هوية غريب

١

كثيرةٌ هي أخطاء أمي؛ أولُها أنها تزوَّجَت أبي، وآخرها أنها لم تتخلَّص مني، وأبي خطَّاءٌ أيضًا، البداية بزواجه من أمي والنهاية أنه أنجبني، لقد أخطآ إذ أنجباني بلا هوية ولم يتخلَّصَا من ذاك الجنين الحالم الذي سَئِم عتمةَ الرحم الدافئ، وانبعث منه صوبَ ضوء العالم البارد. خرجتُ من عالم أمتلكه لي وحدي إلى عالم مشتركٍ فانٍ ويأبى حتى أن يمتلَّكني.

إنه يقذفني كلَّ يوم، يحاول التخلص مني، أنا الذي أُشكِّل عبئًا وجوديًّا عليه، فلا أنا موجود ولا أنا غائب، وقد قبلتُ مؤخرًا أن أظلَّ في هذه الهُوَّة بين الوجود والعدم.

يستطيع الإنسان أن ينسلَّ من العقبات الصغيرة، ولكن مهما نأَى يبقى هنا في الهُوَّة التي هامَ فيها في نطاق الكون، أستطيعُ مثلًا أن أترك عائلتي لأعيش وحدي كشكلٍ من أشكال العقاب، أقذفه على أمي وأبي اللذَين أنجباني ولم يُنجبَا هويتي معي … ومن هنا بدأت المشكلة.

لم أجد مأوًى ولا وظيفة فتلك أمور مرهونة ببطاقة هوية، ولكني لم أكترث؛ فالذي لا يمتلك بطاقة الهوية «العظيمة» لا يكترث بسفاسف الأمور، «وماذا يضير الإنسان أن يعيش دون مأوًى؟»

سلكتُ دربًا ما، وقادني لدربٍ ما، ولا أتذكَّر كيف أو متى وجدتُ نفسي فوق سطوح بناية شاهقة، واتخذت من السطوح مأوًى، وهناك التقيتُ بإيناس للمرة الثانية في حياتي.

٢

في لحظة غير عادية أصابَت غريب نوبةٌ مفاجئة وحادة من الجدية، فقرر أن يعثرَ على عمل، ولكن لا أحدَ يعمل دون هوية، وقبل أن يتعافى من نوبة الجدية بهنيهة عثرَ على كومة من كراتين الأحذية الفارغة ملقاةً بجانب القمامة، فأخذ بعضها، واتجه بها صوب وزارة الداخلية.

قام بقلبها ليرتب فوقها عددًا من مغلفات بطاقة الهوية، وراح ينادي أمام المارة بأعلى صوت:

«بيت هوية .. جدِّد هويتك .. جدِّد حياتك.»

وكان الأطفال، «كما يصفهم غريب»، يستلمون بطاقات هوياتهم ويشترون منه المغلفات، كان يضحك كلما أسعد طفلًا بمغلف جديد. وهناك التقى بإيناس للمرة الأولى ولم تنتبه له. اقترب منها مسرعًا ومدَّ مغلَّفًا أمام وجهها، وحتى إنه تجرَّأ وغازلها قائلًا: «جدِّدي حياتك.»

حرَّكَت كفَّ يدها مبعدةً المغلَّف من أمام وجهها وكأنها تُبعد ذبابةً طائشة ولم ترَ غريب، كأنه لا أحد.

٣

أنا لا أحد بالفعل، أجدد حياة الآخرين ببطاقة هوية لا أمتلكها، ومَن لا يمتلك هوية لا وجود له .. تلك حقيقة لم أكتشفها إلا بعد تراكُم التُّهم الصادرة بحقي.

التهمة الأولى ..

لقد أصدرت الدولة قرارًا بمنع الباعة المتجولين وأصحاب البسطات من العمل حرصًا على المنظر العام، ولكني لم ألتزم به ظنًّا مني أن الهوية مكسب وطني عظيم لا يمكن له أن يفسد المنظر العام «أجل .. لقد كنتُ أحمق.»

التهمة الثانية ..

حينما اشتدَّ الصراع بيني وبين موظف الهويات والجوازات، وبعد أن صرخ في وجهي أن لا وجود لي على جهاز حاسوبه، لكمتُه في خصيتَيه، أولًا لأُبرهن له أني موجود، وثانيًا لأحرمه من تناسله في الوجود.

