الفصل الثاني عشر

تأمين وضع كشمير

هل نؤمن بدولة قومية تضُمُّ أُناسًا من كافة الأديان وضروب الرأي وتقوم على أسس علمانية … أم أننا نؤمن بالتصوُّر الديني الثيوقراطي للدولة الذي يعتبر أصحاب الديانات الأخرى خارج النطاق المشمول برعايتها؟ هذا سؤال عجيب؛ إذْ إنَّ العالم تخلَّى عن فكرة الدولة الدينية أو الثيوقراطية منذ بضعة قرونٍ مضت ولم تَعُدْ تحتلُّ مكانًا في مخيِّلة إنسان العصر الحديث. إلا أنَّه لا بد من طرح هذا السؤال في الهند اليوم؛ لأنَّ كثيرين منَّا حاولوا العودة إلى عهدٍ بائد.

جواهر لال نهرو

١

كان إصلاح قوانين الأحوال الشخصية أحد الاختبارات التي خضعت لها العلمانية الهندية. وتمثَّل اختبار آخر أعظم فيما يتعلق بمستقبل كشمير؛ فهل يمكن لولايةٍ ذات أغلبية مسلمةٍ أنْ توجد — دون لغطٍ أو خلافٍ مفرط — في إطار دولة الهند ذات الأغلبية الهندوسية، وإن كانت «علمانية» على ما يبدو؟

كما رأينا في الفصل الرابع، بحلول عام ١٩٤٩ كان الشيخ عبد الله متحكِّمًا تمامًا في مقاليد جامو وكشمير. إلا أنَّ وضع ذلك الإقليم ظلَّ محل خلاف؛ فدعت الأمم المتحدة إلى إجراء استفتاءٍ شعبي، وحاولت إقناع الهند وباكستان باستيفاء الشروط اللازمة لإجرائه.

ففي فبراير من عام ١٩٥٠، طلب مجلس الأمن إلى البلدين سحب جيشيهما من الولاية. وكما سبق، عمد الطرفان إلى المماطلة؛ فقد طلبت الهند سحب باكستان لقواتها أولًا، بينما طالبت باكستان بإقالة حكومة حزب المؤتمر الوطني الكشميري من منصبها. كانت الهند قد بدأت تندم على رفع المسألة إلى الأمم المتحدة من الأساس. وبحلول عام ١٩٥٠ كانت مستعدةً إلى حدٍّ بعيد للتشبُّث بالجزء التابع لها من الولاية، والسماح لباكستان بأخذ الجزء الخلفي. كان دستور الهند — الذي دخل حيِّز النفاذ في يناير ١٩٥٠ — يعتبر كشمير جزءًا لا يتجزَّأ من الاتحاد الهندي. إلا أنَّه منح الولاية ضمانًا بقدرٍ من الاستقلال؛ ومن ثَمَّ نصَّت المادة ٣٧٠ على تشاور الرئيس مع حكومة الولاية في المسائل غير المتعلقة بالدفاع والشئون الخارجية والاتصالات.1
أما عن باكستان، فقد رأى ساستها أنَّ مطلبهم لا يستلزم توثيقًا بواسطة تصويتٍ شعبي؛ ففي سبتمبر ١٩٥٠، أصرَّ رئيس وزراء سابق على أنَّ «تحرير كشمير مُعتقَد جوهري لدى كل باكستاني … وستظلُّ باكستان غير مكتملةٍ حتى تتحرَّر كشمير كاملةً». وبعد أسبوعين علَّق رئيس الوزراء الذي كان في الخدمة آنذاك قائلًا: «بالنسبة إلى باكستان، تُمثِّل كشمير ضرورة حيوية، أما الهند فتُمثِّل لها مغامرة إمبريالية.»2

وعلى جانبَي الحدود، ردَّدت وسائل الإعلام موقف الحكومة وأسهبت فيه؛ ففي صيف عام ١٩٥٠، زار المذيع البريطاني ليونيل فيلدن شبه القارة الهندية. وبصفته رئيسًا سابقًا لإذاعة «أُول إنديا راديو»، كان لفيلدن أصدقاء كُثُر في كلٍّ من الهند وباكستان؛ فبزيارتهم وحديثه أيضًا مع أصدقائهم، وجد أنَّه على جانبَي الحدود الدولية بين البلدين، «يطارَد الزائر بوابلٍ من الحجج والخطب الرنَّانة الرامية إلى إثبات ليس خطأ البلد الآخر فحسب، بل أيضًا إمعانه في الخطأ إلى حدٍّ شيطانيٍّ ومؤذٍ». وأشار إلى أنَّ «لهجة الإعلام الهندي تنزع إلى الاستعلاء إلى حدٍّ ما، والمنطق المعسول، وإنْ كانت لا تخلو من العِند وبعض الاعتداد الزائد بالنفس عن وعي». وفي المقابل، «تنزع لهجة الإعلام الباكستاني والزعماء الباكستانيين نحو الامتعاض والغطرسة والعدوانية في بعض الأحيان». وقد تفاقمت النزعة العدائية لباكستان إثر التَّخَوُّف من أن ترغب القوى المؤثرة في الهند في إعادة غزو أرضها وإعادة استيعابها في «هند واحدة» متحدة.

لخَّص فيلدن وجهتَي النظر في الآتي: «تريد الهند بتمسُّكها بكشمير إضعاف عملية التقسيم، بينما ترغب باكستان بمطالبتها في تأمين تلك العملية.» وفيما يتعلق بمسألة كشمير، كان موقف الطرفين جامدًا تمامًا. ومن ثَمَّ فقد كان «القتال حتى الرمق الأخير من أجل كشمير شعار الباكستانيين جميعًا، وثَمَّةَ اتجاه متسارع لأن يصبح عدم التخلي عن كشمير هو الفكرة الثابتة في الهند».

وأنهى فيلدن تحليله بتحذير؛ فأشار إلى أنه على المدى البعيد، «أهم شيء» فيما يتعلق بنزاع كشمير هو «تكلفة التسليح الذي يسعى إليه كل من البلدَين؛ فهذا معناه إعاقة الخدمات الاجتماعية في البلدَين على حدٍّ سواء، وبما أن البلدين يحويان — إلى جانب اللاجئين إليهما — ملايين من أفقر الشعوب في العالم، فمن اليسير أن نرى كيف يمكن أن يُفضيَ ذلك الوضع إلى كارثة».3
كانت الأمم المتحدة قد حاولت حل النزاع وفشلت؛ فهل يمكن لطرفٍ ثالثٍ النجاح؟ في يناير ١٩٥١، في اجتماعٍ انعقد في مقر الحكومة البريطانية، اقترح رئيس الوزراء الأسترالي السير روبرت منزيس إجراء استفتاءٍ شعبيٍّ تحت رعاية دول الكومنولث. وقد بدا رئيس الوزراء البريطاني كليمنت أتلي محبِّذًا للفكرة. ولكنَّ نهرو قال إنَّ أي تسويةٍ لا بد أن تحظى بقَبول حكومة الولاية ممثَّلة في الشيخ عبد الله، وهي الحكومة التي وصفها رئيس الوزراء الباكستاني مستهزئًا بأنها «دُمًى يعيِّنها نهرو ويمكن أنْ يُغيِّرها في أي وقت». فردَّ نهرو مشيرًا إلى أنَّ «الإعلام الباكستاني حافل بتلك المناشدات الدينية والدعوات إلى الجهاد؛ فإذا كان هذا هو ما سوف يحدث أثناء الاستفتاء الشعبي، فلن يكون ذلك استفتاءً شعبيًّا وإنما قلاقل مدنية، ليس في كشمير فحسب، بل في سائر أنحاء الهند وباكستان أيضًا».4

٢

في عام ١٩٥٠، اتَّخذت خرائط حكومة الهند ولاية جامو وكشمير بأكملها جزءًا من أراضيها. وقد استند زعم نيودلهي بأحقيَّتها في الولاية كلها إلى حقيقة أنَّه في أكتوبر من عام ١٩٤٧ كان المهراجا هاري سينج قد وقَّع وثيقة انضمام إلى الهند. وفي الوقت نفسه استند زعمها بأحقيتها في الجزء الذي تسيطر عليه بالفعل إلى المشاعر العلمانية للشيخ محمد عبد الله.

