الفصل الثالث

لماذا لا تلجأ المؤسسات إلى الابتكار؟

تفكير ابتكاري! إننا لا نملك وقتًا حتى للتفكير الخاطئ. نحن نقول لأنفسنا إن الابتكار يأتي على قمة الأولويات، لكن في خضم الاجتماعات ورسائل البريد الإلكتروني ومحاولة اتقاء الأزمات اليومية لا نجد وقتًا أبدًا له.

إعلان آي بي إم في مجلة «فورتشن»، ٩ أغسطس، ٢٠٠٤

«الابتكار، الابتكار، الابتكار» تلك هي الكلمة التي لا يملُّ كبار المديرين التنفيذيين من ترديدها. لماذا إذن لا ينجح سوى القليل منهم في إرساء ثقافة الابتكار ودعمها؟ رغم ذلك، فإن الجانب المبشر في هذا الإطار هو وجود وفرة من الموارد الإبداعية اللازمة لدى كل شركة؛ وهي الأفراد.

يرغب الأفراد في الشعور بأنهم يصنعون فارقًا، وبأن عملهم ذو أهمية. كذلك يرغبون في تقديم إسهامات إبداعية، وأن تنجح شركاتهم وتنمو لكي تتاح لهم أيضًا فرص للتطور المهني والشخصي.

يشتهر د. جوزيف جوران بلقب «الأب المؤسس لإدارة الجودة»؛ إذ قضى ما يزيد على سبعين عامًا في مساعدة المؤسسات في شتى أنحاء العالم على تحسين قدراتها التنافسية، ويُعرف بأنه أول من أضاف البعد البشري إلى عملية الجودة.

أزعم أن من عاشوا طويلًا لم يلحظوا قط حدًّا للإبداع البشري. إن شركة تويوتا تبتكر ما يزيد على مليون تحسين سنويًّا. لا توجد حدود لإبداع البشر، بل تكمن المشكلة في تمكينهم من استخدام ذلك الإبداع.

حوار مع جوزيف جوران، أجراه توماس إيه ستيوارت، نشر في مجلة «فورتشن» بتاريخ ١١ يناير، ١٩٩٩
لدى جميع البشر احتياج أساسي للتعبير عن أنفسهم، وتطوير قدراتهم الطبيعية على الإبداع، وتحقيق ذواتهم، والإحساس بأنهم يستخدمون مجموعة فريدة وقيمة من المهارات والقدرات، وبأنهم يحققون هدفًا خاصًّا، أو يقدمون مساهمة خاصة، وبأن حياتهم ترتبط بمغزًى أو معنًى أكبر. تتناغم تلك الاحتياجات البشرية من جميع النواحي مع حاجة المؤسسات إلى الابتكار، كما هو موضح في الشكل ٣-١.

نظرًا لأن الأفراد والمؤسسات لديهما احتياجات الدعم المتبادل تلك، فلماذا إذن لا نجد ثقافة ابتكار مزدهرة في كل مؤسسة؟ أثناء فترة عملي في معهد فيدكس للقيادة، استضفتُ ممثلين من شركات متعددة كي يسترشدوا بنموذج فيدكس. إحدى تلك الشركات كانت مؤسسة صناعية مدرجة على قائمة مجلة «فورتشن» لأعلى ٥٠٠ شركة إيرادًا في الولايات المتحدة، لكن معدل نموها أصبح صفرًا. عانت الشركة من انخفاض هامش الربح لعدة سنوات. عندما تحدثت مع ممثلي هذه الشركة، أقروا بالدور الرئيسي الذي يجب أن يضطلع به الموظفون في تطوير حلول جديدة تناسب احتياجات العملاء المتغيرة، وتحسن أساليب التشغيل من أجل تقليل تكلفة العمل. وأثناء إحدى المناقشات، علق نائب مدير الموارد البشرية بهذه الشركة قائلًا إن فريق الإدارة التنفيذية بالشركة لم يعترف بأن الموظفين يلعبون دورًا في تحقيق الأرباح إلا مؤخرًا. وحتى ذلك الحين، آمنَتِ الشركة بأن الآلات أو العمل الشاق هما أسلوبا كسب المال. حسب هذا النمط من التفكير (الذي يعتبر الموظفين مجرد أيدي عاملة لا مصدر أفكار)، أصبح أمام قسم الموارد البشرية مهمة عسيرة؛ إذ كيف سيستطيعون إقناع أصحاب السلطة بالشركة أن من المفترض أن يطور المديرون قدرات الموظفين الإبداعية ويحفزونها؟

fig3
شكل ٣-١: احتياجات الدعم المتبادل بين الموظفين والمؤسسات من أجل الإبداع والابتكار.

من خلال خبرتي وأبحاثي في هذا المجال، تمكنت من تحديد خمسة أسباب جذرية تفسر التفاوت بين الرغبة في الابتكار وواقع عالم الأعمال.

(١) السبب الجذري الأول: غياب ممارسات القيادة الداعمة والعمليات التنظيمية التعزيزية

عند التعاون مع المؤسسات من أجل إرساء ثقافة الابتكار، لا بد من التحدث مع الموظفين والمديرين على مستويات مختلفة. أحد أساليب تنفيذ هذه العملية يتمثل في تشكيل أربع مجموعات صغيرة تضم عددًا منتقًى من الموظفين والمديرين، ودعوتهم إلى الإجابة عن أحد الأسئلة الأربعة التالية:
  • المجموعة الأولى: لماذا يجب أن نهتم بالابتكار؟
  • المجموعة الثانية: ما نوع الابتكار الذي يناسب نطاق مسئوليتك؟
  • المجموعة الثالثة: كيف تخلق بيئة تشجع على التفكير الابتكاري في جميع مستويات الشركة؟
  • المجموعة الرابعة: ما الذي يعيقك عن إطلاق العنان لقدراتك الإبداعية وتطويرها؟
كشفت الإجابات عن السؤال الرابع في جميع الحالات تقريبًا أن ممارسات القيادة قد منعت الموظفين من ممارسة التفكير الابتكاري وتقديم حلول إبداعية للمشكلات. فيما يلي أمثلة على تلك الممارسات الضارة وأنظمة الدعم السلبية:
  • إعاقة التغيير.

