الفصل الأول

الحرية وتناحر الأشقاء

إن انتهاء الحكم البريطاني للهند أمر يستحيل تصوره ببساطة في الوقت الحالي، وربما لفترة طويلة من الآن، والاستعاضة عنه بحكومة أو حكومات محلية حلم جامح إلى أقصى حد … فبمجرد أن يبحر آخر جندي بريطاني بعيدًا عن بومباي أو كراتشي، ستصير الهند ساحة قتال للقوى العِرْقية والدينية المتناحرة … والحضارة المسالمة التقدمية — التي أتت بها بريطانيا إلى الهند ببطء وثبات — ستذوى بين ليلة وضحاها.

جيه إي وِلدون، أسقف كلكتا سابقًا، عام ١٩١٥

لا يداخلني شك في أنَّه لو كانت الحكومات البريطانية مستعدةً لأن تمنح عام ١٩٠٠ ما رفضت أن تمنحه في ذلك العام ولكنها منحته عام ١٩٢٠، أو أن تمنح عام ١٩٢٠ ما رفضت أن تمنحه في ذلك العام ولكنها منحته عام ١٩٤٠، أو أن تمنح عام ١٩٤٠ ما رفضت أن تمنحه في ذلك العام ولكنها منحته عام ١٩٤٧؛ لأمكن تفادي تسع أعشار البؤس والكراهية والعنف والاعتقالات والإرهاب والقتل، والجلد بالسياط، وحوادث إطلاق النار، والاغتيالات، وحتى المذابح العرقية التي حدثت، ولربما تحقق انتقال السلطة سلميًّا، بل ربما تحقق دون تقسيم.

ليونارد وولف، عام ١٩٦٧

١

نالت الهند حريتها يوم ١٥ أغسطس عام ١٩٤٧، إلا أنَّ الهنود الوطنيين احتفلوا بأول «عيد استقلال» لهم قبل ذلك التاريخ بسبعة عشر عامًا؛ ففي الأسبوع الأول من يناير عام ١٩٣٠، أصدر المؤتمر الوطني الهندي قرارًا خصَّص بمقتضاه يوم الأحد الأخير من ذلك الشهر لخروج مظاهرات في جميع أنحاء البلاد دعمًا للاستقلال الكامل؛ فقد استُشعِر أنَّ مِن شأن ذلك أنْ يُزكي الطموحات الوطنية ويجبر البريطانيين أيضًا على النظر بجدية في مسألة التخلِّي عن السلطة. وقد أوضح المهاتما غاندي — في مقال بصحيفته «يانج إنديا» — كيفية الاحتفال بذلك اليوم فقال: «يُستحسن أن تعلن قرًى بأسرها الاستقلال، أو حتى مدن بأسرها … والأفضل أن تُعقَد الاجتماعات كلها في اللحظة ذاتها في الأماكن كافة.»

واقترح غاندي الإعلان عن ميعاد التجمُّع بالطريقة المعتادة: دَقَّات الطبول. تبدأ مراسم الاحتفال برفع العلم الوطني، ويُقضى بقية اليوم «في القيام ببعض الأعمال البنَّاءة، سواء كان ذلك بالغَزْل، أو خدمة «المَنْبوذين»، أو لمِّ شمل الهندوس والمسلمين، أو النهي عن المنكر، أو حتى الجمع بين تلك الأعمال كافة، وهو ليس بالمستحيل». ويردد المشاركون قَسَمًا يؤكِّدون فيه أنه «حق غير قابل للتنازل عنه لشعب الهند — كأي شعب آخر في العالم — أن ينال الحرية ويستمتع بثمار تعبه»، وأنه «إذا حرمت أي حكومةٍ الشعبَ من تلك الحقوق وقهرته، فللشعب الحق أيضًا في تغييرها أو الإطاحة بها».1

صدر القرار الذي اختصَّ يوم الأحد الأخير من شهر يناير ١٩٣٠ ليكون عيد الاستقلال في مدينة لاهور؛ حيث كان المؤتمر منعقدًا في جلسته السنوية. وهناك اختير جواهر لال نهرو رئيسًا للمؤتمر الوطني، تأكيدًا لنجمه الصاعد بسرعة داخل الحركة القومية الهندية. وُلِدَ نهرو عام ١٨٨٩ — بعد عشرين عامًا من ميلاد غاندي — وكان نتاج مدرسة هارو وجامعة كامبريدج، وصار تلميذًا مقرَّبًا للمهاتما غاندي. كان ذكيًّا فصيح اللسان، واسع المعرفة بالشئون الخارجية، ويحمل جاذبية خاصة للشباب.

وقد ذكر نهرو في سيرته الذاتية كيف أن «عيد الاستقلال أتى يوم ٢٦ يناير ١٩٣٠، وكشف لنا — في لمح البصر — المزاج المتلهف والمتحمس للبلاد؛ فقد كان ثمة شيء مبهر للغاية في تلك التجمعات الحاشدة في كل مكان، التي رددت قسم الاستقلال بصورة سلمية جادَّة دون أي خطابات أو مناشدات».2 وفي تصريح صحفي أدلى به نهرو اليوم التالي، قدم «التهنئة المشوبة بالاحترام للأمة على نجاح المظاهرات الجادَّة والمنظَّمة»؛ فالمدن والقرى «تبارت في إبداء تمسُّكها المتحمس بالاستقلال» وتجمَّعت حشود هائلة في كلكتا وبومباي، ولكن الحشود التي تجمَّعت في المدن الأصغر حجمًا حَظِيَت بحضور جيد بدورها.3

وكل عام بعد عام ١٩٣٠، احتفل الهنود المنتمون إلى فكر المؤتمر الوطني بيوم ٢٦ يناير باعتباره عيد الاستقلال، إلا أن البريطانيين عندما رحلوا أخيرًا عن شبه القارة الهندية، اختاروا أن يُسلِّموا السلطة يوم ١٥ أغسطس عام ١٩٤٧. اختار نائب الملك في الهند اللورد ماونتباتن ذلك التاريخ لأنَّه يُمَثِّل الذكرى السنوية الثانية لاستسلام اليابان لقوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية؛ إذ لم يرغب — هو والساسة الذين كانوا في انتظار تسلُّم مقاليد السلطة — في الانتظار حتى اليوم الذي كان البعض سيفضلونه؛ ٢٦ يناير ١٩٤٨.

إذن جاءت الحرية أخيرًا في يوم مرتبط بفخر للإمبراطورية، وليس المشاعر القومية. وفي نيودلهي — عاصمة الحكم البريطاني والهند الحرة — بدأت المراسم قبيل منتصف الليل؛ فعلى ما يبدو، كان المنجِّمون قد أعلنوا أن يوم ١٥ أغسطس يوم مشئوم؛ لذا تقرَّر بدء مراسم الاحتفال يوم ١٤ بعقد جلسة خاصة للجمعية التأسيسية، وهي هيئة تمثيلية من هنود عكفوا على وضع دستور جديد.

أُقيمت المراسم في القاعة ذات القبة العالية لما كان يومًا المجلس التشريعي للراج البريطاني. أُنيرَت القاعة بأضواء ساطعة وازدانت بالأعلام. بعض تلك الأعلام وُضِع في إطارات صور كانت تحوي بورتريهات نواب الملك البريطانيين في الهند حتى أسبوع مضى. بدأت الفعاليات الساعة ١١ مساءً بترديد النشيد الوطني «فاندي ماتارام» (أيتها الأم، لك أنحني)، والوقوف دقيقتين حدادًا على أرواح من «فارقوا الحياة أثناء المعركة من أجل الحرية في الهند وسائر الأنحاء» وانتهت المراسم بتقديم العلم الوطني من قِبل نساء الهند.

وفيما بين النشيد وتقديم العَلَم أُلقِيَت الخُطَب. كان ثمة ثلاثة متحدثين رئيسيين تلك الليلة: الأول كان تشودري خليق الزمان، الذي اختير ليمثِّل مسلمي الهند. وقد أعلن حسب الأصول ولاء الأقلية للأرض التي تحرَّرت حديثًا. والثاني كان الفيلسوف الدكتور سارفِبالي رادها كريشنان، الذي اختير لقدراته الخطابية وعمله في التوفيق بين الشرق والغرب. وقد أثنى على «الحصافة السياسية والشجاعة» اللتين أبداهما البريطانيون باختيارهم الرحيل عن الهند، بينما بَقِيَ الهولنديون في إندونيسيا، ورفض الفرنسيون مغادرة الهند الصينية.4
إلا أنَّ نجم الحفل كان هو أول رئيس وزراء للهند؛ جواهر لال نهرو؛ فقد كان خطابه زاخرًا بالمشاعر والبلاغة، وكثيرًا ما استُشهِد به منذئذٍ. قال نهرو: «عندما تدق عقارب الساعة لتعلن منتصف الليل، عندما ينام العالم، ستستيقظ الهند على الحياة والحرية.»5 وأضاف أنَّ تلك «لحظة لا يشهدها التاريخ إلا فيما ندر، عندما نخرج من عباءة القديم إلى الحديث، وعندما تنتهي حقبة، وعندما تبوح روح أمة طال قهرها بما يجيش في صدرها».
قِيلَت تلك الكلمات داخل مقر المجلس ذي الأعمدة. وفي الشوارع بالخارج، مثلما قال صحفي أمريكي:

ساد الهرج والمرج، فراح الهندوس والمسلمون والسيخ يحتفلون معًا في بهجة … وكان المكان أشبه بميدان التايمز ليلة رأس السنة. كانت الحشود تريد نهرو دون غيره؛ فحتى قبل الموعد المنتظر لظهوره، اخترقت حشود مندفعة من آلاف البشر صفوف الشرطة وتدفقت في اتجاه أبواب مبنى المجلس. في النهاية، أُغلِقت الأبواب الثقيلة منعًا لدخول أمواج البشر الساعية — على الأرجح — للحصول على تذكارات معه. أما نهرو — الذي لاحت أمارات السعادة على وجهه — فهرب من مخرج آخر، وبعد برهة خرج بقيتنا.

