الفصل السادس

السيدة فرانشيسكا ساباتيني

«إذن كنتِ تُحضرين رسالة الدكتوراه في الفيزياء بجامعة سازرن ميثوديست عندما تنبأ زوجك بنبوءته الشهيرة عن سطوع سوبرنوفا عام ٢١٩١.»

كانت إلين براون جالسة على مقعد كبير وثير في غرفة المعيشة. ترتدي حلة بنية اللون وبلوزة ذات ياقة مرتفعة. وبدت جامدة وقلقة، كما لو كانت مستعدة لإنهاء المقابلة.

قالت بحذر، وهي تختلس النظر إلى زوجها: «كنت في السنة الثانية، وكان ديفيد المشرف على رسالتي.» كان ديفيد جالسًا في نهاية الغرفة يشاهد الأحداث من وراء الكاميرات. ثم استدركت قائلة: «كان ديفيد يعمل بدقة مع طلابه. والجميع يعلم ذلك. وهذا أحد أسباب التحاقي بهذه الجامعة لاستكمال دراساتي العليا.»

كانت فرانشيسكا ساباتيني جميلة. وكان شعرها الأشقر ينسدل على كتفيها. وترتدي بلوزة بيضاء باهظة الثمن مصنوعة من الحرير، مزيَّنة بوشاح لونه أزرق فاتح مربوط بأناقة حول عنقها. وترتدي بنطالًا له نفس لون الوشاح. وتجلس على مقعد آخر بجانب إلين. وبينهما طاولة صغيرة موضوع عليها قدحان من القهوة.

«كان دكتور براون متزوجًا في ذلك الوقت، أليس كذلك؟ أقصد في الوقت الذي كان يشرف فيه على رسالتك.»

احمرَّت وجنتا إلين بصورة ملحوظة فور انتهاء فرانشيسكا من جملتها. استمرت الصحفية الإيطالية في النظر إليها بابتسامة مشرقة وبريئة، كما لو أن السؤال الذي سألته لتوها كان بسيطًا ومباشرًا، وكأنها سألتها ما حاصل جمع ٢ + ٢. ترددت السيدة براون، وأخذت نفسًا، ثم تلعثمت قليلًا في إجابتها. فقالت: «في البداية أظن أنه كان لا يزال متزوجًا. لكن طلاقه كان قبل أن أحصل على درجة الدكتوراه.» توقفت مرة ثانية عن الحديث ثم أشرق وجهها. وقالت وهي محرجة: «وقد أهداني خاتم الخطبة عند حصولي على الدكتوراه.»

تأملت فرانشيسكا ساباتيني المرأة. وقالت في نفسها: «يمكنني أن أقطعك إربًا على هذه الإجابة. بالإضافة إلى إجابتك عن سؤالين آخرين. ولكن ذلك لن يخدم غايتي.»

وعندئذٍ قالت فرانشيسكا فجأة: «حسنًا. انتهينا. لنُلقِ نظرة ثم يمكنك إعادة المعدات إلى الشاحنة.» سار المصور الرئيسي إلى الجانب الموجود به الكاميرا الآلية رقم ١، التي بُرمجت على أن تبقى مركزة على فرانشيسكا، وأدخل ثلاثة أوامر عبر لوحة المفاتيح المصغرة بجانب غطاء الكاميرا. وفي تلك الأثناء تراجعت الكاميرا الآلية رقم ٢ على قوائمها الثلاثة وسحبت عدسات التقريب؛ نظرًا لنهوض إلين من مقعدها. وأشار مصور آخر إلى إلين كي تقف مكانها حتى يتمكن من فصل الكاميرا الثانية.

وفي ثوانٍ برمج المخرج آلة العرض الآلية على إعادة عرض الدقائق الخمسة الأخيرة من المقابلة. عُرضت صور الكاميرات الثلاثة في وقت واحد، في شاشة تظهر أكثر من صورة في وقت واحد؛ إذ كانت صورة فرانشيسكا وإلين المركبة تظهر وسط الشاشة وعلى جانبيها الصور التي التقطتها كاميرتا التقريب. كانت فرانشيسكا بارعة في عملها. وباستطاعتها أن تعرف بسرعة أنها حصلت على المادة التي تحتاجها لهذا الجزء من العرض. كانت إلين، زوجة الدكتور ديفيد براون، شابة ذكية ومجتهدة وصريحة، ومنزعجة بسبب تركيز الانتباه عليها. وكان ذلك كله واضحًا في الشريط.

