الفصل الثالث عشر

مشاكل قَبَلِيَّة

تلك القبائل … لا تدافع عن نفسها بعزمٍ عنيدٍ فحسب، بل تهاجم أعداءها أيضًا بشجاعةٍ وجرأةٍ منقطعتَي النظير … فهي تتميز بصمودِ فكرٍ يتغلَّب على الشعور بالخطر أو الخوف من الموت.

مسئول بريطاني يتحدث عن قبائل ناجا، نحو عام ١٨٤٠

١

خلال خمسينيات القرن العشرين، بينما كانت حكومة الهند تسعى إلى إحكام قبضتها على وادي كشمير، واجهت سلطتها ومشروعيتها تحدِّيًا آخر من الطرف المقابل لجبال الهيمالايا. كانت تلك «مشكلة ناجا»، وهي مشكلة أقل شهرةً بكثيرٍ من مشكلتها مع كشمير، على الرغم من أنَّها لا تقل عنها قِدَمًا — بل إنها أقدم منها في الواقع — كما أنَّها كانت مستعصية على الحل بالقدر ذاته.

كانت ناجا مجموعة من القبائل تعيش شرقيَّ الهيمالايا، بمحاذاة الحدود مع بورما. تلك القبائل إذ انطوت بين جنبات جبالها الحصينة، كانت معزولةً عن التطوُّرات الاجتماعية والسياسية الحادثة في بقية الهند. كان دور بريطانيا في إدارة المنطقة محدودًا؛ إذ عملت على إبعاد سكان السهول وعدم المساس بالقوانين والممارسات القبلية، عدا واحدة، وهي: صيد الرءوس، إلا أنَّ المعمدانيين الأمريكيين نشطوا في المنطقة منذ منتصف القرن التاسع عشر؛ فحوَّلوا قبائل عدة هناك إلى المسيحية.

في ذلك الوقت كانت تلال ناجا جزءًا من آسام، وهي مقاطعة شديدة التباين في تكوينها، حتى بالمعايير الهندية؛ تشترك في حدودٍ مع الصين وبورما وباكستان الشرقية، وتنقسم إلى مناطقَ مرتفعةٍ وأخرى منخفضة، وتسكنها مئات الجماعات السكانية المتباينة. وفي السهول، عاش سكان هندوسيون يتحدَّثون اللغة الآسامية، تربطهم أواصر الثقافة والدين بالوسط الهندي الأكبر. وكان من الجماعات القبلية المهمة هناك: الميزو والخاسيون والجارويون والجانتيون، وهي القبائل التي استمدت أسماءها من سلاسل الجبال التي تعيش فيها (أو منحتها إياها). كذلك اشتملت المنطقة على إمارتين — تريبورا ومانيبور — اتسمتا أيضًا بامتزاج سكانهما، ما بين هندوسٍ وقبليين.

ومن بين القبائل التي سكنت شمال شرقي الهند ربما كانت قبائل ناجا هي الأكثر استقلالًا؛ فقد كانت أرضهم واقعة على الحدود الهندية البورمية، وفي الواقع فقد كانت قبائل ناجا في بورما لا تقل عددًا عن مثيلتها في الهند. بعض قبائل ناجا كانت على اتصالٍ بالقرى الهندوسية في آسام، التي كانت القبائل تبيعها الأرز مقابل الملح. إلا أنَّ قبائل ناجا كانت خارج مجال نفوذ الحركة القومية بقيادة حزب المؤتمر الوطني تمامًا؛ فلم تحدث فيها حملات مقاومة ولا قلاقل مدنية، وفي الواقع، لم يأتِ زعيم واحد من أتباع غاندي ذوي القبعات البيضاء لزيارة تلك التلال قط. بعض القبائل خاضت معارك شرسة مع البريطانيين، ولكنها مع مُضِيِّ الزمن توصَّلت مع الراج البريطاني إلى علاقة احترامٍ متبادل. من جانبها، تذرَّعَت بريطانيا بنوعٍ من الأبويَّة، إذ رغبت في «حماية» تلك القبائل الموضوعة تحت وصايتها من أوجه الفساد المدمِّرة للعالم الحديث.