لا يكتمل حدث على أي قدر من الأهمية في الهند دون وقوع خطأ. وفي تلك الحالة، كان الخطأ طفيفًا نسبيًّا؛ فعندما ذهب جواهر لال نهرو — بعد جلسة منتصف الليل في مقر الجمعية التأسيسية — لتسليم قائمة أعضاء مجلس الوزراء إلى الحاكم العام، سلَّمه مظروفًا فارغًا، إلا أنه عندما حان وقت مراسم حَلف اليمين كان قد أمكن العثور على الورقة المفقودة. إلى جانب رئيس الوزراء نهرو، تضمنتْ تلك الورقة أسماء ثلاثة عشر وزيرًا آخر، منهم رجلا الحركة القومية العتيدين: فالابهاي باتيل ومولانا أبو الكلام آزاد، إضافة إلى أربعة أعضاء أصغر سنًّا في حزب المؤتمر الوطني.

وربما يكون الأجدر بالملاحظة هو أسماء الوزراء الذين لم يكونوا أعضاء في حزب المؤتمر، ومنهم ممثِّلان لعالم التجارة وممثل للسيخ. كان ثمة ثلاثة آخرون من الخصوم الدائمين لحزب المؤتمر الوطني. هؤلاء كانوا آر كيه شانموكام شيتي، وهو رجل أعمال من مدراس كان أحد ألمع العقول المالية في الهند، وبي آر أمبيدكار، الذي كان باحثًا نابغًا في مجال القانون وينتمي إلى طائفة «المَنْبوذين»، وشياما براساد موكرجي، وهو سياسي بنغالي بارز كان ينتمي (آنذاك) إلى المنظمة الهندوسية هندو ماهاسابها. ثلاثتهم كانوا من المتعاونين مع الحكام البريطانيين وقتما كان رجال المؤتمر الوطني يُحبَسون في السجون البريطانية. لكن في ذلك الوقت تصرَّف نهرو وزملاؤه بحكمةٍ منَحِّينَ تلك الخلافات جانبًا؛ فقد كان غاندي قد ذكَّرهم أن «الحرية جاءت إلى الهند، لا المؤتمر الوطني الهندي»، وحثهم على تشكيل مجلس وزراء يشمل أكفأ الرجال بصرف النظر عن انتمائهم الحزبي.6

كان أول مجلس وزراء في الهند الحرة موحِّدًا من نواحٍ أخرى غير النواحي السياسية؛ فقد أتى أعضاؤه من خمس طوائف دينية (إضافةً إلى اثنين من الملحدين)، ومن جميع أنحاء الهند. وتضمَّن المجلس امرأة — راج كوماري أمريت كاور — فضلًا عن اثنين من المَنْبوذين.

في يوم ١٥ أغسطس، كان البند الأول على جدول الأعمال هو حلف الحاكم العام اللورد ماونتباتن — الذي كان آخر نائب للملك في الهند حتى الليلة السابقة — اليمين. وكان البرنامج المقرر لليوم كالتالي:

٨:٣٠ص حلف الحاكم العام والوزراء اليمين في مقر الحكومة
٩:٤٠ص توجُّه موكب الوزراء إلى مقر الجمعية التأسيسية
٩:٥٠ص توجُّه الموكب الرسمي إلى مقر الجمعية التأسيسية
٩:٥٥ص تأدية التحية الملكية للحاكم العام
١٠:٣٠ص رفع العلم الوطني في مقر الجمعية التأسيسية
١٠:٣٥ص توجُّه الموكب الرسمي إلى مقر الحكومة
٦:٠٠م مراسم رفع العلم على بوابة الهند
٧:٠٠م إيضاء الزينات
٧:٤٥م إطلاق الألعاب النارية
٨:٤٥م عشاء رسمي في مقر الحكومة
١٠:١٥م حفل استقبال في مقر الحكومة

وقد بدا أن الهنود مولعون بالأبهة والمراسم تمامًا مثل الحكام المغادرين؛ ففي جميع أنحاء دلهي — وفي مناطق أخرى من الهند — احتفلت الدولة والمواطنون، على حد سواء، بالاستقلال؛ حيث ذُكِر أنَّ مراسم رفع العلم تمَّت ثلاثمائة مرة في العاصمة وحدها. وفي المركز التجاري للبلاد — بومباي — أقام عمدة المدينة وليمة في فندق تاج محل الفخم. وفي أحد المعابد بمدينة باناراس المقدسة لدى الهندوس، من الجدير بالذكر أنَّ مسلمًا رفع العلم الوطني. وفي مدينة شيلُّونج الجبلية شمال شرقي البلاد، رأس الحاكم مراسم رفع أربعة أطفال للعلم — فتًى وفتاة هندوسيين، وفتى وفتاة مسلمَيْن — إذ إنه «من الناحية الرمزية حريٌّ بشباب الهند أن يرفعوا علم الهند الجديدة إذ تخرج إلى الوجود».

في الاحتفال بعيد الاستقلال الأول — الوهمي، إن جاز التعبير — يوم ٢٦ يناير من عام ١٩٣٠، كانت الحشود «جادَّة ومنظمة» (حسبما أشار نهرو)، ولكن عام ١٩٤٧، عندما جاء يوم الاستقلال الحقيقي، كانت المشاعر الظاهرة أكثر بدائية. ونستشهد هنا بقول أحد المراقبين الأجانب؛ إذ قال إنه في كل مكان «في مدينة بعد أخرى، فجَّرت الجماهير المشتعلة بالحيوية مشاعر الإحباط التي كانت تعتمل داخلها لسنوات طوال في حالة من النشوة الجماعية المشحونة بالمشاعر، فانسابت فورات المرح الغوغائية من أحياء المصانع إلى المناطق الساحلية المترفة وارتدَّت عائدة … وتفشَّت عدوى الاحتفالات المبتهجة متناسيةً عقود السخط والضغائن ضد المستعمرين البريطانيين».

وكانت الأحداث التي جرت في أكثر مدن الهند ازدحامًا بالسكان — كلكتا — نموذجًا دالًّا على المزاج السائد؛ فطوال الأعوام القليلة السابقة كانت تلك المدينة تعاني نقصًا في الأقمشة، تحوَّل آنذاك بمعجزة إلى «فيض من الأعلام كست المنازل والبنايات … والسيارات والدراجات، وفي أيدي الأطفال والرضَّع». وفي الوقت ذاته، كان ثمة حاكم هنديٌّ جديد يحلف اليمين في مقر الحكومة. أما مَن لم يَرُق له المنظر فكان السكرتير الخاص للحاكم البريطاني المغادر؛ فقد قال متبرِّمًا إنَّ «سمة التنافر العامة التي شابت التجمع من حيث الملبس انتقصت من وقاره إلى حدٍّ بعيد». فلم يكن ثمة سترات عشاء ورابطات عنق في مرمى البصر، لا شيء سوى الإزارات وقبعات غاندي البيضاء. وإذ «امتلأت قاعة الحكم بأشخاص غير مخوَّلين بالتواجد فيها»، كانت المراسم «نذيرًا بما سوف يحدث» بعد رحيل البريطانيين عن الهند. وقد بلغت الأمور الحضيض عندما وُضِعت قبعة بيضاء من قبعات غاندي على رأس حاكم البنغال المغادر — السير فريدريك بوروز — بينما كان في سبيله إلى مغادرة القاعة.

٢

في دلهي، ثارت عاصفة من «التصفيق المطوَّل» عندما افتتح رئيس الجمعية التأسيسية الجلسة بذكر أبي الأمة: موهانداس كرمشاند غاندي. وفي الخارج، هتفت الحشود «عاش المهاتما غاندي»، إلا أن غاندي لم يحضر الاحتفالات التي أُقيمت في العاصمة. كان في كلكتا، لكنه لم يحضر أي احتفال ولا حتى رفع علمًا هناك. وقد انتشرت قبعات غاندي في مقر الحكومة دون علمه أو إذنه. وفي مساء يوم ١٤ أغسطس، زاره رئيس وزراء غرب البنغال، الذي سأله كيف ينبغي أن تكون الاحتفالات في اليوم التالي، فردَّ عليه غاندي قائلًا: «الناس يموتون جوعًا في كل مكان. أترغب في الاحتفال في ظل هذا الدمار؟»7

كان مزاج غاندي متعكِّرًا للغاية؛ فعندما طلب منه مراسل صحفي من الصحيفة الرائدة لدى الحركة القومية — «هندوستان تايمز» — توجيه رسالة بمناسبة الاستقلال، أجابه غاندي بأنه «قد فرغت جعبته» وطلبت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) من سكرتيره أن يساعدها في تسجيل رسالة من الرجل الوحيد الذي رأى العالم أنه يُمَثِّل الهند بحق، فأخبرهم غاندي أن يتحدثوا إلى جواهر لال نهرو عوضًا عنه. لم تقتنع البي بي سي وأرسلت مبعوثها مجددًا، مضيفًا — على سبيل الحافز — أن تلك الرسالة سوف تُترجَم إلى لغات عديدة وتُذاع في جميع أنحاء العالم، فلم يتأثر غاندي وقال: «اطلب إليهم أن ينسوا معرفتي باللغة الإنجليزية.»

