مقدمة

الدنيا الرحبة لعلم الخرافات النفسية

«الأضداد تتجاذب.»
«العصا لمن عصا.»
«الألفة مجلبة للاستخفاف.»
«الأمان في الكثرة.»

لعلك سمعت هذه الأمثال الأربعة مرات عديدة من قبل، والأدهى من ذلك أنك ربما اعتبرتها من البديهيات المسلم بها، مثلها مثل حق الإنسان في الحياة والحرية والسعي وراء السعادة؛ فقد أكد لنا معلمونا وآباؤنا وأمهاتنا صحة هذه الأقوال المأثورة، وأصبح حدسنا وتجاربنا الحياتية يقران ما تنطوي عليه من حكمة.

ومع ذلك توضح الأبحاث النفسية أن الأمثال الأربعة جميعًا، بالفهم الشائع لها بين الأفراد، خاطئة غالبًا أو تمامًا؛ فالأضداد لا تتجاذب في العلاقات الرومانسية، بل على النقيض، يغلب علينا الانجذاب الشديد إلى الأفراد الذين يشبهوننا في الشخصية والمواقف والقيم (انظر الخرافة رقم ٢٧). والتخلي عن العقاب البدني لا يؤدي بالضرورة إلى إفساد الأطفال، بل إن العقاب كثيرًا ما يخفق في التأثير على سلوكهم تأثيرًا إيجابيًّا (انظر قسم «خرافات أخرى تستحق الدراسة»، الفصل الرابع). أيضًا الألفة عادة تجلب الراحة، لا الاستخفاف؛ ذلك أننا نفضل عادة الأشياء التي رأيناها مرات عدة على الأشياء غير المألوفة لنا (انظر قسم «خرافات أخرى تستحق الدراسة»، الفصل السادس). وأخيرًا هناك خطر في الكثرة عادةً لا أمان (انظر الخرافة رقم ٢٨)، فاحتمالات إنقاذ من يتعرضون للخطر في حالة حرجة تزيد عندما يشاهدهم شخص واحد فقط، لا مجموعة كبيرة من الأشخاص عابري السبيل.

(١) صناعة علم النفس الشعبي

لا شك أنك «تعلمت» مجموعة من «الحقائق» الأخرى من صناعة علم النفس الشعبي، فهذه الصناعة تضم شبكة ممتدة من مصادر المعلومات اليومية عن السلوك الإنساني، بما في ذلك برامج التليفزيون، وبرامج الراديو التي يتواصل فيها المستمعون مع الضيوف هاتفيًّا، وأفلام هوليوود، وكتب مساعدة الذات، والمجلات التي تُباع في الأكشاك، والصحف الصفراء الشعبية (التابلويد)، ومواقع الإنترنت. على سبيل المثال: تخبرنا صناعة علم النفس الشعبي:
  • أننا نستخدم ١٠٪ فقط من قدراتنا العقلية.

  • أن ذاكرتنا تعمل كما تعمل أشرطة الفيديو أو أجهزة التسجيل.

  • أنه من الأفضل عند الغضب أن نعبر عن ذلك الغضب مباشرة بدلًا من أن نكبته داخلنا.

  • أن معظم الأطفال الذين تعرضوا للاعتداء الجنسي يتحولون بدورهم إلى معتدين جنسيًّا عندما يكبرون.

  • أن الأفراد المصابين بالفصام لديهم شخصيات «متعددة».

  • أن الناس يميلون إلى الإتيان بسلوكيات غريبة في أوقات اكتمال القمر.

مع ذلك سنعلم في هذا الكتاب أن كل هذه «الحقائق» الست هي خيالات في واقع الأمر. فمع أن صناعة علم النفس الشعبي يمكن أن تكون مصدرًا نفيسًا للمعلومات المتعلقة بالسلوك الإنساني، فإن ما بها من معلومات خاطئة يساوي على الأقل ما تضمه من معلومات صحيحة (ستانوفيتش، ٢٠٠٧؛ أوتال، ٢٠٠٣). ونحن نصطلح على تسمية هذه المجموعة الكبيرة من المعلومات الخاطئة باسم «علم الأساطير النفسية»؛ لأنها تتكون من مفاهيم مغلوطة وقصص مثيرة وحكايات خيالية ترويها العجائز تتعلق بعلم النفس. والمثير للدهشة أن عددًا قليلًا من الكتب الرائجة يخصص صفحات قليلة لدحض مزاعم علم النفس، وعددًا قليلًا من المصادر يقدم للقراء أدوات التفكير العلمي للتمييز بين الحقيقة والخيال في علم النفس. ونتيجة لذلك يعرف أفراد كثيرون — حتى خريجو الجامعة الذين يتخصصون في علم النفس — قدرًا معقولًا من المعلومات عما هو حقيقي فيما يتعلق بالسلوك الإنساني، لكنهم لا يعرفون الكثير عما هو خاطئ (تشو، ٢٠٠٤؛ ديلا سالا، ١٩٩٩، ٢٠٠٧؛ هيركولانو-هوزيل، ٢٠٠٢؛ ليلينفيلد، ٢٠٠٥).

وقبل التعمق في هذا الموضوع يجب أن نقدم بضع كلمات لبث الاطمئنان؛ فإن كنت اعتقدت فيما مضى في صحة الخرافات التي قدمناها جميعها، فليس هناك سبب للشعور بالخجل، لأنك لست الوحيد؛ حيث توضح الدراسات أن كثيرًا من عامة الناس أو معظمهم (فورهام، كالاهان، ورولز، ٢٠٠٣؛ ويلسون، جرين ولوفتس، ١٩٨٦)، بالإضافة إلى طلاب علم النفس المبتدئين (براون، ١٩٨٣؛ تشيو، ٢٠٠٤؛ جاردنر ودالسينج، ١٩٨٦، لامال، ١٩٧٩؛ ماكتشون، ١٩٩١؛ تيلور وكاولوسكي، ٢٠٠٤؛ فوجان، ١٩٧٧)، يصدقون هذه الخرافات وغيرها عن علم النفس؛ بل يصدقها بعض أساتذة علم النفس أيضًا (جاردنر وهاند، ١٩٨٣).

وإن كنت لا تزال تشعر بشيء من عدم الاطمئنان تجاه «معدل ذكائك في علم النفس» فيجب أن تعرف أن الفيلسوف اليوناني أرسطو (٣٨٤–٣٢٢ ق.م) — الذي اعتبره الجميع أذكى البشر الذين عاشوا على وجه الأرض — كان يظن أن المشاعر تنبع من القلب، لا من العقل، وأن النساء أقل ذكاءً من الرجال. بل إنه اعتقد كذلك أن عدد الأسنان عند النساء أقل منها عند الرجال! وأخطاء أرسطو تذكرنا بأن درجة الذكاء العالية لا تقي المرء من تصديق خرافات علم النفس. والحقيقة أن من الأفكار الرئيسية لهذا الكتاب أننا يمكننا جميعًا أن نقع ضحية للمزاعم النفسية الخاطئة ما لم نكن مسلحين بالمعرفة الدقيقة، وذلك صحيح اليوم تمامًا كما كان في الماضي.

في الحقيقة، خلال فترة طويلة من القرن التاسع عشر، كان «علم فراسة الدماغ»، وهو واحد من تخصصات علم النفس، بدعة ذات جماهيرية واسعة في سائر أنحاء أوروبا وأمريكا (جرينبلات، ١٩٩٥؛ ليهي وليهي، ١٩٨٣). وقد اعتقد أخصائيو فراسة الدماغ في وجود قدرات نفسية خاصة للغاية، مثل القدرة على قول الشعر وحب الأطفال وتقدير الألوان والتدين، في مناطق معينة من المخ، وأن بإمكانهم رصد السمات الشخصية للأفراد عن طريق قياس أنماط النتوءات في جماجمهم (إذ اعتقدوا خطأ أن المناطق المتضخمة في المخ تتسبب في انبعاجات في الجمجمة). وقد تراوح مدى القدرات النفسية الذي حدده علماء الفراسة حسبما اعتقدوا من ٢٧ إلى ٤٣. وانتشرت في أماكن عديدة «قاعات» فراسة الدماغ التي يُسمح فيها للزبائن المدفوعين بحب الاستطلاع بالخضوع لقياس جماجمهم وسماتهم الشخصية، وهذا ما أدى إلى ظهور العبارة الشهيرة التي لا تزال موجودة إلى اليوم «فحص الرأس». ومع ذلك تبين أن علم فراسة الدماغ واحد من الأمثلة الصارخة على خرافات علم النفس ولكن على نحو موسع، إذ بينت الدراسات أن تلف مناطق الدماغ التي حددها علماء الفراسة لا يسبب مطلقًا النقائص النفسية التي كانوا يتنبئون بها بثقة تامة. وعلى الرغم من أن علم فراسة الدماغ — المصور على غلاف هذا الكتاب — لا وجود له الآن، فهناك مجموعة كبيرة من الأمثلة الأخرى على خرافات علم النفس لا تزال موجودة ومتقدة في الأذهان.