  • رفض النظر بعين الاعتبار إلى الطرق المختلفة لأداء أحد الأعمال.

  • الإدارة المسيطرة.

  • التصدي للاعتراضات التي يطرحها الموظفون.

  • الأنظمة البيروقراطية التي تؤدي إلى إبطاء مسار العمل.

  • الإدارة غير الحاسمة.

  • قلة الوقت المخصص للتفكير الإبداعي نتيجة لجداول الأعمال المشحونة.

  • حماية نطاقات النفوذ نتيجة لانعزال الأقسام وافتقاد التعاون أو تبادل الأفكار بين الأقسام.

  • افتقاد التوجيه التحفيزي والأهداف التي تستنهض الهمم.

  • عجز المديرين عن مناقشة الأفكار المتعارضة على المستوى المهني.

  • ضيق أفق بعض المديرين ورفضهم الاستماع إلى الأفكار الجديدة.

  • ثقافة تربط التقدم بتجنب إحداث تغييرات، وبالتزام الحذر في التعامل.

  • الخوف من الفشل.

يستطيع أغلب المديرين وصف سلوكيات القيادة المُحبذة التي تدفع الموظفين نحو تطوير إمكانياتهم الإبداعية وإطلاق العنان لها، فلماذا توجد إذن فجوة ضخمة بين الفهم العقلاني لممارسات القيادة السليمة وتطبيقها في العمل؟ يرجع ذلك أولًا إلى عدم تفهُّم أن ثلاث مجموعات متساوية الأهمية من المهارات — المهارات التقنية، والإدارية، والقيادية — هي جميعًا مطلوبة من أجل تحقيق نتائج ناجحة.

ثانيًا، نقص الوعي بأن ممارسات القيادة الفعالة تنتج عن مجموعة مميزة من المهارات، وترتبط أكثر بالجانب العاطفي (الجانب الأيمن من الدماغ) من الجانب العقلي (الجانب الأيسر من الدماغ)؛ إذ أثبتت الأبحاث النفسية أن الجانب الأيسر من الدماغ يتحكم في العمليات العقلانية التحليلية المجزَّأة. أما الجانب الأيمن فيدعم العمليات العاطفية الإبداعية التصورية. يخلق الجانب التحليلي مخططين ومُنظِّمين ومراقبين بارعين؛ ومن ثم «مديرين» أكفاء. أما الجانب العاطفي والتصوري، فيخلق مديرين مُلهمين عطوفين وحالمين؛ ومن ثم «قادة» أكفاء.

وأخيرًا، يوجد شيء من عدم التبصُّر بالعوامل المؤثرة في السلوك والتحفيز البشري. إن أصحاب المناصب الإدارية والقيادية المتخصصين في التكنولوجيا أو الهندسة أو المالية أو المحاسبة أو تكنولوجيا المعلومات زُرع بداخلهم ميل قوي نحو الأنشطة التحليلية والعقلانية، إلا أن التدريب التقليدي على القيادة لا يتناسب مع هذا الواقع.

يتفق روبن روبنسن — مستشار في مجال الموارد البشرية وصاحب خبرة طويلة في عالم الشركات — مع هذا المفهوم قائلًا: «لقد لمست بنفسي ما تتحدث عنه على أرض الواقع؛ فعلى ما يبدو لم يتعلم المديرون الفنيون في دراستهم الجامعية كيفية قيادة الآخرين؛ فكل شيء بالنسبة لهم إما أسود أو أبيض، إما يصلح أو لا يصلح، ولا يوجد مجال للمساحات الرمادية في نطاق عملهم؛ إذ يتبعون منهجًا شبه رياضي؛ حيث واحد زائد واحد يساوي اثنين. يؤدي ذلك إلى صعوبة حقيقية في قيادة فريق متعاون، أو حتى تكوينه، وفي بث روح الإبداع وتقبل أساليب أخرى لحل المشكلات.»

فيما يلي ثلاثة أسباب توضح عجز المديرين الماهرين فنيًّا عن أن يصبحوا قادة مُلهِمين:

  • (١)

    «عدم تفهم وجود ثلاث مجموعات متساوية الأهمية من المهارات — الفنية، والإدارية، والقيادية — اللازمة للتمتع بأعلى قدر من الكفاءة».

يتحمل المديرون ثلاث مجموعات متمايزة من المسئوليات تتطلب ثلاث مجموعات متمايزة من المهارات. ومع ترقي الفرد في الشركة، يؤدي الالتزام الناجح بمسئوليات القيادة إلى التمتع بأكبر قدر من الكفاءة. فكما يتضح في مخطط المسئولية (انظر الشكل ٣-٢) وفي البحث الذي أجراه الكاتب جيمس كريبن، تلعب القيادة دورًا رئيسيًّا في دفع الموظفين لبذل أقصى جهودهم.

يمكنك دفع الأفراد إلى بذل من ٦٠ إلى ٦٥ بالمائة من طاقتهم في العمل إذا اعتمدتَ على السلطة والقواعد التنظيمية، وهو ما يكفي بالكاد للوفاء بالحد الأدنى من متطلبات الوظيفة. أما القيادة فهي عامل زيادة يختص بنسبة اﻟ ٣٥ إلى ٤٠ بالمائة الباقية. في وسع إداري بسيط تحقيق نتائج متوسطة، لكن القائد يحقق نتائج أفضل من الموظفين ذوي الكفاءة المتوسطة. إن الإدارة، في أغلب الأحيان، هي عملية عقلية ذات مردود عملي. أما القيادة فهي أيضًا عملية ذات مردود عملي، لكنها تُبنى على العلاقات الشخصية.