خصَّ غاندي يوم ١٥ أغسطس بالصيام أربعًا وعشرين ساعة؛ فقد جاءت الحرية التي لطالما حارب من أجلها بثمن غير مقبول؛ إذ استتبع الاستقلال تقسيمًا أيضًا. وشَهِدَت الشهور الاثنا عشر السابقة له شغبًا يكاد يكون متواصلًا بين الهندوس والمسلمين. بدأ العنف يوم ١٦ أغسطس ١٩٤٦ في كلكتا وامتدَّ إلى الريف البنغالي، ومن هناك انتقل إلى بيهار، ثم إلى المقاطعات الاتحادية، وأخيرًا إلى مقاطعة البنجاب؛ حيث تخطَّى نطاق العنف ومدى القتل حتى الفظائع التي سبقته.

في بداية الأمر، كان من أشعل فتيل العنف الذي ساد شهري أغسطس وسبتمبر لعام ١٩٤٦ «العصبة الإسلامية»؛ الحزب الذي غذَّى الحركة الداعية إلى إقامة دولة باكستانية منفصلة. تزعَّم تلك العصبة محمد علي جناح، الذي كان رجلًا صارمًا متحفِّظًا وإن كان بارعًا في التخطيط السياسي؛ فعلى غرار نهرو وغاندي، كان محاميًا تلقَّى تعليمه في إنجلترا، ومِثْلهما كان يومًا عضوًا في المؤتمر الوطني الهندي، ولكنه ترك الحزب لشعوره أنه كان تحت قيادة الهندوس ويعمل لصالحهم؛ فقد رأى جناح أنَّ الحزب — على الرغم من تصريحاته القومية — لم يعبِّر في الواقع عن مصالح أكبر أقلية في الهند: المسلمين.

فبإشعال فتيل الشغب في كلكتا في أغسطس ١٩٤٦، كان جناح والعصبة يأملان في تصعيد عملية الاستقطاب بين الطائفتين؛ ومن ثم إجبار بريطانيا على تقسيم الهند عند الجلاء عنها في نهاية المطاف. وقد تُوِّجت جهودهم بنجاح باهر؛ إذ ردَّ لهم الهندوس الصاع صاعين بوحشية في بيهار، وحَظِيَت أعمالهم بدعم زعماء حزب المؤتمر الوطني المحليين. كان البريطانيون قد سبق أن قالوا إنهم لن يسلِّموا السلطة إلى أي حكومة «ترفض فئات كبيرة وقوية ضمن الأطياف الوطنية الهندية سلطتها رفضًا مباشرًا».8 وبدا أن الدماء التي أُريقت بين عامي ١٩٤٦ و١٩٤٧ تشير إلى أن المسلمين يمثلون تلك الجماعة تمامًا، التي لن تعيش هانئة راضية تحت حكومة تابعة للمؤتمر الوطني ويسيطر عليها الهندوس، فصارت «كل واقعة عنف طائفي يُستشهَد بها كتأييد إضافي لنظرية الدولتين، وحتمية تقسيم البلاد».9

لم يقف غاندي مكتوف اليدين أمام ذلك العنف؛ فعندما وردت أولى التقارير من ريف البنغال، نحَّى كل شيء جانبًا واتجه إلى تلك البقعة، وسار ذلك الرجل الذي كان يبلغ من العمر سبعة وسبعين عامًا على أرض وعرة مجتازًا الطين والحجارة؛ ليواسي الهندوس الذين لاقوا الأمرَّين من أحداث ذلك الشغب. وخلال جولة مدتها سبعة أسابيع قطع ١١٦ ميلًا سيرًا على الأقدام — أكثرها حافي القدمين — مخاطبًا قرابة ١٠٠ مجلس في القرى. وفيما بعد زار بيهار؛ حيث كان المسلمون هم أصحاب المصاب الأكبر، ثم ذهب إلى دلهي؛ حيث بدأ اللاجئون من البنجاب يتوافدون، من الهندوس والسيخ الذين خَسِرَوا كل شيء في المجازر التي وقعت. كانت تملؤهم مشاعر انتقامية، سعى غاندي إلى احتوائها؛ إذ خشي أن تسفر عن عنف انتقامي ضد المسلمين الذين اختاروا البقاء في الهند.

وقبل أسبوعين على اليوم المحدد للاستقلال، غادر المهاتما دلهي. قضى أربعة أيام في كشمير ثم استقلَّ القطار إلى كلكتا؛ حيث لم تكن نيران الشغب قد خبت بعد مرور عام على اشتعالها. وعصر يوم ١٣ أغسطس، استقرَّ في منطقة بيليجاتا ذات الأغلبية المسلمة، في «بناية آيلة للسقوط مفتوحة من كل جانب للجماهير»؛ ليرى إن كان «بإمكانه المساهمة في رد مدينة كلكتا الرئيسية إلى صوابها».

وما كان على غاندي إلا أن يصوم ويصلي يوم ١٥ أغسطس. بحلول العصر، بلغته أنباء (نقلًا عن إحدى الصحف) عن «مظاهر أخُوَّة وبهجة تكاد تكون لا تُصدَّق» في بعض أكثر المناطق تضررًا بكلكتا؛ «فبينما شرع الهندوس في نصب أقواس النصر على مداخل الشوارع والحارات، وفي تزيينها بالخوص واللافتات والأعلام والرايات، لم يتوانَ أصحاب المحال والبيوت من المسلمين عن تزيين محلاتهم ومنازلهم بأعلام دومنيون الهند». وطاف الهندوس والمسلمون الشوارع في سيارات وشاحنات مفتوحة هاتفين بالشعار الوطني «تحيا الهند» الذي «استجابت له بسرعة وببهجة حشود كبيرة متآلفة اكتظَّت بها الشوارع من الطائفتين».10

ويبدو أن التقارير الواردة عن ذلك التآلف العفوي قد رفعت معنويات غاندي بعض الشيء، فقرر أن يلقي بيانًا ذاك اليوم، لا عبر إذاعة بي بي سي، وإنما عبر وسيلة الاتصال الأثيرة لديه، وهي: مجلس الصلاة. حضر حشد — يبلغ عدده ١٠ آلاف شخص، وفقًا لأحد التقارير، و٣٠ ألف شخص، وفقًا لتقرير آخر — ليستمع إلى حديثه في ساحة راش باجان ميدان في بيليجاتا. قال غاندي إنه يأمل أن تكون مظاهر الأخوَّة بين الهندوس والمسلمين ذلك اليوم «نابعة من القلب وليست وليدة اللحظة»؛ فكلا الطائفتين تجرَّعتا «سم القلاقل». والآن وقد تصالحتا، قد يبدو مذاق «رحيق الودِّ» أكثر حلاوة، ومَن يدري، لعل ذلك يسفر عن أن كلكتا «تتحرر إلى الأبد من أي أثر لفيروس الطائفية!»

كان السلام الذي عمَّ كلكتا يوم ١٥ أغسطس مبعث راحة، وكذلك دهشة؛ فقد ساد المدينة جوٌّ من التوتر في الأسابيع السابقة على الاستقلال. وفقًا لحكم التقسيم، قُسِّمت البنغال، وصار الجناح الشرقي تابعًا لباكستان بينما بَقِيَ القسم الغربي في الهند. وبطبيعة الحال أصبحت كلكتا — المدينة الأولى في تلك المقاطعة — موضع خلاف؛ فقد اختارت لجنة الحدود منحها للهند؛ مما أشعل مخاوف من نشوب العنف ليلة الاستقلال.

وعلى الناحية المقابلة من شبه القارة الهندية، ثارت المتاعب في عاصمة البنجاب، لاهور. وعلى غرار كلكتا، كانت تلك المدينة متعددة الأديان والثقافات، وكان بها العديد من المباني البديعة، أروعها مسجد بادشاهي، الذي بناه أورنجزيب؛ آخر أباطرة المغول العظام، ولكن لاهور كانت أيضًا عاصمة إمبراطورية سيخية يومًا ما، وصارت بعدها مركز حركة إصلاح هندوسية تُدعى أريا ساماج. وفي ذلك الحين — كسائر المدن في مقاطعة البنجاب — بات مصيرها في أيدي البريطانيين، الذين كانوا سيقسِّمون المقاطعة، فأُعلِن عن تقسيم البنغال قبل يوم ١٥، ولكن الإعلان عن قرار تقسيم البنجاب كان قد تأجل إلى ما بعد ذلك التاريخ، فهل تُمنَح لاهور والمناطق المجاورة لها للهند أم باكستان؟

بدا الخيار الثاني أرجح، وكذلك أكثر منطقية؛ إذ كان المسلمون أكبر طائفة في تلك المدينة. وبالفعل كان حاكم جديد قد عُيِّنَ لمقاطعة البنجاب الغربية الباكستانية الجديدة، وانتقل إلى مقر الحكومة في لاهور. ومساء يوم ١٥ أغسطس، أقام حفلًا بمناسبة شغله ذلك المنصب.

