الفصل الثالث

القدرة على الوصل بين مواطن الفصل

تقدمه السيناتور كاي بيلي هتشيسون
الرئيس المشارك الشرفي، منظمة أصوات حيوية

إن تاريخ المرأة الأمريكية تاريخ من الصمود والتفاؤل الذي لا يتزعزع، وربما الأهم من ذلك، الاستعداد للتكاتف إزاء الشدائد.

إن الشجاعة والثبات على المبدأ من بين أهم سمات القيادة، لكن في مجال الخدمة العامة والأعمال الخاصة معًا، غالبًا ما أجد أن السبيل الوحيد للتغلب على المشكلات العسيرة وإحداث تغير دائم هو التعامل مع الناس الذين تختلف معهم أحيانًا.

في مجلس الشيوخ الأمريكي، أسعدني الحظ بالعمل مع كثير من الوجهاء من كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وتكوين علاقات شخصية معهم. وفي هذا السياق، كانت — ولا تزال — تجمعني بهيلاري كلينتون؛ السيناتور السابقة ووزيرة الخارجية الحالية، صداقة من نوع خاص.

تكونت علاقتنا فور أن التحقتْ بمجلس الشيوخ عام ٢٠٠٠. لم نكن حليفتين تشريعيتين متوقعتين؛ فإحدانا جمهورية من تكساس والأخرى ديمقراطية من نيويورك. كانت مواقفنا على طرفي النقيض في قضايا عديدة، لكننا اكتشفنا اشتراكنا في أهداف عدة لمساعدة النساء والأسر، وكوَّنَّا شراكة ناجحة استنادًا إلى هذا الالتزام المشترك؛ فقد تعاونَّا من أجل إحراز تقدم تشريعي كبير في التعليم وفي سياسة ضريبية صديقة للأسرة. وفي عام ٢٠٠١، شرُفت بالانضمام إلى الوزيرة كلينتون بمنظمة أصوات حيوية باعتباري رئيسة مشاركة شرفية لمجلس إدارتها؛ لأكتسب مفهوم الشراكات على نطاق عالمي.

عندما انتُخبت أول مرة لمجلس الشيوخ في ١٩٩٣، ضم المجلس سبع عضوات. واليوم، يضم المجلس سبع عشرة عضوة، وسيزيد عددنا في السنوات القادمة، كما أنه أصبح لدينا تمثيل ملموس بالحزبين الجمهوري والديمقراطي بالكونجرس. وهذا ليس بسبب اتفاقنا على كل قضية، بل بسبب استعدادنا للتواصل من أجل إيجاد السبل والوسائل التي من شأنها أن تجعل بلدنا أفضل حالًا.

كتبت أليس في هذا الفصل أن «القائدة الحقة تفهم أنه ليس باستطاعتها التغيير وحدها؛ ففي النهاية، تُقاس القيادة بالصلاحية والقدرة على توجيه الآخرين.» ومن هنا ينشأ التضافُر. بالنسبة إلى كثيرات، تتضمن القيادة تغلبًا على عقبات الماضي، لكن الأمر لا يقف بالتأكيد عند هذا الحد؛ فمن واقع خبرتي بمجلس الشيوخ، يبحث المرء عن مواضع يمكن أن يتوصل لاتفاق بشأنها، ويستند إلى القيم المشتركة من أجل خلق شراكة حقيقية ودائمة.

برهنت زميلاتي بالكونجرس مرارًا وتكرارًا أنهن قائدات قويات؛ فعملهن معًا خلق تأثيرًا فعليًّا على المجتمع.

وكما دللت السيدات اللاتي يسلط هذا الفصل الضوء عليهن؛ وهن: إينيز ماكورماك، عائشة حجي علمي، نهى الخطيب، لطيفة جبابدي، أودا كاسينزيجوا، ريتا شايكن، أفنان الزياني. هؤلاء قيادات نسائية من جميع بلدان العالم، والتعاون هو الخيط المشترك والسبب الرئيسي وراء التقدم الكبير الذي تحقق في مجتمعاتهن.

***

في ١٠ أغسطس من عام ١٩٧٦، وإبَّان بعضٍ من أحلك أيام «الاضطرابات» في أيرلندا الشمالية، انحرفت فجأة سيارة تابعة للجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت لتعتلي أحد الأرصفة في بلفاست، لتدهس ثلاثة أطفال كانوا يسيرون بصحبة أمهم. وقعت الحادثة عندما أطلقت القوات البريطانية النار على السيارة، موقنين أنهم قد رأوا بندقية مشهرة تجاههم من داخل السيارة. أصيب السائق بطلق ناري وفقد السيطرة على سيارته.

في الأيام التي أعقبت الحادثة، كان ثمة تركيز أكبر على الطرف المسئول عما جرى من التركيز على الخسارة المأساوية لحياة ثلاثة أطفال. طفح كيل بيتي ويليامز — بروتستانتية عاشت بالمنطقة التي وقعت بها المأساة وكانت شاهدة عليها — بما أطلقت عليه «الدوامة المقززة للعنف عديم الجدوى.»1 وبدأت تجمع توقيعات على التماس من أجل السلام، وتواصلت مع خالة الأطفال القتلى ماريد كوريجان؛ وهي كاثوليكية.
مثَّلت ماريد وبيتي معًا كثيرًا من السيدات اللاتي بلغ إحباطهن مبلغه. وقد صرحت بيتي قائلة: «إننا نؤيد الحياة والإبداع، ونعارض الحرب والدمار، وفي غضبتنا مما حدث خلال ذلك الأسبوع المروع، صرخنا بأن العنف يجب أن يتوقف.»2 نظمت ماريد وبيتي احتجاجات ومسيرات سلمية سرعان ما أشعلت فتيل حراك ساد أنحاء البلاد، وأثبتت أنه لا يزال من الممكن السمو فوق الخلاف بالتعاون من أجل المصالحة. في العام ذاته، مُنحت ماريد كوريجان وبيتي ويليامز جائزة نوبل للسلام لجهودهما الهادفة إلى وصل ما هو مقطوع في مجتمعهما، وقد قال إيجيل آرفيك؛ نائب رئيس لجنة جائزة نوبل النرويجية في حفل تسليم الجائزة: «لقد أظهرت لنا بيتي ويليامز وماريد كوريجان ما يستطيع الناس العاديون فعله من أجل الترويج للسلام والدعوة إليه. لقد علمتنا كلٌّ منهما أن السلام الذي نناضل من أجله شيء يجب أن يتحقق داخل كل إنسان ومن خلاله.»3

بعد انقضاء اثنين وعشرين عامًا، وكثمرة لجهود جيلين من السيدات اللاتي تبحَّرن وتفاوضن في القضايا السياسية المعقدة؛ ليؤسسن جبهة مطالبة بالسلام ومدافعة عنه، استضاف البيت الأبيض قيادات نسائية من أيرلندا وأيرلندا الشمالية انخرطن في محادثات السلام، وأدت هذه المحادثات في النهاية إلى اتفاقية الجمعة المجيدة. كان تاريخ ذلك الاجتماع بالقيادات النسائية هو مارس من عام ١٩٩٨. قبل ذلك بعام كانت السيدة هيلاري كلينتون قد سافرت إلى أيرلندا الشمالية، وكانت قد أصبحت على دراية بالتحديات التي تواجهها النساء هناك. في ذلك الاجتماع الذي انعقد في البيت الأبيض، التقت السيدة الأولى بامرأتين: مختصة بروتستانتية الشئون الاجتماعية وأكاديمية كاثوليكية، وهاتان السيدتان هما: بيرل ساجر ومونيكا ماكويليامز. كانت بيرل ومونيكا قد أتتا من أجل التحدث إلى السيدة هيلاري حول المرحلة المقبلة من تمكين المرأة بوصفها فاعلة في عملية السلام.

في فبراير ١٩٩٦، بعد قرابة ثلاثة عقود من بدء الاضطرابات، أعلنت الحكومتان البريطانية والأيرلندية تدشين محادثات بين جميع الأحزاب لتقرير مستقبل أيرلندا الشمالية، وكان من المفترض أن تتقرر المشاركة في المحادثات بموجب انتخابات. اقترحت الأحزاب السبعة ممثليها. صُعقت بيرل ومونيكا، إضافة إلى غيرهن من القيادات النسائية المجتمعية في أنحاء البلاد؛ لعدم وجود سيدة واحدة بين ممثلي الأحزاب؛ فعدم إشراك المرأة في المفاوضات كان يعني القبول بتسوية ومستقبل لن يكون للمرأة دور ملموس في تشكيله. لم يكن ذلك مقبولًا؛ فالسيدات هن من كنَّ في معترك الأحداث، وعملن بمنهجية على التئام نسيج المجتمع، وخلقن أساسًا داخل مجتمعاتهن المحلية من أجل دعم عملية السلام. إن المشكلة التي واجهنها في واقع الأمر لم تكن قاصرة على أيرلندا الشمالية وحدها؛ فبين عامي ١٩٩٢ و٢٠١٠ كانت هناك امرأة واحدة فقط ضمن ثلاثة عشر مشاركًا في مفاوضات السلام على مستوى العالم.4

قررت بيرل ومونيكا ومجموعة من السيدات يمثلن كل الأعمال والأديان والخلفيات الاجتماعية والاقتصادية والانتماءات السياسية في أيرلندا الشمالية كلها أن يضطلعن بالأمر. في غضون بضعة أشهر، دشَّنَّ حزبًا سياسيًّا جديدًا تحت اسم «ائتلاف نساء أيرلندا الشمالية». تشكل الائتلاف من سيدات من مختلف الأحزاب السياسية والخلفيات الدينية، تجمعهن قضية مشتركة تتمثل في تشكيل مستقبل أكثر سلمًا وازدهارًا لأيرلندا الشمالية، وضمان أن يكون للنساء آراء قوية في تشكيله. أدركت مونيكا وبيرل أن اتحادهن كسيدات ربما يكون الفرصة الوحيدة لسماع صوتهن، لكنهما أدركتا أيضًا أنهن يتمتعن بميزة كبيرة على الأحزاب الأخرى؛ فمعًا مثَّلن نموذجًا واقعيًّا لأيرلندا الشمالية التي أمَلَتا في خلقها؛ أيرلندا شمالية يسودها التسامح والاحترام المتبادلان، تؤدي فيها تسوية الخلافات وتقريب وجهات النظر إلى تطور دائم.

عندما وقَّعت جميع الأحزاب أخيرًا اتفاقية الجمعة المجيدة، في الساعة ٥:١٩ مساءً من يوم ١٠ أبريل عام ١٩٩٨، اتضح لبيرل ومونيكا أن النساء بتأثيرهن على الأسر والمجتمعات سيلعبن دورًا حاسمًا في تنفيذ اتفاق السلام. وحتى مع وجود صوت رسمي على طاولة المفاوضات، تعرضت بيرل ومونيكا للتهميش، بل وللتهكم أثناء ذلك. وقد أتتا إلى البيت الأبيض من أجل أن تلتمسا من السيدة هيلاري مناصرة قضيتهما. بيرل ومونيكا أدركتا الدور المهم الذي يمكن أن تلعبه السيدة كلينتون في لفت الانتباه إلى عمل القيادات النسائية. وبعد اللقاء بوقت قصير، تقرر عقد المؤتمر الثاني لأصوات حيوية في بلفاست، بأيرلندا الشمالية، للمِّ شمل القيادات النسائية من مختلف بقاع المنطقة، وتوحيدهن حول الدور الحاسم الذي سيلعبنه في بناء المستقبل.

