيرة لأن صوته مقارنة بصوت «بونتيفان» يشبه صوت الناي الرديء مقارنة بصوت التشيللو!

«بونتيفان» يتكلم بنعومة، لا يجبر صوته أبدًا، ومع ذلك يملأ جو القاعة ويحجب عن الأسماع كل الأصوات الأخرى في العالم … يواصل «… أن أكون عنيفًا معها، ولكني لا أستطيع، فأنا لست عنيفًا، أنا إنسان لطيف بطبعي.»

ويستمر الضحك في أرجاء المكان، ولكي يزيد من استمتاعه به يتوقف «بونتيفان» عن الكلام ثم يقول:

«من وقت لآخر تحضر إلى منزلي طابعة شابة، وذات يوم وأنا أملي عليها، جذبتها من شعرها بكل حماس نحو السرير، وفي منتصف الطريق تركتها» … وانفجر ضاحكًا «آه … كم أنا مغفل، عفوًا يا مدموازيل … أنا لا أقصدك بتلك الفتاة التي كانت تريدني أن أكون عنيفًا معها …» ويضحك كل من في المقهى بما فيهم «فانسان» الذي يعاوده حبه لأستاذه!

٨

في اليوم التالي أيضًا كان يقول له: «بونتيفان»، إنك لست فقط المنظر العظيم للراقصين، أنت نفسك راقص كبير، و«بونتيفان» الذي يخجل قليلًا يرد: أنت تخلط الأمور …

فانسان: عندما نكون معًا، أنا، وأنت، وينضم إلينا ثالث، ينقسم المكان فجأة إلى مكانَين: أنا والقادم الجديد الجمهور … وأنت الراقص على المسرح.

«بونتيفان»: قلت لك إنك تخلط الأمور. مفهوم الراقص ينطبق فقط على الاستعراضيين في الحياة العامة، وأنا شخصيًّا أمقت الحياة العامة.

«فانسان»: ولكنك بالأمس في حضور تلك المرأة، كنت تتصرف بنفس الطريقة التي تصرف بها «بيرك» أمام الكاميرا، حاولت أن تجذب انتباهها كله إليك، كنت تحاول أن تبدو الأفضل … الأكثر ذكاء … ومارست عليَّ أبشع أنواع الجودو الاستعراضي.

«بونتيفان»: الجودو الاستعراضي ربما، ولكن ليس الجودو الأخلاقي؛ ولذلك تخطئ عندما تعتبرني راقصًا؛ لأن الراقص يريد أن يكون أفضل خلقًا من أي شخص آخر، بينما أنا أريد أن أكون أسوأ منك!

«فانسان»: الراقص يريد أن يكون أفضل خُلقًا لأن جمهوره الكبير ساذج يعتبر السلوك الأخلاقي شيئًا جميلًا، ولكن جمهورنا الصغير أحمق ويحب الأخلاق والفضيلة، وكذلك مارست الجودو الأخلاقي عليَّ، وهذا لا يتناقض على أي وجه مع طبيعتك كراقص.

«بونتيفان» (فجأة وبنبرة مختلفة وبإخلاص شديد): سامحني إن كنت قد سببت لك أي أذى.

«فانسان» (متأثرًا باعتذاره): لا يوجد ما أسامحك عليه، وأنا أعرف أنك تمزح.

ليس مصادفة أن يكون مكان لقائهما هو «مقهى جاسكون» ويواصل «بونتيفان»: عمومًا (وأنت محق في ذلك) يوجد راقص في داخل كل منا، وأنا أسلم لك بأنني عندما أرى امرأة قادمة أصبح أكثر من عشرة راقصين. ماذا أفعل في ذلك؟ هذا كثير عليَّ!

ويضحك «فانسان» في هدوء ويزداد تأثره ويستمر «بونتيفان» بنبرة من يكفر عن ذنب … «إلى جانب أنني إذا كنت المنظر العظيم للراقصين كما اعترفت الآن، فلا بد أن هناك شيئًا مشتركًا بيني وبينهم وإلا لما فهمتهم … نعم أنا أقر بذلك يا «فانسان»»

عند هذه النقطة يتحول «فانسان» من الصديق النادم إلى المنظِّر: «هناك شيء صغير جدًّا … بالمعنى المحدد للكلمة أنا لا أشبه الراقص، وأعتقد — بل من المحتمل — أن الراقص الحق مثل «بيرك» أو «دوبير كس» في وجود امرأة سيصبح مجردًا من أي رغبة في لفت الأنظار إليه أو إغواء أحد. لن يخطر بباله أن يحكي حكاية عن طابعة جذبها من شعرها إلى السرير لأنه خلط بينها وبين امرأة أخرى؛ لأن الجمهور الذي يريد إغواءه ليس مجموعة محددة وواضحة من النساء … إنه حشد كبير من أناس غير مرئيين …! اسمع … هذا فصل آخر من نظرية الراقص يمكن شرحه: خفية الجمهور! وذلك أيضًا هو سبب حداثة تلك الشخصية الرهيبة. إنه يلفت الأنظار ويستعرض لا من أجلك ولا من أجلي، بل يستهدف العالم كله، وما هو العالم كله؟ كم لا متناه دون وجوه محددة … تجريد!» في وسط المناقشة يجيء «جوجارد»، و«ماشو» الذي يقول ﻟ «فانسان» وهو عند الباب: لقد قلت إنك مدعو لمؤتمر علماء الحشرات الكبير … وعندي لك أخبار مهمة … «بيرك» سيحضر المؤتمر.

«بونتيفان»: «بيرك» مرة أخرى؟! هذا الرجل يظهر في كل مكان!

«فانسان»: ماذا بالله يمكن أن يفعل هناك؟

«ماشو»: أنت عالم حشرات ولا بد أنك تعرف.

«جوجارد»: قضى وهو طالب بعض الوقت في مدرسة الحشرات وسوف يمنحونه في المؤتمر درجة فخرية.

«بونتيفان»: لا بد أن نذهب إلى هناك لنشعلها نارًا، ثم يستدير إلى «فانسان» قائلًا: وطبعًا أنت ستساعدنا على التسلل إلى قاعة المؤتمر.

٩

«فيرا» نائمة فعلًا، أفتح النافذة المطلة على الحديقة وأفكر في النزهة التي قامت بها «مدام دي ت» والفارس الشاب، عندما خرجا من القصر الريفي في الليل … تلك النزهة بمراحلها الثلاث التي لا تُنسى! المرحلة الأولى يتمشيان ذراعًا في ذراع، يتحدثان، يجدان مقعدًا، يجلسان … ذراعًا في ذراع أيضًا … يثرثران، ضوء القمر يملأ السماء، الحديقة من حولهما ممتدة في سلسلة من المنحدرات صوب نهر السين الذي تمتزج همهماته بحفيف الشجر.

دعنا نحاول أن نمسك ببعض أطراف الحديث بينهما: يطلب الفارس قبلة. ترد «مدام دي ت»: أنا كلي استعداد، وإن رفضت طلبك سيصيبك الغرور، ثقتك في نفسك واعتدادك بذاتك سيصوران لك أنني خائفة منك!

كل ما تقوله «مدام دي ت» هو ثمرة فن … فن الحديث … لا تترك إيماءة تمر دون تعليق … وتشتغل على معناها. هنا مثلًا تمنح الفارس القبلة التي طلب ولكن بعد أن تفرض تفسيرها الخاص لموافقتها: قد تسمح له بضمة … ولكن لكي تعيد كبرياء الفارس إلى حدوده!

وعندما تحول القبلة إلى فعل مقاومة بمناورة ذهنية؛ فإن أحدًا لا ينخدع، ولا حتى الفارس نفسه، سوف يتعامل مع تلك الملاحظة بجدية لأنها جزء من نهج ذهني يتطلب نهجًا ذهنيًّا استجابة له.

الحديث ليس تسلية أو مضيعة للوقت، بالعكس الحديث هو الذي ينظم الوقت، يحكمه، ويفرض قوانينه الجديرة بالاحترام. نهاية المرحلة الأولى في نزهتهما: القبلة التي منحتها للفارس لكيلا تجعله يشعر بالغرور تبعتها قبلة أخرى، القبلات التي أصبحت ملحة تقطع الحديث، تحل محله، ولكنها تقف فجأة وتقرر العودة. يا لها من براعة مسرحية! بعد الارتباك المبدئي للحواس، كان من الضروري إظهار أن لذة الحب فاكهة لم تنضج بعد، كان لا بد من رفع سعرها، جعلها أكثر إلحاحًا، كان لا بد من صنع نكسة … توتر … تشويق … عند الاستدارة للعودة إلى القصر الريفي مع الفارس فإن «مدام دي ت» تتصنع الخفة، وهي تعرف تمامًا أنها في النهاية ستكون لديها المقدرة لتغيير الموقف وإطالة الموعد الغرامي … وكل المطلوب عبارة واحدة عادية جدًّا من تلك المعروفة في فن الحديث … ولكن من خلال تطور في الأحداث غير متوقع، وفشل غير منظور في الإلهام ها هي لا تتذكر جملة واحدة … إنها مثل الممثل الذي نسي دوره فجأة لأنها في الواقع كان لا بد عليها أن تحفظه … لسنا في مثل أيامنا هذه حيث تستطيع فتاة أن تقول: أنت تريد أن … وأنا أريد أن … دعنا لا نضيع الوقت! هذه الصراحة ما زالت بعيدة بالنسبة لاثنَين مثلهما … خلف حاجز، ورغم كل قناعاتهما الفاجرة لا يستطيعان تخطيه! إذا لم يركز أحدهما على فكرةٍ ما في الوقت المناسب، إن لم يجدا ذريعة لمواصلة المشي؛ فإنهما وبمنطق هذا الصمت، سيضطران للعودة إلى الفندق ليودع كل منهما الآخر. وكلما زاد إحساسهما بضرورة إيجاد ذريعة للتوقف والنطق بها بصوت عالٍ كانت الأفواه تبدو محكمة الإغلاق: كل الكلمات التي يمكن أن تنقذهما كانت تضيع … وكانا يطلبان النجدة … ولا نجدة! وهذا سبب أنهما عندما وصلا إلى باب الفندق «بالغريزة المتبادلة أبطأت خطواتنا» وكأن الملقن قد استيقظ في النهاية لتجد مكانها في الدور وتهجم على الفارس: «أنا مستاءة منك …» أخيرًا … أخيرًا جاءت النجدة! هي غاضبة! لقد وجدت الذريعة لغضب صغير مختلق يمكن أن يطيل من سيرهما معًا. لقد كانت في منتهى الصراحة معه، فلماذا لم يقل هو كلمة واحدة عن صديقته الكونتيسة؟!

ويبدأ الحديث على وجه السرعة. لا بد أن يتكلما، يتواصل الحوار، ومرة أخرى يبتعدان عن القصر عبر دهليز سوف يقود خطاهما هذه المرة، ودون عوائق، إلى أحضان الحب!

١٠

أثناء الحديث، تقوم «مدام دي ت» برسم تفاصيل الأرض، وتمهد للمرحلة التالية من الأحداث، وتترك شريكها يكتشف ما يجب عليه أن يفكر فيه وكيف يجب أن يتقدم … كل ذلك تفعله بدقة وأناقة وبأسلوب غير مباشر وكأنها تتكلم عن أمور أخرى. تقوده لأن يكتشف برود الكونتيسة المستغرقة في شئونها، لكي تحرره من واجب الإخلاص وتجعله يسترخي قبل المغامرة الليلية التي تخطط لها، تخطط للمستقبل المباشر وللمستقبل البعيد، تجعله يفهم أنها لن تحاول أن تضع نفسها في موضع المنافسة مع الكونتيسة التي لا ينبغي أن يتركها تلقنه درسًا في التربية الوجدانية، تعلمه فلسفتها العملية في الحب والحاجة إلى التحرر من أسر القواعد الأخلاقية والاحتماء بالحذر، بالكتمان، بالتعقل … الذي هو أفضل الفضائل. وبطريقة طبيعية تمامًا تعلمه كيف يتصرف مع زوجها في اليوم التالي.

لا شك أنك مدهوش! أين التلقائية وأين الجنون في تلك الأرض التي خطِّطت بكل هذه العقلانية، وتم تحديد معالمها ورسمها وحسابها بدقة؟ أين الهذيان وعمى الرغبة «الحب المجنون» الذي ألَّهه السيرياليون، أين نسيان الذات؟

أين كل فضائل الجنون التي شكلت فكرتنا عن الجنون؟ لا! ليس لها مكان هنا … لأن «مدام دي ت» هي ملكة العقل، ليس العقل الصلب للماركيزة دي ميرتيل، وإنما العقل اللطيف الناعم، العقل الذي يعتبر حماية الحب وظيفته الأساسية.

أراها وهي تقود الفارس عبر الليل المقمر، الآن تقف لتريه منحنيات سقف بناء يبدو لهما ظله الناقص … آه! يا لتلك اللحظات الحسية التي شهدتها تلك المقصورة! وتقول: «للأسف» المفتاح ليس معها … يقتربان من الباب (غريب وأمر غير متوقع)، المقصورة مفتوحة.

لماذا قالت إن المفتاح لم يكن معها؟ لماذا لم تقل له مباشرة ومن البداية أن المقصورة لم تعُد تغلق؟!

كل شيء مركب، معقد، مصنوع … كل شيء مُمَسرَح … لا شيء مباشر أو صريح … بمعنى آخر كل شيء فن … وهو في هذه الحال فن إطالة التشويق … والأفضل: فن البقاء أطول فترة ممكنة في حالة إثارة!

١١

لا يصف «دينون» المظهر الجسدي ﻟ «مدام دي ت» ولكني متأكد من شيء واحد: لا يمكن أن تكون نحيلة، أتخيلها ذات خصر رشيق … لدن … (هذه هي الكلمات التي يستخدمها لاكلوز لوصف جسد الأنثى المشتهاة في «علاقات خطرة») ينتج عنه تمهل في الحركة والإيماءة، إنها تملك حكمة البطء وتستخدم كافة أساليب التريث لتجعل كل شيء يسير الهوينى! وتظهر كل ذلك بوضوح على نحو خاص أثناء المرحلة الثانية من الليلة التي يقضيانها في المقصورة. يدخلان، يتعانقان، يهبطان بتأنٍ إلى فراش، يمارسان الحب، ولكن «كل ذلك قد تم على نحو سريع إلى حدٍّ ما، وقد عرفنا خطأنا … عندما نكون متقدين تصبح أقل براعة … وعندما نندفع إلى اللذة الحسية نطمس كل المتع الأخرى في طريقنا.» التسرع الذي يفقدهما حلاوة التأني … البطء … خطأ في نظرهما … وإن كنت لا أعتقد أن في ذلك مفاجأة ﻟ «مدام دي ت»، بل أظنها كانت تعرف أنه خطأ لا يمكن تلافيه … لا بد أن يقع، وكانت تتوقعه ولذلك خططت لفصل المقصورة ليشبه تهدئة الحركة في الموسيقى … ولكي تقلل من سرعة الأحداث التي تقع والمتوقعة؛ بحيث عندما تحين المرحلة الثالثة في مكان وزمان جديدَين، تكون المغامرة في عنفوانها وبكل تأنيها الرائع!

تتوقف فجأة عن ممارسة الحب في المقصورة وتنهض مع الفارس، تسير معه بعض الوقت، تجلس على مقعد وسط الخميلة، تستأنف الحديث مرة أخرى وبعد ذلك تقوده إلى القصر وإلى غرفة سرية مجاورة لجناحها، كان زوجها هو الذي شيد ذلك الهيكل السحري للحب في وقت سابق، يقف الفارس مبهورًا أمام الباب … المرايا التي تغطي كل الجدران تعكس خيالهما وتحوله إلى موكب لا نهاية له … موكب عشاق في حالة عناق! … ومع ذلك ليس هذا مكان ممارسة الحب. وكأنها كانت تقصد التمهيد لانفجار حسي وكبير وتطيل فترة الإثارة بقدر الإمكان، تسحبه إلى الغرفة المجاورة … كهف صناعي عميق … مظلم … كله وسائد وثيرة … وهنا فقط يمارسان الحب طويلًا وببطء لذيذ … حتى مطلع الفجر!

وهكذا بإبطاء مرور الليلة، بتقسيمها إلى مراحل مختلفة كل منها منفصلة عن التي تليها، استطاعت «مدام دي ت» أن تعطي الوقت القصير المتيسر لها شكل المعمار الرائع. الجمال يتطلب أن تعطي الوقت شكلًا … والذاكرة. أيضًا! فالذي لا شكل له لا يمكن الإمساك به، ولا يمكن تسجيله في الذاكرة. كان من المهم بالنسبة لهما أن يتخيلا لقاءهما على ذلك النحو … كشكل، طالما أن ليلتهما لا بد لها من غد، ولا يمكن أن تتكرر إلا من خلال التذكر.

هناك علاقة سرية بين البطء والذاكرة، صلة بين السرعة والنسيان. فكر في هذا الموقف المعتاد … رجل يسير في الطريق. في لحظة معينة يحاول أن يتذكر شيئًا ولكن الذاكرة تخذله. تلقائيًّا تجده يبطئ الخطى. في نفس الوقت فإن الشخص الذي يريد أن ينسى حدثًا سيئًا مر به من وقت قريب، يبدأ في الإسراع بالخطى بطريقة لا شعورية، وكأنه يحاول أن ينأى بنفسه عن شيء قريب منه جدًّا في الزمن.

في الرياضيات الوجودية تأخذ هذه التجربة شكل معادلتَين أساسيتَين: درجة البطء تتناسب كميًّا ومباشرة مع قوة الذاكرة، ودرجة السرعة تتناسب كميًّا ومباشرة مع قوة النسيان.

١٢

من المحتمل أن يكون الذين عرفوا أن «فيفان دينون» هو مؤلف رواية «بلا غد» قلة قليلة وذلك في حياته؛ حيث إن ذلك السر لم يُذع (وربما) بشكل نهائي إلا بعد موته بوقت طويل. وتاريخ العمل نفسه يحمل تشابهًا غريبًا مع القصة التي يرويها: إنه مغلف بالسرية، بالغموض، بالكتمان، وغفل من الاسم!

ورغم أن «دينون» كان نقاش خشب ومعادن، ورسامًا، ودبلوماسيًّا، ورحالة وعارفًا بالفنون الراقية وربيب صالونات؛ فإنه لم يدَّعِ الملكية الفنية للرواية، وليس ذلك لأنه كان يرفض الشهرة وإنما لأن الشهرة في زمنه كانت تعني شيئًا آخر. أنا أتصور الجمهور الذي كان في ذهنه، الذي كان يريد أن يضلله، لم يكن ذلك الجمع من الغرباء الذي يشتهيه كاتب هذه الأيام، وإنما تلك الصحبة الصغيرة من الناس الذين يمكن أن يعرفهم معرفة شخصية ويحترمهم. المتعة التي كان يستمدها من النجاح بين قرائه، لم تكن مختلفة تمامًا عن تلك التي يمكن أن يشعر بها بين قلة تتحلق حوله وهو متألق في أحد الصالونات.

كان هناك نوع واحد من الشهرة قبل اختراع التصوير، ونوع آخر بعد ذلك. الملك التشيكي «وينشسلاوس»، في القرن الرابع عشر، كان يحب أن يتخفَّى ويزور فنادق «براغ» الصغيرة ويتكلم مع العامة. كان لديه القوة والحرية والشهرة. الأمير «تشارلز» في بريطانيا ليس لديه القوة ولا الحرية ولكن لديه شهرة واسعة. إنه لا يستطيع أن يهرب من العيون التي تلاحقه وتتعرف عليه سواء اختفى في غابة مجهولة أو في حوض الاستحمام المخبأ في مكمن عميق تحت الأرض. التهمت الشهرة كل حريته والآن هو يعرف: أن الفاقدين للوعي فقط هم الذين يوافقون طواعية هذه الأيام على الاهتمام بشهرتهم وتتبع أخبارها. تقول ذلك رغم تغير طبيعة الشهرة، قلة من الأشخاص المتميزين ما زالت تهتم بذلك. أنت مخطئ. فالشهرة لا تهم المشاهير فقط وإنما تهم كل إنسان.

هذه الأيام يظهر المشاهير على صفحات المجلات، على شاشات التليفزيون، إنهم يغزون خيال الجميع. كل واحد يفكر في إمكانية — ولو في الأحلام — أن يكون موضوع شهرة كتلك (طبعًا ليست شهرة الملك التشيكي الذي كان يزور الفنادق الصغيرة وإنما شهرة الأمير البريطاني) هذه الإمكانية تُلقي بظلالها على كل إنسان وتغير من طبيعة حياته؛ لأن (وهذه بديهية أخرى معروفة في الرياضيات الوجودية) أي إمكانية جديدة يكتسبها الوجود، حتى الأقل احتمالًا، تغير كل ما في الوجود.

١٣

لا بد أن «بونتيفان» كان سيصبح أقل قسوة على «بيرك» لو أنه عرف بالمتاعب التي تحمَّلها ذلك المثقف مؤخرًا بسبب امرأة تدعى «إماكيولاتا». هي صديقة دراسة قديمة، كان يشتهيها وهو طفل ولكن دون جدوى. وفي أحد الأيام — وبعد عشرين عامًا — كانت «إماكيولاتا» قد شاهدت «بيرك» على شاشة التليفزيون وهو يطرد الذباب من على وجه طفلة صغيرة سوداء، وهزتها اللقطة هزة لحظة الاستنارة. أدركت في الحال أنها كانت دائمًا تحبه، وفي نفس ذلك اليوم كتبت له رسالة تذكرت فيها «حبهما البريء القديم»، ولكن «بيرك» كان يتذكر دائمًا أنه كان أبعد ما يكون عن البراءة، كان حبًّا على درجة عالية من الشهوانية، وقد شعر بالامتهان عندما رفضته «إماكيولاتا» بقسوة. وكان ذلك هو السبب في أنه أطلق عليها كنية ساخرة من وحي اسم خادمة والديه البرتغالية وهو «إماكيولاتا» … أي الطاهرة! كان تصرفه قاسيًا مع رسالتها إليه (شيء غريب … بعد عشرين عامًا لم يكن قد هضم هزيمته القديمة بعد)؛ فلم يرد عليها.

