خاتمة

ديمقراطية خمسين–خمسين

ربما يحاول السيخ إقامة دولة منفصلة لهم. أعتقد أنهم ربما سينجحون في ذلك وستكون هذه مجرد بداية للامركزية عامة ونهاية لفكرة أن الهند دولة، في حين أنها شبه قارة متعددة الدول مثل أوروبا؛ فالبنجابي مختلف تمامًا عن المدراسي، كما يختلف الاسكتلندي عن الإيطالي. لقد حاول البريطانيون توحيدها لكنهم لم يحققوا نجاحًا تامًّا في هذا الشأن؛ فلا يمكن لأحد أن يصنع أمة من قارة مكونة من دول متعددة.

الجنرال كلود أوكينلِك، ١٩٤٨

ما كان لكثير من المتابعين لجنازة إنديرا غاندي عام ١٩٨٤ أن يتوقعوا أنه بعد عشر سنوات ستحافظ الهند على وحدتها وسيصبح الاتحاد السوفييتي في طي النسيان.

روبن جيفري، ٢٠٠٠

أعلم أن معظم نواب البرلمان يرَون الدستور لأول مرة عندما يؤدون اليمين الدستورية.

برامود مهاجان، وزيرٌ اتحادي، ٢٠٠٠

الهند بلد توجد فيه على نحوٍ غير مريح المؤسسات الضعيفة الأداء جنبًا إلى جنب مع تلك الشديدة الحماس؛ مما يولد توترًا وصراعًا وفشلًا؛ خاصة عندما يقابل الفساد أو اتباع الهوى في إحداها الاعتداد الزائد بالنفس في أخرى.

تي إن نينان، ٢٠١٥

١

في مقال يُلخص فترة طويلة من الدراسة في هذا الموضوع، يرى إيزايا برلين أن «جرح المشاعر الجمعية لمجتمع، أو على الأقل لقادته الروحيين» يعد شرطًا «ضروريًّا» لميلاد شعور قومي. لكن حتى يتحول هذا الشعور لحركة سياسية واسعة الانتشار أكثر، يتطلب الأمر «شرطًا آخر»، وهو أن المجتمع «يجب، في عقول على الأقل بعض من أكثر أعضائه حساسية، أن يحمل صورة لذاته كأمة، على الأقل في أطوارها الأولى، تقوم بناءً على عامل أو عوامل موحدة عامة؛ اللغة أو الأصل العرقي أو التاريخ المشترك (سواء الفعلي أو المتخيل)». ولاحقًا في نفس المقال، علق برلين على الفكر السياسي للقرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين «المتمركز على نحو مثير للدهشة حول أوروبا»، حيث «يُنْظَر لشعوب آسيا وأفريقيا باعتبارهم أتباعًا أو ضحايا للأوروبيين، لكن نادرًا، إن وجد، ما يُنْظَر إليهم في حد ذاتهم باعتبارهم شعوبًا لها تاريخ وثقافة خاصين بها، ولها ماض وحاضر ومستقبل يجب أن يُفْهَم في ضوء شخصيتها وظروفها الفعلية».1
وراء كل حركة قومية ناجحة في العالم الغربي كان هناك عامل مُوَحِّد؛ شيء يجمع أعضاء الأمة معًا. تُمَثِّل هذا العامل في لغة مشتركة أو عقيدة دينية مشتركة أو أرض مشتركة أو عدو مشترك، وأحيانًا كل ما سبق. وهكذا، جمعت الأمة البريطانية شعبها معًا على جزيرة باردة بناءً على أن معظمه كان من البروتستانت ويكره فرنسا. وفي حالة فرنسا، اجتمع عاملا اللغة مع الدين بقوة. وبالنسبة للأمريكيين، عمل عاملا اللغة المشتركة والعقيدة الدينية المشتركة على نطاق واسع جنبًا إلى جنب مع العداء تجاه المستعمرين. أما بالنسبة لأمم أوروبا الشرقية الأصغر حجمًا — البولنديين والتشيكيين والليتوانيين، وغير ذلك — فتوحدت شعوبها عبر لغة مشتركة أو معتقد ديني غالب أو تاريخ مشترك وشديد المرارة من الهيمنة عليها من قبل طغاة ألمان وروس.2
بخلاف تلك الأمثلة (وأمثلة أخرى)، لا تفضل الأمة الهندية لغة أو معتقدًا دينيًّا معينًا. فعلى الرغم من أن غالبية مواطني الهند هندوس، فهي ليست أمة هندوسية؛ فدستورها لا يميز بين أفراد الشعب على أساس الدين، والأكثر أهمية، أن هذا كان هو الحال بالنسبة للحركة القومية التي وقفت وراء وضعه. منذ نشأة المؤتمر الوطني الهندي، كما يرى موكل كيسافان، كان بمنزلة سفينة نوح سياسية سعت لضم كل أطياف الهند على متنها.3 وبُنِيَ برنامج غاندي السياسي على التناغم والتعاون بين الجماعتين الدينتين الأكبر في الهند؛ الهندوس والمسلمين. وعلى الرغم من أن سعيه ونموذجه لم يمنعا في النهاية تقسيم الهند، فإن فشله جعل من خلفوه أكثر إصرارًا على جعل الهند المستقلة جمهورية علمانية. بالنسبة لجواهر لال نهرو ورفاقه، إذا كانت الهند أي شيء على الإطلاق، فهي ليست «باكستان هندوسية».

العلمانية الهندية تُعَدُّ قصة تجمع بين النجاح والفشل؛ فاعتناق الفرد لدين ليس دين الأغلبية لا يُعَدُّ حاجزًا أمام تقدمه في مجال الأعمال أو المهن. أحد أغنى رجال الصناعة في الهند مسلم، كما أن بعضًا من أشهر نجوم السينما الهندية مسلمون. وعلى الأقل ثلاثة رؤساء جمهورية ورئيسان للمحكمة العليا مسلمون. وفي واقع الأمر، فيما بين عامي ٢٠٠٤ و٢٠٠٧، رئيس الهند كان مسلمًا، ورئيس وزرائها سيخيًّا، وقائد الحزب الحاكم كاثوليكيًّا وُلِد في إيطاليا، وهي حقيقة كثيرًا ما كان الهنود في تلك الأشهر والسنوات يتحدَّثون عنها بفخر.

على الجانب الآخر، تواجه الأقليات تحيزًا وعداءً. فالمسلمون على وجه الخصوص يعدون من أفقر الطوائف الاجتماعية وأكثرها هشاشة في الهند. بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك أعمال شغب دينية تحدث من آن لآخر، عانت الأقليات في أسوئها (كما في دلهي عام ١٩٨٤ وجوجارات عام ٢٠٠٢) من خسائر جسيمة في الأرواح والممتلكات. ومع ذلك، في المجمل، يبدو أن الأقليات ما زالت مؤمنة بفكرة الديمقراطية والعلمانية. لم ينضم سوى عدد قليل جدًّا من المسلمين الهنود لتنظيمات إرهابية أو أصولية. كما أن المسلمين الهنود يشعرون، حتى أكثر من رفقائهم في الوطن، أن آراءهم وأصواتهم الانتخابية مهمة. وَجَدَ استبيان حديث أنه في حين أن ٦٩٪ من كل الهنود أيدوا فكرة الديمقراطية ودعموها، فإن ٧٢٪ من المسلمين فعلوا هذا.4

إن زرْعَ تعدُّديةٍ دينية في بلدٍ انقسم حديثًا كان دائمًا مهمة صعبة؛ فإقامة دولة إسلامية على حدود الهند استفز الهندوس الذين رغبوا في دمج الدين بالدولة. فحركة أيوديا التي ظهرت في الثمانينيات زادت بشدة من البروز السياسي لراديكاليِّي الهندوتفا. وحديثًا، زاد أكثر ظهور الأصولية الإسلامية عبر العالم، وخاصة في دولتَي باكستان وبنجلاديش المجاورتَين، من بروز الأصوليين الهندوس. الهند لم تعد بعد باكستان هندوسية، لكن، في المستقبل المنظور، هؤلاء الذين يتمنون جعلها كذلك سيكونون موجودين وفاعلين في البلاد. وفي أوقات الاستقرار أو عندما تكون القيادة السياسية حازمة، سيكون هؤلاء على الهامش أو في موقف دفاعي. لكن في أوقات التغيير أو عندما تكون القيادة السياسية مترددة، سيكونون مؤثرين وفي موقف هجومي.

٢

كان تعدد الأديان أحد الأركان الأساسية التي قامت عليها الجمهورية الهندية، ويأتي بعد ذلك تعدد اللغات. وهنا أيضًا النية والسعي سبقا الاستقلال؛ ففي العشرينيات، أعاد غاندي تكوين اللجان الإقليمية لحزب المؤتمر على أسس لغوية. ووعد الحزب بإنشاء ولايات لغوية بمجرد حصول البلد على حريته. ولم يتم الوفاء بهذا الوعد على الفور بعد عام ١٩٤٧؛ لأن إقامة دولة باكستان أثارت المخاوف من حدوث مزيد من البلقنة. ولكن في مواجهة الاحتجاجات الشعبية، اضْطُرَّت الحكومة للإذعان وإقامة ولايات على أساس اللغة.

خرجت الولايات اللغوية للنور منذ ستين عامًا. وطوال تلك الفترة، كان لديها انتماء عميق وراسخ للهند. وداخل كل ولاية منها، وفرت اللغة المشتركة الأساس للوحدة والكفاءة الإدارية، وأدت أيضًا لازدهار الإبداع الثقافي، متمثلًا في السينما والمسرح والأدب والشعر. ولكن نادرًا ما تعارض افتخار الفرد بلغته مع انتمائه الأكبر للدولة ككل. ثبت أنه من الممكن — وفي الواقع، من المستحب — أن يكون المرء هنديًّا إلى جانب كونه كاناديًّا أو مالايالاميًّا أو أندريًّا أو تاميليًّا أو بنغاليًّا أو أُورِيًّا أو مهاراشتريًّا أو جوجاراتيًّا.

تتضح فكرة أن الوحدة والتنوع متلازمان في الهند رسوميًّا في عملة البلد. على أحد جانبي العملة الورقية الهندية، توجد صورة «أبي الأمة»، المهاتما غاندي، في حين توجد على الجانب الآخر صورة البرلمان الهندي. وقيمة الفئات المختلفة — ٥ و١٠ و٥٠ و١٠٠ وغير ذلك — مكتوبة بالأحرف باللغتين الهندية والإنجليزية (اللغتين الرسميتين)، وأيضًا بكل اللغات الأخرى الخاصة بالاتحاد الهندي، ولكن بخط أصغر. وهكذا، توجد ١٧ طريقة كتابة مختلفة. وتُمَثِّل كل لغة، وكل طريقة كتابة، ثقافة وروحًا إقليمية مختلفة، لكنها توجد هنا بنحو أو بآخر دون أن تتعارض مع فكرة الهند ككل.

اعتقد بعض المراقبين الغربيين — الأمريكيين، في الغالب — أن هذا التنوع اللغوي سيؤدي لتفكك الهند؛ فبناءً على تجربتهم في بلادهم، كانت تُعَدُّ اللغة الإنجليزية الرابط الذي يجمع بين موجات متعددة من المهاجرين، الذين كان عليهم، بمرور الوقت، التخلُّص من لُغاتهم التي جلبوها معهم — الألمانية واليديشية والإيطالية وغير ذلك — والتحدث والكتابة بالإنجليزية وحدها. وهكذا مال الأمريكيون الذين زاروا أو عاشوا في الهند إلى الاعتقاد بأنه يجب أن تكون هناك لغة واحدة — الهندية أو الإنجليزية — يتحدثها كل الهنود. واعتبروا الولايات اللغوية خطأ خطيرًا. ولذلك، في كتاب نُشِرَ متأخرًا عام ١٩٧٠، وفي نهاية مهمته كمراسل صحفي لصحيفة «واشنطن بوست» في الهند، كتب برنارد نوسيتر على نحو يائس يقول إن الهند هي «أرض بابل لكن دون وجود لغة مشتركة». وأضاف أن إنشاء الولايات اللغوية سوف «يزيد أكثر من انفصال الولايات بعضها عن بعض ويزيد الدافع من أجل الانشقاق». وأضاف أن الدولة الهندية منذ قيامها «ابْتُلِيَت بميول انفصالية وانشقاقية»، كما أن «التضارب المستمر بين اللغات … يمكن فقط أن يزيد أكثر من تلك الميول ويضع مسألة الوحدة المستقبلية للدولة الهندية على المحك».5
تعود الفكرة القائلة بأن الدولة القومية يجب بالضرورة أن تفضل لغة واحدة حتى تستطيع الاستمرار للدكتاتور السوفييتي جوزيف ستالين التي شاركه فيها الليبراليون الأمريكيون. أصر ستالين على أنه «لا يمكن تصور أي جماعة قومية دون وجود لغة مشتركة بين أفرادها»، كما أنه «لا توجد أمة تتحدث في نفس الوقت لغات متعددة».6 وقامت السياسة اللغوية للاتحاد السوفييتي على تلك الفكرة؛ حيث أصبح تعلم اللغة الروسية إجباريًّا. كان الهدف من ذلك، بحسب تعبير ستالين نفسه، ضمان «وجود لغة واحدة يمكن لكل مواطني الاتحاد السوفييتي بنحو أو بآخر من خلالها التعبير عن أنفسهم، وتلك اللغة هي اللغة الروسية».7

كانت الولايات المتحدة الأمريكية أرضًا تشكلت بسبب موجاتٍ متتالية من المهاجرين، الذين كان عليهم تعلم الإنجليزية حتى يتحدث بعضهم مع بعض. الاتحاد السوفييتي، على الجانب الآخر، كان كيانًا سياسيًّا تكوَّن من جماعاتٍ لغويةٍ متعددة. في هذا الشأن، كان أقرب إلى جمهورية الهند من أمريكا. وأدى الدعم السوفييتي للغة الروسية في النهاية إلى نمو الميول الانفصالية وإنشاء دولٍ مستقلةٍ عديدة. في الهند، على الجانب الآخر، حدث العكس تمامًا؛ أي، عمل دعم التعددية اللغوية على ترويض تلك الميول.