في حين كانت فرانشيسكا تتناول التفاصيل النهائية مع طاقمها وتستعد لتسليم محتوى المقابلة إلى الفندق بمجمع دالاس للنقل قبل انطلاق طائرتها في الصباح، عادت إلين براون إلى غرفة المعيشة وبصحبتها خادم آلي، ومعها نوعان من الجبن، وزجاجة من الخمر، وعدد كبير من الكئوس تكفي كل من بالغرفة. لمحت فرانشيسكا نظرة غاضبة على وجه ديفيد براون عندما أعلنت إلين أنها ستقيم «حفلًا صغيرًا» للاحتفال بإتمام المقابلة.

تجمَّع الطاقم وإلين حول الخادم الآلي والخمر. استأذن ديفيد وانصرف خارجًا من غرفة المعيشة، وسار عبر ردهة طويلة تصل بين مؤخرة المنزل — حيث تقع جميع غرف النوم — وغرف المعيشة التي تقع في مقدمة المنزل. وعندئذٍ تبعته فرانشيسكا.

نادت على ديفيد قائلة: «ديفيد، معذرة.» فالتفت وعلامات الضجر بادية على وجهه. فاستطردت: «لا تنسَ أنه لا يزال لدينا بعض المسائل التي لم نُنهِها. فلقد وعدت شركة شميت وهاجينست بالرد عليهما فور عودتي إلى أوروبا. وهما يتطلعان لاستكمال المشروع.»

فأجابها: «لم أنسَ. لكنني أودُّ فقط التأكد من أن صديقك ريجي قد انتهى من إجراء مقابلات مع أبنائي.» ثم تنهد. وقال: «تمر عليَّ أوقات كثيرة أتمنى فيها لو أنني لم أكن مشهورًا.»

دنت فرانشيسكا منه. وقالت وعيناها مثبَّتة في عينيه: «لا أصدق ما تقول نهائيًّا. إنك فقط عصبي اليوم نظرًا لأنك لا تستطيع التحكم فيما تقوله زوجتك وأبناؤك لريجي ولي. وأعلم أن أكثر شيء يهمك هو التحكم.»

شرع دكتور براون في الرد، لكنه توقف لدى سماعه صرخة «أمي» تدوي في آخر الردهة من غرفة نوم بعيدة. وفي ثوانٍ اندفع طفل صغير يناهز السادسة أو السابعة من العمر، مارًّا بديفيد وفرانشيسكا، وهُرع إلى حضن أمه التي كانت في تلك اللحظة تقف عند الباب الذي يصل بين الردهة وغرفة المعيشة. انسكب بعض الخمر من كأس إلين من فرط قوة اصطدام ابنها بها، فلعقته من يدها بصورة لا إرادية لرغبتها في التخفيف عن الصبي الصغير.

سألته: «ما الخَطب يا جاستين؟»

أخذ جاستين ينتحب وهو يقول: «لقد حطم ذلك الرجل الأسود كلبي. لقد ركل مؤخرته ولا أستطيع تشغيله الآن.»

أشار الصبي إلى نهاية الردهة. كان ريجي وفتاة طويلة ونحيفة تبدو في سن المراهقة وعليها سمات الجدية يسيران صوب باقي المجموعة. قالت الفتاة وفي عينيها نظرة توسل لديفيد براون كي يساعدها: «لقد كان السيد ويلسون يتحدث معي عن مجموعة الدبابيس التي امتلكها عندما جاء ذلك الكلب الآلي اللعين وعضَّ ساقه. بعد أن بال عليه أولًا. لقد برمجه جاستين على القيام بأفعال سيئة …»

قاطعها الصبي الباكي صارخًا: «كاذبة! إنها لا تحب كلبي والي. ولم تحبه قط.»