وقد تضايقت كثيرًا لصمته، وفي رسالتها التالية راحت تذكره بخطاباته الغرامية الكثيرة التي كان قد كتب في أحدها يقول إنها «طائر الليل الذي يقض مضجعي»؛ هذا السطر الذي كان قد نسيه تمامًا قض مضجعه فعلًا، صعقه كشيء غبي لا يحتمل، واعتبر تذكيرها له به قلة ذوق منها!

فيما بعد، وبناءً على شائعات وصلته، عرف أنها في كل مرة يظهر فيها على شاشة التلفزيون، ورغم أنه لم يحاول أبدًا أن يلوث سمعتها، كانت تثرثر على العشاء في كل مكان عن ذلك الحب الذي يجمعها ﺑ «بيرك» الشهير، الذي لم يستطع أن ينام ذات مرة لأنها كانت تقض مضجعه. شعر أنه قد أسقط في يده، ولأول مرة في حياته تنتابه رغبة شديدة في أن يكون مجهولًا.

في رسالة ثالثة طلبت منه أن يسدي إليها معروفًا، في الحقيقة ليس لها وإنما من أجل إحدى جاراتها، سيدة فقيرة، لم يهتم بها أحد في المستشفى وكانت على وشك الموت بسبب الإهمال في عملية تخدير … ورفضوا أن يمنحوها تعويضًا عن ذلك.

فإذا كان «بيرك» يقطع الأميال من أجل أطفال أفريقيا؛ فليثبت أنه مهتم — ولو بعض الاهتمام — بالناس العاديين في بلاده … حتى وإن لم يمنحوه فرصة للاختيال على شاشة التلفزيون.

بعد ذلك كتبت إليه السيدة الفقيرة نفسها مشيرة إلى علاقتها ﺑ «إماكيولاتا» لعلها تشفع لها عنده «… لعلك تذكر يا سيدي تلك الفتاة الصغيرة التي كتبت لها أنها عذراؤك الطاهرة، أو طائر الأحلام الذي يقض مضجعك …» معقول؟! معقول؟!

راح يرغي ويزيد ويذرع الغرفة جيئةً وذهابًا، مزق الرسالة، بصق عليها، وألقى بها في سلة المهملات!

وذات يوم علم من رئيسة إحدى القنوات التلفزيونية أن مخرجةً ما تريد أن تُعِد برنامجًا عنه. وهو في غاية الضيق، تذكر التعليقات والتلميحات الساخرة عن هوسه بالظهور على شاشات التلفزيون؛ فالمخرجة التي تريد إعداد البرنامج عنه لم تكن سوى طائر الليل … «إماكيولاتا» شخصيًّا!

موقف يدعو للغيظ: من ناحية المبدأ، اعتبر فكرة تقديم فيلم عنه شيئًا رائعًا، ولكن حتى تلك اللحظة لم يكن قد طرأ على ذهنه أبدًا أن يكون ذلك العمل الفني عملًا كوميديًّا! ومع هذا الخطر الذي كشف عن نفسه فجأة قرر أن يبعد «إماكيولاتا» عن حياته بقدر الإمكان، ورجا رئيسة القناة (التي أدهشها تواضعه) أن تؤجل المشروع؛ لأنه سابق لأوانه بالنسبة لشخص مثله غير ذي أهمية!

١٤

هذه الحكاية تذكرني بأخرى عرفتها عن طريق المكتبة التي تغطي كل جدران شقة «جوجارد» ذات مرة وكنت أتسامر معه، أشار إلى رف كَتب عليه بخطِّه «روائع الفكاهة غير المتعمدة»، ثم بابتسامة خبيثة جذب أحد الكتب، والذي كانت كاتبة صحفية قد نشرته في عام ١٩٧٢م عن حبها ﻟ «كيسنجر»، إن كنت ما زلت تذكر اسم أشهر شخصية سياسية في ذلك الوقت، مستشار الرئيس «نيكسون» ومهندس السلام بين الولايات المتحدة وفيتنام. وهذه هي الحكاية: تلتقي الصحفية ﺑ «كيسنجر» في واشنطن لتجري معه حوارًا لإحدى المجلات، ثم للتلفزيون … يلتقيان عدة مرات ولكن في حدود العلاقة المهنية: عشاء مرة أو مرتَين للتحضير للمقابلة، زيارات قليلة لمكتبه في البيت الأبيض ثم لمنزله … بمفردها … ثم بعد ذلك بصحبة فريق العمل … وهكذا …

شيئًا فشيئًا يكرهها «كيسنجر»؛ فهو ليس غبيًّا ويعرف جيدًا ما يدور، ولكي يجعل بينه وبينها مسافة يصرح ببعض التعليقات الذكية والدالة عن كيفية انجذاب النساء للسلطة وكيف أن وضعه يضطره دائمًا إلى الابتعاد عن حياته الخاصة. وبمنتهى الدقة والإخلاص تنقل الصحفية كل هذه الملاحظات وكل أساليبه في التهرب والتي لا تثنيها عن عزمها، بل تجعلها أكثر اقتناعًا بأن كليهما مناسب للآخر تمامًا … هل يبدو مراقبًا أو حذرًا؟ لا يدهشها ذلك؛ فهي لديها فكرة واضحة عن كل النساء اللائي كنَّ في حياته من قبل … وكلها ثقة من أنه بمجرد أن يعرف مقدار حبها له، سوف يتخلى عن مخاوفه ويسترخي ويترك حذره الشديد … ياه! كلها ثقة من نقاء حبها!

وتستطيع أن تُقسم أنه لا وجود لأي هواجس أو نوايا شهوانية من جانبها!

وتكتب: «من الناحية الجنسية … تركني باردة!» وتكرر عدة مرات (بكل سادية أموية غريبة) أن لباسه رث، وأنه ليس وسيمًا وأن ذوقه في النساء فقير، «تصدر هذه الأحكام حتى وهي تعلن أنها تحبه لذلك أكثر وأكثر … لديها طفلان … وهو أيضًا لديه طفلان، وتقوم بوضع خطط — ليس لديه فكرة عنها — لقضاء عطلات مشتركة في «الكوت دازور» وتبهجها فكرة أن يتعلم طفلاه اللغة الفرنسية بطريقة ممتعة.

وذات يوم أرسلت طاقم التصوير ليصور شقة «كيسنجر»، ولأنه لم يستطع أن يكظم غيظه أكثر من ذلك طردهم بقسوة كأشخاص تجاوزوا حدود اللياقة. في مناسبة أخرى استدعاها لمكتبه، وبصوته الصارم … البارد … أخبرها أنه لم يَعُد بوسعه تحمل تصرفاتها الغريبة والملتبسة!

في البداية أصابها اليأس العميق، ولكن سرعان ما قالت لنفسها: لا شك في ذلك لأنها تعتبر خطرة من الناحية السياسية. ولا بد أن أجهزة التجسس المضاد قد طلبت منه أن يبعد عنها، ولا بد أن يكون المكتب الذي يلتقيان فيه تحت المراقبة … وأنه يعرف ذلك … ولا بد أن ملاحظاته القاسية والغليظة موجهة إلى المراقبين السريين … وليس إليها.

تنظر إليه بابتسامة حزينة متفهمة … ويبدو المشهد كله بالنسبة لها مشوبًا بالجمال المأسوي (تلك الصفة التي تستخدمها باستمرار) وهو مضطر لتوجيه تلك الضربات إليها … بينما نظراته كلها حب! ويضحك «جوجارد» ولكني أقول له: الحقيقة الواضحة من الموقف، والتي تظهر عبر خيال المرأة أقل أهمية مما يعتقد … إنها حقيقة رديئة وتافهة وتشحب أمام حقيقة أخرى دائمة: تلك الحقيقة الموجودة في الكتاب … حتى في أول مواجهة مع صنمها المعبود، كان ذلك الكتاب ملقًى في جلال غير مرئي على طاولة صغيرة بينهما، منذ ذلك الوقت كان هو الهدف اللاشعوري من مغامرتها كلها … كتاب؟ لماذا؟ هل لكي ترسم صورة ﻟ «كيسنجر»؟ لا … أبدًا! ليس لديها أي شيء تقوله عنه. الذي فتنها وملك عليها خيالها هو صدقها مع نفسها، لم تكن تريد «كيسنجر»، ولا حتى جسده (لا بد أنه عاشق هزيل) كانت تريد أن تضخم ذاتها، تخرجها من دائرة حياتها الضيقة … وتبرزها إلى النور، وكان «كيسنجر» بالنسبة لها هو الحصان الأسطوري المطهم … حصان بجناحَين تستطيع «ذاتها» أن تمتطيه في معراجها للسماء! ولكن «جوجارد»، مستهزئًا بتحليلي الخيالي، يقول: كانت غبية! وأنا أقول: بالعكس! كل الشواهد تدل على ذكائها، هذا شيء مختلف تمامًا عن الغباء، كانت مقتنعة بأنها مصطفاة!

١٥

أن تُصطفى أو تُختار، فذلك يتضمن مفهومًا لاهوتيًّا، ويعني أن المسألة ليست عن جدارة أو استحقاق وإنما عن طريق حكم إلهي حر، يصطفي أو يختار شخصًا ما لشيء استثنائي. من هذا الاقتناع، استمد القديسون القوة لكي يتحملوا العذابات الكبرى! وبنفس طريقة المحاكاة الساخرة؛ فإن المفاهيم اللاهوتية منعكسة في تفاهات حياتنا. جميعنا يعاني (كثيرًا أو قليلًا) من تفاهة حياته ووضاعتها، ويتوق للهرب منها والارتقاء إلى مستوًى أعلى.

وجميعنا عرف وهم (قويًّا أو ضعيفًا) أننا جديرون بذلك المستوى الأعلى وأنه قدرنا وأننا مختارون له.

والشعور بالاصطفاء أو الاختيار موجود مثلًا في كل علاقة حب؛ لأن ذلك الحب — وبحكم تعريفه — هبة غير مستحقة. أن تكون محبوبًا دون أن تستحق؛ فذلك دليل الحب الحقيقي. لو أن امرأة قالت لي: أحبك لأنك ذكي، لأنك لطيف، لأنك تشتري لي الهدايا، لأنك لا تجري وراء النساء، لأنك تغسل الصحون … لو أن امرأة قالت لي ذلك يخيب أملي فورًا … هذا الحب مصلحة شخصية. كم هو أجمل أن تسمع مثلًا: «أنا مجنون بك رغم أنك لست ذكيًّا ولا لطيفًا، ورغم أنك كذاب وأناني وابن حرام!»

ربما يمارس الإنسان في طفولته وهم الاصطفاء، بسبب الاهتمام الأمومي الذي يلقاه دون أن يستحق، ثم يطلبه بإصرار أكيد. لا بد أن تتخلص التربية من هذا الوهم وتجعل من الواضح أن كل شيء له ثمن … ولكن الوقت دائمًا يجيء متأخرًا. ولا بد أن تكون قد شاهدت ذات مرة طفلة في العاشرة من عمرها مثلًا، وهي تحاول أن تفرض إرادتها على أصدقائها الصغار، وعندما تعوزها الحجة تصرخ في غطرسة وعناد: «لأني أريد ذلك.» أو «لأني أقول ذلك.» إنها تشعر بأنها مصطفاة، مختارة، ولكنها ستقول ذات يوم «لأنني أريده على هذا النحو.» وسوف ينفجر بالضحك كل من حولها!

وعندما يرى الشخص نفسه مصطفًى أو مختارًا ماذا بوسعه أن يفعل ليبرر ذلك الاصطفاء، ليجعل نفسه والآخرين يصدقون أنه لا ينتمي إلى ذلك القطيع العادي من البشر؟!

الحقبة التي تأسست على اختراع التصوير هي التي أنقذت الموقف … بنجومها وراقصيها ومشاهيرها الذين تظهر صورهم على الشاشة الكبيرة، ويشاهدها الكل من بعيد ويعجب بها الكل … ويراهم الكل بعيدين عنهم!

ومن خلال تعلقه المبجل بالمشاهير؛ فإن الشخص الذي يرى نفسه «مصطفًى» يخدم الصورة العامة لطرفَين: عضويته في غير العادي وبعده عن العادي … أو بمعنى محدد بعده عن الجيران، الزملاء، الوالدين وكل من هو مضطر (أو مضطرة) للحياة معهم! وهكذا أصبح المشاهير «موارد عامة» مثل الصرف الصحي والضمان الاجتماعي والتأمين ومصحات الأمراض العقلية … ولكنهم مفيدون فقط بشرط أن يظلوا بعيدين. وعندما يحاول أحد أن يؤكد حالة اصطفائه عن طريق الاتصال أو الاحتكاك الشخصي المباشر بأحد المشاهير فإنه يقوم بمخاطرة قد تنتهي بطرده، مثلما حدث في حالة المرأة التي كانت تحب «كيسنجر»!

ويُسمى ذلك بلغة اللاهوت «السقوط»؛ ولذا فإن المرأة التي أحبت «كيسنجر» تصف حبها في الكتاب بصراحة ووضوح وعلى نحو صحيح بأنه «مأسوي»؛ لأن السقوط — بحكم تعريفه، وبالرغم من ملاحظات «جوجارد» الساخرة — شيء مأسوي.

وحتى لحظة تأكدها أنها كانت تحب «بيرك» كانت «إماكيولاتا» تعيش نفس الحياة التي يعيشها معظم النساء: زيجات قليلة، طلاقات قليلة، وبعض العشاق الذين جلبوا لها خيبة الأمل … بانتظامٍ وهدوءٍ وبأسلوبٍ مناسب. آخر عشاقها شخص محترم، تراه إلى حدٍّ ما محتملًا عن الآخرين؛ فهو خنوع … ومفيد أيضًا: مصور ساعدها كثيرًا عندما بدأت عملها في التليفزيون يكبُرها بقليل، ولكن فيه صفة التلميذ المحب المخلص إلى الأبد … يراها أجمل الجميلات، أذكى الجميع و(خاصة) أكثر النساء حساسية.

حساسية حبيبته تبدو له مثل منظر طبيعي صوره رسام رومانسي ألماني، مليء بالأشجار المبعثرة الملتوية، فوقها سماء زرقاء عميقة، قصر الله الذي يسكنه، وكل مرة يخطو فيها في هذا المنظر الجميل يشعر برغبة لا تقاوم في أن يركع ويظل جاثيًا هناك كمن يشهد معجزة سماوية!

١٦

تزدحم القاعة بالتدريج، عدد كبير من علماء الحشرات الفرنسيين ونفر قليل من الأجانب، بينهم عالم تشيكي في الستينيات من عمره يقال إنه شخصية مهمة في النظام الجديد … وزير أو رئيس أكاديمية العلوم أو على الأقل عضو بها. على أية حال، ولو فقط من باب الفضول؛ فهو أهم شخص في هذا الجمع (إنه يمثل مرحلة تاريخية جديدة بعد أن اختفت الشيوعية في ضباب الزمن). وسط هذا الجمع المثرثر يقف الرجل بمفرده … طويل القامة وسمج … والناس يُهرعون إليه ليشدوا على يده ويوجهوا إليه أسئلة غريبة. ينتهي الحديث دائمًا بأسرع مما يتوقعون؛ إذ بعد العبارات الأربع الأولى لا يتبقى لديهم أي موضوع للحوار معه. لم يكن هناك أي شيء مشترك، الفرنسيون يعودون بسرعة إلى مشكلاتهم الخاصة ويحاول هو أن يجاريهم من وقت لآخر بتعليق ما «… في بلادنا، من ناحية أخرى …» وعندما يجد أن لا أحد يهتم بما يحدث «في بلادنا … من ناحية أخرى …» من ناحية أخرى ينصرف بوجه يعلوه الهم … لا هو حزن مرير … ولا هي تعاسة شديدة … هم معقول ومقبول إلى حدٍّ ما.

وبينما يزداد زحام الآخرين وصخبهم في الردهة والبار، يدخل إلى القاعة الخالية؛ حيث توجد أربع طاولات وضعت على شكل مربع في انتظار بدء المؤتمر.

وبالقرب من الباب، توجد طاولة صغيرة وقائمة بأسماء المشاركين وامرأة شابة مُهمَلة مثله تمامًا … ينحني أمامها ويخبرها باسمه، تطلب منه مرتَين أن يكرره، ولا تجرؤ أن تطلب منه ذلك للمرة الثالثة … تراجع القائمة بسرعة بحثًا عن اسم يشبه اللفظ الذي سمعته! ينحني هو بأبوة على الطاولة ليبحث عن اسمه في القائمة ويضع إصبعه عليه: تشيخوريبسكي!

– ا … السيد سيخوربيسكي.

– النطق الصحيح تشيخوريبسكي!

– هذا صعب جدًّا …!

– وبالمصادفة ليس مكتوبًا على النحو الصحيح كذلك …!

ثم يتناول القلم الموضوع على الطاولة ويضع فوق حرفي C وR علامة (V). تنظر السكرتيرة إلى العلامات، ثم تنظر إليه متنهدة: إنه شيء معقد جدًّا!

– بالعكس … بسيط جدًّا …

– بسيط؟

– هل تعرفين «جان هاس»؟

تنظر السكرتيرة بسرعة في قائمة ضيوف المؤتمر، ويسرع العالم التشيكي ليشرح لها:

– كان مصلحًا دينيًّا كبيرًا في القرن الرابع عشر. سلف «لوثر»، وكان أستاذًا في جامعة «تشارلز» أول جامعة في الإمبراطورية الرومانية المقدسة كما قد لا يخفى عليك. ولكن ما لا تعرفينه هو أن «جان هاس» قد جدد أيضًا في طريقة كتابة اللغة، ونجح في تبسيطها. في لغتكم لكي تكتبي ما تلفظينه «تشه» تستخدمون في الفرنسية ثلاثة حروف: ت، س، ش، الألمان يحتاجون إلى أربعة: ت. س. ش. ﻫ، بينما نحن وبفضل «جان هاس» نحتاج إلى حرف واحد هو C ونضع عليه تلك العلامة البسيطة (V).
وينحني مرة أخرى على الطاولة، وفي هامش القائمة يكتب حرف C بحجم كبير وعليه علامة (V)، ثم ينظر في عينيها وينطق بصوت حاد وواضح «تشه» … فتنظر هي الأخرى في عينيه وهي تردد وراءه «تشه»!

– صح! تمام!

– هذا مفيد فعلًا، ومن أسف أن الناس خارج بلادكم لا يعرفون شيئًا عن إصلاحات «لوثر». يرد عليها وكأنه لم يسمع غلطتها:

– اصطلاحات «جان هاس» ليست مجهولة تمامًا … إنها مستخدمة في بلد آخر … هل تعرفين أين؟

– لا!

– في ليتوانيا.

– ليتوانيا؟

تكرر الاسم وهي تحاول — عبثًا — أن تتذكر أين يقع ذلك البلد!

– وفي «لاتفيا» أيضًا، وهكذا تعرفين الآن سبب فخرنا نحن التشيك بتلك العلامات الصغيرة فوق حروف اللغة (ومبتسمًا): إننا قد نتنازل عن أي شيء آخر، ما عدا ذلك. وسوف نقاتل من أجل تلك العلامات حتى آخر قطرة من دمنا. وينحني أمامها ثم يتجه نحو مربع الطاولات. أمام كل مقعد توجد بطاقة عليها اسم. يجد بطاقته ويتأملها، يلتقطها، وبابتسامة حزينة، متسامحة أيضًا، يأخذها ليريها للسكرتيرة.

في نفس الوقت كان أحد علماء الحشرات الآخرين يقف في المدخل لتسجيل اسمه عند السكرتيرة وعندما تقع عينه على العالم التشيكي يقول له: لحظة واحدة من فضلك يا مسيو «تشيبيكي»! يومئ التشيكي بما يعني: لا تقلقي يا آنسة، لست في عجلة من أمري، وبكل أناة وتواضع ينتظر بجوار الطاولة (كان علماء آخرون قد جاءوا) وعندما تفرغ السكرتيرة من انشغالها يريها البطاقة:

– انظري …! شيء مضحك … أليس كذلك؟

تنظر دون إدراك كافٍ …

– ولكن العلامات موجودة يا مسيو «تشينيبيكي» … علامات التشديد موجودة … انظر!

– صحيح … ولكنها علامات عادية، نسوا أن يقلبوها ثم انظري أين وضعوها! فوق حرفي E وO.

تقول حانقة: نعم … أنت محق في ذلك! يقول التشيكي مع تزايد رنة الأسى في صوته: عجيب! لماذا ينساها الناس دائمًا؟ إنها علامات شعرية تلك الزوايا المقلوبة، ألا ترين ذلك، إنها تشبه الطيور المحلقة، حمامات فاردة أجنحتها … (ثم بصوت أكثر رقة) أو فراشات إن شئت!

ثم ينحني مرة أخرى ليصحح اسمه على البطاقة. يفعل ذلك بتواضع شديد أشبه بالاعتذار ثم ينسحب في صمت. السكرتيرة ترقبه … طويل … جسمه مشوَّه بشكل لافت … وفجأة يملؤها حنان أموي تجاهه! وتتصور زاوية مقلوبة على هيئة فراشة ترفرف حول العالم ثم تستقر في النهاية على عرفه الأشقر!

وبينما يتحرك في اتجاه مقعده، يدير رأسه فيرى ابتسامتها الرقيقة فيرد عليها بأحسن منها … وقبل أن يصل إلى مكانه يرسل إليها ثلاث ابتسامات أخرى …! ابتساماته حزينة، ولكنها مليئة بالاعتزاز … بالكبرياء الحزين … وهذا كل ما يمكن أن يوصف به العالم التشيكي!

