قيس بن ذريح العذري ولبنى بنت الحباب

كان قيس بن ذريح العذري ذاهبًا لبعض حاجاته فمرَّ ببني كعب وقد احتدم الحر فاستقى الماء من خيمة منهم، فبزت إليه فتاة مديدة القامة، بهية الطلعة، عذبة الكلام، سهلة المنطق، فناولته إداوة ماء، فلما شرب قالت: ألا تبرد الحر عندنا، وقد تمكنت من فؤاده؟ فقال: نعم، فمهدت له فدخل فجاء أبوها فوجده فرحب به غاية الترحاب ونحر له جزورًا، فأقام عندهم ضياءَ اليوم ثم انصرف وهو أشغف الناس بها، فجعل يكتم ذلك إلى أن غلب عليه فنطق فيها بالأشعار وشاع ذلك عنه، ومر بها ثانيًا فنزل عندهم وشكا إليها حين تخاليا ما نزل به من حبها، فوجد عندها أضعاف ذلك، فانصرف، وقد علم كل واحد ما عند الآخر، فمضى إلى أبيه فشكا إليه ذلك، فقال له: دع هذه وتزوج بإحدى بنات عمك، فغمَّ منه وجاء إلى أمه، فكان منها ما كان من أبيه، فتركها وجاء إلى الحسين بن علي بن أبي طالب وأخبره بالقصة، فرثي له والتزم أن يكفيه هذا الشأن، فمضى معه إلى أبي لبنى فسأله في ذلك فأجاب ثم قال: إنه من اللائق أن يكون ذلك من أبيه شأن العرب في هذه الأحوال، فشكره ومضى إلى أبي قيس حافيًا على حر الرمل، فقام ذريح ومرغ وجهه على أقدامه ومشى مع الحسين إلى أبي لبنى فزوج قيسًا بها، ولما تزوج بها أقام معها على أحسن مراتب الحب والإقبال ولكن لم تلد له ولدًا، فساء ذلك أباه فعرض عليه أن يتخذ غير زوجته وأن ذلك أحفظ لنفسه وأبقى لماله ونسله، فامتنع وقال: لا أسوءها قط، وقام يدافع عنها عدة سنين إلى أن أقسم أبوه أن لا يدخل البيت إلا ولبنى طالق منه، فكان إذا اشتد الحر يستظل بردائه ويصلى بحر الشمس حتى يجيء الفيء فيدخل إلى لبنى فيتعانقان ويتباكيان وهي تقول له: لا تفعل فأهلك، ثم خشي قيس أبيه فأذعن لما أشار به، فلما أزمعت الرحيل بعد العدة جاء وسأل الجارية عن أمرهم فقالت: سل لبنى، فأتى إليها فمنعه أهلها وأخبروه أنها ترتحل الليلة أو غدًا، فسقط مغشيًّا عليه، فلما أفاق أنشد:

وإني لمفنٍ دمع عيني بالبكا
حذار الذي قد كان أو هو كائن
وقالوا غدًا أو بعد ذاك بليلة
فراق حبيب لم يبن وهو بائن
وما كنت أخشى أن تكون منيتي
بكفَّيك إلا أن ما حان حائن

فلما حُملت إلى المدينة يئس قيس واشتد شوقه وزاد غرامه وأفضى به الحال إلى مرض ألزمه الوساد واختلال العقل واشتغال البال، فلام الناس أباه على سوء فعله، فجزع وندم وجعل يتلطف به، فلما آيس منه استشار قومه في دائه، فاتفقت آراؤهم على أن يذهب فيتصفح أحياء العرب علهُ يرى من تُسلِّيه عن حب لبنى، ففعل حتى نزل بحي من فزارة فرأى جارية قد حسرت عن وجهها اللثام وهي كالبدر حُسنًا، فسألها عن اسمها، فقالت: لبنى، فسقط مغشيًّا عليه، فارتاعت وقالت: إن لم تكن قيسًا فمجنون، ونضحت على وجهه الماء، فلما أفاق استنسبته، فإذا هو قيس لبنى، وكان أمرهما اشتهر في العرب، وجاء أخوها فأخبرته فركب حتى استرده وأقسم عليه أن يقيم عنده شهرًا، فأجاب دعوته.

ثم بلغ قيسًا أن لبنى عاتبة عليه وعلى ما صدر منه، فندم قيس وسار وقد اشتد به الغرام حتى وصل محل قومها، فقالت له النساء: ما شأنك وقد رحلَتْ مع زوجها؟ فلم يلتفت حتى أتى محل خبائها فتمرغ به وأنشد:

إلى الله أشكو فَقْد لبنى كما شكا
إلى الله فقد الوالدين يتيمُ
يتيم جفاه الأقربون فجسمه
نحيل وعهد الوالدين قديمُ

ولما عادت رآها فبهت صامتًا ثم عاد، فأرسلت إليه مع امرأة لها تستخبر عنه فأنشد:

إذا طلعت شمس النهار فسلِّمي
فآية تسليمي عليك طلوعها
بعشر تحيات إذا الشمس أشرقت
وعشر إذا اصفرَّت وحان رجوعها
ولو أبلغتها جارة قَوْلي اسلمي
بكت جزعًا وارفضَّ منها دموعها

ثم زاد وجده فمرض وزاد في جسمه الألم، فعاده الطبيب وعرف ما به من الوجد وما يلقاه من حب لبنى فقال له: منذ كم وجدت بهذه المرأة ما وجدت؟ فأنشد:

تعلق روحي روحها قبل خلقنا
ومن بعد ما كُنَّا صغيرين في المهدِ
فزاد كما زدنا وأصبح ناميًا
وليس إذا متنا بمنفصم العقد
ولكنه باقٍ على كل حادث
وزائرنا في ظلمة القبر واللحد

وما كاد يهجر الوساد حتى علم بموت لبنى فهاجت منه عوامل الأسى وقصد قبرها فبكى حتى أُغمي عليه ثم عاد إلى بيته مريضًا فأنشد:

عيد قيس من حب لبنى ولبنى
داءُ قيس والحب صعبٌ شديدُ
فإذا عادني العوائد يومًا
قالت العين لا أرى ما أريدُ
ليت لبنى تعودني ثم أقضي
إنها لا تعود فيمن يعودُ
ويح قيس لقد تضمن منها
داء خبل فالقلب منه عميدُ

ثم قضى بعد ذلك بثلاثة أيام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