ربما يكون عرض مقارنة مع الدول المجاورة مفيدًا هنا. عام ١٩٥٦، العام الذي أُعِيدَ فيه تنظيم ولايات الهند على أساس اللغة، قدم برلمان سريلانكا (سيلان حينذاك) قانونًا يعتبر اللغة السنهالية اللغة الرسمية للبلاد. كان الهدف هو جعل السنهالية لغة التعليم في كل مدارس وجامعات الدولة وفي الاختبارات العامة وفي المحاكم. ربما كان أكثر المتضررين من هذا القانون هي الأقلية المتحدثة باللغة التاميلية التي كانت تعيش في الشمال، وقد عَبَّرَ نوابها في البرلمان أفضل تعبير عن مشاعرها في هذا الشأن. قال أحد هؤلاء النواب: «عندما تحرمني من لغتي، فأنت تحرمني من كل شيء.» في حين حذر آخر قائلًا: «أنتم تسعون لتقسيم سيلان»، مضيفًا: «لا تخافوا، أؤكد لكم أنكم ستتسببون في تقسيم سيلان.» وتوقع عضو يساري، هو نفسه أحد المتحدثين بالسنهالية، أن الحكومة لو لم ترجع عن هذا القانون وأصرت على تمريره، «فقد تنقسم دولة واحدة صغيرة إلى دولتين صغيرتين نازفتين».8
في عام ١٩٧١، نشأت دولتان ممزقتان متوسطتا الحجم من دولة كبيرة. الدولة التي قُسِّمَت هي باكستان وليس سريلانكا، ولكن سبب التقسيم كان واحدًا، وهو اللغة؛ فمؤسسو باكستان أيضًا اعتقدوا أن دولتهم يجب أن تعتمد على لغة واحدة إلى جانب دين واحد. في خطاب محمد علي جناح الأول في عاصمة باكستان الشرقية، دَكَّا، حذر مستمعيه بأن عليهم تعلم اللغة الأردية واعتبارها لغتهم الأساسية عاجلًا وليس آجلًا. وقال لجمهوره البنغالي: «دعوني أوضح لكم بجلاء أن لغة دولة باكستان ستكون هي الأردية وليس لغة أخرى. وأي شخص يحاول تضليلكم هو حقًّا عدو لباكستان. فدون وجود لغة واحدة للدولة، لا يمكن لأي أمة أن تظل مترابطة بقوة وتتقدم.»9

في الخمسينيات، نشبت أعمال شغب دموية عندما حاولت الحكومة الباكستانية فرض اللغة الأردية على طلاب رافضين. واستمر شعور بالتمييز على أساس اللغة وكانت النتيجة في النهاية إقامة دولة بنجلاديش المستقلة.

قامت باكستان على أساس الدين، لكنها قُسِّمَت على أساس اللغة. ولأكثر من عقدين، قامت حرب أهلية دموية في سريلانكا، انقسمت الأطراف المتصارعة بعض الشيء على أساس الأرض والدين ولكن الأغلب على أساس اللغة. ربما يكون الدرس المستفاد من هاتين الحالتين هو: «لغة واحدة، دولتان». ولو فُرضت اللغة الهندية على الهند بأسرها، فربما كان الدرس المستفاد هو: «لغة واحدة، ٢٢ دولة».

٣

لم تقم القومية الهندية على لغة أو دين أو هوية عرقية مشتركة. لذا ربما نعتقد أنها لا بد وأن قامت على مواجهة عدو مشترك، وهو الإمبريالية الأوروبية. المشكلة في هذا الاعتقاد تكمن في السبل المستخدمة في حصول الهند على حريتها. يزعم المؤرخ مايكل هاورد أنه «لا توجد «أمة»، بالمعنى الصحيح للكلمة … يمكن أن تُولَد بدون حرب … فلا يستطيع أي مجتمع لديه وعي بذاته أن يثبت وجوده باعتباره لاعبًا جديدًا ومستقلًّا على الساحة العالمية دون صراع مسلح أو التلويح بإمكانية الدخول فيه».10 في هذا الشأن أيضًا يجب أن تُعَدُّ الهند استثناءً. لا شك أن الحركة المناهضة للحكم البريطاني هي أول من جمعت بين رجال ونساء من أجزاء مختلفة من شبه القارة الهندية في مَسْعًى مشترك. لكن حركتهم (التي نجحت في النهاية) من أجل الحرية السياسية فضلت المقاومة السلمية على الثورة العنيفة. وهكذا ظهرت الهند كأمة على الساحة العالمية دون صراع مسلح بين الظالم والمظلوم.

نال غاندي ورفاقه الثناء على نطاق واسع لتفضيلهم الاحتجاج السلمي على الصراع المسلح. ولكن يجب أن يُحمدوا على نحو متساوٍ لِتَحَلِّيهم بالحكمة التي جعلتهم يبقون، بعد جلاء البريطانيين، على بعض جوانب التركة الاستعمارية التي ربما كانت مفيدة في الدولة الجديدة.

عادة ما كان المستعمرون يُلامون من قبل القوميين لتشجيعهم الديمقراطية في بلادهم وحرمان شعوب مستعمراتهم منها. وعندما رحل البريطانيون في نهاية الأمر، كان من المتوقع أن يتبنى الهنود التقاليد السياسية المتبعة في بريطانيا مثل الديمقراطية البرلمانية والحكومة البرلمانية. لكن الأكثر إثارة للدهشة ربما كان إقرارهم لتقليد استعماري بامتياز وإبقاءهم عليه، وهذا التقليد هو دائرة الخدمة المدنية.

كان أهم المسئولين في الهند البريطانية موظفين في دائرة الخدمة المدنية الهندية. في الريف، حافظوا على الأمن وجمعوا الضرائب، في حين أنهم في الأمانة العامة أشرفوا على وضع السياسات، وبوجه عام حافظوا على دوران عجلة العمل في مؤسسات الدولة. وعلى الرغم من وجود أشخاص فاسدين من بينهم، فقد تمتع معظمهم بالنزاهة والكفاءة.11 وغالبية هؤلاء كانوا بريطانيين، ولكن هناك أيضًا عدد لا بأس به من الهنود من ضمنهم.

بعد الاستقلال، كان على الحكومة الجديدة إقرار ما ستفعله مع الأعضاء الهنود في دائرة الخدمة المدنية. رأى القوميون الذين سُجِنوا على يد هؤلاء أنهم يجب أن يُسَرَّحوا أو على الأقل تُخَفَّض رُتَبُهم الوظيفية. لكن شعر وزير الداخلية، فالابهاي باتيل، أنهم يجب أن يُسْمَح لهم بالاحتفاظ برواتبهم وعلاواتهم، ويُنْقَلوا لمناصب ذات سلطة أعلى. في أكتوبر من عام ١٩٤٩، نشب جدل كبير حول هذا الموضوع في الجمعية التأسيسية لوضع الدستور الهندي. اشتكى بعض أعضاء الجمعية من أن موظفي دائرة الخدمة المدنية الهندية ما زالت «عقلية [الحكم] مسيطرة عليهم». فبدا أنهم «لم يغيروا من سلوكهم» وكذلك «لم يتأقلموا مع الوضع الجديد». وأصر أحد القوميين على «أنهم لا يشعرون بأنهم جزء لا يتجزأ من هذا البلد».

فالابهاي باتيل نفسه سُجِنَ عدة مرات على يد رجال دائرة الخدمة المدنية الهندية. ولكن تلك التجربة وطدت بالفعل إعجابه بهم. وأدرك أن هيمنة الإمبراطورية البريطانية على العالم، ببساطة، كانت ستكون مستحيلة دونهم. ووعى أن عجلة العمل المعقدة في أي دولة قومية مستقلة حديثة كانت تحتاج أكثر لمثل هؤلاء. وكما ذَكَّرَ أعضاء الجمعية التأسيسية، يمكن تفعيل الدستور الجديد فقط «على يد موظفي دائرة الخدمة المدنية الهندية الذين سيحافظون على سلامة البلاد». وأكد على كفاءة هؤلاء الرجال وأيضًا على حبهم لعملهم. على حد تعبيره، هؤلاء «خدموا بكفاءة وإخلاص كبيرين الحكومة السابقة وبعد ذلك الحكومة الحالية». وكان باتيل حاسمًا عندما أشار إلى أن «هؤلاء الرجال هم الأدوات» التي ستتحقق بها الوحدة الوطنية في البلاد، مضيفًا: «إذا عزلناهم، فلا أرى سوى الفوضى وهي تعم أنحاء البلاد.»12

في تلك الأعوام الأولى والصعبة بعد نيل الهند لحريتها، كان موظفو دائرة الخدمة المدنية أهلًا للثقة التي أولاهم إياها فالابهاي باتيل. فساهموا في دمج الولايات الأميرية في الاتحاد الهندي وتوطين اللاجئين والتخطيط للانتخابات العامة الأولى والإشراف عليها. وكانت المهام الأخرى التي وُكِّلَت إليهم روتينية أكثر ولكنها كانت على نفس الدرجة من الأهمية، على سبيل المثال: الحفاظ على القانون والنظام في المناطق والعمل مع الوزراء في أمانة مجلس الوزراء والإشراف على مواجهة المجاعات. وفي عام ١٩٥٠، أنشأ باتيل كيانًا بديلًا على غرار دائرة الخدمة المدنية الهندية، ولكن باسم لا تلوثه آثار التجربة الاستعمارية. كان هذا الكيان هو دائرة الخدمة الإدارية الهندية.

في وقت تأليف هذا الكتاب، يوجد نحو خمسة آلاف وخمسمائة موظف ضمن دائرة الخدمة الإدارية الهندية في قوة العمل في الحكومة الهندية. وتتكامل تلك الدائرة، كما في أيام الحكم البريطاني، مع الهيئات المدنية الأخرى في «عموم الهند»، التي من بينها الشرطة وإدارة الغابات وإدارة الإيرادات وإدارة الجمارك. تُمَثِّل تلك الهيئات رابطًا أساسيًّا بين الحكومة المركزية والولايات. ويُعَيَّن كل من موظفي دائرة الخدمة الإدارية الهندية في ولاية معينة حيث يقضي نصف مدة خدمته أو أكثر والباقي في هيئات الحكومة المركزية. وأُضِيفَ للمهام القديمة الموكلة لهؤلاء المتمثلة في جمع الضرائب والحفاظ على القانون والنظام مسئوليات جديدة متعددة، من بينها إقامة الانتخابات والإشراف على برامج التنمية. وعبر مسار حياة أي موظف من هؤلاء، يكتسب على الأقل معرفة عامة بموضوعات مختلفة ومتنوعة مثل القانون الجنائي وإدارة الري والحفاظ على التربة والماء والرعاية الصحية الأولية.13

وضع أحد موظفي دائرة الخدمة المدنية الهندية، سوكومار سين، الأسس الخاصة بإقامة الانتخابات في الهند، ويستكمل موظفو دائرة الخدمة الإدارية الهندية المسيرة على نفس النحو بعده. ويُخْتَار رؤساء اللجان الانتخابية في الولايات من كبار موظفي تلك الدائرة، في حين يشرف صغار موظفيها على الانتخابات في مناطقهم، أما موظفوها من أصحاب الدرجات الوسطى، فيعملون كمراقبين للانتخابات، يُبَلِّغون عن أي انتهاكات تحدث للنظام الانتخابي. بوجه عام أكثر، تُعَدُّ الهيئات المدنية الجسر بين الدولة والمجتمع؛ ففي سياق عمل هؤلاء المسئولين، يقابلون الآلاف من أعضاء المجتمع، الذين يعملون في كافة مناحي الحياة. وحيث إنهم يعيشون ويعملون في ظل نظام ديمقراطي، فهم مجبرون على الانتباه الشديد لمعتقدات واحتياجات الناس. وفي هذا الشأن، ربما تُعَدُّ مهمتهم أصعب حتى من سابقيهم في دائرة الخدمة المدنية الهندية.

لكن في السنوات الأخيرة أصبح موظفو دائرة الخدمة الإدارية على نحوٍ متزايد منقادين للوزراء الذين يعملون معهم. وقُوِّض استقلال الهيئات المدنية، الذي كان يُدافع عنه بحماس في السابق، من قبل التحالفات العديمة الضمير بين السياسيين وموظفي دائرة الخدمة الإدارية، الذين يتبعون أجنداتٍ شخصية، بما في ذلك الحصول على عمولات غير مشروعة في المشروعات الحكومية. كما أن سيطرة تلك الدائرة على الوظائف العليا في الحكومة أعاقت أيضًا دخول الموظفين الأكْفاء. وفي العالم المعقد السريع التغير في القرن الحادي والعشرين، تحتاج الهند إلى خبراء بدلًا من أشخاصٍ غير متخصصين لقيادة الإدارات الحكومية والمؤسسات التنظيمية. لقد فات أوان إصلاح الهيئات المدنية؛ ومع ذلك، فإن دائرة الخدمة الإدارية والهيئات ذات الصلة قد لعبت دورًا حيويًّا في الحفاظ على وحدة بلدٍ منقسم في أغلب الأحيان.

هناك مؤسسة أخرى تكونت في ظل الحكم الاستعماري ولعبت دورًا مساويًا في الأهمية، وهي الجيش الهندي. تضررت سمعة الجيش بشدة بعد الحرب مع الصين عام ١٩٦٢، قبل أن يستعيد مكانته في الحروب المتتالية التي خاضها ضد باكستان. وتضررت بعض الشيء هيبته من الضربات التي تعرض لها على يد المتمردين التاميليين في سريلانكا فيما بين عامي ١٩٨٧ و١٩٨٨، لكنه استعادها بعد عقد لاحق بطرد المتسللين إلى كارجيل. وعلى الرغم من أن سمعته كقوة مقاتلة أخذت تتراوح بين الصعود والهبوط، فاستحق في الغالب الاحترام الشديد كجهة حافظة للنظام في أوقات السلم؛ ففي أوقات الشغب الطائفي، عادة ما يكون مجرد ظهور جنود الجيش بلباسهم العسكري كافيًا لجعل مثيري الشغب يفرون. وفي أوقات الكوارث الطبيعية، يساهم الجيش في تخفيف المعاناة. فعندما تحدث مجاعة أو فيضان أو إعصار أو زلزل، عادة ما يكون في مقدمة المشهد ودائمًا ما يكون اللاعب الأكثر كفاءة واعتمادية فيه.