جيمس جيه كريبن، استراتيجيات القيادة التي تحقق الكفاءة المؤسسية، دار نشر «أماكون»، نيويورك
fig4
شكل ٣-٢: ثلاث مجموعات من المهارات يجب أن يتمتع بها المدير الكفء.
كما يوضح الشكل ٣-٢، عندما يترقى المرء في المناصب تحتل واجبات القيادة جزءًا أكبر من إجمالي المسئوليات؛ فتولي قيادة عدد أكبر من الأفراد يحتم أن تلعب مهارات القيادة دورًا رئيسيًّا في تحفيز روح الإبداع والالتزام لدى هذه القاعدة الضخمة من الموظفين.
  • (٢)

    «نقص الوعي بأن القيادة هي مجموعة مختلفة تمامًا من المهارات يرتبط أكثر بالجانب العاطفي من الجانب العقلي.»

إن القائد الفعال هو من يؤثر في موظفيه ويشجِّعهم على تقديم جهدهم غير المشروط؛ أي إبداعهم والتزامهم. هذه هي الطريقة التي تستطيع المؤسسات من خلالها ضمان أن ما تصممه وتقدمه من منتجات وخدمات يتفوق على ما يقدِّمه منافسوها.

يُظهر الموظف هذا الالتزام عندما تشعره سلوكيات القائد اليومية بأنه:
  • جزء من فريق ناجح في تقدُّم دائم.

  • يُحدث فارقًا.

  • يتلقى اهتمامًا شخصيًّا من القائد بحيث:
    • يشعر بالدعم في حياته الشخصية خارج نطاق العمل.

    • يشعر بالتحفيز ويتقدم على المستوى المهني.

    • يشعر بالتقدير عندما يبذل جهدًا يتجاوز المطلوب منه.

    • يلقى آذانًا مصغية للأفكار التي يرغب في عرضها.

إن مفتاح فهم عملية القيادة هو «الإحساس».

عندما يقضي المديرون معظم وقتهم في تحليل معدل الإنتاجية، وأهداف المبيعات، وأرقام الميزانية، فإنهم غالبًا ما يتجاهلون الجانب المُلهم (الجانب العاطفي) لعملية قيادة الأفراد؛ مما يؤدي عادةً إلى صعوبة التواصل معهم؛ لأن الأفراد يرتبطون مع الآخرين ويتواصلون معهم على المستوى العاطفي. تلعب المشاعر دورًا إيجابيًّا وسلبيًّا على حدٍّ سواء في الأداء الوظيفي، وفي تحفيز الموظفين وإشراكهم؛ إذ تدعم مشاعر الأمان والتفاؤل والثقة المتبادلة مستويات الطاقة والإبداع والمبادرة. أما مشاعر عدم الأمان والتشاؤم وافتقار التقدير والثقة، فتعطل مستويات الطاقة والإبداع والمبادرة.

  • (٣)

    «نقص المعلومات حول العوامل التي تؤثر في السلوكيات والتحفيز البشري.»

عادةً ما نتساءل عن «سبب تصرف أحدهم على نحو معين». ولكي نفهم السلوك الظاهر، ينبغي علينا أن ندرك بعضًا من العوامل غير المرئية التي تمارس تأثيرها بعيدًا عن الأنظار. إن ما يعرفه المرء، وما يشعر به، ومدى الدعم الذي يتلقاه من بيئته كلها عوامل تلعب دورًا رئيسيًّا في الإجابة عن هذا السؤال؛ فقد يعرف المرء كيف يؤدي وظيفة ما، لكنه إذا شعر بالانفصال عما حوله فلن يبذل جهدًا خاصًّا لحل المشكلات. وقد تخطر فكرة ابتكارية في ذهن أحدهم، لكنه يعزف عن تطويرها إذا كانت بيئة العمل لا تشجع على المخاطرة، ولا تكافئ النجاح، وتعاقب على الفشل. لخص هاري ليفينسون الدور المحوري الذي تلعبه المشاعر في العمل والصعوبة التي يواجهها العديد من المديرين في التعامل معها في مراجعته النقدية لكتاب مانفريد إف آر كيتس دي فريز «الحياة والموت في عالم الشركات الذي لا يهمد»:

هل الإدارة في الحقيقة مهمة عقلانية يؤديها أشخاص عقلانيون وفقًا للأهداف المعقولة التي تضعها المؤسسة؟ نعرف جميعًا أن الأمور لا تسير على هذا النحو. ومع ذلك، ظلت أسطورة العقلانية قائمة رغم كل الأدلة التي تعارضها. يتمحور تنظيم جزء كبير من مجتمعنا والجزء الأكبر من حياتنا العملية حول المنطق المحكم، والأرقام، والتفسيرات «المعقولة». رغم ذلك، نجد مجموعة كاملة من المشاعر التي تتحدى المنطق — مثل الغضب، والخوف، وعدم الأمان، والغيرة، والحماس — في مكان العمل. إن تلك المشاعر القوية غير المعترف بها هي ما تعطل المؤسسة.

يشتهر أغلب المديرين التنفيذين بقصور في القدرة على فهم المشاعر والتعامل معها؛ فجميعهم — باستثناء أفضلهم — يُحجمون عن سؤال أنفسهم عن سبب تصرفهم على نحو معين؛ ونتيجة لذلك يفشل معظمهم في فهم سلوكهم الإداري وسلوك الآخرين على حدٍّ سواء.