كانت إحدى يدَي إلين تُربت على ظهر ابنها الذي انتابته حينئذٍ حالة شِبه هستيرية، واليد الأخرى ممسكة بإحكام بكأس الخمر. وكان المشهد في ذاته كفيلًا بأن يشعرها بالاضطراب، حتى لو لم تلحظ عبوس زوجها. ارتشفت جرعة من الخمر، ثم وضعت الكأس على رف قريب للكتب. وقالت وهي تنظر في خجل إلى الحضور: «حسنًا، اهدأ يا جاستين وأخبر أمك بما حدث.»

فقال: «إن الرجل الأسود لا يحبني. وأنا لا أحبه. وكان والي يشعر بذلك، فهجم عليه وعضَّه. والي يحميني دائمًا.»

زاد ذلك من غضب الفتاة أنجيلا. فقالت: «كنت أشعر بأن ذلك سيحدث. فعندما كان السيد ويلسون يتحدث معي ظل جاستين يدخل غرفتي ويعرض ألعابه وحيواناته الأليفة وجوائزه، بل ملابسه أيضًا، على السيد ويلسون، ولم يكن من السيد ويلسون إلا أن اضطر إلى التحدث إليه بشيء من الحدة. ولم نرَ بعد ذلك إلا والي وهو مندفع بجنون نحو السيد ويلسون الذي لم يملك إلا الدفاع عن نفسه.»

فصاح الصبي: «إنها كاذبة، يا أمي. كاذبة كبيرة. أخبريها أن تتوقف …»

كان الدكتور ديفيد براون قد نال كفايته من هذا الضجيج والهياج. فصاح بغضب: «إلين، أخرجيه من هنا.» ثم التفت إلى ابنته، في حين أخذت زوجته الصبي الباكي ومضت معه إلى غرفة المعيشة. وقال وقد اشتد غضبه وأصبح جليًّا: «أنجيلا، أعتقد أنني أخبرتك اليوم بألا تتشاجري مع جاستين تحت أي ظروف.»

تراجعت الفتاة أمام هجوم أبيها. وترقرق الدمع في عينيها. وهمَّت بالحديث، إلا أن ريجي ويلسون سار ووقف بينها وبين والدها. وقال متشفعًا: «اسمح لي يا دكتور ديفيد، إن أنجيلا لم ترتكب أي خطأ. وقد قالت ما حدث بالفعل. إنها …»

قاطعه ديفيد براون بحدة: «سيد ويلسون، أنا قادر على تولي أمور أسرتي بنفسي، إن كنت لا تمانع.» ثم سكت لحظة ليحد من غضبه. ثم أكمل بنبرة لطيفة: «أنا آسف للغاية على كل هذه الفوضى، لكن الأمور ستهدأ خلال دقيقة.» ورمق ابنته بنظرة قاسية تفتقد الحنان. ثم قال: «عودي إلى غرفتك يا أنجيلا. وسوف أتحدث إليك فيما بعد. نادي أمك وأخبريها أنني أريد منها أن تصطحبك قبل العشاء.»

كانت فرانشيسكا تراقب تطور الأحداث باهتمام شديد. وقد لاحظت إحباط ديفيد براون وعدم ثقة إلين بنفسها. وأخذت تحدث نفسها: «رائع، أفضل حتى مما كنت آمل. سيكون فريسة سهلة.»

•••

مر القطار الفضي اللامع عبر ريف شمال تكساس بسرعة مائتين وخمسين كيلومترًا في الساعة. وما هي إلا دقائق حتى لاحت أضواء «مجمع دالاس للنقل» في الأفق. وكان المجمع يغطي مساحةً كبيرة، تقترب من خمسة وعشرين كيلومترًا مربعًا. كان جزء منه مطارًا، وآخر محطة قطار، وثالث مدينة صغيرة. وقد تأسس عام ٢١٨٥ بغرض التعامل مع التطور المتنامي لحركة الملاحة الجوية إلى مسافات بعيدة، ولتوفير وسائل ربط سهلة لنقل الركاب إلى نظام القطارات الفائقة السرعة، وقد تطور المجمع — مثل مراكز النقل المشابهة حول العالم — ليصبح مجتمعًا متكاملًا. كان ما يزيد على ألف شخص — أغلبهم ممن يعملون في مجمع دالاس للنقل الذين وجدوا الحياة أسهل دون الحاجة للتنقل من العمل وإليه يوميًّا — يعيشون في المنازل التي شكلت نصف دائرة حول المركز التجاري الذي يقع جنوب المحطة الرئيسية. وكانت المحطة الرئيسية تشمل أربعة فنادق رئيسية، وسبعة عشر مطعمًا، وما ينيف على مائة متجر متنوعة النشاط، مثل: سلسلة محلات أزياء دوناتيلي الأنيقة.