كان عبد الله معارضًا لباكستان، ولكن هل كان مؤيدًا للهند؟ كان ذلك سؤالًا لم يأتِ الرجل نفسه بجواب مباشر عنه. ويمكن تبيُّن تردُّده ذاك في سلسلةٍ من الخطابات الساخطة التي كتبها نهرو لشقيقته فيجايا لاكشمي بانديت، وفيما يأتي مقتطفات منها:

(١٠ مايو ١٩٥٠): يؤسفني أن أقول إنَّ الشيخ عبد الله يتصرَّف بأسلوبٍ غير مسئولٍ بالمرة. أصعب شيءٍ في الحياة هو أن يحدِّد المرء كيف يتعامل مع أصدقائه.

(١٨ يوليو ١٩٥٠): في الوقت نفسه، فإنَّ إدارة الشيخ عبد الله في كشمير سيئة للغاية فيما يتعلق بالشئون الداخلية، ويبدو أنَّه عازم على ضمان الدخول في نزاعٍ معنا؛ فهو يعمل مع الأشخاص الخاطئين هناك ويجري تضليله.

(١٠ أغسطس ١٩٥٠): لقد اقتنع الشيخ عبد الله إلى حدٍّ ما وهو في مزاجٍ ذهنيٍّ أكثر مطاوعة. وإني لأتساءل إلى متى سيظل الوضع على تلك الحال؛ فثَمَّةَ قوًى كثيرة جدًّا تعمل في كشمير، تجذبها في اتجاهات متباينة.5
كانت نبرة التشكك الظاهرة في ذلك الخطاب الأخير مُبرَّرة، إذ إنَّ عبد الله سرعان ما عاد إلى التصرُّف ﺑ «أسلوب غير مسئول بالمرة»؛ أي، إنه بدأ يفكِّر في سُبُلٍ لفصل كشمير عن الهند. وفي يوم ٢٩ سبتمبر ١٩٥٠ التقى عبد الله السفير الأمريكي لوي هندرسون. وأثناء مناقشة مستقبل كشمير، قال لهندرسون:
إنَّه يرى أنَّها ينبغي أنْ تكون مستقلة؛ فالغالبية العظمى من السكان ترغب في الاستقلال، وأنه ثَمَّةَ أسباب تدفعه لاعتقاد أنَّ بعض زعماء حكومة آزاد كشمير يرغبون في الاستقلال ومستعدون للتعاون مع زعماء حزب المؤتمر الوطني الكشميري إنْ كان ثَمَّةَ فرصة لا بأس بها في أن يسفر ذلك التعاون عن الاستقلال. وقد عجز أهل كشمير عن فهم سبب إصرار الأمم المتحدة على إغفال الاستقلال حلًّا محتملًا لمسألة كشمير؛ فأهل كشمير يمتلكون خلفيتهم اللغوية والثقافية الخاصة؛ فالهندوس فيها يختلفون عن الهندوس في الهند اختلافًا شاسعًا من حيث العادات والتقاليد، وخلفية مسلميها مختلفة عن خلفية مسلمي باكستان. والحقيقة أنَّ سكان كشمير كانوا متجانسين رغم وجود الأقليَّة الهندوسية.6

ثم مضى عبد الله سائلًا السفير الأمريكي عمَّا إذا كانت الولايات المتحدة من شأنها أن تساند كشمير إذا استقلَّت. ولكن للأسف، ليس في السجلات المنشورة لوزارة الخارجية الأمريكية ما يُطلعنا على ماهية الإجابة التي حصل عليها؛ فهل سبق للولايات المتحدة أنْ فكَّرت جديًّا في دعم كشمير كدولةٍ تابعة لها، علمًا بأنَّ موقعها يمكن أنْ يكون ذا أهميةٍ هائلةٍ في المعركة ضد الشيوعية؟

حتى الآن، لا نعرف إجابة هذا السؤال. ويبدو أنَّ عبد الله آنذاك لم يكن يعرف أيضًا؛ فحينذاك عاد يطرق باب حكومة الهند، ليتفاوض معها على شروط منح كشمير الحكم الذاتي؛ فتقرَّر أنْ تحظى الولاية بجمعية تأسيسية خاصة بها، لتضع اللمسات الأخيرة على شروط ارتباطها بالهند. وفي يناير ١٩٥١، كتب عبد الله خطابًا إلى وزير الولايات يخبره أنَّه — حسب فهمه — سوف تناقش الجمعية التأسيسية لجامو وكشمير «مسألة انضمام الولاية للاتحاد، ومسألة الاحتفاظ بالحاكم أو إقالته من منصب الرئيس الدستوري للولاية، ومسألة صياغة دستور للولاية يتضمَّن مسألة تحديد نطاق ولاية الاتحاد على الولاية». وأضاف أنَّ تلك الجمعية التأسيسية سوف «تتَّخِذ قراراتٍ بشأن جميع القضايا الواردة أعلاه»، وهي قرارات لا بد أن تتعامل معها حكومة الهند باعتبارها «مُلزِمة لجميع الأطراف المعنية». كان في ذلك تلميح إلى أنَّه حتى مسألة انضمام كشمير إلى الهند لم تكن مسألة نهائية. ومثلما ذكر الوزراء المنزعجون في هامش الخطاب، فتأويل الشيخ عبد الله «ربما تجاوز ما قلناه».7
افترض الشيخ — كالمعتاد — أنه يتحدَّث بلسان ولاية جامو وكشمير بأكملها. وفي الحقيقة، ففي حين أنَّه كان لا يزال محل توقيرٍ في الوادي، فقد أخذت شعبيته تنخفض إلى حدٍّ بعيد فيما بين الهندوس في منطقة جامو، الذين كانوا متلهِّفين إلى الإسراع بضمِّ جزئهم من الولاية إلى الاتحاد الهندي. وفي عام ١٩٤٩، تشكَّل حزب براجا باريشاد (حزب الشعب) لتمثيل مصالح هندوس جامو، بقيادة السياسي المحنَّك الذي كان في السبعين من عمره، بريم نات دوجرا. وكما هو خليق به، فقد وصف الشيخ المعارضين في جامو مستهزئًا بأنهم «قوًى رجعية».8
وفي أكتوبر ١٩٥١، أُجْرِيَت انتخابات من أجل جمعية كشمير التأسيسية. قرر حزب براجا باريشاد الترشُّح، ولكن في مرحلةٍ مبكرةٍ لم تُقبل أوراق ترشح عدد كبير من مرشحيه؛ فقرَّر الحزب مقاطعة الانتخابات احتجاجًا على ذلك. وربح حزب المؤتمر بقيادة عبد الله المقاعد الخمسة والسبعين كلها؛ حيث رَبِحَ جميع مرشحي حزب المؤتمر الوطني كلهم، عدا ثلاثة مقاعد، بالتزكية.9

امتدَّ الخطاب الافتتاحي للشيخ عبد الله في الجمعية التأسيسية تسعين دقيقة كاملة. وبالقراءة من نصٍّ مطبوعٍ باللغة الإنجليزية، ناقش الشيخ الخيارات المطروحة أمام شعب كشمير، واحدًا واحدًا. كان الخيار الأول هو الانضمام إلى باكستان، الدولة الدينية «الحافلة بأصحاب الأطيان» و«الإقطاعية». والخيار الثاني كان هو الانضمام إلى الهند، التي ربط بينها وبين الولاية «تَقارُب في المُثُل»، وحكومتها «لم تحاول قط التدخل في حكمنا الذاتي الداخلي». لا بد من الإقرار بأنَّه «كان ثَمَّةَ ميول تُوطِّد أقدامها في الهند يمكن أنْ تُحوِّلها في المستقبل إلى دولةٍ دينيةٍ تتعرَّض فيها مصالح المسلمين للخطر». وفي المقابل، من شأن «استمرار ضَمِّ كشمير إلى الهند» أنْ يُعزِّز التناغم بين الهندوس والمسلمين، ويُهمِّش القوى الطائفية. وقال الشيخ: «غاندي لم يخطئ، عندما تلفَّظ بكلماتٍ قبل وفاته قال فيها ما معناه: «أرفع عينيَّ إلى التلال، التي يأتي منها العون».»