هاري ليفينسون، مجلة «هارفارد بيزِنس ريفيو»، مراجعة نقدية لكتاب «الحياة والموت في عالم الشركات الذي لا يهمد»، بقلم مانفريد إف آر كيتس دي فريز، عدد يناير-فبراير ١٩٩٦

(٢) السبب الجذري الثاني: عدم تفهم ضرورة الابتكار

على الرغم من زعم الرؤساء التنفيذيين إدراكهم الحاجة إلى الابتكار استجابةً لبيئة العمل الدائمة التغير، فلا يزال لدى المستويات الأدنى من الإدارة مقاومة لهذا الاتجاه؛ حيث يسود الاعتقاد بأن الأفكار الجديدة خيار لا ضرورة. في فترات الازدهار والفترات العصيبة على حدٍّ سواء، لا تبدي الشركات استعدادًا للتحول نحو الابتكار. فإذا كانت الشركة ناجحة، يسود الرأي القائل بأننا «نحقق نجاحًا، ووقتنا يكفي بالكاد لملاحقة معدل النمو.» وهو موقف يشجع على الرضا بالوضع القائم، فإذا كان الأفراد يركزون جلَّ وقتهم وطاقتهم على الأعمال الحالية ومسائل التشغيل الداخلية، فلن يستطيعوا التطلع إلى المستقبل وإدراك الصورة الكاملة (التغيرات في الإحصائيات السكانية، والتطورات التقنية، واحتياجات المستهلك).

أما إذا كانت الشركة تعاني من التعثُّر، يسود الرأي القائل بأننا «كنا نحقق نموًّا قبل الهبوط الاقتصادي، وسوف ننمو من جديد حالما ينتعش الاقتصاد. كل ما علينا فعله هو تقليل النفقات كي نحافظ على بقاء الشركة وعلى معدل الربحية أثناء فترة تعطل النمو الحالية.» لكن التاريخ أثبت أن الشركات لن تستطيع أن تحقق نجاحًا اقتصاديًّا عبر تقليل النفقات، أو التعهيد، أو خفض العمالة، بل لا بد لها من النمو. إنها حقيقة سارية منذ ١٠٠ عام، ومنذ ٢٠ عامًا، بل وتسري بالتأكيد على الاقتصاد العالمي السريع التغير في عالمنا اليوم.

إن تفضيل التشبث بالوضع القائم، والخوف من المجهول، واعتقاد الإدارة أن الابتكار خيار، كلها سلوكيات تتسرب تدريجيًّا إلى الموظفين، الذين يتبنون بدورهم تلك الطريقة في التفكير.

يدرك المديرون عمومًا أن السوق دائمة التغير، وأنه لا بد للشركة من أن تواكب هذا التغير كي تستمر في العمل، وكي تحقق نموًّا. سيزعمون أن الأحوال تتبدل، وسيذكرون أمثلة على تغييرات نفَّذوها مؤخرًا، لكن يغيب عن هذه الرؤية حقيقة أن النمو يستلزم تفوق معدل التغيرات الداخلية في الشركة (مثل استراتيجيات وإجراءات العمل والمنتجات وأنظمة التوزيع الجديدة التي تخضع لسيطرة الشركة) على معدل التغيرات الخارجية (أي التغيرات التي تقع خارج نطاق تحكم الشركة). فإذا تخطى معدلُ التغيرات الخارجية معدلَ التغيرات الداخلية، فستفقد الشركة ميزتها التنافسية وحصتها في السوق.

تشير الأسهم في الشكل ٣-٣ إلى الضغوط التي تتعرض لها الشركات نتيجة لمعدل التغيير في بيئات العمل الأكبر حجمًا (التغييرات الخارجية) حيث توجد المنافسة. والسبيل الوحيد لمعادلة تأثير هذا الضغط الخارجي والتمتع بحصة في السوق هو مواجهته بمعدل تغيير داخلي أعلى.

إن الخطوة الأولى في سبيل كسب حصة في السوق هي فهم التغييرات التي تحدث في بيئة العمل الأكبر. أما الخطوة الثانية فهي إشراك المؤسسة في عملية تطوير حلول ابتكارية تستفيد من الفرص التي تتيحها التغييرات. في بيئة الأعمال الحالية السريعة التغير، تلعب سرعة تطوير حلول ابتكارية وتنفيذها دورًا رئيسيًّا في البقاء على قمة المنافسة.

fig5
شكل ٣-٣: كسب حصة في السوق في بيئة العمل المتغيرة.

فعندما تباطأت شركة موتورولا في تحويل هواتفها المحمولة إلى التكنولوجيا الرقمية فقدت موقعها الريادي في السوق لصالح منافسيها. وعلى نحو مماثل، أبدت شركة زيروكس بُطئًا في فهم التغيرات التكنولوجية وتبنِّيها؛ ونتيجة لذلك فقدت جزءًا لا يستهان به من حصتها في السوق. وكما ناقشنا في الفصل الثاني، حافظت فيدكس على موقعها القيادي وحصتها في السوق عبر الاستمرار في تطوير وتطبيق استراتيجيات وإجراءات عمل ومنتجات مبتكرة.

(٢-١) موازنة التوقعات والتغيير

لدى المؤسسات احتياجان متناقضان: النمو والبقاء على قمة المنافسة؛ ومن ثم تحتاج إلى عمليات يمكن التنبؤ بها كي تحافظ على مستوًى ثابت من الجودة. وفي نفس الوقت، تحتاج إلى أفكار جديدة تؤدي إلى تعطيل تلك العمليات والمنتجات الثابتة. لدى الأفراد احتياجات متضاربة أيضًا؛ فنحن نحتاج إلى المخاطرة كي ننمو، ونحتاج في الوقت نفسه إلى الاستقرار والقدرة على التنبؤ كي ننعم براحة البال. أبدى جاري هاميل — كاتب شهير ورئيس مؤسسة ستراتيجوس للاستشارات الاستراتيجية — ملاحظات مماثلة أثناء عمله في مجال تطوير استراتيجيات العمل لصالح مؤسسات عالمية:

تحظى مفاهيم الابتكار والتجريب والإبداع بالقبول عندما تظل بأمان رهينة أقسام البحث والتطوير أو وحدات تطوير المنتجات، أو عندما تظل حبيسة حاضنات الأعمال أو أقسام المشروعات الجديدة، لكنها نادرًا ما تتحول إلى منافس قوي لمفاهيم التحسين والتدرج. ببساطة، لا تنجح معظم الشركات في التعامل مع هذه الإشكالية.