سوف نساعدك في هذا الكتاب على تمييز الحقيقة من الخيال في علم النفس الشعبي، ونقدم لك مجموعة من مهارات محو الخرافات لتقييم الادعاءات الذائعة في علم النفس على أساس علمي. ولن ندحض فقط الخرافات المنتشرة عن علم النفس الشعبي، بل سنشرح أيضًا ما وجدناه صحيحًا في كل مجال من مجالات المعرفة. وإننا لنأمل أن نقنعك أن الادعاءات التي تدعمها الأدلة العلمية فيما يخص السلوك الإنساني تتميز بأنها مشوقة بنفس قدر الادعاءات المغلوطة، بل أكثر إثارة للدهشة منها.

وليس معنى ذلك القول بضرورة التخلي عن كل شيء تخبرنا به صناعة علم النفس الشعبي. فالعديد من كتب مساعدة الذات تشجعنا على تحمل مسئولية أخطائنا بدلًا من أن نلوم الآخرين عليها، وأن نهيئ بيئة دافئة وداعمة لأطفالنا، وأن نعتدل في تناول الأطعمة وأن ننتظم في ممارسة التدريبات الرياضية، وأن نعتمد على أصدقائنا وغيرهم من مصادر الدعم الاجتماعي عندما نشعر بالإحباط. وهذه على كل حال نصائح صغيرة حكيمة، حتى لو عرفت منذ قديم الأزل.

ولكن المشكلة أن صناعة علم النفس الشعبي غالبًا ما تُدخل وسط هذه النصائح إيحاءات تتحدى الأدلة العلمية (ستانوفيتش، ٢٠٠٧؛ ويد، ٢٠٠٨؛ ويليام وسيسي، ١٩٩٨). على سبيل المثال: يحثنا دائمًا بعض علماء النفس المشاهير ممن يظهرون في البرامج الحوارية على أن «نتبع قلوبنا» في العلاقات الرومانسية، على الرغم من أن هذه النصيحة يمكن أن تؤدي بنا إلى اتخاذ قرارات سيئة متعلقة بالعلاقات الشخصية (ويلسون، ٢٠٠٣). وقد روج عالم النفس المشهور على شاشات التليفزيون، دكتور فيل ماكجرو (الشهير ﺑ «دكتور فيل»)، لاختبار كشف الكذب في برنامجه التليفزيوني كوسيلة لإيجاد الطرف الكاذب في العلاقة الرومانسية (ليفينسون، ٢٠٠٥). مع ذلك، وكما سنعرف فيما بعد (انظر الخرافة رقم ٢٣)، توضح الأدلة العلمية أن اختبار كشف الكذب يمكن أن يكون أي شيء إلا أن يكون كاشفًا معصومًا من الخطأ للحقيقة (لايكن، ١٩٩٨، روشيو، ٢٠٠٥).

(٢) علم النفس النظري

كما أشار واضع نظريات الشخصية، جورج كيلي (١٩٥٥)، نحن جميعًا أخصائيون في علم النفس النظري؛ فنحن لا نكف عن السعي إلى فهم السبب الذي يجعل أصدقاءنا وأفراد أسرنا ومحبينا والغرباء عنا يلقون علينا باللوم، ونجتهد لفهم سبب فعلهم لما يفعلون. بالإضافة إلى ذلك، يمثل علم النفس جزءًا لا يمكن الهروب منه من حياتنا اليومية، فسواء أكان ذلك في علاقاتنا العاطفية أم علاقات الصداقة أم الانفعالات العاطفية أم مشكلات النوم أم الأداء في الاختبارات أم صعوبات التكيف، فإن علم النفس يحيط بنا من جميع الجهات. والصحافة الشعبية تمطرنا كل يوم بادعاءات تخص تطور العقل والتربية والتعليم والجنس واختبار الذكاء والذاكرة والجريمة وإدمان العقاقير والاضطرابات النفسية والعلاج النفسي، وسلسلة لا حصر لها من الموضوعات الأخرى. وفي معظم الحالات نضطر إلى قبول هذه الادعاءات اعتمادًا فقط على حسن الظن وبدون برهان أو تحقق، لأننا لم نكتسب مهارات التفكير العلمي التي تمكننا من تقييمها والحكم على صحتها. وكما ذَكَّرنا سيرجيو ديلا سالا، صاحب لقب مُحطم خرافات علم الأعصاب (١٩٩٩): «هناك وفرة في الكتب الموجهة للأشخاص حسني الظن الذين يصدقون بسهولة، وهي تحقق مبيعات هائلة.»

وهذا عيب خطير، لأن كثيرًا من ادعاءات علم النفس الشعبي ليس له أدلة، مع أن بعضها يحظى بأدلة قوية (فورناهام، ١٩٩٦). في الواقع، جزء كبير من علم النفس اليومي يتكون مما أسماه عالم النفس بول ميل (١٩٩٣) «استنتاجات شخصية»؛ أي افتراضات خاصة بالسلوك الإنساني تقوم على الحدس فقط. ويخبرنا تاريخ علم النفس بحقيقة لا تشوبها شائبة، وهي أنه على الرغم من أن الحدس يمكن أن يكون عظيم الفائدة في وضع فروض جدلية يجب تجربتها باستخدام مناهج البحث الدقيقة، فإنه غالبًا يكون معيبًا بصورة مفجعة إذا اتخذناه وسيلة لتحديد مدى صحة هذه الافتراضات (مايرز، ٢٠٠٢؛ ستانوفيتش، ٢٠٠٧). ويمكن أن يرجع ذلك، بدرجة كبيرة، إلى أن العقل البشري قد تطور ليفهم العالم من حوله، لا ليفهم نفسه، وهي معضلة أسماها الكاتب العلمي جاكوب برونوفسكي (١٩٦٦) «الانعكاسية». ومما يزيد الأمور سوءًا أننا نختلق غالبًا تفسيرات معقولة ظاهريًّا، لكنها خاطئة، لتبرير سلوكياتنا بعد أن تصدر عنا (نيسبت، ويلسون، ١٩٧٧). ونتيجة لذلك يمكننا أن نقنع أنفسنا بأننا نفهم أسباب سلوكياتنا حتى عندما لا يكون الحال كذلك.

(٣) علم النفس والمنطق البديهي

يرجع أحد أسباب وقوعنا فريسة سهلة لخرافات علم النفس إلى أنه يتفق مع المنطق البديهي: شكوكنا وحدسنا وانطباعاتنا الأولى. وفي الواقع، ربما تكون قد سمعت أن الجزء الأكبر من علم النفس هو «منطق بديهي ليس إلا» (فورناهام، ١٩٨٣؛ وهيستون، ١٩٨٥؛ ميرفي، ١٩٩٠). ويوافق كثير من العلماء الثقات البارزين على ذلك، ويحثوننا على الثقة في منطقنا البديهي عند الحديث عن تقييم الادعاءات. إن مقدم البرامج الحوارية الإذاعي الشهير، دينيس بريدجر، مولع بإخبار مستمعيه أن «هناك نوعين من الدراسات في العالم: تلك التي تدعم المنطق البديهي السليم والأخرى الخاطئة.» وربما تكون آراء بريدجر عن المنطق البديهي قد شاركه فيها أفراد كثيرون من العامة:

استخدم المنطق البديهي. في أي وقت تسمع فيه عبارة «توضح الدراسات» — خارج نطاق العلوم الطبيعية — وتجد أن هذه الدراسات توضح عكس ما يشير إليه المنطق البديهي، عليك أن تشك فيها. وأنا لا أذكر مطلقًا أنني صادفت دراسة صحيحة تخالف المنطق البديهي. (براجر، ٢٠٠٢، ص١)

على مدار قرون عديدة أخذ كثير من العلماء والفلاسفة والكتاب العلميين البارزين يحثوننا على الوثوق في التفكير المنطقي البديهي (فورنهام، ١٩٩٦؛ جيندرو، جوجين، كولين وباباروزي، ٢٠٠٢). وقد قال الفيلسوف الاسكتلندي توماس ريد، الذي عاش في القرن الثامن عشر، إننا ولدنا جميعًا ولدينا غرائز حدسية للمنطق البديهي، وتلك الغرائز هي أفضل وسيلة للوصول إلى الحقائق الأساسية عن العالم. وحديثًا دعا الكاتب العلمي الشهير جون هورجان (٢٠٠٥) في افتتاحية في جريدة نيويورك تايمز، إلى العودة إلى المنطق البديهي في تقييم النظريات العلمية، بما في ذلك تلك النظريات الخاصة بعلم النفس. فعند هورجان، كثير من نظريات الفيزياء وغيرها من مجالات العلم الحديث تناقض المنطق البديهي السليم، وهي نزعة وجدها هورجان مقلقة ومزعجة بشدة. بالإضافة إلى ذلك، شهدت الأعوام العديدة الماضية وفرة في الكتب الشهيرة — بل والأكثر مبيعًا — التي تدعم قوة الحدس والأحكام الفورية (جيجرينزر، ٢٠٠٧؛ جلادويل، ٢٠٠٥). وتؤكد معظم هذه الكتب على محدودية التفكير المنطقي البديهي في تقييم حقيقة الادعاءات العلمية، مع ذلك تنتهي إلى أن علماء النفس قد جرت عادتهم على الاستخفاف بصحة أحاسيسنا الداخلية.