وفي النهاية وصل عبد الله إلى «خيار أن نجعل من أنفسنا سويسرا شرقية، وننأى بأنفسنا عن البلدين على حدٍّ سواء، مع الاحتفاظ بعلاقات ودية مع كلٍّ منهما». كان ذلك خيارًا جذَّابًا ولكنه لم يبدُ عمليًّا؛ فكيف كان يمكن لبلدٍ صغيرٍ غير ساحليٍّ أن يصون سيادته؟ ومثلما ذكَّر الشيخ جمهوره، كانت كشمير ذات يوم «مستقلة» عن كلٍّ من الهند وباكستان، فيما بين ١٥ أغسطس و٢٢ أكتوبر ١٩٤٧. ثم دمَّر الغزو القبلي استقلالها؛ فماذا كانت الضمانة على أنَّ كشمير ذات السيادة «لن تقع ضحية اعتداءٍ مماثل؟»10

ومن ثَمَّ رفض الشيخ خيار الاستقلال باعتباره خيارًا غير عملي، وخيار الانضمام إلى باكستان باعتباره خيارًا غير أخلاقي؛ فقد رأى أنه حريٌّ بكشمير الانضمام إلى الهند، ولكن وفق شروطٍ من اختيارها. تضمَّنت تلك الشروط الاحتفاظ بعَلَم الولاية وتعيين رئيس حكومتها رئيسًا لوزرائها. إلا أنَّ أيًّا من هذين الشرطين لم يكن مقبولًا لدى حزب براجا باريشاد في جامو، الذي طالب بالاندماج الكامل في الهند، وكان قد تبنَّى شعار «دستور واحد، رئيس واحد، عَلَم واحد».

وفي يناير ١٩٥٢، قُبَيل الموعد المُزمَع لحديث عبد الله في بلدة جامو، تظاهر طلاب هندوس احتجاجًا على رفع علم حزب المؤتمر الوطني إلى جوار العلم الهندي الثلاثي الألوان؛ فقُبِضَ عليهم، وطُرِدوا من كلِّيتهم فيما بعد؛ مما أثار تعاطف زملائهم، وأسفر عن مسيرةٍ إلى أمانة الولاية، حيث اقتحم المتظاهرون المكاتب وراحوا يحطِّمون الأثاث ويحرقون السجلات. وكان رد فعل الشرطة صارمًا؛ إذ فرضت حظر تجوُّل مدته اثنتان وسبعون ساعة، وقَبضت على مئاتٍ من أعضاء حزب براجا باريشاد. وكان ممن سُجِنوا أيضًا قائد الحزب المُسِنُّ — بريم نات دوجرا — رغم أنه لم يشارك بنفسه في التظاهرات.

وخوفًا من ردة فعلٍ هندوسيةٍ عنيفةٍ في جميع أنحاء البلاد، أقنعت الحكومة في دلهي حكومة كشمير بإطلاق سراح زعماء حزب براجا باريشاد؛ فوافق عبد الله، ولكن على مضض. وفي يوم ١٠ أبريل ألقى خطابًا قال فيه إنَّ حزبه سوف يقبل دستور الهند «كاملًا ما إنْ نتحقق من أنَّ مسامير نعش الطائفية قد دُقَّت أخيرًا». وأضاف بوجوم: «هذا ما لم نتأكَّد منه بعد.» وقال الشيخ إنَّ الكشميريين «يخشَوْن مما قد يحدث لهم ولوضعهم، مثلًا، إذا حدث شيء للبانديت نهرو».11

كان التوقيت والمكان اللذان أُلقِي فيهما خطاب عبد الله مُهِمَّين؛ فقد ألقاه في بلدة رانبير سينج بورا، التي تبعد أربعة أميالٍ فقط عن الحدود مع باكستان. كذلك كانت الهند قد خرجت لتوِّها من انتخاباتٍ عامةٍ بدت نصرًا لجواهر لال نهرو وسياساته. تردَّدت أصداء الخطاب على نطاقٍ واسع، وتسبَّب في انزعاجٍ كبير؛ فما بال الرجل الذي كثيرًا ما كان يصدر مذكِّرات يشيد فيها بالهند لعلمانيتها صار متشكِّكًا فجأة هكذا؟

تزامن تغيُّر رأي الشيخ مع زيارة الصحفي البريطاني إيان ستيفنز لكشمير. كان ستيفنز — محرِّر صحيفة «ستيتسمان» في كلكتا أثناء اضْطِرابات ١٩٤٦-١٩٤٧ — معروفًا بدعمه القوي لباكستان. كان يرى أنَّ وادي كشمير بأغلبيته السكانية المسلمة ينبغي أن ينتميَ إلى ذلك البلد. إلا أنَّه كان مُدركًا لمشكلات زعيمه. كان قد أجرى محادثاتٍ مطوَّلةً مع الشيخ عبد الله، الذي رأى فيه «رجلًا مِقدامًا متنوِّرًا، يدافع عن مبادئَ حميدةٍ في حد ذاتها، ضحية — مثل كثيرين منَّا — لتغيُّرات عام ١٩٤٧ الفريدة في نطاقها وسرعتها وما أحدثته من اضْطِراب، ويتبوَّأ حاليًّا منصبًا ربما كان متفرِّدًا فيما ينطوي عليه من وَحدة وحيرة». وقد كان نظام عبد الله يستند إلى «حِراب هندية، أي حِراب هندوسية بالأساس». ومن المُسلَّم به أنَّه «كان نظامًا جيِّدًا من نواحٍ عدة؛ إذ كان نظامًا نشِطًا، مليئًا بالأفكار، وحازمًا في معاداته للطائفية، وتقدُّميًّا للغاية في مجال الإصلاح الزراعي». ولكن ستيفنز اختتم حديثه مستدرِكًا: «ولكنه قد يبدو نظامًا شاذًّا في نظر التاريخ.»12

٣

في وقتٍ ما كان عبد الله رجل نهرو في كشمير، ولكن بحلول صيف عام ١٩٥٢، كان الأقرب إلى الصحيح هو أنَّ نهرو كان رجل عبد الله في الهند؛ فقد أفصح الشيخ عبد الله عن رأيه المتمثِّل في أنَّ رئيس الوزراء هو الشيء الوحيد الذي يقف بين الهند والنصر النهائي للنزعة الطائفية الهندوسية.

وفي ذلك الوقت، استمرَّت النقاشات المعنية بوضع كشمير تحديدًا في مواجهة الاتحاد الهندي. وفي يوليو، التقى الشيخ عبد الله نهرو في دلهي، وكذلك عقد مجموعة من الاجتماعات مع وزراء آخرين؛ فتوصَّلوا إلى تسويةٍ عُرِفت باسم «اتفاقية دلهي»، اكتسب الكشميريون بموجبها صفة المواطَنة الهندية الكاملة، مقابل درجة استقلالٍ أكبر كثيرًا من التي تمتَّعت بها الولايات الأخرى في اتحاد الهند؛ ومن ثَمَّ تقرَّر رفع عَلَم الولاية الجديد (الذي صمَّمه حزب المؤتمر الوطني الكشميري) إلى جانب العَلَم الوطني «لأسباب تاريخية وغيرها من الأسباب». ولم تسمح الاتفاقية لدلهي بإرسال قواتٍ لاحتواء «الاضْطِرابات الداخلية» دون موافقة سريناجار. وعلى الرغم من أنَّه فيما يخصُّ الولايات الأخرى كانت السلطات المتبقية (من القوائم الثلاث لتوزيع السلطات بين الولايات والدولة) تُمنَح للحكومة المركزية، في حالة كشمير ظلَّت تلك السلطات تحت سيطرة الولاية. ومن المهم أنَّها حظرت على غير سكان الولاية شراء أراضٍ أو عقاراتٍ داخلها. وكان ذلك التدبير يستهدف إحباط محاولات تغيير النمط السكاني للوادي عن طريق الهجرة إليه على نطاقٍ واسع.13
كانت تلك تنازلاتٍ عظيمة، إلا أنَّ الشيخ عبد الله ظلَّ يضغط للحصول على المزيد من السلطات؛ ففي خطابٍ شديدِ اللهجة ألقاه في الجمعية التأسيسية لولاية جامو وكشمير، قال إنَّ الولاية وحدها هي التي يمكن أنْ تُقرِّر السلطات التي سوف تتنازل عنها لاتحاد الهند، أو نطاق ولاية المحكمة الهندية العليا على كشمير. ثم إنَّه أخبر يوفراج كاران سينج — رئيس الولاية الرسمي — أنَّه إنْ لم يساير تلك الرؤية فسوف يسلك مسلَك أبيه، هاري سينج. وقال الشيخ عبد الله إنَّ الأمير الشاب يجب أن «يقطع صلاته بالعناصر الرجعية» ويتوحَّد عوضًا عن ذلك مع «مسَرَّات الرجل العادي وأحزانه». وذلك لأنه «إذا كان متوهِّمًا أنَّه يمكنه أنْ يحتفظ بمنصبه بمساعدة أعوانه القلائل، فهو مخطئ».14

كانت «العناصر الرجعية» التي أشار إليها الشيخ عبد الله هي هندوس جامو؛ فقد كانوا قد استأنفوا ثورتهم، حاملين شعارًا معدَّلًا أخَّاذًا كسابقه، مفاده: «دستوران، رئيسان، عَلَمان؛ لن نقبل بذلك في دولة واحدة، لن نقبل.» وازدادت وتيرة المظاهرات والمسيرات، وكذلك الصدامات مع الشرطة. ومرةً أخرى بدأت سجون جامو تمتلئ بمتطوِّعي حزب براجا باريشاد.

