الفصل الأول

يوتوبيات العصر القديم

يتميز الفكر الفلسفي والسياسي اليوناني بقدر كبير من الثراء والتنوع، يجعله من أهم المصادر التي ألهمت الكتاب اليوتوبيين طوال العصور. فلقد كان لأساطير العصر الذهبي، وتصورات الدول المثالية الخاصة بالماضي الأسطوري أو المستقبل البعيد، والكتابات النظرية عن فن الحكم، كان لكل هذا تأثير عميق على مؤسسي الدول والمجتمعات المثالية من توماس مور حتى ﻫ. ج. ويلز.

وليس من السهل دائمًا تحديد أي الأعمال يمكن اعتبارها يوتوبيات، لأن الفرق بين العروض التي تقدم عن الأحداث الخيالية والأحداث التاريخية يكون في بعض الأحيان شديد الدقة. وأفلاطون نفسه، الذي اتجه إليه الكتاب المتأخرون في معظم الأحوال، قد ترك وراءه أعمالًا تتضمن أشكالًا مختلفة من الفكر اليوتوبي. فكل من طيماوس وكريتياس تصف مجتمعات أسطورية ودولًا أو مجتمعات مثالية، والجمهورية تضع أسس مدينة مثالية للمستقبل، بينما تضع القوانين أسس دولة تليها في الأفضلية. ونجد عند أرسطو إطار دستور مثالي، كما نجد وصفًا للمؤسسات التي تحكم العديد من الدول اليونانية، ويقدم ديودوروس الصقلي Diodorus Siculus١ عرضًا تاريخيًّا لمجتمعات مبكرة وأساطير عن العصر الذهبي، كما يقدم زينون دراسة للحكومات وتخطيطًا عامًّا لجمهورية مثالية. وعند سترابون (من ٦٤ق.م.–٢٠م) وبلوتارك (من ٤٦–١١٩م) وصف شديد الدقة للمجتمع القديم في كريت وأسبرطة.

وأقرب الأعمال التي ذكرناها من تعريف الدول المثالية وأعظمها في الوقت نفسه تأثيرًا في اليوتوبيات اللاحقة المدينة لها، هي «جمهورية» أفلاطون و«حياة ليكورجوس» لبلوتارك؛ وكلاهما يمثل الاتجاهات التسلطية والشيوعية في الفكر اليوناني، ولكن تأثيرهما في المفكرين المتأخرين قد خفَّفت منه في الغالب أفكار أرسطو الإصلاحية و«البرجوازية الصغيرة»، أو مُثُل زينون المتحررة والعالمية. ولو كان هدفنا هو تتبع تأثير بلاد الإغريق في الفكر اليوتوبي، بدلًا من الاكتفاء بتقديم المخططات العامة للمجتمعات المثالية، لوجب علينا تناول أعمالهما هنا بالدراسة. وربما يبدو من التعسف اختيار جمهورية أفلاطون وترك محاورات أخرى مثل طيماوس وكريتياس والقوانين، ولكن إنتاج أفلاطون، كما لاحظ ألكسندر جراي، يعادل في ضخامته إنتاج شكسبير، ولا مفر من أن تتطلب الحدود التي يفرضها علينا المسح المختصر لتاريخ اليوتوبيا شيئًا من التعسف.

(١) أفلاطون: «الجمهورية»

كانت الفترة التي كتب فيها أفلاطون «الجمهورية» فترة تدهور في التاريخ اليوناني. فقد انتهت الحرب البلوبونيزية (٤٣١–٤٠٤ق.م. وهي الحرب الأهلية بين أثينا وأسبرطة في المورة.) بالهزيمة الساحقة لأثينا، وضعفت المدن المستقلة التي شاركت فيها بتأثير الصراع الطويل والمنازعات الداخلية. وقد أدى بها التفكك إلى أن تصبح عرضة للغزو الأجنبي، وسمح لدولة أسبرطة العسكرية والتسلطية أن تنتصر عليها. وقد كان أفلاطون في الثالثة والعشرين من عمره عندما وضعت الحرب أوزارها، تاركة أثينا في حالة من الإنهاك السياسي والاقتصادي. ولهذا كان من الطبيعي أن تهتم كتاباته اهتمامًا شديدًا بالقضايا السياسية والاجتماعية، وأن يحاول استخلاص بعض الدروس المستفادة من هزيمة أثينا وانتصار أسبرطة.

ومن المعروف أن عقل المهزوم غالبًا يكون مفتونًا بقوة الغزاة الفاتحين، فعندما شرع أفلاطون في بناء مدينته المثالية اتجه إلى أسبرطة واتخذها نموذجًا له. وهو بالطبع لم يقلِّد هذا النموذج تقليد العبيد، ولكن جمهوريته أشبه بالتنظيم التسلطي لأسبرطة منها بالتنظيمات الحرة التي تمتعت بها المدن اليونانية الأخرى في غضون القرون السابقة. وقد وضع أفلاطون في مقابل روح الاستقلال والنزعة الفردية المتطرفة التي تميزت بها الحياة اليونانية، وضع تصوره عن دولة قوية متجانسة وقائمة على مبادئ تسلطية.

وكان السوفسطائيون، الذين وجه لهم أفلاطون هجومه المتواصل والمرير، قد بحثوا عن حل لمواجهة تفكك الحياة اليونانية بطريقة مخالفة لطريقة أفلاطون. وكان العلاج الذي اقترحوه هو المزيد من الحرية لا التقليل منها. فقد رجعوا إلى الإيمان التقليدي بعصر ذهبي عاش فيه البشر في حالة من الحرية التامة والمساواة، وقدموا نظريتهم التي تقول بأن البشر فقدوا تلك الحرية والسعادة، التي هي «حقهم الطبيعي» مع ميلاد التنظيمات السياسية. وقد وصف رودلف روكر Rudolf Rocker في كتابه «النزعة القومية والحضارة» هذا المفهوم الاجتماعي بقوله:
كان أعضاء المدرسة السوفسطائية بوجه خاص، هم الذين اعتادوا في نقدهم للشرور الاجتماعية أن يشيروا لحالة طبيعية ماضية، لم يكن الإنسان فيها قد عرف عواقب الظلم الاجتماعي بعد. وهكذا أعلن هيبياس الإليسي٢ أن «القانون قد أصبح طاغية يتحكم في الإنسان، ويحرضه بشكل مستمر على إتيان أفعال غير طبيعية.» وعلى أساس هذا المذهب دعا ألكيداماس وليكوفرون (شاعر وعالم سكندري عاش في منتصف القرن الثالث ق.م.) وغيرهما لإلغاء الامتيازات الاجتماعية، وأدانوا نظام الرق بصفة خاصة باعتبار أنه منافٍ لطبيعة الإنسان، وأنه نشأ عن تشريعات البشر الذين جعلوا من الظلم فضيلة. ومن أعظم مآثر المدرسة السوفسطائية المفترى عليها أن أعضاءها تخطوا كل الحدود القومية بشكل واعٍ مع المجتمع الكبير للجنس البشري. لقد شعروا بقصور المثل الأعلى الوطني وضيق أفقه الروحي، وعرفوا مع أرستيبوس٣ أن «كل الأمكنة متساوية في البعد عن هاديس».

هذه الأفكار تبناها بعد ذلك الكلبيون الذين نظروا إلى تنظيمات الدولة باعتبارها مضادة للنظام الطبيعي للأشياء، واستهجنوا الفروق الطبقية والقومية، كما أخذتها المدرسة الرواقية، التي أسسها زينون الكيتيوني، فرفضت الخضوع للإلزام الخارجي، وتبعت «القانون الداخلي الذي يتجلى في الطبيعة». أما مجتمع زينون المثالي فقد حرص على التخلص من الدول أو التنظيمات السياسية، ولم يُبقِ إلا على الحرية والمساواة الكاملة بين جميع البشر، مع إلغاء الزواج، والمعابد، والمحاكم، والمدارس والنقود. ومع ذلك فلم يخلط زينون بين الحرية والترخص أو عدم المسئولية. لقد اعتقد أن الغريزة الاجتماعية للبشر تمد جذورها في الحياة الجماعية المشتركة، وتجد التعبير عنها في الإحساس بالعدل، وأن الإنسان يجمع بين الحاجة إلى الحرية الشخصية والإحساس بالمسئولية عن أفعاله.

كان أفلاطون يمثل رد الفعل المضاد للاتجاهات الرئيسية للفكر الفلسفي في عصره، إذ آمن بضرورة الإلزام الأخلاقي والخارجي، وبعدم المساواة والسلطة، وبالقوانين الصارمة والتنظيمات الثابتة، وتفوُّق الإغريق على «البرابرة». وعلى الرغم من أن تأثيره في الفكر الحديث كان أعظم بكثير من تأثير الفلاسفة الآخرين، فإن هناك فترات نادى فيها بعض المفكرين، مثل الرواقيين، ﺑ «الحق الطبيعي» للبشر في الحرية والمساواة الكاملتين.

ومع أن أفلاطون، مثل السوفسطائيين والرواقيين، كان مقتنعًا بأن تنظيماته متوافقة مع قانون الطبيعة، فإنه رأى أن الطبيعة قد أوجدت بعض البشر ليكونوا حكَّامًا وبعضهم الآخر ليكونوا محكومين. يقول في الجمهورية:

إن الحقيقة التي أقرتها الطبيعة هي أن المريض، سواء أكان غنيًّا أم فقيرًا، ينبغي عليه أن ينتظر على باب الطبيب، وأن كل إنسان يحتاج إلى أن يكون محكومًا، يجب عليه أن ينتظر على باب القادر على الحكم.

وبعد أن استنكر أفلاطون أن يتولى كل إنسان حكم نفسه، وأقر ضرورة وجود طبقة حاكمة، كان من المنطقي أن يتجه لإقامة حكومة قوية، لا تقتصر قوتها على السلطة التي يمكن أن تمارسها على عامة الشعب، بل تتمثل فضلًا عن ذلك في تفوقها الأخلاقي والعقلي ووحدتها الداخلية. ولا يجوز اختيار الحكَّام أو الحرَّاس في جمهوريته المثالية على أساس نسبهم أو ثروتهم، ولكن على أساس الخصال التي تؤهلهم للقيام بمهمتهم؛ فلا بد أن ينحدروا من سلالة طيبة، وأن يتمتعوا بصحة جيدة، وأن يكون لهم عقل راجح ويتلقوا تربية حسنة. وها هو ذا سقراط يشرح لجلوكون الصفات الأساسية التي ينبغي أن تتوافر للحراس:

– وهكذا ترى أنه كلما ازدادت أهمية حرفة الحراس تطلبت زمنًا وفنًّا وعناية أعظم.

– بلا شك.

– ولكن ألا يلزم لهذا الفن أيضًا صفات طبيعية فطرية في المحارب؟

– يقينًا.

– وإذن فعلينا، إن استطعنا أن نختار أولئك الذين تؤهلهم طبيعتهم وقدرتهم الفطرية ليكونوا حرَّاسًا للدولة.

– هذا واجب علينا دون شك.

– الحق أن المهمة لن تكون هيِّنة، ومع ذلك فلنستجمع شجاعتنا، ولنبذل كل ما في طاقتنا.

– هذا ضروري.

– حسنًا. أترى، فيما يتعلق بالحراسة، فروقًا بين طبيعة كل أصيل، وبين فتًى عريق الولد؟

– ماذا تعني؟

– أعني أن كليهما لا بد أن تتوافر له قوة ملاحظة الأعداء، وسرعة الانقضاض عليهم، والقدرة على العراك إذا ما هوجم.

– لا شك أنه بحاجة إلى كل هذه الصفات.

– وهو بحاجة إلى الشجاعة أيضًا ليجيد القتال.

– بلا شك.

– ولكن، أيستطيع فرس أو كلب أو أي حيوان أن يكون شجاعًا ما لم يكن غضوبًا متحمِّسًا؟ ألم تلاحظ أن الحماسة لا تُغلَب ولا تُقهَر، وأنها إذا تملَّكت نفسًا فلن تخشى شيئًا أو تلين لشيء؟

– لقد لاحظت ذلك بالفعل.

– وهكذا ترى بوضوح الصفات المطلوبة في الحارس.

– أجل.

– وتدرك كذلك أن الصفة النفسية هي الحماسة الفياضة.

– نعم.

– ولكن من كانت لهم هذه الصفات، ألن يكونوا عدوانيين في سلوكهم، بعضهم نحو بعض، ونحو كل مخلوق آخر؟

– الحق أنه ليس من السهل عليهم أن يتغلبوا على هذا الشعور.

– ومع ذلك، فمن المحتَّم عليهم أن يُظهِروا الوداعة مع مواطنيهم، والشراسة مع أعدائهم، وإلا ألقوا بأنفسهم إلى التهلكة، دون أن ينتظروا حتى يهلكهم الآخرون.

– هذا حق.

– ولكن ما العمل؟ وأين لنا أن نجد طبيعة تجمع اللين والشدة؟ إن الوداعة والشراسة لتتنافران وتتناقضان.

– أجل، هذا واضح.

– ومع ذلك، فلو افتقر الحارس إلى إحداهما، لما عاد صالحًا لعمله. على أن الجمع بينهما يبدو محالًا، وهكذا يبدو أن من المستحيل أن نهتدي إلى حارس صالح.

– أخشى أن يكون الأمر كذلك.

– ماذا تعني؟

– أعني أنه توجد بحق طبائع تجمع بين هذه الصفات المتناقضة، التي بدا الجمع بينها مستحيلًا.

– وكيف يكون ذلك؟

– إن ذلك ليتبدى في حيوانات متعددة، وبخاصة في ذلك الذي كنَّا نقارنه بحرَّاسنا. فأنت تعلم ولا شك أن طبيعة الكلاب الأصلية هي أن تكون على أعظم قدر من الوداعة بالنسبة إلى من ألفتهم ومن عرفتهم، وأن تكون على عكس ذلك بالنسبة إلى مَن لا تعرفهم؟

– أجل، أعلم ذلك.

– إذن فحل المشكلة ممكن، ولن نكون مخالفين للطبيعة إذا سعينا إلى الاهتداء إلى حارس تتوافر له هذه الصفات.

– ذلك لا يبدو مستحيلًا.

– ولكن ألا يبدو أن من أردناه حارسًا ما زال يفتقر إلى صفة معينة حتى يبلغ الكمال في حراسته، وهي أن يجمع إلى الحماسة الفياضة صفات الفيلسوف؟

– إنني لا أفهم ما تعنيه.

– إن الصفة التي أتحدث عنها يمكن الاهتداء إليها لدى الكلب أيضًا، وهي صفة تستحق التقدير فيه.

– أي صفة تعني؟

– أعني أن الكلب يثور كلما رأى غريبًا، وإن لم ينله منه أي أذًى، على حين أنه يرحب بمن يعرفه، حتى لو لم يتلقَّ منه خيرًا. ألم تلاحظ ذلك من قبل؟

– الحق أنني لم أوجِّه انتباهي إلى هذا الأمر مطلقًا، ولكن من المؤكد أن الكلب يسلك كما تقول. ولا جدال في أن هذه صفة طيبة، بل هي صفة الفيلسوف بحق.

– كيف ذلك؟

– ذلك لأنه لا يميز صديقه من عدوه إلا على أساس المعرفة أو عدم المعرفة وحدهما. وأظنك ترى معي أن حيوانًا يميز ما يحبه مما يكرهه بمقياس المعرفة والجهل، لا بد أن يكون من محبي المعرفة والعلم.

– لا يمكن أن يكون الأمر على خلاف ذلك.

– حسنًا، ولا شك أن محبة المعرفة ومحبة الحكمة، أي الفلسفة، شيء واحد؟

– إنهما حقًّا شيء واحد.

– فلنسلم إذن، ونحن على ثقة من صحة ما نقول، بأن وداعة المرء مع أصدقائه ومعارفه تقتضي أن يكون بطبيعته فيلسوفًا محبًّا للحكمة.

– أجل، يمكننا أن نؤكد ذلك ونحن مطمئنون.

– وإذن، فمن أردناه أن يكون حارسًا صالحًا لدولتنا، لا بد أن يجمع بين الفلسفة والحماسة، والاندفاع والقوة.٤

إن مسئولية اختيار هؤلاء الحرَّاس ستقع على عدد قليل من الرجال الذين يتميزون بأنهم فلاسفة حقيقيون، ويعرفون الأشخاص المناسبين للطبقة الحاكمة. ولا يشرح أفلاطون بوضوح كيف تنشأ حكومة الفلاسفة هذه، وإنما يكتفي بالقول بأن من الواجب في جمهوريته أن يصبح الفلاسفة ملوكًا، وأن يصبح الملوك فلاسفة. وبعد أن يتولى الفلاسفة زمام الحكم تكون مهمتهم الأولى هي اختيار هؤلاء الذين سيصبحون حرَّاسًا.

وتشرح هذه الفقرة كيف سيتم ذلك:

– وعلى ذلك لا بد أن ننتقي، من بين حرَّاسنا، أشدهم إخلاصًا لهذا المبدأ الأساسي، وهو أن يرعى المرء في كل ما يفعل مصلحة الدولة وحدها. وعلينا أن نختبرهم منذ طفولتهم، بأن نعهد إليهم بالأعمال التي تعرضهم لنسيان هذا المبدأ أو تؤدي بهم إلى الخطأ، ثم ننتقي منهم من يظل يتمسك به، ومن يصعب إغراؤه، بينما نستبعد من لم يكن كذلك. أَوَليس هذا ما ينبغي عمله؟

– بلى.