ولكن كما أشار الأديب الفرنسي فولتير (١٧٦٤): «المنطق البديهي السليم غير شائع كثيرًا.» وعلى عكس ما يراه دينيس بريجر، فدراسات علم النفس التي تُسقط المنطق البديهي تكون صحيحة أحيانًا. وأحد الأهداف الأساسية لهذا الكتاب هو تشجيعك على «الشك» في المنطق البديهي عند الحكم على صحة الادعاءات النفسية. ينبغي لك، كقاعدة عامة، أن تراجع الأدلة البحثية، لا الحدس، عند الحكم على صحة أحد الادعاءات العلمية. وتشير الأبحاث إلى أن الأحكام المتعجلة غالبًا تساعد على تقييم الأفراد وعلى التنبؤ بما نحب وما نكره، (أمبادي وروزينثال، ١٩٩٢؛ ليرر، ٢٠٠٩؛ ويلسون، ٢٠٠٤) لكنها تعوزها الدقة كثيرًا عند تقييم دقة نظريات علم النفس أو تأكيداته، وسندرك بعد قليل سبب ذلك.

وكما قال العديد من الكتاب العلميين، بمن فيهم لويس ولبرت (١٩٩٢) وآلان كرومر (١٩٩٣)، فالعلم منطق لا يقوم على البديهة. بعبارة أخرى، يتطلب العلم أن ننحي المنطق البديهي جانبًا عند تقييم الأدلة (فليدجيل وجيندرو، ٢٠٠٨؛ جيندرو وآخرون، ٢٠٠٢). ولكي نفهم العلوم، بما فيها علم النفس، يجب أن ننصت إلى نصيحة الكاتب الأمريكي الساخر الكبير، مارك توين، التي تقول إننا بحاجة إلى نسيان عادات التفكير القديمة، على الأقل بنفس القدر الذي نحتاج إليه لتعلم عادات جديدة. ولعل أكثر ما نحتاج إلى محوه يتمثل في ميل طبيعي داخل كل منا إلى افتراض صحة حدسنا (بينز، ٢٠٠٨).

لا شك أن ما ينطوي عليه علم النفس الشعبي من حكمة ليس كله خطأ؛ فمعظم الناس يرون أن الموظفين السعداء ينجزون قدرًا من العمل أكبر مما ينجزه الموظفون التعساء، وتوضح أبحاث علم النفس صحة ذلك (كلوجر وتيكوتشينسكي، ٢٠٠١). مع ذلك، كثيرًا ما وجد العلماء — بمن فيهم علماء التحليل النفسي — أننا لا يمكننا أن نثق دائمًا في منطقنا البديهي (كاتشوبو، ٢٠٠٤؛ ديلا سالا، ١٩٩٩، ٢٠٠٧؛ جيندرو وآخرون، ٢٠٠٢؛ أسبيرج، ١٩٩١؛ أوتال، ٢٠٠٣). ومن أسباب ذلك أن ملاحظاتنا الأولية وأفكارنا غير المدروسة يمكن أن تخدعنا.

لا أدل على ذلك من أنه طوال قرون عديدة لم يكن الإنسان يعتقد فحسب أن الأرض مسطحة — فهي تبدو كذلك بكل تأكيد عندما نسير عليها — بل اعتقد أيضًا أن الشمس هي التي تدور حول الأرض، وهي «حقيقة» بدت واضحة وبديهية للجميع؛ إذ إننا مع كل إشراقة شمس جديدة نراها وقد أضاءت السماء بقوس هائل ونحن ثابتون تمامًا فوق سطح الأرض. لكن في هذه الحالة فإن أعين المشاهدين كانت تخدعهم، وحسبما دون المؤرخ العلمي دانيال بورستين (١٩٨٣):

ليس هناك ما هو أكثر وضوحًا من أن الأرض ثابتة وغير متحركة، ومن أننا مركز الكون. ينطلق العلم الغربي الحديث من رفض هذه المسلمة التي تقوم على المنطق البديهي … إن المنطق البديهي الواضح — أساس الحياة اليومية — لم يعد يصلح بعد الآن لإدارة العالم. (ص٢٩٤)

fig10
شكل ١: رسم تخطيطي من دراسة مايكل ماكلوسكي (١٩٨٣). ما المسار الذي ستتخذه الكرة بعد أن تخرج من المدار الحلزوني؟ (المصدر: ماكلوسكي (١٩٨٣).)
ولنتأمل مثالًا آخر: في الشكل ١ سترى رسمًا من دراسة أجراها مايكل ماكلوسكي (١٩٨٣)، الذي طلب من طلاب الجامعة التنبؤ بمسار كرة خرجت توًّا من مدار حلزوني ملتف. أخطأ ما يقرب من نصف الطلاب في التنبؤ فقالوا إن الكرة ستستمر في التحرك في حركة حلزونية بعد الخروج من المسار الحلزوني، كما هو موضح في الجانب الأيسر من الشكل (الحقيقة هي أن الكرة ستتحرك حركة مستقيمة بعد الخروج، كما هو موضح في الجانب الأيمن من الشكل.) لجأ هؤلاء الطلاب عادة إلى مفاهيم المنطق البديهي مثل «القوة الدافعة» وذلك عند تبرير أجوبتهم (ومن أمثلة تلك الأجوبة: «بدأت الكرة الحركة في طريق بعينه، لذا ستستمر في المضي في ذلك الطريق فحسب.») وبقيامهم بذلك بدا أنهم جميعًا تعاملوا مع الكرة على أنها شخص، تمامًا كما هو الحال مع راقص على الجليد يبدأ في الدوران على الجليد ثم يستمر في الدوران. وفي هذه الحالة فإن هؤلاء الطلاب خانهم حدسهم.
fig11
شكل ٢: منضدتا شيبرد. هل يتطابق سطحا المنضدتين أم يختلفان؟ (المصدر: شيبرد (١٩٩٠).)
بإمكاننا كذلك أن نرى مثالًا شائقًا آخر في الشكل ٢، الذي تظهر به «منضدتا شيبرد»، وهو مأخوذ عن أخصائي علم النفس المعرفي روجر شيبرد (١٩٩٠). ألقِ نظرة متأنية على المنضدتين الظاهرتين في الشكل، واسأل نفسك: أي سطح من سطحي المنضدتين له مساحة أكبر من الآخر؟ تبدو الإجابة واضحة للوهلة الأولى.

لكن صدق أو لا تصدق، فسطحا المنضدتين متطابقان تمام التطابق (إن كنت لا تصدقنا، انسخ هذه الصفحة بالتصوير الضوئي وقص الشكلين منها وضع أحدهما فوق الآخر.) فكما أننا لا ينبغي لنا أن نثق دائمًا في إبصارنا لا ينبغي لنا أن نثق ثقة دائمة في حدسنا. وبذلك فخلاصة القول هي أن الإنسان لا يصدق إلا ما تراه عينه، ولكن هذا لا يعني أن الرؤية تعني سلامة الاعتقاد أو أن ما تراه العين يكون صحيحًا دائمًا.

تقدم لنا منضدتا شيبرد أحد أشكال الخداع البصري القوية؛ فهي صورة تخدع حاسة الإبصار لدينا. على الرغم من ذلك وفي الجزء المتبقي من هذا الكتاب، سنلتقي بمجموعة متنوعة من أشكال الخداع المعرفي، وهي المعتقدات التي تخدع عمليات التفكير المنطقي البديهي عندنا (بوهل، ٢٠٠٤). يمكننا أن ننظر إلى كثير من خرافات علم النفس أو إلى معظمها على أنها أشكال من الخداع المعرفي، إذ إنها يمكن أن تخدعنا، مثلها مثل أنماط الخداع البصري.

(٤) لماذا يتعين علينا الاهتمام؟

لماذا يعد من المهم التعرف على الخرافات النفسية؟ هناك ثلاثة أسباب على الأقل:
  • (١)

    «الخرافات النفسية يمكن أن تكون بالغة الضرر.» فمثلًا، أعضاء هيئة المحلفين الذين يعتقدون خطأ أن الذاكرة تعمل مثل شريط الفيديو ربما يتخذون قرارًا بإدانة مدعى عليه على أساس شهادة من شاهد عيان يتمسك بشهادته بشدة على الرغم من عدم صحتها (انظر الخرافة رقم ١١). وكذلك الآباء والأمهات الذين يعتقدون خطأً أن العقاب البدني غالبًا يكون وسيلة فعالة في تغيير السلوك على المدى البعيد ربما يشرعون في معاقبة أطفالهم متى أساءوا التصرف، ليجدوا في النهاية أن أفعال أطفالهم غير المرغوبة تصبح مع مرور الوقت أكثر تكرارًا (انظر قسم «خرافات أخرى تستحق الدراسة»، الفصل الرابع).