كان الشاب يقول لفرانشيسكا عند اقتراب القطار من المحطة: «كنت في التاسعة عشرة من عمري في ذلك الوقت، وتربَّيت وسط جو يغلب عليه طابع الحماية الزائدة. وقد تعلمت عن الحب والجنس في الأسابيع العشرة التي قضيتها في مشاهدة برنامجك التلفزيوني أكثر مما تعلمته خلال حياتي بأسرها. أود فقط أن أشكرك على ذلك البرنامج.»

تقبلت فرانشيسكا المجاملة بلباقة. وقد اعتادت أن يتعرف عليها الناس عندما تكون بين الجمهور. فابتسمت مرة أخرى للشاب ورفيقته عندما توقف القطار ونزلت إلى رصيف المحطة. عرض ريجي ويلسون حمل معدات التصوير الخاصة بها عندما كانوا يتجهون نحو الناقلة التي ستُقلهم إلى الفندق. فسألها «هل هذا يزعجك؟» فنظرت إليه متسائلة. فأضاف مفسرًا: «هل يزعجك كونك شخصية عامة؟»

فأجابته: «بالطبع لا.» وابتسمت بينها وبين نفسها. وقالت في نفسها: «هذا الرجل لم يفهمني حتى بعد مرور ستة أشهر. لعله لا يفكر إلا في نفسه حتى إنه لا يستطيع أن يدرك أن بعض النساء لهن نفس طموح الرجال.»

كان ريجي يقول: «كنت أعلم أن مسلسلَيك التلفزيونيين مشهوران قبل أن أقابلك خلال تدريبات اختيار الموظفين. لكن ما كنت أجهله هو أنه سيكون من المستحيل الذهاب إلى مطعم أو الظهور بين الجمهور دون أن نقابل أحد معجبيك.»

استمر ريجي في تجاذب أطراف الحديث مع فرانشيسكا عندما كانت الناقلة تغادر المحطة متجهة إلى المركز التجاري. وبجانب الطريق في نهاية أحد أطراف المركز التجاري المحاط بسياج، احتشدت مجموعة من الناس خارج أحد المسارح. كانت اللافتة عليها اسم المسرحية التي تُعرَض، وهي «في أي طقس» (إن إني ويزر) التي كتبها الكاتب المسرحي الأمريكي لينزي أولسين.

بادر ريجي بسؤال فرانشيسكا دون تفكير: «هل شاهدتِ هذه المسرحية من قبل؟» ثم أكمل دون انتظار ردها: «لقد شاهدت الفيلم المأخوذ عن هذه القصة عند عرضه لأول مرة منذ خمسة أعوام. أتذكر أن الفيلم قام ببطولته هيلين كاوديل وجيرمي تيمبل. هذا قبل أن تحظى هيلين بشهرة فائقة. والقصة كانت غريبة، وتدور أحداثها عن رجل وامرأة اضطرا للمكوث معًا في غرفة واحدة بأحد الفنادق خلال هبوب عاصفة ثلجية على شيكاجو. وكان كلاهما متزوجًا. فأحب أحدهما الآخر عندما كانا يتحدثان عن أحلامهما التي لم تتحقق. إنها قصة غريبة كما أخبرتكِ.»