التهمة الثالثة ..

عقدتُ صلحًا مع نفسي، وآمنتُ أني لستُ هنا، وأنني فعلًا لا أحد، فأنزلتُ سحابَ بنطالي وتبوَّلتُ على مغلفات ومخلَّفات الهوية.

وحتى وقت طويل من صدور التُّهم لم تصدُر مذكرة واحدة بإيقافي وربما صدرت ولكن عناصر الأمن لم يجدوني كما حدث في محاولة الانتحار الأولى.

٤

مرةً أخرى لم تنتبه إيناس لغريب، ومرةً أخرى تجده على حافة السطوح محاولًا الانتحار .. مرةً أخرى تمنعه من ذلك.

في كل ليلة كانت تشاهده وهو على حافة الموت كانت تجذبه إليها، وأكثر ما كان يُثير ريبةَ وخوف غريب أنها لا تأتي إلا عندما يهمُّ بالموت، فبعدما آمن غريب أن لا وجود له في هذا العالم، قرَّر أن ينتحر آملًا بأن يجدَ لنفسه وجودًا ما في مكان ما.

ولم يكن بحاجة إلى أيِّ رجاء أو توسُّل من إيناس حتى يتراجع، فقد كان بالفعل مترددًا ليس رغبةً بالحياة، بل خوفًا من المجهول الذاهب إليه؛ فإن عثر لنفسه عن وجود في المكان الآخر، فهل سيجد إيناس هناك؟ هذا سؤال يُؤرِّق غريب في كل محاولة جديدة يخطوها صوبَ الموت، إلى أن فضَّل أن تكون هي ولا يكون، على أن يكون ولا تكون؛ فتشبَّث بالحياة رغم ما فيها من بؤس.

دائمًا ما تستطيع الحياة أن تُفاجئَه بقدرتها المهولة على سُحْقه بكل ما فيها من وجع، وأقسى ما حدث له أن إيناس قد سافرت منذ اليوم الأول الذي شاهدها فيه وتجاهلَته. فبعد أن اقتنع غريب أن الحب نفسه بحاجة لإذن من الهوية حتى يُصبح علاقةً وحقيقة، عزم أمره بالتوجه إلى بيتها والسؤال عنها، تلك الفتاة الجميلة التي تمنعه مرارًا من الانتحار، تلك الآسرة التي تُسمعه كلَّ ليلة أغنيةً وكلماتٍ تُثير فيه التشبُّث بالحياة، إنها تستحق وبلا شك أن يرتبطَ بها، فبارتباطه بها يرتبط بالحياة.

وعندما سأل عنها أخبروه أنها سافرت منذ زمن، لقد ذهبت إلى مكتب الجوازات والهويات استلمت جواز سفرها ورحلت في نفس اليوم.

اقترب غريب من حافة سطوح البناية وهمَّ بالانتحار فلم تحضر إيناس. وهنا اكتشف مفجوعًا أن الخيال أيضًا بحاجة لبطاقة هوية وأن كل ما يتعلق به لا وجود له. حتى خياله قد غاب .. إذن فقد تلاشى غريب تمامًا، وهنا أخذ قرارًا نهائيًّا بإنهاء حياته.

تراجعَ عن الحافة والتقط آلةً حادة تقطعُ الأمل من الضربة الأولى، قطع بها وريدَه، وراح دمه يتناثر فوق السطوح، ترنَّح قليلًا قبل أن يُغمضَ عينَيه وتغيبُ الرؤية تمامًا .. فقط سواد.

٥

كثيرة هي أخطائي أولها وآخرها أنني قبلتُ أن أُبعثَ إلى ضوءِ عالمٍ يرفضني .. كان يجب أن أبقى هناك في الرحم، ذاك هو عالمي أنا، هناك حيث العالم وأنا شيءٌ واحد. كان الأجدر بي أن أبقى هناك وأكبر فتكبر بطنُ أمي معي .. نكبر معًا أنا والعالم الدافئ .. رجوتُ أمي أن تُعيدَني إلى رحمها، فأجابَتني إجابة محددة ومباشرة كما يُجيب البالغون الأطفال؛ إذ قالت إن العودة إلى رحمها أمرٌ مستحيل. أما لو متُّ فقد أذهب إلى عالمٍ شبيهٍ برحم أمي، وإن لم أجد فحتمًا ستنهشني الديدان، وسأكون شيئًا ما في بطن دودة جائعة، ربما تكون بطن الدودة أكثرَ اتساعًا من هذا العالم.