– كذلك ينبغي أن نعرضهم لأعمال مرهقة ومعارك شاقة، ونلاحظ مدى وجود نفس الصفات فيهم.

– الحق معك في هذا.

– وينبغي أن يمروا بعد ذلك بتجربة ثالثة، هي أن نغريهم بالسلطة والنفوذ، ونلاحظهم وهم يتسابقون فيما بينهم. وكما يقود المرء الحصان القوي وسط الجلبة والضوضاء ليُرَى إن كان جبانًا، فكذلك ينبغي أن نلقي بمحاربينا في صغرهم وسط أشياء مخيفة ثم نغمرهم بالملذات، ونعجم عودهم خلال ذلك باختبار أقسى من ذلك الذي يختبر فيه المرءُ الذهبَ بالنار، لنعلم إن كانوا يقاومون المغريات ويظلوا على استقامتهم في كل الظروف، وإن كانوا حرَّاسًا صالحين لأنفسهم وللموسيقى التي تعلموا دروسها، وإن كانوا يحتفظون في كل سلوك لهم بما في الموسيقى من إيقاع وتوافق. مثل هؤلاء الحراس هم أنفع الناس لأنفسهم ولوطنهم. فإذا ما وجدنا منهم شخصًا اجتاز، دون أن تشوبه شائبة، كل ما وضعناه له من اختبارات متتابعة في طفولته وشبابه ورجولته، فلننصبه حارسًا يرعى شئون الدولة، ولنكلله بألقاب الشرف طوال حياته وبعد مماته، ونخلِّد ذكراه بأفخم القبور والنصب التذكارية. أما مَن لم يكن منهم كذلك، فسوف نستبعده حتمًا. تلك يا جلوكون، في صورة عامة ودون الدخول في التفاصيل، هي الوسيلة التي أرى من الواجب اتباعها من أجل اختيار الحكَّام والحراس.

– يبدو لي أيضًا أن هذه خير وسيلة تُتَّبع.

– ولكن إن شئنا أن نتكلم بدقة، فالأصح أن نطلق اسم الحرَّاس على أولئك الذين يأخذون على عاتقهم أن يفعلوا ما من شأنه ألا يكون لأعداء الدولة في الخارج المقدرة على إلحاق الضرر بها، ولا لأتباعها في الداخل الرغبة في ذلك، وأن نطلق اسم المساعدين أو منفذي قرارات الحكَّام على الشبان الذين كنَّا من قبل نسميهم حرَّاسًا.٥

وما إن يتم اختيار الحرَّاس حتى تُخوَّل لهم السلطة التي ستكون أوجب للاحترام كلما آمن الناس بأنها مُقدَّرة من قبل. ومن خلال أسطورة أو «كذبة ضرورية» أو «أكذوبة نبيلة»، كما يسميها أفلاطون، يتحتم إقناع الحكَّام بأنهم ينتمون لطبقة أسمى، وأنهم وُلِدوا ليكونوا حكَّامًا، والأهم في ذلك أن يدرب باقي المواطنين على الاعتقاد بأنهم وُلِدوا ليكونوا محكومين، وأن هذه الفروق الطبقية جزء من نظام إلهي. وبشيء من الخجل الذي يرجع لخوفه من عدم تصديق أكذوبته النبيلة بسهولة، نجد سقراط يعرض أسطورته البارعة على جلوكون:

– سأقول لهم، مواصلًا هذه الأسطورة، إن من الصحيح أنكم جميعًا، يا أهل هذا البلد، إخوة، غير أن الله الذي فطركم قد مزج تركيب أولئك الذين يستطيعون الحكم منكم بالذهب. لهذا كان هؤلاء أنفَسَكم. ثم مزج تركيب الحرَّاس بالفضة، وتركيب الفلاحين والصناع بالحديد والنُّحاس. ولما كنتم جميعًا قد نبتُّم من بذرة واحدة، فإن أبناءكم، على الرغم من أنهم يشبهون آباءهم عادة، قد يأتون أحيانًا من الفضة لأبوين من ذهب، أو من الذهب لأبوين من الفضة، وكذلك الحال في المعادن الأخرى. لهذا عهد الله إلى الحكَّام أولًا وقبل كل شيء برعاية الأطفال، وبالعناية الكبرى بالمعدِن الذي يدخل في تركيب نفوسهم. فإن دخل في تركيب أبنائهم عنصر من النُّحاس أو الحديد، فينبغي ألا تأخذهم بهم رحمة، وأن يعاملوا طبيعتهم بما تستحقه، ويدخلوهم في زمرة الصناع أو العمال، أما إذا أنجب هؤلاء الأخيرون أبناءً يمتزج بهم الذهب أو الفضة، فعليهم أن يقدروهم حق قدرهم، ويرفعوهم إلى مرتبة الحرَّاس أو المحاربين، إذ إن هناك نبوءة تقول إن الدولة تفنى لو حرسها الحديد والنُّحاس. والآن فهل تعرف وسيلة لبث الإيمان بهذه الأسطورة في النفوس؟

– لست أعرف أي وسيلة تصلح للجيل الحالي، غير أن في وسع المرء أن يدفع أبناءه إلى تصديقها، ومن بعدهم ذريتهم ورجال المستقبل.٦

وبعد أن يتم اختيار الحرَّاس وتخويلهم السلطة، تبقى مهمة تنظيم حياتهم لضمان أعظم قدر من الوحدة، ويتحقق هذا بأن يُطلَب منهم أن يشارك بعضهم بعضًا في الخيرات والبيوت ووجبات الطعام. أضف إلى هذا أن الحرَّاس لن يعرفوا أي نوع من الجشع أو الشهوة التي يمكن أن تزرع الخلاف بينهم وتصرفهم عن أداء مهمتهم:

– إن من الواجب أولًا ألا يكون لأي منهم شيء يمتلكه هو وحده، إلا عند الضرورة القصوى، وبعد ذلك ينبغي ألا يكون لواحد منهم منزل أو مسكن لا يدخله غيره. أما الغذاء الضروري لتكوين رياضيين محاربين أقوياء شجعان، فسوف يمدهم منه مواطنوهم، لقاء خدماتهم، بالكميات التي تكفيهم عامًا واحدًا بالضبط، لا يزيد ولا ينقص. وعليهم أن يتناولوا وجباتهم معًا ويعيشوا جماعة كالجنود في ساحة القتال. وأما الذهب والفضة، فسنؤكد لهم أن لديهم في نفوسهم على الدوام ذهبًا وفضة وهبهما لهم الله، وأنهم ليسوا بحاجة إلى ذهب الناس وفضتهم، وأن من العار أن يُفسِدوا ما يمتلكون من الذهب الإلهي بإضافة الذهب الأرضي إليه، إذ إن ذلك الذهب الذي يتنافس عليه العامة كان مبعثًا لشرور لا حصر لها، على حين أن الذهب الذي يكمن في نفوسهم من معدِن نقي، وأنهم هم وحدهم، دون بقية المواطنين، الذين ينبغي عليهم ألا يجمعوا مالًا أو يمسُّوا ذهبًا، أو أن يُئْويهم هم والذهب سقف واحد، أو أن يلبسوا حليًّا تزدان بها أجسامهم، أو أن يشربوا في أكواب من الفضة أو الذهب. ففي هذه الحياة وحدها يكون خلاص نفوسهم وخلاص الأمة. ذلك بأنهم لو تملَّكوا كالآخرين حقولًا وبيوتًا وأموالًا، لتحوَّلوا من حراس إلى تجار وزُرَّاع، ومن حماة للمدينة إلى طغاة وأعداء لها، ولقضوا حياتهم مبغِضين ومبغَضين، خادعين ومخدوعين.٧

وسوف تُحكَم المدينة على أفضل وجه عندما يتفق العدد «الأكبر من الناس على إطلاق كلمات «ملكي» أو «ليس ملكي» على نفس الشيء. ويجب أن تكون هناك مشاركة في اللذة والألم، لأن «الفردية في هذه المشاعر قوة عاملة على التفكك». ومن الواجب أن تكون هذه الوحدة قوية بين الحراس بصفة خاصة، ولهذا السبب يلزم أن تكون هناك مشاعية في الزوجات والأطفال، حتى يعتقد المواطن أن كل شخص يقابله هو أخ له أو أخت، أو أب أو أم، أو ابن أو ابنة، أو حفيد أو جد. هذا القانون سيجعلهم حرَّاسًا حقيقيين، ويحول دون تمزق المدينة، الذي يمكن أن يحدث إذا أطلق كل فرد كلمة «ملكي» على أشياء مختلفة وليس على نفس الشيء، وإذا أخذ الجميع ما يستطيعون أخذه لأنفسهم، وجروه معهم عائدين إلى بيوتهم الخاصة المختلفة، وإذا اتخذ أي فرد لنفسه زوجة وأطفالًا، وغرس بذلك في المدينة المباهج الفردية وأحزان الأفراد …»

وتتم الزيجات، أو بمعنى أدق المعاشرات الجنسية، طبقًا لمبادئ صارمة لتحسين النسل، وهنا نجد أفلاطون يرجع مرة أخرى إلى استخدام «الأكاذيب الضرورية».

– فإن كنت مشرِّعًا، فعليك أن تختار للرجال الذين انتقيتهم أقرب النساء إلى طبيعتهم، ثم تجمع بين هؤلاء وأولئك، فيكون للجنسين معًا نفس المسكن ونفس الطعام، ما دام من المحظور على أحد أن يملك شيئًا لنفسه. ويعيشون معًا، ويختلطون معًا في الرياضة البدنية وفي بقية التدريبات، ويشعرون برابطة قوية تجمع بينهم بالطبيعة. أليس من الضروري أن يحدث هذا؟

– ربما لم تكن هذه ضرورة هندسية، ولكنها ضرورة قامت على الحب، وهي بالنسبة إلى البشر أقوى وأقدر على الجمع بينهم من الضرورة الأولى.

– هذا صحيح، ولكن ترك الاجتماع بين الأزواج، أو أي عمل آخر مشترك بينهم، يتم اتفاقًا دون نظام، هو أمر لا تقره الشرائع، ولا يسمح به الحكَّام في أي مجتمع يحيا مواطنوه حياة فاضلة.

– الحق أن هذا لن يكون أمرًا مستحبًّا.

– فمن الواضح إذن أننا نود أن تكون الزيجات أقدس ما يمكن أن تكون، وهذه القداسة تتوافر في الزيجات التي تجلب أفضل النتائج.

– هذا رأيي تمامًا.

– فكيف نحصل على أفضل النتائج؟ ذلك ما لا يتعين عليك إجابته يا جلوكون؛ إذ إنني أرى في بيتك عديدًا من كلاب الصيد والطيور الأصيلة، ولا بد أنك لاحظت شيئًا في مسألة التزاوج والتناسل بينها.

– وما هو؟

– ألا يوجد، بين هذه الحيوانات ذاتها، ما هو خير من الباقين، وإن تكن كلها أصيلة؟

– بالطبع.

– فهل تسمح بأن يتناسل الجميع دون تمييز، أم أنك تحرص على أن يتناسل أصلحها فحسب؟

– الأصلح.

– وأيها تفضل لهذا الغرض: الأصغر، أم الأكبر، أم الناضجين؟

– أفضل الناضجين.

– وإن لم توجِّه مثل هذه العناية إلى تناسل طيورك وكلابك، فإن نوعها سيتدهور كثيرًا، أليس كذلك؟

– بلى.

– وهل الأمر على خلاف ذلك في حالة الخيل وغيرها من الحيوانات؟

– محال أن يتغير.

– يا إلهي، إننا سنحتاج إلى مهارة فائقة في حكَّامنا، إن كان هذا يصدق على جنس البشر أيضًا.

– إنه لكذلك قطعًا، ولكن لمَ كان تعيُّن أن تتوافر فيهم هذه المهارة؟

– ذلك لأنه سيكون عليهم أن يستخدموا كميات كبيرة من ذلك الدواء الذي تحدثنا عنه من قبل، إذ يبدو أن طبيبًا واحدًا، حتى لو لم يكن ماهرًا قطُّ، يكفي لمعالجة أناس لا يحتاجون إلى أدوية، وإنما يودون أن يتبعوا نظامًا دقيقًا في المآكل فقط، أما إذا كان استخدام الأدوية ضروريًّا، فسيقتضي ذلك طبيبًا ماهرًا.

– هذا صحيح، ولكن ما الذي ترمي إليه من كل ذلك؟

– يبدو لي أن الحكام سيضطرون إلى أن يلجئوا كثيرًا إلى الكذب والخداع من أجل نفع تابعيهم، ولقد قلنا من قبل إن هذا النوع من الكذب نافع بوصفه دواءً.

– إن لنا كل الحق في أن نقول ذلك.

– وهكذا يبدو أن هذا المبدأ السليم سيلعب في الزواج وفي إنجاب الأطفال دورًا ليس بالهين.

– وكيف ذلك؟

– من الضروري، تبعًا للمبادئ التي أقررناها، أن يتزاوج هذا النوع الرفيع من الجنسين على أوسع نطاق ممكن، وأن يتزاوج النوع الأدنى على أضيق نطاق ممكن. ولا بد من تربية أطفال الأولين، لا الآخرين، إن كنَّا نود أن نحتفظ للقطيع بأصالته. ومن الناحية الأخرى، فعلى الحكَّام أن يدركوا وحدهم سر هذا الإجراء، كما يتجنبون على قدر استطاعتهم كل خلاف داخل قطيع الحرَّاس.

– هذا عين الصواب.

– وعلى ذلك، فسنقيم احتفالات نجمع فيها بين الشبان والشابات، ونقدم فيها القرابين، ونعهد إلى شعرائنا بتأليف أناشيد تلائم حفلات الزواج. أما عدد هذه الاجتماعات السنوية، فسنترك تحديده للحكَّام حتى يستطيعوا أن يحتفظوا بعدد السكان ثابتًا بقدر الإمكان، مع حساب ما يمكن أن تستتبعه الحروب والأمراض وغيرها من الحوادث من خسائر. فعليهم أن يحرصوا بقدر الإمكان، على ألا تغدو دولتنا كبيرة أو صغيرة أكثر مما ينبغي.

– هذا حسن.

– يبدو لي أن عليهم اختراع نوع من القرعة المدبرة، والتي يظن معها الأعضاء الأقل شأنًا أن السبب في نتيجة الاقتراع هو سوء حظهم لا تدبير الحكَّام.

– تمامًا.

– وفضلًا عن ذلك فإن الشبان الذين يبلون بلاءً حسنًا في الحروب وغيرها من المهام، يمنحون مكافآت وامتيازات، منها زيادة عدد مرات معاشرتهم للنساء، إذ إن تلك في الوقت ذاته ذريعة معقولة للحصول منهم على أكبر عدد ممكن من الأطفال.

– هذا صحيح.

– أما الأطفال، فعندما يُولَدون، يعهد بهم إلى هيئة تتولى شئونهم، تتكون إما من رجال أو من نساء، وإما من الجنسين معًا، ما دامت المهام العامة مشتركة بين الرجال والنساء.

– حسنًا.

– ومن الواجب أن يُعنى هؤلاء الموظفون بأبناء صفوة المواطنين، ويعهدوا بهم إلى مربيات يقطنَّ وحدهن مكانًا خاصًّا من المدينة، أما أطفال المواطنين الأقل مرتبة، وأولئك الذين يُولَدون وفي أجسامهم عيب أو تشويه، فعليهم أن يُخبِّئُوهم في مكان خفي بعيد عن الأعين.

– أجل، إذا أردنا المحافظة على نسل الحرَّاس.

– وعليهم أن يُعنوا بتغذية الأطفال، وينقلوا الأمهات إلى دُور الحضانة عندما تمتلئ أثداؤهن باللبن، مع اتخاذ كل التدابير الكفيلة بألا تتعرف الأمهات على أطفالهن. فإن لم يكن في وسع الأمهات أن يرضعن، فلا بد من إيجاد مرضعات. ومن الواجب تحديد الوقت الذي تقوم فيه الأمهات بالرضاعة، بحيث لا يقمن بالسهر على الأطفال، لأن هذه وغيرها من الأعمال من شأن المربيات والخدم.

– إن هذه التدابير من شأنها أن تجعل الأمومة أمرًا هيِّنًا بالنسبة إلى نساء الحرَّاس.

– هكذا ينبغي أن تكون، ولكن لنواصل بحث موضوعنا. لقد قلنا إن إنجاب الأطفال يجب أن يتم بواسطة أناس ناضجين.

– هذا صحيح.

– ألا تظن معي أن المدة المعتادة لهذا النضج هي عشرون عامًا للمرأة وثلاثون للرجل؟

– أي الأعوام تعني؟

– أعني أن للمرأة أن تنجب للدولة أطفالًا منذ سن العشرين حتى الأربعين، أما الرجل، فبعد أن يجتاز أشد فترات العمر حماسة للسباق، يظل ينجب للدولة أطفالًا حتى الخامسة والخمسين.

– الحق أن هذه هي الفترة التي تبلغ فيها القوى الجسمية والذهنية، عند الجنسين، أقصى مداها.