احتفظ الهندوس في جامو بتعلُّقٍ عميقٍ بالأسرة الحاكمة، وبالمهراجا هاري سينج على وجه الخصوص؛ فقد كانوا ممتعضين من تنحيته من منصبه، ومستائين من ابنه لكونه «خائنًا» إذ رضي بالحلول محله. إلا أنَّ تَخَوُّفاتهم كان جزءٌ منها اقتصاديًّا؛ إذ كانوا يخشَوْن أنَّ الإصلاحات الزراعية التي طُبِّقت حديثًا في وادي كشمير سوف يُعاد تطبيقها في جامو؛ ففي الوادي، كانت الأراضي الزائدة عن الحد المفروض قد انتُزِعَت من يد مُلَّاكها. وبما أنَّ ذلك الحد كان ثابتًا عند اثنين وعشرين فدَّانًا للأسرة الواحدة، فقد كانت خسائر ملاك الأراضي كبيرة. مُنِحَت معظم الأراضي التي صادرتها الدولة إلى الفلَّاحين المنتمين المتوسطي الحال، في حين لم تنتفع طبقة العمال الزراعيين بالقدر ذاته. ولكن رغم ذلك كانت الإصلاحات الزراعية هناك قد تجاوزت مثيلاتها في سائر أنحاء الهند وفاقتها نجاحًا.15
وفي الواقع، جميع كبار المُلَّاك الزراعيين في الوادي تقريبًا كانوا هندوسيين؛ مما أضفى صِبغة دينية مؤسفة على ما كان في الأصل مشروعًا لإعادة التوزيع الاشتراكية. ربما كان ذلك أمرًا محتمًا؛ فعلى الرغم من صِدق العلمانية التي زعم الشيخ عبد الله اعتناقها، فهي لم يكن من الممكن أن تُلغيَ موروثات التاريخ؛ فيومًا ما كانت تلك الولاية يحكمها آل دوجرا من جامو، الذين كانوا هندوسًا، ثم صار يحكمها حزب المؤتمر الكشميري الذي يقع مقره في الوادي، والذي كان زعيمه ومعظم أعضائه مسلمين.16

٤

خلال الأعوام ١٩٥٠–١٩٥٢، بينما كانت بقية الهند آخذةً في التعرُّف على دستورها الجديد وتجري انتخاباتها الأولى، كانت ولاية جامو وكشمير تعاني عدم اليقين على جبهتين؛ أولًا: العلاقات غير المستقرة بين الولاية واتحاد الهند. وثانيًا: الصراع المتنامي بين الأغلبية المسلمة في وادي كشمير ومنطقة جامو التي كان يسيطر عليها الهندوس. كان ذلك موقفًا مثاليًّا لأيِّ سياسيٍّ يبحث عن قضية يتبنَّاها. وقد وُجِد مثل ذلك الشخص.

كان ذاك هو الدكتور شياما براساد موكرجي، الذي حوَّل معركة آل دوجرا في جامو إلى معركته الخاصة. كان الدكتور موكرجي قد ترك وزارة جواهر لال نهرو لكي يؤسِّس حزب بهاراتيا جانا سانج ويتولَّى رئاسته. كان أداء حزبه الجديد ضعيفًا في الانتخابات العامة لعام ١٩٥٢؛ إذ لم يُنتَخَب في البرلمان سوى ثلاثة من أعضائه؛ فجاءت متاعب كشمير في الوقت المناسب للدكتور موكرجي وحزبه جانا سانج؛ فقد مثَّلت فرصة لرفع معنويات الكوادر المحبطة، ونسيان خيبة الأمل التي أسفرت عنها الانتخابات، وإعادة تقديم الحزب من أجل المرحلة القومية.

بدأ موكرجي هجومه في البرلمان، بسلسلةٍ من الهجمات الشرسة على الحكومة؛ حيث سأل ساخرًا: «من نصَّب الشيخ عبد الله ملك الملوك في كشمير؟» على ما يبدو كان الشيخ عبد الله قد قال إنَّ الكشميريين سوف يُعامِلون العَلَم الإقليمي والعلم القومي «على قدم المساواة»؛ فقال موكرجي إنَّ ذلك يُبدي «ولاءً مُقَسَّمًا» غير مقبولٍ في بلد ذي سيادة. وحتى إنْ كان الوادي يرغب في انضمامٍ محدود، فلا بد من السماح لجامو ومنطقة لاداخ البوذية بانضمامٍ كاملٍ إن كانت تلك رغبتهما. ولكن الحل الأفضل سيظلُّ هو جعْلَ الولاية كلها جزءًا من الهند، دون امتيازاتٍ خاصة؛ فهذا من شأنه أن يمنحها المكانة ذاتها كسائر الولايات الأميرية، التي وافقت في النهاية على الخضوع لأحكام الدستور الهندي كاملةً، رغم الوعود بالحكم الذاتي التي قُطِعَت لها في البداية. عبد الله نفسه كان عضوًا في الجمعية التأسيسية الهندية، إلا أنَّه كان «يطلب معاملة خاصة. ألم يوافق على القَبول بهذا الدستور فيما يتعلق ببقية الهند، بما في ذلك الولايات البالغ عددها ٤٩٧ ولاية؟ إذا كان ذلك ملائمًا لها جميعًا، فلِمَ لا يلائمه في كشمير؟»17
في خريف عام ١٩٥٢، زار موكرجي جامو وألقى عدة خُطَبٍ دَعمًا لحركة براجا باريشاد؛ فقال إنَّ مطالبها «عادلة ووطنية»، ووعد بأن «يؤمِّن» لها دستور الهند. ثم ذهب بعد ذلك إلى سريناجار، حيث اجتمع بالشيخ عبد الله في لقاءٍ خلافي.18
تشجَّع آل دوجرا بالدعم الذي تلقَّوْه من حزبٍ قوميٍّ وزعيمٍ قومي. وفي نوفمبر ١٩٥٢، انتقلت حكومة الولاية إلى جامو لقضاء موسم الشتاء. وكان كاران سينج — بصفته رئيس الولاية — أول الوافدين. وبعد مرور سنوات، ذكر «الشعارات المُستهزِئة والعدائية» والأعلام السوداء التي استقبله بها حزب براجا باريشاد؛ فعلى الرغم من أنَّ «حزب المؤتمر الوطني الكشميري كان قد حاول إعداد استقبالٍ ما؛ فقد اكتسحته موجة العداء العميق من قِبل الجموع الموالية لآل دوجرا». وقد كتب إلى حكومة الهند مشيرًا إلى أنَّ «أغلبية كاسحة من مقاطعة جامو تبدو بالغة التعاطف مع تلك القلاقل … لا أظنه سيكون حكمًا صائبًا أن نغضَّ الطرف عن المسألة كلها باعتبارها صنيعة عُصبةٍ رجعية».19
كان ذلك بالطبع هو الحكم الذي كان الشيخ عبد الله ميَّالًا إلى إصداره. وخلال شتاء ١٩٥٢-١٩٥٣ ظلَّ حزب براجا باريشاد وحكومة الولاية في حالة صراعٍ محتدم؛ فراح المتظاهرون يُنزِلون عَلَم الولاية من على البنايات الحكومية، ويضعون علم الهند مكانه؛ فكانت الحكومة تَقبض عليهم، ولكن سرعان ما كان آخرون يأتون محلهم. وقد تلقَّت الحركة دَفعة هائلة عندما أطلقت الشرطة النار على ميلا رام، أحد أعضاء حزب باريشاد، بالقرب من الحدود الباكستانية؛ ففي جامو — على الأقل — كانت سُمعة عبد الله في الحضيض؛ إذ كان قد اكتسب شهرته من كونه ممثِّلًا للشعب في مواجهة حاكم مستبِد؛ فإذا به يتحوَّل هو نفسه إلى حاكم طاغية.20

في يناير، كتب موكرجي خطابًا طويلًا إلى جواهر لال نهرو أعرب فيه عن تأييده لحزب براجا باريشاد وكفاحه «البالغ الوطنية والمشحون بالمشاعر» في سبيل «الاندماج الكامل مع الهند». وأضاف تحدِّيًا غير مبرَّرٍ بخصوص «استعادة» الجزء المنتمي إلى ما كان سابقًا ولايةً موحَّدةً، والذي أصبح الآن تحت سيطرة باكستان. وسأل موكرجي: «كيف تنوي الهند استعادة تلك الأرض؟» وأردف: «لطالما تهرَّبت من الإجابة عن هذا السؤال. وقد آن الأوان لكي نعرف ما الذي تنوي فعله تحديدًا في هذا الشأن؛ فإنْ فشلنا في استرجاع تلك الرقعة المفقودة من أرضنا، فسيكون ذلك بمنزلة عارٍ ومذلَّةٍ قوميين.»