فيما بعد قال مسترجعًا ذكريات ذلك الحفل: لا شك أنَّ ذاك كان أسوأ حفل أُقيم على الإطلاق … فقد انقطع التيار الكهربائي ولم يكن ثمة مراوح ولا أضواء، وكان مصدر الضوء الوحيد المتاح لنا هو ألسنة اللهب المتصاعدة من مدينة لاهور المشتعلة على بُعد قرابة نصف ميل، وكان صوت الطلقات النارية يدوي في كل مكان حول الحديقة. ليس طلقات منفردة، وإنما وابل من الرصاص؛ فلم يدرِ أحد من يطلق النار على من، ولم يبالِ أحد بالسؤال.11

«لم يبالِ أحد بالسؤال.» ربما لم يبال أحد في حفل الحاكم، إلا أن المهاتما غاندي في بيليجاتا أعرب عن قلقه إزاء «استمرار ذلك الجنون في لاهور»؛ فمتى وكيف كان له أن ينتهي؟ ربما كان يمكن للمرء أن يأمل أن «يؤثِّر نموذج كلكتا النبيل — إن كان حقيقيًّا — على البنجاب وسائر بقاع الهند».

٣

بحلول شهر نوفمبر لعام ١٩٤٦، كان أكثر من ٥ آلاف شخص قد راحوا ضحية أحداث الشغب؛ إذ كما ورد في إحدى المذكرات العسكرية: «أحداث كلكتا انتُقِم منها في نواخالي، وأحداث نواخالي في بيهار، وأحداث بيهار في جارموك تِشوار، وأحداث جارموك تِشوار في …»12
في نهاية عام ١٩٤٦ كانت إحدى المقاطعات التي أفلتت من الشغب هي مقاطعة البنجاب؛ فقد تولَّى الاتحاديون حكمها، وهم ائتلاف من مُلاك الأراضي المسلمين والهندوس والسيخ، الذين أبقوا على سلام متقلِّب؛ إذ وقف أمامهم أعضاء العصبة الإسلامية المتشددين من جهة، وأعضاء الحزب السياسي السيخي أكالي دال، الذين لا يقلون عنهم تشدُّدًا من جهة أخرى. وبدءًا من شهر يناير، اندلعت نوبات عنف متقطِّعة في مدن البنجاب، وتسارعت وتيرة تلك النوبات بعد الأسبوع الأول من شهر مارس عندما أُطيح بالاتحاديين. بحلول شهر مايو، كان مركز العنف قد تحوَّل بلا ريب من شرق الهند إلى شمالها الغربي؛ فقد أفاد بيان مقدَّم إلى مجلس اللوردات بأن ٤٠١٤ شخصًا قُتِلوا في أحداث الشغب التي وقعت في الهند بين ١٨ نوفمبر ١٩٤٦ و١٨ مايو ١٩٤٧، منهم ٣٠٢٤ قُتِل في البنجاب وحدها.13

وقد كان ثمة أوجه تشابه ملحوظة بين البنغال والبنجاب، المقاطعتين الرئيسيتين في أحداث عامي ١٩٤٦ و١٩٤٧؛ فكلاهما تميَّز بأغلبية مسلمة؛ ومن ثم طالبت بهما باكستان، ولكن كليهما تضمن كذلك ملايين الهندوس. وما حدث كان أن قُسِّمت المقاطعتان؛ حيث آلت المناطق ذات الأغلبية المسلمة إلى باكستان الشرقية أو الغربية، بينما آلت المناطق التي غلبت عليها الطوائف الدينية الأخرى إلى الهند.

إلا أنه كان ثمة اختلافات جوهرية بين المقاطعتين المذكورتين أيضًا؛ فالبنغال كان لها تاريخ طويل من صراع كان داميًا في كثير من الأحيان بين الهندوس والمسلمين، يرجع إلى العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر على أقل تقدير. وفي المقابل، تعايشت مختلف الطوائف في البنجاب في سلام إلى حد ما، فلم تنشأ صدامات ذات بال بشأن قضايا دينية قبل عام ١٩٤٧. وفي البنغال، سعت قطاعات كبيرة من الطبقة الوسطى الهندوسية إلى التقسيم بحماس، فقد كانوا على أتمِّ استعداد لهجر المناطق ذات الأغلبية المسلمة، والاستقرار في عاصمة المقاطعة أو في المناطق المحيطة بها. ولعقود من الزمان، أخذ أصحاب المهن من الهندوس ينزحون إلى الغرب، بصحبة ملاك الأراضي الذين باعوا أراضيهم واستثمروا عوائدها في عقارات أو تجارة في كلكتا. وعلى النقيض منهم، كان أكثر الجماعة السكانية الهندوسية الكبيرة في البنجاب من التجار والمُقرضين وثيقي الصلة بطوائف الفلاحين، فلم يكونوا مستعدين للانتقال إلى مكان آخر، وظلُّوا آملين حتى النهاية في تفادي التقسيم بصورة أو بأخرى.

يتمثل الاختلاف الأخير — والأكثر دلالة — في تواجد السيخ في البنجاب؛ وهم العنصر الثالث في الصراع. كان ذلك العنصر الثالث غائبًا في البنغال؛ حيث دارت المعركة بين الهندوس والمسلمين فحسب. وعلى غرار المسلمين، كان السيخ يؤمنون بكتاب واحد، وإله واحد لا صورة له، وكانوا جماعة عقائدية مترابطة، إلا أنه من الناحية الاجتماعية، كان السيخ أقرب إلى الهندوس؛ فقد نشأت بينهم علاقة تزاوج وتزاوُر، وعانوا مثلهم الاضطهاد على يد المغول.

فلو اضْطُرَّ السيخ للاختيار، لكانوا انحازوا إلى صفِّ الهندوس، ولكنهم لم يرغبوا مطلقًا في الاختيار؛ فقد كان ثمة جماعات كبيرة من المزارعين السيخ على جانبي المقاطعة. وفي مطلع القرن العشرين، طلب البريطانيون من السيخ المقيمين في البنجاب الشرقية أن يستوطنوا مناطق في الغرب، كانت قد زُوِّدت حديثًا بشبكات ريٍّ؛ ففي غضون بضعة قرون كان السيخ قد بنَوا مستوطنات مزدهرة في «مستعمرات القنوات» تلك، فلماذا يتركونها الآن؟ وكانت مدينتهم المقدسة — أمريتسار — في الشرق، ولكن نانكانا صاحب (مسقط رأس مؤسس ديانتهم) كانت في الغرب، فلِمَ لا تُتاح لهم حرية الوصول إلى المكانين؟

خلافًا لهندوس البنغال، تأخَّر سيخ البنجاب في استيعاب معنى التقسيم وحقيقته؛ فقد أصرُّوا بعِندٍ في البداية على البقاء في محلهم، ثم إنهم — إذ ارتفع احتمال التقسيم — طالبوا بإقامة دولة مستقلة لهم، كانوا سيُطلقون عليها «خالستان». لم يأخذ أحد ذلك المطلب على محمل الجد، لا الهندوس ولا المسلمون ولا البريطانيون قطعًا.

أشار المؤرخ روبن جيفري إلى أنَّ السيخ — حتى أغسطس ١٩٤٧ على الأقل — كانوا «مغبونين أكثر منهم آثمين»؛ فقد «تخلى عنهم البريطانيون، وتحمَّلهم المؤتمر الوطني كَرهًا، وسخرت منهم العصبة الإسلامية، والأدهى من ذلك كله أنهم أحبطتهم إخفاقات قيادتهم السياسية ذاتها».14 فقد كان وضع السيخ الفريد (والمأساوي) هو أفضل تفسير لتسارع وتيرة العنف الديني وتركُّزه عند بلوغه البنجاب أخيرًا؛ فمن شهر مارس حتى شهر أغسطس، كان كل شهر أشد حرًّا ودمويةً من سابقه؛ فقد كان من سخرية القدر أن ألقت الطبيعة بثقلها على السياسة والتاريخ، إذ تأخرت الأمطار الموسمية إلى حدٍّ مفرط عام ١٩٤٧. ومثل الأمطار، تأخر صدور حكم التقسيم بدوره؛ مما فاقم مناخ الشكِّ المخيِّم على الأجواء.
عُهِد بمهمة تقسيم البنغال والبنجاب إلى قاضٍ بريطاني يُدعى السير سيريل رادكليف. لم يكن لديه معرفة سابقة بالهند، وهو ما اعْتُبِرَ ميزة، إلا أنه أُمهِل خمسة أسابيع فحسب لكي يتخذ قراره بشأن الخطوط التي سيرسمها في الشرق وفي الغرب على حد سواء؛ إذ كانت مهمة فائقة الصعوبة دون مبالغة. كان عليه — حسبما قال دبليو إتش أودن — أن يقسِّم أرضًا «بين طائفتين متعصبتين في اختلافهما؛ كلٌّ منهما لها مأكلها وآلهتها الخاصة بها»، بينما كانت «الخرائط المتاحة له … غير محدَّثة»، و«يكاد يكون من المؤكد أن قوائم التعداد غير صحيحة».15
وصل رادكليف إلى الهند في الأسبوع الأول من يوليو، وعُيِّن له أربعة مستشارين للبنجاب: مسلمان وهندوسي وسيخي. لكنهم إذ تنازعوا على كل أمر، فسرعان ما استغنى عنهم جميعًا، إلا أنه كتب إلى ابن أخيه أنه يعلم أن «لا أحد في الهند سيحبني لحكمي بشأن البنجاب والبنغال، وسيكون ثمة قرابة ٨٠ مليون شخص محمَّلين بالضغائن في إثري، ولا أريدهم أن يعثروا عليَّ».16
في أول أغسطس أُنشئت قوة حدود بنجابية للسيطرة على العنف. تزعَّم تلك القوة اللواء تي دابليو (بيت) ريس؛ وهو رجل ويلزي من أبيرجافيني. وعمل تحت إمرته أربعة مستشارين برتبة عميد: مسلمان وهندوسي وسيخي. تنبأ ريس في أول تقرير كتبه أن حكم الحدود «لن يرضي أحدًا تمام الرضا، بل إنه قد يثير سخط السيخ».17 قِيلَ هذا يوم ٧ أغسطس، ويوم ١٤ ذكر المشير السير كلود أوكينلِك؛ القائد الأعلى للجيش الهندي البريطاني أنَّ التأخير في إعلان حكم لجنة الحدود يخلِّف آثارًا مزعجة وضارة إلى أقصى حد. ندرك طبعًا أنَّ الإعلان قد يُذكي نار الفتنة، ولكن في غيابه تشيع أكثر الشائعات جموحًا على ألسن مثيري الشغب الذين يوجد الكثير منهم.18