الجيش الهندي هيئة مهنية وغير طائفية بالمرة. كما أنه لا دخل له بالسياسة. فتقريبًا منذ اللحظات الأولى بعد الاستقلال، أوضح جواهر لال نهرو لكبار قادة الجيش أن عليهم في المسائل الخاصة بالدولة — سواء الصغيرة أو الكبيرة منها — أن يخضعوا لرأي الساسة المنتخبين؛ ففي وقت انتقال السلطة، كان لا يزال الجيش يرأسه جنرال بريطاني أمر بعدم مشاركة الجماهير في حفل مراسم رفع العلم المزمع عقده في اليوم التالي ليوم الاستقلال. ألغى نهرو، بصفته رئيسًا للوزراء، الأمر وكتب للجنرال ما يلي:
رغم اهتمامي بمعرفة آراء مسئولينا الكبار ومشاعرهم، سواء البريطانيين منهم أو الهنود، فيبدو لي أن هناك سوء فهم كبيرًا في الأمر. في أي سياسة ستتبع، سواء في الجيش أو أي مؤسسة أخرى، يجب أن تكون لآراء حكومة الهند والسياسة التي تضعها الغلبة. وإذا لم يكن أي شخص قادرًا على تقبل تلك السياسة، فليس له مكان في الجيش الهندي أو البناء الحكومي الهندي. أعتقد أن هذا يجب أن يكون واضحًا تمامًا في تلك المرحلة.14
بعد عام، اختار فالابهاي باتيل جنرالًا بريطانيًّا آخر ليحل محل هذا الجنرال. وعندما قررت الحكومة التحرك ضد نظام حيدر أباد، حذر قائد الجيش، الجنرال روي بوكر، من أن إرسال قوات عسكرية لحيدر أباد قد يستفز باكستان ويجعلها تهاجم أمريتسار. قال له باتيل إنه إذا كان يعارض التحرك في حيدر أباد، فيمكنه الاستقالة. تراجع الجنرال وأرسل القوات كما أُمِرَ.15
بعد فترة وجيزة، تقاعد بوكر ليحل محله أول قائد جيش هندي، الجنرال كيه إم كاريابا. في البداية، قصر اهتمامه على الأمور العسكرية، ولكن مع رسوخه في منصبه، بدأ يعبر عن آرائه إزاء مسائل مثل أفضل النماذج المناسبة للهند فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية. في أكتوبر من عام ١٩٥٢، كتب نهرو إليه ناصحًا إياه بتقليل عدد المؤتمرات الصحفية التي يعقدها، وفي كل الأحوال البعد عن المسائل التي هي محل جدل. وأرسل إليه خطابًا من أحد زملائه في الوزارة، يشتكي فيها من أن كاريابا كان «يُلقي العديد من الخطب ويعقد العديد من المؤتمرات الصحفية في جميع أنحاء البلاد»، مُعطيًا الانطباع بأنه كان «يلعب دور القائد السياسي أو شبه السياسي».16
يبدو أن الرسالة قد وصلت للجنرال، لأنه عندما ترك منصبه في يناير من عام ١٩٥٣، «حث الجنود على الابتعاد تمامًا عن السياسة» وذلك في آخر خطبه. وقال إن مهمة الجيش ليست «الانخراط في السياسة وإنما إبداء الولاء التام للحكومة المنتخبة».17 لكن نهرو علم أن الجنرال إلى حدٍّ بعيد رجل لا يمكن التحكم فيه وكذلك لا يمكن الوثوق بالكامل في التزامه بنصيحته. وفي خلال ثلاثة شهور من تركه لمنصبه، عُيِّنَ الجنرال المُفَوَّض السامي الهندي في أستراليا. ولم يكن الجنرال سعيدًا تمامًا بهذا التكليف، لأن، حسب ما قال لرئيس الوزراء، «الابتعاد عن الوطن والذهاب للجانب الآخر من العالم لأي فترة تريدني أن أكون فيها في أستراليا يحرمني من أكون على تواصل مستمر ومنتظم مع الناس». واسى نهرو الجنرال قائلًا له إنه نظرًا لأنه رياضي، فهو مؤهل بشدة لتمثيل الهند في بلد رياضي. لكن الهدف الحقيقي، الذي كان واضحًا بجلاء، هو إرساله لأبعد مكان ممكن عن الناس.18
نظرًا لأن كاريابا كان أول هندي يصبح قائدًا للجيش، فقد كان له بريق خاص، لكنه أخذ يفقده مع كل شهر يمر على تركه لمنصبه. وبحلول الوقت الذي عاد فيه من أستراليا، كان قد نُسِيَ تمامًا. لكنَّ بُعْدَ نظر نهرو تأكد من خلال التصريحات التي كان يُدلي بها الجنرال من آن لآخر؛ ففي عام ١٩٥٨، زار باكستان حيث كان ضابطان من الجيش خدما معه في الهند قبل تقسيمها قد قاما لتوهما بانقلاب عسكري. أثنى الجنرال عليهما علنًا، قائلًا إن «الوضع الداخلي الذي تعتريه الفوضى هو الذي أجبر هذين الجنرالين الوطنيين على التخطيط معًا لفرض الأحكام العرفية في البلاد لإنقاذها من الدمار التام».19 وبعد عشرة أعوام، أرسل مقالًا لصحيفة «إنديان إكسبريس» حاجج فيه بأن الوضع الداخلي الفوضوي في غرب البنغال كان يتطلب فرض الحكم الرئاسي هناك لخمسة أعوام على الأقل. خالفت تلك النصيحة نص وروح الدستور. لحسن الحظ، رد رئيس التحرير له المقال، مبينًا للجنرال أنه «سيكون من المحرج في تلك الظروف لك ولنا نشر هذا المقال».20
استمر هذا الإطار الذي وُضِعَ في تلك الأعوام الأولى حتى الآن؛ فكما يشير الفريق جيه إس أرورا، إن نهرو «وضع بعض الأسس الجيدة جدًّا» التي ضمنت «تقريبًا عدم انخراط الجيش في السياسة». ويضيف أرورا: «الجيش ليس له دور في السياسة على أي نحو»، وكبار الضباط على وجه الخصوص «يجب أن يكونوا أكثر الناس بعدًا عن السياسة على هذه الأرض!»21 وأرورا نفسه الذي أصبح بطلًا قوميًّا بعد إسهامه في انفصال بنجلاديش لم يَسْعَ هو ولا غيره من كبار الضباط لتحويل النصر الذي تحقق على أرض المعركة لمكسب سياسي.
عمل بالتأكيد بعد التقاعد بعض كبار رجال الجيش سفراءَ وحكَّامًا للولايات. والقليل منهم دخلوا عالم السياسة الحزبية، مع شغل اثنين منهم لمنصب وزير في الحكومات التي قادها حزب بهاراتيا جاناتا. علاوة على ذلك، في المناطق الحافلة بالصراع مثل كشمير والجزء الشمالي الشرقي، فرض الجيش في بعض الأحيان إرادته على الإدارة المدنية، ولا سيما فيما يخص قانون الصلاحيات الخاصة للقوات المسلحة، الذي لن يسمح بإلغائه حتى بعد انحسار العنف والإرهاب. وفيما عدا تلك الاستثناءات، بقي الجيش الهندي بوجهٍ عام بعيدًا عن السياسة، على عكس الجيش الباكستاني، الذي تدخل على نحوٍ نشط في العملية السياسية، مطيحًا بحكوماتٍ منتخبة مستبدلًا بها إداراتٍ تابعةً له بعد تطبيق الأحكام العرفية.22

٤

الجيش، شأنه شأن الهيئات المدنية، مؤسسة تكونت في ظل الحكم الاستعماري وكُيِّفَت بنجاح لتحمل الطابع الهندي. يمكن قول نفس الشيء على اللغة الإنجليزية؛ ففي أثناء الحكم البريطاني، كانت النخبة والطبقات المهنية يتواصلون بعضهم مع بعض بالإنجليزية. وهكذا فعلت النخبة القومية. فباتيل وبوس ونهرو وغاندي وأمبيدكار كلهم تحدثوا وكتبوا بلغتهم الأم، وأيضًا بالإنجليزية. وللوصول لمناطق غير مناطقهم، كان التواصل باللغة الإنجليزية لا غنى عنه. وهكذا تكون وعي معاد لبريطانيا عبر الهند بأكملها، إلى حدٍّ بعيد، من قبل مفكرين وناشطين يكتبون بالإنجليزية.

بعد الاستقلال، كان سي راجا جوبالاتشاري من بين أبرز المؤيدين للغة الإنجليزية. كتب يقول إن الحكام الاستعماريين «لأسباب وأغراض وأهداف عرضية معينة … خلفوا وراءهم إرثًا هائلًا من اللغة الإنجليزية». لكن الآن بما أن هذا الإرث قد وصل إلينا، فلا حاجة لإعادته لأصحابه. الإنجليزية «ملك لنا. ونحن لسنا بحاجة لإرجاعها لبريطانيا والبريطانيين». وأضاف مازحًا أنه طبقًا للتقليد الهندي، الإلهة الهندوسية ساراسواتي هي التي أوجدت كل لغات العالم. لذا، فالإنجليزية «انتمت لنا من حيث النشأة، ساراسواتي هي التي أوجدتها، وحصلنا عليها أيضًا بالاكتساب».23
على الجانب الآخر، كان هناك بعض القوميين المؤثرين للغاية الذين اعتقدوا أن الإنجليزية يجب أن تخرج من الهند مع خروج البريطانيين منها؛ كان من أمثلة هؤلاء قائد منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج، إم إس جُلوالكَر، والمُنظر الاشتراكي رامانوهار لوهيا. ففي فترة حكم نهرو، مارَس هؤلاء ضغوطًا لاستبدال الهندية باللغة الإنجليزية كلغة التواصل بين المقاطعات. لكن جرت مُقاوَمة تلك الضغوط. وعندما زار الكاتب الكندي جورج وودكوك الهند عام ١٩٦١، وجد أنه رغم غرابة الهند بسبب «التنوع الهائل الموجود بها في العادات وأنواع الأراضي والأنماط الجسدية البشرية»، فإنها كانت «بلدًا أجنبيًّا تُفْهَم فيه دائمًا لغة الفرد من قبل أي شخص قريب منه، وحيث كان يعني حديث الفرد بلكنة بريطانية أن يُنْظَر إليه على أنه بنحو أو بآخر أحد أبناء العمومة التي نشأت عن زواج غريب ومؤقت لشعبين ساد الحب والكراهية بينهما بنفس الشدة».24

بعد وفاة نهرو، تجددت المحاولات للقضاء على اللغة الإنجليزية. فرغم اعتراض الولايات الجنوبية، في ٢٦ يناير من عام ١٩٦٥، أصبحت الهندية اللغة الرسمية الوحيدة للتواصل فيما بين المقاطعات. وكما رأينا من قبل، أثار هذا احتجاجات شديدة وغاضبة مما أدى لإلغاء القرار المَعْنِي في خلال أسبوعين. وهكذا استمرت اللغة الإنجليزية كلغة الحكومة المركزية والمحاكم العليا والتعليم العالي.

بمرور السنوات، رسخت اللغة الإنجليزية وضعها باعتبارها لغة النخبة الهندية بكافة أطيافها ووطدت أركانها وعمقت تأثيرها في الهند؛ فأصبحت لغة المستعمرين، في الهند المستقلة، لغة السلطة والمكانة الاجتماعية، لغة الفرد وكذلك لغة الترقي الاجتماعي. وكما يرى المؤرخ سارفِبالي جوبال، إن «حقيقة أن الإلمام بالإنجليزية هو السبيل للعمل في المستويات العليا في كل المجالات، وأنه الطريق الوحيد للحصول على المكانة والثروة، وأنه لا غنى عنه لكل من يخطط للهجرة للخارج عَنَتْ وجود حماس هائل لدراستها منذ الاستقلال». لكن، كما كتب جوبال، الإنجليزية «يمكن وصفها بأنها اللغة غير الإقليمية الوحيدة في الهند. فهي لغة رابطة ليس فقط بالمعنى الإداري وإنما أيضًا لمواجهتها للإقليمية الضيقة الأفق».25

أَحَسَّ مَن سَعَى للإبقاء على اللغة الإنجليزية، من أمثال نهرو وراجاجي، أنها قد تساعد في تعزيز الوحدة الوطنية ودعم التقدم العلمي. وقد فعلت هذا بالفعل، لكن دورها في النمو الاقتصادي كان غير متوقع على نحو كبير؛ حيث يقف وراء الصعود المدهش لصناعة البرمجيات إجادة المهندسين الهنود للإنجليزية.

تعد الإنجليزية إحدى اللغتَين الرابطتَين الأساسيتَين. وتمثلت اللغة الأخرى في اللغة الهندية. عندما فرضَت الحكومة المركزية اللغة الهندية بالقوة، قاومها أهل الجنوب والشرق. ولكن عندما قُدمَت على نحوٍ جذاب في السينما والتليفزيون، تقبلوها.

السينما الهندية هي الشغف الأكبر للشعب الهندي ويشاهدها ويتابعها الهنود بغضِّ النظر عن السن أو النوع أو الطائفة الاجتماعية أو الطبقة أو الدين أو الجماعة اللغوية. ويُعَدُّ النجوم السينمائيون هم أكثر الهنود توقيرًا. غير أن السينما لا تقدم للهنود فقط مجموعةً مشتركة من الأبطال؛ فهي تمدهم أيضًا بلغةٍ مشتركة وعالمٍ مشترك من الخطاب. فتُقتبس سطور من الأفلام الغنائية ومقتطفات من الحوار في الأفلام في الحوارات اليومية في المدارس والكليات والمنازل والمكاتب والشوارع.

السينما الهندية تقدم ذخيرة من المواقف الاجتماعية والمسائل الأخلاقية التي تتأثر بها على نطاقٍ واسع جماعة المواطنين ككل. ولكنها أيضًا، بمرور الوقت، جعلت اللغة الهندية مفهومة أكثر لمن لم يتحدث بها أو يفهمها من قبلُ. ففي بنجالور وحيدر أباد، أصبحت الهندية الوسط المفضل للتواصل بين الأشخاص الذين يتحدث بعضهم لغات لا يفهمها آخرون. وحتى في تشيناي، حيث جرت مقاومة استخدام تلك اللغة بضراوة، تعلم سائقو سيارات الأجرة ما يكفي منها للتحدث مع الركاب القادمين من الشمال والغرب.

تعد الهندية والإنجليزية اللغتَين الرابطتَين في الهند، اللتين تعملان معًا في تركيبٍ واحد أحيانًا. فقد ابتعدت الإنجليزية التي يتحدث بها الهنود اليوم عن الإنجليزية التي لها لكنة أكسفورد وأسلوب هيئة الإذاعة البريطانية، والتي كانت تتحدث بها النخبة في البلاد. لقد جرى إكسابها الطابع المحلي، إذ تبنت كلمات وتعبيراتٍ اصطلاحية من اللغات الهندية. في غضون ذلك، ظهرت أيضًا لغةٌ هجينة، تسمى «الهنجليزية»، تمزج بين اللغتَين الرابطتَين بنسبٍ مختلفة، اعتمادًا على المكان الذي نشأ فيه المتحدث.

٥

في عام ١٨٨٨، كتب جون ستراتشي يقول إنه لا يستطيع أبدًا تخيل انضمام البنجاب ومدراس تحت لواء كيانٍ سياسيٍّ واحد. لكن في عام ١٩٤٧، حدث هذا، إلى جانب انضمام ولاياتٍ أخرى كان يعتبرها ستراتشي «أممًا» منفصلة. في ذلك العام، ربما كانت الوحدة بين هذه الولايات في الغالب سياسية، ولكن في العقود التي تلت ذلك وحتى الآن، أصبحت الوحدة أيضًا اقتصادية وثقافية، ونستطيع القول إنها عاطفية أيضًا.