  • (٢)

    «الخرافات المتعلقة بعلم النفس يمكن أن تسبب ضررًا غير مباشر.» فحتى المعتقدات الزائفة التي لا ضرر فيها نفسها يمكن أن تؤدي إلى ضرر كبير غير مباشر. يستخدم علماء الاقتصاد مصطلح «تكلفة الفرصة» للإشارة إلى أن الأفراد الذين يسعون إلى العثور على علاجات غير فعالة قد يفقدون فرصة الحصول على مساعدة شديدة الأهمية لهم. على سبيل المثال: الأفراد الذين يعتقدون خطأً في فعالية أشرطة مساعدة الذات التي تعمل على مستوى اللاوعي في إنقاص الوزن ربما ينفقون جزءًا كبيرًا من وقتهم وأموالهم وجهدهم على علاج لا فائدة منه (مور، ١٩٩٢؛ انظر الخرافة رقم ٥). وربما يفقدون كذلك فرصة الاعتماد على برامج إنقاص الوزن القائمة على أسس علمية التي يمكن أن تحقق فائدة كبيرة.

  • (٣)

    «قبول الخرافات النفسية يمكن أن يعيق تفكيرنا النقدي في جوانب أخرى.» فكما ذكر عالم الفلك كارل ساجان (١٩٩٥)، فإن إخفاقنا في تمييز الخرافة من الحقيقة في أحد ميادين المعرفة العلمية، مثل علم النفس، يمكن بسهولة تامة أن يتفاقم إلى إخفاق في تمييز الحقيقة عن الخيال في ميادين أخرى شديدة الأهمية داخل المجتمع الحديث. تتضمن هذه الميادين الهندسة الوراثية وأبحاث الخلايا الجذعية والاحتباس الحراري والتلوث ومنع الجريمة والتعليم ورياض الأطفال والزيادة السكانية، على سبيل المثال لا الحصر. ونتيجة لذلك ربما نجد أنفسنا خاضعين لهوى صانعي السياسات الذين يتخذون قرارات غير واعية بل خطيرة فيما يخص العلم والتكنولوجيا. وكما يذكرنا السيد فرانسيس بيكون؛ المعرفة قوة، والجهل ضعف.

(٥) المصادر العشرة للخرافات النفسية: أدوات محو الخرافات

كيف تنشأ الخرافات والأفكار النفسية المغلوطة؟

سنحاول أن نبين لك أن هناك عشر طرق رئيسية يمكن من خلالها أن ننخدع جميعًا بالادعاءات النفسية التي تبدو منطقية لكنها زائفة. ومن المهم أن ندرك أننا جميعًا عرضة لهذه المصادر العشرة للخطأ، وأننا ننخدع بها من وقت لآخر.

يتطلب تعلم التفكير العلمي أن نصبح على دراية بهذه المصادر، وأن نتعلم أن نجد بديلًا لها. وحتى العلماء الفضلاء عرضة لهذه المصادر تمامًا مثل الشخص العادي (ماهوني وديمونبريون، ١٩٧٧). غير أن العلماء الفضلاء تبنوا مجموعة من وسائل الحماية — التي يطلق عليها المنهج العلمي — لحماية أنفسهم من تلك المصادر، فالمنهج العلمي هو صندوق أدوات يحتوي على مهارات مصممة لمنع العلماء من خداع أنفسهم. فإذا صرت على دراية بهذه المصادر العشرة الرئيسية للخرافات المتعلقة بعلم النفس، فسيقل للغاية احتمال أن تقع في فخ قبول الادعاءات الكاذبة فيما يخص الطبيعة الإنسانية.

انتبه جيدًا إلى هذه المصادر العشرة للخطأ، لأننا سنعود إليها على نحو دوري طوال الكتاب. بالإضافة إلى ذلك، سيكون بمقدورك أن تستخدم هذه المصادر للحكم على مجموعة من ادعاءات علم النفس الشعبي الموجودة في حياتك اليومية. انظر إلى تلك المصادر على أنها «أدوات محو الخرافات» التي ستستخدمها طوال عمرك.

(٥-١) تناقل الأحاديث

ينتقل عدد كبير من معتقدات علم النفس الشعبي غير الصحيحة بين الأجيال المختلفة عن طريق التواصل اللفظي. من أمثلة ذلك، نظرًا لأن عبارة «الأضداد تتجاذب» أخاذة وسهلة التذكر، يميل الأفراد إلى نقلها إلى غيرهم. وعلى هذا النحو تتناقل كثير من الحكايات الشائقة والقصص المثيرة. فمثلًا، ربما تكون قد سمعت قصة التماسيح التي تعيش في نظام الصرف الصحي بمدينة نيويورك، أو عن السيدة الحمقاء حسنة النية التي وضعت جروها المبلل في فرن الميكروويف لكي تجففه لينفجر في النهاية. ولسنوات عديدة استعان المؤلف الأول لهذا الكتاب بقصة كانت قد قرعت أذنه مرات عديدة، وهي قصة سيدة اشترت ما اعتقدت أنه كلب أليف من فصيلة «شيواوا» ليخبرها الطبيب البيطري بعد أسابيع أن هذا الكلب ليس في الواقع سوى فأر عملاق. وعلى الرغم من أن هذه القصص ربما تصلح لأن تكون مدار حديث مثير على مائدة عشاء، فإن نصيبها من الحقيقة لا يزيد عن أي خرافة من الخرافات المتعلقة بعلم النفس التي سنقدمها في هذا الكتاب (برونفاند، ١٩٩٩).

لا يعني سماعنا لأحد الادعاءات التي تتكرر مرارًا وتكرارًا أن هذا الادعاء صحيح، لكنه يمكن أن يؤدي بنا إلى قبوله على أنه صحيح على الرغم من أنه ليس كذلك لأننا قد نخلط بين شيوع عبارة ما وبين صحة هذه العبارة (جيجرينزر، ٢٠٠٧). والمعلنون الذين يخبروننا على نحو متكرر أن «سبعة من بين كل ثمانية من أطباء الأسنان الذين أُجريت عليهم دراسة فضلوا معجون أسنان «برايتشاين» على كل أنواع المعجون الأخرى!» يستغلون ذلك المبدأ بلا هوادة. بالإضافة إلى ذلك، توضح الأبحاث أن سماع شخص واحد يعبر عن رأي ما (مثل أن يقول شخص ما: «جون سميث هو أكثر الأشخاص أهلية لتولي منصب الرئيس!») ١٠ مرات يمكن أن يؤدي بنا إلى أن نفترض أن هذا الرأي له درجة الانتشار تمامًا كسماع ١٠ أشخاص يعبرون عن ذلك الرأي مرة واحدة (ويفر، جارسيا، شوارتس وميلر، ٢٠٠٧). إننا غالبًا نصدق ما نسمعه، لا سيما عندما نسمع عبارة ما مرات ومرات.

(٥-٢) الرغبة في الأجوبة السهلة والحلول السريعة

لنواجه هذه الحقيقة: لا شك أن الحياة اليومية ليست سهلة، حتى عند الأفراد الأكثر تأقلمًا مع ظروف الحياة. فكثيرون منا يحاولون جاهدين العثور على طرق لإنقاص الوزن، والحصول على قسط كاف من النوم، والأداء الجيد في الامتحانات، والاستمتاع بالوظيفة، والعثور على شريك حياة رومانسي. وليس غريبًا أننا نتشبث بالأساليب التي توفر لنا وعودًا قاطعة بالتغيرات السلوكية السريعة غير المؤلمة. على سبيل المثال: تتمتع الأنظمة الغذائية المبتدعة بشهرة جارفة، مع أن الأبحاث توضح أن الغالبية العظمى من الأفراد الذين يتبعون تلك الأنظمة يعاودون اكتساب الأوزان التي فقدوها في غضون بضعة أعوام (براونيل ورودين، ١٩٩٤). وبنفس الطريقة تتمتع دورات تعلم القراءة السريعة بالدرجة نفسها من الشهرة، والعديد منها يعد بأن يزيد سرعة الأفراد في القراءة من ١٠٠ أو ٢٠٠ كلمة فقط في الدقيقة الواحدة إلى ١٠٠٠٠ بل إلى ٢٥٠٠٠ كلمة في الدقيقة (كارول، ٢٠٠٣). مع ذلك وجد الباحثون أنه لا يوجد دورة واحدة من هذه الدورات تزيد سرعة القراءة عند الأفراد دون إنقاص قدرتهم على فهم ما يقرءونه (كارفر، ١٩٧٨). زد على ذلك أن معظم سرعات القراءة المعلن عنها في تلك الدورات تتجاوز الحد الأقصى لسرعة القراءة بمقلة العين الآدمية، التي تصل إلى ٣٠٠ كلمة في الدقيقة الواحدة (كارول، ٢٠٠٣). وهذه كلمة إلى العقلاء: إذا بدا أن شيئًا ما أروع من أن يكون حقيقيًّا فهو كذلك على الأرجح (ساجان، ١٩٩٥).