ظلَّت الأمطار عصِيَّة، وبلغت الحرارة ١٠٠ درجة (فهرنهايت) في الظل. كان في ذلك مشقَّة على المسلمين بصفة خاصة — الجنود منهم والمدنيين — إذ صاموا من الفجر إلى الغروب في شهر رمضان، الذي امتدَّ ذلك العام ما بين ١٩ يوليو و١٦ أغسطس. وقد سأل ريس سائقه المسلم عن سبب شحِّ الأمطار؛ فأجابه: «الله أيضًا غير راضٍ عنَّا.»

أُعلِن قرار التقسيم أخيرًا يوم ١٦ أغسطس، فأثار سخط المسلمين الذين كانوا يرون أن منطقة جورداسبور كان ينبغي أن تُخَصَّص لباكستان لا الهند، وكان السيخ أكثر غضبًا منهم؛ إذْ صارت مدينة نانكانا صاحب المحببة إليهم معزولة في دولة إسلامية. تصاعدت وتيرة الأعمال الوحشية على جانبي الحدود؛ ففي البنجاب الشرقية راحت عصابات مسلَّحة من السيخ تطوف أنحاء الريف وتفتِّش عن المسلمين وتذبحهم أينما وجدتهم؛ ففرَّ من استطاع منهم عبر الحدود إلى البنجاب الغربية، حتى يضيفوا إلى حلقة القصاص والانتقام. تدفَّق المسلمون من أمريتسار وما حولها إلى الملاذ الآمن (بالنسبة إليهم) المتمثل في لاهور. وإنَّ «قصص هؤلاء اللاجئين — النازعة إلى التعظيم والتهويل في المبالغة — تستند بالفعل إلى حقائق قاسية، ولديهم قدر وافر من الأطراف المبتورة وما إلى ذلك التي يمكنهم عرضها — ويعرضونها بالفعل — على إخوانهم المسلمين في لاهور وغربها».

طبقًا للأرقام التي ذكرها ريس نفسه، فإنَّ أعداد ضحايا أحداث البنجاب من المدنيين من مارس إلى نهاية يوليو تُقدَّر بنحو ٤٥٠٠ قتيل، و٢٥٠٠ مُصاب. لكن في شهر أغسطس وحده، بلغ عدد القتلى حسب التقارير الرسمية للقوات ١٥ ألف قتيل، وأقرَّ ريس بأنَّ الرقم الفعلي «كان — على الأرجح — ضِعف هذا الرقم أو ثلاثة أمثاله».

وقد انتاب رئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو قلق بالغ إزاء أحداث الشغب التي كانت تمرُّ بها البنجاب وتبعاتها على نطاق أوسع؛ ففي آخر أسبوعين من شهر أغسطس، زار المقاطعة ثلاث مرات؛ حيث تحدث إلى أشخاص على الجانبين وقام برحلات جوية فوقها لاستطلاع الأمور. لم يظن نهرو أنه كان «ثمة خيار بين وحشية جانب أو آخر، فكلاهما عديم الإنسانية وهمجي بدرجة لا تُصدَّق».19 وكان التعبير الذي استخدمه ريس نفسه لوصف تلك الوحشية هو أنها «ترجع إلى ما قبل العصور الوسطى». والحقيقة أنها كانت تليق بالعصور الوسطى والعصور الحديثة أيضًا؛ فالأسلحة التي استخدمها المشاغبون «تنوَّعت من الفأس والرمح والهراوة إلى أحدث البنادق الرشاشة والمدافع الآلية الخفيفة».
ويوم ٢ سبتمبر، حُلَّت قوة الحدود البنجابية. لم تكن فعَّالة للغاية على أي حال. فقد كانت مشكلة ازدواجية السلطة تعيق عملها؛ إذ كان عليها أن ترفع تقاريرها لمسئولين مدنيين في ظل القانون العسكري. ومع رحيل قوة الحدود البنجابية، عُهِد إلى حكومتي الهند وباكستان بمسئولية الحفاظ على القانون والنظام. استمرَّ الشغب، وكذلك استمر النزوح على الجانبين، فكانت البنجاب الغربية تُطهَّر من الهندوس والسيخ، وتُخلَى البنجاب الشرقية من المسلمين. وقد وصف مراسل صحيفة «سواتنترا» — صحيفة أسبوعية مرموقة مقرها مدراس — في البنجاب التعادل القاسي للعنف؛ فكتب أنه رأى:

قطارًا خاليًا خاصًّا للاجئين يدخل محطة فيروزبور متأخرًا عصر يوم. كان السائق قد طار صوابه هلعًا؛ إذ كان الحارس مسجًّى على الأرض قتيلًا في عربته، بينما كان الوقَّاد مفقودًا. سرت على طول رصيف القطار، ووجدت عربات القطار كلها عدا عربتين ملطَّخةً بالدماء بأكملها، وكان ثمة ثلاث جثث راقدة وسط بركٍ من الدماء في إحدى عربات الدرجة الثالثة؛ فقد أوقفت مجموعة من المسلمين المسلحين القطار بين لاهور وفيروزبور وقامت بتلك المجزرة المكتملة الأركان في وَضَح النهار.