التكامل الاقتصادي للهند نتاج لتكاملها السياسي؛ فكل منهما يكمل الآخر؛ فكلما زادت حركة البضائع ورءوس الأموال والناس عبر الهند، زاد الشعور بأنها بلد «واحد» في نهاية الأمر؛ ففي العقود الأولى من الاستقلال، فعل القطاع العام كل ما في وسعه لتدعيم هذا الشعور بالوحدة؛ ففي مصانع مثل مصنع الصلب الكبير في بيلاي، عمل الأندريون وعاشوا جنبًا إلى جنب مع البنجابيين والجوجاراتيين. دعم هذا تقديرهم للغات والعادات والأكلات الأخرى، مع التأكيد على حقيقة أنهم جميعًا جزء من نفس الأمة. وكما لاحظ عالم الأنثروبولوجيا جوناثان باري، أنه في مخيلة نهرو، «نُظِرَ لبيلاي ومصنع الصلب الخاص بها كحاملين لشعلة التاريخ وأن الهدف منهما خلق نوع جديد من المجتمع تمامًا كما هو إنتاج الصلب». نجحت تلك المحاولة؛ فبالنسبة لأطفال الجيل الأول من العمال، الذين وُلِدوا ونشئوا في بيلاي، حل محل الولاءات الإقليمية ولاء أكثر شمولًا للوطن، ولاء ذو «نمط ثقافي عالمي أكثر».26

وحديثًا، ساهم القطاع الخاص، وإن كان دون قصد، في تعزيز عملية التكامل الوطني. أنشأت مؤسسات مقرها في تاميل نادو مصانع أسمنت في هاريانا، وأقام أطباء وُلِدوا وتعلموا في آسام عيادات في مومباي. وكثير من المهندسين في صناعة تكنولوجيا المعلومات في حيدر أباد جاءوا من بيهار. والهجرة هنا ليست مقتصرة على الطبقات المهنية؛ فهناك حلاقون من أوتر براديش يعملون في مدينة بنجالور، وهكذا الحال بالنسبة لنجارين جاءوا من راجستان. لكن يجب التأكيد على أن هذا التدفق ليس متناسقًا؛ ففي حين أن المدن والبلدات المزدهرة تصبح حتى أكثر عالمية، تنغمس الولايات المتأخرة اقتصاديًّا أكثر في الإقليمية.

جمهورية الهند اتحادٌ مكون من ٢٩ ولاية. ٢٦ من بين هذه الولايات لا تجد غضاضة في كونها جزءًا من الاتحاد الهندي. لكن الاضطراب يسود أجزاء من الولايات الثلاثة الأخرى. ويُعد وادي كشمير من ضمن أبرز تلك المناطق المضطربة. كانت سيطرة الدولة الهندية على الوادي وشعبه محل نزاع من البداية، من قِبل باكستان، التي تزعم أن هذه المنطقة تتبعها، ومن قِبل العديد من سكان الوادي أنفسهم. المنطقة مرةً أخرى أصبحت محل احتجاجاتٍ واسعة النطاق أثناء كتابتي لتلك السطور.

تسعى باكستان إلى تحريض المتمردين المسلحين ودعمهم في كشمير. لكن الحكومات الهندية المتتالية تعاملت مع الموقف بسجن القادة الكشميريين المعروفين، والتلاعب في الانتخابات والضغط من أجل إلغاء المادة ٣٧٠ التي تعطي الولاية وضعًا خاصًّا، وفوق كل ذلك، كبح الاحتجاجات الجماعية بالقوة المفرطة. هناك وجودٌ هائل للجيش في كشمير، وتدعم هذه القوات مئات الآلاف من القوات شبه العسكرية الأقل تدريبًا. وهكذا، وكما كتب باحث متأمل، فإن «التسوية الدستورية الهندية، رغم جوانب عظمتها الأخرى، لم تنجح بعد في اختبار كشمير».27

في خمسينيات القرن الماضي، أراد قطاع من التاميليين الانفصال عن الهند. وفي ستينيات القرن نفسه، قام قطاع من الميزو بتمرد من أجل إقامة دولة ميزورام المستقلة. وفي ثمانينيات القرن نفسه، حارب قطاع من السيخ الدولة الهندية بالسلاح، من أجل إقامة دولة خالستان المستقلة. أصبحت تلك التمردات الآن جزءًا من كتب التاريخ، ولا تجد ولايات تاميل نادو وميزورام والبنجاب — والغالبية العظمى من سكانها — أي غضاضة في أن تكون جزءًا من جمهورية الهند.

حتى في كشمير، لا تسعى منطقتا جامو ولاداخ للانفصال. لكن قطاعًا لا بأس به من سكان الوادي يسعون لذلك. في غضون ذلك، في ناجالاند، حيث توجد الحركة الساعية من أجل إقامة دولةٍ مستقلة قبل تلك الموجودة في كشمير، لا يزال وقف إطلاق النار الذي دُعي له في ١٩٩٧ ساريًا، وإن كان على نحوٍ هشٍّ. لقد عُقد العديد من جولات الحوار بين حكومة الهند والفصيل الأكثر تأثيرًا في مجلس ناجالاند الاشتراكي الوطني. لكن لا تلوح أي بوادر تسوية في الأفق حتى الآن.

هناك مسألتان لا تزالان معلقتَين. تتعلق المسألة الأولى بالسيادة. لقد أراد هذا المجلس في السابق حلًّا خارج إطار الدستور الهندي. والآن، ربما يرغب في أن يكون جزءًا من الهند، ما دام يجري الاعتراف الرسمي بالتاريخ المميز لأهل ناجا. لكن لم يجرِ التوصل إلى طريقة يمكن أن تحقق ذلك على نحوٍ يرضي كبرياء الطرفين. أما المسألة الثانية، التي تعد حتى أكثر تعقيدًا، فتتعلق بالحدود. يصرُّ المجلس على أن تنشئ حكومة الهند ولايةً موحدة ومتكاملة تضم أجزاء أروناجال وآسام، والأهم مانيبور التي تسكن فيها قبائل ناجا. وهذا سيتضمن إعادة رسم للحدود، وهو الأمر الذي سترفضه تلك الولايات الأخرى (وبالأخص، مانيبور، التي من المفترض أن تفقد أكثر الأجزاء).

المخاطر المتضمنة في إعادة رسم الحدود الإقليمية كانت واضحة على نحوٍ جلي عندما، في عام ٢٠١٠، رغب قائد المجلس، تي مويفا، في زيارة قريته الأم، التي لم يرها منذ ٤٧ عامًا. كان مويفا من قبيلة تانجكول ناجا، وتقع قريته في المناطق المرتفعة من ولاية مانيبور. رأت حكومة مانيبور الزيارة باعتبارها تمهيدًا للمطالبة بضم تلك الأجزاء إلى ناجالاند الكبرى. تجمعت قوات الشرطة الخاصة بالولاية على الحدود مع ناجالاند، لمنع دخول مويفا. وفي المقابل، سد أهل ناجا في ناجالاند لمدة شهرين الطريق السريع الذي يربط وادي مانيبور بالعالم الخارجي. وهذا وتر أكثر العلاقات بين الولايتَين، مما جعل إمكانية التوصل لتسويةٍ دائمة لمسألة ناجا تتأجل لوقتٍ أبعد في المستقبل.28

الولاية الثالثة في الاتحاد، حيث يعد تصور الهند الموحدة غير مؤكد وهشًّا، هي مانيبور نفسها. الطائفة السائدة هناك هي الميتِّيون، الذين يعيشون في الوادي مع قبائل ناجا وكوكي والقبائل الأخرى التي تعيش في التلال. يخشى الميتِّيون أن يسكن غرباء واديهم الخصب، ويستاءون من حقيقة أنهم (لأنهم فعليًّا هندوس) لا يستفيدون بمزايا التمييز الإيجابي (كما تفعل الطوائف القبلية لمانيبور). كما أن لديهم ذكرياتٍ عزيزة عن المشيخة المستقلة التي كانوا عليها في الماضي.

يكره العديد من الناشطين الميتِّيين الدولة الهندية ولا يثقون بها. وبعضهم يحلم بإقامة دولةٍ مستقلة. في غضون ذلك، قبائل ناجا وكوكي لا يثقون في الميتِّيين لقبضتهم السياسية والإدارية الخانقة على ولاية مانيبور بحدودها الحالية. وبعض الناجا في مانيبور، وربما الكثير منهم، يرغبون في التعاون مع أهل ناجا في ناجالاند والسعي معًا لإقامة دولتهم المستقلة. ودخلت قبائل كوكي وناجا في بعض الأحيان في صراعاتٍ عنيفة أيضًا.29

لقد ولدت تلك الصراعات والعداوات الكثير من العنف وإراقة الدماء. وللسيطرة على الوضع في مانيبور، أرسلت الحكومة المركزية عدة كتائب من الجيش، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من القوات شبه العسكرية. في مدينة إمفال، هناك نقاط تفتيش أمنية كل بضع مئات من الياردات؛ وفي الطرق الريفية والجبلية، كل بضعة أميال. إن القوة المسلحة التابعة للدولة الهندية في استنفار في مانيبور؛ كما هو الحال في وادي كشمير؛ وكما كان سيكون الحال في ناجالاند أيضًا، لو لم يكن هناك وقفٌ سارٍ لإطلاق النار.

مع ذلك، إذا أضفنا إلى المناطق المضطربة في ناجالاند ومانيبور وكشمير المنطقة التي تحت سيطرة الثوريين الماويين في وسط الهند، فهذا سيمثل ما لا يزيد على ١٠٪ من المساحة الإجمالية لجمهورية الهند. ولذا، نحو ٩٠٪ من سكان جمهورية الهند، الذين يعيشون على ٩٠٪ تقريبًا من مساحة أراضيها، يشعرون على نحوٍ واضح بأنهم جزء من أمةٍ واحدة. وعبر تلك المساحة الشاسعة والمتنوعة، تتمتع الحكومة المنتخبة بشرعية وسلطة وصلاحيات. وعبر تلك المساحة، سكان الهند أحرار في العيش والدراسة والعمل والاستثمار في شركات.

هناك ربما تجربتان سياسيتان حديثتان أخريان فقط قريبتان من ناحيتَي النطاق والحجم لجمهورية الهند، سعتا لخلق وحدةٍ وطنية في ظل تنوعٍ عجيب من اللغات والأديان والعرقيات وطرق الحياة. تتمثل الأولى في اتحاد جمهوريات الاتحاد السوفييتي الذي اختفى من الوجود، والثانية في الولايات المتحدة الأمريكية التي ما زالت قائمة حتى الآن. شهد اتحاد جمهوريات الاتحاد السوفييتي أحداث عنفٍ شديد بعد ظهوره، واستمر هذا عبر المجاعات ومعسكرات العمل القسري التي ظهرت في ثلاثينيات القرن الماضي وما بعدها. وقد أُسست الولايات المتحدة على خلفية الإبادة الجماعية للهنود الحمر وعزَّز وجودها استعباد ملايين الأفارقة. وبعد تسعين عامًا على إنشائها، تعرضت لحربٍ أهليةٍ طاحنة راح ضحيتها نحو ٧٥٠ ألف شخص.

وقد شهدت دولٌ أوروبية مثل فرنسا وإنجلترا وإسبانيا أيضًا حروبًا أهليةً دموية في مراحلَ متعددة من تاريخها. وهكذا الحال أيضًا، كما أشرت من قبلُ، بالنسبة لدولتي باكستان وسريلانكا في جنوب آسيا نفسه. لكن الهند لم تشهد مثل هذه الحروب؛ على الأقل حتى الآن. ورغم ظهورها من رحم أعمال العنف الواسعة النطاق التي تلت التقسيم، فقد استطاعت منذ ذلك الوقت تجنب نوعية الصراع الشديد والمتوطن في الغالب التي ظهرت في العديد من التجارب القومية الأخرى في آسيا وأفريقيا، ناهيك عن تلك الخاصة بأوروبا والأمريكتَين.

٦

عدَّل تاريخ الهند المستقلة نظريات القومية القائمة على تجربة الغرب ونقَّحها. لكنه حتى تحدى على نحوٍ مباشر أكثر نظريات الديمقراطية النابعة من التجربة الغربية.

فمنذ أن وُصفت انتخابات ١٩٥٢ بأنها «أكبر مقامرة في التاريخ»، كُتبت مرثيات للديمقراطية الهندية. لقد قيل، مرارًا وتكرارًا، إن الدولة الفقيرة والمنقسمة والمتنوعة لا يمكنها الاستمرار في عقد انتخاباتٍ حرة ونزيهة (إلى حد معقول).

غير أن الهند استطاعت أن تفعل هذا. وفي تلك الانتخابات العامة الأولى، كان معدل الناخبين أقل من ٤٦٪. وبمرور السنوات، أخذت تلك النسبة تزيد بانتظام؛ فبداية من أواخر ستينيات القرن الماضي، أصبح نحو ثلاثة من كل خمسة هنود لهم حق الانتخاب يذهبون لصناديق الاقتراع في يوم الانتخاب. وبلغ معدل الناخبين في آخر انتخابات عامة، في ٢٠١٤، ٦٦٫٣٪، وهو رقمٌ قياسي بالنسبة للهند، وهو أعلى بكثير مما هو الحال عليه في معظم الديمقراطيات الغربية، بما فيها الولايات المتحدة.