– فإذا حاول رجل أن ينجب أطفالًا للدولة قبل هذه السن أو بعدها، فسنتهمه بأنه آثم في حق الدين والعدل؛ إذ إنه، لو أفلح في إخفاء ميلاد أطفاله، فمعنى ذلك أنه يأتي للدولة بأطفال لم يقترن مولدهم ببركات القرابين والصلوات التي يقوم بها الكهنة والكاهنات وكل هيئة دينية في الدولة لكل زواج، مبتهلين أن تنجب الصفوة المختارة من الناس أبناءً خيرًا منهم، وأن ينجب النافعون للدولة أطفالًا أنفع لها منهم. أما هذا الذي يفعله أولئك، ففيه مخالفة وإباحية شنيعة.

– هذا حسن.

– وينطبق نفس الحكم على الرجل الذي بلغ سن النضج، حين يحاول أن ينجب من امرأة بلغت نفس السن دون أن يكون الحاكم قد جمع بينهما؛ إذ إن الطفل الذي يهبانه للدولة في مثل هذه الظروف، دون أن يكون القانون أو الدين قد باركهما، لا يكون بالنسبة إلينا إلا لقيطًا.

– هذا عين الصواب.

– فإذا تجاوز الرجل أو المرأة سن الإنجاب للدولة، فأرى أن نترك للرجال حرية الاختلاط بمن يشاءُون من النساء، فيما عدا بناته، وبنات بناته، أو أمه أو جدته، ونترك للنساء نفس الحرية، مع استثناء الأبناء والآباء والأحفاد والأجداد. ولكنا إذ نترك لهم تلك الحرية، ينبغي أن ننبههم إلى أن يحرصوا كل الحرص على ألا ينجبوا للدولة أي طفل، فإذا لم تفلح احتياطاتهم، فليضعوا في أذهانهم أن يتخلصوا منه، لأن الدولة لن تستطيع أن تربي طفلًا كهذا.

– تلك تدابير حكيمة. ولكن على أي نحو يميزون آباءهم وبناتهم وغيرهم من الأقارب الذين ذكرتهم؟

– لن يستطيعوا تمييزهم قط. وإنما ينبغي أن ينظر الرجل، منذ الوقت الذي يبدأ فيه زواجه، إلى كل الأطفال الذين يُولَدون في الشهر السابع أو العاشر، الذكور منهم على أنهم أبناؤه، والإناث على أنهن بناته، وعلى هؤلاء الأطفال أن يدعوه بالأب، وعليه أن يعد أبناء هؤلاء أحفادًا له، كما يعدونه هم جدًّا لهم، وامرأته جدة لهم. كذلك ينبغي أن ينظروا إلى الأطفال الذين يُولَدون في الفترة التي ينجب فيها آباؤهم وأمهاتهم على أنهم أشقاء وشقيقات لهم، وبهذا يمتنعون فيما بينهم، كما ذكرت، عن كل اختلاط جنسي. ومع ذلك فإن القانون يسمح بزواج الأخ من الأخت، إذا شاء الاقتراع ذلك، وإذا ما أيَّدته نبوءة دلفي.

- هذا عين الصواب.

– على هذا النحو، أو ما يشابهه، سيكون شيوع النساء والأطفال بين الحراس في الدولة.٨

وتتمكن زوجات الحرَّاس، بعد تحررهن من مهمة تربية الأطفال ورعاية أسرهن، من مشاركة أزواجهن في تحمل أعباء حكم المدينة. ويوجه سقراط إلى جلوكون هذا السؤال:

– هل توافق إذن على أن تشترك النساء مع الرجال في كل شيء، كما قلنا من قبل، أعني في شئون التربية والأطفال وحراسة بقية المواطنين، وأن على النساء، سواء ظللن في المدينة أم ذهبن إلى الحرب، أن يُسهِمن في حراسة الدولة، ويشتركن مع الرجال، كما تفعل إناث الكلاب حين تشارك ذكورها في الصيد والحراسة، وأن يتقاسمن معهم كل شيء؟ أتوافق على أن يفعلن كل هذا بقدر ما في وسعهن، وألا يُتَجاوز النظام الذي وضعته الطبيعة بين الرجل والمرأة، وذلك في الأمور التي خُلقت للجنسين القدرة على التعاون فيها؟

– أوافق على ذلك.٩

ولا ينبغي أن يسمح للعلاقات بين الرجال والنساء أن تخلَّ بحياة المجتمع. والواقع أن أفلاطون لا يعترف إلا بالحب بين أشخاص من نفس الجنس، ولكنه يشترط حتى في هذه الحالة أن يخلو الحب من العواطف المشبوبة:

«إن الحب الصادق هو أن تحب بروح معتدلة ومتناغمة كل ما هو متسق وجميل.» ويقول سقراط لجلوكون: «وفي المدينة التي نقوم بتأسيسها، سوف نضع قانونًا يمكن بمقتضاه أن يقبل المحب حبيبه، وأن يصاحبه ويعانقه كما لو كان ابنه، وذلك — إذا كان مقتنعًا به — حبًّا في الجمال، ولكن علاقاته بالشخص الذي يتعلق به ستتوخى في جميع الأمور الأخرى ألا تثير شبهة تجاوز هذه الحدود. وإذا تصرف بصورة مخالفة، فسوف يجر على نفسه الاتهام بالذوق السيئ والسوقية.»

وهكذا تقوم الحكومة في دولة أفلاطون المثالية على عاتق طبقة من ذوي المواهب العالية من الرجال والنساء الذين تخلَّوا عن الملكية والامتيازات المادية، وأقبلوا على الزواج والإنجاب بما يتفق مع مصلحة الدولة، واحتقروا العواطف والمشاعر الأنانية. ولكن هناك بين الحرَّاس أنفسهم من هم أصلح للحكم من غيرهم. فالذين تغلب عليهم الطبيعة الفلسفية سيصبحون حكَّامًا، بينما يصبح الأقل منهم ذكاءً والأكثر ميلًا للرياضة العنيفة مساعدين أو جنودًا، ويشكلون جيشًا نظاميًّا محترفًا:

– وهكذا يتعيَّن علينا، يا صديقي، أن نوسع نطاق الدولة إلى حد بعيد، بإضافة جيش كامل يخرج لملاقاة الأعداء ويذود عن ممتلكات الدولة ضد كل معتدٍ، ويستولي على ما يمتلكه الأعداء.

– ولمَ ذلك؟ ألا يستطيع المواطنون أن يتولوا ذلك بأنفسهم؟

– كلا، وذلك إذا ما كان المبدأ الذي اتفقنا عليه حين أسسنا الدولة صحيحًا. فلعلك تذكر أننا اتفقنا على أنه من المحال على فرد واحد أن يجيد عدة حِرَف في آن واحد.

- هذا صحيح.

– ولكن أليست الحرب فنًّا وحرفة؟

– بلى.

– وهي فن يتطلب من الانتباه ما تتطلبه حرفة الحذَّاء على الأقل؟

– بلا شك.

– غير أننا لم نسمح للحذَّاء بأن يكون زارعًا أو نسَّاجًا أو بنَّاءً، وإنما جعلناه يقتصر على صنع الأحذية كيما يتقن صنعته. كذلك جعلنا لكل صانع آخر حرفة واحدة، وهي التي أتقنها ومارسها طوال حياته، فاستبعدنا عنه كل حرفة أخرى، بحيث إنه لم يعد يدخر وسعًا للوصول في حرفته إلى حد الكمال. فإن كان الأمر كذلك، ألا ترى أن من أعظم الأمور أهمية أن تمارس الحرب كما ينبغي؟ وهل تظن أن من السهل ممارسة هذه المهنة، بحيث يستطيع الزارع أو الحذَّاء أو أي صانع آخر أن يكون محاربًا في نفس الوقت، على حين أن المرء لا يجيد لعبة النرد إلا إذا تدرب عليها منذ طفولته، ولم يقتصر على اللعب في أوقات فراغه؟ وهل يكفي أن يتناول المرء رمحًا أو أي سلاح آخر، كيما يصبح في الحال جنديًّا مدرَّبًا في أي فرع من فروع الجيش، بينما نحن نعلم عن يقين أننا مهما تناولنا من أدوات في أي فن آخر، فلن نصبح صُنَّاعًا أو رياضيين؛ إذ إن الأداة لن تجدي شيئًا لمن لم يكتسب معرفة بكل فن ولم يتلقَّ التدريب الضروري فيه.١٠

وهناك فقرة في بداية «الجمهورية» تشير، على ما يبدو، إلى إيمان أفلاطون بأن المدينة المثالية بحق ستستغني عن وجود جيش؛ لأن الناس سيحيون حياة بسيطة، ولن يفكروا في التوسع في أرضهم لإشباع حاجاتهم، ولأن حب الرفاهية هو الذي يخلق الحروب. ولقد بيَّن سقراط أن المدن تنشأ بسبب عجز الإنسان بحكم طبيعته عن الاكتفاء بنفسه، واضطراره للتعاون مع غيره من الناس، الذين لهم نفس الحاجات مع تفاوت قدراتهم، على تلبية هذه الحاجات. وهؤلاء الناس سيعيشون حياة يتمتعون فيها بالرفاهية والسلام:

– فلنتأمل أولًا على أي نحو سيعيش أولئك الناس، بعد أن نظَّمنا حياتهم على هذا النحو. ألن ينتجوا قمحًا ونبيذًا، ويصنعوا ملابس وأحذية، ويبنوا بيوتًا؟ ألن يشتغلوا في الصيف وهم أنصاف عراة، دون أحذية، ويلبسوا في الشتاء ما يكفيهم من الملابس والأحذية؟ إنهم سيصنعون، من أجل طعامهم، دقيقًا وشعيرًا يخبزونهما ويصنعون منهما شطائر وأرغفة، يجلسون لأكلها إلى جانب قطعة من جذع شجرة أو أغصان مورقة نظيفة، ويضطجعون على أسِرَّة مما يقطعونه من أخشاب، فُرشت بالقش أو أعواد الريحان. وهم يولمون مع أطفالهم الولائم، فيحتسون النبيذ وقد اكتست رءوسهم من الأزهار تيجانًا، ويُسبِّحون في أغانيهم بحمد الآلهة. وهكذا يحيون معًا حياة هنيئة، مع حرصهم على أن يتحكموا في عدد أطفالهم حسب مواردهم، خشية إملاق أو خوفًا من الحرب.

وهنا اعترض جلوكون قائلًا: ولكنك قد أطعمت هؤلاء الناس خبزًا جافًّا فحسب.

– هذا صحيح، لقد نسيت الأطباق الحافلة، ولكن لا شك في أنه سيكون لديهم الملح والزيتون والجبن، وسيطبخون الجذور والخضر كما يفعل ملَّاحونا اليوم. أما الفاكهة فسيكون لهم منها التين والكمثرى والبندق، كما يقومون بصنع النبيذ ويشربون منه باعتدال. وبمثل هذا الغذاء تمضي حياتهم في سلام، وتصح أبدانهم ويصلون إلى الشيخوخة، فيورثون هذه الحياة لأبنائهم.

– إنك لو كنت تنظم مدينة من الخنازير، لما جعلتهم يعيشون على نحو يخالف ذلك.

– فماذا تود إذن أن تمنحهم إياه؟

– متع الحياة المألوفة. فلزام علينا، إن شئنا أن نجعلهم في رغد من العيش، أن نُجلسهم على أرائك، ونُطعمهم على مناضد، ونُقدم إليهم من الطعام والحلوى ما نعرفه اليوم.

– حسنًا جدًّا، لقد فهمت الآن. فموضوع بحثنا ليس إذن مسألة قيام الدولة، وإنما قيام الدولة المترفة. وربما لم يكن في هذا البحث ضرر؛ إذ إن تأمل دولة كهذه يجعل من الأسهل علينا إدراك نشأة العدل والظلم. على أني أعتقد أن التركيب الذي رسمته للدولة هو التركيب الصحيح السليم. أما إذا شئت أن ترى دولة بلغت قمة الترف، فليس لديَّ اعتراض؛ إذ إنني أعتقد أن هناك مَن لا يرضون عن هذه الحياة البسيطة، وإنما يودون إضافة الأرائك والمناضد وغيرها من الأثاث، والحلوى والعطور والبخور والشطائر، وكل الأنواع الممكنة من هذه الكماليات. فهم لا يرون أن الضروريات تنحصر فيما أوضحته من مساكن وملابس وأحذية، وإنما يضيفون إليها اللوحات المرسومة وكل أنواع الزخارف، واقتناء الحلي والعاج وكل غالٍ نفيسٍ، أليس كذلك؟

– أجل.

– إذن، فلنوسع دولتنا، ما دامت الصورة الأولى الصحيحة لم تعد كافية. ففي هذه الحالة تحتشد المدينة وتمتلئ بعدد وافر من الناس، لا يدعو إلى وجودهم فيها سوى الحاجات السطحية، ومن أمثالهم مختلف أنواع القناصة والصيادين، والمقلدون الذين يختص بعضهم بالأشكال والألوان، وبعضهم بالموسيقى، وهم الشعراء ومن يصاحبهم من المغنين، ومن الممثلين والراقصين ومنظمي المسارح، وصُنَّاع مختلف الأدوات، وخاصة أدوات الزينة للنساء. وسنضطر إلى زيادة عدد الخدم، ولا إخالك تظن أننا لن نكون بحاجة إلى معلمين ومرضعات ومربيات، ووصيفات وحلَّاقين وطبَّاخين ورعاة للحيوان، وهم الذين لم نكن بحاجة إليهم في دولتنا السابقة، وإنما أصبحوا الآن لازمين لتربية مختلف أنواع الحيوانات لمن شاء أكلها. أليس كذلك؟

– بلا جدال.

– ولكن الحياة على هذا النحو تجعل وجود الأطباء ألزم كثيرًا من ذي قبل؟

– أجل، ألزم بكثير.

– ثم تصبح الأرض التي كانت تكفي لإطعام ساكنيها، أضيق وأقل من أن تكيفهم. ألا ترى ذلك؟

– هذا صحيح.

– وعندئذٍ، ألن نضطر إلى أن نتعدَّى على أرض جيراننا، إن شئنا أن يكون لنا من الأرض ما يكفي للزرع والرعي؟ كذلك، ألن يضطر جيراننا بدورهم إلى التعدي على أرضنا، ما داموا قد استسلموا، بعد عبورهم حدود الضرورة، لشهوة التملك الجامحة؟

– هذا أمر لا مفر منه يا سقراط.

– وإذن فسوف نشن الحرب.١١

ومن الغريب أن سقراط، على الرغم من أنه يبدو رافضًا «لفرض الرقابة على مدينة تعاني من دستور مريض»، لا يحاول إقناع المستمعين لحديثه بأن يتخلَّوا عن رغبتهم في حياة أكثر راحة، وإنما يقبل النتائج المترتبة على هذه الرغبة، وهي الحرب والاحتياج إلى جيش دائم.

ويتناول أفلاطون بالتفصيل تربية الحرَّاس، بل التربية بصفة عامة، وتعد الجمهورية، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، رسالة عن التربية بجانب غيرها من الموضوعات. وتتوزَّع أقسام التربية، كما هو العرف السائد عند الإغريق، بين التربية البدنية، التي تتضمن التدريب العسكري، والموسيقى. أما عن الموسيقى، فيلاحظ لويس ديكنسون Lowes Dickinson أنه «يجب علينا أن نتذكر أن معنى الكلمة اليونانية كان أوسع بكثير من المعنى الذي نفهمه منها اليوم، إذ كان يضم جميع أنواع التثقيف الخلقي والجمالي والعقلي.» ومع ذلك فإن تربية حاكم المستقبل يجب ألا تنحصر في التربية البدنية والموسيقية، ويجب أن يدرب عقله على التفكير والارتفاع فوق الحواس عن طريق دراسة العلوم الرياضية، حتى يكون قادرًا على تكريس نفسه لدراسة الفلسفة الحقة، التي يسميها الدياليكتيك (الجدل):

– إذن فمن الواجب تدريس الحساب والهندسة وكل العلوم التي تمهد لتعلم الدياليكتيك في سن الطفولة. ويجب أن نضفي على تلك الدروس صورة لا تنطوي على أي نوع من الإرغام.

– لماذا؟

– لأن تعليم الحر ينبغي ألا يتضمن شيئًا من العبودية. فالتدريبات البدنية التي تؤدَّى قهرًا لا تؤذي البدن في شيء، أما العلوم التي تقحم في النفس قسرًا فإنها لا تظل عالقة في الذهن.

– هذا صحيح.

فاستطردت قائلًا: وإذن فليس لك، أيها الصديق الكريم، أن تستخدم القوة مع الأطفال، وإنما عليك أن تجعل التعليم يبدو لهوًا بالنسبة إليهم. وبهذه الطريقة يمكنك أن تكشف بسهولة ميولهم الطبيعية.

– هذه خطة حكيمة حقًّا.

– ألا تذكر، ضمن ما قلناه من قبل، أن علينا أن نجعل أطفالنا يشاهدون الحروب وهم على ظهور الخيل، حتى إذا ما زال خطرها اقتربنا بهم من ميدان المعركة لنذيقهم طعم الدم كما نفعل مع صغار الكلاب؟

– إنني لأذكر ذلك.