وعلى عكس المؤتمر الأول لمنظمة أصوات حيوية الذي ركَّز على أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي السابق، كان تمويل حكومة الولايات المتحدة المتاح لدعم مؤتمر يهدف إلى لمِّ شمل السيدات من أيرلندا الشمالية بسيطًا، بل كان أقل فيما يتعلق بمشروعات المتابعة. وسرعان ما اتضح أنه من أجل إحداث تأثير دائم، سنحتاج إلى إشراك القطاع الخاص.

في عام ١٩٩٨، أصبحت منظمة أصوات حيوية أول شراكة بين الحكومة الأمريكية والقطاع الخاص تنتفع منها السيدات على مستوى العالم. سيدات أعمال أمثال جوديث ماكهيل، التي كانت آنذاك تشغل منصب الرئيس التنفيذي لشركة ديسكفري كوميونيكيشنز، وماري دالي يريك؛ مسئولة علاقات عامة ورائدة أعمال، إضافة إلى دونا كوكران ماكلارتي؛ مدافعة عن حقوق المرأة والطفل، وماري-لويز أوتس؛ كاتبة وناشطة، كنَّ من بين أول من تقدَّمن من أجل دعم منظمة أصوات حيوية من خارج الحكومة؛ حيث تعهدن بتقديم موارد من القطاع الخاص، وبتسخير مواهب دون مقابل لتعزيز جهودنا. قدمت الشركات والمؤسسات دعمًا ماديًّا وعينيًّا.

ما تمخض عن ضرورة التمويل سرعان ما تحوَّل إلى نموذج بالغ الفاعلية، ليس بسبب ازدياد الدعم، ولكن بسبب تنامي الوعي بين قادة القطاع المؤسسي والخاص بقيمة قيادة المرأة حول العالم. كان نموذج الشراكة بين القطاعين العام والخاص بالغ الأهمية؛ إذ عُقدت المؤتمرات اللاحقة لمنظمة أصوات حيوية في أمريكا اللاتينية ودول البلطيق وآسيا الوسطى، وجمعت المبادرات العالمية شمل النساء من الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا.

إضافة إلى التعاون مع القطاع الخاص، أشركنا المكاتب الإقليمية بوزارة الخارجية وغيرها من وكالات الحكومة الأمريكية، كما تواصلنا وأقمنا شراكات استراتيجية مع رؤساء الحكومات حول العالم والمؤسسات الدولية؛ مثل: البنك الدولي، ومصرف التنمية للبلدان الأمريكية، والأمم المتحدة. وتعاونت السفارات الأمريكية عبر العالم مع حكومات البلدان المضيفة من أجل التعرف على القيادات النسائية الصاعدة ودَعْمهن كمشاركات. ربما كنا نحتذي دون أن نشعر بالسلوك التواصلي والتعاوني للقائدات اللاتي قابلناهن في أيرلندا الشمالية وفي كثير من أجزاء العالم.

•••

تناول الفصل السابق كيف أن قوة المعرفة المحلية لدى القيادات النسائية وامتداد جذورهن في مجتمعاتهن يمكنانهن من التشجيع على التغيير الإيجابي والمستدام؛ فعندما تكون قائدة من القيادات النسائية على اتصال وثيق وارتباط عميق بمجتمعها، فإنها تكتسب فهمًا دقيقًا للنظام والمجتمع اللذين تأمل في التأثير عليهما. يكون هذا الفهم أساسًا للخيط أو السلوك الثالث المشترك الذي شهدناه لدى القيادات النسائية الناجحة؛ وهو القدرة على الوصل والتكاتف في مواطن الفصل.

القيادات النسائية حول العالم اللاتي تبنَّين مفهوم القيادة بالمعرفة المحلية يفهمن ديناميكية مختلف أصحاب المصلحة، ويبذلن جهدًا منسقًا من أجل التنبؤ بآثار إجراءاتهن في إطار الظروف المحيطة. صرح جوزيف ناي؛ المساعد السابق لوزير الدفاع الأمريكي والبروفسور بجامعة هارفرد، أن «القادة الجدد يجب أن يتمكنوا من استخدام شبكات العلاقات ومن التعاون ومن تشجيع المشاركة.» كما ألقى الضوء على «كيف أن أسلوب النساء غير الهرمي ومهاراتهن في تكوين العلاقات تسد حاجة قيادية في العالم الجديد الذي يتشكل من منظمات ومجموعات مُعتمَدَة المعلومات، وهي حاجة يكون الرجال أقل استعدادًا، في الغالب، لاستيفائها.»5
تُظهر الدراسات أن النساء عادة ما ينظرن إلى كل الخيارات والعلاقات قبل اتخاذ قرار أو الانتهاء من مهمة، في حين أن الرجال يركزون في الأساس على المهمة نفسها.6 وكثيرًا ما قالت جيرالدين ليبورن؛ الموجِّهة بمنظمة أصوات حيوية وأحد مؤسسي شركة أكسجين ميديا: «نحن معشر النساء لسْنَ متعددات المهام وحسب، بل متعددات الرؤى أيضًا.»

لقد رأينا أن السيدات اللاتي تترسخ جذورهن في مجتمعاتهن المحلية يُقمن علاقات عن قصد؛ فهن يدركن أنهن لا يستطعن إحداث تغيير وتحوُّل بمفردهن؛ فالقيادة تُقاس بقوة وقدرة المرء على إرشاد الآخرين. القيادة علاقة، وجزء من كون المرء قائدًا فعالًا هو التواصل والتكاتف مع أصحاب المصلحة الذين يستطيعون دعم جهوده، ليس فقط من أجل إطلاق التغيير الإيجابي وحسب، وإنما أيضًا العمل على إنجاحه وترسيخه. وأكثر القيادات النسائية فعالية ينشئن علاقات مع أفراد ومنظمات ومؤسسات ستتأثر برؤيتهن للتغيير. والجدير بالذكر أن تلك العلاقات لا تقتصر على الذين يؤيدون مطامح القائد؛ فعلاقات القائد يجب أن تبلغ جميع المتأثرين بالتغيير، سواء هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم مستفيدين من التغيير، أو أولئك الذين يرون أنهم تأثروا سلبًا به.

بناء مثل هذه العلاقات يتطلب أمانة ونزاهة ومرونة وتواضعًا وشفافية، وقدرة من جانب المرء على إعادة تأطير رؤيته واستراتيجيته في سيناريو تكون فيه جميع الأطراف رابحة، وينال الجميع نصيبًا من نجاحه. والتعاطف عامل مميز ومؤثر في هذا الصدد؛ لأنه يمكِّن القادة من التعرف على آمال ومخاوف الآخرين، والتجاوب معها، والاستجابة لها. وتتمتع النساء عادة بقدرة قوية على التعاطف، وغالبًا ما يتَّسمن بدرجة عالية من الذكاء العاطفي.7

صراحةً، إن خبرة السيدات كقطاع مهمش تمنحهن كذلك ميزة فريدة؛ فلدى المرأة رغبة عميقة في أن تُسمع وتُرى وتُفهم، كما أنها تدرك تلك الحاجة لدى الآخرين. وفي كثير جدًّا من بقاع العالم، يناضل المرء من أجل أن يصل صوته. والقائدات اللاتي مررنَ بمثل هذه التجارب عادة ما يكنَّ أكثر وعيًا وقبولًا بجميع أصحاب المصلحة داخل الهياكل التقليدية للسلطة وخارجها.

ومع تشكيل القائدة لشبكة من المعارف، فإنها تشرك الأفراد والمنظمات والمؤسسات في حوار مفتوح، ملتمسة التعقيبات الأمينة والصريحة، ومبدية الاستعداد لمراجعة استراتيجيتها من أجل تعظيم الجدوى والإنصاف لكل المشاركين. علاوة على ذلك، مع بناء القائدة لشبكات دعم أوسع، فإنها تبحث عن طرقٍ لخلق شراكات. إن السيدات اللاتي عملت معهن منظمة أصوات حيوية يكن في العادة أكثر شمولية في أنماط قيادتهن؛ لأنهن يعرفن من واقع تجاربهن الشعورَ الذي يتولد لدى المرء عندما يُستبعد من دائرة صنع القرار، وعندما يُحرَم من حقه في الوصول للسلطة.

كذلك تشير الدراسات إلى أن النساء أكثر ميلًا إلى نمط القيادة «التحويلي».8 وهذا يعني أن النساء ينظرن إلى مطامحهن ومسئولياتهن المهنية من منظور إقناع الآخرين بتحويل مصلحتهم الذاتية إلى مصلحة المجموعة بالتركيز على هدف. أظهرت الأبحاث أن نمط القيادة التحويلي لدى النساء يحفِّز الأخريات على تجاوز مصالحهن الشخصية، والتركيز على مصلحة المجموعة.9 ومع إيمان القائدة بمعرفة وخبرة وقدرة المنضمات إلى شبكتها، تخلق نوعًا من التآلف في المجتمع أو المنظمة التي تعمل بها، وبينما تستثمر عضوات الشبكة أوقاتهن وطاقاتهن في علاقتهن بقائدتهن، فإنهن يصبحن مهتمات بنجاحها. تشرح كلوديا لاجو؛ وهي قائدة عملنا معها في البرازيل، هذا النمط من القيادة قائلة: «دائمًا ما تفكر السيدات في المحيطين بهن، وفي كيفية توظيف مهاراتهم وقدراتهم؛ فهن يفكرن تفكيرًا أفقيًّا.»

تعلمنا في منظمة أصوات حيوية أن هذا النوع من التفكير الأفقي ضروري في تحفيز الآخرين لتأييد قضيتك، والسبيل الوحيد لتحقيق تغيير دائم هو العمل على المشاركة القائمة على التعاون من جانب من تختلف معهم، الذين ينتمون إلى خلفيات مختلفة، ويعتنقون معتقدات مختلفة، ويحملون أجندات مختلفة. لقد شاهدنا القيادات النسائية اللاتي نعمل معهن يكتسبن حلفاء غير متوقعين أضافوا إلى استراتيجياتهن، ولفتوا مزيدًا من الانتباه إلى عملهن. وفي بعض الحالات، لعبوا دورًا محوريًّا في تنفيذ الاستراتيجية. لقد حاولنا إدماج هذا الدرس القيِّم في ممارساتنا ونحن نسعى إلى تحقيق شراكات تتجاوز حدود الجغرافيا والثقافة والمعتقد.