لم تكن فرانشيسكا مصغية لما يقول. فقد صعد إلى العربة أمامهما صبي ذكَّرها بابن عمها روبرتو، في أول محطة توقف في المركز التجاري. كان شعره وبشرته داكنين، وكانت ملامحه وسيمة. فتساءلت في نفسها: «كم مضى على آخر مرة رأيت فيها روبرتو؟ على الأرجح ثلاثة أعوام. كان ذلك في مدينة بوسيتانو، وبصحبته زوجته ماريا.» تنهَّدت فرانشيسكا وتذكرت الأيام الخوالي، منذ عهد مضى. وتراءى لها مشهد وهي تضحك وتجري في شوارع أورفيتو. كانت تبلغ من العمر التاسعة أو العاشرة، ولا تزال بريئة وطاهرة. وروبرتو في الرابعة عشرة من عمره. وكانا يلعبان كرة القدم في الساحة العامة الواقعة أمام الكاتدرائية. وقد كانت تحب إغاظة ابن عمها. وكان هو وديعًا جدًّا وغير متكلف. إن روبرتو كان الشيء الوحيد الجميل في طفولتها.

توقفت الناقلة أمام الفندق. وكان ريجي يحدق فيها ولا يرفع عينيه عنها. فأدركت فرانشيسكا أنه سألها سؤالًا لتوه. فقال وهما ينزلان من العربة: «حسنًا؟»

فأجابته: «آسفة يا عزيزي. كنت شاردة مرةً أخرى. ماذا كنت تقول؟»

فقال ريجي جادًّا: «لم أكن أعلم أنني ممل لهذه الدرجة.» والتفت فجأة ليتأكد من انتباهها له. ثم قال: «ماذا ستأكلين على العشاء؟ لقد حصرت الاختيارات في الطعام الصيني أو الفرنسي.»

في تلك اللحظة لم يرقَّ لفرانشيسكا أن تتناول العشاء مع ريجي. فقالت له: «أنا منهَكة تمامًا الليلة. أظن أنني سآكل بمفردي في الغرفة ثم أنهي بعض الأعمال.» وكانت تتوقع نظرة الألم التي تعتلي وجهه. فشبَّت وقبَّلته برقة على شفتَيه. وقالت: «يمكنك أن تأتي إلى غرفتي لتناول كأس من الخمر في العاشرة.»

•••

ما إن دخلت فرانشيسكا جناحها بالفندق حتى شغَّلت جهاز الكمبيوتر الخاص بها وراجعت صندوق بريدها بحثًا عن أي رسائل جديدة. وقد وجدت أربع رسائل واردة. وقد أوضحت القائمة هوية المرسل ووقت الإرسال ومدة الرسالة وأولويتها. إن نظام الأولوية كان ابتكارًا جديدًا من ابتكارات شركة الاتصالات الدولية، وهي إحدى شركات الاتصالات الثلاثة الباقية التي أخذت في الازدهار مرة أخرى بعد عملية دمج ضخمة في منتصف القرن. فكان مستخدم نظام الأولوية يدخل جدوله اليومي للأولويات في الصباح الباكر ويحدد الرسائل ذات الأولوية المسموح لها بقطع أنشطته. لم تختَر فرانشيسكا إلا قَبول تمرير الرسائل ذات الأولوية القصوى (ضرورة مُلحة) إلى الكمبيوتر بمنزل ديفيد براون؛ وذلك لأن تسجيل ديفيد وأسرته كان يجب أن يكتمل في يوم واحد، وكانت ترغب في الحد من فرص تعطل العمل أو تأخره، أما باقي رسائلها، فكانت تظل باقية في الفندق.