وفي انتخابات المجالس التشريعية بالولايات، مالت هذه النسبة حتى للزيادة على نحوٍ أكبر. وبتفصيل هذه الأرقام، فإنها ستكشف لنا المزيد. ففي الانتخابات العامة الأولى والثانية، صوَّت أقل من ٤٠٪ من النساء اللائي لهن حق التصويت، وفي عام ١٩٩٨، زادت النسبة عن ٦٠٪. بالإضافة إلى ذلك، وكما أوضحت الاستبيانات، مارست النساء على نحوٍ متزايد حقهن الانتخابي، «على نحوٍ مستقل»؛ أي دون النظر لرأي زوجها أو أبيها. ومن الفئات التي صوَّتت أيضًا بأعدادٍ كبيرة الداليت وأبناء القبائل، وهما القطاعان المقهوران والمهمشان في المجتمع. وفي شمال الهند، على وجه التحديد، ذهب الداليت لصناديق الاقتراع بأعداد تفوق كثيرًا المنتمين للطوائف الاجتماعية العليا. وكما أشار المحلل السياسي يوجندرا ياداف: «ربما تعد الهند الديمقراطية الكبيرة الوحيدة في العالم اليوم التي معدل ناخبيها المنتمين للطوائف الدنيا يفوق كثيرًا ذلك الخاص بالطوائف العليا».30
توضح دراساتٌ حديثة لسلوك الناخبين أنه بينما تذهب الطوائف الوسطى والعليا لصناديق الانتخاب لأنها تعتبر ذلك واجبًا وطنيًّا، فإن الفقراء يفعلون هذا ليؤكدوا هويتهم باعتبارهم، على الأقل في ذلك اليوم، مواطنين متساوين في الحقوق في الوطن. قال عامل جرَّ عربة في أوتر براديش لأحد الباحثين إن «الإدلاء بصوتي أمرٌ مهم. إن لم أفعل ذلك، فأنا ميت في نظر الحكومة». وفلاح من نفس الولاية صاغ الأمر على نحوٍ أكثر تأكيدًا، فقال: «وجودي متوقف على تصويتي في يوم الانتخاب. وإلا، فما فائدتي في هذا المجتمع؟» ولاحظ أحد المبحوثين في مهاراشترا أن «النظام قد لا يعمل من أجلنا، لكني أستطيع الإدلاء بصوتي. إن الأمر لا يزال «لوكشاهي»؛ أي حكم الشعب، وليس «راجشاهي»، حكم الحاكم». ومواطن في تاميل نادو أشار إلى أن «الحكومة إن لم تعمل [من أجلنا]، فسنصوت لطرفٍ آخر».31
وجدت دراسةٌ إثنوغرافية لريف البنغال أن «القرية في يوم الانتخاب استيقظت أبكر من المعتاد وكانت تعجُّ بالحركة والعجلة ويسودها جو من الإثارة المكتومة، كما هو الحال في الأعياد المهمة». فضل الرجال الإدلاء بأصواتهم بمجرد أن تفتح لجان الانتخاب أبوابها في الصباح، في حين ذهبت النساء في وقت العصر، بعد الغداء. واختار الرجال والنساء الذهاب في جماعات، معتبرين هذا مناسبةً اجتماعيةً مبهجة. اللافت للنظر أن «آليات المساواة الخاصة بعملية الانتخاب كانت توفر متعةً خاصة»، ويرجع ذلك إلى حقيقة أن التسلسلات التقليدية للطائفة والطبقة والجنس، في ذلك اليوم وتلك المناسبة وذلك الطقس، تلاشت تمامًا.32
يتضح على نحوٍ جلي حب الهنود للتصويت في الانتخابات من خلال مجموعة من القرى على الحدود بين ولايتي أندرا براديش ومهاراشترا. لقد انتهز سكانها فرصة إصدار حكومتَي الولايتَين بطاقات تصويت لهم وانتخبوا مرتين.33 وهو يتضح أيضًا من خلال فلاحي بيهار الذين يذهبون للانتخاب رغم تهديدات الثوريين الماويين. إن هؤلاء الماويين، الذين يعتبرون الانتخابات إحدى ممارسات النفاق البرجوازي، معروف عنهم أنهم يُسوِّدون وجوه القرويين المروجين للأحزاب السياسية، ويهددون المصوِّتين المحتمَلين بأنهم سيقطعون أرجلهم وأيديهم إذا ذهبوا لصناديق الاقتراع. رغم ذلك، وكما قال عالم أنثروبولوجيا يعمل في وسط بيهار: «يبدو أن التأثير الإجمالي لدعوات مقاطعة الانتخابات على عدد الناخبين يكاد لا يُذكَر.» ففي القرى التي كان للماويين فيها نشاطٌ كبير لسنوات، «في واقع الأمر، كان يُنظَر ليوم الانتخاب باعتباره مناسبةً مبهجة (وتقريبًا احتفالية). وكانت النساء يذهبن لمراكز الاقتراع في مجموعاتٍ صغيرة، وهن يرتدين أردية باللونين الأصفر والأحمر الفاتحَين ويَدْهنَّ شعرهن بالزيت ويُزينَّه بالدبابيس».34 بالمثل، في أجزاء من الشمال الشرقي حيث تقل سلطة الدولة الهندية أو تكاد تكون منعدمة، لا يستطيع المتمردون منع القرويين من التصويت. وكما قال رئيس اللجنة الانتخابية بامتعاض: «الإسهام الصغير للجنة الانتخابية في وحدة البلد هو جعل تلك المناطق جزءًا من البلد ليومٍ واحد فقط؛ يوم الانتخاب.»35
تؤكد هذه التطورات على إيمان صائغي الدستور الهندي بحق الاقتراع العام للبالغين. وبعد ممارسة هذا الحق للمرة الأولى، في ١٩٥٢، كتب ديفداس غاندي، ابن المهاتما ومحرر صحيفة «هندوستان تايمز»، إلى صديقٍ أمريكي يقول إن «الانتخابات العامة تُعد حدثًا عظيمًا للغاية؛ أعظم مما كنت أتوقع. لقد كانت انطلاقة الانتخابات رائعة. لقد عنت يقظةٌ ووعي ما كان بالإمكان الوصول إليهما بأي وسائلَ أخرى».36 وقد استمر الأمر على نفس النحو حتى الآن.
تتضح مكانة الانتخابات في الهند من خلال عمق مداها واتساعه — حيث يشترك فيها كافة طوائف المجتمع الهندي بكل شرائحها — ومشاعر الشغف التي تثيرها وجانب الدعابة المحيط بها. هناك سجلٌّ غنيٌّ جدًّا من الرسوم الكاريكاتورية المتعلقة بالانتخابات التي تسخر من الوعود التي يقدمها السياسيون المحتملون واستماتتهم للحصول على ترشيح الأحزاب وغير ذلك الكثير.37 في أحيانٍ أخرى، يمكن أن تكون الدعابة رقيقة أكثر منها ساخرة. تأمل التاريخ المهني لتاجر الأقمشة البوبالي، موهان لال، الذي نافس خمسة رؤساء وزراء مختلفين. تخيله وهو يسير في شوارع دائرته الانتخابية وهو يدق جرسًا، مرتديًا تاجًا خشبيًّا وإكليلًا من الزهور صنعهما بنفسه. وقد أخذ موهان يخسر باستمرار مبلغ التأمين الذي يُدفَع لدخول الانتخابات؛ وبالتالي استحق لقبًا تسبب عن عمد في حمله وهو «دهارتي باكاد»؛ أي البائس الراقد على الأرض. قال إن الفكرة من وراء ترشحه كانت «جعل الجميع يدركون أن الديمقراطية للجميع».38
تتضح فكرة أن الانتخابات تسمح لكل الهنود بالشعور بأنهم جزء من الهند أيضًا من خلال تجربة جُوا. فعندما انضمت تحت لواء الهند — أو أُعيدَ ضمها — بالقوة عام ١٩٦١، كانت هناك العديد من التعليقات الساخطة في الصحافة الغربية. ولكن في حين أن سكان جُوا عبر ٤٠٠ عام من الحكم البرتغالي لم يُسمَح لهم أبدًا باختيار قادتهم، أصبح باستطاعتهم ذلك في خلال عامَين من الانضمام تحت لواء الدولة الهندية. قارن أستاذ العلوم السياسية بنديكت أندرسون على نحوٍ معبر بين تعامل الهند مع جُوا، وتعامل إندونيسيا مع تيمور الشرقية، وهي مستعمرةٌ برتغالية أخرى «حررها» قوميون مسلحون قائلًا:
أرسل نهرو قواته لتحرير جُوا عام ١٩٦٠ دون أن تُراق نقطة دم واحدة. لكنه كان رجلًا حكيمًا ورئيسًا ديمقراطيًّا اختِيرَ بحريةٍ كاملة؛ فقد أعطى سكان جُوا حق اختيار حكومة ولايتهم وشجع انخراطهم الكامل في السياسة الهندية. ومن جميع النواحي، كان الجنرال سوهارتو النقيض التام لنهرو.39

٧

بالنظر لحجم الهيئة الناخبة، يزيد بشدة احتمال أن عدد المصوِّتين في الانتخابات الهندية يتجاوز عدد المصوِّتين في أي ديمقراطيةٍ أخرى. ونجاح الهند في هذا الشأن مدهش على نحوٍ خاص عند مقارنته بالسجل الديمقراطي لجارتها الآسيوية الكبيرة؛ الصين. صحيح أن عدد السكان في الصين أكبر، وهم أقل انقسامًا بكثير طبقًا لتقسيماتٍ عرقية أو دينية، وأقل فقرًا بكثير. لكن لم تُعقَد هناك أبدًا انتخاباتٌ عامة ولو لمرةٍ واحدة. في جوانبَ أخرى أيضًا، الصين أقل حرية بكثير من الهند. فتدفق المعلومات مقيد بشدة؛ فعندما بدأ محرك البحث جوجل عمله في الصين في فبراير من عام ٢٠٠٦، كان عليه الموافقة على الخضوع لرقابة الدولة. كما أن تنقل الناس هناك مقيد أيضًا؛ فغالبًا ما يحتاج المرء للحصول على تصريح من الدولة كي يغيِّر محل إقامته.

طالما كانت المقارنات بين الهند والصين مادةً خامًا لتحليلات الباحثين. والآن وفي عالم يزيد الترابط بين أجزائه كل يوم، أصبحت تلك المقارنات شائعة أيضًا في حديث الناس. في تلك المقارنات، قد تكسب الصين في الجانب الاقتصادي ولكنها ستخسر في الجانب السياسي. يحب الهنود الضرب على وتر غياب الديمقراطية لدى جارتهم، أحيانًا على نحوٍ مباشر وفي أحيانٍ أخرى عبر أسلوب التلطيف أو التلميح. فعندما طُلبَ من أعضاء الوفد الهندي في المنتدى الاقتصادي العالمي عام ٢٠٠٦ تسويق الهند على نحوٍ جيد، وصفوها على الدوام، سواء في حديثهم أو كتيباتهم أو ملصقاتهم، بأنها «أسرع ديمقراطيات العالم نموًّا».

هل ذلك الثناء الذاتي مستحق؟ المجال الوحيد الذي تعدُّ فيه الهند ديمقراطية على نحوٍ أكيد هو العقد المنتظم لانتخاباتٍ حرة ونزيهة. كما أن لدى الهنود أيضًا حريةً كبيرة في التنقل؛ فيمكنهم السفر لأي جزء يريدونه في الاتحاد الهندي، والعمل فيه، على الرغم من أنه في بعض المناطق، فقط السكان المحليون هم الذين يمكنهم شراء العقارات أو امتلاكها.

لكن في جوانبَ مهمةٍ أخرى، يعتري المقومات الديمقراطية للهند بعض الخلل، وفي بعض الأحيان، يكون هذا الخلل عميقًا. ويتعلق أحد المجالات السيئة، الذي ربما يزداد سوءًا، بالفساد السياسي. قال عالِم الاجتماع الألماني العظيم ماكس فيبر ذات مرة معلِّقًا: «ثمة طريقتان لامتهان السياسة: إما أن يعيش المرء «من أجلها» أو أن يتعيَّش «منها»».40 كان الجيل الأول من الزعماء الهنود يعيشون من أجل السياسة بالأساس. فقد كانوا ينجذبون إلى النفوذ الذي يمتلكونه، ولكنهم أيضًا كانوا يتحركون كثيرًا بدافع خدمة الآخرين والتضحية من أجلهم. أما الساسة الهنود في الجيل الحالي، فمن الأرجح أنهم يدخلون مجال السياسة للتعيُّش منه. هم ينجذبون إلى السلطة والهيبة، ولكنهم ينجذبون أيضًا إلى فرص الكسب المادي. هم يعلمون أن السيطرة على أجهزة الدولة يمكن أن تأتيَ بمكاسبَ مغريةٍ للمسئولين عنها.

كان الفساد السياسي موجودًا في خمسينيات القرن الماضي، كما يتبيَّن في حالتي فضيحة موندرا وحكومة كايرون في البنجاب. ولكنه كان محدودًا. فمعظم أعضاء مجلس وزراء جواهر لال نهرو — وحتى لال بهادور شاستري — لم يُسيئوا استغلال مناصبهم لتحقيق مكاسبَ مادية. إلا أنَّ بعض قيادات حزب المؤتمر جمعت أموالًا للحزب من قطاع الأعمال. ففي سبعينيات القرن نفسه، بدأ الساسة يطالبون بعمولات عند إبرام صفقات سلاح مع مُورِّدين أجانب. وكانت تلك الأموال — أو معظمها — تذهب إلى خزائن الحزب لاستخدامها في الانتخابات التالية. إلا أنَّه بحلول ثمانينيات نفس القرن، كان الفساد السياسي قد تحوَّل من المستوى المؤسسي إلى المستوى الشخصي؛ ومن ثَم تزايد عدد الوزراء المتربِّحين في الحكومة المركزية وفي الولايات من العقود الحكومية وتعيينات المسئولين وسبلٍ أخرى متعددة.

والأدلة على الفساد السياسي مكمنها، بطبيعة الحال، الحكايات لا الوثائق. فالأشخاص الذين يتقاضَون العمولات أو يدفعونها نادرًا ما يخلِّفون وراءهم أدلةً مادية على فعلتهم. إلا أنَّ مكتب التحقيقات المركزي وجَّه في تسعينيات القرن الماضي اتهامات إلى عدد من الساسة البارزين لحيازتهم أصولًا «لا تتناسب» مع منصبهم. وكان من بين الزعماء المتهمين رئيسَا وزراء ولايتَي بيهار وتاميل نادو: لالو براساد ياداف وجيه جايا لاليتا. اتُّهم كلٌّ منهما بجمع مئات الملايين من الروبيات من تخصيص العقود الحكومية. وفي حالةٍ أخرى، داهم مكتب التحقيقات المركزي منزل سُكرام، وزير الاتصالات الاتحادي، ووجد ٣٦ مليون روبية نقدًا. وزُعِم أنَّ تلك النقود مثَّلت عمولة إصدار التراخيص لشركات الاتصالات الخاصة.