١٧

يمكن لأي شخص أن يتفهم سبب حزنه لرؤية العلامة في غير موضعها الصحيح على اسمه، ولكن من أين يستمد كل ذلك الاعتزاز؟ هذا هو العامل الأساسي في سيرته؛ بعد عام واحد من الغزو الروسي لبلاده في سنة ١٩٦٨م، طردوه من معهد الحشرات ليشتغل عامل بناء، واستمر ذلك حتى نهاية الاحتلال سنة ١٩٨٩م؛ أي حوالي عشرين عامًا. ولكن، ألا يوجد مئات — بل ألوف — من البشر الذين يفقدون وظائفهم في أمريكا وفرنسا وإسبانيا وفي كل مكان؟ إنهم يعانون من ذلك بكل تأكيد ولكنهم لا يستمدون منه أي اعتزاز أو كبرياء … لماذا مِن دونهم جميعًا يعتز التشيكي بطرده من العمل؟ لأنه طُرد لأسباب سياسية وليس لأسباب اقتصادية! جميل! وفي تلك الحال أيضًا يظل غير مفهوم اعتبار الكوارث الناجمة عن الأسباب الاقتصادية أقل خطرًا … أو نبلًا!

هل لا بد أن يشعر الإنسان الذي يُطرد من عمله بسبب إساءته لرئيسه بالعار، بينما يحق لمن يفقد عمله لآرائه السياسية أن يفخر؟ لماذا كل ذلك؟

لأن الشخص المطرود لأسباب اقتصادية يلعب دورًا سلبيًّا؛ موقفه يخلو من الشجاعة الجديرة بالإعجاب. قد يبدو ذلك فرقًا واضحًا ولكنه ليس كذلك. فالعالم التشيكي الذي طُرد من عمله بعد ١٩٦٨م، عندما زرع الجيش الروسي نظامًا كريهًا في البلاد، لم يقُم بأي عمل شجاع أيضًا. وكرئيس لأحد أقسام معهد الحشرات؛ كان الذباب هو اهتمامه الرئيسي. ذات يوم، ودون سابق إنذار، اقتحمت مجموعة من معارضي النظام الجديد الذين لا يعرفهم مكتبَه، وطلبوا منه أن يخصص لهم قاعة يعقدون فيها اجتماعاتهم شبه السرية، كانوا يلعبون بالطبع حسب قواعد الجودو الأخلاقي؛ يظهرون كمفاجأة ويصنعون من أنفسهم جمهورًا، هذه المواجهة غير المتوقعة وضعت العالم في مأزق لو وافق على طلبهم فمعنى ذلك أنه يخاطر؛ قد يفقد وظيفته، ويحرم أبناءه الثلاثة من دخول الجامعة، ولكن لم تكن لديه الشجاعة لكي يقول «لا» لذلك الجمهور المحدود الذي كان يتهمه — بدايةً — بالجبن!

وهكذا انتهى به الأمر موافقًا، لكي يحتقر نفسه بسبب ضعفه وجبنه وعدم قدرته على مقاومة الضغط؛ ولذلك لكي يكون الأمر دقيقًا … فإن الجبن وليس الشجاعة كان هو سبب طرده من عمله وطرد أبنائه من الجامعة.

وإذا كان ذلك كذلك … لماذا يشعر بالاعتزاز إذَن؟ بمرور الوقت أصبح ينسى مقته الأولى للخصوم واعتاد على أن يرى «نعم» التي نطق بها تصرفًا طوعيًّا حرًّا وتعبيرًا عن تمرده الشخصي على النظام البغيض. هكذا أصبح يحسب نفسه ضمن أولئك الذين صعدوا إلى مسرح التاريخ الكبير … من هذا الاقتناع كان يستمد اعتزازه وكبرياءه. ولكن أليس صحيحًا أن عددًا كبيرًا من الناس متورط باستمرار في صراعات سياسية عديدة … وبالتالي يحق لهم أن يفخروا ويعتزوا بصعودهم إلى مسرح التاريخ الكبير؟

لا بد أن أوضح رأيي: كبرياء العالم التشيكي يرجع إلى حقيقة كونه قد صعد إلى مسرح التاريخ في اللحظة المناسبة تمامًا عندما سُلطت عليه الأضواء، وليس في لحظة اعتباطية. مسرح التاريخي المضاء عبارة عن حدث إخباري عالمي تاريخي، و«براغ» عندما سُلطت عليها الأضواء ومثُلت أمام الكاميرات في سنة ١٩٦٨م كانت حدثًا إخباريًّا عالميًّا تاريخيًّا … وبامتياز. والعالم التشيكي فخور بأن يشعر بتلك القُبلة على جبينه في ذلك اليوم تحديدًا … بينما أي اتفاق تجاري أو لقاء قمة بين القُوى العالمية هي مجرد أخبار مهمة … وصحيح أنها تكون أيضًا تحت الأضواء وتصور وتنقل … فكيف لا تثير في نفوس المشاركين فيها نفس أحاسيس الاعتزاز والكبرياء؟!

وأسارع لكي أضيف فارقًا أخيرًا: العالم التشيكي تأثر جدًّا، لا بمجرد حدث إخباري عالمي تاريخي يقع مصادفة، وإنما بذلك النوع من الأحداث الذي يعتبر مهيبًا أو رفيع المقام، فالحدث الإخباري يكون مهيبًا عندما يعاني الشخص الواقف في مقدمة المسرح، وفي الخلفية تقعقع نيران المدافع وعزرائيل يحوم فوق الرءوس! وهكذا تكون المعادلة النهائية: العالم التشيكي فخور؛ لأن بركة الحدث الإخباري العالمي الجلل قد شملته، وهو يدرك جيدًا أن تلك البركة تضعه في مكانة خاصة بعيدًا عن العلماء النرويجيين والدانماركيين والفرنسيين والإنجليز الموجودين معه في القاعة!

١٨

يوجد على الطاولة الرئيسية مقعد يتناوب عليه المتكلمون، العالم التشيكي لا يصغي لأي منهم، إنه ينتظر دوره، ومن وقت لآخر يتحسس في جيبه الأوراق الخمس، ملخص بحثه الذي يعلم جيدًا أنه قليل القيمة. وحيث إنه كان قد أُبعِد عن العمل العلمي لمدة عشرين عامًا؛ فكل الذي استطاع أن يفعله هو أن يلخص ما سبق أن نشره، عندما كان باحثًا صغيرًا، عن نوع معروف من الذباب، اكتشفه وأعطاه اسم «موسكا براجنيسز» والآن … عندما سمع رئيس المؤتمر ينطق ببعض المقاطع الصوتية التي لا بد أن تكون اسمه … نهض وتقدَّم في اتجاه مقعد المتكلم.

في العشرين لحظة التي يستغرقها تحركه يحدث له شيء غير متوقع؛ تغلبه مشاعره: يا إلهي! بعد كل هذه السنوات، ها هو مرة أخرى بين الناس الذين يحترمهم ويحترمونه، بين علماء … عقول على مستوى واحد انتزعه القدر من بينهم، وعندما يصل إلى المقعد المخصص له لا يجلس، يريد ولو لمرة واحدة في حياته أن يتبع مشاعره، أن يكون عفويًّا ويعبر لزملائه الذين لا يعرفهم عن كل ما يحس به: «سيداتي … سادتي … اسمحوا لي أن أعبر عما انتابني من شعور مفاجئ لم أكن أتوقعه، بعد غياب عشرين عامًا، ها أنا ذا ثانيةً أستطيع أن أخاطب جمعًا من الناس يفكر في نفس المشكلات التي أفكر فيها، مدفوعين بمثل ما لدي من مشاعر. أنا قادم إليكم من بلاد يمكن أن يُحرَم فيها الإنسان من معنى حياته لمجرد التعبير عن رأيه، فمعنى الحياة بالنسبة لأي عالم ليس سوى علمه، وكما هو معلوم لكم فإن عشرات الألوف من الناس، كل المثقفين في بلادي قد طردوا من أعمالهم بعد صيف ١٩٦٨م المأسوي. من ستة شهور فقط كنت عامل بناء، ليس في ذلك ما يشين بالطبع؛ فالمرء يتعلم الكثير ويكتسب صداقة أناس بسطاء وشرفاء، ويتأكد له أننا معشر رجال العلم متميزون، فهي ميزة أن تمارس عملًا تحبه!

نعم أيها الأصدقاء، إنها ميزة لم يعرفها رفاقي عمال البناء لأنه من المستحيل أن يكون المرء سعيدًا بحمل عارضة من الخشب.

وها هي الميزة التي حُرِمت منها لمدة عشرين عامًا تعود إليَّ الآن، وأنا في غاية الفرح بها، لذلك يا أعزائي، أعتبر هذه اللحظة عيدًا كبيرًا رغم أنها تظل لحظة شجن.»

يشعر وهو يردد الكلمات الأخيرة بالدموع تتجمع في عينيه فيرتبك قليلًا، ويرى طيف والده الذي كان يبكي في كل مناسبة … ومع ذلك يقول لنفسه: دعك من ذلك، لا بد أن يشعر أولئك بالتكريم الذي يحمله إليهم هدية من «براغ».

إنه لم يخطئ الجمهور أيضًا متأثر … وبمجرد أن نطق بالكلمة الأخيرة وقف «بيرك» ليصفق، ودخلت الكاميرات في الحال لتصور وجه «بيرك» ويديه … وتصور العالم التشيكي أيضًا. يقف كل من في القاعة ببطء أو بسرعة، الوجوه مبتسمة وقورة، الكل يصفق ويستمتعون بذلك لدرجة أنهم لا يعرفون متى يتوقفون عن التصفيق! ويقف العالم التشيكي أمامهم … طويل القامة … طويل جدًّا … وكلما كانت تشع الغرابة من طوله يزداد تأثره وتأثيره … دموعه لم تَعُد محبوسة تحت الجفون، وإنما بدأت تنثال في وقار حول أنفه ونحو زوايا فمه وذقنه على مرأى من رفاقه الذين تزداد شدة تصفيقهم.

وأخيرًا يخفت الحماس ويجلس الناس ويقول العالم التشيكي بصوت متهدج: «أشكركم يا أصدقائي، أشكركم من كل قلبي.» ثم ينحني أمامهم ويتوجه إلى مكانه. ولأنه يدرك تمامًا أنه يعيش الآن أعظم لحظات حياته … لحظة المجد … نعم! المجد! لماذا لا يقول الكلمة … أنه يشعر بالعظمة، بالشهرة … ويريد أن تطول مشيته نحو مقعده … تطول ولا تنتهي؟!

١٩

وعندما وصل إلى مقعده أطبق الصمت على القاعة، ربما كان من الدقة أن نقول إن أنواعًا من الصمت هي التي أطبقت على المكان … تبين العالم التشيكي نوعًا واحدًا … ذلك الصمت العاطفي! ولم يدرك أن الصمت العاطفي تحوَّل إلى صمت آخر غير مريح … كما يتغير اللحن بالتدريج وينتقل من نغمة إلى أخرى. فقد أدرك كل من في القاعة أن ذلك السيد صاحب الاسم الذي يُنطَق بصعوبة، قد بلغ به التأثر مداه لدرجة أنه نسي أن يقرأ الورقة التي تقدِّم اكتشافه لنوع جديد من الذباب، وكل واحد يعرف أن من عدم اللياقة تذكيره بذلك … ثم بعد تردد طويل، يسعل رئيس المؤتمر ويقول: شكرًا للسيد «تشيكوشيبي» (وينتظر لحظات ليعطي الضيف فرصة أخيرة للتذكر) وأدعو المتحدث التالي لإلقاء كلمته. يكسر الصمت في هذه اللحظة ضحك مكتوم صادر من آخر القاعة، ولكن العالم التشيكي الغارق في أفكاره لا يسمع الضحك ولا يسمع شيئًا مما يقوله زميله … ويتوالى المتكلمون إلى أن يجيء عالم بلجيكي يعمل مثله في أبحاث الذباب ليوقظه من تفكيره … يا إلهي! لقد نسي أن يقرأ بحثه! يضع يده في جيبه … الأوراق هناك كدليل على أنه لم يكن يحلم!

تشتعل وجنتاه يشعر بأنه قد أصبح أضحوكة … هل يمكن أن يستعيد شيئًا من الموقف؟! لا! … يعرف أنه لا يستطيع … وبعد لحظات قليلة من الإحساس بالخجل تطرأ له فكرة غريبة لتخفف عنه: من المؤكد أنه في وضع حرج … ولكن لا شيء سلبيًّا. لا شيء يدعو للخجل … الحرج الذي حاق به يعمق الأحزان الدفينة في حياته … يجعل قدره أكثر حزنًا … أكثر عمقًا … وأكثر جمالًا …!

لا وألف لا …! لن يتخلى الكبرياء عن حزن العالم التشيكي!

٢٠

في كل مؤتمر أو اجتماع لا بد أن تجد هناك من يتركونه ليتجمعوا في غرفة مجاورة لتناول الشراب. «فانسان» الذي سئم الاستماع لعلماء الحشرات ولم يعجبه الأداء الغريب للعالِم التشيكي يخرج إلى الردهة مع غيره ممن تركوا الاجتماع إلى طاولة بالقرب من البار. وبعد فترة صمت، يبدأ في الحديث مع بعض الغرباء: «عندي صديقة، تريدني أن أكون عنيفًا معها دائمًا!» عندما كان «بونتيفان» يقول ذلك، كان يتوقف أثناء الكلام للحظات لكي يكون كل من يستمع إليه في حالة ترقب. «فانسان» يريد أن يقف نفس الوقفة، يضحك من حوله، يرتفع صوت الضحك وذلك يشجعه … تلمع عيناه … يشير بيده ليهدئ الجمهور، ولكنه يرى أنهم في نفس اللحظة ينظرون إلى الناحية الأخرى من الطاولة منجذبين إلى مشادة بين رجلَين يتنابزان بالألقاب! بعد دقيقة أو دقيقتَين يستطيع أن يجعلهم يستمعون إليه: «كنت أقول لكم إن صديقتي تريدني أن أكون عنيفًا معها»، هذه المرة يستمع الجميع إليه وهو لا يخطئ في التوقف: يتحدث أسرع وأسرع وكأنه أمام شخص يطارده ليوقفه «ولكني لا أستطيع … فأنا إنسان لطيف جدًّا كما تعرفون» … ثم يبدأ هو نفسه في الضحك! وعندما لا يجد صدى لضحكه يسرع مواصلًا كلامه «طابعة شابة تتردد على منزلي كثيرًا … وأنا أملي عليها …»

سأله رجل أبدى اهتمامه فجأة: هل تستخدم الكمبيوتر؟

– نعم.

– ما نوعه؟

يذكر «فانسان» نوع الكمبيوتر، الرجل لديه كمبيوتر من نوع آخر … ثم يبدأ فيسرد حكايات عما حدث له مع الكمبيوتر الذي اعتاد أن يخدعه. يضحكون في خفوت ثم يقهقهون جميعًا بصوت عالٍ.

ويتذكر «فانسان» — بأسى — فكرة قديمة: يعتقد الناس دائمًا أن مصير الإنسان يتحدد، على نحوٍ ما، بمظهره، بجمال وجهه أو قبحه، بحجمه، بوجود شعر له أو عدمه … وهذا كله خطأ! إن صوت الإنسان هو الذي يحدد كل شيء … صوت «فانسان» رفيع وضعيف ولا يلاحظه أحد عندما يبدأ في الكلام … وهنا يكون عليه أن يبذل جهدًا لتقويته فيحس الجميع أنه يصرخ! «بونتيفان» على العكس تمامًا … يتكلم بنعومة وسلاسة ويتردد صوته العميق جميلًا وقويًّا … لدرجة أن الكل يستمع إليه وحده. آه! لعنة الله على «بونتيفان»! لقد وعد أن يحضر إلى المؤتمر مع «فانسان» … ومع كل العصابة … ثم فقد الاهتمام بذلك، إنه أمر يتفق وطبيعته وميله إلى الكلام أكثر من الفعل.

خاب أمل «فانسان» من ناحية، ومن ناحية أخرى شعر أن عليه ألا يغفل وصية معلمه الذي قال له وهو على وشك مغادرته: «سيكون عليك أن تنوب عنا جميعًا وأنا أمنحك كامل الصلاحية لتتصرف باسمنا من أجل هدفنا المشترك.» كان ذلك بالطبع أمرًا مضحكًا، ولكن عصابة الرفاق في مقهى «جاسكون» كانوا مقتنعين بأن الأوامر المضحكة فقط هي الجديرة بالطاعة في هذا العالم الذي نعيش فيه والذي لا معنى له. وبعين عقله يلمح إلى جانب رأس «بونتيفان» الساخر ابتسامة الرضا البلهاء على وجه «ماشو». متشجعًا بالرسالة وبالابتسامة، يقرر «فانسان» أن يتصرف، ينظر حوله … فيلمح وسط المجموعة المتزاحمة حول البار فتاة تعجبه!

٢١

علماء الحشرات أجلاف، غريبو الطباع، سذج، لا يولون الفتاة أي اهتمام رغم أنها تستمع إليهم بكل اهتمام! جاهزة للضحك عندما يجب، ولأن تكون جادة عندما يوحون إليها بذلك! واضح أنها لا تعرف أحدًا منهم هنا وردود أفعالها اجتهاد لا يلحظه أحد … تغطي به روحها الخجولة.

ينهض «فانسان» من على الطاولة ويقترب من المجموعة التي تقف بينها الفتاة ويتكلم معها، وبعد ثوان يبتعدان عن الآخرين ويستغرقان في محادثة تبدو طبيعية من البداية … ولا نهاية لها. اسمها «جولي» وتعمل طابعة، أنجزت بعض الأعمال لرئيس المؤتمر وليس لديها ارتباطات هذا المساء، فاستغلت الفرصة لتمضية السهرة في هذا الفندق الشهير وسط أناس يثيرون فيها الرعب … والفضول أيضًا! حتى الأمس لم تكن قد رأت في حياتها عالم حشرات. «فانسان» يشعر معها بالألفة ولا يحتاج لأن يرفع صوته، إنه في الواقع يخفضه لكيلا يسمعه الآخرون. بعد ذلك يسحبها إلى طاولة صغيرة حيث يجلسان جنبًا إلى جنب واضعًا يده على يدها: «تعرفين؟ كل شيء يتوقف على قوة الصوت، إنها أهم من أن يكون وجه الإنسان جميلًا.»

– «صوتك جميل.»

– «أتعتقدين ذلك؟»

– «نعم!»

– «ولكنه ضعيف».

– «وهذا هو سر جماله، أما صوتي فمرعب، نقيق، صرير، نعيق غراب عجوز … ألا تلاحظ ذلك؟»

ويرد «فانسان» برقة: «مطلقًا … أنا أحب صوتك … إنه مثير، تحريضيٌّ … لعوب …»

– «تعتقد ذلك؟»

– «صوتك يشبهك» ثم يضيف بإعجاب «أنت نفسك لعوب ومثيرة.»

جولي التي يطربها ما يقول ترد: «نعم … أعتقد ذلك.»

ويقول فانسان: «أولئك الناس عبارة عن جماعة من الحمقى!».

وتوافق هي: «بالتأكيد».

– «إنهم متباهون، برجوازيون، هل رأيت «بيرك» … ذلك الأبله؟»

«جولي» موافقة تمامًا، أولئك الناس الذين يتصرفون معها وكأنها غير موجودة، ولذلك فإن أي شيء تسمعه ضدهم يطربها، ويشعرها بأنها قد انتقمت منهم.

يبدو «فانسان» جذابًا، شكله وسيم. مرح … غير متكلف، وغير متباهٍ بالمرة. يقول فانسان: «لدي شعور بأنني سأصنع جحيمًا هنا!» ويبدو هذا أمرًا طيبًا: مثل وعد بالثورة … تبتسم «جولي» وتود أن تصفق له. يقول لها: «سأذهب لأحضر لك كأسًا من الويسكي!» ويتوجه ناحية البار. في نفس الوقت كان الرئيس ينهي المؤتمر والمشاركون يغادرون القاعة محدثين جلبة. تمتلئ ردهة الفندق في الحال. يقترب «بيرك» من العالم التشيكي ويقول «لقد تأثرت جدًّا ﺑ …» ثم يتردد عن عمد لكي يبدو كمن يبحث بصعوبة عن كلمة رقيقة ومناسبة يصف بها حديث العالم التشيكي أمام المؤتمر … «ﺑ … شهادتك، نحن نميل إلى النسيان بسرعة، وأود أن أؤكد لك أنني تأثرت جدًّا بما حدث في بلادكم، لقد كان شعبكم مفخرة أوروبا كلها، أوروبا التي ليس لديها الكثير لتفخر به.»

يومئ العالِم التشيكي بطريقة غامضة، معترضًا، ليعبر عن تواضعه، ويواصل بيرك: «لا! لا تعترض، أنا مُصر على أقوالي، إنكم، وعلى نحو خاص مثقفو بلادكم، بمقاومتكم العنيدة للظلم الشيوعي أظهرتم الشجاعة التي نفتقدها، لقد عبرتم عن الظمأ للحرية، بل أقول الجسارة من أجل الحرية. لقد ضربتم المثل لنا!»

ولكي يعطي كلماته نكهة المودة والصداقة ورفع الكلفة يضيف «… إلى جانب أن بودابست» مدينة حية ورائعة، ودعني أؤكد لك أنها أوروبية تمامًا!»

ويسأله العالم التشيكي على استحياء «تقصد براغ!»

فيقول: «نعم! ياه! لعنة الله على الجغرافيا!» يعتقد «بيرك» أن الجغرافيا هي التي أوقعته في هذا الخطأ الصغير، ولكي يسيطر على ضيقه إزاء عدم لباقة زميله يقول: «أقصد «براغ» طبعًا، ولكني أقصد كذلك «كراكاو»، أقصد «صوفيا»، أقصد «سان بتسبرج» … وفي ذهني كل تلك المدن الشرقية التي خرجت لتوها من معسكر الاعتقال الضخم!»

