الباب الثاني

ما دمنا نبحث فيما هي مبادئ الجسم المدرك بحواسنا؛ أعني الجسم الذي يستطيع اللمس أن يدركه، وما دام أن جسمًا يعرفنا إياه اللمس هو الذي يكون حسه الخاص هو اللمس، فينتج بالبداهة أن جميع المقابلات بالأضداد التي يمكن مشاهدتها في الجسم لا تؤلف أنواعه ومبادئه، ولكنها إنما هي فقط أنواع ومبادئ الأضداد التي تخصُّ حاسة اللمس. إن الأجسام تتمايز بأضدادها، ولكن بأضدادها التي يمكن للمس أن يبيِّنها لنا؛ لذلك نرى لماذا أنه لا البياض ولا السواد ولا الحلاوة ولا المرارة ولا أي واحد من الأضداد المحسوسة ليس عنصرًا للأجسام.١
وهذا لا يمنع أن يكون النظر حاسة أسمى من اللمس، وبالنتيجة أن موضوع النظر هو أسمى أيضًا. ولكن النظر ليس عرضًا للجسم الملموس بما هو ملموس، بل هو يرجع إلى شيء مغاير تمامًا يمكن مع ذلك أن يكون متقدمًا عليه بطبعه.٢
حينئذ بالنسبة للملموسات أنفسها يلزم الفحص والتمييز بين الفصول الأولى لها ومقابلاتها الأولى بالأضداد. المقابلات والمضادات التي يبينها لنا اللمس هي الآتية: البارد والحار، اليابس والرطب، الثقيل والخفيف، الصلب واللين، الدبق والفريك، الأملس والخشن، الكثيف والمتخلخل. من بين هذه الأضداد الثقيل والخفيف ليسا لا فاعلين ولا منفعلين؛ لأنه ليس لأنهما يفعلان أحدهما في الآخر أو لأنهما ينفعلان أحدهما من الآخر أعطيا الاسم الذي يحملانه. ومع ذلك يلزم أن العناصر يمكن أن تفعل وتنفعل بعضها من بعض على طريق التكافؤ ما دام أنها تختلط وتتغير على طريق التكافؤ بعضها إلى بعض.٣
ولكن الحار والبارد واليابس والرطب هي مسماة كذلك أولاهما لأنها تفعل والأخرى لأنها تنفعل؛ فإن الحار هو الذي يجمع ما بين الجواهر المتجانسة؛ لأن التفريق الذي يقال عن النار إنها تفعله إنما هو في حقيقة الأمر تركيب الأشياء التي من نوع واحد ما دام أن الذي يحصل إذن هو أن النار تخرج الجواهر الغريبة وتنفيها. والبرد على ضد ذلك يجمع ويركب على السواء الأشياء التي من نوع واحد، والتي ليست من نوع واحد، ويسمى سائلًا ما ليس محدودًا في صورته الخاصة، ولكنه يمكن مع ذلك أن يقبل بسهولة صورة. واليابس على ضد ذلك هو ما كان بما له من صورة محددة تمامًا في حدودها الخاصة لا يقبل صورة جديدة إلا بعناء.٤
من هذه الفصول الأول إنما يأتي المتخلخل والكثيف والدبق والفريك والصلب واللين والفصول الأخرى المشابهة؛ إذن فإن جسمًا له خاصة إمكان أن يملأ الأين بسهولة يتصل بالسائل؛ لأنه غير محدد هو نفسه، وإنه يخضع من غير أدنى عناء إلى فعل الشيء الذي يلمسه تاركًا ذاته تأخذ صورة ذلك الشيء. كذلك المتخلخل يمكنه أن يملأ الأين على سواء؛ لأنه لما لم يكن له إلا أجزاء خفيفة وصغيرة كان يجيد الملء ويلامس تمامًا، وهذه الخاصة تميز على الخصوص الجسم المتخلخل. حينئذ بالبديهة المتخلخل يقارب السائل في حين أن الكثيف يقارب اليابس، ومن جهة أخرى الدبق يتعلق أيضًا بالسائل؛ لأن الدبق ليس إلا نوعًا من السائل مع بعض كيفيات كالزيت. ولكن الفريك يتعلق باليابس لأن الفريك إنما هو النام اليبس. ويمكن القول بأنه لم يتجمد إلا لخلوه من كل سائل. ويمكن أن يقال أيضًا إن اللين جزء من السائل لأن اللين هو ما يطاوع عند الْتِوائه على نفسه ودون أن ينتقل، كما أن السائل يفعل هذا الفعل بالضبط أيضًا. تلك هي العلة في أن السائل لم يسم لينًا في حين أن اللين يتعلق بصنف السائل، وأخيرًا فالصلب يتعلق باليابس؛ لأن الصلب هو شيء من المتجمد والمتجمد يابس.٥