ترجع مسألة ناجا في الحقيقة إلى عام ١٩٤٦، وهو العام الذي كان مصير الهند البريطانية يُحسَم في اثنين من مراكز السلطة الإمبريالية، وهما: نيودلهي وسيملا. وعندما أُجْرِيَت الانتخابات في جميع أنحاء الهند، وجاءت البعثة الوزارية البريطانية ورحلت، ودخل نائب الملك اجتماعًا سريًّا مع قائدي حزب المؤتمر الوطني والعصبة الإسلامية، بدأ بعض أفراد قبائل ناجا في ركنهم الخفي من شبه القارة الهندية ينتابهم القلق بشأن مستقبلهم. وفي يناير ١٩٤٦، شَكَّلت مجموعة منهم من «المسيحيين المتعلِّمين القادرين على التعبير عن أنفسهم باللغة الإنجليزية» مجلس ناجا الوطني. كان ذلك المجلس يتسم بالمظاهر التقليدية للحركات القومية، في طور تكوُّنها؛ إذ تزعَّمه مثقَّفون من الطبقة الوسطى، رَوَّجوا لأفكارهم في صحيفة خاصةٍ بهم، تُدعَى «ناجا نيشن»، التي صُنِع منها ٢٥٠ نسخة على آلة النسخ ووُزِّعَت في جميع أنحاء أرض ناجا.1

كان مجلس ناجا الوطني يدافع عن وحدة قبائل ناجا كافة، ومنحها «حق تقرير المصير»، وهو مصطلح قابل — في هذا الموضع وغيره — لتحميله دلالاتٍ متعددةً وأحيانًا متناقضة بعضها مع بعض. كانت قبائل أنجامي ناجا، بتقاليدها القتالية الجديرة بالاحترام وسَبْقها في قتال جميع الدُّخَلاء (بما فيهم البريطانيون)، ترى أنَّ حق تقرير المصير ينبغي أن يعني دولة مستقلة تمامًا: «حكومة ناجا، من أجل ناجا، بِيَد ناجا.» وفي المقابل، كانت قبائل الآو — الأكثر اعتدالًا — ترى أنَّه يمكنهم العيش بكرامةٍ باعتبارهم جزءًا من الهند، ما دامت أرضهم وأعرافهم تحظى بالحماية، وما داموا يتمتعون باستقلاليةٍ في سَنِّ قوانينهم الخاصة وفرضها.

شَهِدَت الاجتماعات الأولى لمجلس ناجا الوطني نقاشًا عنيفًا بين الفصيلين، ترددت أصداؤه على صفحات صحيفة «ناجا نيشن»؛ فقد كتب أنجامي شاب أن «ناجا أمة لأننا نشعر بأننا أمة. ولكن، إذا كنا أمة، فلِمَ لا نختار السيادة لأنفسنا؟ نحن نريد الحرية. نريد أن نعيش حياتنا كما يحلو لنا … ولا نرغب في عيش أناسٍ آخرين معنا». فردَّ طبيب من الآو قائلًا إنَّ ناجا يفتقرون إلى الأموال والأفراد والبنية التحتية اللازمة لكي يصيروا أمة. وكتب: «في الوقت الحاضر، يبدو لي أنَّ فكرة الاستقلال بعيدة المنال لنا أهل ناجا؛ فكيف يمكن لنا أن ندير حكومة مستقلة الآن؟»