لننظر، على سبيل المثال، إلى قضية الاتجار بالبشر، التي اجتذبت انتباهًا واهتمامًا كبيرين كقضية عالمية في فترة زمنية قصيرة نسبيًّا. بالعودة إلى عام ١٩٩٧، عندما تواصلت السيدات الأوكرانيات مع ميلان، بعدما أعياهن إيجاد حل للاختفاء المتصاعد الوتيرة للشابات في بلدهن، غالبًا لم تكن تعترف الحكومات أو الجماهير بالقضية. لم يعلم أغلب الناس أن استرقاق العصر الحديث موجود حول العالم، حتى في الولايات المتحدة. ورغم أنه لا تزال هناك حاجة لجهود كبيرة لحل هذه القضية، يمتلك الكثير من الدول الآن قوانين مكتوبة بشأن هذه القضية وإن كانت بحاجة إلى تفعيل، وكثيرًا ما تسلط وسائل الإعلام الضوء عليها. هذا التقدم هو النتيجة المباشرة لتحالف شديد التنوع من الأشخاص حول العالم الذين اجتمعوا على لفت الانتباه إلى قضية الاتجار بالبشر وحلها. وفي الولايات المتحدة، تواصل الجمهوريون والديمقراطيون من أجل الاشتراك في صياغة تشريعات بشأن هذه القضية، ويحدث حاليًّا تبادل للمعلومات بين العديد من الوكالات الفيدرالية والمؤسسات الدولية. وقد قال لويس سي دي باكا؛ السفير الأمريكي لمكافحة الاتجار بالبشر: «الشراكة بالغة الأهمية. القوانين موجودة، والحكومات تبدأ في الشراكة مع المجتمع المدني من أجل ضمان تنفيذ القانون، ومسئولو العدالة الجنائية يدركون التعقيدات التي تكتنف قضية الاتجار بالبشر وهم مدربون على التعرُّف على الضحايا وحمايتهم.» إضافة إلى ذلك، يتعاون القطاع الخاص مع بلدان من أنحاء العالم من أجل وضع مواثيق سلوكية وتعقُّب سلسلة الإمداد. والقادة الدينيون يكرِّسون سلطتهم الأخلاقية من أجل خلق ثقافة تستنهض العدالة. وقد قالت أوكسانا هوربونوفا؛ الناشطة الأوكرانية المناهضة للاتجار بالبشر، التي كانت أول من تواصل مع ميلان: «يمتلك المتاجرون بالبشر شبكات عالمية قوية؛ لذا نحن نشيِّد شبكتنا المناهضة لها، متعاونين مع شركاء جدد، وأحيانًا شركاء غير متوقعين.»

بالعمل من كثب مع السيدات من كثير من البلدان والثقافات، ندرك أن ما يجمع بيننا أكثر بكثير مما يفرقنا. تجد النساء أشياء مشتركة، وفرصًا للارتباط بعضهن ببعض — فيما يتعلق بأطفالهن وحياتهن المهنية وتحدياتهن وآمالهن — حتى عندما يأتين من خلفيات شديدة الاختلاف، أو يمتلكن رؤًى عميقة التباين. وهذا شيء لمسته بنفسي مرارًا وتكرارًا بالعودة إلى رفيقتي في السكن؛ الإيريترية والأثيوبية في هوايرو بالصين.

بحلول عام ٢٠٠٠ كانت منظمة أصوات حيوية قد استضافت خمسة مؤتمرات دولية كبرى، وعشرات من برامج المتابعة التدريبية؛ ليستفيد منها أكثر من ثلاثة آلاف قائدة من الحكومات والمجتمع المدني ومجال الأعمال. وقد زدنا من الموارد المخصصة لدعم النساء في الحكومة الأمريكية، لكن ربما الأهم من ذلك أننا لفتنا المزيد من الانتباه إلى قضايا المرأة؛ فمن كانوا ينكرون دور المرأة في البداية بدءوا يعتبرون قيمة الاستثمار في المرأة أكبر من مجرد سياسة اجتماعية. لقد كانت سياسة خارجية ناجحة بحق.

لكن مبادرة أصوات حيوية من أجل الديمقراطية، التي انطلقت من مكتب صغير بوزارة الخارجية الأمريكية، لم تعد قاصرة على الحكومة الأمريكية؛ فالنساء من أنحاء العالم كنَّ يَعُدن إلى أوطانهن وينشئن فروعًا لمنظمة أصوات حيوية في مجتمعاتهن. أرادت النساء في هاييتي التواصل مع النساء بأمريكا الجنوبية، والنساء الكويتيات أردن التماس المشورة من نساء الأرجنتين. احتاجت القائدات إلى موقع إلكتروني لتبادل الصور والرسائل بعضهن مع بعض، رغم أنه آنذاك لم يكن هناك سوى عدد قليل من الهيئات الحكومية الأمريكية التي تمتلك مواقعها الإلكترونية الخاصة بها.

في فبراير ٢٠٠٠، أقمنا اجتماعًا استراتيجيًّا لا يبعد كثيرًا عن واشنطن لنطرح على خمس وعشرين قائدة؛ من أكثر القائدات فعالية ومشاركة، سؤالًا حول أفضل طريقة لدعم جهودهن الجارية. كانت المرة الأولى التي نجمعهن معًا على مستوى العالم، وكان الجمع مثيرًا للإعجاب؛ فالنساء اللاتي جئن من بلدان مختلفة كروسيا ونيجيريا وكمبوديا تبادلن الرؤى حول الكيفية التي منحهن بها ارتباطهن بمنظمة أصوات حيوية القوة والتأثير، وكم جعلهن هذا الارتباط يشعرن بأنهن جزء من شيء أكبر يتجاوز نضالهن الخاص؛ شيء وصلهن بالنساء حول العالم.

شعرت القائدات اللاتي دُعين إلى الاجتماع أن منظمة أصوات حيوية تمتلك الإمكانات التي تؤهلها كي تصبح حركة عالمية، ولكن لتحقيق ذلك، رأين أنه يجب أن تصبح المنظمة كيانًا مستقلًّا؛ ما يمنحها الحرية لتكوين شراكات مع قطاعات المجتمع كافة، واتفقنا على ذلك؛ فالخبرة التي اكتسبناها في أيرلندا الشمالية وغيرها من البقاع حول العالم أظهرت لنا أننا سنحتاج إلى استقطاب المزيد من دعم القطاع الخاص لتعزيز الدعم المالي لهذا العمل. وفَّرت شركة ماكينزي آند كومباني؛ وهي شركة رائدة في مجال الاستشارات الإدارية شاركت في مؤتمرات منظمة أصوات حيوية، فريقًا من المستشارين العالميين الذين قدموا خدماتهم بالمجان على مدار العامين اللاحقين للارتقاء بالمنظمة؛ من كونها مبادرة أمريكية إلى منظمة غير حكومية لا تهدف للربح.

وبالرغم من أن أصوات حيوية خرجت في البداية كمبادرة طرحتها إدارة كلينتون في ظل القيادة القوية لهيلاري كلينتون ومادلين أولبرايت، فدائمًا ما جمعت المنظمة شمل النساء من مختلف الأطياف السياسية بالولايات المتحدة، وكذا حول العالم. حضرت ماري دالي يريك؛ وهي رائدة أعمال تنتمي للحزب الجمهوري، أول مؤتمر لمنظمة أصوات حيوية في فيينا بالنمسا، من أجل تدريب وتوجيه رائدات الأعمال الصاعدات، وانخرطت في العمل مع المنظمة منذ ذلك الحين، وعملت جنبًا إلى جنب مع دونا كوكران ماكلارت؛ الديمقراطية والحقوقية البارزة التي شاركت بفعالية في جهود منظمة أصوات حيوية بأمريكا اللاتينية، باعتبارهما نائبتين لمجلسنا من أجل تسجيل أصوات حيوية كمنظمة غير هادفة للربح، وبهدف تأسيس مكاتبنا الجديدة في يوليو من عام ٢٠٠٠.

غادرت ميلان فرفير البيت الأبيض في يناير ٢٠٠١ لبناء منظمة أصوات حيوية باعتبارها منظمة غير حكومية لا تهدف للربح، وتولت منصب رئيس مجلس إدارتها للثماني سنوات اللاحقة، وبعدها منصب الرئيس التنفيذي. ولولا رؤيتها وجهدها والتزامها طوال تلك السنين ما كانت لتصل منظمة أصوات حيوية لما وصلت إليه اليوم. في الوقت نفسه، غادرت تيريزا لور وزارة الخارجية لتصبح أول رئيس للمنظمة. وعندما آن أوان اختيار اسم المنظمة الجديدة غير الهادفة للربح، أردناه أن يحمل قيم التواصل والتعاون، فانتقلنا من اسم «مبادرة أصوات حيوية من أجل الديمقراطية» إلى «الشراكة العالمية للأصوات الحيوية».

ونحن في طور تأسيس المنظمة، كانت السيدة هيلاري كلينتون قد شغلت لتوِّها الدور الجديد بصفتها عضوة بمجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية نيويورك. وكنموذج مثالي يُحتذى به في التواصل والتكاتف، تواصلت السيدة هيلاري مع النواب الجمهوريين، وطلبت من كاي بيلي هتشيسون؛ السيناتور الجمهورية البارزة من تكساس، ونانسي كسباوم؛ السيناتور الجمهورية السابقة، الانضمام إليها باعتبارهما رئيستين شرفيتين لمنظمة أصوات حيوية الجديدة غير الهادفة للربح. أدركت كلٌّ منهما أن المنظمة لن تنجح إلا إذا نحَّينا خلافاتنا السياسية في أمريكا جانبًا؛ وهو مسعًى تعاونيٌّ استمر على نفس قوته مع احتفال المنظمة بمرور أول عِقد على تأسيسها. ومنذ تأسيسها والمنظمة تمتلك مجلسًا إداريًّا قويًّا من كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي. ومع ذلك، دائمًا ما ننحِّي جانبًا انتماءاتنا الحزبية؛ فهدف التنمية الاقتصادية والحكم الرشيد وحقوق الإنسان شيء بإمكاننا جميعًا العمل من أجل تحقيقه، مهما كانت انتماءاتنا السياسية.

إبان الأيام الأولى لإدارة بوش، عقب هجمات ١١ سبتمبر، كانت السيدة الأولى لورا بوش ومساعدتها أنيتا ماكبرايد، من أوائل من تواصلن مع منظمة أصوات حيوية الوليدة غير الهادفة للربح لبحث الآلية التي يمكننا بها العمل معًا من أجل دعم النساء الأفغانيات، اللاتي كن في طور الخروج من سنين القهر التي عاشوها في ظل حكم طالبان. كان من أوائل مشروعاتنا الالتفاف حول هدف يتمثل في إعادة النساء الأفغانيات، لا سيما الأرامل منهن، إلى العمل لصنع أزياء المدارس، التي ستساعد الفتيات الأفغانيات على العودة إلى المدرسة بكبرياء بعد سنين من الحبس بمنازلهن. ساعدت السيدة لورا بوش، بتعاونها مع النساء من خلال الإدارة الأمريكية، في إبقاء التركيز منصبًّا على قضايا المرأة، لا سيما في أفغانستان.

في عام ٢٠٠٩، سلَّمت ميلان فرفير وماري دالي يريك زمام المسئولية إلى الرئيسة الحالية للمجلس سوزان ديفيز؛ وهي سيدة أعمال ناجحة، وإلى نائبتها بوبي جرين ماكارثي؛ التي تولت منصب النائب المساعد للسيدة الأولى سابقًا هيلاري كلينتون. كانت كلٌّ من سوزان وبوبي عضوةً بمجلس إدارة أصوات حيوية منذ تأسيسها، ويعود إليهما فضل كبير في النمو الاستراتيجي للمنظمة مع اكتساب قضايا المرأة اهتمامًا عالميًّا أكبر.