(٥-٣) الإدراك الانتقائي والذاكرة الانتقائية

كما عرفنا سابقًا، نحن نادرًا ما ندرك الحقيقة كما هي تمامًا؛ فنحن نراها من خلال مجموعة عدساتنا التي تشوه الرؤية. هذه العدسات مغلفة بميولنا وآمالنا التي تؤدي بنا إلى أن نفسر العالم وفق معتقداتنا الموجودة سلفًا. مع ذلك، فالغالبية العظمى من بيننا تغفل عن غير قصد كيف أن هذه المعتقدات تؤثر في مفاهيمنا. وقد اصطلح عالم النفس لي روز وغيره على تسمية الافتراض الخاطئ المتمثل في أننا نرى العالم رؤية دقيقة باسم «الواقعية الساذجة» (روز ووارد، ١٩٩٦). لا تجعلنا الواقعية الساذجة عرضة للخرافات المتعلقة بعلم النفس فحسب، بل تقلل من قدرتنا على النظر إلى تلك الخرافات على أنها خرافات في المقام الأول.

أحد الأمثلة القوية على الإدراك والذاكرة الانتقائيين هو ميلنا إلى التركيز على «الأحداث الشائقة» — الأحداث المتزامنة التي تعلق بالذاكرة — وليس التركيز على «الأحداث التافهة»، أي غياب الأحداث المتزامنة التي تعلق بالذاكرة. لفهم هذه النقطة، ألق نظرة على الجدول ١ الذي يظهر فيه ما نسميه «جدول الحياة الرباعي الكبير»، فكثير من أحداث الحياة اليومية يمكن ترتيبها في جدول رباعي مثل الجدول السابق. ولننظر مثلًا إلى قضية هل يرتبط القمر المكتمل بحالات دخول مستشفيات الأمراض النفسية، كما يشيع ذلك على ألسنة أطباء غرف الطوارئ والممرضات؟ (انظر الخرافة رقم ٤٢) للإجابة عن هذا السؤال نحتاج إلى فحص خانات الجدول الأربع جميعها: الخانة «أ» تعبر عن حالات اكتمال القمر مع دخول مستشفيات الأمراض النفسية. والخانة «ب» تعبر عن حالات اكتمال القمر مع عدم وجود حالات دخول مستشفى أمراض نفسية. أما الخانة «ﺟ» فتعبر عن حالات عدم اكتمال القمر ووجود حالات دخول مستشفيات الأمراض النفسية. وتشير الخانة «د» إلى عدم اكتمال القمر وعدم وجود حالات دخول مستشفيات الأمراض النفسية. يتيح لك استخدام الخانات الأربع جميعًا حساب «الارتباط» بين مرات اكتمال القمر وحالات دخول مستشفيات الأمراض النفسية، والارتباط هو قياس إحصائي لمدى ارتباط هذين المتغيرين (كلمة متغير هي مصطلح يشير إلى أي شيء يتغير، مثل الطول أو لون الشعر أو معامل الذكاء أو درجة الانبساط).
جدول ١: جدول الحياة الرباعي الكبير. في معظم الحالات نصب اهتمامنا على الخانة «أ»، وهذا قد يؤدي إلى حدوث ارتباط وهمي.
دخول مستشفيات الأمراض النفسية عدم دخول مستشفيات الأمراض النفسية
قمر مكتمل أ ب
قمر غير مكتمل د

هنا تكمن المشكلة، ففي الحياة الواقعية غالبًا نتسم بالضعف الشديد في تقدير الارتباطات من خلال «جدول الحياة الرباعي الكبير»، ويرجع ذلك إلى أننا نهتم اهتمامًا كبيرًا بخانات معينه ولا نوجه الاهتمام الكافي لخانات أخرى. والأبحاث توضح على نحو خاص أننا عادة نمعن في الاهتمام بالخانة «أ»، ولا نوجه اهتمامًا كافيًا للخانة «ب» (جيلوفيتش، ١٩٩١). ولا عجب في ذلك، لأن الخانة «أ» عادة تكون أكثر إثارة وأهمية من الخانة «ب». فعلى أي حال، كثرة عدد الأفراد الذين ينتهي بهم الحال داخل مستشفيات الأمراض النفسية عند اكتمال القمر تؤكد صحة توقعاتنا الأولية ولذلك نميل إلى ملاحظة هذا الأمر وتذكره وإخبار الآخرين به. الخانة «أ» تمثل «حدثًا مؤثرًا»، لكن عند اكتمال القمر وعدم دخول أحد لمستشفى الأمراض النفسية، فإننا لا نكاد نلاحظ أو نتذكر هذا «الحدث التافه»، كما أنه لا يحتمل مطلقًا أن نهرع في إثارة إلى أصدقائنا ونقول لهم: «يا للعجب، ثمة قمر مكتمل الليلة وتخيل ماذا حدث؟ لا شيء!» الخانة «ب» تشير إلى «حدث ضئيل»؛ هو غياب الحدث المصاحب المؤثر.

إن ميلنا إلى تذكر الأحداث العظام في حياتنا ونسيان الأحداث الصغار غالبًا يؤدي إلى ظاهرة ملحوظة يطلق عليها «الارتباط الوهمي»، وهي المفهوم المغلوط المتمثل في أن حادثين لا يرتبط أحدهما بالآخر من الناحية الإحصائية هما مرتبطان في حقيقة الأمر (تشابمان وتشابمان، ١٩٦٧). وإن العلاقة المزعومة بين حالات اكتمال القمر وحالات دخول المستشفيات النفسية لمثال حي على الارتباط الوهمي. وعلى الرغم من أن أناسًا كثيرين يثقون في وجود ذلك الارتباط، فإن الأبحاث تشير إلى عدم وجوده (روتن وكيلي، ١٩٨٥؛ انظر الخرافة رقم ٤٢). الاعتقاد في تأثير القمر المكتمل هو وهم معرفي إذن.

ويمكن أن تؤدي الارتباطات الوهمية بنا إلى أن «نتخيل» وجود مجموعة متنوعة من الارتباطات التي لا جود لها. ومن أمثلة ذلك أن أفرادًا كثيرين من المصابين بالتهاب المفاصل يصرون على أن درجة الألم التي يشعرون بها في مفاصلهم تزداد في الأجواء الممطرة عنها في الأجواء غير الممطرة. مع ذلك، توضح الدراسات أن هذا الارتباط إنما هو من نسج خيالاتهم (كويك، ١٩٩٩). على ما يبدو، فالأفراد المصابون بالتهاب المفاصل يمعنون في الاهتمام بالخانة «أ» في «جدول الحياة الرباعي الكبير» — حالات تساقط المطر وألم مفاصلهم — مما يؤدي إلى تخيل نوع من العلاقة غير الموجودة من الأساس. بالمثل، «تخيل» علماء فراسة الدماغ القدامى وجود علاقات وثيقة بين تلف مناطق دماغية معينة وقصور قدرات نفسية معينة، لكنهم كانوا مخطئين في ذلك تمامًا.

ثمة مثال آخر محتمل على الترابط الوهمي، وهو تخيل ارتباط حالات التوحد عند الأطفال بالتعرض المسبق للقاحات التي يدخل في تصنيعها الزئبق (انظر الخرافة رقم ٤١). والتوحد عند الأطفال هو حالة اضطراب نفسي خطيرة تتسم بوجود عيوب اجتماعية ولغوية خطيرة. وقد أظهر عدد كبير من الدراسات التي أجريت بعناية شديدة أنه لا توجد أي علاقة من أي نوع بين حدوث التوحد عند الأطفال والتعرض للحقن بلقاح الزئبق (جرنكر، ٢٠٠٧؛ معهد الطب الأمريكي، ٢٠٠٤؛ ليلينفيلد وأركوويتز، ٢٠٠٧)، على الرغم من أن عشرات الآلاف من آباء الأطفال المصابين بالتوحد وأمهاتهم على قناعة تامة بعكس ذلك. وأغلب الظن أن هؤلاء الآباء والأمهات تمعن في الاهتمام بالخانة «أ» في الجدول الرباعي. ولا يمكن إلقاء اللوم على هؤلاء الآباء والأمهات لفعلهم ذلك؛ إذ من الواضح أنهم كانوا يفعلونه في محاولة منهم لرصد حادثة — مثل التلقيح — يمكن من خلالها تفسير التوحد المصاب به أطفالهم. وربما يكون هؤلاء الآباء والأمهات قد وقعوا ضحية للحقيقة التي تقول: إن أول ظهور لأعراض التوحد — الذي غالبًا يكون بعد تجاوز الطفل العامين بقليل — يتزامن في أغلب الأحوال مع السن التي يتلقى فيها معظم الأطفال اللقاحات.

(٥-٤) استنتاج علاقة سببية من الارتباط

كثيرًا ما يغرينا — وإن كان هذا خاطئًا — أن نستنتج ارتباط شيئين بعلاقة سببية إذا أشارت الإحصاءات إلى حدوث هذين الشيئين في وقت واحد (أي إذا كان هذان الشيئان «مرتبطين»). وكما يقول علماء النفس: «الارتباط لا يعني علاقة سببية.» لذا، إذا كان المتغيران «أ» و«ب» مرتبطين فيمكن أن يكون هناك ثلاثة تفسيرات رئيسية لهذا الارتباط: (١) «أ» ربما يسبب «ب»، (٢) «ب» ربما يسبب «أ»، أو (٣) ربما يسبب متغير ثالث «ﺟ» كلًّا من «أ»، «ب». ويعرف الاحتمال الأخير باسم «معضلة المتغير الثالث»، إذ يجوز أن يكون المتغير «ﺟ» عاملًا مساعدًا على ارتباط المتغيرين «أ» و«ب». وتكمن المشكلة في أن الباحثين الذين أجروا الدراسة ربما لم يعمدوا إلى قياس المتغير «ﺟ» قط، بل ربما لم يسمعوا قط بوجوده.