– «لا تقل معسكر اعتقال! … صحيح أننا خسرنا أعمالنا، ولكننا لم نكن معتقلين!»

– «كل بلاد الشرق كانت مغطاة بالمعتقلات يا زميلي العزيز، معسكرات حقيقية أو رمزية لا يهم!»

– «ولا تقل الشرق.» يواصل العالم التشيكي احتجاجه: «براغ كما تعرف مدينة غربية مثل باريس بالضبط، جامعة تشارلز التي أُنشِئت في القرن الرابع عشر كانت أول جامعة في الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وكما تعرف بالطبع أن «جون هاس» كان يقوم بالتدريس هناك، وهو سلف «لوثر»، المصلح الديني ومطور اللغة».

ترى ما نوع تلك الذبابة التي لسعت العالم التشيكي؟ لم يكفَّ عن تصحيح محاوره الذي غضب لذلك، رغم أنه يحاول أن يحتفظ ببعض الدفء في صوته … ببعض المودة: «لا تخجل يا زميلي العزيز لأنك قادم من الشرق، فرنسا تُكن أجمل المشاعر للشرق، انظر مثلًا إلى هجرتكم في القرن التاسع عشر.»

– «لم يكن لدينا هجرة في القرن التاسع عشر.»

– «وماذا عن ميكيفسكي؟ أنا فخور بكونه وجد في فرنسا وطنًا ثانيًا له!»

«ولكن ميكيفسكي لم يكن …» ويواصل التشيكي اعتراضاته. في هذه اللحظة تدخل «إماكيولاتا» إلى المشهد، تعطي بعض الإشارات السريعة والنشطة للمصور، ثم بتلويحة من يدها تنحَّى العالم التشيكي جانبًا وتزرع نفسها أمام «بيرك» وتخاطبه:

«جاك آلان بيرك …»

يعيد المصور الكاميرا إلى كتفه: «دقيقة واحدة من فضلك» تتوقف «إماكيولاتا» عن الكلام، تنظر إلى المصور … ثم إلى «بيرك»: «جاك آلان بيرك …»

٢٢

قبل ذلك بساعة، كان «بيرك» عندما رأى «إماكيولاتا» ومعها مصورها في قاعة المؤتمر، قد فكَّر في أن يصرخ من الغضب، ولكن الغيظ الذي سببه له العالم التشيكي فاق ذلك الذي سببته «إماكيولاتا» … ولكن لأنها أنقذته من ذلك المتحذلق الغريب، ألقى إليها بابتسامة شكر … غامضة!

تشجعت، وبنبرة كلها مرح ومودة: «من؟ جاك آلان بيرك؟ أين؟ وسط هذا الجمع من علماء الحشرات، الأسرة التي تنتمي إليها عبر مصادفات حياتك، لقد مررت بلحظات مثيرة منذ وقت قليل.» ثم دفعت بالميكرفون نحو فمه.

ويرد «بيرك» مثل تلاميذ المدارس: «نعم، يسعدنا أن نرحب هنا بيننا بعالِم حشرات تشيكي كبير، والذي بدلًا من أن يكرس حياته كلها لمهنته، كان عليه أن يقضيها كلها في السجن، لقد كان لحضوره أكبر الأثر في نفوسنا.»

أن تكون راقصًا، فذلك ليس مجرد رغبة أو ولع، إنه طريق لا رجعة منه، عندما أهانه «دويبركس» بعد ذلك الغداء مع مرضى الإيدز، ذهب «بيرك» إلى الصومال، لم يكن ذهابه إلى هناك نتيجة موجة من الجيشان العاطفي أو الغرور، وإنما لإحساسه بضرورة تعويض خطوة خرقاء … الآن وهنا، ها هو يدرك تفاهة تعليقاته، يعرف أن هناك شيئًا ما ينقصها، ينقصها قليل من الملح … فكرة ما، غير متوقعة، مفاجئة؛ ولذلك بدلًا من التوقف عن الكلام يسترسل إلى أن يأتيه إلهام أفضل «… وأنا أنتهز هذه الفرصة لأعلن عن اقتراحي بإنشاء جمعية فرنسية تشيكية للحشرات (هو نفسه … مدهوشًا لتلك الفكرة، يشعر بتحسن كبير)، وقد ناقشت ذلك منذ قليل مع زميلي من «براغ» — ويومئ باتجاه العالِم التشيكي — الذي أعلن عن سعادته بتكريم تلك الجمعية بأن نطلق عليها اسم الشاعر العظيم الذي نفي في القرن الماضي والذي سيبقى إلى الأبد رمزًا للصداقة بين شعبينا: ميكيفتش … آدم ميكيفتش، إن حياة ذلك الشاعر تظل درسًا خالدًا يذكرنا دائمًا بأن كل ما نفعله، شعرًا كان أم علمًا إنما هو ثورة (تعيده كلمة ثورة إلى حالة طيبة من اللياقة)؛ لأن الإنسان دائمًا في حالة ثورة (الآن هو في أحسن حالاته ويعرف ذلك جيدًا)، أليس كذلك يا صديقي؟ (ويستدير نحو العالِم التشيكي الذي يدخل إلى مجال الكاميرا ويهز رأسه كأنه يقول نعم)، لقد برهنت على ذلك من خلال حياتك، تضحياتك، معاناتك، نعم! إنك تؤكد إيماني بأن أي إنسان جدير بهذا الاسم لا بد أن يكون في حالة ثورة دائمة، ثورة على الظلم، وعندما ينتهي الظلم … (وقفة طويلة، «بونتيفان» هو الشخص الآخر الوحيد الذي يستطيع أن يصنع تلك الوقفات الطويلة المؤثرة … ثم بصوت منخفض) … ثورة على الشرط الإنساني الذي لم نختره.» هذه العبارة الأخيرة، زهرة ما ارتجل من كلام، تدهشه شخصيًّا. عبارة جميلة فعلًا، تحمله في الواقع بعيدًا عن وعظ السياسيين وتضعه في معية أكبر مفكري العالَم، ربما يكون «كامو» قد كتب عبارة مشابهة … «مالرو» أيضًا، وربما «سارتر».

بسعادة بالغة، تشير «إماكيولاتا» إلى المصور فيوقف الكاميرا، ذلك عندما يقترب العالِم التشيكي من «بيرك» ويقول: «كان ذلك رائعًا … فعلًا. ولكن اسمح لي أن أقول إن «ميكيفتش» لم يكن …» بعد هذا الأداء الجماهيري، يبدو «بيرك» ثملًا بعض الشيء، صوته الحازم يبعث على السخرية، يقاطع العالم التشيكي:

– «أعرف يا زميلي العزيز، أعرف مثلك تمامًا أن «ميكيفتش» لم يكن عالِم حشرات، نادرًا ما تجد شاعرًا عالِم حشرات في نفس الوقت، ولكن رغم هذا النقص فهم مفخرة البشرية كلها، وعلماء الحشرات بما فيهم أنت جزء من الجنس البشري. وتدوي ضحكة خلاص عظيمة مثل انطلاقة بخار مكبوت … طال حبسه. فعلًا! منذ أن أدركوا أن ذلك الرجل المتأثر جدًّا، كان قد نسي أن يقرأ بحثه في المؤتمر، وهم يريدون أن يضحكوا! تعليقات «بيرك» الوقحة حررتهم من تحفظهم وحيرتهم فانفجروا جميعًا غير مبالين …

العالم التشيكي يقف مأخوذًا، ماذا حدث؟ أين الاحترام الذي كان يبديه زملاؤه نحوه منذ دقائق قليلة؟ كيف ينفجرون ضاحكين هكذا؟ كيف سمحوا لأنفسهم بذلك؟ وهل يمكن أن يتحول الناس بهذه البساطة من الاحترام إلى الاحتقار؟ (نعم يا عزيزي … نعم!) هل النوايا الحسنة شيء هش لهذه الدرجة إذَن؟ (طبعًا يا عزيزي … طبعًا).

في نفس اللحظة تجيء «إماكيولاتا» إلى «بيرك» وتقول بصوتٍ عالٍ متهدج … «أنت رائع يا بيرك! هذا أنت فعلًا! كم أنا معجبة بسخريتك! لقد مارستها معي أيضًا؟ هل تذكر أيام المدرسة؟ هل تذكر كيف اعتدت أن تدعوني ﺑ «إماكيولاتا» الطاهرة؟ طائر الليل الذي كان يقض مضجعك؟ يزعج أحلامك؟ لا بد أن نصنع فيلمًا معًا … عنك … لا بد أن توافق، وأنا الشخص الوحيد الذي يحق له القيام بهذا العمل!»

صدى الضحك الذي كافأه به العلماء لجلده العالم التشيكي ما زال يتردد في رأسه، يسكره، وفي لحظات كهذه يملؤه شعور بالرضا ويجعله يُقدِم على تصرفات صريحة … حمقاء … وغالبًا ما تخيفه؛ لذا دعنا نغفر له مقدمًا ما هو على وشك أن يُقدِم عليه … يجذب «إماكيولاتا» من ذراعها، ينتحي بها جانبًا ليحتمي من الآذان المتطفلة … وبصوت خفيض: «اذهبي أيتها العاهرة الشمطاء … اذهبي نامي مع نفسك، مع جارك المريض … خيطي نفسك! يا طائر الليل … فزاعة طيور الليل، والكابوس الذي يذكرني بغبائي … بلاهتي المجسدة، نفاية ذكرياتي … وبول شبابي النتن!»

تستمع ولا تستطيع أن تصدق أذنَيها، تعتقد أنه يوجه تلك الكلمات البشعة لشخص آخر ليخفي معرفته بها، ليخدع من حوله. تعتقد أن الكلمات حيلة لا تفهمها ولذلك تسأله بهدوء وبشكل طبيعي: «لماذا كل هذا؟ وعلى أي نحو تريدني أن أفهم ذلك؟»

– «كما أقوله تمامًا، وبمعنى كل كلمة، بالحرف الواحد … عاهرة معناها عاهرة، المؤخرة هي المؤخرة، الكابوس هو الكابوس والبول هو البول …!»

٢٣

طوال ذلك الوقت كان «فانسان» يراقب الشخص الذي يحتقره وهو جالس في بار الفندق. المشهد كله حدث على مسافة عشرة أمتار منه وإن كان لم يلتقط شيئًا من المحادثة. كان «بيرك» بالنسبة له كما كان يصفه «بونتيفان» بالضبط! إنه مهرج إعلامي، ممثل هاوٍ، مدعٍ، راقص، ودون شك فإن فريق التلفزيون لم يحضر ليهتم بعلماء الحشرات إلا لأن «بيرك» كان موجودًا.

راح «فانسان» يراقبه باهتمام، يدرس فنه في الرقص، والطريقة التي لا يغيب بها عن الكاميرا، مهارته في موضعة نفسه أمام الآخرين، أسلوبه في استخدام يديه لجذب الانتباه. عندما سحب «إماكيولاتا» من ذراعها لم يحتمل «فانسان» أكثر من ذلك فصاح قائلًا: «انظر إليه … إن الشيء الوحيد الذي يهمه هو تلك المرأة من التلفزيون، لم يأخذ زميله الأجنبي من ذراعه، لا يهتم بزملائه إطلاقًا وخاصة إذا كانوا من الأجانب، التلفزيون هو سيده الوحيد، وسيدته الوحيدة، عشيقته الوحيدة؛ لأنه — وأراهن على ذلك — ليس لديه سواها … لأنه — وأراهن — … أكبر خصي في العالَم!»

الغريب أن صوته رغم ضعفه، مسموع وواضح هذه المرة، هناك في الواقع ظرف واحد يمكن أن يصبح أضعف صوت مسموعًا فيه … ذلك عندما يقدم لنا أفكارًا مزعجة. ويستمر «فانسان» في التعبير عن أفكاره … إنه بارع، وحاد، ويتحدث عن الراقصين والصفقة التي عقدوها مع الملاك، وكلما زادت سعادته بفصاحته يصعِّد من غلوائه وكأنه يصعد سلم المجد.

هناك شاب يرتدي بذلة كاملة ونظارة طبية يراقبه ويستمع إليه بصبر، مثل وحش ضارٍ في حالة تنمر، وبعد أن ينتهي «فانسان» من كلامه يقول: «يا عزيزي نحن لا نختار أماكن ولادتنا، وكلنا نعيش تحت عيون الكاميرات، هذا جزء من الشرط الإنساني الآن، وعندما نريد أن نعلن احتجاجنا على شيء لا يمكن أن نكون مسموعين دون الكاميرات، يا عزيزي كلنا راقصون كما تقول، ويمكن أن أضيف أننا إما راقصون أو هاربون ويبدو أنك نادم لأن الزمن يمضي سريعًا، ولذلك عُد إلى الماضي! ما رأيك في القرن الثاني عشر؟ أيعجبك؟ ولكنك عندما تعود إلى هناك سوف تبدأ في الاعتراض على الكاتدرائيات وتعتبرها بربرية حديثة! عُد أبعد من ذلك. عُد إلى القردة! لا مدنية هناك تهددك، هناك سوف تشعر أنك في بيتك، في جنة القردة الطاهرة …»

لا شيء أكثر إهانة من عدم الرد بعنف على هجوم عنيف. وفي غيظ مكبوت ووسط ضحكات ساخرة ينسحب «فانسان» بهدوء، ولكنه بعد دقيقة من الذعر يتذكر أن «جولي» كانت تنتظره فيزدرد الكأس التي كان يحملها بسرعة ويضع الكوب على البار، ثم يتناول كأسَين أُخرَيين من الويسكي … واحدة له … وواحدة لها!

٢٤

صورة الرجل في البذلة الكاملة ما زالت مثل شظية في روحه، لا يستطيع أن يخلِّص نفسه منها، وهذا أكثر إيلامًا لأنها جاءت وهو على وشك إغواء امرأة! كيف يمكن أن يكمل ذلك وذهنه مشغول بتلك الشظية المؤلمة؟

«جولي» تلاحظ حالته النفسية: أين كنت كل هذا الوقت؟ لقد ظننت أنك لن تعود أو أنك كنت تحاول أن تتخلص مني. يلاحظ أنها مهتمة به، الأمر الذي يخفف من ألمه بعض الشيء … ألم الشظية. يحاول أن يكون لطيفًا وجذابًا ولكنها ما زالت غير واثقة … «لا تكذب عليَّ، لقد تغيرت … هل قابلت أحدًا تعرفه؟»

يقول «فانسان»: «لا … في الحقيقة لم يحدث!»

وتقول «جولي»: «نعم … في الحقيقة نعم، لقد قابلت امرأة، ومن فضلك إن كنت تريد أن تنصرف معها يمكنك أن تفعل ذلك. منذ نصف ساعة فقط لم أكن أعرفك … وهكذا يمكن أن أستمر … لا أعرفك.»

ويزداد حزنها بالتدريج … وبالنسبة لأي رجل لا يوجد دواء أكثر تخفيفًا للألم أفضل من الحزن الذي يسببه لامرأة!

– «في الحقيقة لا … صدقيني، لا توجد أي امرأة، كان هناك فقط شيء مزعج، شخص غبي كنت أتناقش معه وهذا هو كل ما في الأمر.» ويلمس خدها برقة لكي يزيل عنها الشكوك.

– «لا يا «فانسان» لقد تغيرت تمامًا.»

«هيا بنا» … يدعوها لتذهب معه إلى البار، يريد أن يستأصل الشظية من روحه بطوفان من الويسكي! ما زال الشاب الأنيق ذو البذلة الكاملة هناك مع الآخرين، لا يوجد بالقرب منه نساء وهذا يسعد «فانسان» جدًّا؛ لأنه يصحب «جولي» التي يراها أجمل الجميلات … وكل دقيقة أجمل عن ذي قبل … يلتقط كأسَين أُخرَيين من الويسكي يعطيها واحدة ويشرب الأخرى بسرعة ثم ينحني نحوها قائلًا: «انظري إلى ذلك المغفل في البذلة والنظارة الطبية هناك!»

– «أهذا هو؟ … ولكنه لا شيء … لا أحد … كيف توليه كل هذا الاهتمام؟»

– «عندك حق، إنه شخص تافه، نكرة، خصي، شاذ!» يعتقد «فانسان» أن وجود «جولي» إلى جواره يخلصه من هزيمته؛ لأن الانتصار الوحيد الذي يُعتَّد به، الانتصار الحقيقي هو الاستيلاء على امرأة في هذا الوسط، وسط علماء الحشرات البعيد كل البعد عن الجنس.

وتكرر «جولي»: «إنه لا شيء … لا شيء … لا شيء بكل تأكيد!»

ويقول «فانسان»: «فعلًا! ولو أنني واصلت الانشغال به فسوف أصبح غبيًّا مثله.» وهناك مباشرةً في البار وعلى مرأى من الجميع … يُقبلها في فمها … إنها قُبلتهما الأولى.

يخرجان إلى الحديقة، يسيران قليلًا، يتوقفان … ثم قُبلة أخرى … يجدان دكة في الخميلة فيجلسان عليها … من بعيد يصلهما خرير النهر، شيء مجهول يحملهما بعيدًا … ولكني أعرف: أنهما يستمعان إلى نهر «مدام دي ت»، نهر ليالي الحب، من ينبوع الماضي وعصر اللذة يرسل تحياته الناعمة إلى «فانسان».

وكأنه يرى كل شيء … يقول «فانسان»: «في الأزمان الغابرة كانت تقام طقوس عربيدة في هذه القصور، القرن الثامن عشر كما تعرفين، «دي ساد». «الماركيز دي ساد». «الفلسفة في الصالون الصغير» … هل تعرفين ذلك الكتاب؟»

– «لا.»

– «لا بد أن تقرئيه، سأعيره لك، إنه حوار بين رجلَين وامرأتَين وسط طقس عربيد.»

– «هكذا؟»

– «ألا تحبين ذلك؟»

– «لا أعرف.»

ولكن هذه اﻟ «لا أعرف» ليست رفضًا، إنها الصراحة المؤثرة، صراحة الدلال. الشظية لا يتم استئصالها بسهولة، من الممكن السيطرة على الألم، كبحه، التظاهر بنسيانه ولكن التظاهر عبء، إجهاد، يتحدث «فانسان» باندفاع عن «دي ساد» وطقوسه العربيدة، ليس بهدف إفساد «جولي» بقدر ما هو يريد أن ينسى الإهانة التي وجهها إليه الشاب ذو البذلة الكاملة.

يقول: «من المؤكد أنك تعرفين، تعرفين جيدًا … أنك تتمنين …» يأخذها بين ذراعيه ويُقبلها: «تعرفين جيدًا أنك تحبين ذلك.» ويود أن يستشهد لها ببعض أبيات من الشعر تصف عشرات المواقف التي يعرفها عن كتاب «الفلسفة في الصالون الصغير». ينهضان. يكملان السير. القمر بدر يطل من بين أوراق الشجر، ينظر «فانسان» إليها وفجأة يمسه السحر؛ ضوء القمر الأبيض خلع على الفتاة جمال الحوريات، جمالًا هادئًا … جديدًا لم يره فيها من قبل. جمالها الآن رقيق، فاتن، يتعذر الوصول إليه. وفجأة — لا يستطيع حتى أن يعرف كيف حدث ذلك — يتخيل فتحة شرجها! صورتها أمامه دون توقع وبلا سابق إنذار … صورة لا يمكنه أن يبعدها عن خياله أو يتخلص منها.

آه! فتحة الشرج المنقذة! بفضلها اختفى تمامًا (أخيرًا … أخيرًا …) ذلك الشاب في البذلة الكاملة. والذي فشلت ثلاث كئوس من الويسكي في تحقيقه، حققته فتحة الشرج في لحظة واحدة! «فانسان» يطوي «جولي» بين ذراعيه، يُقبلها، يداعب صدرها … يحدق في جمالها الرقيق … جمال الحوريات … وطوال ذلك الوقت … وبلا توقف يتصور فتحة الشرج! لديه رغبة جامحة في أن يصارحها: «أداعب صدرك ولكن تفكيري كله في فتحة الشرج!» ولكنه لا يستطيع. لن تخرج الكلمات من فمه، وكلما ركز تفكيره في فتحة الشرج شهق بياض لونها ورقت شفافيتها الملائكية … وأصبح من المستحيل أن ينطق بصوت عالٍ.

٢٥

«فيرا» نائمة، وأنا واقف في الشباك المفتوح أرقب شخصَين يسيران في ضوء القمر في حديقة القصر. فجأة أسمع صوت تنفس «فيرا» يسرع ويرتفع، أستدير نحو فراشها وأتوقع أن تصرخ بين لحظة وأخرى. لم أعهدها تعاني من الكوابيس … ماذا يحدث في هذا الفندق؟ أوقظها فتحدق فيَّ، عينان واسعتان مملوءتان بالفزع، تتكلم كلامًا مختلطًا، تهلوس كما في نوبات الحمى الشديدة «… كنت أسير في ممر طويل في هذا الفندق ثم ظهر رجل من بعيد وراح يركض في اتجاهي، وبعد أن أصبح على مسافة عشرة أمتار تقريبًا بدأ يصرخ بصوت عال … تصور …! كان يتكلم باللغة التشيكية! كان يهذي بأشياء وعبارات بلهاء «ميكيفيتش ليس تشيكيًّا … ميكيفيتش بولندي» ثم اقترب مني مهددًا … وعندئذٍ أيقظتني!»

وأقول لها: «سامحيني، أنت ضحية خيالي المجنون.»

– «ماذا تقصد؟»

– «كأن أحلامك سلة مهملات أُلقي فيها بأوراقي الغبية!» تسألني في كرب شديد: «ماذا تكتب؟ رواية؟!»

أحني رأسي …

«لقد أخبرتني بأنك تريد أن تكتب رواية ذات يوم دون أن يكون بها كلمة واحدة جادة! قطعة كبيرة من الهراء لتسليتك الخاصة … أخشى أن يكون الوقت قد جاء. فقط أريد أن أحذرك: احترس!»