كذلك سعت منظمة أصوات حيوية إلى تكوين شراكات مع المنظمات التي تتبنى نفس الأفكار، من منطلق إدراكنا أننا لا نستطيع بمفردنا تحقيق التحول المنشود في شئون المرأة؛ فبالتعاون مع جامعة نيويورك، وشركة بوز آند كومباني، ومؤسسة تكنوسيرف الرائدة غير الهادفة للربح، ومؤسسة بول إي سينجر فاميلي، والكثير من الشركات والمنظمات غير الحكومية ورؤساء الحكومات، نظمنا حملة الثلاثة مليارات التابعة لائتلاف لا بيترا. وقطعت الحملة، التي تقودها ساندرا تايلور؛ المسئولة التنفيذية البارزة في سلسلة ستاربكس سابقًا، التزامًا جسورًا بتمكين مليار سيدة حول العالم لمشاركة أكثر فعالية في الاقتصاد العالمي. كما أقمنا شراكة مع جامعة نيويورك لتصميم دورة حول نشاط وأهداف منظمة أصوات حيوية. بالمثل أقمنا شراكة مع جامعة جورج تاون وجامعة أركانساس لتصميم برامج تدريب عملي للقيادات النسائية الناشئة ورائدات الأعمال الصاعدات. كما تعاونا مع وحدة الاستخبارات الاقتصادية التابعة لمجموعة ذي إيكونومست، وحكومتي نيوزيلندا وأستراليا، وائتلاف لا بيترا، وشركة إكسون موبيل؛ لوضع مؤشر فرص المرأة الاقتصادية، الذي يضع ترتيبًا للبلدان حول العالم، مقيِّمًا مدى تقدمهم في استغلال إمكانات المرأة بوصفها محركة للنمو الاقتصادي.

لقد رأينا قوة التكاتف وهو يتكرر خلال شبكتنا المكوَّنة من قيادات نسائية صاعدة. وحديثًا، بالتعاون مع رائدات الأعمال الصاعدات ومعاونتهن على تقريب رؤيتهن المتعلقة بالنمو المستدام من الواقع، بدأنا ملاحظة أن التغير الاقتصادي المستدام نادرًا ما يحدث بمعزل عن الواقع. في عام ٢٠١١، انضمت «شبكة سيدات أعمال الكاميرون»، المنظمة الشريكة لأصوات حيوية، إلى الغرفة التجارية الكاميرونية لخلق فرصٍ تحتاج السوق بشدة إليها من أجل النساء اللاتي يزرعن المنيهوت (الكاسافا)، وهو جزء من قطاع منتجات الجذور والدرنات الذي يشكل قرابة نصف إجمالي إنتاج المحاصيل في الكاميرون. ومن خلال هذه المبادرة المتعددة القطاعات البالغة قيمتها ٢ مليون دولار، وافقت الغرفة التجارية على شراء المنيهوت غير المعالج من المزارعات المنتسبات إلى شبكة سيدات أعمال الكاميرون لتوريده لمصنع معالجة المنيهوت الحكومي في دوالا. وبالعمل معًا، انضم أكثر من ١٥٠ مُزارِعة للمبادرة؛ ما خلق وظائف لأكثر من ثلاثة آلاف عامل مؤقت، وأكثر من أربعة ملايين دولار كعائد إضافي للمَزارع التي تتولاها سيدات. وعلى نحو أعمَّ، مع تحويل ٥ بالمائة من العائدات إلى شبكة سيدات أعمال الكاميرون، تحصَّل الاتحاد على دخل متدفق من أجل صندوق الكفالة ونادي الاستثمار التابعين لها؛ ما خلق فرصًا لسيدات أعمال محليات أخريات من أجل بلوغ رأس المال التوسعي وتنمية مشاريعهن، وخلق وظائف أكثر، وإجمالي دخل أسري أعلى للأسر المحلية.

أدت عشرات الشراكات التي ترعاها منظمة أصوات حيوية بين القطاعين العام والخاص إلى برامج جمعت الأفضل لدى الحكومات والمجتمع المدني والشركات على حد سواء. تذكِّرنا آشلي مادوكس؛ رائدة الأعمال التي ساعدت بالوساطة في الشراكة المعقودة بين أصوات حيوية وشركة ماكينزي وشركاه؛ إذ تقول: «إن الضيف غير المتوقع على مائدة الغداء يفتح أكثر الحوارات إثارة للاهتمام.» والمقصود بالعبارة أنه كلما زاد تنوع واستثنائية الشركاء المنضمين، زادت درجة الابتكار والتجديد في المنتج.

إينيز ماكورماك

أيرلندا الشمالية

عندما تتمكن من التوفيق بين طريقة فهمك لحقوق الإنسان مع طريقة فهم مَن تختلف معهم لها، يحق لك حينها أن تصف نفسك بأنك ناشط حقوقي … عليك أن تثق بشجاعتك، وتثق بإنسانيتك، وتثق بقدرتك على أن تكون أفضل مما أنت عليه.

figure

بعد مرور بضعة أسابيع على لقاء السيدة كلينتون بمونيكا ماكويليامز وبيرل ساجر في ربيع عام ١٩٩٨، سافرتُ أنا وتيريزا لور إلى أيرلندا الشمالية؛ حيث قضينا أغلب العام اللاحق نتحدث إلى السيدات في أنحاء البلاد تمهيدًا لمؤتمر أصوات حيوية في بلفاست.

إحدى أفضل النساء اللاتي قابلناهن أثناء ذلك كانت إينيز ماكورماك. يذهب البعض إلى أنها إحدى أكثر القيادات النسائية تأثيرًا في مجال حقوق الإنسان بأيرلندا الشمالية؛ فقد لعبت دورًا بالغ الأهمية في تشكيل نصوص المساواة الكاملة وحقوق الإنسان الواردة في اتفاقية الجمعة المجيدة عام ١٩٩٨، التي أسدلت الستار على عقود من العنف الطائفي. كانت أول امرأة تتولى منصب رئيس الاتحاد الأيرلندي للنقابات العمالية، وقد دعت منذ ذاك الحين إلى تفعيل تلك الحقوق بوصفها السبيل لفهم كيفية حل الصراع استنادًا إلى ممارسة العدالة. ويسهم عملها في زيادة الوعي بأن القدرة على المشاركة جزء لا يتجزأ من تعميق الممارسة الديمقراطية، والربط بين النمو الاقتصادي والتطور الاجتماعي مجددًا على المستويين العالمي والمحلي.

صارت إينيز ناشطة ضمن حركة الحقوق المدنية في أيرلندا الشمالية في نهاية ستينيات القرن العشرين، ثم أصبحت ناشطة في قضايا النقابات العمالية والمساواة، ودشنت حملات من أجل تنظيم وإعادة تقييم العمال «المهمَلين» الذين تُمثل النساء أغلبهن. ولاضطلاعها بالعمل الاجتماعي في مطلع سبعينيات القرن العشرين، دعمت النساء في المجتمعات المحرومة؛ حيث صادفت نساء قويات لديهن أطفال ولا يملكن مالًا، ويخشين حربًا أهلية دموية تستعر على مقربة منهن. لم يجلس التياران السياسيان الرئيسيان — القومي والوحدوي — في غرفة واحدة معًا، ولم يتواصلوا إلا بالصراخ والوعيد والعنف. بين عامي ١٩٦٩ و١٩٩٨، أودى الصراع المعروف باسم «الاضطرابات» بحياة ٣٦٠٠ شخص.10

بدأت النساء العمل في مطلع سبعينيات القرن العشرين في بناء بنية تحتية مجتمعية لدعم السلام. كانت القاعدة الوحيدة أنه سيتم دمج أية مجموعات من أي خلفية، وأنه يتعين معاملتها باحترام بغض النظر عن آرائها. وقبل بدء محادثات السلام الرسمية التي أفضت إلى اتفاقية الجمعة المجيدة بسنوات، كانت النساء يعملن داخل المجتمع من أجل تنظيم حوارات حول المساواة وحقوق الإنسان. لم يتعين على أي منهن نبذ هويتها أو انتماءاتها من أجل المشاركة. والسلوك الذي كن يسلكنه بغرفة الاجتماع أملته القواعد الأخلاقية واستماع كلٍّ منهن للأخرى، ما أرسى الأساس للتعاون من أجل قضية مشتركة. ورغم قوتهن الفطرية، كان هؤلاء النسوة يفتقرن إلى الفاعلية والمقدرة على إحداث التغيير. كان يُعبَّر عن المساواة في أيرلندا الشمالية في ستينيات القرن العشرين بأنها الحاجة إلى «صوت لكل مواطن».

اضطلعت مجموعة صغيرة من القائدات المجتمعيات، بينهن إينيز ماكورماك، بمبادرة عامة تحت اسم «النساء تُرى وتُسمَع»؛ لنقل قصص حياة النساء بحيث يمكن تحويل احتياجاتهن إلى حقوق. كانت مبادرة استثنائية ومتنوعة، جمعت النساء من مختلف التيارات. وفي كل منطقة، سأل المنظمون سؤالًا: «من الذي لا يزال محجوبًا؟ من الذي ليس بالقاعة؟» وأوكلن إلى أنفسهن مهمة الإجابة عن السؤالين. وخلال قيامهن بذلك، واجهن مشكلة الانقسام الطائفي، وأحدثن تغييرًا بشأنها شيئًا فشيئًا. لقد حشدن النساء حول القضايا التي تؤثر على الجميع، مهما كان دين أو عرق المجتمع؛ قضايا على شاكلة رعاية الأطفال والتعليم والرعاية الصحية والعنف. لقيت قيمة المبادرة تأييدًا قويًّا من المفوضة الأوروبية مونيكا وولف ماثيس، والسيدة الأولى هيلاري كلينتون، والسفيرة جين كينيدي سميث، ومو ماولام؛ وزيرة خارجية أيرلندا الشمالية.

هذا الدعم رفيع المستوى منحهن المصداقية عندما أسسن، بالتعاون مع المنظمات الحقوقية المحلية غير الحكومية، ائتلاف المساواة للمِّ شمل مختلف جماعات المجتمع المدني، ومنها الجماعات التي تعرضت للتمييز على أساس الدين، أو السياسة، أو النوع، أو الخلفية العرقية، أو المكانة الاجتماعية والاقتصادية، أو الإعاقة. وفي نضالهن من أجل إيجاد هدف يجمعهن، أرسين فهمًا مشتركًا لما يسبب الألم لدى «الآخر». أدركن أنه من المهم جدًّا ربط المساواة بالارتقاء بالفرص الاقتصادية؛ فقد عانى اقتصاد أيرلندا الشمالية أشد المعاناة إبان «الاضطرابات». وأردن إظهار أن العنف والإقصاء قلَّصا من فرص بناء مستقبل مزدهر.