تجاهل نهرو ذلك التقريع الساخر. أما فيما يتعلق ببراجا باريشاد، فقد رأى نهرو أنَّه «يحاول تسوية مسألة دستورية بالغة الصعوبة والتعقيد بإعمال أساليب الحرب». أما الشيخ عبد الله (الذي كان موكرجي قد كتب له خطابًا منفصلًا) فكان أكثر جرأة؛ فحسب رأيه كان حزب «براجا باريشاد عازمًا على فرض حلٍّ لقضية كشمير بأكملها قائمٍ على أسسٍ طائفية».

ثم طلب موكرجي إلى نهرو وعبد الله إطلاق سراح قيادات حزب براجا باريشاد وعقد مؤتمر لمناقشة مستقبل كشمير. ومرةً أخرى تحدَّى موكرجي نهرو لدخول حربٍ مع باكستان. وألحَّ قائلًا: «لطالما تهرَّبت من تلك المسألة. رجاءً لا تُحوِّل الأنظار عن تلك القضية ودَع عامة الشعب الهندي يعلمون كيف ومتى سنسترد تلك الرقعة من أرضنا الغالية، إنْ كان لنا أنْ نسترِدَّها.»21

في النهاية وصلت المعاملات بينهما إلى طريقٍ مسدودٍ بدافع الكبرياء؛ فقد رأى نهرو أنَّ حزب باريشاد ينبغي أن يوقف نشاط الحركة أولًا، قبل أن تقبل الحكومة الدخول في محادثاتٍ معه، بينما كان موكرجي يريد أن تعرض الحكومة المحادثات، ثُم تستجيب الحركة بوقف معركتها؛ فعندما رفضت الحكومة أن تلين، قرَّر موكرجي النزول بالمسألة إلى شوارع دلهي. بدءًا من الأسبوع الأول من مارس، أعرب متطوِّعون من جانا سانج تأييدهم لمطالب براجا باريشاد، مخاطرين بالتعرُّض للاعتقال؛ فكان المتظاهرون يتجمَّعون خارج قسم الشرطة ويهتفون بشعاراتٍ معاديةٍ للحكومة ورئيس الوزراء، ويخالفون بذلك المادة ١٨٨ من قانون العقوبات الهندي.

نسَّق موكرجي حملة المقاومة من مكتبه في مقر البرلمان. وكان المشاركون ممن سمَّتْهم الشرطة «الأحزاب الطائفية الهندوسية»: جانا سانج وهندو ماهاسابها ورام راجيا باريشاد. وبحلول نهاية أبريل ١٩٥٣، كان ١٣٠٠ شخص قد قُبِضَ عليهم. وتشير التقارير الاستخباراتية إلى أنهم أتَوْا من جميع أنحاء الهند وكانت أغلبيتهم من الطوائف العليا: من طوائف البراهمة والأعيان (التهاكور) والتجار (البانيا).22
كان الصيف قد حلَّ، وهو موسم السياحة في الوادي. كان من أوائل الزوار الوافدين — في نهايات أبريل — السياسي الأمريكي أدلاي ستيفنسون. كان قد جاء إلى كشمير للإبحار في بحيرة دال ومشاهدة الثلوج، وكذلك بغية التقاء الشيخ عبد الله. وقد الْتقيا مرتين، لساعتين أو أكثر في كل مرة. لم يكشف أيٌّ من الطرفين فحوى تلك المحادثات، ولكنَّ بعض الهنود افترضوا أنها كانت تنحصر في مسألة الاستقلال. وزعمت صحيفة في بومباي معروفة بتأييدها الولايات المتحدة في غير تلك الواقعة أنَّ ستيفنسون طمأن عبد الله إلى نيله ما هو أكثر كثيرًا من مجرد الدعم المعنوي؛ فكان سيحصل على قرض قيمته ١٥ مليون دولار بمجرد أن تنال كشمير استقلالها، إلى جانب أن تكفل الولايات المتحدة أنْ «يستقرَّ في الوادي سكان دائمون يتألَّفون من ٥ آلاف أسرة أمريكية على أقل تقدير، وأن تمتلئ المنازل العائمة جميعها والفنادق بأقصى سعةٍ من النزلاء، وأنْ يشتريَ الأمريكيون جميع الأعمال الفنية والحِرَفية التي يصنعها الحِرَفيون الكشميريون المَهَرة، وأنَّه في غضون ثلاثة أعوامٍ ستصل الكهرباء إلى كل قريةٍ في كشمير، وهكذا».23
فيما بعد نفى ستيفنسون كونه شجَّع عبد الله على ذلك؛ فعندما قَدَّم الشيخ «في معرض الحديث اقتراح أن يكون الاستقلال حلًّا بديلًا». لاذ ستيفنسون بالصمت، وزعم أنه لم يُقدِّم «تشجيعًا ولو غير مباشر بخصوص الاستقلال، الذي لم يبدُ لي منطقيًّا … كنت أستمع، ولم أتكلَّم».24
إذًا فقد عادت خواطر الاستقلال تراود الشيخ عبد الله. ولكن استقلال ماذا؟ من المستبعَد أن يكون يقصد استقلال ولاية جامو وكشمير كاملةً؛ فجزء منها (الشمال) كان تحت سيطرة باكستان، وجزء آخر (جامو) كان نَهبًا لقلاقل طال أمدها. مكاتبات عبد الله نفسه غير متاحة للباحثين، كما أنَّه لم يتحدَّث عن ذلك الأمر في مذكِّراته، ولكن يمكننا أن نتكهَّن بقدرٍ من المصداقية بأنَّه كان يسعى لاستقلال الوادي بالتأكيد، والوادي وحده دون غيره، فذلك كان النطاق المشمول بسيطرته؛ إذ كان السكان يؤيدونه إلى حدٍّ بعيد، وكان ذاك هو المكان الذي يأتيه السائحون ويغذُّون أحلامه عن «سويسرا الشرق».25

٥

لم يمر وقت طويل على مجيء ستيفنسون حتى جاء سياسي آخر يسعى إلى الصيد في الماء العَكِر؛ ففي يوم ٨ مايو، استقلَّ الدكتور شياما براساد موكرجي قطارًا إلى جامو، في طريقه إلى سريناجار؛ فاستباقًا للمتاعب التي من الممكن أن يتسبَّب بها أصدرت حكومة الولاية قرارًا بمنعه من الدخول؛ فتجاهل موكرجي ذلك الأمر وعبر الحدود صباح يوم ١١ مايو. طلبت منه الشرطة أن يعود أدراجه، وعندما رفض، قبضت عليه ورحَّلته إلى سجن سريناجار.

قبل حركة براجا باريشاد، كان موكرجي طول عمره من أنصار الالتزام بالدستور؛ فقد كان نبيلًا بنغاليًّا من الفِكر القديم، يجد راحته في ارتداء الحلَّة وربطة العنق، واحتساء كأس من الويسكي. وطوال الفترة التي دامتها الحركة القومية كلها، لم يلجأ قط إلى حملات المقاومة ولا أمضى ليلةً واحدةً في الحبس. بل إنه طالما آمن — حسب كلام مدوِّن سيرته الذاتية — بأنَّ «الهيئات التشريعية هي المنتدى الوحيد المناسب للتعبير عن الآراء المتباينة حيال السياسات الحكومية»، وهو الاعتقاد الذي لم يتماشَ مع دعم موكرجي للتظاهرات التي نظَّمتها حركة براجا باريشاد. ثم إنَّه أصبح يُجيز التظاهرات في الشوارع ويقودها بنفسه.