أحني رأسي أكثر …

– «هل تذكر ما كانت أمك تقوله لك دائمًا؟ أكاد أسمع صوتها وكأنه بالأمس: مالنكو … توقف عن المزاح … لن يفهمك أحد! ستُغضب الجميع وفي النهاية سيكرهونك كلهم!»

وأقول لها: «وهو كذلك!»

– «أنا أحذرك، الجدية هي التي أنقذتك، عدم الجدية سيعريك أمام الذئاب وأنت تعرف أنهم ينتظرونك … الذئاب يتربصون بك.»

ثم تعود لتنام … بعد هذه النبوءة المرعبة!

٢٦

في نفس الوقت تقريبًا كان العالم التشيكي قد عاد إلى غرفته، مهمومًا، مكسور الروح. أُذناه حتى الآن مملوءتان بالضحك الذي انفجر بعد استهزاء «بيرك» به، وهو ما يزال مأخوذًا: هل يمكن أن يتحول الناس بهذه البساطة من الاحترام إلى الاحتقار؟!

وأنا في الواقع كنت أتساءل: ماذا حدث يا ترى للقُبلة التي تركها الحدث الإخباري التاريخي العالمي على جبينه؟ هنا أيضًا مكمن أخطاء دعاة الأحداث الإخبارية، إنهم لا يدركون أن المواقف التي يبرزها التاريخ على المسرح لا تسلَّط عليها الأضواء إلا للدقائق الأولى فقط. لا حدث يظل خبرًا طوال حدوثه، وإنما لفترة قصيرة جدًّا … وفي بدايته! ملايين الأطفال الصوماليين الذين كانوا يموتون جوعًا والذين كانت الملايين تشاهدهم باهتمام شديد مثلًا … هل توقفوا عن الموت؟ ماذا حدث لهم؟ هل ازدادوا ضمورًا أم أصابتهم السمنة؟ الصومال نفسها … هل ما زالت هناك؟ وبالأحرى … هل كان لها وجود ذات يوم؟ هل هو اسم وهمي؟ سراب؟!

الأسلوب الذي يُروى به التاريخ المعاصر أشبه بحفل موسيقي تقدَّم فيه كل مقطوعات «بيتهوفن» اﻟ ١٣٨ واحدة تلو الأخرى … والحقيقة أنهم يعزفون الفواصل الأربعة الأولى من كل مقطوعة … بعد عشر سنوات لو قُدِّم هذا الكونشيرتو مرة أخرى فسوف يعزفون ١٣٨ نغمة كلحن واحد متواصل. وبعد عشرين سنة سوف تختصر كل موسيقى «بيتهوفن» في طنين طويل واحد مثل ذلك الصوت المتصل الذي كان يسمعه في أيام الصمم الأولى!

العالم التشيكي غارق في أحزانه، وعلى سبيل السلوى تخطر له فكرة. منذ فترة عمله البطولي في أعمال البناء التي يريد الجميع أن ينساها، ما زال يحتفظ بذكرى مادية ملموسة. بنيانه الجسماني القوي! تتراقص على وجهه ابتسامة رضا، متأكد أن لا أحد بين الموجودين هنا يملك جسمًا رائعًا مثل جسمه. نعم! صدق أو لا تصدق! هذه الفكرة التي تبدو مضحكة … تريحه جدًّا! يخلع سترته، ويتمدد على الأرض على بطنه، ثم يرفع نفسه على ذراعيه ويكرر هذه الحركة ٢٦ مرة مزهوًّا، ويتذكر أيام كان يذهب بعد العمل للسباحة مع زملائه في بركة صغيرة خلف موقع العمل. في الحقيقة كان أسعد مائة مرة حينذاك أكثر مما هو اليوم في هذا الفندق. اعتاد العمال أن ينادوه ﺑ «أينشتين» وكانوا معجبين به. وجاءته الفكرة الطائشة … (يدرك طيشها وهو سعيد به). سوف يذهب للاستحمام في مسبح الفندق الضخم، يريد أن يستعرض جسمه أمام المثقفين الضامرين من أبناء هذا البلد المعقد، المبالغ في التهذيب والغادر بطبعه! ولحسن الحظ كان قد أحضر معه ملابس الاستحمام من «براغ» (يأخذها معه في كل مكان) يرتديها … ينظر إلى نفسه نصف عار في المرآة … يفرد ذراعيه ويلويهما فتنتفخ عضلاته المفتولة بشكل رائع! «لو حاول أحد أن ينكر عليَّ ماضيَّ … فها هي عضلاتي … وهي دليل دامغ.» يتخيل جسمه وهو يستعرضه حول المسبح لكي يرى الفرنسيون أن هناك قيمة أساسية واحدة … كمال الأجسام … الكمال الذي يستطيع هو شخصيًّا أن يفاخر به … بينما لا أحد منهم لديه فكرة عنه.

ثم يرى أنه قد يكون من غير اللائق أن يسير شبه عارٍ عبر أروقة الفندق فيجذب قميصًا يرتديه …! والآن … القدمان … هل يتركهما عاريَين … هذا غير لائق كذلك … ولا يليق أيضًا لبس حذاء … قرر أن يكتفي بالجورب! وفي هذه الملابس ينظر مرة أخرى في المرآة … ومرة أخرى حزنه مشوب بالكبرياء … ومرة أخرى يشعر بالثقة!

٢٧

فتحة الشرج! يمكن أن تقال بطريقة أخرى كما قالها «جيوم أبوللينير»: المدخل التاسع لجسدك. قصيدته عن المداخل التسعة لجسد المرأة توجد في نصَّين مختلفَين. الأول أرسله إلى حبيبته «لوى» في خطاب كتبه في الخندق في ١١ مايو سنة ١٩١٥م والثاني أرسله من نفس المكان إلى عشيقة أخرى «مادلين» في ٢١ سبتمبر من نفس العام.

القصيدتان جميلتان، رغم اختلافهما في التصوير وإن كان قد كتبهما بنفس الأسلوب. كل مقطوعة مكرسة لمدخل من مداخل جسد العشيقة: عين، العين الأخرى، فتحة الأنف اليمنى، الفتحة اليسرى، الفم، ثم في القصيدة التي أرسلها إلى «لوى»: «فتحة كفلك» وأخيرًا الفتحة التاسعة «الفرج»! ولكن في القصيدة الثانية إلى «مادلين» يجيء في النهاية تحول غريب في الفتحات. يتراجع الفرج إلى المكان الثامن وتصبح فتحة الشرج «تلك التي بين جبلَين من اللؤلؤ» … هي الفتحة التاسعة: «الأكثر غموضًا من الأخريات»، فتحة «الأسرار التي لا يجرؤ المرء على الكلام عنها» و«الفتحة الأسمى»!

أفكر في الشهور الأربعة والأيام العشرة التي تفصل بين القصيدتَين أو النصَين، أربعة شهور قضاها «أبوللينير» في الخنادق، عميقًا في أغوار أحلامه الشبقية، وهي التي سببت كل هذا التحول في المنظور، هذا الإلهام: فتحة الشرج هي البؤرة المعجزة في الطاقة النووية للعري!

صحيح أن فتحة الفرج مهمة (طبعًا … ومن ينكر ذلك؟!) ولكنها أهمية رسمية جدًّا، إنها مكان محدد، مسجل، مصنف، موثق، موضح، مختبر، مجرب، مراقب، مغنًّى، محتفًى به …

الفرج تقاطع طرق صاخب حيث يلتقي كل الجنس البشري، نفق يعبره طابور الأجيال! البسطاء والسذج فقط هم الذين يؤمنون بحميمية ذلك الموضع … أكثر المواضع عمومية!

أما الموضع الوحيد الحميم بحق، والتي تحترم حرمته حتى أفلام البورنو، فهو فتحة الشرج … الفتحة الأسمى!

وهي الأسمى لأنها الأكثر غموضًا … الأكثر سرية!

هذه الحكمة التي كلفت «أبوللينير» أربعة شهور قضاها تحت سماء زرقاء بفعل قذائف المدافع، وصل إليها «فانسان» في جولة واحدة مع «جولي» التي استحالت جسدًا شفافًا في ضوء القمر …!

٢٨

صعب جدًّا ألا تستطيع الكلام إلا عن شيء واحد وتجد نفسك في موقف لا تتمكن فيه من ذلك! لفظ «فتحة الشرج» الذي لا يستطيع «فانسان» أن ينطق به ملتصق بفمه مثل كعام يمنع المرء من الكلام. يتطلع إلى السماء لعلها تنقذه، وتمنحه السماء ما يريد … يهبط عليه إلهام شعري فيقول: «انظري …» ويشير إلى القمر «إنه يشبه فتحة شرج تم ثقبها في السماء.» ثم يستدير ويحملق في «جولي»؛ رقيقة وصافية تبتسم قائلة: «فعلًا!» فهي منذ ساعة تقريبًا أصبحت مهيأة تمامًا للإعجاب بأي شيء يقوله. يسمع كلمة «فعلًا» منها ويأكله الجوع إلى المزيد، لها نظرة ملاك بريئة وطاهرة ولكنه يريدها أن تقول «فتحة الشرج» … يريد أن يرى فمها الملائكي يلفظ تلك الكلمة بوضوح … كم يتوق لذلك! يريد أن يقول لها: رددي معي: «فتحة الشرج! فتحة الشرج! فتحة الشرج! «ولكنه لا يجرؤ … محاصرًا أكثر في فخ بلاغة اللغة: «فتحة الشرج تشع ضوءًا يغمر قلب الكون!» ويمد ذراعًا نحو القمر … «تقدَّم وادخل فتحة شرج الأبدية!» لا أستطيع أن أعلق بأي شيء على ما يقوله «فانسان»، بهذا الهوس الواضح بفتحة الشرج يعتقد أنه يقنن إعجابه بالقرن الثامن عشر، ﺑ «ساد» وكل عصبة الخلعاء، ولكن يبدو وكأنه لا يستطيع أن يستمر في هذا الهوس إلى النهاية، إلى الاكتمال؛ فإن موروثًا قديمًا آخر، على النقيض ومن القرن التالي، يهب لنجدته، أي أنه عاجز عن مناقشة هوسه وهواجسه الخليعة سوى عن طريق التغني بها … بتحويلها إلى بلاغة لغوية.

يحول روح الخلاعة إلى روح شعرية وينقل فتحة الشرج من جسد المرأة إلى السماء.

ولكن هذه الإزاحة أمر مؤسف ورؤيتها مؤلمة وأنا أكره أن أتبع «فانسان» في هذا الطريق؛ إنه ينافح ملتصقًا ببلاغته التصاق الذباب بالغراء … يصرخ: «فتحة شرج السماء مثل عين كاميرا الرب!» وكأنها ترى تهويمات «فانسان» الشعرية تدور حول نقطة واحدة، تقتحم خواطره مشيرة إلى ناحية الردهة المضاءة خلف النوافذ الكبيرة: «كل الناس قد انصرفوا تقريبًا!»

يدخلان؛ عدد قليل من الناس يجلسون حول الطاولات. الرجل الأنيق ذو البذلة الكاملة قد انصرف، ومع ذلك فإن غيابه يذكر «فانسان» به بشدة لدرجة أنه يسمع ذلك الصوت ثانية، صوته البارد … الحاقد … المدعوم بضحك زملائه!

مرة أخرى يشعر بالخجل: كيف كان عرضة لثرثرة ذلك الشخص؟ وكيف كان يقف أمامه بائسًا مصابًا بالخرس؟ يحاول أن يطرده من خياله ولكنه لا يستطيع، كلماته تتردد مرة أخرى في مسمعه «كلنا نعيش تحت عيون الكاميرات وهذا جزء من الشرط الإنساني الآن.»

ينسى «جولي» تمامًا، ويركز على تلك العبارة حائرًا. شيء غريب. كلام الشاب الأنيق يكاد يكون متطابقًا مع الاعتراض الذي أثاره «فانسان» نفسه قبل ذلك أمام «بونتيفان» … «إذا أردت أن تدخل في معترك جدل عام، الفت الانتباه إلى رعبٍ ما … فكيف يتسنى لك أن تفعل ذلك دون أن تكون راقصًا … أو أن تتظاهر بأنك كذلك؟»

هل كان ذلك هو سبب اضطرابه أمام الشخص الأنيق؟ هل كان تفكير الرجل قريبًا جدًّا من تفكير «فانسان» بحيث لم يتمكن من الهجوم عليه؟ هل نحن جميعًا في نفس الفخ …؟ مدهوشون … مشدوهون أمام عالم تغير تحت أقدامنا فجأة … على مسرح أُعِد سلفًا ولا يمكن الخروج منه …؟ وهل فعلًا لا يوجد فرق بين ما يفكر فيه «فانسان» وما يفكر فيه ذلك الشخص الأنيق؟ لا! إنها فكرة لا تُحتمل! هو يحتقر «بيرك»، يحتقر الشاب الأنيق، هذا الاحتقار يسبق حكمه في كل مرة. بكل عناد، يحاول أن يستوعب الفرق الذي يفصله عنهم إلى أن يتمكن من رؤيته بوضوح تام: مثل الخدم البؤساء … يشعرون بالبهجة مع الشرط الإنساني وكما هو مفروض عليهم بالضبط … راقصون سعداء بكونهم كذلك! بينما هو، ورغم أنه يعرف ألا مخرج له، يعلن عن اختلافه عن ذلك العالَم. ثم يفكر في الإجابة التي كان ينبغي أن يلقي بها في وجه ذلك الأنيق: «إذا كانت الحياة تحت الكاميرا قد أصبحت هي الشرط الإنساني بالنسبة لنا؛ فأنا متمرد على ذلك … وأنا لم أختره!» تلك هي الإجابة!

ينحني نحو «جولي» ودون تفسير يقول لها: «الشيء الوحيد الذي يبقى لنا هو التمرد على الشرط الإنساني الذي لم نختره.» بعد أن اعتادت على تعليقات «فانسان» وتوقيتاتها الغريبة، تجد هذا التعليق — تحديدًا — رائعًا؛ فترد بصوت مشاكس: «بالضبط» وكأن كلمة «التمرد» قد ملأتها بطاقة طائشة تقول: «فلنذهب إلى غرفتك فلنذهب معًا.»

فجأة، يختفي الشخص الأنيق مرة ثانية من رأس «فانسان»، عندما ينظر إلى «جولي» وهو مدهوش من كلماتها الأخيرة.

و«جولي» أيضًا معجبة به. بالقرب من البار هناك نفر قليل ممن كانت تقف معهم قبل أن يكلمها «فانسان»، وكانوا يتصرفون وكأنها غير موجودة. وتجاهلوها تمامًا. تنظر هي الآن إليهم نظرة ملكة … واثقة … بعيدة المنال! لم يَعُد أحد منهم يملأ عينها. تنتظرها ليلة حب تدخلها بكامل إرادتها … ومن خلال شجاعتها … إنها تشعر بالثراء وبالثقة وبالقوة وبحسن الحظ أكثر منهم جميعًا.

تتنفس في أذنه: «كلهم جماعة من الخصيان!» تعرف أن تلك كلمة فانسان، وتقولها لكي يعرف أنها تعطيه نفسها وأنها ملك له! وكأنها وضعت في كفه قنبلة من النشاط والخفة … الآن يستطيع أن يمضي مع الجميلة حاملة لواء فتحة الشرج، مباشرةً إلى غرفته … ولكن يتملكه شعور من ينفذ أمرًا صدر إليه من مكان بعيد … لا بد أن يشعل حريقًا قبل أن يمضي إلى غرفته … لقد سقط في دوامة ثملة اختلطت فيها الأشياء، فتحة الشرج والجنس الوشيك وصوت الشاب الأنيق الساخر وشبح «بونتيفان» الذي — يشبه تروتسكي — يقود تمردًا كبيرًا من غرفة تحت الأرض في باريس.

يقول ﻟ «جولي»: «سنذهب للسباحة قليلًا» … ويهبط درج السلم بسرعة في اتجاه المسبح الذي كان خاليًا من الناس في ذلك الوقت، ويشبه خشبة المسرح بالنسبة لمن يجلسون أعلى. يفك أزرار قميصه، وتجري «جولي» خلفه لتلحق به وهو يكرر «سنسبح»، يلقي ببنطاله … «اخلعي ملابسك!»

٢٩

الكلام المرعب الذي وجهه «بيرك» إلى «إماكيولاتا» قاله بصوت منخفض، همس به؛ لذلك لم يستطع أحد من الذين كانوا بالقرب منهما أن يفهم طبيعة الدراما التي كانت تدور أمام أعينهم. استطاعت «إماكيولاتا» أن تُخفي كل شيء، وعندما انصرف «بيرك» توجهت إلى السلم، صعدته، وعندما وجدت نفسها بمفردها أخيرًا في الممر الخالي المفضي إلى الغرف اكتشفت أنها كانت ترتعد …

بعد نصف ساعة، جاء المصور الذي لم يخامره أي شك، إلى الغرفة التي يشاركها إياها ليجدها مستلقية على بطنها على السرير.

– «ماذا؟»

لا تجيب، جلس بجانبها ووضع يده على رأسها … طردت يده كما لو كانت أفعى قد لمستها.

– «ماذا حدث؟» يكرر السؤال عدة مرات إلى أن تقول له: «من فضلك اذهب وتغرغر … لا أحتمل نفسًا كريهًا!»

لم يكن نفسه كريهًا، فهو مهتم بنظافته الشخصية بشكل دائم ولذلك أدرك أنها كانت تكذب … ومع ذلك ذهب إلى الحمام ليفعل ما أمرت به. فكرة النفس الكريه لم تطرأ على «إماكيولاتا» اعتباطًا؛ لأن هناك ذكرى معينة مكبوتة هي التي أوحت بها: ذكرى رائحة فم «بيرك» الكريهة … عندما كانت تستمع إلى إهاناته وهي مسحوقة، لم تكن في حال تسمح لها بالاهتمام برائحة زفيره. المراقب الكامن في داخلها كان هو الذي يسجل تلك الرائحة الكريهة ويضيف هذه التعليقات الجانبية المحددة: الرجل ذو الفم النتن ليس له عشيقة، لا توجد امرأة تتحمل ذلك، أي امرأة سوف تجد وسيلة تجعله يعرف بها أن رائحته كريهة وتجبره على أن يخلص نفسه من هذا العيب الفادح. وهي واقفة تحت قصف إهاناته، كانت تستمع إلى تلك التعليقات، وجدتها مريحة وباعثة على الأمل … جعلتها تعرف أنه بالرغم من ظل النساء الجميلات الذي يسمح له بيرك — بحذر — أن يحوم حوله، إلا أنه كان فقد الاهتمام بالمغامرات العاطفية من زمن بعيد، وأن المكان المجاور له على الفراش خالٍ دائمًا.

وهو يتغرغر، كان المصور — وهو رجل عملي ورومانسي في نفس الوقت — يقول لنفسه إن الطريقة الوحيدة لتغيير الحالة النفسية السيئة لرفيقته هي ممارسة الجنس معها على وجه السرعة. وهكذا يرتدي بيجامته في الحمام، ثم … خطوة تمهيدية … يعود ليجلس بجوارها على حافة السرير.

يسألها مرة أخرى وهو لا يجرؤ أن يلمسها: «ماذا حدث؟»

وترد عليه بذهن حاضر: «إذا كنت لا تستطيع أن تقول شيئًا سوى أن تسأل هذا السؤال الأبله … أعتقد أنه لا طائل من الكلام معك …» ثم تنهض وتتجه نحو خزانة الملابس تتأمل الثياب المعلقة بها … تحب الفساتين، تثير فيها رغبة غامضة وقوية بألا تترك نفسها تخرج من المشهد كله، وألا تعرض نفسها مرة أخرى للامتهان … وألا تقبل الهزيمة … وإن حدث … فلتجعل منها حدثًا مسرحيًّا كبيرًا تطلق العنان فيه لجمالها المجروح لكي يغني وينشر على الملأ تمردها المليء بالكبرياء …

يسألها: «ماذا تفعلين؟ وإلى أين؟»

– «لا يهم … المهم هو ألا أبقى معك!»

إنها لم تخطئ في حساباتها. يقول المصور: «كنت في حالة ممتازة.» ويحاول أن يتجاهل حالتها «كنا على حق عندما جئنا إلى هنا. مشروعك عن «بيرك» نجاحه مؤكد بالنسبة لي … لقد طلبت زجاجة شمبانيا ليحضروها إلى غرفتنا.»

«تستطيع أن تشرب ما تريد مع من تريد!»

«ولكن … ماذا حدث؟»

«سابع مرة … انتهى الأمر معك وإلى الأبد … طفح الكيل، سئمت الرائحة الكريهة التي تنبعث من فمك … أنت كابوسي … حلمي المزعج … فشلي … عاري … امتهاني … قرفي … لا بد أن أقول لك كل ذلك وبطريقة موجعة … لن يطول ترددي … لن يطول ذلك الكابوس، لن يطول ذلك الأمر الذي لا معنى له!» تقف. وجهها ناحية خزانة الملابس المفتوحة وظهرها للمصور، تتحدث بهدوء ورباطة جأش … صوتها منخفض … هامس … ثم تبدأ في خلع ملابسها!

٣٠

هذه هي المرة الأولى التي تخلع فيها ملابسها أمامه في غيبة كل استحياء وبكل تلك اللامبالاة الشرسة. أن تخلع ملابسها هكذا معناه؛ وجودك أمامي هنا لا قيمة له، لا أهمية له على الإطلاق، وجودك ليس أكثر من وجود كلب، جرذ، وتحديقك فيَّ لن يثير خلية واحدة في جسدي … معناه أنني أستطيع أن أفعل أي شيء أمامك، أغسل أذني، مثلثي، أمارس العادة السرية … أبول …! أنت لا عين … لا أذن … لا رأس بالمرة … وهذا الإهمال المليء بالكبرياء عباءة تجعلني أستطيع أن أتحرك أمامك بكامل الحرية … والوقاحة!