رغم كل الجهود التي بذلتها النساء داخل المجتمع من أجل حشد مزيد من الدعم لعملية السلام، فإن الفترة السابقة على مفاوضات اتفاقية الجمعة المجيدة أقصت الصوت النسائي. كان التركيز الرئيسي للمحادثات على الإطار الدستوري الجديد، ووقف إطلاق النار، ونزع السلاح. تواصل ائتلاف المساواة مع النساء وغيرهن من المجموعات المُقصاة في أيرلندا الشمالية، ساعيًا إلى دمج لغة المساواة وحقوق الإنسان لجميع الناس في اتفاقية الجمعة المجيدة. وأقنعن الآخرين بصياغة الاتفاق على نحو يكفل الاحترام والحوار، وعندما بدأت عملية السلام ضربن مثالًا على الكيفية التي يمكن بها لمجموعات شتى أن تتعاون فيما بينها.

تعاون ائتلاف المساواة الذي أسسته إينيز، والمعني بالمجتمع المدني مع الأحزاب السياسية، ومنها ائتلاف نساء أيرلندا الشمالية الذي تقوده بيرل ومونيكا؛ لاستحداث عرف وقواعد جديدة لحقوق الإنسان تقتضي مشاركة المجموعة المتأثرة في كل مرحلة من صنع القرار بوصفه تعريفًا عمليًّا للنهوض بالمساواة. وشرحت إينيز المسعى قائلة: «غالبًا ما تُعنى محادثات السلام بإرضاء مختلف الأحزاب السياسية والتعامل مع أجنداتهم، ولا تُعنى بتناول القضايا التي تخلق الإقصاء. يتعين تهيئة مناخ ينحي فيه الناس الأجندة الحزبية جانبًا ويتكاتفون كأشخاص مؤمنين أن لهم دورًا اقتصاديًّا ودورًا اجتماعيًّا في المجتمع.» عقد ائتلاف المساواة تسعة وثلاثين اجتماعًا منفصلًا مع كبار المسئولين وصانعي القرار من أجل ترجمة اللغة البسيطة التي نالوها في اتفاقية الجمعة المجيدة إلى قوانين وآليات لقياس التأثير.

تؤمن إينيز أنه بعد مرور مائة عام من اليوم، عندما يُكتَب تاريخ أيرلندا الشمالية، سيُنسب إلى النساء أنهن لعبن دورًا كبيرًا، ليس في وقف العنف وحسب، وإنما في تشكيل الممارسات المستدامة لتحقيق السلام. وتقول إينيز: «لقد حققت انتصارات عديدة، ومن السهل أن أنسب النصر لنفسي. لكن السؤال هنا: هل تُرجم هذا النصر إلى تغيير لمن هم في أمسِّ الحاجة إليه؟ وهذا بدوره يقودنا إلى سؤال آخر: من يجلس إلى مائدة المفاوضات؟ هذه هي قوتي الدافعة. إنها لا تتعلق بكون المرء منصفًا أو قويمًا من الناحية الأخلاقية، وإنما تؤكد على أن هذا هو الاقتصاد الذكي، وتلك هي الديمقراطية الذكية لعالم الغد. ينبغي أن تكون هناك عملية نشطة؛ عملية ديمقراطية تخلق فرصة لمن تعرضوا لأقصى درجات الإقصاء.»

عائشة حجي علمي

الصومال

لقد عبَرت نساء الصومال جسرًا ولا سبيل إلى العودة. نحن شركاء كاملون فيما يجري … للمرة الأولى في تاريخ الصومال تحصل النساء على حصتهن … وأنا أسمِّي هذا ثورة شاملة.

لطالما كانت الصومال واحدة من أشد البلدان فقرًا وخطورة في العالم. بعد أن قبعت البلاد لعقود تحت حكم ديكتاتور عسكري؛ وهو الجنرال محمد سياد بري، انهارت الحكومة عندما أُطيح بسياد بري في عام ١٩٩١، وتبعت ذلك حرب أهلية، واعتبارًا من يناير ٢٠١٢، ما فتئ المجتمع الصومالي يتعرض للخراب بسبب الحرب القاصمة بين العشائر؛ وبسبب المجاعة والمرض فقد عشرات الآلاف من الصوماليين حياتهم جرَّاء الجوع، وأكثر منهم بكثير جرَّاء العنف. وفي هذا السياق، أخذ موقف السيدات والفتيات يزداد ضعفًا، إلا أنه مع قوة وإصرار عائشة حجي علمي، قطعت النساء خطوات عظيمة في سبيل التمكين والتمثيل السياسي.

البُنى القبلية في الصومال جانب مهم من السياسة والحياة اليومية. إنه مجتمع أبوي، فيه يتلقى الفرد هويته الثقافية حسب تراث أبيه. وغالبًا ما يُستخدم الزواج لبناء تحالف بين العشائر. وهذا ما حدث مع عائشة حجي علمي. وُلدت عائشة عام ١٩٦٢ في محافظة جلجدود بالصومال، وتزوجت من رجل من خارج عشيرة والدها. ومثل كثيرات من الصوماليات، لم تعد عائشة مقبولة قبولًا تامًّا لدى العشيرة التي وُلدت فيها ولا لدى عشيرة زوجها. القطيعة بين تراثها وزواجها أكسبتها ولاءً مزدوجًا، وعندما اندلع القتال وجدت نفسها في موقف مهلك.

figure

رأت عائشة أن النساء عادة يكنَّ أول ضحايا الصراع؛ إذ يُغتصبن ويُعذبن ويترملن ويُقصَين نتيجة انقسامات العشائر، كما أنهن يشاهِدن دون حولٍ منهن ولا قوةٍ آباءهن وإخوانهن وهم يقاتلون أزواجَهن وأبناءَهن، فتقول عائشة: «شعرت أني لا أنتمي بالكامل إلى أي عشيرة؛ لأنه لم يثق فيَّ أيُّ شخص ثقة كاملة. جعلتني هذه اللحظة المؤلمة أدرك أن الحرب لا تحمل في جعبتها شيئًا للنساء سوى الموت والدمار والخراب. ومن هنا أتى دافعي للمخاطرة والعمل من أجل السلام. ولأن كثيرات من النساء مررن بفقدان الهوية بين عالمين مختلفين متناحرين، اكتشفت أنه يتعين عليَّ أن أخلق مكانًا جديدًا ومختلفًا يمكن فيه لهؤلاء «المستبعَدات» الانتماء إليه.» تنبهت عائشة إلى أن النساء يمكن أن يكُنَّ حلًّا للجمود الثقافي العميق الذي يزيد زخم الحرب بين العشائر. ولأن كثيرًا من النساء لم يكنَّ ينتسبن لأي عشيرة، اعتقدت عائشة أن هؤلاء النساء يمكن أن يكُنَّ الجسر الذي يصل بين الغرماء.

وهكذا في عام ١٩٩٢، في محاولة لتحقيق رؤيتها لإقامة صومال موحدة وديمقراطية يعمها السلام وتُعلي من القيم الإنسانية، بدأت في تنظيم وتأسيس منظمة إنقاذ النساء والأطفال الصوماليين؛ وهي منظمة لا تهدف للربح، مقرُّها مقديشيو ولها حضور في كل أنحاء البلاد. ولعزمها على إشراك النساء في مفاوضات حفظ السلام، دعت عائشة مع منظمة إنقاذ النساء والأطفال الصوماليين إلى الاعتراف الرسمي بهويات وحقوق كل سيدة من سيدات الصومال، وهي فكرة ثورية في الصومال. ولما رأت عائشة وزميلاتها الناشطات أن العشائر الوطنية الخمس تمتعت بشرعية لم تتمتع بها النساء مجتمعات، شكَّلن «العشيرة السادسة»، من أجل النساء الصوماليات وحدهن. نتج عن هذا المسعى عاصفة نارية من النقد والتهديدات بالقتل، لكن عائشة تمسكت بالفكرة وقول: «لولا تلك الهوية … لما أُتيحت فرصة للصوماليات أن يكنَّ جزءًا لا يتجزأ من العملية السياسية الصومالية. انتبهت إلى تلك الهوية وإلى تلك الاستراتيجية، وأخذت في التفكير في طرق مبتكرة من أجل خلق وتشكيل هويتنا كنساء.»

لم يكن الطريق معبَّدًا، لكن عائشة آمنت بمهمتها إيمانًا راسخًا لدرجة أنها كانت على استعداد للمخاطرة بحياتها في سبيل مستقبل بلدها، تقول عن ذلك: «أُدرك أنني سأُقتل يومًا ما، لكن من الأفضل أن أموت وقد صنعت تغييرًا. إنني أقوم بما أقوم به من أجل بناتي، من أجل صومال جديدة.» وقد تكللت جهودها بالنجاح؛ إذ تم الاعتراف بالعشيرة السادسة عام ٢٠٠٠، وأصبحت عائشة أول امرأة تنال مقعدًا في مفاوضات حفظ السلام إبان محادثات آرتا للسلام في العام ذاته. وفي ٢٩ أغسطس من عام ٢٠٠٤، اختيرت عائشة حجي علمي لتصبح عضوة في البرلمان الفيدرالي الانتقالي الذي يمثل الهيئة التشريعية الصومالية، التي تنتخب الرئيس ورئيس الوزراء، ولها سلطة اقتراح القوانين والموافقة عليها. وعلى صعيد جهودها من أجل بناء السلام وإعلاء صوت المرأة إلى الصدارة، فازت عائشة بجائزة رايت لايفيلهود (جائزة نوبل البديلة)، وأصبحت واحدة ممن تلقوا جائزة المواطن العالمي التي تمنحها مؤسسة كلينتون، وذلك في عام ٢٠٠٩.

رغم أن أمَّتها لا تزال في فقر مدقع واضطراب لا يهمد، شهدت عائشة تقدمًا؛ فاعتبارًا من عام ٢٠١١ أصبحت عائشة واحدة من ضمن خمس وعشرين سيدة بالبرلمان الوطني، ومن خلال عملها مشرِّعة ورئيسة لمنظمة إنقاذ النساء والأطفال الصوماليين، تسهم في إحداث تحول في المفاهيم الاجتماعية والسياسية التي طالما حكمت وطنها، كما أنها تشجع على المشاركة السياسية والتنمية الاقتصادية وتعليم للمرأة. لا يزال الوضع الصومالي مروِّعًا، لكن لا تزال عائشة يحدوها الأمل، ولا يزال اهتمامها بالعمل متقدًا؛ تقول: «إن الحل الصومالي بالغ الوضوح؛ فنحن في حاجة إلى حل سياسي شامل، والوسيلة المناسبة لهذا هي المصالحة؛ مصالحة حقيقية، جادة، شاملة، والحوار وبناء الثقة بين العشائر … نحن في حاجة إلى كل هذه الحلول الإيجابية والعملية.» ومن خلال عملها، تُظهر عائشة كل يوم أن النساء عملة نفيسة في عملية بناء السلام.