– وإذن فسنفعل الشيء عينه في كل هذه الدراسات والتدريبات والمخاطر، بحيث نختار من يبدي فيها مزيدًا من التفوق، لنضعه في قائمة منتقاة.

– في أي سن؟

– في السن التي يترك فيها الأطفال مرحلة تدريبهم البدني الإجباري، إذ إنه خلال هذا الوقت، الذي يدوم ما بين سنتين وثلاث سنوات، يكون من المستحيل عليهم أن يفعلوا شيئًا آخر، لأن الإرهاق والنعاس عدُوَّان للدرس. كذلك فإن هذه المرحلة البدنية تنطوي على اختيار عظيم الأهمية، ندرك منه مدى قدرة كل منهم على تحمل أعمال البدن.

– بالتأكيد.

– وبعد ذلك، نختار من الشباب من بلغوا سن العشرين، ونضفي عليهم مزيدًا من التكريم. وهكذا نلقنهم تلك العلوم التي عرفوها منفصلة في طفولتهم، في صورة متجمعة مترابطة، حتى يدركوا العلاقات التي تربطها بعضها ببعض، وتربطها بالوجود الحقيقي في الوقت نفسه.

– لا شك في أن هذا هو النوع الوحيد من المعرفة الذي يرسخ في الأذهان بحق.

– وهو أيضًا خير معيار تميز به المواهب القادرة على دراسة الدياليكتيك؛ إذ إن الذهن القادر على النظر إلى الأمور نظرة شاملة، هو الأصلح للدياليكتيك.

– إنني لأوافقك على ذلك.

– وإذن فسوف تلاحظ هذه الصفات عن كثب، وتختار أولئك الذين يملكونها أكثر من غيرهم، والذين يثبتون أعظم قدرة على استيعاب العلوم، وأكبر قدرة على رباطة الجأش في الحروب وغيرها من الواجبات المفروضة عليهم. وعندما يبلغون سن الثلاثين، سنضفي عليهم مزيدًا من التكريم، ونختبرهم عن طريق الدياليكتيك، باحثين بذلك عن أولئك الذين يمكنهم الارتقاء إلى الوجود الخالص سعيًا وراء الحقيقة، دون معونة العين أو أي حاسة أخرى. وهذه، أيها الصديق، هي المرحلة التي يتعيَّن علينا فيها أن نحتاط إلى أبعد حد.١٢

– فإذا ما كرس المرء نفسه تمامًا لهذه الدراسة، وثابر عليها وحدها دون انقطاع، مثلما ثابر من قبل على تدريب جسمه، فهل يكفيه أن يخصص لها ضعف عدد السنين التي خصصها للتدريب البدني؟

– أتعني ست سنوات أم أربعًا؟

– لنجعلها خمسًا كي لا نختلف، وبعد ذلك سنعيدهم إلى الكهف الذي تحدثنا عنه، ونرغمهم على تولي المهام العسكرية وكل الوظائف التي يصلح لها الشبان، حتى لا يكونوا أقل خبرة من الباقين. وخلال عملهم في هذه المهام يمكنك أن تتحقق، مرة أخرى، مما إذا كانوا سيصمدون لكل المغريات التي تتجاذبهم من جميع الجهات، أم أنهم سينقادون لها.

– وكم من الزمن تُخصِّص لهذه المرحلة؟

– خمسة عشر عامًا. وعندما يبلغون سن الخمسين، علينا أن نأخذ منهم أولئك الذين صمدوا لكل التجارب، والذين تميزوا عن كل مَن عداهم في الشئون العملية وفي المعرفة، فنسير بهم نحو الهدف النهائي. وعلى هؤلاء أن يرفعوا عين النفس ليتأملوا ذلك الذي يضفي النور على كل شيء. فإذا ما عاينوا الخير في ذاته، فإنهم سيتخذونه نموذجًا ينظمون تبعًا له المدينة والأفراد، وكذلك أنفسهم أيضًا. وخلال ما تبقى لهم من العمر، يكرسون للفلسفة أكبر قدر من وقتهم، ولكن إذا ما جاء دورهم، فإنهم يتولون زمام السياسة، ويتناوبون الحكم من أجل المصلحة العامة وحدها، ويرون في الحكم ذاته واجبًا لا مفر منه، أكثر من كونه شرفًا. وبعد أن ينشِئُوا في كل جيل مواطنين آخرين على شاكلتهم، ليحلُّوا محلهم في رعاية الدولة، ينتقلون إلى سكنى جزر السعداء. أما الدولة فإنها تقيم لهم النصب التذكارية وتقدم من أجلهم القرابين، وتعدهم آلهة مباركين، إذا سمحت النبوءة «البيثية» بذلك، وإلا عدتهم نفوسًا بشرية فيها نفخة من الروح الإلهية على الأقل.

– إن الصورة التي قدمتها لحكَّامنا لرائعة بحق، وإنها لصورة يعجز عن صوغها أبرع مثال.

– وهي تنطبق أيضًا على حاكماتنا يا جلوكون؛ فلا تظن أن ما قلته يسري على الرجال دون النساء، بل إنه لينطبق عليهما معًا، ما دام هؤلاء يتمتعن بالمواهب اللازمة.١٣

لقد أوشك اهتمامنا حتى الآن أن ينصب على اختيار الحرَّاس وتربيتهم والمنظمات التي تدبر شئونهم، لكي يؤهلوا للقيام بواجبهم في حكم المدينة والدفاع عنها. ولكننا لم نذكر شيئًا عن الأمور التي تتعلق بالإنتاج والتوزيع، ولا عن الفلاحين، والصنَّاع والتجار الذين لا تستغني عنهم الحياة في المدينة. والواقع أن أفلاطون لم يهتم بهم إلا قليلًا، لأنه تصور أنه إذا وجدت الحكومة الصالحة، فإن سائر ما في الدولة يمكنه أن يُعنَى بنفسه. ولهذا فإن الجمهورية تعتبر وصفًا للطبقة الحاكمة المثالية، أكثر مما هي وصف للدولة المثالية؛ لأنها تتكلم قليلًا عن المنتجين الذين يبدو أنهم تُرِكوا لتنظيماتهم القديمة. وبهذا تقع مهمة التشريع للأمور المتعلقة «بالعامة» على عاتق الفلاسفة:

– ولكن خبِّرني، أيجدر بنا أن ننظم قوانين شئون الأسواق، كالمعاملات بين البائعين والمشترين، والعقود التجارية، والأمور المتعلقة بالاعتداء بالسباب أو القذف، وإجراءات رفع الدعوى في المحاكم، وتكوين القضاة، وجباية الضرائب ودفعها في الأسواق والموانئ، وبقية الشئون المتعلقة بإدارة الأسواق وتنظيم الطرق ومرور السفن وما شاكلها؟

– كلا، لست أرى ما يدعونا إلى أن نضع للأمناء من الناس قواعد يسلكون تبعًا لها في هذه الأمور؛ إذ إن في وسع هؤلاء، أن يهتدوا من تلقاء أنفسهم إلى معظمها.١٤

ويفتش المرء عبثًا في «الجمهورية» عما يدل على كيفية تدبير طبقة المنتجين لشئون حياتهم، غير أن هناك لمحات قليلة تشير إلى أن الملكية الخاصة لم تلغَ، وأن الزواج والحياة العائلية قد سُمح بهما على الطريقة القديمة. ويبدو أن أرسطو كان على حق في نقده لأفلاطون، لأنه لم يحدد وضع الهيكل الرئيسي للدولة الذي لا يتكوَّن من الحرَّاس فحسب، بل من مجموع المواطنين الآخرين. إن هؤلاء المواطنين سوف يفضلون في رأي أفلاطون أن يتركوا كل شئون الدولة في أيدي الحرَّاس، وأن يزودوهم بالضروريات الأساسية للحياة في مقابل العمل الإداري الذي يتولونه نيابة عنهم.

وربما يكون أفلاطون، من وجهة نظر ماركسية، قد وقع في تناقض شديد لأنه لم يعطِ حرَّاسه أي سلطة اقتصادية. فهم صفر الأيدي من الملكية، ولا يسمح لهم بلمس الذهب والفضة، وإذا تلقوا أجورهم على شكل سلع أو منتجات طبيعية، فمن الواضح أنها ستكون أجورًا متدنية، لأن الانغماس في الترف محظور عليهم. أما المنتجون فيملكون السلطة الاقتصادية الكاملة، على الرغم من حرمانهم من أي سلطة سياسية. «والنتيجة الضرورية المترتبة على هذا» كما يقول أرسطو «هي أن تكون هناك دولتان في دولة واحدة، وأن تتبادل الدولتان الكراهية والعداوة.» وقد توسع ألكسندر جراي Alexander Gray في هذه الفكرة، فلاحظ أن «عصرًا غُرست فيه أهمية السلطة الاقتصادية، وما زالت تُغرس، لن يجد صعوبة كبيرة في تحديد أي الدولتين المتبادلتين للعداوة سيخرج من السباق بأكبر فائدة.»

وإذا كان قيام أفلاطون بالفصل بين السلطة الاقتصادية والسلطة السياسية يبدو للوهلة الأولى أمرًا غير واقعي، فمن الخطأ الاعتقاد بأن الحرَّاس واقعون تمامًا تحت رحمة بقية المواطنين، الذين سيكونون في وضع يسمح لهم بأن يعرضوا الحرَّاس للجوع لو أرادوا ذلك. وإذا لم تكن للحرَّاس سلطة اقتصادية، فإنهم يملكون السلطة العسكرية؛ لأنهم المواطنون الوحيدون المدربون على خوض الحروب. وليس من الصعب التكهن بأن المزارعين إذا رفضوا إمدادهم بالطعام فسوف يسرع المساعدون بإجبارهم على ذلك. وهناك فقرات عديدة تبين أن أفلاطون لم يتخيَّل أن شئون جمهوريته المثالية ستسير دائمًا بسهولة ويسر، وأن المساعدين لن يكون من واجبهم الدفاع عن الدولة ضد العدوان الخارجي فحسب، بل سيكون عليهم أيضًا أن يدافعوا عنها ضد المتمردين عليها من الداخل.

وعندما يبحث المرء، على سبيل المثال، عن أصلح مكان في المدينة لإقامة معسكراتهم، فإنهم لا يكتفون باختيار الموقع الذي يمكِّنهم من الرد على الهجمات الخارجية، وإنما يختارون الموقع الذي «يمكِّنهم كذلك من التصدي لأي خروج على القانون داخل المدينة».

وعلينا أن نتذكر أيضًا أن الحرَّاس يتمتعون، في نظر الشعب، بنوع من السلطة الدينية المقدسة؛ فهم مخلوقون من ذهب، ومفضلون على سائر الناس. والذي يثبت أن مثل هذه الأسطورة يمكن تصديقها، هو الاعتقاد الذي ساده لعدة قرون بأن الملوك هم ممثلو الإله على الأرض. وقد أدرك أفلاطون بوضوح أنه يمكن قيام الدولة إذا وُضِعت الطبقات المنتجة تحت سيطرة طبقة تدين بقوتها للهيمنة العسكرية والدينية. ولو استعرضنا التاريخ كله لرأينا أن وجود الدولة يتضمن تقسيم المجتمع إلى طبقات، ولكن قوة الطبقة الحاكمة لا ترجع بالضرورة إلى ثروتها الاقتصادية، وإنما ترجع إلى وجود أيديولوجيا تكسو هذه الطبقة برداء سلطة أعلى تدعمها القوة المسلحة.

لقد وُصِف أفلاطون بأنه «يعتبر من بعض النواحي أعظم الثوريين، كما يعد من نواحٍ أخرى أكبر الرجعيين». ولعل الأدق من ذلك أن نقول إنه أكبر ممثل للنزعة الشمولية. فعلى الرغم من أن دولته المثالية يحكمها الفلاسفة، فليس فيها من الحرية أكثر مما لو خضعت لحكَّام الأقاليم. والواقع أن الحرية فيها أقل؛ لأن الفلاسفة أقدر من هؤلاء على سحق الحرية، وذلك بحكم أنهم أقدر على الكشف عن أي فكرة معارضة لأفكارهم. وهم على استعداد للسماح للمواطنين بقدر ضئيل من الحرية في أمور قليلة الشأن مثل التجارة، أما في شئون الفن والتربية، أي في كل ما يتعلق بالحرية العقلية، فهم قساة لا يعرفون الرحمة على الإطلاق. كما أنهم لا يسمحون بأي تجديد أو ابتكار في مجال التعليم لاعتقادهم بأن ذلك يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة:

– إذن فعلى حرَّاس الدولة أن يحذروا من أن يفسد أي شخص كما يشاء له هواه، لأن من واجبهم أن يكونوا في يقظة دائمة، لئلا يأتي أحد ببدع مضادة للنظام المتبع في تربية الجسم والنفس. فإذا ما قال الشاعر: «إن الناس يميلون خاصة إلى إحداث ما ينشده المغنون من أغنيات.» فليحرصوا كل الحرص على ألا يتوهم أحد أن الشاعر يقصد طريقة جديدة في الغناء، لا أغنيات جديدة، أو أنه يحض الناس على اتباع هذه البدعة. فليس لنا أن نطري قول الشاعر هذا، ولا أن نفسره على هذا النحو؛ إذ إن ابتداع طريقة جديدة في الموسيقى شيء يجب أن نحذره، ففي ذلك إفساد تام للمجتمع، إذا كان صحيحًا ما يقول به دامون Damon، وما أومن به بدوري، من أن المرء لا يستطيع تغيير طرق الموسيقى دون أن يقلب معها الموازين الأساسية للدولة رأسًا على عقب.

– ينبغي أن تدرجني أنا أيضًا ضمن أنصار هذا الرأي.

– ففي ميدان الموسيقى هذا إذن يتعين على الحرَّاس أن يكونوا يقظين في حراستهم.

– من المؤكد أن خرق قوانين الدولة يتم في هذا الميدان بسهولة بحيث لا يشعر به أحد.

– أجل، إنه ليتم باسم اللهو، دون أن يبدو على المرء أنه يرتكب شيئًا ضارًّا.

– تمامًا، فهذه هي الطريقة التي يحدث بها، إنه ليثبت أقدامه رويدًا رويدًا، ويتغلغل خلسة في عادات الناس وطباعهم، حتى إذا ما تمكن من نفوسهم، انتقل إلى المعاملات التي تسير عليها الحكومة بكل جرأة، بحيث لا يترك في النهاية شيئًا إلا وقوَّض أركانه، سواء في الحياة الخاصة أو في الحياة العامة.١٥

من الضروري في جمهورية أفلاطون أن تتماشى الموسيقى والأدب والعمارة والتصوير مع معايير أخلاقية معينة. ويتوقف الفن عند كونه تعبيرًا عن الشخصية الفردية؛ لأن عليه أن يخدم مصالح الدولة وحسب. والدولة هي التي تحدد ما هو خير وما هو شر، وما هو جميل أو قبيح. ولهذا يجب أن تُمنَع الآلات الموسيقية والإيقاعات التي «تعبر عن الانحطاط والغرور، أو عن الجنون أو غيره من الشرور»، كما يجب أن يُجبَر الشعراء على أن «يطبعوا على قصائدهم صورة الخير وحده أو يمنعوا من قرض الشعر»، وإذا لم يستجيبوا لهذا فيجب أن يطلب منهم مغادرة المدينة. ولا بد أن يعبر التصوير والنسيج وأشغال الإبرة والعمارة والحرف الفنية الأخرى عن الإيقاع الجيد والانسجام، وإن كان من الواضح أن أفلاطون يعني بهما الإيقاع والانسجام اللذين تقرهما الدولة.

وقد أدرك أفلاطون إدراكًا واضحًا العلاقة بين الفن والأخلاق أو، كما نقول الآن، بين الفن والسياسة. وعلى الرغم من زعمه أنه يدافع عن الحقيقة والجمال، فمن الواضح أنه يريد المحافظة على استقرار الدولة من التأثير الضار للفن الحر. ولهذا فإن عمارة المنازل، شأنها شأن القصيدة، يمكن أن تكشف عن اتجاهات معينة يصفها بأنها خيرة أو شريرة، ومؤيدة للدولة أو ثائرة عليها. لقد تعودنا، منذ أن نشأت الدول الشمولية الحديثة، على وجهة النظر التي تعتبر أن الفنانين يمكن أن يكونوا أعداءً خطرين على الدولة، ولا يرجع ذلك فحسب للأفكار التي يعبرون عنها، وإنما يرجع إلى الشكل الذي يمكن أن يتخذه فنهم. وفي السنوات الأخيرة دُمِّرت أو صُودرت أعمال فنية؛ لأنها اعتُبرت من مظاهر الانحلال البرجوازي، كما تمت «تصفية» كُتَّاب وشعراء وموسيقيين بحجة أنهم مناهضون للثورة أو برجوازيون صغار. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يبدأ وصف جمهورية أفلاطون وينتهي بالهجوم على حرية الفنان، وهو في الحقيقة هجوم على حرية الفكر؛ لأنه لم توجد في عصر أفلاطون كتب أو دور نشر، ولم يكن من الممكن أن تظهر أفكار الناس إلا من خلال التعليم الذي كانوا يقومون به أو من خلال إنتاجهم الأدبي والفني. إن المهمة الأولى التي تحرص عليها أي حكومة شمولية هي قمع تلك الحرية، ومحاولة جعل الفنان أداة في يد الدولة، الأمر الذي يؤدِّي حتمًا إلى ركود الفن وتدهوره في ظل النظم الشمولية. والفن لا يمكنه أن يصل إلى أسمى تعبير عنه إلا عندما يُسمَح له ‎‎بأقصى قدر من الحرية، وهو ما يمكن أن يدل عليه ثراء الإنتاج الفني وتنوعه عند الإغريق. ولو كانت بلاد اليونان القديمة جمهورية شمولية كما تخيَّلها أفلاطون، بدلًا من أن تكون اتحادًا فيدراليًّا بين مدن حرة، لما استطاع رجال مثل هوميروس وسوفوكليس وأرسطوفان، وحتى أفلاطون نفسه، أن ينتجوا روائعهم الأدبية.