يرى المصور جسد عشيقته يتغير أمام عينيه كلية؛ ذلك الجسد الذي سوف يستسلم له الآن وهنا وببساطة شديدة … ها هو ينهض أمامه كتمثال إغريقي على قاعدة بارتفاع مائة متر …! إنه مجنون بالرغبة … رغبة غريبة لا تعبر عن نفسها حسيًّا ولكنها تملأ رأسه، رأسه فقط، رغبة هي فتنة ذهنية، حزن صوفي، ويقين بأن ذلك الجسد وليس سواه هو المقدر له أن يحقق وعد حياته … كلها!

وهي أيضًا تشعر بأن ذلك الحب وتلك الفتنة يلتصقان بجلدها، وتهبط على رأسها موجة برد وسلام تدهشها … لم تعرف ذلك النوع من الموجات من قبل … موجة برد …! مثلما هناك موجة عاطفة أو حرارة أو غضب … هذا البرد أيضًا عاطفة … وحب المصور المتناهي ورفض «بيرك» المتناهي كانا وجهَين لنفس اللغة التي تحاول أن تقاومها … وكأن صدود «بيرك» كان هدفها أن تلقي بها بين أحضان عشيقها العادي … وأن الطريقة الوحيدة لتفادي هذه الصدود هي كره ذلك العشيق! لذلك كله ترفضه بشدة، تريد أن تحوله إلى جرذ، والجرذ إلى عنكبوت، والعنكبوت إلى ذبابة تلتهمها عنكبوت أخرى …!

ارتدت ثيابها ثانية … لبست ثوبًا أبيض اللون وصممت على النزول والاستعراض أمام «بيرك» والآخرين. سعيدة لأنها كانت قد أحضرت معها ذلك الثوب الأبيض … لون الزواج … تشعر وكأنه يوم الزفاف … الزفاف العكسي … زفاف مأسوي دون عريس!

وتحت هذا الثوب الأبيض تحمل جرح الظلم الذي يجعلها تشعر بأنها أكثر عظمة وأكثر جمالًا، كما يحدث للشخصيات في المآسي الكبرى عندما تزيدهن المعاناة جمالًا على جمال. تقترب من الباب وهي تعرف أن الرجل الذي يرتدي البيجامة سوف يتبعها مثل كلب هائم، تريد أن يظهرا في أنحاء الفندق هكذا! اثنان غريبان، ملكة يتبعها أبله!

٣١

ولكن الرجل الذي اختزلته إلى وضع الكلاب يفاجئها ويقف في طريقها نحو الباب ثائر الوجه، اختفت رغبته في الرضوخ … تملؤه الآن رغبة يائسة في الصمود في وجه ذلك الجمال الذي يمتهنه ظلمًا. لا يستطيع أن يحشد شجاعته ويصفعها على وجهها، يضربها، يطرحها على السرير ويغتصبها، يشعر بحاجة متزايدة وملحة لأن يفعل شيئًا لا يمكن إصلاحه، شيئًا عنيفًا وعدوانيًّا. أجبرها على الوقوف عند الباب.

– «دعني أخرج!»

– «لن أدعك!»

– «أنت بالنسبة لي غير موجود!»

– «ماذا تقصدين بأني غير موجود؟»

– «أنا لا أعرفك.»

يضحك في توتر: «أنت لا تعرفيني؟» ثم يرفع صوته «هذا الصباح فقط نمنا معًا!»

– «لا أسمح لك بأن تتحدث معي وبمثل هذه الكلمات!»

– «هذا الصباح فقط كنت أنت نفسك ترددين: نم معي! نم معي! نم معي!»

– «كان ذلك عندما كنت أحبك» ثم وهي تشعر بالضيق قليلًا: «ولكن هذه الكلمات الآن ليست سوى بذاءات!»

يصرخ فيها: «ومع ذلك نمنا.»

– «لا أسمح لك.»

– «وليلة أمس نمنا.»

– «اخرس!»

– «كيف يمكن أن تطيقي جسدي في الصباح ولا تطيقينه في المساء؟»

– «أنت تعرف أنني أمقت السوقية.»

– «لا يهمني ماذا تمقتين … أنت عاهرة!»

آه! ما كان له أن يستخدم تلك الكلمة، نفس الكلمة التي صفعها بها «بيرك» …

فصرخت في وجهه «السوقية شيء مقزز … وأنت أيضًا.» ويصرخ هو الآخر: «نمت إذَن مع شخص مقزز، ولكن المرأة التي تنام مع شخص مقزز بالنسبة لها لا بد أن تكون عاهرة … عاهرة … عاهرة.» يزداد كلامه عنفًا وخشونة ويتزايد خوف «إماكيولاتا» …

الخوف؟ هل هي خائفة منه بالفعل؟ لا أعتقد ذلك! إنها تعرف جيدًا وفي صميم قلبها أنه لا داعٍ للمبالغة في هذه الثورة. واثقة هي من خنوعه، وتعرف أنه يهينها لأنه يريد أن يسمعه الآخرون، أن يروه، أن يقيموا له وزنًا، يهينها لأنه ضعيف … وكل ما لديه من وسائل القوة خشونته وكلماته العدوانية. لو أنها تحبه ولو قليلًا فلا بد أن تتأثر بهذا الانفجار … انفجار اللاحول واللاقوة …! ولكنها بدلًا من تأثرها تشعر برغبة طاغية في إيذائه؛ ولهذا السبب تحديدًا تقرر أن تتعامل مع كلماته حرفيًّا … أن تصدق إهاناته … أن تخافه ولذلك راحت تحدق فيه بعينَين تتعمدان إظهار الخوف فيهما.

يلاحظ الخوف في عيني «إماكيولاتا» ويتشجع: إنه الشخص الذي اعتاد أن ينهار دائمًا، ويعتذر، ولأنه أظهر قوته فجأة … وأظهر غضبه، أصبحت هي التي ترتعد. معتقدًا أنها تعترف بضعفها وتعلن استسلامها رفع صوته أكثر ليواصل بلاهاته العقيمة. مسكين! لا يعرف أنه يلعب لصالحها، وأنه ما زال ألعوبة حتى في اللحظات التي يتصور فيها أنه قد وجد القوة والحرية في غضبه!

تقول «إماكيولاتا»: «أنت تفزعني، أنت بغيض … متوحش …!» وهو الإنسان المسكين لا يعرف أن ذلك الاتهام لن يسقط عنه، وأنه — ذلك المزيج من الطيبة والخنوع — سوف يصبح الآن وإلى الأبد مغتصبًا ومعتديًا. مرة أخرى تقول: «أنت مخيف» وتدفعه جانبًا لكي تستطيع أن تخرج من الغرفة …

يتركها تمر ويتبعها. أبله في ذيل ملكة!

٣٢

العُري. ما زلت أحتفظ بقصاصة من أحد أعداد مجلة «نوفيل أوبزرفاتير» الصادرة في شهر أكتوبر من عام ١٩٩٣م، استطلاع رأي: أُرسلت قائمة تحتوي على مائتي كلمة إلى ألف ومائتي شخص يصفون أنفسهم بأنهم يساريين، وطلب منهم اختيار الكلمات التي يفضلونها، التي تروق لهم، ويجدونها جذابة ومناسبة. قبل سنوات قليلة كان نفس الاستطلاع قد أُجري: ومن بين الكلمات التي تم الإجماع عليها في المرتَين من قبل اليساريين كانت هناك ثمانية عشرة كلمة مما يؤكد وجود اقتناع مشترك. في سنة ١٩٩٣م انخفض عدد الكلمات إلى ثلاث. ثلاث كلمات فقط هي كل ما يمكن أن يجمع عليه اليسار؟ يا له من تدهور! انهيار! وما هي هذه الكلمات؟ اسمع يا سيدي: «الثورة»، «الأحمر»، «العري».

«ثورة» و«أحمر» هذا أمر واضح، ولكن كلمة «العُري» وحدها هي التي تزيد من خفقان قلوب اليساريين، وأن تظل هي التراث الرمزي المشترك بينهم لأمر صاعق! هل هذا هو كل ما بقي لنا من التاريخ الرائع الذي بدأته الثورة الفرنسية بوقار منذ مائتي عام؟ هل هذا هو تراث «روبسبيير» و«دانتون» و«جوريه» و«روزا لوكسمبرج»، تراث «لينين» و«جرامشي» و«أراجون» و«تشي جيفارا»؟ البطن العاري، الخصي العارية، والأرداف العارية؟ هل هذه هي الراية الأخيرة التي تتصور ألوية اليسار الأخيرة أنها سوف تسير خلفها عبر القرون؟ ولكن لماذا «العري» تحديدًا؟ ما معنى تلك الكلمة بالنسبة لليساريين الذين اختاروها؟ أتذكر موكب اليساريين الألمان في السبعينيات وهم يسجلون غضبهم أو اعتراضهم ضد أي شيء (محطة طاقة نووية، حرب، سلطة رأس المال … وأشياء أخرى لا أذكرها) بخلع ملابسهم والسير عُراة وهم يصرخون عبر شوارع أي مدينة ألمانية كبيرة. ما الذي كان من المفترض أن يعبر عنه هذا العري؟

أول افتراض: يمثل العُري بالنسبة لهم أقصى ما يتمنون من حرية، تلك القيمة الأكثر تعرضًا للخطر. كان اليساريون الألمان يعبرون المدينة كاشفين أعضاءهم الجنسية، كما كان يسير المسيحيون المضطهدون حاملين صليبًا من الخشب على أكتافهم.

الافتراض الثاني: لم يكن اليساريون الألمان يهدفون إلى عرض رمز لقيمة بعينها، وإنما كانوا يهدفون بكل بساطة إلى إحداث صدمة لدى جمهور مقيت. يصدمونه، يخيفونه، يمطرونه بوابل من روث الفيلة! يغرقونه تحت ركام نفايات وقاذورات العالَم.

مأزق غريب! هل يمثل العُري أعظم القيم أم أعظم روث يصلح لصنع قنبلة من الغائط تلقى على جمع من الأعداء؟! ثم ماذا يعني ذلك بالنسبة ﻟ «فانسان» وهو يقول ﻟ «جولي» ثانية: «اخلعي ملابسك!» ثم يضيف: «حدث ضخم على مرأى ومسمع من أولئك الخصيان …!»

وما معنى ذلك بالنسبة ﻟ «جولي» التي تسايره بحماس «ولم لا؟» ثم تفك أزرار ثوبها …؟

٣٣

يقف عاريًا كما ولدته أمه. ذلك لا يدهشه كثيرًا، فيضحك ضحكة مجلجلة … لنفسه أكثر مما هي لها. أن يكون عاريًا هكذا الآن وهنا في هذا المكان الضخم المسقوف بالزجاج … إنما هو شيء غير معتاد بالنسبة له … ولذلك فإن كل ما يفكر فيه هو سوء الحظ الذي يلازم الموقف. ألقت بحمالة الصدر، ثم بالسروال التحتي … ولكن «فانسان» لا يراها حقيقة … يعرف أنها عارية ولكن لا يعرف كيف! ودعنا نتذكر، منذ دقائق قليلة كان مهووسًا بتصور فتحة شرجها … هل تراه ما زال يفكر بذلك وقد تحررت الفتحة من حرير السروال؟! لا!

فتحة الشرج تبخرت من رأسه، وبدلًا من تأمل الجسد بعناية بعد أن عرى نفسه تمامًا في حضوره، بدلًا من الاقتراب منه، وفهمه ببطء، وربما لمسه، ها هو يقفز ليغوص في الماء. طفل غريب «فانسان» هذا! يلوم الراقصين بشدة، ويتكلم بهذيان وحماس عن القمر، وبعد ذلك كله ها هو يناور … يقفز في الماء ويغوص … وفي الحال ينسى عريه، ينسى «جولي» ولا يفكر في شيء سوى السباحة. في الخلف تقف «جولي» التي لا تعرف كيف تفعل مثله … فتنزل على السلم بحذر وهو لا يحاول حتى أن يلتفت لينظر إليها …! تلك خسارته … لأنها جميلة …! جميلة جدًّا «جولي» … جسدها يبدو متوهجًا … ليس حياء، وإنما بسبب ارتباك لحظة الخصوصية التي وجدت نفسها فيها … رأس «فانسان» تحت الماء وهي تعرف أن لا أحد ينظر إليها، يصل الماء إلى شعر العانة فتحس به باردًا، بودها أن تنزل وتنزل ولكن ليس لديها الشجاعة … تتريث … ثم تهبط درجة سلم أخرى بحذر، يرتفع الماء إلى مستوى سرتها، تغمر يدها فيه ثم تمسح على صدرها برقة لتبرده … جميل أن تتأملها هكذا … أما «فانسان» — جاهل القلب — فليس لديه فكرة! ولكن ما أشاهده أنا هنا في النهاية، فهو عري لا يدل على شيء بالمرة … لا يمثل شيئًا … لا الحرية ولا البذاءة. عُري مجرد من المعنى، عُري عارٍ! كل ما فيه أنه نقي وساحر للب!

وأخيرًا تبدأ في السباحة، حركتها أبطأ من «فانسان»، رأسها مرفوع فوق الماء بطريقة خرقاء، كان «فانسان» قد قطع المسبح جيئة وذهابًا ثلاث مرات عندما توجهت نحو السلم لتخرج. يسرع وراءها. كانا على الحافة عندما سمعا الأصوات القادمة من أعلى. استحثه شعوره بالقرب من الغرباء فبدأ في الصراخ: «سوف أضاجعك مضاجعة الذكور» … وكشر عن أنيابه واندفع نحوها بعنف. كيف لا يجرؤ على التلفظ بكلمة بذيئة واحدة وهما بمفردهما يتمشيان معًا، ثم يهدر بمثل تلك العبارة المشينة هنا، ورغم المجازفة بأن يسمعه الجميع؟ بالضبط؛ لأنه ودون أن يدري قد خرج من مجال الخصوصية. الكلمة التي تقال في مساحة صغيرة مغلقة لها معنى مختلف عن معناها وهي تدوي في مكان واسع. لم تعُد كلمة يتحمل مسئوليتها ولا هي موجهة لشريكه، بل هي كلمة مطلوب أن يسمعها آخرون، الموجودين هناك والذين ينظرون إليهما، صحيح إن المسرح خالٍ إلا أن الجمهور المتخيل والخيالي، المفترض والفعلي … موجود معهما!

وقد نتساءل: مم يتكون هذا الجمهور؟ أنا لا أعتقد أن «فانسان» يتخيل الناس الذين رآهم في المؤتمر. الجمهور الموجود حوله الآن ضخم، لافت للنظر، كثير المطالب مستثار، فضولي، ولكنه كذلك غير محدد … ضبابي الملامح … فهل معنى ذلك أن الجمهور الذي يتخيله هو نفس الجمهور الذي يحلم به الراقصون؟ الجمهور غير المنظور؟ ذلك الذي يبني عليه «بونتيفان» نظرياته؟ العالَم بأسره؟ أبدية لا وجود لها؟ تجريد؟

ليس بالضبط؛ لأن وراءه هذا التخبط الغامض تبرز قلة من الوجوه التي يمكن تحديدها؛ «بونتيفان» وبعض الرفاق الآخرين يراقبون المشهد كله ببعض الاستمتاع، يراقبون «فانسان» و«جولي» وأيضًا جمع الغرباء المحيط بهما. «فانسان» يصرخ كلماته … وكل ما يريد أن يحصل عليه هو الإعجاب والاستحسان.

«لن تضاجعني مضاجعة الذكور.» «جولي» التي لا تعرف شيئًا عن «بونتيفان» تنطق بتلك العبارة لكي يسمعها من ليسوا هناك … ولكن يمكن أن يكونوا هناك. هل تريد أن تنال إعجابهم؟ نعم! ولكنها تريده من أجل إسعاد «فانسان»، تريد أن يصفق لها جمهور غير معروف، غير مرئي لكي يحبها الرجل الذي اختارته لتلك الليلة و— ثم من يعرف — لليالٍ أخرى كثيرة …!

تجري حول المسبح، ونهداها يهتزان طربًا عنيفًا ذات اليمين وذات الشمال! كلمات «فانسان» تزداد غلظة، وبلاغتها تلقي بضباب خفيف على سوقيتها …

– «سوف أقحم ذكري فيك كالمسمار وأثبتك في الجدار!»

– «لن تثبتني في أي مكان.»

– «سوى أعلقك مصلوبة على سطح المسبح!»

– «لن أُعلَّق مصلوبة هناك!»

– «سأمزق فتحة شرجك وأفتحها أمام العالَم كله!»

– «لن تمزقها!»

– «سيرى الجميع فتحة شرجك!»

– «لن يراها أحد!»

أصوات تأتي من بعيد، اقترابها يقلل من سرعة خطوات «جولي» بما يعني أنها ستقف: وتبدأ في الصراخ بصوت عالٍ … وحادٍّ مثل امرأة على وشك أن تُغتصب. ويجذبها «فانسان» ويقعا معًا على الأرض … عيناها مفتوحتان … تنظر إليه … وتنتظر اختراقًا قررت ألا تقاومه … تباعد بين ساقيها … تغمض عينيها … وتدير رأسها قليلًا إلى اليسار!

٣٤

ولكن الاختراق لا يحدث. والسبب أن ذكر «فانسان» صغير جدًّا، ذابل مثل حبة فراوية برية صغيرة … مثل كستبان جدة عجوز! ولكن لماذا هو صغير هكذا؟! وجهت هذا السؤال مباشرة إلى ذكر «فانسان» الذي أجاب بدهشة واضحة: «ولماذا لا أكون صغيرًا؟ لا أرى أي فائدة في أن أكون كبيرًا، صدقني … هذه الفكرة حقيقة لم تطرأ على خيالي! لم أنزعج، كنت أنا و«فانسان» نراقب ركضها الغريب حول المسبح وكنت شغوفًا لأن أرى ما سوف يحدث بعد ذلك! شيء ممتع. الآن سوف تتهم «فانسان» بالعجز الجنسي. عفوًا! هذا سيُحملني شعورًا مخيفًا بالذنب، وهذا ظلم لأننا نعيش معًا على وفاق تام، وأقسم لك أن أحدًا منا لم يخذل الآخر أبدًا، كنت فخورًا به دائمًا وهو أيضًا فخور بي.» كان ذكر «فانسان» يقول الحقيقة، وفي الواقع فإن «فانسان» لم يتضايق من سلوكه، لو كان ذكره قد تصرَّف على ذلك النحو داخل غرفته لما غفرها له، ولكنه في هذه الظروف يميل إلى اعتبار ذلك ردة فعل معقولة … وربما مناسبة، وعليه قرر أن يأخذ الأمور على علاتها ويشرع في تخيل جماع وهمي.

«جولي» هي الأخرى ليست متضايقة أو محبطة، كانت تشعر بحركة «فانسان» فوقها ولكنها لا تحس بشيء داخلها. شيء غريب ولكنه مقبول، وكانت تستجيب لضربات عشيقها المكتومة بحركات من جانبها.

الأصوات التي سمعاها تبتعد، ولكن صوتًا جديدًا يتردد صداه في منطقة المسبح: وقع أقدام … وشخص يركض ويمرق بالقرب منهما … لهاث «فانسان» يسرع ويعلو.! يئن ويخور.! بينما «جولي» تتأوه … لأن جسد «فانسان» المبلل يؤلمها وهو يرتفع ويهبط فوقها … ولأن تلك أيضًا طريقتها للرد على زئيره!

٣٥

لم يستطع العالم التشيكي أن يتجنبهما عندما وقع عليهما بصره في اللحظة الأخيرة، ولكنه يتصرف كأنهما ليسا هناك ويحاول أن ينظر في اتجاه آخر.

متوتر: لم يألف الحياة في الغرب بعد. ممارسة الجنس على حافة مسبح أمر مستحيل في الإمبراطورية الشيوعية، مثل أشياء أخرى عليه أن يتعلمها في صبر وأناة. يصل إلى الجانب الآخر من المسبح ويشعر برغبة مفاجئة أن يستدير ليلقي بنظرة سريعة — على الأقل — على هذَين الغائبَين في حالة اتصال جنسي … لأن هناك مسألة واحدة تشغل باله: هذا الرجل الذي يمارس الجنس … هل جسمه جميل؟

ما الأكثر فائدة لبناء الأجسام … ممارسة الجنس أم العمل الجسماني؟ ولكنه يتمالك نفسه حيث لا يريد أن يتهمه أحد بالفضول واختلاس النظر. يقف على الحافة الأخرى ويبدأ تمريناته الرياضية: يركض في مكانه، يرفع ركبتيه عاليًا، بعد ذلك يقف على يدَيه ويمد رجليه في الهواء. كان وهو طفل قد تعلم ذلك الوضع الذي يسمى «الوقوف على اليدَين»، ويؤديه اليوم بنفس الكفاءة التي كان يؤديه بها في الماضي.

يطرأ على ذهنه سؤال: كم من العلماء الفرنسيين يستطيع أن يفعل ذلك؟ وكم من الوزراء؟ يستعرض في ذهنه على التوالي جميع الوزراء الفرنسيين الذين يعرفهم بالاسم ويحاول أن يتخيلهم في ذلك الوضع، متوازنين على أيديهم … إنه مقتنع تمامًا بأنهم ضعاف وتنقصهم اللياقة البدنية. بعد أن يؤدي تمرين الوقوف على اليدين سبع مرات ينبطح على بطنه ويبدأ تمرين النهوض معتمدًا على ذراعيه!