نهى الخطيب

إسرائيل

أعتقد أن المعجزة حدثت عندما رأيت حجرة الدراسة حافلة بالتلاميذ العرب واليهود، والوضع بينهم طبيعي، وبإمكانهم الجلوس على البساط نفسه واللعب معًا. لم يكن عليَّ سوى أن أقدِّم لهم الدعم والحب حتى يفهم ويدرك كل طرف الطرف الآخر.

figure

إن الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين من أكثر مشكلات العالم تسببًا في الاستقطاب وعصيانًا على الحل. ورغم الجهود المكرَّسة من الزعماء المؤثرين على مدار نصف القرن المنصرم، لم يتحقق تقدم ملموس نحو السلام. نشأت أجيال من الفلسطينيين تحت وطأة الاحتلال، ونشأ إسرائيليون في خوف من الإرهابيين والهجمات الصاروخية.

حتى في الوقت الذي تصدرت فيه التوترات بين الإسرائيليين المقيمين في إسرائيل والفلسطينيين المقيمين في غزة والضفة الغربية عناوين الصحف، يعيش مليون ونصف المليون عربي داخل حدود إسرائيل، كمواطنين إسرائيليين.11 ورغم مشاركتهم الأرض نفسها، تفصل بين هؤلاء الإسرائيليين العرب والإسرائيليين اليهود خطوط غير مرئية تحدِث انقسامًا في المدارس والمجتمعات. ومع ضعف التواصل الحقيقي ومرور سنوات من الاستياء المتنامي، من الشائع أن تجد كلًّا منهما ينظر إلى الآخر باعتباره عدوًّا له.

في عام ١٩٩٨، تناهى إلى مسامع نهى الخطيب؛ وهي إسرائيلية من أصل عربي، أن ثمة مقابلات تُجرى مع المعلمين من أجل إنشاء مدرسة ابتدائية متكاملة جديدة أُطلق عليها «يدًا بيد». وهو مسعًى ثوري نال قدرًا بسيطًا من الدعم بين الإسرائيليين التقدميين. كان النموذج قائمًا على أساس المدارس المتكاملة التي نجحت في توحيد المجتمعات في بلدان أخرى مثل أيرلندا الشمالية، وانتاب نهى شعور عارم بأنها لا بد وأن تشارك في هذا المسعى.

تقول نُهى: «نشأت كعربية فلسطينية في مدينة يهودية. نشأت وأنا أعرف اليهود وأتحدث لغتهم وأقول لهم إنني فلسطينية، وإنني طبيعية مثل سائر البشر. طوال حياتي ظللت أقول للناس إنني أتمتع بالشرعية. وعندما سمعت عن هذه المدرسة المتكاملة، أدركت أنني أعرف ما ينتابهم من مشاعر، وفكرت أن بوسعي تقديم المساعدة.»

طلبت نهى فرصة لمقابلة شخصية، وعُرضت عليها في نهايتها وظيفة، إلا أنه عشية أول يوم لها كمعلمة، بدأت نُهى تتكهن بما سيحدث. هل ينبغي لها التحدث بالعبرية أم بالعربية؟ ماذا لو نشب خلاف؟ هل ستتحول التجربة إلى كارثة على الفور؟ عندما دلفت إلى حجرة الدراسة في اليوم الأول تبددت هواجسها؛ فقد شاهدت الأطفال العرب واليهود يتفاعلون كمجرد أطفال غير متأثرين بقرون من الصراع بين أسلافهم.

كان المنهج الذي أقرته الحكومة للمدارس الإسرائيلية لا يتناول سوى تاريخ إسرائيل، لكن نُهى أدمجت التاريخ الفلسطيني في المنهج بحيث يستطيع كلٌّ من العرب واليهود فهم خلفية الآخر، وكذا أدخلت التعليم ثنائي اللغة بحيث يتعلم كلٌّ من اليهود والعرب تحدُّث لغة الآخر بطلاقة. كانت موقنة أن مدرسة «يدًا بيد» ستبني جسورًا من التعاون والتفاهم بين الأطفال العرب والإسرائيليين، وأن مستقبل الجميع سيكون باهرًا، فتقول: «سيشعر اليهود بحرية دخول القُرى العربية والسير هناك بدون قيد والتحدث بالعبرية. كما ينبغي أن أشعر أنا أيضًا بالأمان عندما أتحدث العربية في كل مكان.»

التقينا بنهى أول ما التقينا بها في عام ٢٠٠٧، عندما جمعت منظمة أصوات حيوية شمل الإسرائيليات العرب واليهود معًا في ديري، بشمال أيرلندا؛ ليتعلمن من سيدات شمال أيرلندا كيف يتسنَّى لبلد أن يتغلب على الخلافات العميقة ليصبح مجتمعًا موحَّدًا. وعلى مدار العقد الذي أعقب توقيع اتفاقية الجمعة المجيدة للسلام، كانت نساء أيرلندا الشمالية جزءًا أساسيًّا في عملية نشر السلام في المجتمع.

وجدت نُهى نفسها تسأل السيدات من أيرلندا الشمالية أسئلة أساسية حول الصراع البروتستانتي الكاثوليكي: «ماذا كان سبب تقاتلكم؟» اعترفت لي فيما بعدُ قائلة: «قلت لنفسي: «ما هذا الذي أقول؟ لقد سمعت هذا السؤال مرات كثيرة جدًّا.» إنه لشعور عجيب أن تفكر في صراعات الآخرين، لأنك تعلم حينها الكثير جدًّا عن نفسك. نظرتُ إلى المناظر الجميلة وقلت: «ألا يمكنهم السمو فوق ذلك؟ ألا يمكنهم تجاوز ذلك؟» لكننا نحظى أيضًا ببلد بديع، ونتمتع بمنظر خلاب، ولا يمكننا السمو فوق الخلاف. لا يمكنني تجاوز الخلاف؛ ولذلك أحمل هذه الأفكار معي.»

بعد ست سنوات من افتتاح مدرسة «يدًا بيد» عام ١٩٩٨، شاركت نُهى في إدارة واحدة من مدارس «يدًا بيد» الأربع في إسرائيل. في عام ٢٠٠٩، تقلدت منصب مديرة التعليم المدني والتعليم المتعدد الثقافات بوزارة التعليم الإسرائيلية. تساعد نُهى كلًّا من المدارس العربية واليهودية على وضع المناهج التي تتضمن القيم التي غرستها في مدرسة «يدًا بيد»، والتي تتمثل في روح الجماعة والتفاهم والتعاون والتشارك في وطن واحد.

ترى نُهى أن طلابها هم مستقبل إسرائيل، وتعترف قائلة: «دائمًا ما يقولون إنهم لا يريدون منا أن نُثقل كاهلهم بالمسئولية. لكن تحدوني تطلعات عظيمة إلى أن بعضهم سيكونون قادة في مجتمعنا، وأنهم سيقودوننا إلى سبيل مختلف، إلى شيء جديد، بحيث يستطيع كلٌّ منا قبول الآخر على ذات الأرض.»

يثبت عمل نُهى أن إحراز التقدم ممكن حتى في واحدة من أكثر بقاع العالم إقصاءً. لقد رأبت الصدع بين العرب واليهود بتقديم رؤية جديدة عن الآخر إلى الجيل القادم. ربما لا ينبغي لهم أن يكونوا أعداءً. ورغم أن هؤلاء الأطفال عاشوا منقسمين في وقت من الأوقات، هم اليوم يرتادون المدرسة معًا، ويتحدثون اللغة نفسها، ويحاول كلٌّ منهم النظر إلى الآخر ليس كعربي أو يهودي، وإنما باعتباره أخًا له في الإنسانية.

لطيفة جبابدي

المغرب

لأكثر من خمسة وثلاثين عامًا، أخذت أنا ورفيقاتي في المغرب نغرس بذور الديمقراطية والعدالة والسلام. والآن، بدأت تلك البذور تُنبت ثمار التمكين الكامل للمرأة.

figure

منذ ثمانينيات القرن العشرين، عملت المؤسسة التي أسستها لطيفة جبابدي، والتي تُعرف باسم اتحاد العمل النسائي، على الارتقاء بحقوق المرأة في المغرب. ومنهجها في إصلاح «المدونة»؛ وهي قانون الأسرة الذي أقصى المرأة المغربية لتصبح مواطنة من الدرجة الثانية، كان علمانيًّا دائمًا، حتى جاء اليوم عندما تعرَّض لها ولزميلاتها أصولي ديني واصفًا إياهن بالكافرات. تقول لطيفة: «أتذكر أنني كنت أتساءل: هل الإسلام حقًّا ضد حقوق المرأة والفتاة؟»

بدأت لطيفة وزميلاتها دراسة القرآن، وأخذن يقرأن النص من منظور امرأة. بعد اكتشاف لطيفة للكثير من الآيات القرآنية التي تؤكد على المساواة وحقوق الإنسان، أدركت أن الشريعة الإسلامية تقوم على مجموعة من المبادئ التوجيهية، وليست أحكامًا جامدة غير قابلة للتغيير. أقامت لطيفة وزميلاتها حججهن المؤيدة لحقوق المرأة على أساس جوهر الإسلام، وتعمقن في دراسة القرآن، الذي اكتشفن أنه يمكن أن يكون قوة مؤثرة من أجل تمكين المرأة.

في عام ١٩٩٢، دشنت منظمة الدكتورة لطيفة حملة لجمع مليون توقيع من أجل إصلاح المدونة. أردن أن يُظهرن للناس أن المدونة ليست مقدسة، بل هي قانون مدني ينبغي أن يُطرح للنقاش. كان هدفهن زيادة الوعي بشأن المساواة بين الجنسين، والارتقاء بحقوق المرأة، ووقف العنف ضد المرأة.

في العام ذاته، أصدر الزعماء الأصوليون الدينيون فتوى، أو حكمًا دينيًّا، ضد لطيفة وغيرها من المشاركات بالحملة. وعليه، نظمت لطيفة حملة مناهضة في المساجد بالمدن النائية بالمغرب؛ مما أثار ردود فعل عنيفة ضد جميع من شاركن في الحملة. كانت هذه المعارضة العنيفة بمثابة صدمة للمغرب، الذي طالما اعتُبر واحدًا من أكثر البلدان اعتدالًا في العالم العربي. ولم تكن لطيفة، التي قاست السجن والتعذيب كمنشقة يسارية في سبعينيات القرن العشرين، لتستسلم.

تستدعي لطيفة اللحظات التي منحتها القوة والشجاعة والمثابرة قائلة: «أتذكَّر أنه ذات يوم حضرت سيدة فقيرة أمية لا تفقه شيئًا عن المدونة أحد اجتماعاتنا. بعد تحدُّثها إلينا، اقتنعت أن إصلاح المدونة قضيتها هي الأخرى، وسرعان ما أصبحت إحدى أقوى المدافعات عن قضيتنا؛ تطرق الأبواب وتبلِّغ الدعوة.»

طوال نشاط لطيفة الحقوقي اعتمدت على نصوص إسلامية من القرآن، إضافة إلى مبادئ حقوق الإنسان الجامعة. وفي النهاية، نالت سنوات النشاط الحقوقي من جانب الحركة النسائية والمجتمع المدني بالمغرب انتباه صاحب الجلالة الملك محمد السادس.