على أن يابسًا وسائلًا لفظان يحملان على معانٍ شتى؛ فإن السائل والمبتلَّ يمكن أن يعتَبَرا كمقابلين لليابس، كما أن اليابس والمتجمد هما مقابلان للسائل، وكل هذه الخواص المختلفة تتعلق بالسائل واليابس محمولين على المعنى الأوليِّ لهاتين الكلمتين؛ لأنه من حيث إن اليابس هو مقابل للمبتل وإن المبتل هو ما كان به على سطحه سائل غريب، في حين أن المتنقع هو ما به السائل إلى باطنه. ولما أن اليابس هو على ضد ذلك ما كان خلوًا من كل سائل غريب، فبين بذاته أن المبتلَّ يتَّصل بالسائل في حين أن اليابس المقابل له يتصل باليابس الأولي.٦
ويجري هذا المجرى أيضًا في السائل والمتجمد؛ فإن السائل لما كان ما به رطوبة خاصة والمتجمد ما هو خلو منها، يجب أن يستنتج منه أن هذين الكيفين أحدهما يتعلق بصنف السائل والآخر بصنف اليابس.٧
فبين حينئذ أن كل الفصول الأخرى يمكن أن يرجع بها إلى الأربع الأولى، وأن هذه لا يمكن أن ينزل عددها إلى أقل من ذلك؛ لأن الحار ليس هو والرطب أو اليابس شيئًا واحدًا، كما أن الرطب ليس هو لا الحار ولا البارد. كذلك البارد واليابس ليسا تابعين أحدهما للآخر، كما أنهما ليسا تابعين للحار ولا للرطب. والحاصل أنه لا يوجد ضرورة إلا هذه الأربعة الفصول الأصلية.٨

هوامش

(١) (ب٢ ف١) الجسم المدرك بحواسنا: الجسم المادي والمحسوس. أعني الجسم الذي يستطيع اللمس أن يدركه: يلاحظ فيلوبون بحق أن أرسطو يشتغل أولًا بحاسة اللمس؛ لأن هذه الحاسة أكثر الحواس إدراكًا ممكنًا؛ فإن من الأجسام التي تخفى على نظرنا ما ندركه بحواسنا، وذلك كالهواء؛ إذ بينما لا يمكننا أن نراه يؤثر في إحساسنا بأن يلامسنا. يعرفنا إياه اللمس: عبارة النص هي: «جسم قابل للمس.» التي يمكن مشاهدتها في الجسم: أضفت هذه العبارة لبيان الفكرة تمامًا. لا تؤلف أنواعه ومبادئه: هذا التفوق الذي لحاسة اللمس يتقدم تمييز الكيفيات الأول والثاني للأجسام ويذكر به. تلك هي النظرية التي قبلتها بعد ذلك المدرسة الأيقوسية. ليس عنصرًا للأجسام: عبارة النص: «لا تكون عناصر.»
(٢) أن يكون النظر حاسة أسمى: ر. كتاب النفس ك٢ ب٧ ص٢٠٨ من ترجمتنا في نظرية الرؤية. من اللمس: ر. كتاب النفس ب١١ ص٢٣٧. إن موضوع النظر هو أسمى أيضًا: ر. أول ما بعد الطبيعة: ك١ ب١ ص١٢١ من ترجمة كوزان الطبعة الثانية؛ فإن أرسطو يجعل فيها النظر أعلى مرتبة من جميع الحواس كما فعل هنا. ليس عرضًا: أو «كيفًا». إلى شيء مغاير تمامًا: حفظت عبارة النص على عدم تحددها. متقدمًا عليه بطبعه: أي للشيء الخاص بحاسة اللمس.
(٣) بالنسبة للملموسات أنفسها: حفظت كلمة النص بعينها التي لا خفاء في معناها بعد الإيضاحات السابقة؛ فإن الملموسات هي الأجسام التي تعرفها لنا حاسة اللمس فقط. الفحص والتمييز: ليس في النص إلا كلمة واحدة. ومقابلاتها الأولى بالأضداد: عبارة النص: «التضاد». لأنهما يفعلان أحدهما في الآخر: عبارة النص ليست على هذا الوضوح. أعطيا الاسم الذي يحملانه: عبارة النص أكثر إيجازًا.