ربما كان ممكنًا تبرير هذا الحماس غير المتوازن لو أن التغيير في عالمنا يسير بخطوات محسوبة وليس على نحو فجائي، لكن في عالم يفتقد التواصل، يصبح العجز عن التعامل مع التناقض بين التحسين والابتكار خطأً مُميتًا؛ فلكي تزدهر الشركات في أوقات الاضطراب لا بد لها من القيام بما هو أكثر من ترشيد النفقات؛ لا بد لها من منح العملاء أسبابًا جديدة وجذابة للإنفاق؛ ينبغي عليها إعادة تنظيم هيكل النفقات؛ لا بد أن تُنشئ برامج نمو جديدة ترفع من كفاءاتها وأصولها، ويتطلب كلُّ هذا ابتكارًا.

جاري هاميل، «المفارقة الأمريكية»، مجلة «فورتشن»، ١٢ نوفمبر ٢٠٠١
يساهم عامل آخر في إخفاق القادة في تشجيع الابتكار وتوقُّعه كأمر طبيعي؛ ففي الكثير من الأحيان ينصبُّ تركيزهم على الشأن الداخلي، وينشغلون كليًّا بما يحدث داخل المؤسسة؛ ومن ثم لا يتوافر لديهم أي خطة أو توقع لمواكبة التغيرات في بيئة العمل الأكبر التي يتنافسون فيها؛ أي العالم الخارجي:

لم يكن التحدي الذي واجهناه هو ضياع الأصول الثابتة التي جلبت لنا النجاح في يوم من الأيام، بل كانت المشكلة في أن تركيزنا أصبح منصبًّا أكثر من اللازم على الشأن الداخلي؛ إذ انشغلنا للغاية بالاحتفاء بماضينا العظيم ولم نعد نتطلع نحو المستقبل، وهكذا أصبحنا نعمل كشركة مكوَّنة من أقسام منفصلة لا كوحدة متماسكة.

كارلي فيورينا؛ الرئيس التنفيذي لشركة «إتش بي سيليكون إنديا»، أغسطس ٢٠٠١

لدى القادة اعتقاد خاطئ بأن المهندسين العاملين في مختبرات البحث هم المسئولون دون غيرهم عن الابتكار، لكن في الواقع، من المفترض أن يشارك جميع مَن في المؤسسة في إعداد الخدمات المقدمة للعملاء و/أو توصيلها إليهم؛ ومن ثم لا بد أن يشارك جميع الموظفين في عملية الابتكار لدعم ميزة المؤسسة التنافسية.

(٣) السبب الجذري الثالث: نقص التفكير التعاوني بين الإدارات والتخصصات

في إحدى المرات، طلب مني مدير شركة دولية تقييم حجم التفكير الإبداعي في شركته؛ ومن ثم بدأتُ محادثات مطولة مع رؤساء جميع الأقسام كي أستطيع تحديد مدى تقدير شركتهم لمفهوم الابتكار.

ذكر كل شخص تحدثت معه أن الشركة قد تحقق نموًّا أسرع بكثير، وتحسِّن معدل الربح في حال وجود تنظيم أفضل بين إدارات التنظيم والتصنيع، والتسويق والتصميم، والتصنيع واللوجستيات … إلخ. لقد أثبت هذا التعاون المتبادل بين التخصصات وبين المجالات المختلفة مرارًا وتكرارًا قدرته على توليد الابتكار؛ إذ يتعاون أفراد ينتمون لخلفيات مختلفة ويتبنون مناهج مختلفة بهدف حل المشكلات المشتركة. وعندما تعجز الشركة عن تشجيع مثل هذا النوع من التعاون، فإنها تضيِّع على نفسها فرصًا ثمينة للتوصل إلى ابتكارات تمكِّنها من زيادة حصتها في السوق.

لا يدفع الابتكار إلى إبداع منتجات جديدة فحسب، بل يحفز كذلك النظرَ إلى المنتجات والخدمات القديمة من منظور جديد. لقد عملت مع العديد من المؤسسات التي أدركت إمكانية تحقيق نمو ضخم في أرباحها عبر بيع منتجات وخدمات أحد الأقسام إلى عملاء قسم آخر والعكس صحيح. يتطلب التنفيذ الناجح لهذه الاستراتيجية أن تطور الشركات إجراءات عمل سلسة على كافة المستويات.

(٣-١) توحيد الجهود من أجل تلبية احتياجات المستهلك

انضم ماركو تشان — أحد مديري العمليات في شركة فيدكس — إلى معهد القيادة في نفس وقت انضمامي له، وكان قد عمل قبل ذلك الحين في نيو أورليانز، وبكين، وسنغافورة، وغيرها من المدن حول العالم. يوضح المثال التالي الذي يسلط الضوء على التعاون الذي حققه أثناء عمله في مدينة نيو أورليانز هذه النقطة توضيحًا جيدًا.

نظرًا للنمو الكبير في مجال تنظيم المؤتمرات في نيو أورليانز، شهدت فيدكس زيادة في عدد شحنات المعدات والتجهيزات القادمة من المدينة. كانت طرود المؤتمرات تصل في أيام الجُمَع، وبعد انتهاء تلك المؤتمرات تُشحن مجددًا من نيو أورليانز أيام الإثنين.