في فبراير ٢٠٠٤، تبنَّى الملك إصلاحات تاريخية على المدونة، تدعم المرأة والطفل، وتؤكد على المساواة والعدالة وحرية الاختيار فيما يخص الزواج والطلاق والتعليم والوصاية والمسئولية. كفل القانون الجديد حقوقًا وواجبات متساوية للرجال والنساء في رباط الزواج، وخاطبهما باعتبارهما شركاء. كان هذا القانون يمثل تغيرًا هيكليًّا ومؤسسيًّا لم يقتصر تأثيره على المجتمع المغربي وحسب، وإنما في طريقه للتأثير على العالم الإسلامي.

لقد جعل المغرب الديمقراطية والحداثة خيارًا استراتيجيًّا لا رجعة فيه؛ فعن طريق تعديل قانون الأسرة، بفضل جهود لطيفة، أخذ بلدها يخطو خطوات حثيثة نحو ثورة سلمية من أجل النساء. في عام ٢٠٠٧، ترشحت لطيفة للبرلمان ونالت مقعدًا به. وبصفتها قائدة منتخبة، عملت داخل الحكومة على تفعيل القانون، وتعاونت مع الناس من أجل نشر الوعي ليصل إلى أبعد بقاع المغرب. إنها تسعى إلى تعليم الأميين من الرجال والنساء، الذين لا يُتاح لهم سوى قدر ضئيل من المعلومات الموضوعية حول إصلاحات المدونة، ولا يملكون من المقدرة ما يمكِّنهم من الحصول على مساعدة قانونية. تريد لطيفة من شعب المغرب أن يعرف أن: «القانون ليس نصرًا للمرأة وحدها، وإنما للأسرة والمجتمع والأجيال القادمة، وأن الاستثمار في تمكين المرأة هو بمنزلة استثمار في مستقبل المغرب.»

أودا كاسينزيجوا

رواندا

في رواندا اليوم، لا توجد نساء من الهوتو أو نساء من التوتسي، بل نساء وحسب. الأمر المهم هو وحدة نساء رواندا من أجل تحقيق الاستقرار والازدهار لعائلاتنا.

في الوقت الذي عُقد فيه مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالمرأة عام ١٩٩٥ في بكين، كان بلد أودا كاسينزيجوا يشرع في الخروج من أهوال الإبادة الجماعية. في غضون مائة يوم، قُتل أكثر من مليون شخص في الإبادة الجماعية برواندا؛ ما جعل النساء الغالبية العظمى من السكان. يتحملن مسئولية إعادة بناء الأمة، واستئناف الإنتاج الزراعي، وإعادة بناء منازلهن، ودفن موتاهن، وإطعام أطفال بلدهن الذين يُتِّمَ كثيرٌ منهم.

في أعقاب المأساة، أدركت نساء رواندا، سواء من الهوتو أو التوتسي، أن ثمة الكثير من الأشياء التي تجمع بينهن، فكن يحاولن إعالة أسرهن على ما ندر من ماء وغذاء. عانت السيدات من مشكلات صحية وصدمات وعبء عدوى فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز، التي انتقلت إلى عدد لا حصر له من السيدات اللاتي تعرَّضن للاغتصاب باعتباره استراتيجية من استراتيجيات الحرب.

figure

تسترجع أودا ما حدث إذ تقول: «عندما حلَّ الدمار بحياة الناس وأصبحت حياتهم في خطر، عندما كان الأطفال يموتون والكثيرون بلا مأوى، لم تتردد نساء رواندا في التماس المساعدة.» في عام ١٩٩٥، تعهدت أودا وغيرها من النساء من مختلف أرجاء رواندا — من الهوتو والتوتسي على السواء — بعدم خضوعهن مرة أخرى للعنف. أدركت أودا أنه إن كانت النساء سيضطلعن بإعادة بناء أمتهن، فإنهن في حاجة إلى توحيد أنفسهن وتنظيم صفوفهن. في عام ٢٠٠١، أسست النساء من مختلف أرجاء رواندا المجلس الوطني للمرأة؛ وهو أكبر منظمة نسائية في رواندا. انتُخبت أودا من قبل النساء على المستوى الشعبي لتكون أمينة المجلس، وفي عام ٢٠٠٤ انتُخبت رئيسة له.

أرادت أودا والقيادات النسائية بالمجلس، بدعم من رئاسة الوزارة الجديدة، القيام بأكثر من استعادة الوضع الذي كان قائمًا من قبل. كن يردن رواندا جديدة، يُسمع فيها صوت كل مواطن ويُحترم؛ ومن ذلك أصوات النساء. وإدراكًا منهن أن ثمة ضرورة حتمية لأن يتضمن الدستور الجديد هذه القيم، صُغن التماسًا يحدد الخطوط العريضة لحقوق المرأة، وسافرن من قرية لقرية من أجل حشد الدعم.

توضح أودا الموقف قائلة: «في كثير من البلدان حول العالم، أسمع قصصًا مشابهة. يَعِد القادة السياسيون بحماية حقوق المرأة ودعم الجهود الرامية إلى النهوض بالمرأة، وتوقع الحكومات على معاهدات حقوق الإنسان أو التشريعات الجديدة، لكن دون الإرادة السياسية لتفعيل أو تنفيذ هذه القوانين، لن يتحقق تقدم حقيقي.» كانت هي وغيرها من عضوات المجلس عازمات على مواصلة مناصرة قياداتهن ودعمهن والتعاون معهن؛ فالسبيل الوحيد لضمان مستقبل سلمي ومزدهر لرواندا كان يتمثل في حماية حقوق النساء، ودعم ارتقائهن كقائدات في الحكومة وقطاع الأعمال والمجتمع المدني.

إن المبادرة الشعبية لناشطات رواندا الهادفة إلى تنظيم النساء وتعزيز مهاراتهن، إضافة إلى الإرادة السياسية للحكومة الرامية إلى إشراك أصوات نسائية في الدستور الجديد، مكنتهن من الفوز بمكان على طاولة صنع القرار. في عام ٢٠٠٣، ضغطن من أجل انضمام قيادات نسائية إلى لجنة صياغة الدستور، واستغلت السيدات اللاتي كن عضوات بتلك اللجنة تأثيرهن في إدماج قوانين تحمي المرأة والأسرة وحقوق الإنسان بالدستور. شملت نجاحاتهن وضع قانون زواج يحقق المساواة، واستحداث حقوق المرأة في الميراث. تضمنت السياسة الجنسانية الوطنية في رواندا حصة نسبتها ٣٠ بالمائة كحد أدنى لضمان تمثيل المرأة على المستويات كافة بالحكومة.12 في الواقع، اعتبارًا من عام ٢٠١٢، شكلت النساء نسبة ٥٦ بالمائة من المجلس الأدنى بالبرلمان الثنائي التمثيل، وهي أعلى نسبة مئوية لتمثيل المرأة في العالم؛13 وقد تقلدن أيضًا عددًا من المناصب المهمة بالحكومة.14
تضم الشعبة النسائية بالبرلمان سيدات من كل الخلفيات يدافعن معًا عن حقوق المرأة. وعلى المستوى الاقتصادي، أنشأن برامج الإقراض بنظام التمويل المتناهي الصغر والمزارع الجماعية. وتفتخر رواندا بأن إجمالي الناتج المحلي لديها من أسرع إجماليات الناتج المحلي نموًّا في أفريقيا.15 إنهن يستخدمن وسائل الإعلام، لا سيما الإذاعة؛ لتثقيف السكان بشأن قضايا عدة مثل فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز، والعنف الموجه ضد المرأة، ويضعن برامج للتعامل مع تحديات فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز والملاريا وسوء التغذية، كما يحفزن النساء والفتيات على التعلم.16 وفي عام ٢٠٠٨، عينت الحكومة أودا رئيسة لمراقبة الشئون الجنسانية بمكتب الرقابة على الشئون الجنسانية.

اعتبارًا من عام ٢٠١١، مثلت نساء رواندا البرلمان الوحيد ذا الأغلبية النسائية في العالم؛ ليثبتن بأفعالهن وبوجودهن أن المرأة في الحكومة يمكن أن تكون قائدة عملية التعافي وراعية الأمة. إن أودا وبنات بلدها عازمات على ألا تتكرر الإبادة الجماعية أبدًا، ويفخرن بأنهن نموذج — لأفريقيا والعالم — يُظهر كيف تصل النساء ما يُقطَع لتحقيق الإنجازات، حتى في ظل أشد الظروف صعوبة.

ريتا شايكن

إسرائيل

صادفتُ في إسرائيل الكثيرات من الروسيات اللاتي خُدعن وأصبحن ضحايا. في ذلك الوقت لم يكن هناك من يدافع عن حقوقهن، أو يأخذ المشكلة على محمل الجد. أما الآن فقد بدأ الناس يدركون أننا نتعامل مع ظاهرة، لا مجرد مجموعة من الحالات الفردية. كنا بحاجة إلى حلفاء من كثير من القطاعات لإحداث التغيير.

figure

بينما نشأت ريتا في إسرائيل، إلا أنها من أصل أوكراني وتتحدث الروسية والأوكرانية بطلاقة. في عام ٢٠٠١، عندما كانت تعمل بمركز أزمات الاغتصاب في مدنية كريات شمونة بشمال إسرائيل، طُلب منها تقديم النصح والإرشاد للسجينات. وإذ أذهلها عدد الروسيات السجينات، سرعان ما أدركت أن هؤلاء النساء لسن مجرمات. كن ضحايا الاتجار بالبشر، والبعض منهن كن في الخامسة عشرة من العمر.

بعد ذلك بوقت قصير، بدأت ريتا في التطوع لدى منظمة «امرأة لامرأة»، التي كانت قد بدأت مشروعًا في شمال إسرائيل لمساعدة السيدات من الاتحاد السوفييتي السابق، اللاتي خلال بحثهن عن فرص عمل بالخارج سقطن فريسة للاتجار بهن، وأُجبرن على امتهان الدعارة. قدَّمت ريتا لهن المشورة معتمدة على الخبرة التي اكتسبتها من العمل في كريات شمونة. وفي عام ٢٠٠٢، استعانت المنظمة بخدماتها للإشراف على المشروع الجديد، الذي تضمن توفير الدعم العملي والعاطفي والقانوني لضحايا الاتجار بالبشر، وكذا تخصيص خط ساخن لضحايا السجون أو أوكار الدعارة.

واجهت ريتا ثلاثة تحديات رئيسية؛ أولها: أنه كان من الصعب بناء علاقات عمل مع الشرطة وإقناعها بأخذ القضية على محمل الجد، وثانيها: أن الحكومة لم تكن على استعداد في بادئ الأمر للمشاركة في القضية، وأما التحدي الثالث فيتمثل في قلة المعلومات التي تمتلكها الشرطة الإسرائيلية بشأن الاتجار في النساء. أدركت ريتا أنها ستحتاج حلفاء من قطاعات المجتمع كافة لمحاربة المشكلة.

لإشراك الشرطة في القضية، اعتادت ريتا على تقديم شكاوى رسمية، وفي كل شكوى كانت تعرض على الشرطة تدريب أفرادها على كيفية التعامل مع ضحايا العنف والاتجار بالبشر؛ ما يوفر فرصة للتعاون. كما حاولت التأثير على الإدارة الشُّرَطيَّة؛ إذ كانت على بينة أنه بمجرد أن تشترك الإدارة الشرطية في القضية ستنقل الاهتمام بها تنازليًّا عبر الرتب.