إن هذا في حد ذاته سبب كافٍ لأن يجعلنا نأمل، من صميم قلوبنا، ألا يتحقق أبدًا في المستقبل نظام اجتماعي كالنظام الذي يصفه أفلاطون في الجمهورية. ولكن غياب الحرية العقلية ليس هو الشيء الوحيد المنفِّر في دولة أفلاطون المثالية. فالفكرة التي تقول إن كل إنسان قد وُهِب القدرة على القيام بمهمة واحدة، ومهمة واحدة فقط، مما أدَّى إلى التقسيم المصطنع للمواطنين إلى منتجين وجنود وحكام، هي فكرة بعيدة كل البعد عن أبسط الملاحظات النفسية. وإذا كان من المؤكد أن بعض الناس قد وُهِبوا قدرات تفوق قدرات غيرهم على القيام بمهمات معينة، فإن إنسانًا واحدًا بعينه يمكن أن ينجز أنشطة متعددة بنفس الكفاءة، وأن تؤدي اهتماماته المتعددة إلى إغناء شخصيته. ولا يستطيع أفلاطون أن يقنعنا كذلك بأن بعض الناس قد وُلِدوا «بطبيعتهم» لكي يتولَّوا الحكم، بينما وُلِد غيرهم لكي يكونوا محكومين؛ لأننا نجد على مر التاريخ أمثلة كثيرة لمجتمعات مزدهرة شارك كل أعضائها في النهوض بشئونها. ولا يملك المرء إلا أن يصفق إعجابًا بإرازموس الذي يهزأ، تحت قناع الحماقة، بأفلاطون بسبب ثقته المفرطة في حكم الفلاسفة:

«أضِف إلى ذلك الثناء الشديد على عبارة أفلاطون الشهيرة: «سعيدة هي الدولة التي يكون فيها الفيلسوف أميرًا، أو التي يكرس أميرها نفسه للفلسفة.» ولكنك لو أخذت رأي المؤرخين لوجدت أن أشد الأمراء جناية على دولهم هم الذين سقطت الإمبراطورية في عهدهم تحت رحمة بعض الذين عرفوا الفلسفة أو الأدب معرفة سطحية. والدليل الكافي على صدق هذا الرأي يقدمه أولئك الذين أُطلق عليهم اسم كاتو؛ لقد كان أحدهم يزعج سلام الدولة باستمرار بالتهم المصطنعة التي لا يكف عن توجيهها. أما الآخر فقد قضى على حرية الإمبراطورية في الوقت الذي لم يكن يكف فيه عن الدفاع بكل ما أوتي من حكمة عن هذه الحرية. أضف إلى هؤلاء مجموعة الأشخاص الذين تسمَّوا باسم بروتس أو كاسيوس، بل شيشرون نفسه، الذي لم يكن أقل إيذاءً لروما من ديموستينس لأثينا. وإلى جانب هؤلاء أذكر لك أنطونينوس (الذي كان في نيتي أن أقدمه لك كمثل واحد على الإمبراطور الصالح، ولكني لا أستطيع أن أفعل هذا بغير مشقة.) فقد أصبح عبئًا على رعاياه الذين أبغضوه، لا لسبب إلا لأنه كان فيلسوفًا عظيمًا. وحتى لو سلمنا بأنه كان حاكمًا صالحًا، فقد أضر بالدولة ضررًا أشد من خلال ابنه الذي خلَّفه وراءه. ذلك لأن أمثال هؤلاء الرجال الذين انصرفوا للحكمة هم بوجه عام رجال سيئو الحظ، لا سيما في أولادهم، ويبدو أن الطبيعة هي التي دبرت هذا بفضل عنايتها، حتى لا تنتشر مصيبة الحكمة انتشارًا أوسع بين البشر. ولهذا السبب يتضح لك لماذا كان ابن شيشرون ولدًا منحلًّا، ولماذا كان أبناء سقراط — كما لاحظ البعض بحق — أشبه بأمهم منهم بأبيهم، أعني أنهم كانوا حمقى وبلهاء.»

ويمكن أن يتشكك المرء أيضًا في فكرة أفلاطون عن التنظيمات الأسرية، التي يتعذر في رأيه أن تتوافق مع وجود دولة شمولية، بينما نجد من وجهة نظر علماء الاجتماع أن المجتمعات البدائية التي لم تظهر فيها الدولة تخلو بوجه عام من التنظيمات الأسرية. فالأسرة بعيدة كل البعد عن معاداة الدولة، بل هي ضرورية لاستقرارها؛ لأن الأطفال الذين تربوا على احترام سلطة الأب سيكونون أكثر استعدادًا لتقبل سلطة الدولة. والنظم الشمولية الحديثة بدأت بمحاولة تحطيم الحياة الأسرية، سرعان ما رجعت إلى إقرار التنظيمات الأسرية، بعد أن تحققت من أنها تقدم أفضل ضمان لأمن الدولة.

وإذا كان أفلاطون قد استبد به الخوف من أن تفسد الثروة أو حتى مجرد الراحة نفوس حرَّاسه، فلم يكن يدرك تمام الإدراك أن السلطة، كما يقول اللورد أكتون Lord Acton «مفسدة، وأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة». وليس في جمهورية المثالية شيء عن مراقبة سلطة الحكَّام، كما أننا لا نجد شيئًا يمكن أن يمنع المساعدين (أو المحاربين) من التصرف مثل الأسبرطيين الذين كانوا، كما يقول بلوتارك، يبتهجون ابتهاجًا شديدًا بذبح عبيدهم.

إن من الأمور المحيرة أن تثير جمهورية أفلاطون كل هذا الإعجاب على مر العصور، كما أن من المفارقات الغريبة أن يكون على رأس المعجبين بها رجال تعارضت مبادِئُهم تمامًا مع مبادئ أفلاطون. لقد امتدحها شعراء كان أفلاطون سيطردهم من جمهوريته، وأثنى عليها ثوريون ناضلوا من أجل إلغاء العبودية، ويبدو أنهم لم يدركوا أن نظام أفلاطون قد قام على العبودية، وأطراها ديمقراطيون على الرغم من الحقيقة التي تقول إن المرء لا يستطيع أن يتصور حكمًا أشد استبدادًا من حكم الحرَّاس، كما نالت الاستحسان بوصفها نموذجًا للمجتمع الشيوعي، مع أن من الواضح أن مشاعية السلع لا تسري إلا على الطبقة الحاكمة، وأن الملكية الخاصة متركزة في أيدي طبقة لا تملك — على العكس مما تقول به المذاهب الماركسية — أي سلطة سياسية.

إن التحمس الذي أبداه العديد من المفكرين المستنيرين لجمهورية أفلاطون يمكن تفسيره من ناحية بأنهم نسبوا إليه أفكارًا تمنوا له أنه اعتنقها، ومن ناحية أخرى بأن هؤلاء المفكرين، الذين كانت خبرتهم قليلة عن الدول الشمولية، لم يتصوروا عيوب هذه الدول. ومن سوء حظنا أن أوهامنا عن مزايا الدولة الشمولية، مهما ادعت الحكمة، قد أصبحت قليلة. وأننا قد بدأنا نشعر بأن كل واحد منا يمكنه أن يكون أفضل حارس على نفسه.

(٢) بلوتارك (من حوالي ٤٦م إلى حوالي ١١٩م): «حياة ليكورجوس»

تنافس أسبرطة أثينا في تأثيرها على الفكر اليوتوبي، وكما اعتُبرت أثينا مرادفة لجمهورية أفلاطون، فقد نُظر إلى أسبرطة قبل كل شيء من خلال الصورة النموذجية التي قدمها بلوتارك في القرن الأول قبل الميلاد، عن ليكورجوس الذي تصفه الرواية التاريخية المأثورة بأنه هو الذي وضع تشريع أسبرطة. ويقول بلوتارك نفسه إننا «لا نعرف عنه شيئًا يقينيًّا مؤكدًا، وأقل ما نعرفه عنه هو العصر الذي عاش فيه»، بل ربما وُجد شخصان باسم ليكورجوس، وعاشا في أسبرطة في عصرين مختلفين. ويزعم بلوتارك أن التنظيمات التي تنسب إلى هذه الشخصية شبه الأسطورية قد استمر العمل بها لمدة خمسمائة عام.

وسواء اعتمدت رواية بلوتارك على الحقائق التاريخية، أو كانت من وحي خياله، فليس لذلك أهمية كبيرة، إذ ينصب اهتمامنا هنا على تأثير القوانين والتنظيمات التي وصفها على الدساتير واليوتوبيات المثالية اللاحقة، ولم يكن لهذا التأثير أن يزداد قوة لو كان ليكورجوس قد وُجد وعاش بالفعل.

كان ليكورجوس، قبل أن يتولى إدارة شئون أسبرطة، قد أمضى سنوات عديدة في التنقل بين كريت وآسيا ومصر، حيث يقال إنه استطاع أن يحصِّل معرفة سياسية بأسلوب علمي.

على نحو ما يقارن الأطباء الأجسام الضعيفة والعليلة بالأجسام الصحيحة والقوية، «كذلك كان ليكورجوس محظوظًا عندما كسب تأييد الأسبرطيين الساخطين على حكم الملوك، وتأييد الملوك أنفسهم على أمل أن يصبح الناس في ظل وجوده أقل وقاحة في معاملتهم لهم». ولكنهم سرعان ما اكتشفوا أنه لم يكن من محبي السلام، ولا من المصلحين المتزنين، وإنما كان يبيِّت النية على القيام بثورة كاملة؛ إذ كان من رأيه أن التغيير الجزئي وإدخال بعض القوانين لن يكون أمرًا مجديًا، لأنه من الضروري «كما في حالة الجسم المريض المعتل المزاج، الذي تصحح الأدوية مزاجه وتشكله من جديد، أن يبدأ نظامًا جديدًا في العلاج».

وقد استولى على السلطة عن طريق «الانقلاب» المألوف في أيامنا، وذلك إذا استثنينا استشارته لنبوءة معبد دلفي (والحكام المستبدون في عصرنا يلجئون بوجه عام إلى استشارة إحدى القوى الأجنبية). فقد أمر ثلاثين من المواطنين المسلحين بالظهور في الأسواق في وضح النهار «لإثارة الذعر في كل من يفكر في معارضته». ونجح في بثِّ الخوف في نفس الملكين اللذين منحاه تأييدهما، ثم قام مباشرة بتشكيل مجلس للشيوخ مكون من ثمانية وعشرين عضوًا (وهم الرجال الذين ساعدوه في مشروعه، أي في حزبه) بحيث تشكلت منهم، مع الملكين، هيئة من ثلاثين عضوًا. وبعد ذلك أصدر أوامره — حرصًا منه على سدِّ أي فراغ — باختيار أفضل الرجال المرموقين من بين الشيوخ الذين بلغوا الستين من عمرهم، وتم بالفعل انتخابهم بإجماع الشعب.

أما مجلس الشيوخ، الذي كان من قبل يشارك في «سلطة الملوك، وكانت قوته بلا حد ولا قيد، بل كان يتمتع بسلطة مساوية لسلطة الملوك، فقد كان هو وسيلة إبقائهم (أي الملوك) ضمن حدود الاعتدال، فضلًا عن أنه ساهم مساهمة فعَّالة في الحفاظ على الدولة. وقد كانت أحوال الدول قبل ذلك متقلبة ومضطربة، وكانت تميل حينًا إلى السلطة التعسفية، وحينًا آخر إلى الديمقراطية الخالصة، ولكن مثل هذا المجلس كان بمنزلة عامل استقرار، وحافظ على توازن الدولة ووضعها في وضع مأمون، وهكذا كان أعضاء المجلس الثمانية والعشرون يقفون في صف الملوك كلما وجدوا الشعب يتجاوز حدوده، كما كانوا من ناحية أخرى يقفون في صف الشعب كلما حاول الملوك أن يجعلوا سلطتهم مطلقة». ومع ذلك فلم يخبرنا أحد كيف تحلى مجلس الشيوخ بمثل هذه النزاهة التي تثير الإعجاب.

وكان يساعد مجلس الشيوخ في أعماله مجلس للشعب، لم يكن له حق المناقشة، بل سلطة قبول أو رفض ما يقترحه عليه مجلس الشيوخ والملوك، وأمر ليكورجوس (من خلال نبوءة معبد دلفي) أن يعقد الشعب اجتماعاته في الهواء الطلق، إذ كان من رأيه أن القاعات المغلقة «لا تعود على المجلس بأي فائدة، وإنما تعوق العمل، لأنها تشتت انتباه أعضائه وتشغلهم بالتفاهات، وذلك بتأمل التماثيل والصور والسقوف الفخمة والانشغال بالزخارف المسرحية».

وبعد أن اطمأن ليكورجوس على استقرار الحكم، وجَّه اهتمامه إلى المشكلات الاجتماعية. فقد صدمته الفروق الكبيرة بين الأغنياء والفقراء، وصمم على إعادة توزيع الأرض الزراعية. والواقع أن حالة عدم المساواة لم تصدمه، كما سنرى فيما بعد، لأسباب إنسانية خالصة بل لأسباب سياسية، فالثروة ذات تأثير سيئ على الأغنياء، كما أنها تزعزع استقرار الدولة، وهذا الموقف أبعد ما يكون عن موقف الاشتراكيين المحدثين، الذين يهتمون بالمعدة الخاوية للفقراء أكثر من اهتمامهم بالتأثير المفسد للثروات الطائلة على الأغنياء، ولكن ليكورجوس، رغم أنف هؤلاء الذين يريدون أن يجعلوه جدهم الأكبر، لم يكن هو حامي المعدمين والعبيد، كما أن إعادة توزيع الثروة قد تمت داخل الطبقة الحاكمة. لقد كان هدفه هو رفع «البرجوازية الصغيرة» و«الطبقة الرأسمالية» إلى نفس المستوى لتكوين بنية اجتماعية متجانسة وموحدة، ولم يكن هدفه على الإطلاق هو إلغاء الطبقات أو الطوائف. ولو أغفلنا كل ما سبق قوله لاكتسبت الرواية التالية نكهة شيوعية قوية:

كان التقسيم الجديد للأراضي الزراعية هو المشروع السياسي التالي والأكثر جرأة. فقد وجد ليكورجوس أن التفاوت الاجتماعي هائل، وأن المدينة تكتظ بالعديد من المعدمين الذين لا يملكون أرضًا، بينما تتركز الثروة في أيدي فئة قليلة. ولما كان قد عقد العزم على أن يستأصل شرور الوقاحة والحسد والجشع والترف، وكل المفاسد المتأصلة في الدولة المتحكمة في مصيرها، وأعني بها الفقر والثراء، فقد أقنعهم بإلغاء كل التقسيمات السابقة للأراضي ليضع تقسيمًا جديدًا يحقق المساواة الكاملة بينهم في الملكية وطريقة المعيشة. وإذا كانوا يطمحون إلى التميز، فعليهم أن يلتمسوه في الفضيلة، إذ لم يبقَ من اختلاف بينهم، إلا ذلك الذي يجلبه عار الأفعال الدنيئة، أو الثناء على الأفعال الخيرة. وقد وُضِع اقتراح ليكورجوس موضع التنفيذ، فخصص تسعة آلاف قطعة لإقليم أسبرطة، ووزعها على عدد كبير من المواطنين، وثلاثين ألف قطعة للسكان في بقية أنحاء أسبرطة. ويقول البعض: إنه خصص ستة آلاف للمدينة، وأن بوليدوروس أضاف ثلاثة آلاف فيما بعد، أما البعض الآخر فيقول: إن بوليدوروس ضاعف العدد الذي حدده ليكورجوس، وهو أربعة آلاف وخمسمائة قطعة. وكانت كل قطعة أرض تغل سبعين «بوشل»١٦ من الحبوب لكل رجل، واثني عشر لكل امرأة، بالإضافة إلى كمية متناسبة من النبيذ والزيت. وقد رأوا أن هذه الحصة كافية للمحافظة على صحة الفرد وسلامة بدنه، وأنهم لا يحتاجون إلى شيء آخر أكثر من ذلك. وهناك حكاية تُروَى عن مشرِّعنا، فبعد عودته من جولة في الحقول التي تم حصدها، ورؤيته لأكوام المحاصيل المتساوية، ابتسم وقال لبعض مرافقيه: «ما أشبه أسبرطة بمزرعة جديدة مقسمة بين عدد كبير من الإخوة.»

وشرع ليكورجوس بعد ذلك في تقسيم الملكية المنقولة، ولكنه كان أقل نجاحًا في إقناع الأسبرطيين، واضطر إلى اتخاذ إجراءات غير مباشرة جعلت المال يصبح بصورة أو أخرى عديم القيمة.