وثمة مشهد آخر من المستَبعَد أنْ أنساه بسهولة: قافلة من اللاجئين المسلمين طولها خمسة أميال تعبر جسر سوتليج ببطء بالغٍ لتصل إلى باكستان. كان فيها عربات تجرُّها الثيران مكدَّسة بمنقولات مثيرة للشفقة، وسيقت المواشي إلى جوارها. وسارت النساء يحملن أطفالهن الرضع بين أذرعهنَّ وصناديق صفيح صغيرة تعسة على رءوسهن؛ فقد ارتحل عشرون ألف رجل وامرأة وطفل إلى أرض الميعاد، ليس لأنها أرض الميعاد، وإنما لأن عصابات الهندوس والسيخ في ولاية فريدكوت ومن داخل منطقة فيروزبور قطَّعوا مئات المسلمين إربًا، وأحالوا حياة الباقين جحيمًا.20
كان ثمة عشرة ملايين لاجئٍ مرتحلٍ؛ على الأقدام وعلى عربات تجرُّها الثيران وبالقطار، وسافروا أحيانًا تحت حراسة الجيش، وأحيانًا أخرى واضعين ثقتهم في القدر وفي أربابهم. وقد حلَّق جواهر لال نهرو فوق قافلة لاجئين تضمنت ١٠٠ ألف شخص وامتدَّت مسافة عشرة أميال. كانت القافلة مسافرة من جالاندر إلى لاهور، وكان عليها أن تجتاز أمريتسار؛ حيث كان ثمة ٧٠ ألف لاجئ من البنجاب الغربية «في حالة هياج»، فاقترح نهرو شق طريق بالجرَّافات حول المدينة حتى لا يلتقي الجانبان.21
كان تلك بلا شك أكبر عملية نزوح جماعي حدثت في التاريخ. «لم يحدث على مرِّ التاريخ المعروف أنْ نُقِلت تلك الملايين كلها في غضون بضعة أيام قليلة هكذا.» فقد كتب أحد شهود العيان أنَّهم فروا:
في القيظ والمطر والفيضان وبرد البنجاب القارص. وقد امتدَّت سحب الغبار المتخلِّفة عن القوافل على ارتفاع منخفض عبر السهول الهندية، وامتزجت برائحة الخوف والعرق، والفضلات البشرية، والجثث المتعفنة. وعندما انقشعت سحابة الكراهية، نُودِيَت أسماء الموتى وترددت أصداء خمسمائة ألف اسم في أرجاء الأراضي المذهولة؛ فمنهم من قُتِلَ متأثِّرًا بجراح ناتجة عن طلقات نارية، أو طعنات سيف أو خنجر أو سكين، وآخرون ماتوا من جرَّاء الأمراض الوبائية. وبينما لَقِيَ العدد الأكبر حتفهم من جراء العنف، فقد كان ثمة أرواح رقيقة منهكة تطلَّعت إلى حدائقها المنهوبة ثم وقعت على الأرض وفارقت الحياة؛ فما جدوى الحياة عندما يتوقف العقل ويجمح الرجال؟ لماذا تنتزع طفلك من على وتد أو تجذب حبيبك من بئر عكر؟22
وقد تفاقمت الأزمة في المقاطعة بسبب الانحياز الحزبي الملحوظ لدى السير فرانسيس مودي، حاكم البنجاب الغربية؛ فقد كان «متصلِّبًا في معاداته لحزب المؤتمر الوطني». ظنَّ مودي أنه «قادر على الحكم بشخصه، فأحبط مساعي وزرائه، لا سيما فيما يتعلق برأب الصدع بين البنجاب الغربية والبنجاب الشرقية، ومن ثَمَّ بين باكستان والهند». والمؤسِف أنَّه لم يكن ثمة سياسي باكستاني على استعداد للتصدي للتعصب الديني؛ فأيًّا كان ما ظنُّوه في قرارة أنفسهم، فقد كانوا متحرِّجين من التحدُّث علنًا. أما عن الحاكم العام الجديد لباكستان — محمد علي جناح — فقد كان مقره مدينة كراتشي الساحلية (عاصمة البلاد)، ولم «يزر لاهور إلا من وراء ستار وتحت حراسة مشددة». كان في ذلك الوَجَل تناقض صارخ مع دفاع السياسيَّينِ الهنديَّيْنِ البارزينِ الباسل عن الأقليات لديهما. وقد كتب مراقب بريطاني فعلًا أنَّ «أسهُم نهرو وغاندي ارتفعت إلى حد غير مسبوق لدى المسلمين في البنجاب الغربية».23
وفي ذلك الوقت، اشتعل الوضع في البنغال مجددًا. وردت تقارير عن أحداث شغب جديدة في نواخالي. وفي كلكتا ذاتها خُرِق السلام في منطقة بيليجاتا التي استقر فيها غاندي؛ فهناك اعتدى مسلمون على شاب هندوسي يوم ٣١ أغسطس. تبع ذلك عنف انتقامي وانتشر. وبحلول الغروب في ١ سبتمبر كان ثمة ما يربو عن خمسين قتيلًا. تلك الليلة قرَّر غاندي الصيام، فسأله أحد أصدقائه: «ولكن كيف يمكنك أن تصوم في مواجهة عصابات إجرامية؟» فجاء رد غاندي — حسب شاهد عيان — كالآتي: «أعلم أني سأتمكن من التعامل مع مشكلة البنجاب أيضًا إذا تمكَّنت من وضع أزمة كلكتا تحت السيطرة، ولكنني إذا فقدت هِمَّتي الآن قد تنتشر الفتنة كالنار في الهشيم. أستطيع أن أرى بوضوح قوتين أجنبيتين أو ثلاثًا ستأتي إلينا، مما سيقضي على حلم الاستقلال الوليد.» فرد عليه صديقه قائلًا: «ولكن إن متَّ، فسيزداد الحريق اشتعالًا.» قال له غاندي: «على الأقل لن أكون حاضرًا لأشهده. وسأكون قد قمتُ بواجبي.»24

بدأ غاندي الصيام يوم ٢ سبتمبر، وبحلول اليوم التالي توافدت إليه عصابات الهندوس والمسلمين وسلَّموا أسلحتهم، وخرجت مسيرات مختلَطة داعية إلى الوِفاق الطائفي في أجزاء مختلفة من المدينة، وأكَّد وفد من الساسة البارزين — الممثلين لحزب المؤتمر الوطني والعصبة الإسلامية والمنظمة الهندوسية ذات النفوذ المحلي هندو ماهاسابها — لغاندي أنَّ الشغب سيتوقف. وحينها أنهى المهاتما صيامه، الذي دام ثلاثة أيام.

دام السلام، مما حدا باللورد ماونتباتن إلى الإدلاء بتعليقه الشهير الذي قال فيه إنَّ رجلًا واحدًا أعزل من السلاح كان أكثر فاعلية من ٥٠ ألف رجل في البنجاب. لكن الثناء الذي وجهته صحيفة «ستيتسمان» — صحيفة بريطانية مقرُّها كلكتا لطالما عارضت غاندي وسياساته — إلى غاندي ربما حَظِيَ بالقدر ذاته من الإعزاز لدى غاندي ومعجبيه؛ إذ ورد فيه أنه لسنوات طويلة عجزنا عن الاتفاق على استخدام الصيام كأداة سياسية مع أشهر ممارسيها … ولكن على مدى تاريخ مهني طويل، لم يسبق قط — في نظرنا — أن صام المهاتما غاندي من أجل قضية أبسط وأجدر من تلك، ولا قضية أُعِدَّت لمخاطبة الضمير العام بمثل تلك الفاعلية الفورية.25
يوم ٧ سبتمبر غادر غاندي إلى دلهي، بعد أن قضى أربعة أسابيع في بيليجاتا. كان يأمل في المضي قدمًا إلى البنجاب، إلا أنه لدى بلوغه العاصمة استوقفته على الفور قصص القلاقل والسَّلْب. كان المسلمون في دلهي خائفين؛ فقد كان الهجوم متزايدًا على ديارهم ودور عبادتهم، وقيل لغاندي إن ما لا يقل عن ١٣٧ مسجدًا دُمِّر في الأسابيع الأخيرة. كما أن اللاجئين الهندوسيين والسيخ احتلوا منازل المسلمين قسرًا. وقد أفاد أحد موظفي الإغاثة التابعين لجمعية الأصدقاء الدينية (الكويكرز) بأن «سكان دلهي المسلمين من جميع الطبقات — موظفي الخدمة المدنية ورجال الأعمال والحرفيين وسائقي عربات الخيول والحمَّالين — فروا إلى عدد من الحصون الطبيعية»، مثل القلعة القديمة، وهو الحصن الكبير ذو الأسوار العالية في وسط المدينة، ومقبرة الإمبراطور المغولي همايون. في القلعة القديمة وحدها كان ثمة ٦٠ ألف لاجئ مكدَّسين في الخيام «في أركان الشرفات وفي العراء إلى جانب الجِمال وعربات الخيول والأمهار، وسيارات الأجرة القديمة المتهالكة، وسيارات الليموزين الفارهة خاصتهم».26
وقتها علَّق غاندي برنامجه في البنجاب، وطَفِقَ يزور المخيَّمات في العاصمة وخارجها. وفي السهول المحيطة بدلهي كان ثمة جماعة من المزارعين الذين يعرفون باسم الميو ديانتهم الإسلام، ولكنهم تبنَّوا كثيرًا من ممارسات جيرانهم الهندوس وطقوسهم، وفي خِضَمِّ الجنون السائد آنذاك صار ذلك الانسجام العقائدي طيَّ النسيان، فقُتل آلافٌ منهم أو أُخرجوا من ديارهم، سواء كانوا في أراضٍ هندية أم في مدينتي ألوار وبهاراتبور.27
وقد كتب دي جي تندولكار؛ مدوِّن سيرة غاندي، أن غاندي خلال شهري سبتمبر وأكتوبر «طاف بالمستشفيات ومخيمات اللاجئين مواسيًا المنكوبين، وناشد السيخ والهندوس والمسلمين أن ينسوا الماضي، وألا يُمعِنوا التفكير في معاناتهم، وإنما أنْ يتآخَوا ويعتزموا العيش في سلام … وتوسَّل إليهم جميعًا أن يرسوا السلام بسرعة في دلهي، حتى يتمكن من المُضيِّ قُدمًا إلى البنجاب الشرقية والبنجاب الغربية». وقال غاندي «إنه ماضٍ إلى البنجاب حتى يدفع المسلمين إلى تصحيح الخطأ الذي يُقال إنهم اقترفوه هناك في حق الهندوس والسيخ. ولكن لم يكن له أن يأمُل في النجاح ما لم يضمن إنصاف المسلمين في دلهي».28
وقد تحدث غاندي أيضًا في أحد معسكرات منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج؛ تلك المنظمة التي أسسها طبيب من مهاراشترا عام ١٩٢٥، وكانت هيئة مترابطة متحمسة من شباب الهندوس. كان غاندي معجبًا بانضباطهم وغياب حسِّ الطوائف الاجتماعية لديهم، وإنْ لم يعجبه عداؤهم للديانات الأخرى؛ فأخبر أعضاء المنظمة أنه «إنْ شعر الهندوس بأنَّه لا مكان لسواهم في الهند، وأنَّ غير الهندوس — لا سيما المسلمين — إنْ أرادوا العيش هناك فعليهم أن يعيشوا عبيدًا للهندوس، فستكون تلك طعنة في مقتل للهندوسية». فقد كان غاندي يرى أنَّ المنظمة كانت «كيانًا حسن التنظيم والانضباط»، إلا أنه أخبر أعضاءها أنَّ «قوتها يمكن أن تُستَخدَم إما في صالح الهند وإما ضدها؛ فهو لم يدرِ ما إذا كان ثمة جانب من الصواب في الاتهامات [بالتحريض على الكراهية الطائفية] الموجَّهة إلى المنظمة، ومن مصلحة المنظمة أنْ تظهر من خلال سلوكها المتَّسق أنَّ تلك الاتهامات عارية من الصحة».29
وخلافًا لغاندي، لم يكن جواهر لال نهرو ميالًا إلى إحسان النِّيَّة بتلك المنظمة الهندوسية؛ فقد قال لوزير داخليته فالابهاي باتيل: «يبدو واضحًا لي أن منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج اضطلعت بدور كبير في الاضْطِرابات السائدة، ليس في دلهي فحسب، وإنما في سائر الأنحاء؛ ففي أمريتسار كان نشاطها واضحًا وضوح الشمس.» نبعت مشاعر نهرو تجاه المنظمة من مخاوفه الأعمق إزاء الوضع الطائفي، فقد رأى أنه «ثمة محاولة حسنة التنظيم لا شك فيها من عناصر فاشية سيخية وهندوسية بعينها للإحاطة بالحكومة، أو على الأقل تفتيت قوامها الحالي، فقد تخطى الأمر حد الاضْطِرابات الطائفية؛ فقد كان كثير من هؤلاء الناس قساة عتاة إلى أقصى حد، وتصرَّفوا كإرهابيين خالصين».30
وكان ثمة داعٍ أكبر للقلق؛ إذ عمل أولئك المتعصِّبون في «مناخ مؤات فيما يتعلَّق بالرأي العام»؛ ففي دلهي بالذات، كان اللاجئون الهندوس والسيخ من باكستان متعطِّشين للدماء. لكن رئيس الوزراء أصرَّ على أن تكون الهند مكانًا يمكن للمسلمين أن يعيشوا ويعملوا فيه بحرية. وقد كتب رجل إنجليزي من الموظَّفين التابعين للحاكم العام في مذكراته يقول: مشاهدة نهرو عن كثب في تلك المحنة تجربة ملهمة؛ فهو يؤكد إيمان المرء بالإنسانية والعقل المتحضر، إذ يكاد يقف وحيدًا في غمار الطائفية بكل صورها، من دسائس الأفراد إلى الجنون الجماعي؛ فهو يتحدث بصوت المنطق والخير.31
استجابةً لمبادرة غاندي ونهرو، مرر حزب المؤتمر الوطني قرارًا بشأن «حقوق الأقليات»؛ فالحزب لم يقبل قط «نظرية الدولتين»، وإذ اضْطُرَّ رغمًا عن إرادته إلى قَبول التقسيم، كان ما زال مقتنعًا بأن «الهند أرض ديانات وأعراق متعددة، ولا بد أن تظل هكذا»، وأن أيًّا كان الوضع في باكستان، ستكون الهند «دولة علمانية ديمقراطية يتمتع فيها المواطنون جميعًا بحقوق كاملة، وكلهم سواسية في تمتعهم بحق حماية الدولة، بصرف النظر عن الديانة التي يعتنقونها». وودَّ حزب المؤتمر أنْ «يطمئن الأقليات في الهند إلى أنَّه سيستمر في حماية حقوقهم كمواطنين من الاعتداء عليها بكل ما أوتِي من قوة».32
إلا أن منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج كانت متشككة بقوة إزاء وجهة النظر تلك. كان زعيمها رجلًا نحيفًا ملتحيًا تخرَّج في كليَّة العلوم يُدعى إم إس جُلوالكَر، وكان معارضًا بشدة لفكرة الدولة العلمانية التي لا تميِّز بين المواطنين على أساس الدين؛ ففي الهند التي يتصورها:
يجب على غير الهندوس في الهند إما أن يتبنَّوا الثقافة واللغة الهندوسية، ويتعلموا الديانة الهندوسية ويحترموها ويوقِّروها، ولا يخطر ببالهم سوى إجلال العِرق والثقافة الهندوسيين … باختصار لا بد أن يكُفُّوا عن التصرف كأجانب، وإما أن يبقوا في البلاد في ظل تبعية تامة للأمة الهندوسية دون مطالبة بشيء، ولا استحقاق لامتيازات، وبالتأكيد دون أي معاملة تفضيلية ولا حتى حقوق مواطنة.33
وفي يوم الأحد ٧ ديسمبر ١٩٤٧، نظَّمت منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج مسيرة حاشدة بساحة رامليلا في قلب دلهي. ألقى إم إس جلوالكَر الخطاب الرئيسي. وحسب صحيفة «هندوستان تايمز»، فقد نفى جلوالكَر أنَّ منظمته تستهدف إقامة حكم هندوسي، ولكنه أصرَّ على التالي: «إننا نبتغي وَحدة المجتمع الهندوسي. وبوضع ذلك الهدف السامي نُصْب أعيننا، ستمضي المنظمة قدمًا دون التفات لأي سلطة أو شخص.»34