لم أكن أعرف شيئًا عن عالم الموت، ظننت أنني ما إن أنتحر حتى أجد نفسي في «أبدية بيضاء»، وأُسرنم فيها خطوةً خطوة، سأجتاز الاختباراتِ الصعبةَ أول الأمر: «مَن أنت؟ ماذا فعلت؟ وماذا اقترفتَ من ذنوب؟» ثم أشاهد البائسين يمارسون حياتهم خارج عالمي، أما أهلي فيبكون جثتي المسجاة في التابوت ولكنَّ شيئًا من هذا لم يكن.

كل ما في الأمر أنني وما إن أغمضت عينيَّ حتى وجدتُ نفسي في عالم أسود وكل ما فيه عتمة، انتظرتُ شيئًا ما يحدث، ناديتُ على أحدهم، صرختُ، وانتظرتُ طويلًا إلى أن جاءتني الملائكة، سألتهم: «مَن فيكم ملك الموت؟»

أجابوني: «جاء ولم يجدك.»

قلت: «أنتم وجدتموني.»

قالوا: «هو ملك مختص بالموت، ومهمته أن يقبض أرواح الموتى، لقد كلَّفتَه عناء البحث عنك قبل أن يكتشف أن لا بيانات لك في دفاترنا فعاد خائبًا إلى السماء.»

أخبرتهم أني لا أمتلك هويةً ولا وجود لي في دفتر الأحياء أيضًا، فصرخوا في وجهي قبل أن يركلوني خارجًا: «تعلَّم كيف تحيَا ثم شرِّف ومُت».

فتحتُ عيني فوجدت نفسي لم أزَل فوق السطوح وأن شرياني الْتأم من جديد، ولكني لم أيأس من الموت، فارتجلتُ محاولاتٍ أخرى: رميًا بالرصاص، طعنًا، شنقًا وقفزًا عن البناية .. ولكن عبثًا استطعتُ الموت.

يجب أن أموت لفرط ما انتحرت، ولكنَّ منطق جسمي يختلف عن منطق الدولة، فبلا هوية لا يمكن أن أموت، فكيف لغير الموجود أن يفقد وجوده؟ إني بحاجة لهوية إذن حتى أتمكَّن من الموت.

٦

استمع المحقق لرواية غريب بأكملها، كان العرقُ ينضح من مسامات جبينه، وقد صار واضحًا مدى الارتباك الذي يعانيه المحقق. وهو يعرف جيدًا أنه يجب أن يعدم غريب بعدما اعترف بكل تلك التُّهم، ولكن كيف له أن يحوِّله للقضاء دون بيانات وهوية، وإن أراد قتله بنفسه فلن ينجح، فإن مات غريب فسيعترف المحقق ولو في قرارة نفسه أن الهوية لا تُثبت شيئًا ولا تُعلن وجودًا حقيقيًّا لأحد، وإن لم يَمُت فسيشعر بالعجز ويتعرض للازدراء.

كما أنه ألقى القبض على غريب على عاتقه دون مذكرة إيقاف، فيجب أن يصلَ إلى نتيجة؛ لذلك أخذ قرارًا آخر على عاتقه، وذهب به صوبَ مكتب الجوازات والهويات، وأمر بإصدار بطاقة هوية لغريب حتى يتمكن من إعدامه، وما إن استلم غريب هويته حتى سقط دفعةً واحدة على الأرض، وتناثر الدم من وريده إثر قطعه السابق له، وظهر أثرُ رصاصة كان قد أطلقها على صدره، وعلامة حمراء طوَّقت عنقه كما المشنقة التي علَّق نفسه بها آنفًا، ثم تهشَّم رأسُه إثرَ انتحاره من سطوح البناية الشاهقة .. ثم مات ميتةً حقيقيةً ونهائية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