ولنتناول مثالًا حيًّا: يوضح عدد كبير من الدراسات أن التعرض للاعتداء الجسدي في الطفولة يزيد احتمالات تحول المعتدى عليه إلى العنف عند البلوغ (ويدم، ١٩٨٩). وقد فسر باحثون كثيرون هذا الارتباط الإحصائي على أن به إشارة إلى أن التعرض للاعتداء الجسدي في الطفولة يتسبب في العنف الجسدي في سنوات الحياة التالية، ويطلق على هذا التفسير في حقيقة الأمر فرضية «دورة العنف»، ففي هذه الحالة يفترض الباحثون أن التعرض للاعتداء الجسدي في الطفولة «أ» يتسبب في العنف بعد البلوغ «ب». فهل هذا التفسير صحيح بالضرورة؟

لا شك أنه في هذه الحالة لا يمكن أن يتسبب «ب» في «أ»، نظرًا لأن «ب» وقع بعد «أ»، فأحد مبادئ المنطق الرئيسية يقول إن الأسباب يجب أن تسبق نتائجها. ولكننا لم نستبعد احتمال أن يفسر متغير ثالث «ﺟ» كلًّا من «أ» و«ب». النزعة الوراثية نحو العدوانية ربما تعد متغيرًا ثالثًا محتملًا، فربما يحمل الآباء والأمهات الذين يعتدون على أطفالهم بدنيًّا نزعة وراثية نحو العدوانية، ينقلونها إلى أطفالهم. وفي واقع الأمر، ثمة أدلة بحثية قوية على أن العدوانية تتأثر جزئيًّا بالجينات الوراثية (كروجر، هيكس وماكجيو، ٢٠٠١). وهذه النزعة الوراثية «ﺟ» يمكن أن تؤدي إلى ارتباط بين حادث الاعتداء الجسدي في الطفولة «أ»، وسمة العدوانية التي تظهر لاحقًا في الأفراد الذين تعرضوا لتلك الحوادث «ب»، وذلك على الرغم من أن «أ» و«ب» ليست بينهما علاقة سببية (ديلالا وجوتسمان، ١٩٩١). وبالمناسبة، ثمة احتمالات أخرى للمتغير «ﺟ» في هذه الحالة. (هل يمكنك أن تفكر في أي منها؟)

النقطة الرئيسية هنا أنه عندما يتلازم متغيران أو يرتبطان، لا ينبغي لنا بالضرورة أن نفترض وجود علاقة سببية مباشرة بينهما، فهناك تفسيرات أخرى محتملة.

(٥-٥) منطق «إذا وقع حدثان متتاليان، فالحدث التالي يكون بسبب الحدث الأول»

كثيرون منا يتعجلون الحكم بأنه ما دام «أ» يسبق «ب»، فلا بد إذن أن «أ» سبب في «ب». لكن كثيرًا من الأحداث التي تقع قبل أحداث أخرى لا تكون سببًا فيها، فمثلًا حقيقة أن جميع السفاحين تناولوا حبوب الإفطار (السيريل) أثناء طفولتهم لا يعني أن تناولها يؤدي إلى تحولهم إلى سفاحين عند البلوغ. بالمثل، لا يعني شعور بعض الأفراد بدرجة أقل من الاكتئاب بعد وقت قليل من تناولهم لعلاج عشبي أن هذا العلاج العشبي تسبب في تحسن حالتهم المزاجية أو حتى ساهم في ذلك، فربما يكون هؤلاء الأفراد قد صاروا أقل اكتئابًا دون تناول العلاج العشبي، أو ربما يكونون قد عمدوا إلى وسائل أخرى فعالة (مثل التحدث إلى معالج أو التماس المساندة عند أحد الأصدقاء) وذلك في الوقت نفسه تقريبًا الذي تناولوا فيه العلاج العشبي. وربما بث تناول العلاج العشبي إحساسًا بالأمل داخلهم، فأدى ذلك إلى ما يسميه علماء النفس «التأثير الوهمي»، وهو تحسن ناتج عن الأمل المجرد في التحسن ليس إلا.

العلماء المدربون أيضًا يمكن أن يقعوا فريسة لفرضية «الحدث التالي لا بد أن يكون بسبب الحدث الأول». ففي دورية «ميديكال هايبوثيسز» عبر فلينسمارك (٢٠٠٤) عن ملاحظته أن ظهور الأحذية في العالم الغربي قبل ١٠٠٠ عام قد تبعه بعد وقت قصير ظهور أول حالات الفصام. اقترح فلينسمارك من هذه النتائج أن الأحذية تقوم بدور في الإصابة بالفصام. لكن ظهور الأحذية قد يكون تزامن مع غيره من التغيرات، مثل زيادة التقدم أو زيادة ضغوط الظروف المعيشية، التي ربما تكون قد ساهمت على نحو أكثر وضوحًا في ظهور الفصام.

(٥-٦) التعرض لعينة منحازة

في وسائل الإعلام والعديد من جوانب الحياة اليومية، كثيرًا ما نتعرض لعينة غير عشوائية — أو ما يطلق عليه علماء النفس عينة «منحازة» — من مجموع السكان. فمثلًا، تصور برامج التليفزيون ما يقرب من ٧٥٪ من الأفراد المصابين بأمراض نفسية ذات مراحل متقدمة للغاية على أنهم يتسمون بالعنف (وال، ١٩٩٧)، على الرغم من أن النسبة الحقيقية للعنف بين هؤلاء المرضى تقل كثيرًا عن ذلك (تيبلن، ١٩٨٥؛ انظر الخرافة رقم ٤٣). مثل هذه التغطية الإعلامية غير الصحيحة ربما تغذي الفكرة الخاطئة المتمثلة في أن معظم الأفراد المصابين بالفصام والاضطراب ثنائي القطب (الذي أطلق عليه فيما مضى الاكتئاب الهوسي) وغيرها من الأمراض النفسية الخطيرة يشكلون خطرًا من الناحية البدنية.

وقد يكون المعالجون النفسيون تحديدًا أكثر عرضة للوقوع في هذا الخطأ، ذلك أنهم يقضون الجزء الأكبر من حياتهم العملية مع مجموعة غير نمطية من الأفراد، وهم بالتحديد الأفراد الذين يخضعون لعلاج نفسي. ومن الأمثلة على ذلك أن الكثير من المعالجين النفسيين يعتقدون أن الناس يجدون صعوبة هائلة في الإقلاع عن التدخين من تلقاء أنفسهم. مع ذلك، توضح الأبحاث أن مدخنين كثيرين، إن لم يكن غالبية المدخنين، تمكنوا من التوقف عن التدخين دون الاستعانة بأي علاج نفسي منهجي (شاتر، ١٩٨٢). ويحتمل أن هؤلاء المعالجين النفسيين يقعون فريسة لما اصطلح على تسميته عالما الإحصاء، باتريشيا وجاكوب كوهين (١٩٨٤) «وَهْم الأطباء السريريين»، وهي نزعة الأطباء الممارسين إلى المبالغة في تقدير فترة دوام المشكلة النفسية، وذلك بسبب تعرضهم الانتقائي لعينة من المصابين بأمراض مزمنة. ويعني ذلك أن الأطباء السريريين يميلون إلى المبالغة في تقدير درجة الصعوبة التي يواجهها المدخنون في الإقلاع عن التدخين دون علاج، لأنه يغلب عليهم رؤية مثل هؤلاء الأشخاص الذين لا يمكنهم الإقلاع عن التدخين بمفردهم، وإلا لما استعانوا بطبيب أصلًا.

(٥-٧) التفكير بمنطق درجة التمثيل

نقيم التشابه غالبًا بين شيئين على أساس التماثل الظاهري بينهما. ويطلق علماء النفس على هذه الظاهرة «المنهج الاستكشافي القائم على التماثل» (تفريسكي وكاهنمان، ١٩٧٤)؛ نظرًا لأننا نستخدم مدى «تمثيل» شيئين لأحدهما الآخر لكي نقدر درجة التشابه بينهما. وبالمناسبة، مصطلح «المنهج الاستكشافي» يشير إلى طريق عقلي مختصر أو مبدأ إرشادي قائم على التجربة.

في أغلب الأحيان يمثل «المنهج الاستكشافي القائم على التماثل»، كغيره من المناهج الاستكشافية، فائدة كبيرة لنا (جيجرينزر، ٢٠٠٧)، فإذا كنا نسير في الشارع ورأينا رجلًا مقنَّعا يعدو خارجًا من أحد المصارف ويمسك بيديه بندقية، فربما حاولنا الابتعاد عن طريقه بأسرع ما يمكن. ويرجع ذلك إلى أن ذلك الرجل «يمثل» — أي يشبه — سارقي المصارف الذين رأيناهم على شاشات التليفزيون والسينما. ولا شك أنه يمكن أن تكون هذه مزحة أو أن يكون هذا الرجل ممثلًا في أحد أفلام الحركة في هوليوود الذي كان تصويره جاريًا في ذلك المكان، لكن الحرص أفضل من الندم بعد ذلك. ففي هذه الحالة اعتمدنا على «طريق عقلي مختصر»، وربما كان من الذكاء أن نفعل ذلك.