في معظم هذه الحالات، لم تُفضِ الاتهامات إلى إدانة؛ أحيانًا لعدم كفاية الأدلة، وأحيانًا أخرى لتردُّد السلطة القضائية. كما أن اللصوص كان لديهم التزام بعضهم تجاه بعض. ففي الفترات السابقة على الانتخابات، كانت تثير المعارضة جلبةً وصخبًا بشأن الفساد المستشري في الإدارة الحاكمة، ولكنها إذا انتُخِبت لا ترفع دعاوى ضد النظام السابق، ثقةً منها بأنَّها ستُعامَل بالمثل عندما تفقد السلطة.41 والحقيقة أن الساسة من الأحزاب والولايات المختلفة كانوا كثيرًا ما يتبادلون المجاملات. ففي إحدى الحالات الموثَّقة، أقرَّ أحد رؤساء وزراء ولاية هاريانا ببيع قطعة أرضٍ مملوكة للدولة لابن رئيس وزراء ولاية البنجاب، وعلى الرغم من أنَّ القيمة السوقية للأرض كانت ٥٠٠ مليون روبية، كان السعر الفعلي المدفوع ٢٥ مليون روبية.42
تمثل أحد المصادر الرئيسية للفساد في سيطرة الدولة على الأراضي والغابات والمعادن والأنهار والسواحل وموجات الراديو. ولم تمسَّ إصلاحات تسعينيات القرن الماضي تلك القطاعات. ومع نمو الاقتصاد وعولمته، اكتسبت الموارد الطبيعية، مثل الحديد والبترول والغاز الطبيعي (سواء الأرضي أو البحري) وغيرها، قيمةً متزايدة أكثر من ذي قبل. وبدلًا من تخصيصها عبر مزايداتٍ شفافة، اختارت الحكومة المركزية وحكومات الولايات تخصيصها للمقربين منها، وحصلت في المقابل على رشاوى كبيرة، وبالطبع واسعة النطاق. بالمثل، نادرًا ما كانت تُسحب أو تُعطى الإجازات البيئية، التي يوجبها القانون، على أساس الأدلة العلمية، وإنما كان يجري ذلك اعتمادًا على مدى قرب رواد الأعمال المعنيين من السياسيين. كان هذا هو الوضع أيضًا مع القروض الكبيرة التي تمنحها البنوك التابعة للقطاع العام لمستثمري القطاع الخاص؛ إذ كانت تتقرر عادة، أو حتى في الغالب، بناءً على اعتبارات ليست من ضمنها الجدارة الائتمانية.43
على حد تعبير عالِم السياسة بيتر دي سوزا، الفساد كان هو «الحقيقة المزعجة» في ديمقراطية الهند. فالحكومات الممسكة بزمام السلطة في نيودلهي كانت تتقاضى رشاوى على المشتريات من الخارج، خاصة في صفقات الدفاع. وكانت تبلغ نسبة الرشوة التي تتقاضاها عن العقود الأجنبية نحو ٢٠٪. وفي معظم الولايات كان غالبية الوزراء مرتشين، يجنون المال من التراخيص الممنوحة للشركات ومن تعيين المسئولين الكبار ومن صفقات الأراضي، وأمورٍ كثيرةٍ أخرى. وحسب تقدير الاقتصاديين، فإن ما بين ٧٠٪ و٩٠٪ من الأموال المخصصة للتنمية الريفية كانت تبتلعه شبكةٌ ممتدة بدءًا من رئيس مجلس القرية وصولًا إلى النائب المحلي في البرلمان، مع حصول الموظفين على حصتهم أيضًا. فأحد الأسباب التي عُزي إليها سوء حالة الطرق في المدن هو أن جزءًا كبيرًا من الأموال المخصصة لها كان يُنفَق في مصارفَ أخرى. فمن كل ١٠٠ روبية تخصصها هيئة مدينة بنجالور — على سبيل المثال — لبناء الطرق، كانت تدخل ٤٠ روبية جيوب الساسة والموظفين، و٢٠ روبيةً أخرى تُمَثِّل هامش الربح لمتعهد البناء. وبذلك كانت تُنفَق ٤٠ روبيةً فحسب على العمل، الذي إما يؤدَّى دون إتقان أو لا يؤدَّى على الإطلاق.44

نظرًا للأرباح المترتبة على الوصول إلى السلطة، اتَّسع الآن نطاق الاتجار في الساسة. فبغية تجميع أعداد والوصول إلى أغلبية، كان المشرِّعون يُباعون ويُشتَرون بثمن (باهظ عادةً). وفي عهد حكومات الأقلية والحكومات الائتلافية كانت تتسم عملية الاتجار بسرعةٍ زائدة. فالمشرِّعون كان يبدِّلون مواقفهم ويغيِّرون أحزابهم بصفةٍ روتينية. أصبحت هذه الظاهرة شائعة إلى حد أنَّه لم يعد من المستغرَب في أوقات عدم الاستقرار السياسي أن يُؤخَذ أعضاء مجلس الولاية المنتمون إلى حزبٍ بعينه جماعةً لقضاء «إجازة» في أماكن مثل جُوا، لئلا ينقلبوا إلى الطرف الآخر. حينئذٍ كان يؤخذ هؤلاء الرجال — الذين يصل عددهم إلى الخمسين في بعض الأحيان — إلى فندق، حيث يشربون الخمر ويلعبون القِمار، بينما يقف حرسٌ مسلَّحون لمنع وصول أي مكالماتٍ هاتفيةٍ متحمِّسة أو زوارٍ مجهولي الهُويَّة. وكانت تستمر الإجازة إلى حين انتهاء الأزمة، وهو ما قد يستغرق عدة أسابيع.

٨

هناك جانبٌ سيئٌ آخر، ويزداد كذلك سوءًا، يتمثل في الاتجاه المتزايد إلى الإجرام من جانب الطبقة السياسية. ففي عام ١٩٨٥ نشرت مجلة «صنداي» الأسبوعية موضوعًا على الغلاف بعنوان «العالم السُّفلي للسياسة الهندية» يصف كيف كان مرشحون أصحاب سوابق جنائية يتنافسون في الانتخابات — خاصة في ولايتي أوتر براديش وبيهار — ويفوزون أحيانًا، وأحيانًا يُختارون وزراء أيضًا. وتضمنت الجرائم التي اتُّهم بها أولئك الرجال: «القتل والاختطاف والاغتصاب والتحرُّش وأعمال العصابات».45 وعلى مدار العقد التالي، دخل السياسةَ عددٌ أكبر من المجرمين؛ فكانوا من الكثرة بحيث رفع مجموعة من المواطنين دعوى من أجل المصلحة العامة في المحكمة العليا طالبوا فيها الأحزاب بنشر تفاصيل عن مرشحيهم. وفي مايو ٢٠٠٢، أصدرت المحكمة العليا حكمًا يلزم المترشحين للانتخابات على مستوى الولايات أو على المستوى الوطني بالإعلان عن الأصول التي يمتلكونها وسجلِّهم الإجرامي (إن وُجِد).
وبناءً عليه أنشأت المجموعة التي رفعت دعوى المصلحة العامة الأصلية «لجان رقابة انتخابية» في الولايات، مؤلَّفة من محامين ومعلمين وطلابٍ محليين. وجُمِعَت الإقرارات التي قدَّمها المرشحون في خمسة انتخابات على مستوى الولايات أُجريَت خلال عامي ٢٠٠٢ و٢٠٠٣ ثم خضعت للتحليل. فظهر أنَّه في الأحزاب السياسية الكبرى — مثل حزب بهاراتيا جاناتا وحزب المؤتمر وحزب سَماجوادي في أوتَّر براديش وحزب راشتريا جاناتا دال في بيهار — كانت نسبة المرشحين ذوي السوابق الجنائية تتراوح بين ١٥٪ و٢٠٪. وأثبتت دراسة مفصَّلة لانتخابات المجلس التشريعي في ولاية راجستان عام ٢٠٠٣ أنَّ نحو نصف المرشَّحين كانوا بالغي الثراء بالمقاييس الهندية؛ إذ تخطَّت الثروة المُعلَنة لكلٍّ منهم ٣ ملايين روبية. ونحو ١٢٤ مرشحًا كانوا من أصحاب السوابق الجنائية. و٤٠٪ منهم اتُّهموا بجرائم تُعَد «خطيرة»؛ تضمنت السطو المسلح والشروع في القتل وتدنيس دار عبادة والحرق المتعمد.46
وكان تحليل الإقرارات المقدمة من ٥٤١ نائبًا انتُخب في البرلمان عام ٢٠٠٤ كاشفًا بالقدر نفسه. كان مرشحو حزب المؤتمر هم الأكثر ثراءً؛ إذ بلغت قيمة أصول كل عضو في المتوسط ٣١ مليون روبية. ومعظم النواب تخطَّت قيمة أصولهم ١٠ ملايين روبية، مع احتلال الشيوعيين أدنى شريحة في هذا المقياس. أما في مسألة التُّهَم الجنائية، فكانت الريادة لأحزاب تركَّز نفوذها في ولايتَي أوتَّر براديش وبيهار: كانت أسماء كثير من نواب البرلمان مُدرَجة في «صحيفة اتهامات»: ٣٤٫٨٪ من حزب راشتريا جاناتا دال، و٢٧٫٨٪ من حزب باهوجان ساماج، وقرابة ٢٠٪ من حزب سَماجوادي. وكان سجل نواب حزبَي المؤتمر وبهاراتيا جاناتا «أنظف» قليلًا؛ إذ كانت نسبة النواب المتهمين بجرائم لدى الأول ١٧٪ ولدى الأخير ٢٠٪ فحسب. إلا أنَّ الوضع كان معكوسًا فيما يتعلق بالأموال المدينين بها للمؤسسات المالية الحكومية. فمن إجمالي تلك الديون، كان نواب حزب المؤتمر البرلمانيون يُعزَى إليهم ٤٥٪، ونواب حزب بهاراتيا جاناتا يُعزَى إليهم ٢٣٪. مرةً أخرى، كانت إقرارات النواب الشيوعيين هي الأفضل؛ إذ لم تتضمن أي ديون مطلقًا.47

في ٢٠١٤، نشر أحد مؤسسي المجموعة التي رفعت دعوى المصلحة العامة الأصلية تحليلًا إحصائيًّا للإقرارات التي قدمها المرشحون في كل الانتخابات الوطنية والخاصة بالولايات عبر العقد المنصرم. وكشف هذا التحليل عن أن نحو ١٨٪ كانت لديهم اتهاماتٌ جنائيةٌ معلقة ضدهم. وما أثار القلق أكثر هو أن ٢٨٪ من هؤلاء الذين كانت لديهم سوابقُ جنائية فازوا بالمقاعد التي تقدموا إليها. وفي كل الأحزاب ما عدا حزبٍ واحد، هؤلاء الذين لديهم سوابقُ جنائيةٌ خطيرة كان من المرجح أكثر أن يفوزوا مقارنة بمن هم ليسوا كذلك. أشار هذا، رغم سرية ومصداقية عملية التصويت نفسها، إلى أن المرشحين الذين لديهم مال وقوةٌ بدنية كان يمكنهم إثارة إعجاب المواطنين أو ترهيبهم وجعلهم يصوِّتون لصالحهم.

حلَّلت هذه الدراسة أكثر النمو الذي حدث في الأصول (كما أُفصح عنها في الإقرارات) المملوكة للأشخاص الذين فازوا بمقاعد في مجالس الولايات أو في البرلمان. وكشفت النتائج، كما في حالة السوابق الجنائية، عن أن سجل الشيوعيين كان هو الأنظف، ويأتي بعدهم حزبا المؤتمر وبهاراتيا جاناتا، ثم تأتي في ذيل القائمة الأحزاب الإقليمية. إذ بلغ النمو في أصول مرشحي الحزب الشيوعي الهندي الماركسي ٦٤٪ و٢٠١٪ بالنسبة لحزب المؤتمر و١٤٢٪ بالنسبة لحزب بهاراتيا جاناتا و٤٩٩٪ بالنسبة لحزب باهوجان ساماج و١٠٦٩٪ بالنسبة لحزب تيلوجو ديسام.48
أثناء إجراء عالِم أنثروبولوجيا نرويجي بحثًا في قريةٍ بنغالية، وجد أن اللفظ الأكثر استخدامًا في وصف السياسة كان هو أنَّها «قذرة». ووُصف الساسة بأنهم الأشخاص الذين يشجعون «السِّباب» ويثيرون «الاشتباكات اليدوية» ويُنمُّون «الاضطرابات». الخلاصة أنَّ السياسة لا هدف لها سوى بثِّ «السم» في المجتمع. وقال القرويون إنَّ هذا لم يكن هو الحال دائمًا. ففيما مضى — بُعيد الاستقلال — كان الساسة شرفاء ومجتهدين ومتفانين، ولكن الآن كل حزب أصبح العاملون فيه «أشخاصًا ماكرين متآمرين عديمي المبادئ».49
هذه العبارات كانت تصف إلى حدٍّ بعيد حال البلد بأسره. فقد تبين في استطلاع أجرته منظمة «جالوب» لاستطلاعات الرأي في ستين بلدًا أنَّ أعلى معدلات عدم الثقة في الساسة كانت في الهند، حيث شعر ٩١٪ ممن خضعوا للاستطلاع بأنَّ نوابهم المنتخبين مخادعون.50
ربما يمكننا أن نجد ما يعزينا إلى حدٍّ ما في عبارات كتبها باحثون عن مجتمعاتٍ أخرى في عصور أخرى. فقد كتب خورخي لويس بورخيس عن بلده الأرجنتين في الأربعينيات من القرن العشرين قائلًا إن «الدولة ليست فردًا، والأرجنتيني لا يفهم سوى العلاقات الشخصية؛ ومن ثم فسرقة المال العام ليست جريمة من وجهة نظره. أنا أذكر حقيقة واقعة، ولا أُبررها أو أسوق لها الأعذار». وقال آر دبليو ساذرن عن قارته — أوروبا — في القرون الماضية إنَّ «المحسوبية والرشاوى السياسية والاستيلاء على ثروات الدولة لمنحها لعائلة المرء، لم تكن جرائم لدى حكام العصور الوسطى، وإنما كانت جزءًا من فن الحُكم، لا تقل ضرورتها لدى الباباوات عن غيرهم من الرجال.»51

٩

إلى جانب الفساد والاتجاه إلى الإجرام، ازداد وقوع السياسة الهندية ضحية المحسوبية. ففيما مضى كان لمعظم الأحزاب أيديولوجيةٌ متماسكة وقاعدةٌ منظمة. أما الآن فقد تحولت إلى مؤسساتٍ عائلية لا أكثر.

بدأت تلك العملية بقيادة الحزب القديم العتيد — حزب المؤتمر الوطني الهندي — وفي داخله. ففي معظم تاريخ حزب المؤتمر، كانت إدارته من الديمقراطيين ومن أجلهم، وعُقدَت انتخاباتٌ هيئاته في المناطق والولايات بصفةٍ منتظمة. ثم وضعت إنديرا غاندي حدًّا للانتخابات داخل تنظيم الحزب بعد إحداثها الانقسام في حزب المؤتمر عام ١٩٦٩. ومنذ ذلك الحين أصبح رؤساء وزراء الولايات ورؤساء الوحدات في الولايات المنتمون إلى حزب المؤتمر يُرشِّحهم رئيس الحزب في نيودلهي. ثم سددت السيدة غاندي، في فترة الطوارئ، ضربةً ثانيةً أكثر خطورة لتقاليد حزب المؤتمر، بتنصيبها ابنها سانجاي خليفةً لها.