كانت لدى فرانشيسكا رسالة واحدة فقط من مجموعة الرسائل ذات الأولوية الثانية، وهي من كارلو بيانكي ومدتها ثلاث دقائق. تجهَّم وجهها وأدخلت الرمز المناسب إلى الكمبيوتر وشغلت شاشة الفيديو. فظهر رجل إيطالي جذاب في منتصف العمر، يرتدي الملابس الخاصة التي تُرتدى بعد ممارسة رياضة التزلج، ويجلس على أريكة ومن خلفه مِدفأة تشتعل بداخلها النيران. فحيَّاها قائلًا: «صباح الخير، كارا.» وبعد أن سمح للكاميرا بأن تدور في أنحاء غرفة المعيشة بفيلته الجديدة بمدينة كورتينا دي أمبيزو، دخل السيد بيانكي إلى صلب الموضوع مباشرة. واستفسر عن سبب رفضها الظهور في إعلانات الملابس الرياضية الصيفية التي يُنتجها. فلقد عرضت عليها شركته مبلغًا طائلًا من المال، ووضعت حملة دعائية خاصة يُركِّز فيها على موضوع الفضاء. ولم تكن المشاهد الإعلانية ستُعرَض قبل نهاية مهمة نيوتن؛ وبذلك لن يكون هناك تعارض مع اتفاقها مع وكالة الفضاء العالمية. وأقر بوجود بعض الاختلافات بينهما في الماضي، لكنه رأى أن تلك الاختلافات منذ زمن بعيد. وهو في حاجة لإجابتها في غضون أسبوع.

فحدثت فرانشيسكا نفسها قائلة: «تبًّا لك يا كارلو»، وقد فاجأها شدة ردة فعلها. كان هناك قلة قليلة من الأشخاص في العالم الذين يمكن أن يثيروا سخط فرانشيسكا، وكارلو بيانكي أحدهم. فأدخلت فرانشيسكا الأوامر اللازمة لتسجيل رسالة لوكيل أعمالها، داريل بومان، في لندن. وقالت فيها: «مرحبًا يا داريل. أنا فرانشيسكا أحدثك من دالاس. أخبر ذلك المخادع بيانكي أنني لن أقبل تنفيذ إعلاناته ولو عرض عليَّ عشرة ملايين مارك. وبالمناسبة أعتقد أن منافسه الرئيسي حاليًّا هو سلسلة دوناتيلي، فأرجو أن تتصل بمديرة الدعاية بها، جابريلا التي لا أذكر باقي اسمها، لقد قابلتها في ميلانو من قبل، وأخبرها بأنه يسعدني أن أقوم ببعض الإعلانات لشركتها بعد الانتهاء من مشروع نيوتن. في شهر أبريل أو مايو.» وتوقفت عن الحديث لحظة. ثم تابعت: «هذا كل شيء. سأعود إلى روما مساء الغد. تحياتي إلى هيذر.»

وكانت أطول رسالة تلقتها فرانشيسكا مرسَلة من زوجها ألبرتو، الذي كان طويلًا وأشيب الشعر ومديرًا مميزًا، ويبلغ الستين من العمر، ويدير القسم الإيطالي بشركة شميت وهاجينست، وهي مجموعة شركات ألمانية للوسائط المتعددة تمتلك — من بين عدة أشياء — ما يزيد على ثلث الصحف والمجلات المستقلة في أوروبا، وشبكات التلفزيون التجارية الرائدة في كلٍّ من ألمانيا وإيطاليا. وفي خلال بث رسالته كان ألبرتو جالسًا في مختلاه بالمنزل، مرتديًا بذلة فاخرة لونها رمادي غامق ويحتسي البراندي. كان صوته دافئًا وحميمًا، لكنه بدا أبًا أكثر منه زوجًا. وأخبر فرانشيسكا أن لقاءها الطويل مع الفريق البحري أوتو هيلمان كان يُعرَض في النشرات الإخبارية عبر أوروبا في ذلك اليوم، وأنه استمتع بتعليقاتها وفطنتها كالعادة، إلا أنه رأى أن أوتو هيلمان بدا نرجسيًّا. فاستغرقت فرانشيسكا في التفكير عندما سمعت تعليق زوجها، قائلة: «لا عجب؛ فهو كذلك حقًّا. لكنه كثيرًا ما يكون مفيدًا لي.»

نقل ألبرتو إليها بعض الأخبار السارَّة عن أحد أبنائه (كان لزوج فرانشيسكا ثلاثة أبناء، جميعهم أكبر منها سنًّا) قبل أن يخبرها بأنه يفتقدها ويتطلع لرؤيتها في الليلة التالية. فقالت فرانشيسكا في نفسها قبل أن تجيب على رسالته: «وأنا أيضًا. إن الحياة معك تشعرني بالراحة. فأنا أنعم معك بالحرية والأمان.»