(٤) أولاها لأنها تفعل: يظهر أن فعل البارد وفعل الحار متكافئان تمامًا، وأنهما يفعلان ويقبلان على السواء. ويعني بأولاها الحار والبارد وبأخراها اليابس والرطب، وقد عُنِيَ فيلوبون بأن يوضح في إطناب لماذا يجعل أرسطو من البارد والحار عنصرين فاعلين ومن اليابس والرطب عنصرين منفعلين، ر. عن هذه النظرية كلها الكتاب الرابع من الميتيورولوجيا ب١ وما بعده، ص٢٧٣ من ترجمتنا. هو الذي يجمع: وبهذا المعنى أن الحار يفعل. الجواهر المتجانسة: هذا يقال خصوصًا على الجواهر التي تسيح وتذوب تحت فعل النار، فيكون قوامها إذن كالسوائل. في حقيقة الأمر: زدت هذه الكلمات. تخرج … وتنفي: ليس في النص إلا كلمة واحدة. البرد على ضد ذلك يجمع: وعلى هذا المعنى فالبرد هو فاعل كاللحرارة، والتي ليست من نوع واحد؛ فإن الثلج يجلد ويجمع غالبًا الجواهر الأكثر تغايرًا. ما ليس محدودًا في صورته الخاصة: فإن السائل لم يكن ألبتة إلا صورة الحاوي له. أما هو نفسه فليس له صورة في كتلته. في حدودها الخاصة: أو «في سطحه الظاهر الخاص». صورة … حدود: النص يستخدم لفظًا واحدًا للدلالة على صورة أو حدود.
(٥) من هذه الفصول الأول: ليس النص على هذا القدر من الصراحة. والفصول الأخرى المشابهة: التي قد لا تكون إلا ثانوية بالنسبة للفصول الأول للبارد والحار واليابس والرطب. له خاصة إمكان أن يملأ الأين: ليس في النص إلا كلمة واحدة، ويمكن أيضًا أن يفهم من الأين «الأمكنة الفارغة أو التجاويف» كما فهم فيلوبون. يتصل بالسائل: عبارة النص بالضبط: «هو من السائل»؛ أي جزء منه. خفيفة وصغيرة: هذا غير صحيح تمامًا، وإن السطح مهما يكن متخلخلًا فإنه لا يحسن أن يملأ الأين بحسب الوضع الذي يعطي إياه. يتعلق أيضًا بالسائل: أو «من السائل» كما ذكر في المتخلخل. كالزيت: كان يمكن إيجاد مَثَل أكثر انطباقًا. من كل سائل: أو «من كل رطوبة». ودون أن ينتقل: كحال الماء الذي تنفصل جزئياته في حين أن الجسم اللين تبقى جزئياته متصلة مع مطاوعتها للضغط الواقع عليها. يتعلق بصنف السائل: «أو هو من السائل». من المتجمد: هذا هو لفظ النص بعينه تركته على عمومه.
(٦) يابسًا وسائلًا: أو «يابسًا ورطبًا»، وقد آثرت كلمة سائل حتى تكون مقابلته أظهر بالمبتل الذي سيأتي ذكره. اليابس والمتجمد: ربما يمكن أن يقال أيضًا (اليابس والمتجلد). هذه الخواص المختلفة: ليس النص على هذا القدر من الضبط. على المعنى الأوليِّ لهاتين الكلمتين: ر. الملاحظة في ف٣. المنتفع: أو «المغمور». يتصل بالسائل: ر. ملاحظتنا على هذا التعبير في الفقرة السالفة.
(٧) في السائل … بصنف السائل: يظهر أن هنا تكرارًا في الكلمات لا فائدة منه، وقد اضطررت أن أتبع الأصل. ولم يفسر فيلوبون هذا العيب الذي ربما لم يفطن له.
(٨) كل الفصول الأخرى: التي ذكرت ووضحت بعد الفصول الأربعة الأولية والأصلية. إلى الأربعة الأولى: البارد والحار واليابس والرطب. إلى أقل: يعني إلى اثنين بدل أربعة. والرطب: أو «السائل». الأصلية: أضفت هذا الوصف، ر. الكتاب الرابع من الميتيورولوجيا ب١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