٣٦

لا «جولي» ولا «فانسان» مهتمان بما يدور حولهما، لا يستعرضان، لا يحاول أحدهما أن يستثير الآخر بسبب تحديق الآخرين أو أن يلفت النظر أو أن يراقب الشخص الذي يراقبه، وما يؤديانه ليس طقسًا من طقوس العربدة … مجرد عرض … وأثناء العرض لا يحاول الممثلون أن يجعلوا عيونهم تلتقي بعيون المشاهدين. «جولي» أكثر من «فانسان» إصرارًا على ألا ترى شيئًا، رغم أن النظرة المحدقة التي جاءت الآن واستقرت على وجهها كانت ثقيلة وكان من الصعب ألا تحس بها.

ترفع عينَيها وتراها: المرأة ترتدي ثوبًا أبيض رائع الحسن. تنظر إليها وتثبت بصرها عليها، نظرتها غريبة … من على البعد ولكنها ثقيلة … ثقيلة جدًّا، ثقيلة مثل اليأس، مثل قول «لا أدري ماذا أفعل» وتحت هذا الثقل تشعر «جولي» بما يشبه الشلل … تبطؤ حركتها … تترنح … تتوقف … ثم بعد تأوهات قليلة تصمت تمامًا!

المرأة ذات الثوب الأبيض تقاوم رغبة قوية في الانفجار صراخًا … ولا تستطيع أن تحرر نفسها من تلك الرغبة … قوية لدرجة أن الرجل الذي تريد أن تصرخ فيه لن يسمعها … فجأة وبعد أن تعجز عن التحكم في نفسها أكثر من ذلك تصدر عنها صرخة حادة مرعبة!

تفيق «جولي» من خَدَرها، تنهض، تتناول سروالها التحتي وتلبسه، وبسرعة تغطي نفسها بملابسها المبعثرة ثم تطلق ساقيها للريح. «فانسان» أبطأ منها حركة، يتناول قميصه، بنطاله، ولكنه لا يجد سرواله التحتي في أي مكان من حوله …

وعلى بعد خطوات قليلة في الخلف، كان رجل يرتدي بيجامة يقف مثل تمثال … لا أحد يراه ولا يرى أحدًا … كان كل كيانه عبارة عن نظر مسلَّط على المرأة ذات الثوب الأبيض!

٣٧

لم تستطع أن تستسلم لفكرة رفض «بيرك» لها، لذلك فكرت في هذه الفكرة المجنونة لكي تغيظه … أن تستعرض جمالها أمامه في ثوبها الأبيض. (أليس من الطبيعي أن يكون جمال إماكيولاتا أبيض اللون؟) ولكن مرورها في ردهات الفندق لم يحقق شيئًا، كان «بيرك» قد انصرف، ولم يكن المصور الذي يتبعها يبدو تافهًا أو ذليلًا، كان يتحدث إليها بصوت عالٍ ورديء! صحيح أنها نجحت في لفت الانتباه ولكنه انتباه رديء، مسخرة! لذلك أسرعت الخطى وبسرعة البرق وصلت إلى نهاية المسبح حيث وجدت نفسها أمام شخصَين يمارسان الجنس فأطلقت صرختها المدوية. صرختها أيقظتها، إنها ترى الآن فجأة وبوضوح شديد، ذلك الفخ الذي يضيق من حولها. المطارد من خلفها والماء أمامها. تفهم جيدًا أن المخرج الوحيد الممكن من هذا الفخ المحكم، مخرج مجنون. وأن التصرف المعقول المتاح لها لا بد أن يكون عملًا جنونيًّا، وهكذا تختار الجنون بكامل إرادتها … تتقدم خطوتَين للأمام وتقفز في الماء! الطريقة التي قفزت بها غريبة جدًّا: ليست مثل «جولي»، تعرف كيف تغطس، ومع ذلك نزلت إلى الماء بقدميها أولًا وهي تمد ذراعيها بإهمال؛ لأن لكل الإيماءات معانٍ أخرى غير التي يقصدها أصحابها، تجد أن البهجة هي الواضحة دائمًا على إيماءات الناس الذين يلقون بأنفسهم في الماء وهم يرتدون لباس البحر … ومهما كانت مشاعر الحزن التي قد يشعر بها السباح. ولكن عندما يقفز شخصٌ ما في الماء بملابسه كاملة فالأمر مختلف تمامًا: الشخص الوحيد الذي يقفز في الماء بكامل ملابسه شخص يحاول أن يغرق، لا يغطس برأسه أولًا … إنه يترك نفسه يسقط، هكذا تقول لغة الإيماء منذ القدم. ولذلك رغم أن «إماكيولاتا» سباحة ماهرة، إلا أنها قفزت في الماء بثوبها الجميل … بطريقة رديئة! ولسبب غير معقول تجد نفسها الآن في الماء، هي هناك تحت سيطرة الإيماءة التي يملأ معناها روحها بالتدريج، تشعر بأنها تمارس انتحارها، غرقها، وأن أي شيء تفعله من الآن فصاعدًا لن يكون سوى رقصة باليه، … بانتومايم تتكلم فيه الإيماءة بلغة غير منطوقة …

بعد سقوطها في الماء تنتصب واقفة، المسبح ليس عميقًا في تلك البقعة، الماءُ يصل إلى خصرها … تبقى هكذا للحظات، رأسها مرفوع، جذعها مقنطر، ثم تترك نفسها تسقط مرة أخرى، يطفو خلفها ذيل ثوبها كما تطفو الذكريات خلف الموتى. تقف مرة أخرى ورأسها مائل للخلف قليلًا، ذراعاها ممتدان كأنها تحاول الجري، تتحرك خطوات قليلة إلى الأمام حيث تميل أرضية المسبح للانحدار … ثم تنزل في الماء مرة أخرى. وهكذا تتقدم مثل حيوان مائي، بطة أسطورية تترك رأسها يختفي تحت الماء ثم ترفعه، حركات تعني التوق للحياة في الأعالي … أو الاختفاء في الأعماق. وفجأة يجثو الرجل الذي يلبس البيجامة على ركبتيه وينتحب: «عودي …! عودي …! أنا مجرم، وغد، عودي أرجوك!»

٣٨

على الناحية الأخرى للمسبح، حيث الماء أكثر عمقًا، كان العالم التشيكي يمارس تمرينه الرياضي ويراقب ما يراه في دهشة بالغة؛ في البداية اعتقد أن الاثنين الذين ظهرا هنا قد جاءا لمشاركة الاثنين الذين كانا يمارسان الجنس، وأنه كان سيشاهد واحدًا من تلك الطقوس الأسطورية العربيدة، التي سمع عنها كثيرًا عندما كان يعمل على سقالات الإمبراطورية الشيوعية المقدسة. وبدافع من اللياقة تصور أنه ينبغي عليه أن يغادر المسبح ويذهب إلى غرفته في ظرف كهذا يحدث فيه جنس جماعي. ولكن الصرخة اخترقت أذنه ولذلك بقِي على وضعه وذراعاه مضمومتان وكأنه قد تحجر، لا يستطيع مواصلة التمرين رغم أنه لم يؤدِ سوى ثمانية عشرة ضغطة: سقطة المرأة ذات الثوب الأبيض في الماء أمام عينَيه، وكان ذيل ثوبها يطفو خلفها بما فيه من زهور صناعية ملونة، أخيرًا يفهم العالم التشيكي وهو على وضعه مرفوع الجذع أن المرأة كانت تنوي الانتحار. تحاول أن تبقي رأسها تحت الماء ولكن إرادتها ليست قوية بما يكفي … فتنهض ثانية. ها هو يشاهد أمام عينَيه عملية انتحار لم يتخيلها من قبل، ربما يكون قد أصابها الغثيان، أو جرحت أو تعثرت تحت الماء لأنها تظهر وتختفي مرة تلو الأخرى، أكيد هي لا تعرف السباحة وكلما تقدمت مع انحدار أرضية المسبح تهبط أعمق فأعمق لدرجة أنها سوف تختفي تحت الماء حالًا لتموت أمام نظرة سلبية لرجل يلبس البيجامة يركع على حافة المسبح يرقبها وهو يبكي! لا يمكن أن يطول تردد العالِم التشيكي أكثر من ذلك: ينهض، ينحني على الماء، ساقاه مفرودتان وذراعاه ممدودتان خلفه. الرجل الذي يلبس البيجامة لم يَعُد يرى المرأة، ولكنه مفتون بجسم ذلك الرجل الغريب — طويل، قوي، غير متناسق — الذي يقف أمامه من الناحية الأخرى، ربما على مسافة خمسة عشر مترًا وهو على وشك التورط في دراما لا دخل له بها، دراما يحتفظ بها الرجل ذو البيجامة لنفسه ولمن يحبها؛ لأنه لا شك في أنه يحبها، كراهيته كانت مجرد مرحلة انتقالية، عاجز عن كرهها بحق ونهائيًّا حتى وإن كانت سببًا لمعاناته. يعرف أنها تتصرف بوحي من حساسيتها الزائدة وغير المنطقية، تلك الحساسية المعجزة التي لا يستطيع أن يفهمها … والتي يحبها ويحترمها. حتى وإن كان قد أساء إليها بقسوة منذ وقت قريب إلا أنه في قرارة نفسه مقتنع بأنها بريئة، وأن شخصًا آخر هو المسئول عن خلافهما المفاجئ. لا يعرف من هو، ولا أين يجده ولكنه مصمم على أن يمزقه إربًا. ينظر وهو في هذه الحالة النفسية إلى الرجل الذي ينحني بطريقة رياضية على الماء، ينظر كما لو كان منومًا … إلى جسم الرجل … قوي … مفتول العضلات، ونسبه مختلة بشكل غريب، فخذ أنثوي عريض وربلة ساق غبية! جسم مضحك … هو الظلم مجسدًا!

لا يعرف شيئًا عن ذلك الرجل، ولا يوجد لديه سبب لعدم الثقة به، ولكن لأن المعاناة أعمته، أصبح لا يرى في نصب القبح هذا سوى صورة بؤسه الذي لا يستطيع أن يعبر عنه … وهكذا يستولي عليه حقد كئُود على الرجل!

يغطس العالم التشيكي، وبضربات قليلة قوية يقترب من المرأة. يصرخ الرجل ذو البيجامة «اتركها» ويقفز هو الآخر في الماء. أصبح العالم على مسافة مترَين منها وساقاه تلمسان أرضية المسبح. يسبح الرجل ذو البيجامة في اتجاهه ويهدر ثانية «اتركها … لا تلمسها!» يمُدُّ العالم التشيكي ذراعًا تحت جسم المرأة فتصدر عنها تنهيدة طويلة. الآن … وصل الرجل ذو البيجامة إليهما «اتركها تسقط وإلا قتلتك.» ومن خلال دموعه لا يرى شيئًا أمامه، لا شيء سوى ظل مشوه، يجذبه من كتفه ويهزه بعنف، يفقد العالم توازنه فتسقط المرأة من بين ذراعيه … ولا أحد منهما يفكر فيها بعد ذلك، أما هي فتسبح نحو السلم وتخرج. ينظر العالم إلى عينَي الرجل البيجامة المليئتَين بالحقد، عيناه هو أيضًا يملؤها نفس الحقد!

لا يتمالك الرجل ذو البيجامة نفسه أكثر من ذلك … فيضرب! يشعر العالمُ بألم شديد في فمه، يتحسس بلسانه أسنانه الأمامية ويكتشف أن أحدها مخلخلة … سن صناعية كان أحد أطباء الأسنان في براغ قد ركبها إلى جوار غيرها من الأسنان الصناعية الأخرى بمهارة، وكان قد شرح له أنها تعتبر دعامة للآخرين، وحذره أنه لو فقدها ذات يوم فسوف يضطر لتركيب طاقم أسنان … مسألة يفكر فيها العالِم التشيكي بخوف شديد! يتحسس بلسانه السن المخلخلة فيشحب لونه … من الألم في البداية … ثم من الغضب بعد ذلك. حياته كلها تنهض أمامه وللمرة الثانية هذا اليوم، تغمر الدموع عينَيه، نعم يبكي! … ومن أعماق الدموع تصعد فكرة إلى رأسه؛ لقد ضاع منه كل شيء، كل ما تبقى له هو عضلاته، ولكن تلك العضلات … تلك العضلات البائسة ما فائدتها بالنسبة له؟ هذا السؤال يجعل عضلاته تنتفض مثل الزنبرك في حركة مرعبة: تخرج منها لكمة قوية، بقوة خوفه من فكرة طاقم الأسنان، وقوة نصف قرن من الجماع الوحشي على حواف كل مسابح فرنسا!

ويختفي الرجل ذو البيجامة تحت الماء، انهياره جاء سريعًا وكاملًا، لدرجة أن العالم التشيكي ظن أنه قد قتله، وبعد لحظة ذهول، ينحني عليه، يرفعه، يربت على وجهه عدة مرات، يفتح الرجل عينَيه، تسقط نظرته على ذلك الشبح المشوه، ثم يحرر نفسه ويسبح في اتجاه السلم ليلحق بالمرأة.

٣٩

جاثمة على حافة المسبح، راحت تراقب الرجل الذي يرتدي البيجامة عن كثب. معركته وانهياره. وبمجرد أن يتسلق إلى حافة المسبح المبلَّطة تقف وتسير في اتجاه السلم … دون أن تنظر خلفها، ولكن ببطء يكفي لأن يتبعها. وهكذا دون كلمة يعبران الردهة وهما مبللان بالماء (الردهة المهجورة منذ فترة طويلة) ويسلكان الممر إلى غرفتهما. ملابسهما تقطر ماء وهما يرجفان من البرد … لا بد من تغيير الملابس.

وماذا بعد؟

ماذا تقصد ﺑ «بعد»؟ سوف يمارسان الجنس … ما رأيك؟ هذه الليلة سيكونان صامتَين، سوف تئن قليلًا مثل شخص أسيء إليه. هكذا يمكن أن يستمر كل شيء، والمسرحية التي لعباها هذه الليلة لأول مرة سوف تتكرر في الأيام والأسابيع التالية.

ولكي تُظهر أنها فوق مستوى السوقية، أعلى من كل العالَم الذي تحتقره، ستجبره على الركوع مرة أخرى، وسوف يؤنب نفسه ويبكي، بل ستكون أكثر بشاعة من ذلك، ستحوله إلى ديوث وتستعرض خيانتها. ستعذبه وسوف يحاول أن يردَّ العدوان وأن يكون فظًّا ويصر على أن يقوم بعملٍ ما، لا يخطر ببال أحد، سيحطم مزهرية، يصرخ بإهانات بذيئة، وسوف تتظاهر بالخوف وتتهمه بأنه وحش ومغتصب … وسوف يخرُّ على ركبتَيه مرة أخرى، ويبكي مرة أخرى، ويعترف بالذنب مرة أخرى، وحينذاك ستتركه يمارس الجنس معها … وهكذا … وهكذا … لأسابيع، وشهور، وسنوات، وإلى الأبد!

٤٠

والعالم التشيكي؟ يقول لنفسه ولسانه ملتصق بالسن المخلخلة: «هذا كل ما تبقى من حياتي: سن مخلخلة ورعب من الاضطرار لطاقم أسنان، ولا شيء آخر؟ لا شيء بالمرة؟ لا شيء. وفي ومضة مفاجئة يظهر ماضيه كله أمامه، لا كمغامرة سامية ثرية بأحداثها الدرامية الفريدة، وإنما كفصول متوالية مكتوبة بحروف صغيرة بين كدس مشوش من الأحداث التي عبرت الكون بسرعة فائقة؛ فأصبح من المستحيل تبين ملامحها … ولربما كان «بيرك» محقًّا عندما ظنه مجريًّا أو بولنديًّا لأنه ربما كان مجريًّا أو بولنديًّا في الحقيقة، أو ربما تركيًّا أو روسيًّا أو حتى طفلًا يموت في الصومال.»

عندما تحدث الأشياء بسرعة، لا يصبح أحد متأكدًا من شيء … أي شيء بالمرة! حتى من نفسه!

عندما وصفتُ ليلة «مدام دي ت» تذكرتُ المعادلة الشهيرة في أحد الفصول الأولى من كتاب الرياضيات الوجودية: درجة السرعة تتناسب مباشرة مع شدة النسيان. يمكن أن نستنتج من هذه المعادلة عدة نتائج، هذه النتيجة مثلًا: عصرنا هذا قد أسلم نفسه لشيطان السرعة، وهذا هو سبب نسيانه لنفسه بسرعة. والآن أقلب العبارة الأولى: عصرنا مهووس بالرغبة في النسيان، ولإشباع تلك الرغبة يستسلم لشيطان النسيان، هو الذي يحدد معدل السرعة لكي يرينا أن أحدًا لم يَعُد يرغب في أن يتذكره الآخرون، لقد سئم نفسه، ملَّ، ويريد أن يطفئ شعلة الذاكرة الواهنة. يا عزيزي وابن بلدي، يا رفيقي، المكتشف الشهير ﻟﻠ «موسكا براجينسز» العامل البطل على السقالات، لم أعد أحتمل أن أراك واقفًا مزروعًا هكذا في الماء! ستموت من البرد. صديقي. أخي، كفَّ عن تعذيبك لنفسك. اخرج، اذهب إلى الفراش. كن سعيدًا لأنهم نسوك. التمس الدفء في الشال الناعم لفقدان الذاكرة الجماعي. كفَّ عن التفكير في الضحك الذي جرحك، ليس له وجود الآن. ذلك الضحك لم يَعُد موجودًا، كما لم تَعُد موجودة سنوات عمرك على السقالات وكما لم يَعُد موجودًا مجدك كضحية للاضطهاد. الفندق هادئ، افتح النافذة، عطر الأشجار سوف يملأ الغرفة. تنفس. أشجار الكستناء هذه عمرها ثلاثمائة عام. حفيفها هو ذات الحفيف الذي كانت «مدام دي ت» وعشيقها يسمعانه وهما يمارسان الجنس في المقصورة، التي كان يمكن أن تراها من نافذتك آنذاك؛ ولكنك للأسف لن تراها لأنها دمرت بعد ذلك بخمسين عامًا أثناء ثورة عام ١٧٨٩م، وكل ما تبقى منها هو تلك الصفحات القليلة من رواية «فيفان دينون» التي لم تقرأها … وربما لن تقرأها!

٤١

لم يجد «فانسان» سرواله التحتي، فألقى بقميصه وبنطاله على جسده المبلل وراح يركض وراء «جولي». كانت رشيقة جدًّا وكان هو بطيئًا جدًّا. يجري في الطرقات ويجد أنها قد اختفت، ولأنه لا يعرف غرفتها يعتقد أن فرصته ضعيفة، ومع ذلك يواصل تجواله عسى أن يُفتح باب ويخرج منه صوت «جولي» تعالَ «يا فانسان» … تعالَ!» الكل نيام، لا صوت، جميع الأبواب مغلقة! يهمس: «جولي … جولي …!» يرتفع الهمس ولا يجيب سوى الصمت. يتصورها، يتخيل فتحة شرجها … آه! … فتحة شرجها التي كانت عارية، أمامه، بالقرب منه، والتي أفلتت منه … فاتته تمامًا! التي لم يلمسها ولا حتى رآها! آه! تلك الصورة المرعبة تعود إليه ثانية، وذكَره المسكين يستيقظ … ينهض، ينهض ولكن بلا فائدة، بلا إحساس … ينتصب بشدة! يعود إلى غرفته، يلقي بنفسه على كرسي … لا شيء في رأسه الآن سوى الرغبة في «جولي»، على استعداد أن يفعل أي شيء في العالَم لكي يجدها … ولكن ماذا يمكن أن يفعل؟

صباح الغد ستجيء إلى قاعة الطعام لتتناول فطورها … ولكنه للأسف سيكون في مكتبه في باريس. لا يعرف لها عنوانًا، لا يعرف اسمها الأخير ولا أين تعمل … لا يعرف أي شيء …! ها هو وحده مع يأسه العميق الذي أصبح حقيقة محسوسة بفضل الحجم الغريب لذكَره! قبل ساعة كان ذكَره قد أبدى استعدادًا يستحق التقدير عندما ظل في حجمه المعقول وعندما تكلَّم بمنطق جيد؛ ولكني الآن لدي شكوك في سلامة عقل ذلك العضو نفسه، لقد تخلَّى عن كل العقلانية في هذه اللحظة، ودون أسباب معقولة يقف ضد الكون بأكمله مثل السيمفونية التاسعة ﻟ «بتهوفن»، التي تزأر بترنيمة الفرح في وجه البشرية الكئيب!

٤٢

تستيقظ «فيرا» للمرة الثانية … «لماذا تدير الراديو بهذا العلو الخارق للأذن؟ لقد أيقظتني!»

– «أنا لا أستمع إلى الراديو، ثم إن صوته منخفض هنا عنه في أي مكان آخر.»

«لا …! كنت تدير الراديو، وهذا شيء فظيع … كنت نائمة!»

– «أقسم …»

– «وترنيمة الفرح هذه … كيف يمكن أن تستمع لشيء كهذا؟»

– «سامحيني! مرة أخرى هذا خطأ خيالي!»

– «ماذا تقصد ﺑ «خيالك»، هل أنت الذي كتبت السيمفونية التاسعة، أو بدأت تعتقد الآن أنك «بتهوفن»؟»

– «لا … أنا لا أقصد ذلك …»

«هذه السيمفونية تبدو غير محتملة أكثر من أي وقت مضى إنها نشاز! ضاغطة. متكلفة. سخيفة. ساذجة. سوقية! إنها فعلًا القشة الأخيرة. هذا الفندق مسكون بالأشباح ولا أريد أن أبقى هنا دقيقة واحدة! من فضلك دعنا نغادره … على أية حال الشمس بدأت تشرق …» وتنهض من السرير!

٤٣

الصباح الباكر. وأنا أفكر في المشهد الأخير من رواية «فيفان دينون». انتهت الليلة الغرامية في الغرفة السرية للقصر، بمجيء الخادمة، كاتمة الأسرار الأمينة التي تقول للعشيقَين إن الفجر قد طلع.