فقد بدأ بوقف تداول العملة الذهبية والفضية، وأمر باستخدام النقود الحديدية فقط، ثم قلل من كميات كبيرة وأوزان ضخمة من هذه النقود، بحيث تطلب تخزين عشرة «مينات»١٧ مساحة حجرة كاملة، كما احتاج نقلها من مكانها إلى ثورين على أقل تقدير. ولما شاع هذا بين الناس اختفت من أسبرطة ألوان عديدة من الظلم. فمن ذا الذي يفكر بعد ذلك في أن يسرق أو يأخذ رشوة، ومن ذا الذي يخطر على باله أن يحتال على غيره أو ينهبه، إذا كان سيعجز عن إخفاء الغنيمة، ولا يشرفه امتلاكها ولا استخدامها حتى لو قسمت إلى قطع صغيرة؟ فقد سمعنا أن الأسبرطيين كانوا يعرضونها للحرارة ثم يغمسونها في الخل لكي يجعلوها صلبة غير قابلة للثني، ومِن ثَم غير صالحة لأي استخدام آخر. يضاف إلى هذا أنه استبعد المصنوعات الحِرَفية غير الضرورية التي لا تدر أي ربح، والواقع أنه لو لم يفعل ذلك لسقطت من تلقاء نفسها؛ لأن تداول العملة الجديدة كان كفيلًا بأن يوقف الطلب عليها. ولم يكن من المستطاع أن يتم التعامل بعملتهم الحديدية في بقية أنحاء اليونان؛ إذ إنها أصبحت موضع السخرية والاحتقار، وترتب على هذا أن الأسبرطيين عجزوا عن شراء أي سلع أجنبية أو أي سلع مغرية، كما أعرضت السفن التجارية عن تفريغ حمولتها في موانئهم. وترتب على ذلك أيضًا أن اختفى من بلادهم كل أثر للسوفسطائيين، وقارئي الطالع المتجولين، وأصحاب البيوت السيئة السمعة، وبائعي الحلي الذهبية والفضية، وذلك كله لسبب بسيط هو وقف التعامل بالنقود. وهكذا اختفى الترف من تلقاء نفسه، بعد أن فقد بالتدريج كل الوسائل التي كانت تعمل على ترويجه وتدعيمه، وحتى الذين كانوا يملكون (من أدوات الترف) كميات ضخمة لم يستطيعوا الاستفادة منها، إذ لم يكن في الإمكان عرضها بصورة علنية، ولكن كان من الضروري أن تقبع في حالة ركود في المخازن الخفية. ونتج عن هذا أن ظهرت براعة الصنعة في أثاثهم النافع والضروري، كالأسِرَّة والكراسي والموائد، كما أن الكأس الأسبرطية المشهورة التي تسمى كوثون Cothon، كما يخبرنا كريتاس، كانت عالية القيمة، وخصوصًا خلال الحملات العسكرية؛ ذلك لأن الماء الذي يوضع في هذه الكأس، بحيث تبقى هذه العكارة على الحواف، يصل نقيًّا إلى الشفتين. والحقيقة أن المشرِّع كان هو المسئول عن كل هذه الإصلاحات، إذ اتجه الصناع الذين لم يعد يطلب منهم أحد صنع الأشياء المثيرة لحب الاستطلاع، إلى إظهار براعتهم الفنية في الأشياء الضرورية.

وملاحظات بلوتارك عن الكأس الأسبرطية تكتسب طابعًا حديثًا، بحيث يمكن اعتبارها تعريفًا لما نسميه اليوم «بالفن الوظيفي». وعلى أي حال فقد ضُيِّقَ على التعبير الفني في أسبرطة، والأمر التالي الذي أصدره ليكورجوس يعطي فكرة عن قسوة ذلك التقشف الأسبرطي الذي صار مضرب الأمثال:

«وكانت هناك أوامر أخرى لمحاربة الفخامة والإسراف في النفقات، وتقضي بألا تُشيَّد سقوف المنازل بأداة أخرى غير الفأس، ولا تُصنَع الأبواب إلا بالمناشير، وكما يُروَى عن إيبامينونداس١٨ أنه قال في وصف مائدة الطعام في بيته: «إن الخيانة لا تختبئ تحت هذه المائدة.» فكذلك أدرك ليكورجوس قبله أن مثل هذا البيت لا يسمح بأي شكل من أشكال الترف والأبهة اللذين لا ضرورة لهما. والواقع أن من السخف أن يجلب الإنسان إلى مسكن شديد البساطة والتواضع أسِرَّة ذات قوائم من الفضة، وأغطية من الأرجوان، وكئوسًا ذهبية، بالإضافة إلى سائر النفقات التي تترتب على تلك الأشياء. ولكن الجميع لن يستغنوا عن توفير السرير المناسب للمكان، وغطاء السرير، وبقية الأدوات المنزلية، والأثاث الضروري …»

والتقشف هو الطابع المألوف لمعظم اليوتوبيات، وقد رأينا أن أفلاطون يعتبر الاعتدال إحدى الفضائل الأساسية لمواطني جمهوريته. أما في أسبرطة فلم ينظر إلى التقشف كأحد المبادئ الأخلاقية فحسب، وإنما كان ضرورة حتمية، لأن أهل «لاكيديمونيا» عاشوا في حالة حرب دائمة، أي في حالة استعداد للحرب. وقد سبق ليكورجوس الدكتاتوريات الحديثة، عندما عرف تمام المعرفة أن النظم المستبدة لا يمكنها أن تعيش، إلا إذا جعلت من الحرب مؤسسة دائمة. ولم يكن توزيع الأراضي وتحقيق المساواة في الدخول مجرد ضرورة تحتمها اقتصاديات الحرب، وإنما كان الهدف منها هو رفع الروح المعنوية في أثناء الحرب. وقد أُعيد اختبار فائدة هذه الإجراءات في السنوات الأخيرة، عندما رأينا رؤساء دول محافظين يتبنون تنظيمات من شأنها أن تفرض المساواة في المسئوليات والتضحيات التي لا يمكن الاستغناء عنها، للمحافظة على الروح المعنوية العالية في أثناء الحرب. والفارق الوحيد هو أن أسبرطة عبَّأت الأشخاص والثروات، وقننت التموين والطعام بشكل مطلق، ربما لم يسبق لأي بلد أن لجأ إليه في حالة الحرب.

ويبدو أن للصبر حدودًا حتى عند الأسبرطيين، فقد تمردوا على ليكورجوس عندما أجبرهم على تناول طعامهم في وجبات مشتركة، وهنا نجد مرة أخرى أن الاعتبارات العملية احتلت المرتبة الثانية من حيث الأهمية.

ورغبة منه في القضاء الكامل على الرفاهية واستئصال حب الثروة، شرَّع ليكورجوس تنظيمًا ثالثًا كان على درجة كافية من الحكمة والطرافة، وذلك هو استخدام الموائد العامة، حيث كان يفرض على الناس جميعًا أن يأكلوا أنواعًا معينة من اللحوم التي حددها القانون، كما مُنِعوا في الوقت نفسه من تناول الطعام في بيوتهم على أرائك ومناضد غالية الثمن، وحُرِّم عليهم أن يستعينوا بالقصاصين والطهاة، أو أن يسمنوا كالحيوانات النهمة بين جدران بيوتهم، لأن ذلك كله لن يفسد أخلاقهم فحسب، وإنما سيفسد أجسامهم أيضًا، ولو تُرِكوا للانغماس في كل أنواع الملذات، لاحتاجوا إلى ساعات نوم أطول، وحمامات ساخنة، ولنفس الرعاية التي يستلزمها المرض المزمن. كان تحقيق هذا شيئًا عظيمًا بكل تأكيد، ولكن الأعظم منه هو تأمين الثروات من النهب والحسد، كما عبر ثيوفراسط،١٩ بل تجريد الثروات من وجودها نفسه عن طريق اشتراكهم في الطعام وجلوسهم معًا على موائد شحيحة. فأي نفع أو استمتاع بهذه الثروات، وهل هناك فرصة لاستعراض الأبهة والفخامة، حيث يجتمع الرجل الفقير مع الغني على مائدة واحدة؟ ومن هنا لوحظ أن بلوتوس، وفقًا للمثل السائر، بقي أعمى في أسبرطة وحدها وظل كالشبح محرومًا من الحياة والحركة. ويجب أيضًا أن نلاحظ أن تناول الوجبات في المنزل لم تكن له أي ميزة، كما أن كل من يأتي إلى الوجبات العامة دون شهية ولا يتناول طعامه أو شرابه مع المجموعة كانت تتم مراقبته بدقة، ويلومونه كشخص مسرف ومخنث ومتمرد على الوجبات العامة.

كان يجلس إلى كل مائدة خمسة عشر شخصًا، وربما زاد العدد أو نقص عن ذلك قليلًا. وكان يفرض على كل واحد منهم أن يحضر معه حصة من الطعام شهريًّا، وثمانية جالونات من النبيذ، وخمسة أرطال من الجبن، ورطلين ونصف الرطل من التين، وكمية قليلة من النقود لشراء اللحم والسمك. وإذا حدث أن ضحَّى أحدهم بالقطفة الأولى من الفواكه، أو ذبح غزالًا، فعليه أن يرسل جزءًا منها إلى المأدبة العامة، وبعد تقديم التضحية أو الصيد يصبح حرًّا في أن يتناول عشاءه في بيته. ولكن كان يُفرَض على بقية المواطنين أن يوجدوا في أماكنهم المعتادة على الموائد العامة. كما كان الأطفال أيضًا يشاركون في هذه الموائد العامة التي كانت شبيهة بالمدارس العديدة التي تعلمهم النظام وضبط النفس، وهناك يسمعون محاضرات تتعلق بنظام الحكم، ويُنَشَّئُون على الأساليب التربوية الحرة.

هذا التشدد نفسه، وتجاهل الحرية الفردية للمواطنين، كان أمرًا ملازمًا لكل قوانين ليكورجوس، التي تولت شئون المواطن من المهد (بل قبل ذلك أيضًا) إلى اللحد. وكان ليكورجوس يبدأ تربية الشباب «منذ النشأة الأولى، مع أخذ الحمل والميلاد في الاعتبار». ولهذا السبب لا يتم الزواج وفقًا لميول الأفراد، بل وفقًا لمصلحة الدولة. وعلى الرغم من أن الفكرة التي تقول بأن حب الأسرة لا ينبغي أن يحل محل حب الدولة، لم يعبر عنها بلوتارك في «حياة ليكورجوس» بنفس الوضوح الذي عبر عنه كامبانيلا في يوتوبياه المتأخرة «مدينة الشمس»، غير أنها تدل على أن وحدة المواطنين يجب ألا تفصم عراها الروابط القوية بين الرجل والمرأة. وكما كانت المساواة في توزيع الثروة سببًا في استئصال الحسد، توقفت الغيرة عندما سمح الأزواج لزوجاتهم بمعاشرة رجال قادرين على إنتاج نسل يتمتع بصحة جيدة، وسُمِحَ للرجال، حتى بعد الزواج، بأن يعيشوا حياة العزوبة، فيناموا في المضاجع العامة ولا يلتقوا بزوجاتهم إلا لأجل الاتصال الجنسي فحسب.

وإليك التبرير الذي قدمه ليكورجوس للعلاقات غير الزوجية:

«وبعد أن أقر أصول التواضع واللياقة الواجبة نحو الزواج، حرص كذلك حرصًا شديدًا على تخليص تلك الدولة من مشاعر الغيرة وانفعالاتها النسائية العقيمة، فجعل مما يشرف الرجال أن ينجبوا أطفالًا بالاشتراك مع رجال من ذوي المكانة المرموقة، وأن يتجنبوا كل المظاهر العدوانية في تعاملهم مع زوجاتهم. وقد سخر من أولئك الذين يلجئون إلى الحرب وإراقة الدماء للانتقام ممن يتصلون بامرأة متزوجة، فسمح بأن يقدم الرجل المسن لزوجته الشابة شابًّا يوافق عليه ويتسم بالشرف واللياقة، وعندما تنجب طفلًا من هذا النسب الكريم، يقوم بتربيته كما لو كان طفله. ومن ناحية أخرى، إذا أُعجب رجل بامرأة متزوجة بسبب تواضعها وجمال أطفالها، يُسمَح له بأن يستأذن زوجها في التصريح له بالاجتماع بها، لأن زرع تربة جميلة يمكن أن يثمر أطفالًا ممتازين من أبوين ممتازين. ويرجع هذا كله إلى أن ليكورجوس يعتبر أن الأطفال ملكًا للدولة، قبل أن يكونوا ملك آبائهم، ولذلك لا يريدهم أن يأتوا من أبوين عاديين، بل أن ينحدروا من أفضل الرجال. كما أن ليكورجوس لاحظ غرور وسخف تلك الأمم الأخرى التي يجتهد فيها الناس في الحصول على أفضل سلالة من الخيول والكلاب، ولا يبخلون على ذلك بالجهد أو المال، بينما يغلقون الأبواب على زوجاتهم، ويمنعونهم من إنجاب أطفال من أحد سواهم، على الرغم من أنهم قد يكونون عاجزين واهني القوة. وكأن هؤلاء لا يفرقون بين الضرر والنفع، بين أطفال يولدون من أصول مريضة فلا يصلحون لشيء، فضلًا عن تدمير آبائهم، وبين أطفال يولدون أصحاء أقوياء من أصول سليمة. هذه التعليمات التي كانت تؤمن إنجاب نسل صحيح، ومِن ثَم نافع للدولة، كانت في الحقيقة أبعد ما تكون عن تشجيع انحراف النساء الذي ساد في فترة تالية، ولذلك لم يُعرَف الزنا بينهن.»

وإذا كان ليكورجوس لم يؤيد الحب كما نفهمه بين الرجال والنساء، فقد بذل جهودًا كبيرة لكي يجعل النساء جذابات للرجال من الناحية الجنسية، وقام بتنظيم حفلات راقصة عامة وتمرينات رياضية أخرى لشابات عاريات في حضور الشباب، لا لكي ينزع عن الجنس ما يكتنفه من الحنان والحساسية فحسب — وهو الأمر الذي يرتبط بخصوصية الحياة الزوجية — بل كذلك لأن هذه التدريبات كانت حافزًا على الإقبال على الزواج. وإذا أخفق هذا في إحداث التأثير المرغوب في شباب أسبرطة، وأصروا على رفضهم للزواج، «فإن وصمات العار توضع على ظهورهم، ولا يسمح لهم بمشاهدة تدريبات العذارى العاريات، ويأمرهم القضاء بالمضي في الشتاء عراة حول الأسواق، وهم يغنون أغنية تعبر عن العقاب العادل الذي تلقوه جزاء عصيانهم للقوانين.»

لم يترك ليكورجوس، حتى بعد إتمام الزواج، الاتصال الجنسي بين الأزواج يسير في مجراه الطبيعي، وإنما خطط له قواعد مدروسة:

«ومن عاداتهم في الزواج أن يستولي العريس على عروسه بالعنف، ولا يتم اختيار العروس من بين صغيرات السن، بل بعد أن تكون قد بلغت سن النضج، ومِن ثَم تأتي المرأة التي تدبر شئون الزواج، وتقص شعر العروس حتى الجلد، وتلبسها ملابس الرجال وترقدها على الفراش وتتركها في الظلام. ويأتي العريس، الذي لم يذهب النبيذ بعقله، ولا أوهنت قواه حياة الرفاهية؛ لأنه واظب على تناول عشائه على المأدبة العامة، فيمضي في السر إلى عروسه ويفك الأحزمة التي لفت حولها ويحملها إلى فراش آخر. وبعد أن يمكث هناك وقتًا قصيرًا، يعود لمسكنه المعتاد لينام مع بقية الشباب، ويقضي يومه مع رفاقه، ويستريح معهم في أثناء الليل، ويزور عروسه في حذرٍ شديدٍ حتى لا تكتشف العائلة وجوده، وفي الوقت نفسه تمارس العروس كل ما لديها من حيلة لإيجاد الفرص الملائمة للقاءاتهما الحميمة، ولم يكن هذا يتم في فترة قصيرة فحسب، بل كان بعضهم ينجب أطفالًا قبل أن يلتقوا بزوجاتهم في وضح النهار، ولم يكن هذا النوع من الاتصال الجنسي مجرد تدريب على الاعتدال والعفة فقط، وإنما كان يحافظ على نضارة أجسامهم ويساعد على ألَّا تنطفئ حرارة حبهم الأولى أو تخمد، ولأنهم لم يشبعوا رغباتهم مثل أولئك الذين يمكثون بصفة دائمة مع زوجاتهم، فقد كانت رغباتهم تظل متأججة ومتوهجة.»