مع ذلك نطبق أحيانًا «المنهج الاستكشافي القائم على التماثل» في الوقت الذي لا يكون فيه علينا فعل ذلك. فليست جميع الأشياء التي يشبه بعضها بعضًا ظاهريًّا يرتبط بعضها ببعض. لذلك يؤدي بنا «المنهج الاستكشافي القائم على التماثل» أحيانًا إلى الخطأ (جيلوفيتش وسافيتسكي، ١٩٩٦). في هذه الحالة تصبح آلية الحدس والبديهة هي الصحيحة: فلا يمكننا دائمًا أن نحكم على الكتاب من عنوانه. والواقع أن العديد من الخرافات المتعلقة بعلم النفس ربما تنشأ من سوء تطبيق «المنهج الاستكشافي القائم على التماثل». على سبيل المثال: يدعي بعض علماء الخطوط (محللي خط اليد) أن الأفراد الذين تحتوي خطوط أيديهم على أحرف بينها مساحات واسعة عديدة يحتاجون بشدة إلى مساحة شخصية في علاقاتهم بالآخرين، أو أن الأفراد الذين يكتبون الشارطة التي تعلو الحرفين الإنجليزيين t وf على هيئة خطوط تشبه السوط يغلب على تصرفاتهم السادية. في هذه الحالة يفترض علماء الخطوط أن شيئين يشبه أحدهما الآخر تشابهًا ظاهريًّا، مثل الأحرف التي يوجد بينها مساحات واسعة والحاجة إلى مساحة في العلاقات الشخصية، يوجد بينهما ارتباط إحصائي. مع ذلك، ليس ثمة قدر طفيف من الدعم البحثي لهذه المزاعم (بايرستاين وبايرستاين، ١٩٩٢؛ انظر الخرافة رقم ٣٦).

يظهر مثال آخر في رسومات الجسم البشري التي يستخدمها كثير من علماء النفس السريريين لرصد السمات الشخصية للمشاركين في البحث وتشخيص الاضطرابات النفسية (واتكينز، كامبيل، نيبردينج وهولمارك، ١٩٩٥). وفي مهام رسم الجسم البشري، مثلها في ذلك مثل اختبار «رسم الشخص» الذي يتمتع بشهرة كبيرة، يطلب من الأفراد رسم شخص (أو شخصين مختلفي النوع في بعض الحالات) على النحو الذي يريدونه. يدعي بعض الأطباء السريريين الذين يستخدمون هذه الاختبارات أن المشاركين الذين يرسمون أفرادًا لهم عيون كبيرة مصابون بالبارانويا (جنون العظمة) وأن المشاركين الذين يرسمون أفرادًا لهم رءوس كبيرة نرجسيون (متصفون بالأنانية) وأن المشاركين الذين يرسمون أفرادًا لهم رابطات عنق طويلة ينشغلون انشغالًا قويًّا بالجنس (فربطة العنق الطويلة هي رمز استخدمه فرويد للإشارة إلى عضو التناسل الذكري.) وتقوم هذه الادعاءات جميعًا على تشابه سطحي بين «علامات» معينة في رسم الجسم البشري وخصائص نفسية معينة. مع ذلك لا تقدم الأبحاث أي دليل على هذه الارتباطات المزعومة (ليلينفيلد، وود وجارب، ٢٠٠٠؛ موتا، ليتل وتوبين، ١٩٩٣).

(٥-٨) الطرح المضلل للموضوعات في وسائل الإعلام والسينما

كثيرًا ما تتناول وسائل الإعلام الإخبارية والترفيهية ظواهر نفسية عديدة، خاصة الأمراض النفسية ووسائل علاجها، تناولًا تعوزه الدقة (بينز، ٢٠٠٨)، فوسائل الإعلام تقدم هذه الظواهر غالبًا على أنها أكثر إثارة مما هي في حقيقة الأمر. ولا أدل على ذلك من أن بعض الأفلام الحديثة تعالج موضوع «العلاج بالتشنج الكهربائي»، الذي يعرف بين عموم الناس باسم «العلاج بالصدمات الكهربائية»، على أنه طريقة علاج مؤلمة بدنيًّا وشديدة الخطورة (وولتر وماكدونالد، ٢٠٠٤). ففي بعض الحالات، كما في فيلم الرعب «منزل فوق التل المسكون» الذي عرض عام ١٩٩٩، يعاني الأفراد الذين يوثقون إلى آلات العلاج بالصدمات الكهربية من تشنجات عنيفة. وعلى الرغم من أن العلاج بالصدمات الكهربية كان خطيرًا فيما مضى، فالتقدم التكنولوجي الذي تحقق خلال العقود القليلة الماضية، مثل إعطاء المريض دواء مرخيًا للعضلات، قد جعل خطورته لا تتعدى خطورة التخدير (جلاس، ٢٠٠١؛ انظر الخرافة رقم ٥٠). بالإضافة إلى ذلك، لا يعاني المرضى الذين يخضعون للأشكال الحديثة من العلاج بالصدمات الكهربية أي تشنجات حركية ملحوظة.

ثمة مثال آخر على ما تفعله وسائل الإعلام، فمعظم أفلام هوليوود تقدم البالغين من المصابين بالتوحد على أنهم يمتلكون مهارات عقلية شديدة البراعة. ففي فيلم «رجل المطر» الذي عرض عام ١٩٨٨ وحاز جائزة الأوسكار، جسد داستن هوفمان دور رجل بالغ مصاب بالتوحد وتظهر عليه أعراض «متلازمة سافانت». تتسم هذه المتلازمة بقدرات عقلية مميزة، مثل «احتساب التواريخ» (القدرة على تحديد اسم يوم من أيام الأسبوع في أي سنة وأي تاريخ.) وكذلك ضرب الأرقام الكبيرة وقسمتها، فضلًا عن معرفة بعض الأمور والتفاصيل غير المهمة، مثل متوسطات تسجيل لاعبي دوري البيسبول الأمريكي الدائرة منافساته. مع ذلك فإن ١٠٪ فقط على الأكثر من البالغين المصابين بالتوحد يمتلكون هذه القدرات (ميلر، ١٩٩٩؛ انظر الخرافة رقم ٤١) (الشكل ٣).

(٥-٩) التهويل في التعبير عن جوهر الحقائق

بعض خرافات علم النفس ليست خاطئة تمامًا، لكنها تكون مبالغات في ادعاءات تحتوي على قدر ضئيل من الحقيقة. فمثلًا يكاد يكون من المؤكد أن كثيرين منا لا يستخدمون إمكاناتهم العقلية استخدامًا كاملًا. لكنّ هذه الحقيقة لا تعني أن الغالبية العظمى من بيننا تستخدم ١٠٪ فقط من قدراتها الذهنية كما يعتقد أفراد كثيرون في ذلك خطأً (بايرستاين، ١٩٩٩؛ ديلا سالا، ١٩٩٩؛ انظر الخرافة رقم ١). بالإضافة إلى ذلك، قد يكون صحيحًا أن وجود ولو القليل من الاختلافات في الاهتمامات والسمات الشخصية بين الطرفين في العلاقات الرومانسية يمكن أن «يؤجج» جذوة العلاقة. ويرجع ذلك إلى أن مشاركة شخص الحياة مع اتفاقه معك في كل شيء يمكن أن يجعل حياتكما العاطفية متناغمة، لكنها مملة على نحو ميئوس منه. مع ذلك، لا تعني هذه الحقيقة أن الأضداد تتجاذب (انظر الخرافة رقم ٢٧). غير أن هناك خرافات أخرى تتضمن المبالغة في تقدير الاختلافات الطفيفة. على سبيل المثال: على الرغم من أن الرجال والنساء يغلب عليهم الاختلاف الطفيف في أساليب التواصل، فقد بالغ بعض علماء النفس المشهورين، خاصة جون جراي، في طرح هذا القدر الضئيل من الحقيقة مدعيًا أن «الرجال من المريخ» و«النساء من الزهرة» (انظر الخرافة رقم ٢٩).

fig1
شكل ٣: المعالجة السينمائية للأفراد المصابين بالاضطراب التوحدي، مثل هذه المعالجة التي حاز عنها داستن هوفمان (إلى اليسار) جائزة الأوسكار عن دوره في فيلم «رجل المطر» الذي عرض عام ١٩٨٨، غالبًا ما تشير إلى امتلاك هؤلاء الأفراد قدرات عقلية متميزة. غير أن ١٠٪ فقط من الأفراد المصابين بالتوحد هم من يملكون هذه القدرات الفذة. (المصدر: موقع Alamy.)