السلطات التي قصدها كانت حزب المؤتمر وحكومة الهند. أما الأشخاص فنهرو وغاندي، اللذان شعر اللاجئون المتعاطفون مع منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج بمشاعر عدائية قوية تجاههما، وكانت اجتماعات غاندي تتعطَّل بسبب لاجئين معترضين على تلاوة آيات من القرآن، أو آخرين هتفوا بشعارات تتساءل عن سبب عدم حديثه عن معاناة الهندوس والسيخ الذين ما زالوا يعيشون في باكستان. الحقيقة أنَّ غاندي — كما كتب تندولكار — «كان منشغلًا بالقدر ذاته بمعاناة الأقلية في باكستان، وودَّ لو أمكنه الذهاب لنجدتهم، ولكن كيف يتجرَّأ على الذهاب هناك الآن، في حين أنه لا يستطيع أن يكفل الإنصاف الكامل للمسلمين في دلهي؟»

مع استمرار الهجمات على المسلمين، قرَّر غاندي أن يلجأ إلى الصيام مجددًا؛ فبدأ صيامه يوم ١٣ يناير، موجِّهًا إياه إلى ثلاث جهات مختلفة: أول جهة كانت شعب الهند؛ فإليه أشار ببساطة أنه إذا كان لا يؤمن بنظرية الدولتين، فعليه أن يُثبِت في عاصمته المختارة — «المدينة الخالدة» دلهي — أنَّ الهندوس والمسلمين يمكن أن يتعايشوا في سلام وأُخوَّة. أما الجهة الثانية فكانت حكومة باكستان، فقد سألها: «إلى متى يمكنني أن أركن إلى صبر الهندوس والسيخ، على الرغم من صيامي؟ على باكستان أن تضع حدًّا لذلك الوضع» (أي، إخراج الأقليات من أرضهم).

وأخيرًا وجَّه غاندي صيامه إلى حكومة الهند؛ فقد احتجزت حصة باكستان من «تسوية الاسترليني» التي كانت بريطانيا تدين بها للدومنيونين؛ وهو دَين تحمَّلته مقابل إسهامات الهند إبَّان الحرب العالمية الثانية. كانت التسوية قدرها ٥٥٠ مليون روبية، وهو مبلغ لا بأس به؛ فرفضت نيودلهي الإفراج عن النقود؛ لأنها كانت غاضبة من باكستان إثر محاولتها الأخيرة الاستيلاء على ولاية كشمير. رأى غاندي أن ذلك تصرُّف كيدي لا داعِ له؛ لذا اشترط منح باكستان المال المُستحَق لها لإنهاء صومه.

قررت حكومة الهند ليلة ١٥ يناير أن تفرج عن الأموال المستحَقة لحكومة باكستان، وفي اليوم التالي وقَّع أكثر من ألف لاجئ إقرارًا مفاده أنهم سيرحبون برجوع المسلمين المهجَّرين من دلهي، ويسمحون لهم بالعودة إلى ديارهم، ولكنَّ غاندي كان يرغب في ضمانات أكثر موثوقية. في ذلك الوقت، راحت صحته تتدهور بسرعة، فبدأ يعاني فشلًا كُلَويًّا، وانخفض وزنه، وصار الغثيان والصداع ملازمين له. أصدر الأطباء تحذيرًا قائلين: «من واجبنا أن نخبر الناس أن يتخذوا خطوات فورية لاستيفاء الشروط اللازمة لإنهاء الصوم دون إبطاء.»

وفي ١٧ يناير تشكَّلت لجنة سلام مركزية بقيادة رئيس الجمعية التأسيسية راجندرا براساد، وتضمنت أعضاءً آخرين من حزب المؤتمر، كما تضمَّنت ممثلين عن منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج وجمعية العلماء وهيئات سيخية. وصبيحة يوم ١٨ يناير حملوا إقرارًا مشتركًا لغاندي أرضاه بما يكفي لكسر صيامه؛ فقد تعهد ذلك الإقرار بالآتي: «إننا سوف نحمي حياة المسلمين وممتلكاتهم ودينهم، ولن تتكرر الأحداث التي وقعت في دلهي ثانيةً.»35

فهل ستتكرر «معجزة كلكتا» في دلهي؟ بدا أن قادة الجماعات المتشددة قد هدأت حِدَّتهم إثر صيام غاندي، إلا أن أتباعهم ظلوا عدائيين. في زيارات سابقة لدلهي، أقام غاندي في حي الكنَّاسين، إلا أنه نزل تلك المرة في دار أحد محبيه وهو المليونير جي دي بيرلا. وحتى أثناء صيامه، كانت جماعات من اللاجئين تمر من أمام منزل بيرلا هاتفة: «دعوا غاندي يموت.» ثم ألقى لاجئ من البنجاب يُدعى مادان لال قنبلة يوم ٢٠ يناير على غاندي داخل منزل بيرلا بينما كان يقود الناس في مجلس صلاة، فانفجرت القنبلة على مسافة قريبة منه، ولحسن الحظ لم يُصَب أحد بأذًى.