وفي ذلك الوقت دخل الجناح المعتدل في مفاوضاتٍ مع قيادة حزب المؤتمر؛ ففي يوليو ١٩٤٦، كتب الأمين العام لمجلس ناجا الوطني — تي صخري — رسالة إلى جواهر لال نهرو، وتلقَّى ردًّا طمأنه إلى أنَّ أهل ناجا سيحصلون على حُكمٍ ذاتيٍّ كامل، ولكن داخل إطار الاتحاد الهندي. وقال نهرو إنهم سوف يتسنَّى لهم إقامة نظامٍ قضائيٍّ خاصٍّ بهم، ليقيَهم شَرَّ «اجتياحهم من قِبَل أشخاصٍ آتين من أنحاءٍ أخرى من البلاد قد يستغلونهم لتحقيق مصالحهم الخاصة». فحينذاك أعلن صخري أنَّ أهل ناجا سيستمرون في صلتهم بالهند، «ولكن بصفتهم مجتمعًا له خصوصيته … ولا بد كذلك من أنْ نتطوَّر وفقًا لميولنا وأذواقنا الخاصة؛ فسوف نتمتع بالحكم المحلي داخل بلادنا ولكننا سنكون على صلة بالهند فيما يتعلق بالقضايا الأشمل».2
إلا أنَّ الراديكاليين ظلُّوا ثابتين على موقفهم انتظارًا للاستقلال التام، وساعدهم في ذلك بعض المسئولين البريطانيين، الذين كرهوا وقوع تلك القبائل تحت سيطرة النفوذ الهندوسي. وأوصى أحد المسئولين بتنصيب المناطق التي تسكنها القبائل في الشمال الشرقي مستعمراتٍ تابعة للتاج، تُحكَم من لندن مباشرةً، ولا تربطها أي صلةٍ بما كانت لتصبح عمَّا قريبٍ دولة الهند المستقلة.3 ونصح مسئولون آخرون بالسعي إزاء الاستقلال فورًا؛ إذ إنَّ دولة الهند سوف تتفكَّك عمَّا قريبٍ على أي حال. وقد كتب المُشرِف على جبال لوشاي (التي أصبحت تُسمَّى فيما بعد جبال ميزو) في مارس ١٩٤٧ الآتي:
نصيحتي لأهل لوشاي — منذ البداية المبكرة لسياسة لوشاي في نهاية الحرب — كانت حتى وقتٍ قريبٍ جدًّا هي ألا ينشغلوا بعدُ بمشكلة علاقتهم المستقبلية ببقية الهند؛ إذ إنَّه ما من أحدٍ يمكنه أنْ يتنبأ بما ستكون عليه الهند بعد عامين حتى من الآن، أو حتى ما إذا كان سيكون هناك دولة هندية بالمعنى السياسي الوحدوي؛ فأنا ما كنت لأشجِّع ابنتي الصغرى على إلزام نفسها بعدم الزواج طوال حياتها، ولكني أراها جريمة أسوأ أنْ أخطبها في مهدها لصبيٍّ لم يزل هو نفسه غير مكتمل النمو.4
في يونيو ١٩٤٧، التقى وفد من مجلس ناجا الوطني حاكم آسام — السير أكبر حيدري — لمناقشة شروط انضمام قبائل ناجا إلى الهند؛ فوافق كلا الطرفين على عدم نقل حيازة أراضي ناجا للغرباء عنها، وعدم المساس بممارستها الدينية، ومشاركة مجلس ناجا الوطني في تعيين الموظفين الحكوميين. ثم ذهب وفد بعد ذلك إلى دلهي؛ حيث التقى أعضاؤه نهرو، الذي أخبرهم مرةً أخرى أنَّهم يمكنهم الحصول على الحكم الذاتي ولكن ليس الاستقلال. وقد زاروا أيضًا المهاتما غاندي، في لقاءٍ تعدَّدت القصص المتردِّدة عنه على مرِّ السنين؛ فذهبت إحدى الروايات إلى أنَّ غاندي أخبر أهل ناجا أنهم يمكنهم أن يعلنوا استقلالهم إذا شاءوا، وأنَّه ما من أحد يمكنه إجبارهم على الانضمام إلى الهند، وأنَّه إذا أرسلت نيودلهي جيشها، فسيأتي غاندي بنفسه إلى تلال ناجا لمقاومته. وحسبما يظهر من الرواية فقد قال: «سوف أطلب إليهم أن يطلقوا عليَّ النار قبل أنْ يطلقوا النار على فردٍ واحدٍ من قبائل الناجا.»5 أما الرواية المطبوعة في «مجموعة أعمال المهاتما غاندي» فكانت أقلَّ درامية؛ ففيها نُقِل عن غاندي قوله: «أنا شخصيًّا أعتقد أنكم جميعًا تنتمون إليَّ، إلى الهند. ولكنكم إذا كنتم ترَوْن غير ذلك، فلا يمكن لأحدٍ أن يرغمكم.» كذلك نصح المهاتما زواره بأنَّ أفضل برهانٍ على الاستقلال هو الاكتفاء الذاتي الاقتصادي؛ حيث ينبغي لهم زراعة غذائهم بأنفسهم وغزل ملابسهم بأنفسهم. وقال المهاتما: «تعلَّموا الحِرَف كافة. ذلك هو سبيل الاستقلال السلمي. أما إذا استخدمتم البنادق والمدافع والدبابات، فستكون هذه حماقة.»6
كان أكثر المطالبين بالاستقلال جرأةً قبيلة أنجامي في قرية خونوما، الذين حاربوا البريطانيين حتى أوصلوهم إلى طريق مسدود في ١٨٧٩-١٨٨٠ والتي كان أهلها «معروفين ومرهوبين» في جميع أنحاء تلال الناجا.7 وراح فصيل يُسمِّي نفسه رابطة الاستقلال الشعبية يُعلِّق ملصقاتٍ تدعو إلى الاستقلال الكامل، بألفاظٍ مستعارة (وقد أقرَّ بذلك) من أمريكيين حاربوا من أجل الحرية؛ مثل: «إنه شعوري في حياتي، وسيكون بمشيئة الرب شعوري عند مماتي: الاستقلال الآن وإلى الأبد» (جون آدامز)، و«هذه الأمة برعاية الرب ستشهد مولدًا جديدًا للحرية» (أبراهام لينكولن)، و«أعطني الحرية أو أعطني الموت!» (باتريك هنري).8