تسبب هذا الارتفاع الكبير في كم الطرود الواردة أيام الجُمع في إحداث مشكلات بالغة في سير العمل؛ إذ صُمم نظام العمل في جميع المحطات بحيث تستقبل المحطة الحاويات التي تحمل جميع الطرود مع قدوم طائرة الجمعة صباحًا من المركز المحلي. تُفرغ الطرود على سير الفرز حيث ينتقي مسئولو التوصيل الطرود التابعة لمساراتهم. لكن نظرًا لزيادة حجم الطرود في أيام الجُمع، أصبحت سيور الفرز تنوء بحمل يفوق طاقتها؛ مما أدى إلى تأخر مسئولي التوصيل في مغادرة المبنى ومجاهدتهم من أجل إنجاز جميع عمليات التوصيل الصباحية في الوقت المحدد.

سافر ماركو — الذي كان يشغل منصب مدير عام العمليات الإقليمية — مع مدير العمليات ومسئول المبيعات العاملين تحت إدارته إلى ممفيس كي يجتمعوا مع نظرائهم؛ بهدف التعاون لحل هذه المشكلة. ناقشوا حينها الفكرة التالية: «ماذا يحدث لو فصلنا طرود المؤتمرات عن باقي طرود مدينة نيو أورليانز ووضعناها في حاويات مختلفة، بحيث تستطيع تجاوز المحطة كليةً والتوجه مباشرة إلى مركز المؤتمر؟»

تقبَّل فريق العمل في المركز الرئيسي هذه الفكرة وتعاونوا من أجل تنفيذها. تطلَّب التنفيذ تعاونًا بين خمسة أقسام: المبيعات (تحديد عملاء المؤتمرات)، والتصميم (وضع خطط اللوجستية)، وعمليات المركز الرئيسي (تدريب مسئولي فرز الطرود)، ومطار نيو أورليانز (تحميل الحاويات على الشاحنات)، وعمليات المحطة (استقبال الشاحنة في مركز المؤتمر). أدخل هذا الحل تحسينات مهمة على مستويات الخدمة وقلل التكاليف في الوقت نفسه.

(٣-٢) التعاون بين القطاع العام والخاص

يقدم لنا أرون كومار — مدير عام شركة فيدكس الهند من عام ١٩٩٧ إلى ١٩٩٩ — مثالًا آخر على التعاون. عندما تولى أرون إدارة عمليات فيدكس في الهند، كان التخليص الجمركي لبعض الشحنات الخاضعة للرسوم يستغرق مدة تصل إلى ٢١ يومًا؛ وهي مدة غير مقبولة على الإطلاق بمعايير فيدكس؛ ومن ثم تحدى فريقه الإداري كي يقلل مدة التخليص الجمركي بنسبة ٥٠ بالمائة بأسرع ما يمكن. في الولايات المتحدة، يتم تخليص معظم الطرود جمركيًّا في نفس اليوم، بل في الواقع، تنهي معظم الطرود إجراءات التخليص الجمركي في الطريق إلى وجهتها بناءً على المعلومات المفصلة التي تقدمها فيدكس إلى إدارات الجمارك إلكترونيًّا. تشارك ثلاث مؤسسات في عملية التخليص الجمركي: شركة فيدكس، وشركة النقل المحلية (التي تعاقدت معها فيدكس)، وهيئة الجمارك الهندية. وبما أن كومار قد تربَّى في الهند ثم عمل في فرع فيدكس في الولايات المتحدة، فقد أدرك أنه لن يستطيع، ببساطة، استنساخ الإجراءات واللوائح التي تُطبق في الولايات المتحدة؛ لذا ركَّز على تأسيس علاقات ثقة متبادلة بين الإدارة وشركة النقل وهيئة الجمارك. وبناءً على ذلك، فحص فريق مكوَّن من أعضاء في المؤسسات الثلاث عملية التخليص الجمركي بأكملها فحصًا دقيقًا، وركزوا تحديدًا على المعلومات المطلوبة من قِبل كل منظمة من أجل تسريع العملية والتخليص الجمركي للبضائع مسبقًا، وهكذا تحقق هدف تقليل مدة التخليص الجمركي إلى النصف في غضون أسابيع، وأصبح الهدف الجديد لدى الفريق هو تقليل الفترة الزمنية الجديدة إلى النصف أيضًا. عندما غادر أرون الهند عام ١٩٩٩، تضاءلت فترة التخليص الجمركي من ٢١ يومًا إلى ٣ أيام.

لم يكن ماركو وأرون على استعداد للتعاون فحسب، بل كانا رائدين في هذا الجانب. وقد أدت مشاركة القادة إلى تطوير نموذج لجهود التعاون المستقبلية، وإلى إرساء التطلع إلى تعاون الموظفين معًا، ودعمت كذلك حقيقة أن الأفكار الإبداعية الصغيرة قد تتمتع بتأثير تراكمي ضخم على حصة السوق ومعدل الربحية.

(٤) السبب الجذري الرابع: غياب التوازن بين توقعات الابتكار وقدرة الموظفين على الوفاء بتلك التوقعات

عندما يترقى موظفو فيدكس إلى المستويات الثلاثة الأولى من الإدارة، يُطلب منهم حضور محاضرات تطوير القيادة لمدة أسبوع في معهد القيادة بمقر الشركة في ممفيس. فبدلًا من إسناد مسئولية تلك المحاضرات إلى فريق التدريب في قسم الموارد البشرية، يضم معهد القيادة بعضًا من أفضل كبار المديرين من إدارات الشركة العاملة لتقديم هذه الدورات.