بعد وفاة سانجاي، أُعدَّ شقيقه الأكبر راجيف لتولي رئاسة الحزب، والحكومة مع الوقت. وعندما طلبت قيادات حزب المؤتمر من سونيا غاندي تولي رئاسة الحزب، عام ١٩٩٨، كان هذا إقرارًا بأنَّ الحزب قد استسلم تمامًا لمزاعم التوريث. وطلبت سونيا بدورها من ابنها راهول دخول مجال السياسة عام ٢٠٠٤، مخصِّصةً له دائرة عائلة غاندي المأمونة: رايبارلي. وعلى الرغم من أن أمه لا تزال (حتى وقت كتابة هذه السطور) على رأس الحزب، فقد كان راهول غاندي هو من قاد الحزب في الانتخابات العامة لعام ٢٠١٤، ومن المرجح أن يحل محل أمه في رئاسة الحزب.

إلى جانب الآثار المدمرة التي ألحقها مبدأ التوريث الذي ابتدعته إنديرا غاندي بروح الحزب السياسي الهندي الأبرز، فقد مثَّل للآخرين نموذجًا يُحتذَى به. فقد تحوَّل الكثير من الأحزاب السياسية في الهند إلى مؤسساتٍ عائلية. كان حزب درافيدا مونيترا كازاجام ذات يوم الحزب الأبَيَّ المعبِّر عن القومية الدرافيدية والإصلاح الاجتماعي، والآن استسلم أعضاؤه لحقيقة أنَّ ابن إم كارونانيدي سيخلفه. وبال تاكري، زعيم حزب شيف سنا، رغم زعمه الدائم الالتزام بكرامة مهاراشترا والقومية الهندوسية، فإنه لم يستطع النظر إلى أبعد من ابنه أودهاف عند انتقاء الزعيم التالي للحزب. ويدَّعي حزبا سَماجوادي وراشتريا جاناتا دال الدفاع عن «العدالة الاجتماعية»، ولكن مولايام سينج ياداف أوضح أنْ لا أحد سوى ابنه أكيليش سيخلفه، وعندما اضطرَّ لالو براساد ياداف إلى الاستقالة من منصب رئيس وزراء ولاية بيهار (عقب فضيحة فساد)، اختيرت زوجته رابري ديفي للحلول محله، على الرغم من أنَّ خبرتها السابقة لم تتعدَّ نطاق منزلها ومطبخها. (وفي الآونة الأخيرة، عيَّن لالو اثنين من أبنائه في منصبَين وزاريَّين كبيرَين في بيهار.) علاوة على ذلك، بمجرد أن يصاب أي حزب بداء التوريث، فلن — أو لا يستطيع أن — يعود إلى المبادئ الأيديولوجية أو تلك القائمة على الجدارة التي قام — أو أُدير في السابق — على أساسها.

لم تكن هيمنة أسرةٍ واحدة سائدةً فقط على مستوى القيادة العليا في الأحزاب السياسية الهندية. فقد اتَّسع نطاق تطبيق تلك الممارسة في أركان النظام، حتى إنَّه إذا تُوفي نائبٌ برلماني أثناء فترة خدمته، يكون المرجَّح أن يُرشَّح ابنه أو ابنته للحلول محله. لقد صك المؤرخ باتريك فرنيش مصطلح «أعضاء برلمانيون بالوراثة» لوصف ظاهرة قلَّما توجد في الغرب ولكنها ذات أهميةٍ كبيرة في الهند. وفي تحليل لمجلس الشعب المنتخب في ٢٠٠٩، وجد أن نحو ٢٩٪ من أعضاء البرلمان كانوا أعضاء برلمانيين بالوراثة، إذ دخلوا مجال السياسة من خلال صلاتهم العائلية، مع كون عضوٍ واحد أو أكثر من عائلتهم في وقتٍ سابق عضو مجلس ولاية أو عضوًا برلمانيًّا أو وزيرًا. وكانت الظاهرة شائعة على نحوٍ خاص في الأحزاب الإقليمية والجيل الأصغر سنًّا. ولذا، كان من ينتمي لعائلاتٍ سياسية يمثل نحو ثلثي أعضاء البرلمان الذين تقلُّ أعمارهم عن الأربعين، لكن بلغت نسبتهم أقل من ١٠٪ فيما يتعلق بالذين تزيد أعمارهم على السبعين.52
بعد انتخابات مجلس الشعب لعام ٢٠١٤، انخفضت نسبة البرلمانيين بالوراثة من ٣٠٪ إلى ٢٢٪، وهي نسبة لا تزال كبيرة. تشجع الأحزاب السياسية على تلك الممارسة على جميع المستويات؛ ففي المجمل، أعيد ترشيح ٧٥٪ من الأعضاء البرلمانيين بالوراثة من قبل أحزابهم، في مقابل ٦٥٪ من الأعضاء البرلمانيين الذين ليسوا بالوراثة. وعادة ما يتحدث المرشحون بفخر عن خلفيتهم العائلية أثناء حملاتهم الانتخابية، مع وعد الأبناء بأن يكملوا مسيرة الآباء الذين منحوهم مقعدهم.53
الأرقام المذكورة أعلاه مأخوذة من تحليلات لمجالس شعب متتالية. والدراسات التي ستجري على تشكيل مجالس الولايات ستكشف على الأرجح وجود نمطٍ مماثل. الجدير بالملاحظة أنه حتى حزب بهاراتيا جاناتا، الذي يفتخر بأنه يقوم على الكوادر وتقوده أيديولوجية وله طبيعة غير معتمدة على المحاباة، قد أصبح على نحوٍ متزايد ضحية للعائلية السياسية. لذا، ١٥٪ من أعضاء البرلمان المنتمين للحزب في ٢٠١٤ كانوا ينتمون لعائلاتٍ سياسية (وكانت النسبة المقابلة الخاصة بعام ٢٠٠٩ هي ١٩٪). وفي الولايات التي حكم فيها الحزب، أصبح أقارب الوزراء ورؤساء الوزراء على نحوٍ متزايد ذوي نفوذ. وفي عام ٢٠١١، أشار قائد الحزب المخضرم ورئيس وزراء هيماجَّل براديش السابق، شانتا كومار، إلى «أن ثقافة باريفار–تانترا (العائلية السياسية)، التي حلَّت محل لوكتانترا (الديمقراطية)، قد سادت حتى في حزب بهاراتيا جاناتا … لقد كان الحزب حزب العمال، لكنه بدءًا من هيماجَّل براديش إلى كارناتاكا، يصبح حزب الأبناء والبنات والأقارب». وأضاف كومار أننا «إذا سمحنا للفاسدين بالبقاء في السلطة، فليس لنا الحق في أن ندعي أننا حزبٌ مختلف».54

المحاباة في عالم السياسة الهندية ليست متفشية بأي حال من الأحوال. لكنها شائعة الآن بالقدر الكافي بحيث يصبح الأمر مقلقًا. ففي أي ديمقراطية ناضجة، يجب أن يكون بإمكان أي فرد لديه اهتمام أو قدرات الانضمام للحزب السياسي الذي يختاره، وبمجرد أن يحدث ذلك، يحصل على سلطة ومسئولية بناءً على أدائه. لقد أتت أنجيلا ميركل وباراك أوباما حرفيًّا من لا شيء، وأصبحت الأولى المستشارة الألمانية وأصبح الثاني الرئيس الأمريكي، واعتمد ذلك بالكلية على إنجازاتهما. لم يكن هناك فرد في عائلتيهما ليساعدهما أو يلهمهما في مسيرتهما السياسية. وهكذا هو الحال بالنسبة للغالبية العظمى من السياسيين الألمان والأمريكيين الأدنى في المرتبة.

اللافت للنظر أن بعض السياسيين الهنود في السنوات الأخيرة لاحظوا أن مبدأ التوريث يتعارض مع الممارسة الديمقراطية واستفادوا من ذلك. ففي الحملة الانتخابية لعام ٢٠١٤، كثيرًا ما كان نريندرا مودي يؤكد على أصوله المتواضعة غير السياسية في مقابل الخلفية المختلفة تمامًا لمنافسه الرئيسي، الذي وُلد في ظروفٍ مواتية في عائلةٍ سياسيةٍ هنديةٍ بارزة. ويدين نتيش كومار رئيس وزراء بيهار وأرفيند كيجريوال رئيس وزراء دلهي بنجاحهما جزئيًّا لحقيقة أن كلًّا منهما كان أول — وآخر — عضو في عائلته يكون له نشاطٌ حزبي.

١٠

يتمثل المجال الرابع للخلل الديمقراطي في توفير العدالة. وقد تجسَّد هذا جليًّا في أبريل ٢٠١٦ عندما، في مناسبةٍ رسمية في نيودلهي في حضور رئيس الوزراء مودي، تحدث رئيس المحكمة العليا الهندية عن التأخير المفرط في إقامة العدالة. لقد خاطب رئيس الوزراء باسم «المتقاضي الفقير» و«الأشخاص القابعين في السجون»، وحثَّه على «أن يكون على مستوى الموقف ويدرك أنه ليس من الكافي انتقاد الوضع». في تلك اللحظة، كان رئيس المحكمة العليا متأثرًا جدًّا بأبعاد المشكلة لدرجة أنه بكى، وسحب منديلًا ليمسح دموعه.

كانت حالات الفشل في توفير العدالة الناجزة مرجعها إلى حدٍّ كبير النقص الهائل والمزمن في عدد القضاة في المحاكم الهندية. ففي عام ٢٠١٦، كانت المحكمة العليا الهندية تعاني من نقص ١٩٪ في قوامها الأساسي، ووصلت النسبة في المحاكم العليا للولايات إلى ٤٤٪ وفي المحاكم الفرعية إلى ٢٥٪. وبلغ عدد المناصب الشاغرة في المحكمة العليا في الله أباد ٨٨؛ في حين بلغ في المحكمة العليا في مدراس ٤٠.

يؤدي هذا النقص إلى تأخيرٍ كبير في تحقيق العدالة. ففي المحاكم العليا للولايات في الهند، عندما تُرفع قضية، فإنها تأخذ، في المتوسط، ثلاث سنوات وشهرًا حتى يجري البتُّ فيها. والشخص الذي يخسر القضية يمكنه حينها طلب وقف التنفيذ والاستئناف أمام المحكمة العليا الهندية. وبعض القضايا، التي رفعت في الأساس في محكمة أدنى درجة وسارت في المسار القضائي حتى وصلت إلى المحكمة الأعلى درجة في البلاد، يمكن أن تستمر عدة عقود حتى يُحكم فيها على نحوٍ باتٍّ، مع وفاة المتقاضين أحيانًا أثناء نظرها.55
النظام القضائي في الهند بطيء للغاية. كما أنه فاسد على نحوٍ مريع. ففي سبتمبر ٢٠١٠، أثار شانتي بوشان — وهو أحد أكثر المحامين الهنديين احترامًا وقد شغل منصب وزير القانون في حكومة الاتحاد — الجدل بشدة عندما زعم في المحكمة العليا الهندية أن ثمانية، من ضمن رؤساء المحكمة العليا الهندية الستة عشر الذين عمل معهم، كانوا فاسدين. وذكر أسماءهم في خطاب وضعه في ظرفٍ مغلق وقدمه إلى المحكمة، وتحدى القضاة أن يفتحوه.56

الأدلة على الفساد القضائي مكمنها الحكايات أكثر من تلك الخاصة بالفساد السياسي. لكن بالنظر لما يراه المدَّعون والمحامون، يبدو أن أخذ الرشاوى وما شابه ممارسةٌ شائعة إلى حدٍّ ما وسط القضاة في المحاكم الأدنى درجة، وبالتأكيد منتشرة بين قضاة المحاكم العليا للولايات، وليست غائبة تمامًا حتى في المحكمة العليا الهندية.

النظام القضائي، على الأقل بحسب مساره في الهند، متحيز للأغنياء وذوي النفوذ. لذا، في قضايا عديدة، عندما يكون سياسي أو نجمٌ سينمائي أو رجل أعمال هو المتهم بارتكاب إحدى الجرائم، يجري شراء الشهود أو تهديدهم من أجل تغيير شهاداتهم الأصلية. أو قد يخضعون حتى للتصفية الجسدية، كما حدث في قضية زعيمٍ دينيٍّ شهير اتُّهم بالتحرش الجنسي، والقضية الخاصة بالفساد التعليمي الهائل في ماديا براديش التي تورط فيها سياسيون كبار (ينتمون لأكثر من حزب). وفي كلتا القضيتَين، مات العديد من الشهود، في ظروفٍ غامضة.57

قُوِّض أيضًا استقلال القضاء بسبب التدخل السياسي. وكانت أول حكومة تسعى لجعل القضاة موالين لها هي تلك التي تقودها إنديرا غاندي. وتبنَّى مستشاروها الكبار، من أمثال إتش آر جوخال وموهان كومارامَنجَلام وبي إن هاكَسر، بشدة فكرة «القضاء الموالي للحكومة». وتدخلوا بقوة في التعيينات القضائية، ومن أشهر الأمثلة على ذلك — أو أكثرها خزيًا — تخطيهم لعدة قضاةٍ بارزين لجعل إيه إن راي رئيسًا للمحكمة العليا الهندية في ١٩٧٣.