فلِمَ لجأ موكرجي إلى أساليب لم تكن مألوفة لديه؟ لقد أخبر تابعه (ومدوِّن سيرته الذاتية في المستقبل) بلراج مادهوك أنَّه على قناعة بأنَّ تلك هي اللغة الوحيدة التي يفهمها رئيس الوزراء. وقال: «كان يشعر أنَّ البانديت نهرو، بصفته رجلًا مهيِّجًا للثورات طوال حياته، تكوَّنت لديه عقدة إزاء أساليب التهييج الثورية؛ فأصبح من الممكن أنْ يلين أمام القوة والثورات، ولكن ليس أمام الحق أو المنطق ما لم يدعمهما بأس.»26
وعندما أُودِعَ سجن سريناجار — أثناء صياغة الاتهامات الموجَّهة إليه — أمضى موكرجي وقته في قراءة الفلسفة الهندوسية ومكاتبة أصدقائه وأقربائه.27 ثم وقع فريسة المرض في بدايات شهر يونيو؛ فشعر بألمٍ في ساقيه مصحوبٍ بحُمَّى، وهو ما شخَّصه الأطباء بمرض التهاب الغشاء المحيط بالرئتين، ولكنه أُصيب بأزمةٍ قلبيةٍ يوم ٢٢ يونيو، وتُوُفِّيَ في اليوم التالي.28
في يوم ٢٤ يونيو، نقلت طائرة من القوات الجوية الهندية جثمان موكرجي لتُعيده إلى مسقط رأسه، كلكتا. كان الشيخ عبد الله قد غطَّى الجثمان بوشاح، في حين ساعد نائبه — باكشي غلام محمد — في نقل المحفَّة إلى الطائرة. وفي كلكتا، اصطفَّت حشود هائلة على الطريق البالغ ثلاثة عشر ميلًا من مطار دَم دَم إلى منزل العائلة في بهوانيبور؛ فكتب نهرو إلى صديقٍ له في مدراس قائلًا: «لقد أوقعتنا وفاة الدكتور موكرجي في متاعب جَمَّة؛ فالمناخ العام في دلهي سيئ، وأسوأ في كلكتا.»29
كان الوضع أسوأ من ذلك أيضًا في جامو؛ فعندما وصلت الأنباء المدينة، هاجمت الجماهير الغاضبة مركزًا حكوميًّا للفنون ونهبته، وأضرمت النيران في مكاتب حكومية.30 وفي ذلك الوقت، تجمَّع حشد من الناس في دلهي عند بوابة أجمير، مرتدين شاراتٍ سوداء، وملوِّحين بأعلامٍ سوداء، وهاتفين: «الدم بالدم.» استمرَّت حالة الغضب لأيام. وفي يوم ٥ يوليو وصل العاصمة جزء من رماد جسد الدكتور موكرجي، وحُمِل في موكبٍ مهيب، شكَّله حزب جانا سانج، بينما راح السائرون في الموكب يهتفون بشعارات الانتقام ويُردِّدون في إصرار: «كشمير لنا.»31
في نهايات شهر يونيو، عُلِّقَت ملصقات في بعض أنحاء دلهي، محذِّرةً الشيخ عبد الله من أنه سوف يُقْتَل إنْ جاء إلى العاصمة. لم يكن من الممكن الاستخفاف بتلك التهديدات لأنها صدرت في مناخٍ مشحونٍ مشابهٍ للمناخ الذي اغْتِيلَ فيه غاندي. والآن مرةً أخرى بدا أنَّ «الطبقة الوسطى بأكملها في دلهي واقعة تحت سيطرة الطائفيين الهندوس». وكان ثَمَّةَ مخاوف من أنَّه ليس فقط الشيخ عبد الله، وإنما كذلك «السيد نهرو قد يواجه المصير نفسه كغاندي نظرًا للدعاية المكثَّفة التي يُرَوِّج لها أنصار الطائفية». فأُعْطِيَت الشرطة أوامر بالتنبُّه «لأيِّ دعاية ذات طبيعةٍ خطيرة، أو أي خطط، أو مخططاتٍ يمكن أن تكون تلك الجماعات الحزبية قد دبَّرتها ضد رئيس الوزراء».32

٦

زرعت الحركة الشعبية التي قادها الدكتور موكرجي خواطر الاستقلال في رأس الشيخ عبد الله، وبدا أنَّ موجة السخط الهائلة التي تبعت وفاة موكرجي أكَّدت تلك الخواطر. وإذ استشعر نهرو ذلك، كتب له رسالتين طويلتين مشبَّعتين بالمشاعر استحضر فيهما ذكرى صداقتهما القديمة وروابط الهند بكشمير. وطلب إلى عبد الله المجيء إلى دلهي لمقابلته. ولكن الشيخ عبد الله لم ينصَعْ لرغبته. ثم أرسل نهرو مولانا أبو الكلام آزاد (أقدم عضوٍ في مجلس الوزراء) إلى سريناجار، غير أنَّ ذلك لم يُجدِ نفعًا أيضًا؛ فحينذاك بدا الشيخ مقتنعًا بأمرين: أنه يحظى بدعم الولايات المتحدة، وأنَّه «حتى نهرو لا يمكنه إخماد القوى الطائفية [الهندوسية] في الهند». وفي يوم ١٠ يوليو ألقى خطابًا أمام أعضاء الحزب في «مجاهد منزل»، مقر حزب المؤتمر الوطني الكشميري في سريناجار. وبعدما أوجز مظالم كشمير، ومظالمه، لدى حكومة الهند، قال: «سيأتي وقت أُوَدِّعُها فيه.»33
انتاب رئيسَ الوزراء شعورٌ بالانزعاج البالغ إثر التحوُّل الشامل في موقف الشيخ عبد الله؛ ففي رسالةٍ كتبها نهرو إلى أحد زملائه، قال إنَّ التطوُّرات الجارية في كشمير مؤسفة للغاية؛ لأنَّ «أي شيءٍ يحدث هناك تترتَّب عليه تبعات أكبر وأوسع نطاقًا». وأضاف: «مشكلة كشمير ترمز إلى أمورٍ كثيرة، منها سياستنا العلمانية في الهند.»34
آنذاك كانت حكومة كشمير قد أصبحت منقسمة على نفسها، وكان من المرجَّح (حسبما أشار نهرو) «أن يسير أعضاؤها في اتجاهاتٍ مختلفةٍ ويعلنون سياساتٍ مختلفةً تمامًا». كان ذلك يُعْزَى في جزءٍ كبيرٍ منه إلى عمل حكومة مكتب الاستخبارات الهندي؛ فضباط ذلك المكتب كانوا يعملون مع حزب المؤتمر الوطني الكشميري، فأشاعوا الفُرقَة بين قياداتها والارتباك في صفوفها؛ فبعض القادة — مثل جي إم صَديق — كانوا يساريين معادين للولايات المتحدة الأمريكية، وكانوا رافضين للمباحثات التي خاضها الشيخ عبد الله مع ستيفنسون. وآخرون — مثل باكشي غلام محمد — كانوا يطمحون إلى تولِّي مقاليد الحكم في كشمير هم أنفسهم.35
آنذاك كان ثَمَّةَ صدع مفتوح داخل حزب المؤتمر الوطني الكشميري، بين الجماعة الموالية للهند والجماعة الموالية للاستقلال. تزعَّم الأخيرةَ شخصٌ وثيق الصلة بالشيخ عبد الله؛ هو: ميرزا أفضل بيج. أما الجماعة الأولى فكانت على اتصالٍ وثيقٍ بصدري رياست، كاران سينج. وقد أُشيع أنَّ الشيخ عبد الله سوف يُعلِن الاستقلال يوم ٢١ أغسطس — يوم احتفال العيد الكبير — وأنَّه سيطلب آنذاك حماية الولايات المتحدة من «العدوان الهندي»؛36 فقبل أسبوعين على ذلك التاريخ، أقال عبد الله أحد أعضاء مجلس وزرائه مما منح الآخرين في الفصيل الموالي للهند عذرًا للتحرُّك ضده؛ فكتبوا إلى الشيخ رسالة — بقيادة باكشي غلام محمد — يتَّهمونه فيها بتشجيع الطائفية والفساد. وأرسلوا نسخة من الرسالة إلى كاران سينج أيضًا؛ فأقال هو بدوره عبد الله من منصبه ودعا باكشي غلام محمد إلى تشكيل حكومة عوضًا عن عبد الله.