في ذلك الوقت، رحل الراج البريطاني عن نيودلهي، وبدأت الدولة الهندية الجديدة تُوَطِّد أقدامها؛ فأخبر سكرتير حاكم آسام قبائل ناجا أنَّ عددهم أقلُّ من أنْ يسمح لهم بتمرُّدٍ ناجحٍ على دولةٍ قوامها ٣٠٠ مليون نسمة. وكتب في صحيفة «ناجا نيشن» راويًا قصة كلبٍ يحمل عَظْمة في فمه وينظر في الماء فيري كلبًا يحمل عظمة أكبر يتطلَّع إليه، فأخذ يطارد السراب حتى أوقع العظمة التي كانت في حوزته وضاعت منه. واختتم المسئول حديثه قائلًا: «لماذا تخسرون عظْمة «الحكم الذاتي» سعيًا وراء عظْمة «الاستقلال» التي لا يمكن الحصول عليها؟»

لم تَلْقَ تلك الحكاية الرمزية قَبولًا حسنًا لدى أبناء ناجا المتعلِّمين؛ فقد قال أحد أعضاء مجلس ناجا الوطني معلِّقًا: «عِظام، عِظام، أيظننا كلابًا؟» إلا أنَّ التحذير نفسه أصدره بصورةٍ مستساغةٍ أكثر تشارلز بوزي، نائب المفوَّض الذي كان في سبيله إلى إخلاء منصبه، وهو أحد المسئولين الذين نالوا حب أهل ناجا واحترامهم؛ فقد كتب هو الآخر في صحيفة «ناجا نيشن» مؤكِّدًا على أنَّ الحكم الذاتي داخل الاتحاد الهندي هو المسار الأحوط اتِّباعه. وقال: «الاستقلال سيكون معناه نشوب حروبٍ بين القبائل، وعدم وجود مستشفياتٍ ولا مدارس، ولا الملح ولا تجارة مع سُكَّان السهول، وشقاءً عامًّا.»9