يرتدي الفارس ملابسه بسرعة شديدة ويغادر الغرفة ولكنه يضل طريقه في ممرات القصر، وخشية أن يكتشفه أحد، قرر أن يذهب إلى الحديقة ويتظاهر بأنه كان يتجول هناك مثل أي شخص استيقظ مبكرًا بعد نوم عميق طوال الليل. رأسه يدور، يحاول أن يجد تفسيرًا لمغامرته. هل قطعت «مدام دي ت» علاقتها بالماركيز عشيقها؟ هل تفكر في ذلك؟ أم تراها كانت تحاول أن تعاقبه؟ وماذا سيحدث بعد تلك الليلة المنقضية؟!

ضائعًا في غابة الأسئلة، يجد الماركيز أمامه فجأة، عشيق «مدام دي ت»، كان الرجل قد وصل لتوه وها هو يسرع نحو الفارس ويسأله بشغف: «كيف كان كل شيء؟» من الحوار الذي يلي ذلك سوف يعرف الفارس السبب الذي أوحى بتلك المغامرة: كان لا بد من جذب اهتمام الزوج نحو عاشق وهمي، وكان هذا الدور من نصيب الفارس. ليس دورًا جميلًا في الحقيقة، هو دور غريب، يبتسم الماركيز مذعنًا، ويفضي إليه ببعض الأسرار وكأنها مكافأة على تضحيته: «مدام دي ت» امرأة جديرة بالاحترام، وقبل كل شيء مخلصة جدًّا، فيها عيب واحد فقط … برودها الجنسي!

يعود الرجلان إلى القصر ليشكرا الزوج الذي يبدي تهذيبًا شديدًا مع الماركيز واحتقارًا شديدًا للفارس؛ يقترح أن ينصرف الشاب على وجه السرعة … وفي الحال يقدم له الماركيز اللطيف عربته لتوصيله.

بعد ذلك يذهب الماركيز والفارس ليزورا «مدام دي ت» وفي نهاية الحديث تستطيع أن تهمس للفارس ببضع كلمات رقيقة عند الباب: الآن يجذبك الحب ويعيدك، وتلك التي تحب تستحق ذلك … وداعًا، مرة أخرى أنت فاتن … لا تقلب الكونتيسة عليَّ». كانت تلك هي كلمات «مدام دي ت» الأخيرة لعشيقها، بعد ذلك مباشرة تجيء الكلمات الأخيرة في الرواية:

«صعدت إلى العربة التي كانت تنتظر ورحت أبحث عن مغزًى لكل تلك المغامرة … ولم أجد شيئًا!»

على أن هناك مغزى، وهذا المغزى تجسده «مدام دي ت»؛ كذبت على زوجها، كذبت على عشيقها الماركيز، كذبت على الفارس الشاب. إنها التلميذ الحقيقي لأبيقور عاشق اللذة المحبوب، الكذاب اللطيف، حارس السعادة!

٤٤

القصة في هذه الرواية تجيء على لسان الفارس، وهو ليس لديه أي فكرة عما تفكر به «مدام دي ت»، كما أنه مقتصد جدًّا في الكلام عن مشاعره وأفكاره. كذلك فإن العالَم الداخلي للشخصيتَين يظل خفيًّا أو شبه مجهول. في الصباح الباكر، عندما كان الماركيز يتحدث عن برود عشيقته كان الفارس يضحك في كمه، لأنها كانت قد أثبتت له العكس منذ قليل! ذلك هو الشيء الوحيد المؤكد الذي يعرفه، ولكن هل كان ما فعلته «مدام دي ت» معه شيئًا عاديًّا، روتينيًّا بالنسبة لها؟ أم تراها كانت مغامرة وحيدة وفريدة؟ هل اهتز قلبها أم تراه ما يزال بكرًا؟ هل جعلتها الليلة الغرامية تغار من الكونتيسة؟ هل كانت كلماتها الأخيرة والتي أوصته فيها بالكونتيسة، صادقة؟ هل سيجعلها غياب الفارس في حالة شوق وانتظار … أم أنها لن تكترث؟!

أما هو؛ ففي ذلك الصباح الباكر عندما وبخه الماركيز بطريقة ساخرة؛ فقد رد عليه بذكاء واستطاع أن يحتفظ بالموقف في يده … ولكن كيف كان شعوره حقيقة؟ وكيف سيكون بعد مغادرة القصر؟ ما الذي سيشغل تفكيره؟ اللذة التي مارسها أم سمعته كجرو تافه؟ هل سيكون شعور المنتصر أم شعور المهزوم؟ سعادة أم بؤس؟! وبمعنى آخر: هل من الممكن أن تعيش في لذة ومن أجل اللذة وتكون سعيدًا؟ هل يمكن تحقيق غاية مذهب اللذة؟ هل هناك أمل في ذلك … أو على الأقل ضوء قليل من هذا الأمل؟!

٤٥

مرهَق لدرجة الموت. يتمنى أن يستلقي على السرير ويغرق في النوم، ولكنه لا يريد أن يخاطر فلا يستيقظ في موعده. لا بد أن يغادر في ظرف ساعة، وليس بعد ذلك! جالسًا على الكرسي، ألقى بخوذة الدراجة النارية على رأسه. ويعرف أن ثقلها سوف يطرد النعاس عنه. ولكن جلوس الإنسان بخوذة على رأسه وعدم القدرة على النوم لا معنى له. ينهض ويقرر أن ينصرف. الرحيل الوشيك يجعله يتذكر «بونتيفان» … آه …! «بونتيفان» سوف يختبره …! ترى ماذا يجب أن يقول له؟ لو قال كل ما حدث، فلا بد أن «بونتيفان» سوف يضحك كثيرًا، كذلك كل من يسمع الحكاية؛ لأن من المضحك أن يلعب الراوي دورًا كوميديًّا في قصته … و«بونتيفان» سيد من يفعل ذلك.

مثلًا: عندما يحكي عن تجربته مع الطابعة التي جذبها من شعرها لأنه خلط بينها وبين امرأة أخرى. ولكن لاحظ! «بونتيفان» داهية! الكل يعتقد أن حكايته الساخرة ليست سوى غطاء لشيء حقيقي أكثر غرورًا. المستمعون يحسدونه على صديقته التي تطلب منه أن يعاملها بعنف ويتخيلون — بكل الغيرة — طابعة جميلة، الله أعلم ماذا يفعل معها. بينما إذا حكى «فانسان» عن الجماع الزائف على حافة المسبح؛ فإن الجميع سيصدقونه ويضحكون عليه وعلى خيبته!

يذرع الغرفة جيئة وذهابًا ويحاول أن يسبك قصته قليلًا. يعيد صياغتها يضيف إليها بعض اللمسات، أول شيء عليه أن يفعله هو أن يجعل من الاتصال الجنسي المتخيل الزائف اتصالًا حقيقيًّا. يتخيل أن الناس يأتون إلى المسبح فيذهلهم وضع الاثنين اللذَين يمارسان الجنس أمامهما، البعض يراقبهما، والبعض يقلدهما، وعندما يرى «فانسان» و«جولي» ذلك الجماع الجماعي من حولهما، ينهضان، وبكل إتقان الحرفة المسرحية، يحدقان لثوانٍ قليلة في الثنائيات الصاخبة من حولهما ثم يفترقان، منسحبَين انسحاب القوى الخلاقة بعد أن انتهت من صنع العالَم!

يرحلان، كما جاءا معًا، ولكن في اتجاهَين مختلفَين ولا يلتقيان أبدًا. وبمجرد أن تدور برأسه هذه العبارة المرعبة «ولا يلتقيان أبدًا» يستيقظ ذكَره مرة أخرى! ولكن «فانسان» يريد أن يضرب رأسه في الحائط.

وهنا شيء غريب: عندما كان يخترع منظر الطقس العربيد، تلاشى انتصابه المزعج، وعلى العكس من ذلك فإنه يستحضر «جولي»، الحقيقة الغائبة، ينتصب ثانية بجنون! وهكذا يظل متمسكًا بروايته عن الطقس العربيد، يتخيلها، ويحكيها لنفسه مرات ومرات: يمارسان الجنس، يراقبهما الآخرون فيخلعون ملابسهم، وفي الحال لا يصبح حال المسبح سوى لهاث وجيشان الجماع الجماعي! وأخيرًا بعد استعادة هذا الفيلم الجنسي القصير أكثر من مرة، يشعر بالتحسن، كما يحسِّن ذكره من سلوكه مرة أخرى … يحترم نفسه ويهدأ!

يتخيل مقهى «جاسكون» ورفاقه كلهم يستمعون إليه، «بونتيفان»، «ماشو» وابتسامته البلهاء، «جوجارد» وتعليقاته المثقفة، … وغيرهم.

وفي الختام سيقول لهم: «كنت أمارس الجنس نيابة عنكم، فقضبانكم جميعًا كانت معي في ذلك الطقس العربيد الجبار، كنت وكيلًا عنكم، سفيركم، نائبكم للخياطة، قضيبكم للإيجار … كنت قضيبًا جماعيًّا». يذرع الغرفة ويكرر الجملة الأخيرة عدة مرات بصوت عالٍ. قضيب جماعي! يا له من اكتشاف! ثم (الانتصاب المزعج يتلاشى تمامًا) يلتقط حقيبته وينصرف!

٤٦

ذهبت «فيرا» لتسدد تكاليف إقامتنا في الفندق، وحملت أنا الحقيبة الكبيرة إلى السيارة في الساحة الخارجية. نادمًا لأن السيمفونية التاسعة السوقية قد أطارت النوم من عيني زوجتي وعجلت بمغادرة ذلك المكان الذي كنت سعيدًا به … رحت أنظر حولي في شجن. سلالم الفندق الأمامية. هنا … جاء الزوج بأدب … ورقة … وبرود … ليحيي زوجته، مصحوبًا بالفارس الشاب عندما أقلعت العربة وبدأت الليلة! بعد عشر ساعات تقريبًا، يظهر الفارس وحيدًا، دون صحبة أحد.

عندما أغلق باب «مدام دي ت» خلفه، سمع ضحكة الماركيز، وفي الحال تبعتها ضحكة أخرى … ضحكة امرأة. أبطأت خطواته للحظة: لماذا يضحكان؟ هل يسخران منه؟ إذَن هو لا يريد أن يسمع أي شيء آخر ولذا يتجه نحو باب الخروج دون إبطاء، إلا أنه يسمع الضحك يتردد في صميم روحه … لا يستطيع أن يهرب منه. يتذكر تعليق الماركيز: «أنت لا تعرف إذَن أن دورك مضحك … مسخرة؟» عندما سأله الماركيز السؤال الخبيث في الصباح الباكر، لم تطرف له عين. يعرف أن الماركيز كان قد تحوَّل إلى ديوث، وكان يقول لنفسه ببهجة: إما أن «مدام دي ت» كانت على وشك أن تترك الماركيز؛ ولذلك كان متأكدًا من أنه سوف يراها مرة أخرى، أو أنها كانت تنتقم لنفسها؛ ولذلك كان من المحتمل أن يراها مرة أخرى (لأن الشخص الذي ينتقم لنفسه اليوم، سوف ينتقم غدًا أيضًا) ذلك ما كان يفكر فيه منذ ساعة. ولكن الآن، وبعد كلمات «مدام دي ت» الأخيرة أصبح كل شيء واضحًا: تلك الليلة لن تتكرر! لا غد هناك!

ويغادر القصر مع برودة الصباح وهو يقول لنفسه لم يبقَ هناك أي أثر لتلك الليلة التي عاشها. لا شيء سوى ذلك الضحك؛ سوف تنتشر النادرة وسيصبح أضحوكة! حقيقة معروفة: لا توجد امرأة في العالَم ترغب في رجل أضحوكة! ودون استئذان، وضعوا فوق رأسه قبعة مهرج وهو لا يشعر أنه يلبسها! ولكنه يستمع في صميم روحه إلى صوت التمرد يحثه على رواية قصته، روايتها كما حدثت … بصراحة وللجميع! إلا أنه يعرف أنه لن يكون قادرًا على ذلك. أن تكون ساذجًا … بليدًا أسوأ من أن تكون أضحوكة! لا يستطيع أن يخون «مدام دي ت» … ولن يخونها!

٤٧

من باب جانبي بالقرب من مكتب الاستقبال، يخرج «فانسان» إلى الساحة، ويواصل استعادة حكاية الطقس العربيد بجوار المسبح، لا من أجل تأثيرها الذي لم يحدث أي انتصاب لديه (هو الآن أبعد ما يكون عن أي انتصاب)، وإنما لكي يمحو الذكرى المحزنة ﻟ «جولي» والتي لم يَعُد يحتملها. يعرف أن القصة المختلفة فقط هي التي يمكن أن تنسيه ما حدث. يريد أن يروي تلك القصة الجديدة بصراحة … وبسرعة، ويحولها إلى لحن احتفالي يغنى فيمحو تمامًا ذكرى ذلك الجماع المزيف البائس، والذي جعله يفقد «جولي».

«كنت قضيبًا جماعيًّا» … يكرر العبارة لنفسه، يسمع ضحكة «بونتيفان» التآمرية ترد عليه، يرى ابتسامة الاتهام على وجه «ماشو» الذي سيقول «أنت قضيب جماعي … ولن ندعوَك باسم آخر سوى القضيب الجماعي» … تعجبه الفكرة فيتبسم!

أثناء سيره نحو دراجته النارية المركونة في آخر الساحة، يرى رجلًا يصغره بقليل، يرتدي ثوبًا من طراز قديم جدًّا … قادمًا نحوه. يحدق فيه «فانسان» مذهولًا، لا بد أنه طُرد بعد تلك الليلة المجنونة؛ لا يستطيع أن يجد أي تفسير معقول لهذا الظهور. هل هو ممثل يرتدي بذلة تاريخية؟ هل هو من فريق عمل تلك المرأة التي جاءت من التليفزيون؟ هل كان أحد يصور فيلمًا هنا في الفندق بالأمس؟ ولكن عندما تلتقي عيونهما، يرى في نظرة الرجل دهشة حقيقة لا يقدر عليها أي ممثل!

٤٨

ينظر الفارس الشاب إلى ذلك الشخص الغريب، غطاء الرأس تحديدًا هو الذي يجذب اهتمامه في البداية. قبل قرنين أو ثلاثة، كان الفرسان يذهبون إلى المعارك مرتدين خوذات كتلك. ولكن عدم أناقة الرجل لا تقل غرابة عن الخوذة. بنطال طويل … منتفخ … عديم الشكل … من ذلك النوع الذي لا يرتديه غير فقراء الفلاحين … وربما الرهبان! يشعر بالإرهاق، بالاستنزاف، بالمرض تقريبًا! … قد يكون نائمًا … وربما يحلم … أو يهذي … وأخيرًا ها هو الرجل أمامه وينطق بسؤال يجمد الفارس في دهشته: هل أنت من القرن الثامن عشر؟! السؤال غريب. عبثي. ولكن الطريقة التي يسأل بها الرجل أكثر غرابة وعبثًا، يسأل على طريقة رسول قادم من مملكة غريبة، تعلم الفرنسية في البلاط دون أن يعرف فرنسا. طريقة النطق. نغمة الصوت الغريبة هي التي جعلت الفارس يعتقد أن ذلك الرجل لا بد أن يكون قادمًا من عصر آخر.

يسأله: «نعم! وأنت؟»

– «أنا …؟ أنا من القرن العشرين» ثم يضيف: «نهاية القرن العشرين» … وبعد ذلك …» لقد أمضيت ليلة رائعة» يقول الفارس الذي يصعقه القول: «وأنا أيضًا.»

يتصور «مدام دي ت» وفجأة تنتابه نوبة عرفان. يا إلهي! كيف يشغل باله لهذه الدرجة بضحكة الماركيز؟ وكأن جمال الليلة التي قضاها ليس هو أهم شيء. الجمال الذي ما زال يسكره ويجعله يرى أشباحًا ويخلط الأحلام بالواقع ويشعر بنفسه ملقًى خارج الزمن. ويكرر الرجل الذي يرتدي الخوذة بطريقته الغريبة: «لقد فرغت لتوي من قضاء ليلة رائعة.»

ويهز الفارس رأسه وهو يقول: «أعرف ما تقصده يا صديقي، ومن ذا الذي يفهمك أكثر مني؟» ثم يفكر في الأمر بعد ذلك: لقد وعد بالكتمان لذا لن يستطيع أن يخبر أحدًا بما فعل. ولكن هل يظل الطيش وعدم الكتمان طيشًا وعدم كتمان بعد مائتي عام؟ لديه إحساس بأن إله الفاسقين والخلعاء هو الذي أرسل إليه ذلك الرجل لكي يتحدث إليه؛ لكي يبوح بالسر، ويبقى في نفس الوقت وفيًّا بوعده بالكتمان … لكي يسجل لحظة من حياته في مكان ما من المستقبل، يقذف بها إلى مدار الخلود … يحولها إلى مجد!

– «هل أنت حقًّا من القرن العشرين؟»

– «بالتأكيد أيها الرجل العجوز … هناك أشياء محيرة تحدث في هذا القرن. تحرر أخلاقي. أقول لك: لقد فرغت لتوي من قضاء ليلة رائعة … استثنائية …» ويكرر الرجل الذي يلبس الخوذة «ليلة غريبة … غريبة جدًّا. غير معقولة …» ونظرته كلها إلحاح!

يرى الفارس في تلك النظرة حافزًا قويًّا ليتكلم، شيءٌ ما في ذلك الإلحاح يقلقه، يعرف أن عدم الصبر على الكلام هو في نفس الوقت عدم اهتمام أكيد بالاستماع. مصطدمًا بهذه الرغبة الملحة في الكلام؛ يفقد الفارس، وفي الحال، الرغبة في قول أي شيء! وفي الحال أيضًا لا يرى أي سبب يدعوه لإطالة اللقاء. يشعر بموجة جديدة من الإرهاق، يربت على وجهه بيده، يمسح عليه ويمسك برائحة الحب التي تركتها «مدام دي ت» على أصابعه. تأخذه الرائحة إلى غمار الشوق والحنين ويريد أن يكون وحده في العربة … تحمله إلى باريس ببطء … وكأنه يحلم!

٤٩

الرجل ذو الحلة القديمة يبدو بالنسبة ﻟ «فانسان» صغير جدًّا، وربما كان ذلك سر اهتمامه باعترافات الأكبر منه سنًّا، عندما قال له «فانسان» مرتَين: «لقد انتهيت لتوي من قضاء ليلة رائعة.» ورد عليه الرجل: «وأنا أيضًا.» اعتقد أنه لمح على وجهه علامات حب استطلاع ولكنها اختفت فجأة وبطريقة غير واضحة … وغطى وجهه عدم اكتراث متغطرس!

لم يستمر الجو الودي الذي يبعث على الثقة سوى دقيقة … ثم تبخر! ينظر إلى ملابس الرجل الغريب بضيق. من هذا المهرج؟ هذا الحذاء ذو الإبزيم الفضي، البنطال الضيق عند الساقَين والردفَين، كل تلك الرقع المختلفة من القماش … المخمل واللاسيه التي تغطي وتزين الصدر، يمدُّ إصبعَين ويمسك بالشريط المعقود حول رقبة الرجل ويتفحصه بابتسامة تتصنع الإعجاب … بسخرية!

عدم الكلفة هذا يشعل غضب الرجل، يتقلص وجهه ممتلئًا بالضغينة يرفع يده اليمنى وكأنه ينوي أن يصفع ذلك الوقح! يترك «فانسان» الشريط من يده وينسحب خطوة بعد أن يحدقه بنظرة احتقار، ينصرف الرجل ويسير نحو العربة. الاحتقار الذي بصقه عليه أعاد «فانسان» إلى غليانه وغيظه. فجأة يشعر بالضعف. يعرف أنه لن يخبر أحدًا بحكاية الطقس العربيد لن تكون لديه الشجاعة ليكذب. حزين لدرجة أنه لن يكذب. لديه رغبة واحدة: أن ينسى ليلته على وجه السرعة، تلك الليلة الكارثة … أن يمحوها … يزيلها من خياله، يلغيها، وفي هذه اللحظة يشعر بظمأ للسرعة لا يرتوي! وبخطًى ثابتة، يتقدم مسرعًا نحو دراجته النارية، يرغب في الدراجة! يكتسحه حب دراجته! تلك الدراجة التي سوف ينسى عليها كل شيء … ينسى نفسه!

٥٠

تصعد «فيرا» إلى العربة وتجلس إلى جواري. أقول لها:

– «انظري هناك.»

– «أين؟»

– «هناك … إنه «فانسان» ألا يمكنك التعرف عليه؟»

– «ذلك المتجه صوب الدراجة؟»

– «نعم! أخشى أن يسرع بها … أنا فعلًا خائف منه!»

– «يحب أن يقود بسرعة؟ يفعل ذلك هو أيضًا؟»

– «ليس دائمًا … ولكنه اليوم سيطير مثل المجنون.»

– «هذا الفندق مسكون … وسوف يجلب النحس للجميع … من فضلك أدِر محرك السيارة!»

– «انتظري لحظة …»

أريد أن أواصل تفكيري في الفارس وهو يسير ببطء نحو العربة. أريد أن أستمتع بإيقاع خطواته، كلما أوغل في السير كانت خطواته أبطأ … يُخيل إليَّ أنني أكتشف في هذا البطء دليلًا على السعادة. سائق العربة يحييه، يتوقف، يقرب أصابعه من أنفه، ثم يصعد إلى العربة ويجلس في مقعده … يكمن في ركن منه، يمدد ساقَيه باسترخاء، تبدأ العربة في التحرك … سوف ينعس قليلًا ثم يستيقظ، وطوال الوقت سوف يحاول أن يظل قريبًا من الليلة بقدر الإمكان وهي تذوب في الضوء.

لا غد. لا جمهور. أرجوك يا صديقي، كن سعيدًا! لدي إحساس غامض أن أملنا الوحيد معلق على قدرتك أن تكون سعيدًا.

تختفي العربة في الضباب … وأنا أدير محرك السيارة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