أُقِيلَ عبد الله في الساعات المبكرة من الصباح. وعندما أُوقِظَ وسُلِّمَ ورقة إقالته، اشتاط غضبًا، وصاح: «من يظن نفسه ذاك الصدري رياست لِيُقِيلَني؟ أنا الذي صنعتُ من ذلك الصبي التافه صدري رياست.» بعدئذٍ أبلغته الشرطة بأنه لم يُقَلْ فحسب، بل هو موضوع قيد الإقامة الجبرية أيضًا. ومنحته الشرطة ساعتين لأداء صلاته وحزم أمتعته قبل أخذه إلى محبسه.

لِمَ تَعَرَّضَ عبد الله لتلك المهانة؟ هل كان لا بد من إقالته في جوف الليل، وهل لزم حبسه بعدها؟ قال كاران سينج مسترجعًا ذكرياته فيما بعد أنَّ سبب فعل ذلك كان أنَّ «باكشي غلام محمد أوضح تمامًا أنَّه لا يمكنه تولِّي مسئولية إدارة الحكومة إذا تُرِك الشيخ عبد الله وبيج أحرارًا لنشر آرائهما». هذا يعني أنَّ الشيخ عبد الله كان مأمون الجانب وساكنًا في السجن، ولكنه إذا ظلَّ حرًّا طليقًا، بعد إقالته من منصبه، فسرعان ما سَيُعَبِّئ المشاعر الشعبية لصالحه.37
وفي ذلك الوقت، وفيما بعد، كان ثَمَّةَ اعتقاد واسع الانتشار في أنَّ القبض على عبد الله كان فكرة رافي أحمد كيدواي. كان كيدواي عضوًا يساريًّا في مجلس الوزراء، وصديقًا مُقرَّبًا لنهرو. وفي دلهي كان الظن السائد هو أنه أراد إذلال الشيخ عبد الله لأنَّ الأخير كان يحابي الأمريكيين. إلا أنَّ الرأي السائد في كشمير كان هو أنَّ ذلك كان عملًا انتقاميًّا خالصًا، وإن استند إلى أسس خاطئة؛ ففي عام ١٩٤٧، كان شقيق كيدواي قد اغْتِيل في مدينة مَسوري الجبلية، على يد أحد أبناء كشمير؛ فكانت الإطاحة بالشيخ عبد الله من قبيل تصفية الحسابات.38
هل أقرَّ جواهر لال نهرو نفسه القبض على صديقه الشيخ عبد الله؟ يرى مدوِّن سيرة نهرو أنَّه لم يعرف بالأمر مسبقًا، ولكن مدير جهاز الاستخبارات المعاصر له يُلمِّح إلى معرفته المسبقة. إلا أنَّ الشيء الوحيد الواضح هو الآتي: بمجرد أن تَمَّ الفعل، لم يفعل نهرو شيئًا لإلغائه.39
كان لرئيس وزراء كشمير الجديد شخصية مهيبة كسابقه، وشاعت مناداته ﺑ «الباكشي» مثلما كان سابقه يُعرَف ﺑ «الشيخ». وُلِدَ غلام محمد عام ١٩٠٧ لأسرةٍ رقيقة الحال، وبدأ مشواره السياسي بتنظيم اتحادٍ لسائقي عربات الخيول في سريناجار. وكان ذلك — بالإضافة إلى قضائه أربع فتراتٍ في سجون هاري سينج — هو ما أمَدَّه بالمؤهلات المتميزة للانضمام إلى الحركة القومية. إلا أنَّه كان مختلفًا عن الشيخ عبد الله إلى حدٍّ بعيد من حيث المزاج والتوجُّه؛ فأحدهما كان رجل أفكارٍ ومثالية، والآخر كان رجل أفعالٍ وتنظيم؛ فعندما هجم الغزاة في أكتوبر ١٩٤٧، كان عبد الله هو من ألقى الخُطَب الرَّنَّانة، بينما وزَّع الباكشي المتطوعين على مواقعهم وراح يرتقب العناصر التي يُحتمَل انتماؤها إلى طابورٍ خامس. وبعد عام ١٩٤٧، بينما كان عبد الله منشغلًا بالتعامل مع نهرو ودلهي، كان الباكشي من «أبقى على سلامة هيكل الولاية، في وقت انهيار الحكومة وزوالها من الوجود». وحسبما كتب باحثان أكاديميان من كشمير في عام ١٩٥٠، فإنَّه «لكونه نموذجًا للانضباط الصارم هو نفسه، فإنَّه لا يقبل بعدم الانضباط وتكتيكات المماطلَة. وهو لا يحب الروتين والرتابة الحكوميَّين؛ فهو يؤمن بالتصرُّف السريع السليم». وكانت النتيجة التي خلصت إليها الهند حتمًا في ذلك الوقت هي: «في الواقع، الباكشي يُمثِّل لعبد الله ما مثَّله السردار باتيل لنهرو.»40
ذلك التشبيه غير دقيق، رغم جاذبيته؛ لأنَّ باتيل لم يشتهِ منصب رئيسه، في حين أنَّ الباكشي، عندما وصل إلى ذلك المنصب، كان ينوي الإبقاء عليه. وكان ذلك يتطلَّب — مثلما أدرك هو جيدًا — إبقاء دلهي في صفه؛ فزار جامو بعد عشرة أيامٍ من تسلُّمه زمام السلطة، وهناك ألقى خطبة أمام جمهورٍ كبير، أكَّد لهم فيها أنَّ «الروابط التي تجمع بين كشمير والهند لا تنفصم. ولا يمكن لقوةٍ على الأرض أنْ تُفرِّق بينهما». ثم إنَّه ألقى خطابًا في سريناجار أمام اجتماعٍ للأعضاء العاملين في حزب المؤتمر الوطني الكشميري، وفيه قال: «إنَّ الشيخ عبد الله عمل لمصلحة الغزاة الغربيين مباشرةً بنظره في فكرة استقلال كشمير.» وقال إنَّ تلك «لعبة خطيرة، محفوفة بالتبعات الكارثية على كشمير والهند وباكستان». فبما أنَّ كشمير تعوزها الموارد اللازمة للدفاع عن نفسها، كانت فكرة الاستقلال «فكرة عبثيَّة»، يُقَدَّر أنَّها لن تأتيَ بنتيجةٍ سوى جعْل الولاية مركزًا لتدابير القوى العُظمى؛ فقد كانت فكرة «يمكن أنْ تُدمِّر الناس».41

وعندما تولَّى الباكشي غلام محمد منصب رئيس الوزراء، اتَّبع طرازًا جماهيريًّا؛ فكان يعقد مجلسًا رسميًّا كل جمعةٍ للاستماع إلى مظالم العامَّة. وكانت من الخطوات المبكِّرة التي اتَّخذها رفْع سعر شراء الأرز. ثم إنَّه جعل التعليم مجانيًّا، وأجاز كلياتٍ جديدةً للهندسة والطب، وأبطَل الحواجز الجمركية بين جامو وكشمير من ناحيةٍ وبقية الهند من ناحيةٍ أخرى.

في أكتوبر ١٩٥٤، عُقِد مؤتمر رؤساء تحرير الصحف في عموم الهند في سريناجار. استضافت حكومة الولاية الضيوف في أفضل فنادق وأقامت حفلاتٍ قُدِّمَ فيها ما لَذَّ وطاب من الأطباق الكشميرية. وكتب أحد رؤساء تحرير الصحف مُعرِبًا عن امتنانه أنَّ النظام الجديد جاء منذ سنةٍ فحسب، «إلا أنَّه يمكننا أنْ نقول بكثيرٍ من الثقة أنَّ حكومة الباكشي أدخلت — في بعض المجالات — إصلاحات أكثر من الإصلاحات التي أتى بها الشيخ عبد الله في سنوات حكمه الست». وبعد العامة والإعلام، جاء دور الرئيس؛ ففي أكتوبر ١٩٥٥، وصل الدكتور راجندرا براساد سريناجار وسط «حماس شعبي بُذِل جهد لإثارته»؛ حيث اصطفَّت الحشود على جانبَي الطريق من المطار، وانطلق موكب من المراكب في نهر الجيلوم. كان الرئيس قد أتى لتدشين مشروعٍ للطاقة الكهرمائية، أحد عِدَّة مخططات تنموية بدأ العمل فيها في ظل الإدارة الجديدة.42
وطوال ذلك الوقت، كان الشيخ عبد الله مُرغَمًا على البقاء قيد الإقامة الجبرية. في البداية أقام في قصرٍ قديمٍ في أودهامبور، في السهول، قبل أنْ يُنقَل إلى منزلٍ من طابقٍ واحدٍ أقل حرارةً في الجبال، بقرية كوت؛ حيث انشغل بتربية الدواجن وقيل عنه إنَّه أصبح «شديد المعاداة للهند».43

كان الباكشي يُنظَر إليه داخل كشمير وخارجها بصفته انقلابيًّا بصورةٍ أو بأخرى. ما يعنينا هنا هو فحوى تقريرَين سرِّيَّيْن للشرطة عن صلوات الجمعة في المسجد الجامع بدلهي؛ ففي يوم ٢ أكتوبر من عام ١٩٥٣، حضر الصلاة عضوان في البرلمان من كشمير؛ فعندما طلب أحد رجال الدين إليهما تنظيم اجتماعٍ لحديثٍ عن الوضع في كشمير، أجابا بأنَّ الوقت ليس مناسبًا لأنهما يعملان في السِّرَّ على إطلاق سراح الشيخ عبد الله. وقالا أيضًا إنَّ «جميع أبناء كشمير سوف يظلُّون مع الهند ويبذلون حياتهم من أجلها»، ولكن إنْ ظلَّ الشيخ في محبسه، فربما تُعرَّض الولاية آنذاك لخطر «اللجوء إلى باكستان وهو ما لن يكونا مسئولين عنه».