إن المنطق وراء استخدام هذا المنهج هو الاستفادة في قاعة المحاضرات من المصداقية الفورية التي يتمتع بها أشخاص أثبتوا كونهم قادة بارعين؛ فهم يستخدمون خبراتهم ومهاراتهم من أجل تطوير قادة جدد، وفي وسعهم بث الروح في منهج الدورة عبر ربطه بخبرات من الحياة الواقعية. وبينما يخرجون من عالم الإدارة مؤقتًا من أجل الاضطلاع بهذا الدور الجديد، تتوسع معرفتهم في اتجاهات جديدة بينما يتأملون مناهج القيادة الخاصة بهم. وكلما أمكن يتحدث فريد سميث — الرئيس التنفيذي لشركة فيدكس — إلى المشاركين في تلك الدورات في اليوم الأخير، ويشارك في محادثات غير رسمية معهم.

أثناء فترة عملي في معهد القيادة، درَّست لمجموعة من ١٦ مديرًا حديثي الترقية إلى منصب مدير عام من جميع أنحاء العالم. أثناء الوقت الذي قضيناه معًا، ناقشنا فكرة «تحدي إجراءات العمل»؛ وهي ممارسة تقضي بتحدي إجراءات العمل الحالية، ونمط العمل، والوضع القائم، وتحسين كل هذه الأمور من خلال التفكير الابتكاري. على مدار الأسبوع، استشعرت مقاومة من المشاركين، الذين شككوا في واقعية هذه الممارسة؛ إذ أبدوا وجهة النظر التالية: «من السهل عليك أن تقف في فصل دراسي وتتحدث عن تحدي إجراءات العمل، لكن في عالم الواقع تتلقى التوبيخ من الإدارة إذا حاولت تحدي الأوضاع وتغييرها.»

بينما ألقي محاضرتي، كان فريد سميث موجودًا في المدينة ولديه وقت يسمح بالتحدُّث. هكذا وفي طريقنا إلى قاعة المحاضرات، نقلت إليه مخاوف المجموعة حيال تحدي إجراءات العمل وشعورها بأن الإدارة لا تدعم تلك المبادرات.

بدأ سميث حديثه إلى المجموعة عبر شرح وضع بيئة العمل العالمية الحالية واستراتيجية نمو فيدكس الرامية إلى المنافسة في السوق العالمية. في منتصف عرضه التقديمي، قطع حديثه كي يخبر الحاضرين أنه يتمنى أن يتعلموا أن معاملة الشركة لموظفيها هي العنصر الوحيد غير القابل للتحدي في فيدكس، حتى وإن كان ذلك هو أول وآخر ما سيتعلمونه في هذ الدورة. أما أي عنصر آخر — مثل أسلوب جمع الطرود وفرزها وتوصيلها أو طريقة معالجة المعلومات، أو تجربة العميل — فلا بد من تحديه باستمرار من أجل تحسينه، ثم أضاف: «فلتعتمدوا على دعمي في هذا الأمر!»

رغم ذلك لم يقتنع أفراد المجموعة، وزعموا أن رؤساءهم المباشرين لن يتقبلوا مثل تلك الأفكار، لكن المزيد من المناقشات كشفت أن الكثيرين شعروا بالارتباك نظرًا لعدم التوازن بين التوقعات المتعلقة بتحدي إجراءات العمل وقدراتهم؛ أي المعرفة والأساس المهاري والوقت المناسب لتحقيق تلك التوقعات؛ لذا رويت لهم جانبًا من خبراتي الشخصية.

خلال ٢٢ عامًا قضيتها في فيدكس، كنت أجد باب كل مسئول كبير بالشركة مفتوحًا كلما وردت بذهني فكرة أرغب في عرضها، لكن الأمر ليس بهذه السهولة، فنظرًا لحجم الضغط على وقت الإدارة، فإن من المهم دراسة الفكرة جيدًا، والإجابة عن الأسئلة التالية قبل التواصل مع المدير:
  • ما فرصة تحسين إجراءات العمل الحالية؟

  • ما تحليلك للأسباب الجذرية التي تمنعنا من استغلال هذه الفرصة؟

  • ما الأفكار التي تطرحها لمواجهة هذه الأسباب الجذرية؟

  • وأخيرًا، ما المزايا التي ستعود على العمل من تلك التحسينات، هل تتعلق بزيادة حجم الشركة فحسب؟

لطالما كان جيم باركسديل — رئيس العمليات في فيدكس في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن العشرين — يقول إن الفكرة إذا لم تُقدم مكتوبة فكأنها لم تصل، لكن النفع الأكبر الذي يعود على الموظف من الإجابة عن تلك الأسئلة بصورة مكتوبة يتمثل في أنها تعمل على صفاء عملية التفكير.

عندما سألت الموظفين كم عدد المرات التي قدموا فيها أفكارًا تحسينية إلى مديريهم أو غيرهم من المسئولين بعدما أجابوا عن تلك الأسئلة كتابيًّا، لم يرفع أيٌّ منهم يده؛ فتلك مهارة لم يكونوا قد اكتسبوها أو استخدموها حتى الآن في حياتهم المهنية.

(٤-١) فرص تقديم إسهامات خارج الإطار الوظيفي

في كل يوم من أيام هذه الدورة الدراسية التي استمرت أسبوعًا، كنا ندعو مسئولًا كبيرًا كي يلقي على الدارسين محاضرة، وكان الهدفان الرئيسيان من تلك المحاضرات هما تعريف المشاركين على كبار المسئولين ومساعدة المديرين الجدد على تقديم إسهامات على المستوى المؤسسي.