هكذا نرى أن ليكورجوس قد اهتم بتنظيم إجراءات الزواج أكثر من اهتمامه باختيار الزوجين، فقد سمح لمواطنيه، على خلاف أفلاطون، في نطاق محدود باتخاذ قراراتهم بخصوص من يريدون أن ينجبوا منه أطفالًا أصحاء على قدر من الجمال، وإذا تبين لهم أنهم ارتكبوا أي خطأ، فإن هذا الخطأ يمكن تصحيحه دائمًا؛ لأنه لا تترك للأب حرية تربية أي أطفال كما يريد، وإنما يُلزَم بحمل الطفل إلى مكان يُدعى ليسكيه Lesche، لفحصه من قبل شيوخ القبيلة الذين يجتمعون هناك، فإذا كان الطفل قويًّا ومتجانس الأعضاء، يعطون الأوامر بتعليمه، ويحددون له قطعة من التسعة آلاف قطعة من الأرض الزراعية، أما إذا كان ضعيفًا ومشوَّهًا، فيأمرون بأن يلقى به في مكان يدعى أبوثيتات Apothetate، وهو كهف عميق قريب من جبل تايجيتوس Taygetus؛ الأمر الذي يفهم منه أن حياته لن تكون نافعة له ولا للمصلحة العامة، ما دامت الطبيعة لم تمنحه منذ البداية القوة أو سلامة البنية.

ولم يكن للآباء، بطبيعة الحال، حرية تعليم أطفالهم كما يشاءون.

وما إن يبلغوا السابعة من العمر، حتى يأمر ليكورجوس بأن يسجلوا في مجموعات، حيث يخضعون جميعًا لنفس النظام، ويمارسون التمرينات وألوان التسلية معًا. ومن يفق زملاءه في الشجاعة والانضباط، يعيَّن قائدًا للمجموعة، ويتمثل به الباقون، ويطيعون أوامره، ويتحملون بصبر العقوبات التي ينزلها بهم، مما جعل نظامهم التربوي كله تمرينًا على الطاعة. ويقوم كبار السن الموجودون معهم بتحين الفرص لإثارة الجدال أو الشجار بينهم، لكي يتسنى لهم أن يلاحظوا بدقة روح كل منهم، وثباته في النزال.

أما عن التعليم فلا ينالون منه إلا ما تدعو إليه الضرورة المطلقة. فقد هُيِّئ نظام تعليمهم كله لإخضاعهم للأوامر، وتحمُّل المشاق، والقتال والغزو. ولهذا كان يزداد انضباطهم كلما تقدموا في العمر، فيقصون شعورهم تمامًا، ويمشون حفاة الأقدام، ويلعبون في أغلب الأحيان وهم عراة تمامًا. وتنزع ملابسهم الداخلية في سن الثانية عشرة، ويسمح لهم طوال العام برداء واحد، ولذلك كان من الطبيعي أن تبدو عليهم القذارة؛ إذ كان ترف الاستحمام والتطيب بالزيوت محظورًا عليهم إلا في أيام معينة من السنة. وكانوا ينامون في جماعات، على أسرة مجدولة من عيدان القصب التي جمعوها بأيديهم، دون استخدام سكاكين، وأحضروها من ضفاف نهر أيروتاس Eurotas، وفي الشتاء يسمح لهم بأن يضيفوا إليها نباتات شائكة لتبعث فيهم بعض الدفء. وأما تعليم الأولاد الأكبر سنًّا فكان أشد قسوةً، وإن لم يختلف كثيرًا عن التعليم في بعض المدارس الإنجليزية العامة. في هذه المرحلة من العمر يحظى الأولاد الذين أبلوا بلاءً حسنًا برفقة كبار السن الذين كانوا يواظبون على الحضور إلى الأماكن التي يتدربون فيها على القوة والبراعة، لا كمراقبين عابرين، بل بصفتهم آباء لهم، أو حراسًا وحكَّامًا، بحيث لم يخلُ زمان ولا مكان من أشخاص يعلمونهم ويؤدبونهم. وبالإضافة إلى ذلك كان يُعيَّن واحد من أفضل وأقدر رجال المدينة مراقبًا للشباب، فيسلم قيادة كل مجموعة لأحكم وأشجع شاب من أولئك الشبان الذين كان يطلق عليهم اسم الأيرين Irens. وكان «الأيريني» هو الذي أمضى سنتين بعد تخرجه من فصول (أو صفوف) الأولاد. أما المليرين Melliren فكان واحدًا من أكبر الأولاد سنًّا. ويقوم هذا الأيريني — الذي بلغ العشرين من عمره — بإصدار أوامره لمن يتولى قيادتهم في معاركهم الصغيرة، كما يجبرهم على الخدمة في منزله. ويرسل أكبرهم سنًّا ليجلب الخشب، وأصغرهم ليجمع الأعشاب الصالحة للطبخ، فيسرقونها حيثما وجدوها، إما بالحصول عليها خفية من الحدائق، أو بالزحف بمكر وحذر تحت الموائد العامة، وإذا قُبِض على أحدهم، جلد بقسوة لإهماله أو افتقاره إلى البراعة، وهم يسرقون أيضًا كل ما يمكنهم الحصول عليه من الطعام، ويخططون لهذا بحذق ومهارة عندما يكون الناس نيامًا أو عندما يتراخون في الحراسة، فإذا اكتُشف أمرهم لا يعاقبون بالجلد فقط، ولكن بالجوع أيضًا. والواقع أن طعام العشاء الذي كان يقدم لهم كان هزيلًا على الدوام، وذلك لتمرينهم على الشجاعة والتحمل ومقاومة الطمع والنهم.

ولم يهمل الأسبرطيون تربية النساء، ولكنهم وجهوها لإصلاح أبدانهن قبل عقولهن، فقد أمر ليكورجوس بأن تتدرب العذارى على الجري، والمصارعة، والرماية، وإلقاء الرماح؛ حتى تصبح أجسادهن قوية نشيطة، ويكون أطفالهن على شاكلتهن، ويقوين في المستقبل على تحمل آلام الوضع، والولادة في أمان. «وكان من حقهن أيضًا أن يمدحن الرجال أو ينقدنهم، ويقال إنهنَّ لم يستبعدن من التكريم بألقاب الشجاعة والشرف.» ومع ذلك فليس لدينا أي دليل على أنهن كن يشاركن مشاركة مباشرة في إدارة شئون الدولة، كما هو الحال في جمهورية أفلاطون، إذ يبدو أن السلطة القوية التي اكتسبنها في الماضي، بسبب اشتراك أزواجهن في الحملات العسكرية المتكررة، قد تم كبحها بدلًا من تدعيمها.

وليس لدينا الكثير مما يمكن قوله عن تنظيم العمل في أسبرطة؛ لأن الأسبرطيين كانوا أساسًا طبقة مترفة، وربما كانوا هم الأمة الوحيدة التي حرم فيها العمل من الناحية الفعلية، لقد انصرفوا إلى العمل غير المنتج مثل التدريبات العسكرية، والتعليم، والتعلم، والتجارة، أما مهمة تزويدهم بالاحتياجات اليومية فتُرِكت للعبيد (أو الهيلوت Helots). والواقع أن المجتمع الأسبرطي كان يقوم على نظام العبيد، وأن المواطنين البالغين كانوا محرومين من العمل بأيديهم حتى لو أرادوا ذلك، وهذه حقيقة يتجاهلها كثير من المعجبين المتحمسين لأسبرطة.

استمر نظام الأسبرطيين الصارم حتى بعد أن بلغوا مرحلة النضج، فلم يكن أي إنسان يتمتع بالحرية في أن يعيش كما يريد، إذ كانت المدينة أشبه بمعسكر واحد كبير، يسمح فيه للجميع بأمور محددة، ويعرفون واجباتهم العامة، ويقتنع كل إنسان بأنه لم يولد لنفسه بل لبلده. وإذا لم تصدر لهم أوامر معينة، فإنهم يشغلون أنفسهم بمراقبة الأولاد وتعليمهم شيئًا نافعًا، أو يتعلمون هم أنفسهم ممن هم أكبر منهم سنًّا. وكان الاستمتاع بوقت الفراغ هو أحد الامتيازات الكبرى التي منحها ليكورجوس لمواطنيه، وكان ذلك نتيجة مترتبة على منعهم من ممارسة أي حرفة آلية. ولم يكن الأمر يستحق منهم أن يبذلوا جهدًا كبيرًا في زيادة ثرواتهم، ما دامت الثروة عندهم عديمة القيمة. أما العبيد (الهيلوت)، الذين كانوا يحرثون الأرض، فكانوا مسئولين عن تلبية الاحتياجات المشار إليها فيما سبق. ولدينا في هذا الصدد حكاية عن أسبرطي تصادف وجوده في أثينا أثناء انعقاد المحكمة، وسمع عن رجل حُكم عليه بغرامة مالية بسبب الكسل. وعندما كان هذا الرجل المسكين في طريق عودته وهو في حالة معنوية سيئة، مصحوبًا بأصدقائه الذين راحوا يواسونه، طلب من مرافقيه أن يدلوه على الشخص الذي أُدين بسبب محافظته على كرامته. وهكذا وصل بهم الأمر إلى حد إسقاط كل اهتمام بالفنون الحرفية، وكل رغبة في الحصول على الثروة من اعتبارهم.

وكانت الدعاوى القضائية في أسبرطة تُرفع عن أصحابها مقابل دفع مبالغ نقدية. ولم يعرف الأسبرطيون الغني ولا الفقير، وإنما كانوا متساوين في الأهلية، كما كانت لديهم وسائل ميسرة وغير مكلفة لتلبية احتياجاتهم القليلة. ولهذا نجدهم في أوقات السلم يقضون وقتهم في الرقص، والاحتفالات، والصيد، أو يلتقون للقيام بالتدريبات البدنية أو تجاذب أطراف الحديث. ولم يكن أحد دون الثلاثين يذهب إلى السوق، إذ كان ذووهم وولاة أمرهم يدبرون لهم كل احتياجاتهم الضرورية. ولم يكن التسكع في الأسواق شيئًا يشرف كبار السن، بل كان الأليق بهم أن يقضوا معظم النهار في مدارس التدريب أو الأماكن التي تدور فيها الأحاديث.

وأما عن مسألة العبيد فقد حدَّت من إعجاب بلوتارك الشديد بليكورجوس، وجرائم القتل الجماعية التي تعرض لها «الهيلوت» على أيدي الشبان الأسبرطيين كنوع من الرياضة، حتى لو افترضنا أنها تمت بعد عهد ليكورجوس، تلقي ظلالًا معتمة على تنظيمات أسبرطة المثالية. وقد اضطر بلوتارك إلى الاعتراف بأن الأسبرطيين، من بعض النواحي، كانوا يعاملون عبيدهم بطريقة غير إنسانية.

كانوا أحيانًا يجبرونهم على الشرب حتى يسكروا، ثم يقودونهم إلى القاعات العامة، ليبينوا للشباب أضرار السكر، وكانوا يأمرونهم بأن يغنوا أغاني وضيعة، ويرقصوا رقصات مزرية، ويفرضون عليهم ألا يخالطوا أي إنسان مهذب ورقيق. وبهذه الأساليب الدعائية الفجة، يتم الفصل بين السلالتين.

ويقول بلوتارك إن «هؤلاء الذين يقولون إن الرجل الحر في أسبرطة كان يتمتع بالحرية إلى أبعد حد، وإن العبد كان يخضع للعبودية إلى أقصى حد، يبدو أنهم أحسنوا تقدير الفوارق بين الحالتين.» ويمكننا أن نوافق بلوتارك على الجزء الثاني من عبارته، ولكننا نشك فيما إذا كان الرجال الذين يستبعدون غيرهم، ويتعرضون لهم متى شاءوا بالإهانة والتعذيب أو القتل، يستحقون أن يُوصَفوا بأنهم رجال أحرار.

وليس عجيبًا بعد ذلك أن نسمع بأن هؤلاء «الرجال الأحرار» كانوا هم أنفسهم في واقع الأمر سجناء في بلدهم:

«ولم يكن يسمح لمن يرغبون في رؤية بلاد أخرى بالسفر خارج الحدود، خشية أن يتعودوا على عادات أجنبية، أو يتعرَّفوا على أشكال للحياة أقل انضباطًا، أو على شكل مختلف من أشكال الحكم. كذلك مُنع الغرباء من دخول أسبرطة، ما لم يحددوا سببًا مقنعًا لمجيئهم لا بسبب خوفه من أن يحاكوا دستور تلك المدينة، أو يدخلوا إصلاحات على فضائلها، كما يقول توكيديديس، ولكن خشية أن يعلموا شعبه بعض الرذائل والشرور؛ ذلك لأن زيارات الأجانب تقترن بظهور موضوعات جديدة للمناقشة، وكل مناقشة جديدة تؤدي إلى آراء جديدة، ومن هذه الآراء تنشأ مشاعر ورغبات جديدة يمكنها، مثل النشاز في الموسيقى، أن تسبب الاضطراب للحكومة المستقرة؛ ولذلك اعتقد ليكورجوس أن حماية المدينة من العادات الفاسدة وأساليب السلوك السيئة أجدى عليها من منع انتشار الوباء فيها.»

ولا يدهشنا أن ليكورجوس كان «مفتونًا بجمال وعظمة نظامه السياسي»، وأنه فرح بعمله «فرحة الإله عندما فرغ من خلق العالم». فالواقع أن المشرع يفتقد القدرة على نقد القوانين التي وضعها، بقدر ما يتوقع من الشعوب الأخرى أن تخضع لهذه القوانين. والأكثر من ذلك مدعاة للدهشة هو التأثير الذي تركته أسبرطة فيما يسمى بالفكر التقدمي. فالثوريون، وأنصار حقوق الإنسان، والمصلحون والشيوعيون من هارنجتون إلى مابلي، ومن كامبانيلا إلى مارا، ومن نابليون إلى ستالين، قد حاولوا استلهام هذا النموذج الذي يعد أكمل نموذج للدولة الشمولية.

(٣) أرسطوفانيس

قبل أن نترك بلاد الإغريق، ينبغي علينا أن نلقي نظرة على اليوتوبيات الهجائية الساخرة لأرسطوفانيس؛ لأن تأثيرها في الفكر اليوتوبي كان في الواقع تأثيرًا ثانويًّا، إذا قيس بتأثير اليوتوبيات التي تعرضت لسخريتها.

وتعطينا مسرحيات أرسطوفانيس فكرة عن كيفية تلقي عامة الناس لأفكار الفلاسفة الكبار. ولا بد أن رد فعلهم عليها كان شديد الاختلاف عن رد فعل التلاميذ في المدارس الثانوية؛ لأن هؤلاء على استعداد دائم لمناقشة الأفكار الجديدة وقبولها، بحماس الشباب وبعده عن التحيز.

ومع أن أرسطوفانيس يقدم مرآة مشوهة للرأي العام في عصره، فإننا نحس بنبرة الأصالة التي تتردد في مسرحياته. فشخصياته تتحدث عن شيوعية أفلاطون، كما يتحدث معظم الناس في أيامنا عن البلشفية (أو عن الفوضوية). ويحتمل أن يكون غالبية الإغريق القدماء، شأنهم شأن أغلبية الناس في العصر الحديث، قد نفروا من الشيوعية كوضع اجتماعي «تكون فيه النساء للجميع»، و«لا يمارس أحد أي عمل» و«يحصل كل إنسان على ما يشتهي من الشراب والطعام حتى يسكر ويصاب بالتخمة». ويضحك أرسطوفانيس على هذه الأفكار ويهزأ منها، ولكنه يقدِّم أحيانًا بعض الحجج لمصلحة الشيوعية أفضل مما فعل أفلاطون نفسه. إن براكساجورا التي تتزعم ثورة النساء في سبيل إلغاء الملكية وإقامة مملكة الوفرة والرخاء، تمثل دور الداعية بصورة أكثر إقناعًا من سقراط. وها هي ذي تصف لزوجها، بليبيروس، كيف ستعمل على إيجاد هذا المجتمع السعيد الحر:

براكساجورا :
إن القاعدة التي أعتزم أن أسنها وأعلنها للناس،
هي أن يصبح الجميع متساوين ويقتسموا بالتساوي
كل الثروات والمتع، ولا يتحملوا بعد اليوم،
أن يكون هناك غني وفقير،
أو أن يملك أحد الناس الحقول الواسعة الشاسعة،
ولا يملك الآخر ما يكفي لتجهيز قبر يُدفَن فيه،
وأن يكون تحت تصرف هذا مئات العبيد
ويكون ذاك بلا أحد يعينه على الإطلاق.
أريد أن أصلح كل هذه الأوضاع،
فيشارك الكل في كل النعم مشاركة الأحرار،
وأن أرتب حياة واحدة ونظامًا واحدًا للجميع.
بليبيروس : وكيف ستدبرين هذا؟
براكساجورا :
سوف أحرص أولًا
على أن تكون الفضة والأرض وسائر ما يملكه أي إنسان
مشتركًا بين الناس وتحت تصرف الجميع،
بحيث يتألف منه رصيد واحد؛
ومن هذا الرصيد سنطعمكم وندير شئونكم، كما يفعل أحكم المدبرين لشئون البيت، فننفق عليكم، ونقتصد لكم، ونشملكم بالرعاية.
بليبيروس :
أما ما يتعلق بالأرض، فإني أفهمه تمامًا،
لكن ما العمل إذا كان الجل يستحوذ على نقوده في يده، ولا يملك مزارع يمكنك أن تريها، ولا يمكنه أن يمنعها عنك،
وإنما يمتلك الأوزان من الفضة والذهب؟
براكساجورا : عليه أن يحضر كل هذا للمخازن.
بليبيروس :
لكن افترضي
أنه اختار أن يحتفظ به، وأخفى خبره عن الجميع؛
لا شك في أن هذا يعد حنثًا لليمين، ولكن أي بأس عليه في أن يحنث باليمين؟
لقد كسبه في البداية عن هذا الطريق.
براكساجورا :
أوافقك على هذا.
لكنه سيصبح الآن عديم الفائدة، ولن يحتاج إليه بعد اليوم.
بليبيروس : ماذا تقصدين؟
براكساجورا :
أقصد أن ضغط الحاجة سيتحرر منه الجميع،
وسيحصل كل فرد على كل ما يتمناه الإنسان،
على الكعك، وأرغفة الشعير، وثمار الجوز، والملابس الوفيرة،
والنبيذ، وأكاليل الزهور، والسمك،
فلماذا يحرص على الثروة التي حصل عليها بالغش والخداع؟
إن كنت تعرف السبب، فأرجوك أن تشرحه لي.
بليبيروس :
إن الذين يملكون معظم هذه الخيرات
هم في اعتقادي أسوأ اللصوص على الدوام.
براكساجورا :
أوافقك، يا صاحبي، على أن ما تقوله يصدق على الأيام الخوالي،
ويسري على نظامكم العتيق الذي تم إلغاؤه.
ولكن ما الذي سيعود عليه من الاحتفاظ بثروته،
إن كانت كل الأشياء ستصبح مشاعًا للجميع، هذا ما أرجوك أن تفسره لي.
بليبيروس :
إذا حاول شاب أن يظهر حبه لفتاة،
فلا شك أنه سيتودد إليها بالهدايا.
براكساجورا :
لا … لا.
كل النساء والرجال سيكونون أحرارًا ومشتركين،
ولن يكون ثمة زواج، ولا غير ذلك من القيود.
بليبيروس :
لكن ما العمل لو تطلَّع الجميع
للفتاة التي يزينها جمالها البديع؟
براكساجورا :
بجانب الجميل الذي تحفه الروعة والجلال
سيقف القزم والمشوه والقبيح؛
وقبل أن يحق لك التودد لفتاة هي آية في الجمال،
عليك أن تغازل العجوز الشمطاء والسليطة اللسان.
بليبيروس :
نجحت في تبديد أي شك يحوم حول النساء،
ولن تُحرَم بعد اليوم امرأة من أحد العشاق.
لكن ماذا عن الرجال؟
يخيل إليَّ أن الفتيات سيخترن الوسيم ويُرفَض القبيح.
براكساجورا :
بالطبع لن يسمح لفتاة بعقد أي ارتباط،
إلا بما يتوافق مع القواعد التي سنتها الدولة في قوانين،
فبجانب حبيبها الوسيم والطويل،
سيوضع القعيد والمعاق والضئيل،
وقبل أن يحق لها الحصول على الجميل،
عليها أن تمنح حبها للأخرق والقبيح.
بليبيروس :
إذن فهذا الأنف الذي يعرضه ليزيكراتيس،
سينافس فيما أعتقد أجمل وألطف الأنوف.
براكساجورا :
أجل هي خطة ديمقراطية بديعة،
وأسلوب شعبي لم يُسبق إليه،
نسخر به من المنافقين والمغرورين،
اذهبوا الآن أيها المتعجرفون — هكذا سيقول الريفي العجوز —
قفوا جانبًا، فقد جاء دوري اليوم في العشق والغرام.
بليبيروس :
لكن كيف، إذا أذنت لي، سيُعرَف الأطفال؟
وكيف يميز الأب أبناءه؟
براكساجورا :
لن يُعرفوا أبدًا، ولن يدله أحد عليهم،
فجميع الشبان سيكونون أبناءً لجميع الشيوخ.
خريميسس : ربما يلحقك أذًى أشد من هذا بكثير.
بليبيروس : وكيف هذا؟
خريميسس :
إذا ادَّعى أرسطيلوس الحقير أنك أبوه،
وهجم عليك ليقبلك.
بليبيروس : آه. فليشنق! وعليه اللعنة! سوف أشبعه ضربًا.
خريميسس : أظنك ستفوح برائحة النعناع.
براكساجورا :
لكن هذا، يا سيدي، هراء، لن يحدث شيء مما تقول.
فهذا الوضيع قد ولد قبل صدور القرار،
ولن تلمسك قبلته بطبيعة الحال.
بليبيروس :
هذا المنظر يثير في نفسي الرعب والاشمئزاز.
لكن من الذي سيعمل في المزرعة؟
براكساجورا :
ستتركون العمل والشقاء للعبيد،
وسيبدأ عملكم، عندما يرخي الليل سدوله،
ويلقي بعشرة أقدام على وجه المزولة،
وتهرعون إلى تناول وجبة العشاء.
بليبيروس : وملابسنا، ماذا عنها؟
براكساجورا :
لديكم في المخزن منها الكثير،
وعندما تبلى، سننسخ لكم منها المزيد.
بليبيروس :
يبقى شيء واحد. إذا رفعوا الدعوى عليَّ،
فأين هو الرصيد الذي سأسدد منه الغرامة؟
أظنك لن تدفعيه من المخازن.
براكساجورا :
غرامة تدفع إذا أقيمت دعوى عليك!
ولماذا، باركك الله، وشعبنا لن يعرف شيئًا
عن هذا الشيء الذي يسمى بالدعاوى؟
بليبيروس :
لا دعاوى. إني أتشكك في هذا.
وكيف بالله عليك سيتصرف شعبنا في معاشه؟
خريميسس : أنت على حق. فالكثيرون سيأسفون على ذلك.
براكساجورا :
لا شك.
لكن عن أي شيء يمكن أن ترفع دعوى؟
بليبيروس :
هناك أسباب كثيرة، وسأكتفي بذكر واحدة،
إذا لم يدفع لك المدين، فكيف تتصرفين بالله عليك؟
براكساجورا :
إذ لم يدفع المدين. حسنًا، لكن أخبرني يا صديق،
كيف توصل الدائن للنقود التي أقرضها له؟
أظن أن كل النقود قد وضعت في المخازن.
إنني أتشكك في الأمر، وأقولها بأسًى شديد،
دائنك لص بكل تأكيد.
بليبيروس :
هذه إجابة مفحمة وملائمة.
لكن ماذا لو اضطر رجل إلى أن يدفع غرامة؟
لقد أفحمتكِ، فيما أظن.
براكساجورا :
أبدًا، فسنوقف طعامه وشرابه إلى حين،
حتى يثوب لرشده ولا يسارع بالعدوان على الآخرين،
عندما يدفع من معدته ثمن تهوره اللعين.
بليبيروس : وهل سيختفي اللصوص ولا يظهرون؟
براكساجورا : وكيف يسرقون شيئًا يتقاسمونه مع الآخرين؟
بليبيروس :
ألن توجد فرصة إذن لقاطع طريق،
يقابلك بالليل في الشارع ويجردك من معطفك الأنيق؟
براكساجورا :
لا، لن يحدث هذا سواء كنت نائمًا في بيتك على فراشك الوثير،
أو اخترت أن تخرج وتتمشى كأي عابر سبيل،
ولماذا يقترف أحد هذا العمل الوبيل،
وكل شيء متوافر للجميع؟
وافرض أنه ارتكب فعله المنكر الأثيم،
لا تقاومه ولا تصارعه، ولا داعي للضجيج والعويل،
فيمكنك أن تذهب للمخازن، وسيعطونك البديل.
بليبيروس : وهل سنحرم أيضًا من لعب القمار؟
براكساجورا : وعلامَ تراهن؟ وماذا تكسب أو تخسر من الرهان؟
بليبيروس : وكيف سنحيا؟ وما نوع هذه الحياة؟
براكساجورا :
حياة مشتركة للجميع في كنف الحرية والاستقلال،
تخلصت إلى الأبد من كل الحواجز والقضبان،
واندمجت الأنظمة الخاصة في نظام واحد كل الاندماج.
بليبيروس : ووجبات طعامنا أين إذن ستقام؟
براكساجورا :
في كل ساحة محكمة ورواق ستقام
للمواطنين قاعة لتناول الطعام.
بليبيروس :
عظيم.
ولكن ماذا ستفعلين بمنصة الخطابة والخطباء؟
براكساجورا :
سأجعلها منصة للكئوس الكبيرة وأوعية الشراب،
ويُصَفُّ عليها الغلمان ليرتلوا أمجاد الشجعان،
ويتغنوا بأفراح الانتصار في معارك الشرف والفخار،
ويعيِّروا الجبناء بالخزي والعار،
حتى يحمر وجه كل جبان ويغادر المكان،
دون أن يتوقف عن حشو معدته بطعام العشاء.
بليبيروس :
آه، سيكون هذا شيئًا بالغ الروعة والجمال،
وماذا عن أماكن الاقتراع؟
براكساجورا :
هناك ينطلقون
إلى السوق في صفوف طوال،
وهناك أتخذ مكاني بجوار هارموديوس،
وأوزع بطاقات الاقتراع على كل الناس،
حتى يحصل كل فرد على قرعته بانتظام،
وينطلق بشجاعة الرجال ليضع علامة،
على الحرف الذي يدرج اسمه في قوائم الطعام.
(عن برلمان النساء، الاكليزيوزاي)

لقد صُمِّمت دولة أفلاطون لبشر متفوقين، يحتقرون مباهج المائدة، والضحك، والشِّعر، والموسيقى والعشق. أما يوتوبيا براكساجورا فهي مصممة لأناس عاديين لا يؤمنون، لحسن الحظ، بأن من واجب النساء أو الرجال، الذين يكونون على قدر من الجمال، أن يتودد كل منهم للآخر لغرض واحد، هو إنجاب أطفال مثلهم، ولا يعتقدون أن الإنسان يصبح شريرًا إذا ما استمتع ببعض مباهج الحياة المتواضعة. والشيوعية التي تدعو لها ليست هي شيوعية التقشف، بل الوفرة من «الكعك وأرغفة الشعير والملابس الفاخرة والنبيذ وأكاليل الزهور والسمك».

وقد وُصِف أرسطوفانيس بالرجعية؛ لأنه استهزأ بسقراط وأفلاطون. فقد قال عنه لويس ديكنسون، على سبيل المثال، إنه كان يدافع عن «الحياة الغريزية … وعن الدين القديم، والعادات القديمة والتراث القديم»، كما رأى أن «السحب» تعبر عن جوهر النزعة المحافظة المستنيرة (أو النزعة الطورية). ويميل المرء إلى الاعتقاد بأن أرسطوفانيس لم يدافع عن التنظيمات القديمة إلا لخوفه من أن تكون التنظيمات الجديدة، التي اقترحها فلاسفة تسلطيون، أسوأ من القديمة. فهو في «الطيور» لا يسخر فحسب من الميثولوجيا (الأساطير) اليونانية، ولكنه يسخر أيضًا من السياسي المحبط الذي يسعى إلى السلطة، وينجح في استغلال الطيور لإرضاء طموحاته «الاستعمارية»، وقبل وصول المغامر الأثيني بيستيتريوس، كانت الطيور تعيش حياة بدائية إلى حد ما، ولكنها حياة سعيدة وحرة، وكان الوقت يمر عليها كأنه «يوم عرس دائم»، ويصف ملك الطيور حياتهم بهذه الكلمات:

… الوقت يمضي بنا ناعمًا رخيًّا،
والمال يقع خارج دائرة اهتمامنا؛ لأننا لا نتعامل به.
لدينا ساحات للألعاب الرياضية، ونقضي الصباح من أيامنا اللاهية،
مع الولائم واللقاءات في الحدائق،
وبذور الخشخاش وأشجار المرِّ.

وأول مهمة تقع على عاتق السياسي والغوغائي الأثيني هي إيقاظ كبرياء الطيور، وإقناعهم بأنهم أسمى من الآلهة، وأن من واجبهم أن يحكموا الأرض. وينبري ملكهم الساذج للدفاع عن أفكار بيستيتريوس، ويطلب من الطيور أن يحتذوا مثال الأمم «المتحضرة»:

انظروا إلى الأرض! تطلعوا إلى الأمم المتنافسة،
وهي تموج بالحيوية والنشاط، وتقبل على علوم الهندسة والتحصينات،
للدفاع عن أوطانها وبيوتها، بهمة وطنية عالية،
فتحيط كل مدينة بسياج من الأسوار الشامخة البناء.
وتعدل خطط الهجوم القديمة بتصميمات جديدة،
وتصقل أسلحة الهجوم والدفاع حتى تبلغ أوج الكمال؛
وتجهز السفن الحربية وتسلحها، وتدرب الجيوش على النظام والانضباط.

وشرعت الطيور، التي دبت فيها الروح «القومية» في بناء مدينة في مجالها الجوي أكبر وأقوى من بابل، وتنجح في بث الخوف في نفوس الآلهة، ولكنها لا تجني شيئًا من وراء ذلك؛ وأصبح عليهم أن يقضوا وقتهم في بناء صروح المدينة وتقويتها وحراسة أسوارها، بحيث لم تعد حياتهم «عرس زفاف دائم».

ومن الصعب ألا يتعاطف الإنسان مع سخرية أرسطوفانيس من مخططي المدن والأخلاقيين والفلاسفة، الذين قاومت أفكارهم الحياة الغريزية للناس. والحق أن مملكة الطيور، على الرغم من كل بساطتها، تبدو مكانًا أكثر بهجة من جمهورية أفلاطون.

هوامش

(١) ديودوروس الصقلي (من حوالي ٨٠ إلى حوالي ٢٩ق.م.)، مؤرخ هللينستي، وضع تاريخًا للعالم من بدايته حتى عصر قيصر في أربعين كتابًا، لم يبقَ منها بصورة كاملة سوى الكتب الخمسة الأولى، ومن الكتاب الحادي عشر إلى الكتاب العشرين. وعلى الرغم من عدم دقته في ذكر التواريخ، ومن الطرائف والحكايات التي يُكثِر منها، فهو مرجع أساسي في تاريخ الشرق الأدنى والهند وجزر البحر المتوسط، وبخاصة صقلية. (المراجع)
(٢) عاش حوالي ٤٠٠ق.م. يعدُّ من أهم صغار السوفسطائيين، وترجع إليه إثارة التفرقة المشهورة بين القانون الطبيعي والقانون البشري أو الوضعي، الذي يستبد بالإنسان استبداد الطغاة، ويقهره على مخالفة الطبيعة الأصلية الخيرة … اشتهر بمعرفته الواسعة بعلوم عصره، وسخر أفلاطون من غروره في محاورتين سمَّاهما على اسمه. (المراجع)
(٣) عاش من حوالي ٤٣٥–٣٥٥ق.م. وأسس مدرسة اللذة في قورينا بشمال أفريقيا (ليبيا حاليًّا)، واللذة عنده هي أسمى غاية للحياة والتعبير الأوحد عن السعادة، والحكيم من استمتع باللذة دون أن يسمح لها بالتحكم فيه، واغتنم اللحظة الحاضرة فلم يأسَ على ماضٍ ولم يخفْ من آتٍ. (المراجع)
(٤) عن جمهورية أفلاطون، ترجمة د. فؤاد زكريا. راجعها على الأصل اليوناني الدكتور محمد سليم سالم. القاهرة، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، ١٩٦٨م، ص٦١–٦٤. (المترجمة)
(٥) المرجع السابق، ص١١٣-١١٤.
(٦) المرجع السابق، ص١١٥-١١٦.
(٧) المرجع السابق، ص١١٧-١١٨.
(٨) المرجع السابق، ص١٧٠ إلى ١٧٥.
(٩) المرجع السابق، ص١٨٢.
(١٠) المرجع السابق، ص٦٠-٦١.
(١١) المرجع السابق، ص٥٨ إلى ٦٠.
(١٢) المرجع السابق، ص٢٧٨-٢٧٩.
(١٣) المرجع السابق، ص٢٨٢-٢٨٣.
(١٤) المرجع السابق، ص١٢٨.
(١٥) المرجع السابق، ص١٢٦.
(١٦) البوشل مكيال للحبوب يساوي ٨ جالونات أو ما يعادل ٣٢ لترًا ونصف اللتر. (المترجمة)
(١٧) المينا وحدة وزن عند القدماء. (المترجمة)
(١٨) سياسي وقائد عسكري من يوئتيا، أعاد بناء الدولة (عام ٣٧٩ق.م. بعد طرد الأسبرطيين) وتنظيم الجيش حتى أصبحت ثيبة — بفضل وطنيته ونزعته الديمقراطية — هي القوة الثالثة في بلاد اليونان، أخذ فيليب الثاني المقدوني والأسكندر الأكبر بتنظيماته العسكرية وطوراها. (المراجع)
(١٩) فيلسوف إغريقي ومن أبرز العلماء الموسوعيين في العصور القديمة، وبخاصة في التاريخ الطبيعي ولا سيما النبات. وُلِد في أريزوس (بجزيرة لسبوس) سنة ٣٧٣ق.م. ومات في أثينا ٢٨٨ق.م. وهو صديق أرسطو وتلميذه وخليفته في رئاسة المدرسة المشائية، ومكمل مذهبه ومصححه أيضًا، إذ أضاف نظريته في الأقيسة الشرطية إلى نظرية أرسطو في القياس. اشتهر كتابه عن الطباع الذي تناول فيه ثلاثين شخصية مختلفة، وأثر في الكوميديا القديمة والحديثة. (المراجع)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