وفي النهاية، شعرت الشرطة نفسها بعدم قدرتها على التعامل مع العدد المتنامي بسرعة لحالات الاتجار بالبشر، فاتجهت إلى منظمة امرأة لامرأة لالتماس المشورة والمساعدة بشأن الناجيات. تعاونت ريتا من كثب مع أفراد الشرطة من أجل مساعدتهم على إدراك أن الاتجار بالبشر يُعد جريمة، والتعامل مع من تعرضن للاتجار كضحايا لا كمجرمات. كما ساعدت على التأكد من حضور كل أفراد الشرطة محاضرة حول الاتجار بالبشر كجزء من تدريبهم الأساسي.

من رحم هذا التعاون خرج برنامج العودة الآمنة. قبل مغادرة أي سيدة إسرائيل، يُجرى الاتصال بالمنظمات غير الحكومية الشريكة في موطنها الأصلي، وكذلك في مدينة الترانزيت، بحيث يمكن للمنظمات غير الحكومية المحلية إيفاد ممثل للقاء هذه السيدة، وضمان وصولها إلى موطنها الأصلي أو ملجئها بأمان. ويمكن آنذاك للمنظمة غير الحكومية أن تقدم للسيدة أي صورة من صور الدعم، أو المساعدة، أو إعادة التأهيل التي تُتاح لها. ولولا هذا الدعم، كثيرًا ما تعود الناجيات من الاتجار بالبشر إلى نفس الظروف التي أوقعتهن فريسة للاتجار بالبشر في البداية.

ومثلما يمتلك المتاجرون بالبشر شبكات قوية، يجب أن يمتلك من يكافحونهم شبكات قوية في المقابل. تشارك ريتا في مؤتمرات مكافحة الاتجار بالبشر في روسيا وأوكرانيا، وغيرهما من بلدان الاتحاد السوفييتي السابق؛ حيث تستغل هذه الفرص من أجل تقوية العلاقات، وإقامة شراكات جديدة، وتبادل المعلومات.

كما تتعاون ريتا من كثب مع اللجنة البرلمانية المناهضة للاتجار بالبشر. ذات مرة قالت لها إحدى عضوات الكنيست الإسرائيلي: «عندما شكَّلنا اللجنة، لم يكن أغلب النواب يدركون — وأنا شخصيًّا من بينهم — أننا نتعامل مع ظاهرة، لا مجرد مجموعة من الحالات الفردية.» أمضت ريتا وقتًا طويلًا تلتقي بأعضاء البرلمان وغيرهم من المسئولين الحكوميين؛ لتشرح لهم حقائق الاتجار بالبشر، مؤكدة على ضرورة فعل المزيد، ومقدمة لهم اقتراحات واقعية في هذا الصدد. وكجزء من الائتلاف الإسرائيلي المناهض للاتجار بالبشر، تعاونت ريتا مع الحكومة من أجل إقامة ملجأ للناجيات اللاتي يرغبن في الشهادة في الملاحقات القضائية بحق المتاجرين بالبشر.

إن تقرير الاتجار بالبشر الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية — أول من أعدته آمي أونيل ريتشارد، ويتولى مارك تايلور الإشراف عليه حاليًّا — قد ساعد ريتا على الضغط على الحكومة الإسرائيلية وكثير من الحكومات حول العالم من أجل فعل المزيد لمكافحة الاتجار بالبشر. لم تسنَّ الحكومة قانونًا لمكافحة الاتجار بالنساء بغرض الدعارة إلا بعد أن جاءت إسرائيل في المرتبة الثالثة بالتقرير. في واقع الأمر، سُن القانون بعد صدور التصنيف بثلاثة أيام فقط. وفي عام ٢٠٠٦، بفضل الجهود التي لم تتوقف للمنظمات غير الحكومية، والتي لعبت فيها ريتا دورًا نشطًا، جرت الموافقة على قانون جديد لمكافحة الاتجار بالبشر.

ثمة إنجازات تحققت على طول الطريق؛ فالشرطة الآن تعتبر ريتا وزميلاتها ثقات في قضايا الاتجار بالبشر، وتعهد إليهن بمهمة التعرف على الضحايا. وبفضل عملهن، لا يوجد ضابط شرطة في إسرائيل يجهل قضية الاتجار بالبشر، وتستجيب الشرطة على الفور عندما تبلغهم ريتا عن سيدة بحاجة إلى مساعدتهم. كما لمست ريتا تغيرًا إيجابيًّا في طريقة تعامل وكلاء النيابة العامة مع الضحايا. وبالنسبة إلى الضحايا اللاتي يدلين بشهادتهن بحق من تاجر فيهن يحصلن على الحماية في ملاجئ، ويُسمح لهن بالمكوث في الدولة لمدة عام على الأقل. وفي النهاية، حظيت ريتا ومنظمتها بثقة الناجيات من الاتجار، واليوم ينقلنَ رقمَ الخط الساخن إلى أخريات.

في عام ٢٠١٠، دُعيت ريتا للشهادة في موسكو بحق أحد أكثر المتاجرين بالبشر نشاطًا في أوروبا. وقد استُدعيت كشاهدة خبيرة لشرح التبعات التي مرَّ بها ضحايا المدعى عليه. أُدين المتاجر بالبشر وحُكم عليه بالسجن تسعة عشر عامًا، ونال شركاؤه أحكامًا تراوحت بين عشر سنوات واثنتي عشرة سنة. ولا تزال المعركة ضد استرقاق البشر مستمرة، وتخوض ريتا وزميلاتها غمار هذه المعركة كل يوم.

أفنان الزياني

البحرين

جئنا إلى هنا كي نجعل العالم مكانًا أفضل؛ من واجب كل واحدة منا وبمقدورها أن تشارك.

figure

أفنان الزياني واحدة من أبرز وأنشط سيدات الأعمال في البحرين؛ فهي المديرة التنفيذية لشركة تبلغ قيمتها عدة ملايين من الدولارات، وناشطة من ناشطات المجتمع المدني، وصاحبة كتاب في فن الطهي، وتقدم برنامجها التليفزيوني عن الطهي. ربما ليس من السهل إحراز النجاح كسيدة أعمال في الشرق الأوسط، لكن أفنان دليل حي على قوة الإرادة؛ فما من أمر تقرره إلا وتنفذه.

مع ذلك، لم يكن النجاح الشخصي كافيًا بالنسبة إلى أفنان؛ فقد شعرت بمسئولية تمهيد السبيل أمام نساء أخريات. في عام ٢٠٠٢، اضطلعت بقيادة جمعية سيدات الأعمال البحرينية كوسيلة للتواصل مع رائدات الأعمال الصاعدات ومد يد العون لهن، وفي عام ٢٠٠٦، قررت هي وغيرها من كبريات سيدات الأعمال بالمنطقة أنهن يُردن التواصل فيما بينهن لتبادل استراتيجيات الأعمال وتكوين شراكات جديدة. تقول أفنان عن ذلك: «نحن سيدات الأعمال بالبحرين أدركنا أنه لا بد أن هناك سيدات أعمال ناجحات في تونس أو الكويت، لكن لم تُتح لنا أية وسيلة للتواصل معهن.» في شراكة مبتكرة بين القطاعين العام والخاص جمعت بين وزارة الخارجية الأمريكية، وشركة إكسون موبيل، ومنظمة أصوات حيوية، وجمعيات سيدات الأعمال من عشر دول بالمنطقة، ساعدت أفنان على تأسيس شبكة سيدات أعمال الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ المخصصة للتواصل مع آلاف سيدات الأعمال الصاعدات وتدريبهن وتوجيههن. وقد عملت كبريات القيادات النسائية والتنفيذية من الولايات المتحدة وأوروبا سفيرات مؤسسيات، فسافرن إلى المنطقة من أجل الندوات التدريبية. ونتيجة لدعم الشبكة، أُنشئ ما يقرب من خمسمائة شركة جديدة في أنحاء المنطقة فيما بين عامي ٢٠٠٧ و٢٠١١. في الواقع، ثبت أن نموذج شبكة سيدات أعمال الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الذي قادته أفنان وشريكاتها على درجة عالية من الفعالية؛ لدرجة أن منظمة أصوات حيوية تتعاون حاليًّا مع جمعيات سيدات الأعمال المحلية والشركاء، ومنهم إكسون موبيل؛ من أجل تطبيق هذا النموذج في أفريقيا وأمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي وآسيا.

تُعجَب الشابات في جميع أنحاء البحرين بأفنان لدورها الريادي؛ فإلى جانب حملها شعلة تهتدي بها كثيرات من سيدات الأعمال الناشئات، فقد استغلت مصداقيتها وشهرتها والشبكات الضخمة في السعي إلى تغيير القوانين الجائرة المؤثرة على المرأة بالبحرين. ظلت المنظمات غير الحكومية تضغط دون تحقيق نجاح على الحكومة من أجل وضع قانون يحمي المرأة البحرينية في حالات الطلاق، لا سيما فيما يتعلق بحضانة الطفل. وفي عام ٢٠٠٦، خاضت أفنان غمار الجدل من خلال عملها مع جمعية سيدات الأعمال البحرينية. وباشتراكها في الحوار الوطني، تمكنت من إعادة تأطير النقاش بحيث يكون مثمرًا. واستنادًا إلى منصة أعمال قوية والشبكة التي شكلتها مع الاتحاد البحريني النسائي وشخصيتها الكاريزمية، وضعت أفنان المشكلة في سياقها الصحيح واقترحت حلًّا وطنيًّا، وبلغة تناسب الزعماء الدينيين والمسئولين الحكوميين. في عام ٢٠٠٩، أُقر الجزء الأول من قانون الأسرة الخاص بأبناء الطائفة السنية. واعتبارًا من عام ٢٠١٢، استؤنفت الجهود من أجل منح الحقوق القانونية نفسها للطائفة الجعفرية (الشيعية)، بحيث يمكن لجميع الأسر البحرينية التمتع بسبل الحماية ذاتها تحت مظلة القانون. أصبحت سيدات الأعمال القويات بطلاتٍ في مجتمع المنظمات غير الحكومية؛ إذ أثبتن أن التكاتف بين القطاعات يمكن أن يعود بالنفع على الجميع، ويثمر نتائج أسرع وأكثر تطورًا مما يمكن لأي طرف أن يحققه منفردًا.

استُنسخت منهجية أفنان في كثير من البلدان بالمنطقة؛ واعتبارًا من عام ٢٠١١ اضطلعت عضوات شبكة سيدات أعمال الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بسبع مبادرات حقوقية ومشاريع إصلاحات قانونية. أثبت النموذج أن سيدات الأعمال بوسعهن رأب الصدع بين المجتمع المدني والحكومة، ويمكنهن أن يلعبن دورًا مؤثرًا في الدعوة إلى التغيير.

ترى أفنان أنه «يتعين علينا أن نكون مؤثرين»، جاعلة من ذلك قوة دافعة لها، وتضيف: «لا يهم إن كنتِ في منزلك أو قريتك أو تديرين شركة؛ بإمكان الجميع أن يصبح مؤثرًا ويحدث فارقًا في مجتمعه.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