•••

بعد مرور أربع ساعات كانت فرانشيسكا تقف في شرفة غرفتها بالفندق تدخن بين نسمات هواء تكساس البارد في شهر ديسمبر. وكانت متدثرة في الثوب الثقيل الذي يوفره الفندق في غُرف النُّزلاء. قالت في نفسها وهي تأخذ نفسًا عميقًا من سيجارتها: «على الأقل، الحال هنا مختلف عن كاليفورنيا. فعلى الأقل يوجد في تكساس بعض الفنادق المزودة بشرفات للتدخين. أما أولئك المتعصبون بالساحل الغربي الأمريكي فسيجرمون التدخين إذا استطاعوا.»

سارت إلى جانب درابزين الشرفة حتى تحظى بوضع أفضل لمشاهدة طائرة تنطلق بسرعة تتجاوز سرعة الصوت، وهي تقترب من المطار من ناحية الغرب. وكانت تسبح بخيالها داخل الطائرة، كما ستكون في رحلتها المتجهة إلى منزلها بروما في اليوم التالي. وقد تخيلت أن هذه الرحلة بعينها قادمة من طوكيو التي كانت بمنزلة عاصمة العالم الاقتصادية بلا منازع قبل «الفوضى العارمة». وبعد أن تعرَّض اليابانيون للخراب بسبب نقص المواد الخام خلال سنوات القحط التي توسطت القرن، أصبحوا الآن على طريق الازدهار مرة أخرى في ظل عودة العالم إلى نظام السوق الحر. أخذت فرانشيسكا تراقب الطائرة وهي تهبط، ثم نظرت إلى أعلى، إلى السماء المرصَّعة بالنجوم. ثم أخذت نفسًا آخر من السيجارة، وراحت تحدق في الدخان المتصاعد وهو يتطاير ببطء في الهواء.

وظلت تفكر: «والآن يا فرانشيسكا تأتي أعظم مهمة في حياتك. مهمة تمنحك فرصة الخلود، على الأقل سيتذكرني الناس لفترة طويلة بصفتي عضوًا في طاقم نيوتن.» فتحول ذهنها للتفكير في مهمة نيوتن ذاتها، واستحضرت في ذهنها في لقطات موجزة صورًا للمخلوقات الرائعة التي يمكن أن تكون قد صنعت السفن الفضائية العملاقة وأرسلتها لزيارة النظام الشمسي للأرض. لكن سرعان ما قفز ذهنها عائدًا إلى العالم الحقيقي متذكرةً العقود التي وقَّعها ديفيد براون قبل أن تغادر منزله بعد ظهر ذلك اليوم.

فقالت في نفسها: «إن ذلك يجعلنا شركاء يا دكتور براون المحترم. كما أنه يتمم المرحلة الأولى من عملي. وإن لم يخني إحساسي، فلقد رأيت في عينيك اليوم لمعانًا ينمُّ عن الاهتمام.» تذكرت فرانشيسكا أنها قد أعطت ديفيد قُبلة سريعة عند الانتهاء من مناقشة العقود وتوقيعها. كانا منفردين في غرفة مكتبه. وللحظة فكرت في أنه سيردُّ قبلتها بقبلة أشد قوة وإحساسًا.

انتهت فرانشيسكا من تدخين سيجارتها، وأطفأتها في مطفأة السجائر، ثم عادت إلى غرفتها. وما إن فتحت الباب حتى سمعت صوتًا لرجل يتنفس بصوت مرتفع. كان السرير كبير الحجم غير مرتَّب، وكان ريجي ويلسون مجردًا من ملابسه ومستلقيًا على ظهره، وكان صوت غطيطه المنتظم يقطع الصمت المخيم على الجناح. فعلقت في صمت: «يا صديقي، إنك تمتلك ما يلزم الحياة وممارسة الجنس على حدٍّ سواء. لكن الاثنين ليسا بمسابقة رياضية. وكنت ستصير أكثر جاذبية لو أنك تمتلك بعض الفطنة، أو ربما بعض المهارة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