بعد ثلاثة أشهر، حضر الباكشي غلام محمد بنفسه الصلاة في المسجد الجامع. كان هذا من قبيل التماس الشرعية؛ لأنَّ ذلك المسجد — الذي بناه شاه جهان في القرن السابع عشر — كان المسجد الأعظم في شبه القارة الهندية والأكثر تبجيلًا. استقبله خدم المحراب — إذ أدركوا صلة الباكشي الوثيقة بحاكم الهند — باحترامٍ كافٍ. ولكن، مثلما جاء في تقرير الشرطة، «المسلمون المجتمعون هناك — ومنهم أبناء كشمير — كانوا يتهامسون بأحاديث معادية للباكشي غلام محمد؛ فكانوا يقولون إنه أصبح رئيس وزراء كشمير بعد أنْ وضع «معلِّمه» — الشيخ عبد الله — خلف القضبان».44

٧

خلال خمسينيات القرن العشرين، كما في أربعينياته، عانى وادي كشمير اضْطِراباتٍ وقلاقل. كان السبب الكامن وراء متاعب الأربعينيات هو عجز المهراجا عن اتِّخاذ قرار — إذ رفض الانضمام إلى أيٍّ من الهند وباكستان بينما كانت الفرصة لا تزال سانحة — وطَمَع القبائل المغيرة التي غزت القرية وحماستها. أما السبب الكامن وراء متاعب الخمسينيات فكان طموح كلٍّ من الشيخ عبد الله وإس بي موكرجي؛ فكلٌّ منهما لم يكن راغبًا في التقيُّد بقواعد الديمقراطية الدستورية. وكلٌّ منهما بالغ في المخاطرة السياسية، وكلٌّ منهما أيضًا دفع ثمن مخاطرته بصورةٍ مأساوية.

ولم تكن تطورات الأوضاع في كشمير مُقْلِقَة للهنود فحسب؛ فالجنرال البريطاني الذي كان مسئولًا عن الجيش الهندي عام ١٩٤٧ رأى أنها من المحتمل جدًّا أن «تؤديَ إلى تدهور العلاقات الهندية الباكستانية». فأثناء دفاعه عن كشمير أُتيحت له فرصة تكوين معرفة وثيقة بكلٍّ من الشيخ عبد الله والباكشي؛ فرأى أنه رغم أنَّ عبد الله «لم يكن رجلًا عظيمًا قط»، فقد كان «مخلصًا — في رأيي — في حبه لبلده». وفي المقابل، كان الباكشي «غير مخلصٍ إلى حدٍّ بعيد»، وكان «شخصية عديمة الثِّقَل».45
في الواقع، كان الباكشي موهوبًا إلى حدٍّ ما في التنظيم، وفي الإثراء من منصبه؛ فقد استغلَّ قربه من دلهي لضخِّ تدفُّقٍ ثابتٍ من الأموال المركزية في ولايته، واستخدمها للإنفاق على السدود والطرق والمستشفيات والأنفاق والفنادق؛ فشُيِّدَ العديد من المباني الجديدة في سريناجار، منها: أمانة جديدة، واستاد رياضي جديد، ومجمَّع سياحي جديد. إلا أنَّ المشروعات التنموية التي اضطلعت بها حكومة الباكشي اشتملت دائمًا على «نسبة للأهل والأصدقاء»؛ فسرعان ما أصبح نظامه يُعرَف بمؤسسة الباكشي وإخوته.46

أثارت التطوُّرات التي حدثت في ١٩٥٢-١٩٥٣ أسئلة حادة بشأن حق الهند الأخلاقي في الوادي؛ فقد انقضت ستة أعوامٍ على غزو عام ١٩٤٧، وهو ما كان وقتًا كافيًا لكي ينسى العالم ذلك الغزو، ولا يتذكَّر سوى أنَّ الواديَ مسلم مثله مثل باكستان. وإضافةً إلى ذلك، كانت الحكومة الهندية قد سجنت الزعيم الكشميري الذي طالما تباهت بكونه رجلها المخلص.

هل كان من الممكن أنْ تتكشَّف الأمور بصورةٍ مختلفة؟ ربما، لو كان الشيخ عبد الله وشياما براساد موكرجي تصرَّفا على نحو مسئول وتحلَّيا بضبط النفس. وربما كان ذلك سيحدث أيضًا لو كان جواهر لال نهرو والحكومة الهندية استمعا لصحفيٍّ مغمورٍ من أصولٍ إنجليزية كان آنذاك رئيس تحرير مجلة أسبوعية ليبرالية محدودة الانتشار في بنجالور؛ ففي ١٩٥٢-١٩٥٣، عندما كان الدكتور موكرجي يطالب بأن تغزو الهندُ باكستان ومن ثَمَّ «استعادة» شمال كشمير، كان هذا الصحفي ويُدعى فيليب سبرات يقترح حلًّا مختلفًا بصورةٍ جذرية؛ فقد قال إنَّ الهند ينبغي أن تتخلى عن مطالبتها بالوادي، وأنْ تمنح الشيخ عبد الله حلم الاستقلال الذي يراوده. وينبغي أن تسحب جيوشها وتسقط القروض التي منحتها لحكومة جامو وكشمير. وكتب: «دعوا كشمير تمضي وحيدة مغامِرة في طريق استكشافها لنظام الدولة العلمانية. سوف نراقب بادرة الثقة بالتعاطف اللازم ولكن من مسافةٍ آمنة، حتى يتحرر شرفنا ومواردنا ومستقبلنا من الأوضاع المتشابكة المنهِكة التي تَنْقُش الأكاذيب في أرواحنا.»

كان الحل الذي قدَّمه سبرات مشوبًا بلمحةٍ أخلاقية، ولكن بدرجةٍ أكبر نزعة الاقتصاد والحرص؛ فقد رأى أنَّ السياسة الهندية قائمة على «اعتقاد خاطئ في نظرية الوطن الأوحد والطمع في امتلاك وادي سريناجار الجميل ذي الأهمية الاستراتيجية». ولا يمكن تقدير تكاليف تلك السياسة، سواءٌ في الحاضر أو المستقبل؛ فعوضًا عن منح كشمير امتيازاتٍ خاصةً وإثارة مشاعر الاستياء في مناطق أخرى من الهند، كان الأجدر بالدولة أنْ تتخلى عن تلك الولاية. إلا أنَّ واقع الأمر آنذاك كان أنَّ كشمير «وقعت فريسة جيشَين متربِّصَين كلٍّ منهما بالآخر. ربما يلائم بضعة أفراد رؤية استمرار ذلك الوضع الرهيب لأجلٍ غير مُسَمًّى. ولكنَّ دافعي الضرائب الهنود يدفعون مبالغ باهظة نظير ميزةٍ محفوفةٍ بالمخاطر، متمثلة في اعتبار كشمير جزءًا من الهند على أساس كَم العطاء المبذول من جانب الهند والأخذ من جانب كشمير».47

كانت ضرورة تغليب المصالح المادية على المصالح الأيديولوجية حجة يسيرة القَبول بالنسبة إلى ماركسي سابق مثل سبرات. إلا أنَّها لم تكن حجة يُرَجَّح أن تكتسب مؤيدين كُثُرًا في الهند في خمسينيات القرن العشرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