لم تنل محاولة قتل غاندي من عزيمته؛ إذ ظل يجتمع بالناس، واجتمع أيضًا مع اللاجئين الغاضبين. ويوم ٢٦ يناير تحدَّث أثناء مجلس الصلاة عن أنَّ ذلك اليوم كان يُحتَفَل به في الماضي كعيد الاستقلال، والآن أتت الحرية، ولكن الأشهر القليلة الأولى فيها جاءت مخيِّبة للآمال بشدة، إلا أنه كان يثق بأن «المرحلة الأسوأ قد ولَّت»، وأنَّ الهنود سيعملون معًا على تحقيق «المساواة بين الطبقات والعقائد كافة، لا لسيادة الأغلبية وتفوقها على الأقلية أبدًا، مهما كانت ضآلة الأقلية، سواء من حيث العدد أو النفوذ». وقد سمح لنفسه أيضًا بأن يأمل «أنه على الرغم من انقسام الهند جغرافيًّا وسياسيًّا إلى شطرين، فسنكون دائمًا في قلبنا أصدقاء وإخوة يساعد أحدنا الآخر ويحترمه، ونبقى متحدين أمام العالم الخارجي».

كان غاندي قد كافح طيلة حياته من أجل حرية الهند ووحدتها، إلا أنه في النهاية استطاع أنْ ينظر إلى تقسيمها بتجرد وهدوء، ولكن كان ثمة أشخاص آخرون أقل تسامحًا؛ ففي مساء يوم ٣٠ يناير أطلق عليه شاب الرصاص أثناء مجلس الصلاة اليومي فأرداه قتيلًا. كان القاتل — الذي سلَّم نفسه بعدها — برهميًّا من بونا يُدعى ناثورام جودسي. أُحيل إلى المحاكمة وحُكِم عليه بالإعدام فيما بعدُ، ولكن ليس قبل أن يُلقي خطابًا مميزًا مبرِّرًا فعلته؛ فقد ادَّعى جودسي أنَّ مبعث الاستفزاز الرئيسي بالنسبة إليه من المهاتما كان «مداومته وإصراره على استرضاء المسلمين»، والذي «قد بلغ أوجه في صيامه الأخير من أجل المسلمين، مما أوصلني إلى أنه لا بد من الإنهاء الفوري لوجود غاندي».36

٤

جلب موته فيضانًا جارفًا من الأسى؛ فأشاد بذكراه ألبرت أينشتاين — الذي طالما اعتبره أعظم شخصية في القرن العشرين — بكلمات تهز المشاعر، وكذلك أشاد بذكراه جورج أورويل — الذي كان يعتبر غاندي دجالًا يومًا، ولكنه بات يراه قديسًا. وصدر عن جورج برنارد شو ردُّ فعلٍ أرعن خليق به؛ إذ قال: «هذا دليل على مدى خطورة أن يكون المرء صالحًا»، وآخر دنيء من محمد علي جناح خليق به؛ إذ قال إن وفاة خصمه القديم خسارة بالنسبة إلى «المجتمع الهندوسي» فحسب.

إلا أن أهم ردَّيْ فعل معلَنَيْن صدرا عن أبرز — بل أقوى — تابعين لغاندي، وهما: فالابهاي باتيل وجواهر لال نهرو؛ فباتيل الذي كان آنذاك وزير داخلية الحكومة الهندية، كان جوجاراتي كغاندي وانضم إلى صفه منذ عام ١٩١٨، وكان منظِّمًا وواضع استراتيجيات ممتاز، واضطلع بدور رئيسي في جعل المؤتمر الوطني حزبًا قوميًّا. وفي مجلس الوزراء الهندي، كان هو الرجل الثاني مباشرةً بعد رئيس الوزراء جواهر لال نهرو. كان نهرو قد انضمَّ لغاندي بعد باتيل بعامين، وكان يستطيع محادثته بلغتين فقط من لغاته الثلاث (الهندية والإنجليزية)، إلا أنه جمعته به رابطة عاطفية عميقة، ومِثل باتيل كان يطلق على غاندي عادةً «بابو»؛ أي، «أبي»، ولكنه كان الابن الأثير من عدة نواحٍ (أعزَّ بكثير من أبناء المهاتما الفعليين الأربعة)، وكان أيضًا وريثه السياسي المختار.

في ذلك الحين — إذ عصفت القلاقل المدنية بالهند — أخبر الرجلان الأُمَّة أنه على الرغم من رحيل المُعلِّم، فرسالته باقية. وقد ناشد باتيل الناس، في حديثه على إذاعة «أُول إنديا راديو»، بعد مقتل غاندي مباشرةً، ألا يفكروا في الانتقام، وإنما «أن يحملوا رسالة المحبة ونبذ العنف التي أطلقها المهاتما. وإنه لمن دواعي خجلنا أنَّ أعظم رجل في العالم اضْطُرَّ إلى أن يدفع حياته ثمنًا لآثام اقترفتها أيدينا. إننا لم نُطِعه في حياته؛ فدعونا نسير على خطاه الآن بعد مماته على الأقل».37 أما نهرو فقال بعد نثر رماد غاندي في نهر الجانج في الله أباد: «لقد دفعنا ثمنًا باهظًا حتى نعِيَ الدرس، فهل بيننا الآن من لن يتعهد بعد وفاة غاندي بإتمام رسالته …؟» وأضاف نهرو أنَّه صار على الهنود الآن «أن يتحدوا ويحاربوا سُمَّ الطائفية القاتل الذي أودى بحياة أعظم رجال زمننا».38

دعا نهرو وباتيل، على حد سواء، إلى الوحدة والتسامح، ولكن الرجلين في واقع الأمر كانا قد دخلا في خلاف مرير في الآونة الأخيرة؛ ففي الأسبوعين الأخيرين من ديسمبر كان نهرو قد خطَّط لزيارة بلدة أجمير التي ثار فيها الشغب، وفي اللحظة الأخيرة ألغى رحلته وأرسل سكرتيره الخاص عوضًا عنه، فشعر باتيل بإهانة بالغة؛ إذ قد شعر أنه بما أن وزارة الداخلية أرسلت فريق تحقيق خاص إلى أجمير، فقد دلَّت رحلة مرءوس رئيس الوزراء على عدم ثقته في وزارة الداخلية. أوضح نهرو أنه اضْطُرَّ إلى إلغاء زيارته نظرًا لحدوث حالة وفاة في العائلة؛ ولذا أرسل سكرتيره حتى لا يخيب أمل من توقَّعوا مجيئه بالأساس، ولكنه على أي حال، كان يحق له بصفته رئيس الحكومة أن يذهب أينما شاء وقتما شاء، أو أن يرسل أحدًا آخر ينوب عنه، فردَّ باتيل قائلًا إنه في النظام البرلماني لا يعدو رئيس الوزراء أن يكون الأول بين أنداد؛ فهو ليس أعلى من زملائه الوزراء ولا يسيطر عليهم.

ازداد الجدل احتدامًا يومًا بعد يوم، وفي إحدى اللحظات عرض الرجلان أن يقدما استقالتهما، ثم اتُّفِق على أن يعرضا وجهتيْ نظرهما أمام غاندي. قبل أن يتسنَّى تحديد موعد مناسب بدأ المهاتما صيامه الأخير. وفي الأسبوع التالي كان باتيل مسافرًا خارج دلهي، ولكن المسألة كانت ملِحَّة على فكره، كما كانت ملِحَّة على فكر نهرو. وبالفعل، التقى غاندي باتيل يوم ٣٠ يناير قبيل مجلس الصلاة المصيري ذاك، وطلب أن يسوِّيَا خلافاتهما هو ونهرو، وقال أيضًا إنه يود الاجتماع بهما في اليوم التالي.

بعد مرور ثلاثة أيام على اغتيال غاندي، كتب نهرو رسالة إلى باتيل جاء فيها أنه «بوفاة بابو تغير كل شيء، وعلينا أن نواجه عالمًا مختلفًا أكثر صعوبة. لم تعد للخلافات القديمة أهمية، ويبدو لي أن الحاجة الملحة في الوقت الحالي تتمثل في عملنا معًا بأكبر قدر ممكن من القرب والتعاون». فرد باتيل قائلًا: «أبادلك من كل قلبي المشاعر التي أعربتَ عنها بإخلاص … فقد أحزنتني الأحداث الأخيرة بالغ الحزن، وقد كتبت إلى بابو … مناشدًا إيَّاه إعفائي من مهامي، ولكن وفاته غيَّرت كل شيء، ولا بد أن توقظنا الأزمة التي ألمَّت بنا على إدراك جديد لمقدار ما أنجزناه معًا، والحاجة إلى بذلنا مزيدًا من الجهود المتضافرة لصالح بلدنا المفجوع.»39

لم يفلح غاندي في التوفيق بين الهندوس والمسلمين في حياته، ولكنه وفَّق — بسبب مماته — بين جواهر لال نهرو وفالابهاي باتيل. كان ذلك صلحًا ذا أهمية كبيرة بالنسبة إلى الدولة الجديدة الفائقة الهشاشة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