في الآونة الأخيرة، بعض قضاة المحكمة العليا الهندية والمحاكم العليا بالولايات قد يجري التأثير على عملهم باحتمال تقلدُّهم لمناصبَ مهمة بعد تقاعدهم. على سبيل المثال، عيَّنت حكومةٌ تابعة لحزب المؤتمر قاضيًا سابقًا بالمحكمة العليا الهندية في مجلس الولايات، في حين جعلت أخرى تابعة لحزب بهاراتيا جاناتا رئيس قضاة سابقًا حاكمًا لإحدى الولايات. في كلتا الحالتين، كان القاضي المعني قد أصدر أحكامًا أو أجرى تحقيقات برأت ساحة سياسيين مثيرين للجدل تابعين للحزب الحاكم. ووصف رجل القانون البارز فالي ناريمان مثل هذه التعيينات بأنها «غير ملائمة ومؤسفة بشدة». وأضاف أن القضاة «الذين يسعَون وراء مناصب أو مقعد في البرلمان من السلطة التنفيذية يضرُّون على نحوٍ خطير بمفهوم استقلال السلطة القضائية، الذي طالما أُعلن بفخر — للأسف من قبل القضاة الحاليين للمحكمة العليا الهندية — عن أنه أحد السمات الأساسية للدستور».58
هناك أيضًا مشكلة المسجونين الذين بانتظار المحاكمة، والذين كانت نسبتهم تزيد على نحوٍ منتظم بمرور السنين. وصلت النسبة الآن إلى أقل من ٧٠٪. هؤلاء الرجال والنساء (الذين معظمهم من الفقراء والكثير منهم ينتمون لطائفيةٍ دنيا) قد جرى توجيه الاتهام إليهم فقط، ولم تثبت إدانتهم. لكنهم يمكن أن يقبعوا لسنوات في زنازينَ مزدحمة ومظلمة وقذرة، يأكلون فيها طعامًا غير مطهي جيدًا و/أو فاسدًا، ويشربون ماءً ملوثًا ولا يحصلون على مساعدةٍ قانونية أو طبية.59
الوضع في السجون الهندية مؤسف. في الوقت نفسه، لا يختلف الوضع بالنسبة لتعامل الشرطة الهندية أثناء أدائها لمهامها الروتينية والدورية للحفاظ على الأمن والسلامة العامين. إن عددهم قليل جدًّا في المقام الأول. ففي الهند، هناك ١٣٠ رجل شرطة لكل ١٠٠ ألف شخص، في حين يبلغ المعيار العالمي ٢٢٢.60 إن هؤلاء الموجودين في الخدمة منهم يكونون في الغالب بُدنًا وغير مدرَّبين جيدًا وفاسدين. وكما هو الحال في القضاء، هم يميلون لمحاباة الأغنياء، وعلاوة على ذلك، يمكنهم إبداء تحيزٍ واضح ضد الأقليات الدينية. ففي لحظةٍ نادرة من انتقاد الذات، اعترفت شرطة مومباي في يوليو ٢٠١٤ بأن هناك نقصًا في الثقة من جانب المسلمين تجاههم؛ إذ يرون أنهم «طائفيون ومتحيزون وغير مبالين»، وكذلك «غير مُلمِّين بما يدور حولهم، وفاسدين وغير محترفين»، والجزء الثاني من هذا الحكم سيتفق عليه كل الهنود بغض النظر عن ديانتهم.61
وجدت إحدى الدراسات أن الشرطة، من بين كل الإدارات الحكومية في ولاية كارناتاكا، كانت هي الأكثر فسادًا. ففي الأشهر الأحد عشر الأولى من العام، أفاد المواطنون بأنهم دفعوا ما يقرب من ٩ كرور روبية كرشاوى لرجال الشرطة. لقد شملت الدراسة ٣٧ هيئةً حكومية؛ وجاءت إدارة النقل في المرتبة الثانية من حيث الفساد، إذ كانت الرشاوى السنوية التي حصلت عليها أقل ١٠٪ من تلك التي زُعم أن أفراد إدارة الشرطة حصلوا عليها. ومن المرجح بشدة أن نفس الوضع سائد في ولاياتٍ أخرى في الاتحاد.62

إن سوء أداء الشرطة الهندية لهو نتاج تسييسها المتزايد بمرور السنوات. فعضو مجلس الولاية أو عضو البرلمان عادة ما يقرر من سيشغل منصب مأمور الشرطة في المنطقة التي تقع فيها دائرته الانتخابية. ويجري تخصيص المناصب الأكثر أهمية والأعلى مكانة في الشرطة، في أغلب الأحيان، على أساس القرابة والطائفة. وفي أحيانٍ أخرى، يحصل عليها من يدفع أكثر. وفي بعض الولايات، يقال إن رؤساء الوزراء طلبوا لاخات أو حتى كرورات من الروبيات، وحصلوا عليها، من أجل تعيين ضباط في المناطق أو الأقسام التي يريدونها.

نظرًا لأن التعيينات في المناصب العليا تجري بناءً على اعتباراتٍ غير الكفاءة، فمن الصعب منع حدوث ذلك في المناصب الأقل مرتبة. لذا، فإن المفتشين ورؤساء أقسام الشرطة وضباط الشرطة يجري اختيارهم أيضًا في الغالب على أساس الطائفة أو الدين أو المحاباة أو الرشوة. وهذا يجعل رجل الشرطة في المستقبل يسعى لإرضاء الشخص (أو الوزير) الذين عيَّنه في منصبه، بدلًا من أن يركز على مهمته الرئيسية المتمثلة في حماية المواطن العادي. وهو يشجع أيضًا على الفساد؛ إذ يسعى المرء لتحقيق أقصى استفادة قبل أن يُعفى فجأة من مسئولياته عندما تتغير حكومة أو يفشل عضو برلمان في الفوز بفترة ولايةٍ جديدة أو يستقيل رئيسه.

وكما أشارت المحكمة العليا الهندية على نحوٍ محبط في عام ٢٠٠٦، فإن «العديد من جوانب القصور في عمل الشرطة نتجت على نحوٍ كبير بسبب التدخل السياسي غير الصحي على مستوياتٍ مختلفة، بداية من نقل وتعيين رجال الشرطة من الرتب المختلفة وإساءة استخدام الشرطة لأغراضٍ حزبية والحماية السياسية التي عادة ما تمتد للفاسدين من رجال الشرطة».63

١١

تتمحور الديمقراطية، من ضمن أشياءَ أخرى، حول دعم الحريات الشخصية. ورغم فساد المؤسسات الحكومية وترهلها، هل الهنود، كأفراد، يتمتعون بحريةٍ أكبر من تلك التي كانوا يتمتعون بها في عام ١٩٤٧؟

في العديد من الجوانب، هذا صحيح. لقد استتبع التوسع العمراني المتنامي وجود عدم ربطٍ متزايد بين طائفةٍ ما ومهنةٍ معينة. فالآن، عددٌ أكبر من الهنود لديهم حرية أكبر من ذي قبل في امتهان المهنة التي يريدونها، مقارنة بآبائهم. وقد أدى التوسع العمراني أيضًا إلى إضعاف القبضة الخانقة للأسرة. فعدد أكبر من الهنود يمكنهم الآن الوقوع في حب — والزواج ﺑ — أي شخص يريدونه (وليس ذلك الذي يختاره لهم آباؤهم). ويمكنهم أيضًا بسهولةٍ أكبر إقامة صداقات تتجاوز حدود الطائفة والدين.

حتى في المسائل المتعلقة بالاختيار الجنسي، الهنود ربما يتمتعون بحريةٍ أكبر أكثر من أي وقت مضى منذ الاستقلال. ورغم حكم المحكمة العليا الهندية في عام ٢٠١٣ الذي قضى بإعادة المادة ٣٧٧ من قانون العقوبات الهندي، فلم يعد المثليون والمثليات عرضة نسبيًّا للنبذ والملاحقة، على الأقل في المدن.

إن مدى هذه الحريات يتحدد بالتأكيد على نحوٍ كبير بناءً على الطبقة والجنس. فالمثليون الذين ينتمون للطبقة الوسطى أقل عرضة للتمييز الاجتماعي من هؤلاء الذين ينتمون للطبقة العاملة. كما أن الآباء من جميع الطبقات من المرجَّح أن يحترموا اختيار ابنهم أكثر مما يحترمون اختيار ابنتهم فيما يتعلق بالعمل أو شريك الحياة.

ربما يكون أكثر مكان يشعر فيه الهنود بأنهم أحرار، وقادرون على التصرف كأفراد، هو اللجنة الانتخابية. في خمسينيات القرن الماضي، عادة ما كانت تصوِّت النساء كما يفعل آباؤهن أو أزواجهن أو إخوتهن. وكذلك عادة ما كان يصوت الداليت حسبما تخبره به الطوائف العليا. أما الآن، ومع إمكانية استشارة الأصدقاء والأسرة والأقران في نفس الطائفة، يكون القرار النهائي خالصًا لهم وحدهم.

أحد المجالات التي ربما أصبح الهنود أقل حرية فيها في العقود الأخيرة يتمثل في التعبير الفني والأدبي. فكثيرًا ما يجري استدعاء قوانين استعمارية قديمة من قبل المحاكم أو الدولة لحظر الكتب أو فرض الرقابة على الأفلام. وأدى ظهور السياسة القائمة على الهُويَّة إلى جعل تقديم تقييمٍ نزيه وغير متحيز لحياة وأعمال الشخصيات السياسية الهندية التي تُجلُّها طائفةٌ أو جماعةٌ لغوية أو دينية معينة أمرًا شبه مستحيل. كما زادت أكثر وتيرة الهجمات على الكُتاب والفنانين المستقلين، وهم، من آن لآخر، يتعرضون للقتل بسبب آرائهم. وحيث إنه لم يتخذ أي سياسي أو حزبٌ سياسي حتى الآن موقفًا صريحًا دفاعًا عن حرية التعبير، فمرت تلك الهجمات دون عقاب. وفي المجمل، الكُتاب والفنانون وصُناع الأفلام الهنود ربما يكونون أقل حرية، وأكثر عرضة للهجوم، مما كانوا عليه في أي وقت مضى منذ فترة الطوارئ فيما بين عامَي ١٩٧٥ و١٩٧٧.64

١٢

السؤال الآن: ما مدى ديمقراطية الهند؟ عندما يُطرَح عليَّ هذا السؤال، عادة ما أذكر عبارةً خالدة للممثل الكوميدي الهندي جوني ووكر. ففي فيلمٍ لعب فيه ووكر دور صديق البطل، أجاب كل سؤال طُرح عليه بالتعليق الآتي: «يا سيدي، خمسين-خمسين.» وعندما سأله عن احتمال زواجه بالمرأة التي يحبها أو حصوله على الوظيفة التي يرغب فيها، أخبره بأن الفرص تقريبًا متساوية: ٥٠٪ للنجاح و٥٠٪ للفشل.

إذن، فهل الهند دولةٌ ديمقراطية؟ حسنًا، الإجابة هي «خمسين-خمسين». إنها في الغالب ديمقراطية فيما يتعلق بعقد الانتخابات والسماح بحرية التنقل والتعبير. لكنها في الغالب ليست كذلك فيما يتعلق بأداء المؤسسات التي دورها محوري في عمل أي ديمقراطية. فمعظم الأحزاب السياسية أصبحت مثل الشركات العائلية. ومعظم السياسيين فاسدون والكثير منهم ذوو خلفيةٍ جنائية. وكذلك، كثيرًا ما يصبح واضعو القوانين الهنود خارجين عن القانون. وفي الوقت نفسه، فقد موظفو الخدمة المدنية استقلالهم في العمل؛ إذ يفعلون ما يطلبه منهم رؤساؤهم السياسيون، وليس ما يتطلبه العدل أو المنطق. كما أن النظام القضائي بطيء وليس عادلًا أيضًا دائمًا، وقائمة المحاكم مثقلة بالقضايا. كما أن الشرطة فاسدة في الأيام الجيدة وقابلة للرشوة في الأيام السيئة.

مع وصول الجمهورية الهندية للذكرى السبعين لتأسيسها، تبدو التجربة الوطنية أكثر قوة من التجربة الديمقراطية. فلا يوجد جزء من الهند من المحتمل أن ينفصل عنها قريبًا، هذا إن جرى ذلك أصلًا. وهكذا، فإن المشروع المذهل لإقامة دولة ليست لها لغةٌ مشتركة أو دينٌ مشترك أو عدوٌّ مشترك، على الأقل حتى الآن، قد نجح على نحوٍ كبير. لكن السجل عندما يتعلق بدعم المساواة بين جميع المواطنين بالتأكيد متفاوت.

في خطابه الأخير الشهير أمام الجمعية التأسيسية، أشار بي آر أمبيدكار إلى أن الهند سرعان ما ستُقرُّ السياسة القائمة على مبدأ «شخص واحد، صوت واحد». وتساءل متى يمكن أن تصبح مجتمعًا قائمًا على مبدأ «شخص واحد، قيمة واحدة».

بقي هذا السؤال مهمًّا كما كان في وقت طرحه لأول مرة. فجمهورية الهند في خطر أن تصبح ما أسميه «ديمقراطية الانتخابات فقط». فكل الانتخابات، سواء كانت خاصة بمجلس ولاية أو برلمانٍ وطني، حرة ونزيهة. واللجنة الانتخابية تستحق بحقٍّ الثناء الذي أغدق عليها باعتبارها مؤسسةً نموذجية. غير أن الأدوات الأخرى للمساءلة الديمقراطية تظل منقوصة على نحوٍ عميق. فالبرلمان نادرًا ما يجتمع، وعندما يفعل، يشبه حلبة المصارعة أكثر منه غرفة النقاش المهيبة التي من المفترض أن يكون عليها. ونظام العدالة الجنائية في حالة شبه انهيار. والحكومة، من جانب، ضعيفة وغير كفؤة فيما يتعلق بتقديم الخدمات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية، لكنها، على الجانب الآخر، عنيفة ووحشية في قمعها لحالات التعبير عن عدم الرضا.

في هند اليوم، ربما لا يجري اضطهاد الداليت والنساء والمسلمين وأبناء القبائل كما ربما كان يخشى المرء عند إقامة الدولة. فعددٌ كبير من الداليت والنساء والمسلمين (وأبناء القبائل ولكن بنسبة أقل) تغلبوا على التمييز وأصبحوا أرباب مهن وموظفي خدمةٍ عامة وسياسيين ورواد أعمال ناجحين. غير أن هؤلاء المنتمين لتلك الجماعات الاجتماعية ظلوا، بوجهٍ عام، مواطنين من الدرجة الثانية في البلاد. وبعد سبعين عامًا من الاستقلال، يظل الهندوس الذكور المنتمون للطوائف العليا يتمتعون بامتيازاتٍ غير متناسبة في الحياة اليومية للجمهورية.

في الطبعة الأولى من هذا الكتاب، التي نُشرت في ٢٠٠٧، حاججت بأن جمهورية الهند، باعتبارها تجربةً سياسية متعددة اللغات ومتعددة الديانات، تنبأت بقيام الاتحاد الأوروبي قبل ظهوره بعدة عقود. وبعد عشرة أعوام، قد أضيف أنه يبدو أيضًا أنها من المحتمل أن تبقى لفترةٍ أطول من الاتحاد الأوروبي. لكنني لا أقول ذلك بأي شعور بالفوقية. فبإمكان الهند، والهنود، أن تتعلم درسًا أو درسَين من بعض الدول الأوروبية فيما يتعلق بكيفية تقليل تأثير الفساد والمحسوبية في مجال السياسة، ودعم وجود مؤسساتٍ محايدة تحكم عملها قواعدُ معينة، وتحقيق العدالة بنزاهة وبسرعة، وتدريب الموظفين العموميين على معاملة كل المواطنين دون تمييز بغض النظر عن عمرهم أو طبقتهم أو جنسهم أو عرقيتهم.

من السهل بالقدر الكافي على الوطنيين الهنود مقارنة سجلنا الديمقراطي بذلك الخاص بدولٍ أخرى كانت مستعمرة في آسيا وأفريقيا؛ لكن ما يعدُّ أصعب وضروريًّا أكثر هو أن يقارنوه بذلك الخاص بدول غرب أوروبا وأمريكا الشمالية. أعتقد أن بي آر أمبيدكار وجواهر لال نهرو وفالابهاي باتيل (ومن هم على شاكلتهم) كانوا سيريدون منا أن نفعل هذا. صحيح أن الهنود اليوم قد يكونون أكثر حرية مما كانوا عليه عندما غادر الإنجليز تلك الأرض، لكنهم بالتأكيد أقل حرية مما أمَل — أو أراد — واضعو دستورنا أن يكونوا عليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