ألقى تراسي شميت — المدير المالي — واحدة من تلك المحاضرات عارضًا على المشاركين إجمالي الموقف المالي والتجاري للشركة، وتحدث عن الأدوار الرئيسية التي يضطلعون بها فيما يتعلق بمساعدتها على التطور والنجاح في تنفيذ استراتيجيتها العملية؛ إذ قال: «أنتم من تعملون في الميدان والأكثر قربًا من الأحداث؛ ومن ثم تعلمون أفضل من غيركم إن كانت استراتيجية العمل المقترحة والمبادرات الاستراتيجية ستنجح حسب المخطط على المستوى التشغيلي أم لا. نحن نتطلع إليكم كي تختبروا سلامة هذه الآليات وتخبرونا برأيكم.» ثم أخبرهم أن الوفاء بتلك التوقعات يتطلب منهم التفكير على مستوًى استراتيجي؛ وهي مهارة لم يطورها الكثير منهم أو يستخدمها من قبلُ.

تحدث كذلك بيل فرين — نائب الرئيس الأول لقسم المبيعات — إلى المجموعة قائلًا: «أنتم تلعبون دورًا رئيسيًّا في مساعدة الشركة على الوفاء بأهدافها في مجال المبيعات. نحن ننتظر منكم تعاونًا وثيقًا مع مديري حسابات العملاء في دعوة العملاء المهمين في المناطق التابعة لكم.» يتطلب تنفيذ هذه المهمة تخصيص وقت لها في أجندة مواعيدهم المكتظة بالفعل.

عندما تكون منهمكًا ذهنيًّا (تأثُّر داخلي)، فإن التوجه نحو المشكلات الخارجية هو رد فعل وآلية دفاعية بشرية طبيعية، فأولئك الأشخاص قد ترقَّوا لتوِّهم إلى منصب أعضاء منتدبين، وهو منصب بارز ومهم للغاية في الشركة. كانوا يحاولون التأقلم مع أدوارهم الجديدة الأوسع نطاقًا، وكانوا جميعًا يتمتعون بتصميم كبير على النجاح، وبأداء مرتفع عندما كانوا مديرين قبل أن يشغلوا أدوارهم كمديرين عموميين، لكن لم يرقْ لهم الشعور بالعجز عن تحقيق التوقعات والاضطلاع بجميع تفاصيل هذا الدور الجديد.

لا تمنح الكثير جدًّا من المؤسسات مَنْ يترقون إلى المناصب الإدارية المتوسطة والعليا أي مساعدة تقريبًا، بل ينال العمال الذين يتلقون أجورهم بالساعة، عندما يترقون إلى مناصب الإشراف في الخطوط الأمامية، تدريبًا يزيد على ما يتلقاه المديرون الذين ترقَّوا إلى منصب مدير أو نائب رئيس. من المهم للغاية أن تراعي المؤسسات تخصيص الموارد المطلوبة لمساعدة المديرين، ونواب الرؤساء، وإطلاق العنان لقدراتهم الكاملة.

إن من اضطلع بدور المدير لعدد كبير من السنوات في شركة فيدكس يستطيع تفهم مخاوفهم. ونحن نعلم من خبرتنا السابقة أنهم سيتعلمون المهارات اللازمة في الوقت المناسب، بتوجيه وتدريب من أقرانهم ورؤسائهم، وسيشعرون بالارتياح في أدوارهم الجديدة.

(٥) السبب الجذري الخامس: عدم وجود نموذج سهل الفهم وقابل للتطبيق لثقافة الابتكار

معظم الرؤساء التنفيذيين للشركات وأطقم عملهم قد سمعوا محاضرات وعروضًا تقديمية حول وضع ثقافة تشجع على الابتكار والحفاظ عليها. قد تبدو تلك العروض التقديمية ممتعة، وفي بعض الأحيان مسلية، لكنها لا تجيب دومًا عن السؤال التالي: «ما الذي عليَّ فعله الآن؟» طرحت العديد من الكتب والمنشورات والعروض التقديمية الحاجة إلى وضع نموذج لثقافة الابتكار، لكن المكوِّن المفقود في تلك العروض التقديمية التقليدية يتمثل في أن النموذج لا بد أن يعتمد على فهم جذري لمصدر الأفكار؛ أي العقل البشري. وانطلاقًا من هذا الفهم الأحدث والأعمق، تحتاج الشركات إلى نموذج يحدد كيفية تطوير القدرات الإبداعية لدى الفرد والآخرين، ويمكن تكراره بسهولة.

عادةً، إذا طلب الرئيس التنفيذي لإحدى الشركات قائمة ﺑ «الأفكار الابتكارية» ضمن تقرير أو عرض تقديمي، فسيُعمِل الموظفون قريحتهم لوضع قائمة بتلك الأفكار، لكن في شركة تتمتع بثقافة الابتكار، فإن الجميع يشاركون مشاركة فعالة في توليد الأفكار وقبولها وتنفيذها كجزء من حياة العمل اليومية. في هذه البيئة، توجد قائمة جاهزة ومتنامية من الأفكار والمشروعات الابتكارية المستمرة التي تُطرح بانتظام على مكاتب الرؤساء والمديرين التنفيذيين.

ستقدم الفصول التالية نموذجًا ثبتت فعاليته، وخطوات عملية لإرساء ثقافة ابتكار والحفاظ عليها. قد تساعد المناقشة والأفكار العملية المديرين ليس فقط على إدراك ضرورة الابتكار، بل على فهم آليات القيادة التي تجعل من الابتكار جزءًا من ثقافة شركاتهم. لدى الأفراد والمؤسسات أنظمة معقدة ومتكاملة تهدف للحفاظ على الوضع القائم، تسلم الفصول التالية بصحة ذلك، وتطرح أفكارًا للتعامل مع هذا الواقع، وتزود المديرين بأدوات تمكنهم من خلق ثقافة أداء وابتكار تعمل على إشراك جميع الموظفين في تحقيق هدف زيادة ربحية الشركة وحصتها في السوق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