(٥-١٠) الخلط بين المصطلحات

بعض مصطلحات علم النفس قد تؤدي إلى استنتاجات خاطئة عند سامعها. على سبيل المثال: كلمة «فصام» التي وضعها الطبيب النفسي السويسري يوجين بلولر (١٩١١) في بدايات القرن العشرين، تعني حرفيًّا «عقلًا منقسمًا». نتيجة لذلك يرى أفراد كثيرون خطأً أن الأشخاص المصابين بالفصام يمتلكون أكثر من شخصية (انظر الخرافة رقم ٣٩). وفي حقيقة الأمر، كثيرًا ما سنسمع مصطلح «مصاب بالفصام/فصامي» في لغة الحياة اليومية للإشارة إلى حالات يكون فيها لشخص ما رأيان مختلفان تجاه قضية معينة («أشعر بفصام شديد تجاه صديقتي؛ فأنا منجذب لها جسديًّا، لكن تزعجني نزوات شخصيتها.») لذلك ليس من الغريب أن أفرادًا كثيرين يخلطون بين الفصام وحالة تختلف معه اختلافًا تامًّا وهي «اضطراب تعدد الشخصية» (تعرف في الوقت الحالي باسم «اضطراب الهوية الانشقاقي».) ويفترض أنها تتسم بوجود أكثر من شخصية واحدة داخل الفرد الواحد (الجمعية الأمريكية للطب النفسي، ٢٠٠٠). ففي الحقيقة، للمصابين بالفصام شخصية واحدة فقط لكنها تعرضت للانهيار العصبي. وفي حقيقة الأمر أراد بلولر أن يشير مصطلح «الفصام» إلى الحقيقة المتمثلة في أن الأفراد الذين يصابون بهذه الحالة يعانون انقسامًا في الوظائف النفسية، مثل التفكير والمشاعر، الذي من خلاله لا تتوافق أفكارهم مع مشاعرهم. على الرغم من ذلك، ففي عالم علم النفس الشعبي ضاع المعنى الأصيل والأكثر دقة الذي قصده بلولر إلى حد بعيد، فالتصنيف الخادع للأفراد المصابين بالفصام على أنهم أفراد يتصرفون كشخصيتين مختلفتين تمام الاختلاف في المناسبات المختلفة قد ضرب بجذوره في الثقافة الحديثة.

ولنأخذ مثالًا آخر، حيث يأتي مصطلح «التنويم المغناطيسي» في الأصل عن كلمة يونانية تعني النوم (في الحقيقة، اعتقد بعض المنومين المغناطيسيين الأوائل أن التنويم المغناطيسي كان نوعًا من النوم.) ربما يكون هذا المصطلح قد أدى بأفراد كثيرين، بما في ذلك علماء النفس، إلى أن يفترضوا أن التنويم المغناطيسي هو حالة مشابهة للنوم. وفي الأفلام، يحاول المنومون المغناطيسيون غالبًا أن يوجدوا عاملًا مساعدًا على دخول حالة التنويم المغناطيسي عن طريق إخبار المترددين عليهم أنهم «يشعرون بالرغبة في النعاس». غير أنه في الحقيقة، ليس للتنويم المغناطيسي أي علاقة بالنوم، لأن الأفراد الذين ينومون مغناطيسيًّا يظلون في حالة من الاستيقاظ الكامل والإدراك التام لما يحيط بهم (ناش، ٢٠٠١؛ انظر الخرافة رقم ١٩).

(٦) عالم الخرافات النفسية: ما ينتظرنا في الأفق

سوف تتعرف في هذا الكتاب على ٥٠ خرافة شديدة الانتشار في عالم علم النفس الشعبي. تغطي هذه الخرافات المدى الواسع لعلم النفس الحديث: أداء المخ والإدراك والنمو والذاكرة والذكاء والتعلم والحالات المتغيرة من الوعي والمشاعر وسلوكيات التعامل بين الأفراد والشخصية والمرض النفسي وقاعات المحاكم والعلاج النفسي. وستتعرف على الأصول النفسية والمجتمعية لكل خرافة من هذه الخرافات، وستكتشف كيف شكلت كل خرافة طريقة التفكير الشعبي في المجتمع تجاه السلوك الإنساني، بل ستكتشف كذلك ما تقوله الأبحاث العلمية عن كل خرافة من تلك الخرافات. وفي نهاية كل فصل سنقدم لك قائمة إضافية بخرافات علم النفس التي تحتاج المزيد من الاستكشاف. وسنقدم في ملحق الكتاب قائمة بالنتائج المثيرة التي ربما تبدو خيالية، لكنها حقيقية في واقع الأمر، وذلك لكي نذكرك أن علم النفس الحقيقي يكون غالبًا أكثر روعة وغرابة — وأصعب في التصديق — من الخرافات النفسية الشعبية.

لا تخلو عملية دحض الخرافات من المخاطر هي أيضًا (تشيو، ٢٠٠٤؛ لانداو وبافاريا، ٢٠٠٣). بَيَّنَ عالم النفس نوربيرت شوارتز وزملاؤه (شوارتز، سانا، سكورنيك ويون، ٢٠٠٧؛ سكورنيك، يون، بارك وشوارتز، ٢٠٠٥) أن تصحيح مفهوم مغلوط، مثل القول إن «الآثار الجانبية للقاح الأنفلونزا تكون أسوأ غالبًا من الأنفلونزا نفسها»، يمكن أحيانًا أن يؤدي إلى نتائج عكسية عن طريق التسبب في زيادة احتمال ميل الأفراد إلى الاعتقاد في صحة هذا المفهوم المغلوط بعد ذلك. يرجع ذلك إلى أن الأفراد غالبًا يتذكرون العبارة نفسها ولا يتذكرون «النفي» المضاف لها، أي تلك العبارة في أدمغتنا التي تقول: «هذا الادعاء خاطئ.» وتذكرنا أبحاث شوارتز أن الاكتفاء بذكر قائمة من المفاهيم المغلوطة ليس كافيًا، فمن المهم أن ندرك «الأسباب» التي تجعل تلك المفاهيم مغلوطة. وتشير أبحاثه كذلك إلى أنه يلزم لكل منا ألا يعي الخطأ فقط، بل يعي ما هو صحيح أيضًا، فالربط بين مفهوم مغلوط والحقيقة هو أفضل وسائل محو هذا المفهوم المغلوط (شوارتز وآخرون، ٢٠٠٧). ولعل ذلك هو السبب في أننا قد خصصنا بضع صفحات لشرح أسباب خطأ كل خرافة من الخرافات الخمسين، وأيضًا كيف أن كل خرافة من هذه الخرافات تنطوي على حقيقة مهمة عن علم النفس.

ولحسن الطالع هناك على الأقل سبب يدعو إلى التفاؤل؛ حيث توضح الأبحاث أن تقبل طلاب علم النفس للمفاهيم المغلوطة المتعلقة بعلم النفس، مثل «استخدام الأفراد لنسبة ١٠٪ فقط من قدراتهم الذهنية»، يقل بالتوازي مع زيادة العدد الإجمالي لدروس علم النفس التي تلقوها (ستاندنج وهوبر، ٢٠٠٣). وقد بينت هذه الدراسة نفسها أن قبول مثل هذه المفاهيم المغلوطة يقل بين الطلاب الأخصائيين في علم النفس وبين من هم غير أخصائيين. وعلى الرغم من أن هذا البحث يقوم على الارتباط — وقد عرفنا فعلًا أن الارتباط لا يعني دائمًا وجود علاقة سببية — فإنه على الأقل يمنحنا بصيصًا من الأمل في أن يتمكن التعليم من تقليل اعتقادات الأفراد في خرافات علم النفس الشعبي. علاوة على ذلك فإن بحثًا علميًّا منهجيًّا أجري حديثًا يشير إلى أن الرفض الواضح للمفاهيم المغلوطة المتعلقة بعلم النفس في محاضرات علم النفس التمهيدية يمكن أن يؤدي إلى انخفاض كبير — حتى ٥٣٫٧٪ — في مستويات هذه المفاهيم المغلوطة (كواليسكي وتايلور، في الصحف).

إذا نجحنا في مهمتنا، فلن تنتهي من قراءة هذا الكتاب وقد اكتسبت حاصل «ذكاء في علم النفس» مرتفعًا عما سبق فحسب، وإنما من المؤكد أيضًا أنك سوف تعي على نحو أفضل طريقة تمييز الواقع من الخيال في علم النفس الشعبي. وربما كان أهم من ذلك كله أنك يجب أن تخرج من الكتاب بأدوات التفكير النقدي اللازمة لتقييم أفضل للادعاءات المتعلقة بعلم النفس في الحياة اليومية.

وكما أشار عالم الحفريات والكاتب العلمي ستيفن جاي جولد (١٩٩٦)، فإن: «أكثر القصص خطأً هي تلك القصص التي نظن أننا نعرفها أفضل معرفة، ولذلك لا نفحصها أو نتحرى صدقها» (انظر الخرافة رقم ٩). في هذا الكتاب سنحثك على ألا تقبل مطلقًا القصص المتعلقة بعلم النفس بلا دليل، وأن تتجه دائمًا إلى نقد القصص المتعلقة بعلم النفس التي تظن أنك تعرفها أفضل معرفة.

والآن كفى جلبة، ولنلج عالم خرافات علم النفس المدهش والمثير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