٢

بينما انخرطت النخبة المثقفة لقبائل ناجا في مهمة تعريف «الاستقلال» بالنسبة إليها، كانت جلسات الجمعية التأسيسية منعقدةً في نيودلهي. وكان من الموضوعات المطروحة للنقاش: وضع الجماعات القَبَلِيَّة في ظل دولة الهند الحرة الديمقراطية. وفي يوم ٣٠ يوليو من عام ١٩٤٧، أبلغ جيبال سينج الجمعية بأنَّه «ثَمَّةَ تطوُّرات مؤسفة للغاية» تعتمل في تلال ناجا. كان جيبال يتلقَّى «برقية يوميًّا» عن الوضع هناك حيث «أخذت كل برقيةٍ تزداد تخبُّطًا على سابقتها. وكلٌّ منها تزداد توغُّلًا في طريق الفوضى». وكان يرى أنَّ أهل ناجا «ضُلِّلوا» باعتقاد أنَّ وضعهم مشابه لوضع الأمراء، وأنَّهم مثلهم مثل الأمراء يمكنهم استعادة سيادتهم بمجرد أن يرحل البريطانيون. وعندما جاء وفد ناجا إلى دلهي لمقابلة نهرو وغاندي، التقَوْا جيبال أيضًا، الذي أخبرهم «الحقيقة المؤلمة» التي مفادها أنَّ «تلال ناجا ما دامت جزءًا من الهند؛ فمسألة الانفصال غير واردة».10

طبعًا كان جيبال سينج قبليًّا هو نفسه، أحد عدة ملايين يسكنون حِزام الجبال والغابات الذي يطوِّق قلب الهند. كانت قبائل الهند الوسطى المعروفة بالأديفاسي (السكان الأصليين) مختلفة إلى حدٍّ ما عن القبائل التي تعيش في الشمال الشرقي؛ فمثلها، كان الأديفاسي مزارعي كفافٍ بالأساس، يعتمدون على الغابات اعتمادًا كبيرًا في غذائهم. ومثلها لم يكن لدى تلك القبائل منظومة طوائف اجتماعية منسَّقَة في صورة عشائر، ومثلها أيضًا معدل عدم العدالة بين الجنسين فيها أقل بكثيرٍ من معدله في أجزاءٍ يُفتَرَض أنها «متقدمة» في البلاد. إلا أنَّ قبائل وسط الهند — خلافًا لقبائل ناجا وجيرانها — كانت تربطها علاقات طويلة الأمد بمجتمع الفلاحين الهندوسي؛ فقد تبادلوا معه السلع والخدمات، وأحيانًا ما كانوا يعبدون آلهة واحدة، وكانوا تاريخيًّا جزءًا من ممالك واحدة.

إلا أنَّ تلك العلاقات لم تخلُ من الخلافات؛ ففي ظل الحكم البريطاني، فُتِحَت المناطق التي يسكنها القبائل أمام التجارة والاستعمار. واكتسبت الغابات التي تعيش فيها قيمة سوقية فجأة، وكذلك الأنهار التي تجري في تلك الغابات والمعادن الكامنة في باطنها. ظلَّت بعض المناطق بِكرًا لم تُمَسَّ، ولكن في أماكن أخرى حُرِم أهل القبائل دخول الغابات، وانتُزِعَت منهم أراضيهم، وصاروا مدينين للمُقرِضين. وتزايدت رؤية «الغريب» باعتباره شخصًا يسعى إلى الاستيلاء على موارد قبائل الأديفاسي؛ ففي هضبة تشوتاناجبور — على سبيل المثال — كان غير القبليين يُعرَفون بلقب «ديكو» (أي، أجنبي)، وهو لفظ أثار في الناس مشاعر الخوف وكذلك الاستياء.11

أدركت الجمعية التأسيسية تلك النقطة الحساسة، وقضت أيامًا في نقاشٍ حول ما ينبغي فعله. وفي النهاية، قرَّرت أنْ تُدرِج نحو ٤٠٠ مجتمع تحت اسم «القبائل الْمُجَدْوَلَة»، والتي شكَّلت نحو ٧٪ من تعداد السكان، وحُجِزَت لها مقاعد في المجالس التشريعية وكذلك في الإدارات الحكومية. كان الجدول الخامس من الدستور معنيًّا بالقبائل التي تعيش وسط الهند، وقد سَمَحَ بإنشاء مجالس استشارية للقبائل ووَضَعَ ضوابط على مسألة إقراض المال وبيع أراضي القبائل للأشخاص من غير القبائل. أما الجدول السادس فعُنِيَ بقبائل الشمال الشرقي، وقد قَطَعَ شوطًا أكبر على طريق الحكم الذاتي المحلي؛ إذْ شَكَّلَ مجالس للمناطق ومجالس للأقاليم، وحمى الحقوق المحلية في الأراضي والغابات والمجاري المائية، وأصدر تعليمات لحكومات الولايات بتقاسم عوائد التعدين مع المجالس المحلية، وهو امتياز لم يُمنَح في أي مكانٍ آخر من الهند.

كان جيبال سينج يرى أنَّ تلك الأحكام لن تصير واجبة النفاذ ما لم تتمكن القبائل من تشكيل ولايةٍ منفصلةٍ داخل الاتحاد الهندي. وأطلق على تلك الولاية المفترضة «جهارخاند»، التي كانت ستدمج في رؤيته مسقط رأسه هضبة تشوتاناجبور — التي كانت جزءًا من بيهار آنذاك — مع مناطق قبلية متاخمة تقع في مقاطعتَي البنغال وأوريسا. وكان من المفترَض أنْ تغطِّيَ الولاية المقترَحَة ٤٨ ألف ميلًا مربَّعًا وتضمَّ تعدادًا قوامه ١٢ مليون نسمة.12 تلك الفكرة سلبت لُبَّ شباب تشوتاناجبور؛ ومن ثَمَّ كتبت منظمة أديباسي سابها (مجلس السكان الأصليين) بمدينة جمشيدبور في مايو ١٩٤٧ إلى كلٍّ من نهرو وغاندي والجمعية التأسيسية لحثِّهم على اقتطاع جهارخاند من بيهار. وجاء في مذكرة المنظمة الآتي: «نريد أنْ تصون مقاطعة جهارخاند حضارة الأديباسي ولغتهم وتُنمِّيَهما، وأنْ تُعليَ قوانيننا العُرفية، وتجعل أراضيَنا غير قابلةٍ للتصرُّف، وفي المقام الأول تنقذنا من الاستغلال المستمر.»13
في فبراير ١٩٤٨، ألقى جيبال سينج الخطاب الرئاسي على منظمة أديفاسي ماهاسابها لعموم الهند، التي تزعَّمها منذ إنشائها قبل عقدٍ من الزمان. وتحدَّث في ذلك الخطاب عن أنَّه بعد الاستقلال حلَّت «الإمبريالية البيهارية» محل «الإمبريالية البريطانية» باعتبارها أكبر مشكلةٍ يواجهها الأديفاسي. وقد حدَّد الأرض باعتبارها المسألة الأهم، وحثَّ على سرعة إنشاء ولاية جهارخاند. ومن الجدير بالذكر أنَّه شدَّد أيضًا على التزامه بالاتحاد الهندي بالحديث بانفعال عن «حادث اغتيال غاندي المأساوي»، وتقديمه شعارًا مزج بين الكبرياء المحلية والقومية الهندية الأشمل، هو: «تحيا جهارخاند! يحيا الأديباسي! تحيا الهند!»14

وحينذاك أُعِيدَت تسمية منظمة أديباسي ماهاسابها إلى حزب جهارخاند، وبعد سنواتٍ عدةٍ من الحملات المستمرة، خاض المعركة الانتخابية تحت ذلك الاسم في الانتخابات العامة الأولى لعام ١٩٥٢. لَقِيَ ذلك الحزب — برمز الديك المصارِع — نجاحًا يفوق خياله؛ إذ رَبِحَ ثلاثة مقاعد في البرلمان وثلاثة وثلاثين مقعدًا في مجلس الولاية. تركَّزت تلك الانتصارات كلُّها في مناطق القبائل في بيهار، حيث ألحقت بحزب المؤتمر الحاكم هزيمة نكراء؛ ففي مراكز الاقتراع على أي حال، ثبتت قضية جهارخاند.

٣

عرض جيبال سينج وحزب جهارخاند الذي أسسه طريقًا واحدًا محتملًا أمام أبناء القبائل، وهو: حكم ذاتي داخل حدود الاتحاد الهندي، تكفله قوانين تحمي أراضيَهم وأعرافهم، كما تكفله إقامة مقاطعة في المناطق التي تُمثِّل فيها القبائل أغلبية. أما العناصر الراديكالية بين قبائل ناجا فعرضت طريقًا آخر؛ يتمثل في دولةٍ مستقلةٍ ذات سيادةٍ، مُقتَطَعةٍ من الهند ومميَّزة عنها. كان أكثر المُصِرِّين على ذلك الرأي بين قبائل ناجا قبيلة أنجامي، ومنها أحد أبناء قرية خونوما، الذي كان إحدى العلامات البارزة الأخرى التي صنعت تاريخ الهند، والذي لم تُدَوَّن سيرته بعد.

كان ذاك هو أنجامي زابو فيزو، الذي ارتبط اسمه بقضية ناجا لما يقرب من نصف القرن بعدئذٍ. وُلِدَ فيزو عام ١٩١٣، وكان ذا بشرة فاتحة اللون، ضئيل البِنية، يشوب وجهَه تشوُّهٌ رهيبٌ إثر نوبة شَللٍ أصابته في طفولته. تلقَّى تعليمه على يد المعمدانيين، وكان شاعرًا إلى حدٍّ ما — من ضمن ما ألَّف «نشيد وطني للناجا» — وكان يكسب عيشه ببيع وثائق التأمين قبل أن يهاجر إلى بورما. كان يعمل على أرصفة موانئ رانجون عندما غزا اليابانيون بورما، وقد انضمَّ إليهم في مسيرتهم إلى الهند، مقابل وعدٍ على ما يبدو باستقلال ناجا إذا ما نجحت اليابان في كسب حربها ضد بريطانيا.15
عاد فيزو إلى الهند بعد الحرب، وانضمَّ إلى مجلس ناجا الوطني وسرعان ما خلَّف فيه بصمته بدعواته المتَّقِدة إلى السيادة، والتي كثيرًا ما كانت تأتي في صيغة عباراتٍ اصطلاحيةٍ مسيحية. وقد كان أحد أعضاء وفد مجلس ناجا الوطني الذي التقى المهاتما غاندي في نيودلهي في يوليو ١٩٤٧. وبعد ثلاثة أعوامٍ انتُخِب رئيسًا للمجلس، فألزم أهل ناجا بالمطالبة ﺑ «الاستقلال الكامل»، وهدَّأ روع المشككين والمعترضين، الذين رغبوا في الوصول إلى تسويةٍ مع الهند. وقد كان كثير من شباب ناجا مستعدًّا للمضي مع فيزو حتى نهاية الطريق. وأثناء سفر هوراس ألكسندر عضو جماعة الكويكرز في المنطقة في ديسمبر ١٩٥٠، التقى عضوين من مجلس ناجا الوطني كانت «كلمة «الاستقلال» مستحوذة على ذهنيهما، ولا أظن أنَّ أيَّ قدرٍ من الجدال أو الاحتكام إلى الدستور الهندي — ناهيك عن التهديد — يمكن أن يصرفها عن ذهنيهما».16
كان فيزو رجلًا ذا طاقةٍ وقدرات تحفيزيةٍ هائلة؛ فطوال عام ١٩٥١ طاف مع رجاله بأنحاء تلال ناجا، وحصلوا على بصماتٍ وتوقيعاتٍ على وثيقةٍ تؤكِّد دعم إنشاء دولة مستقلة للناجا. وفيما بعد، زعموا أنَّ رزمة البصمات كانت تزن ثمانين رطلًا، وأنَّ ذلك كان استفتاءً شعبيًّا شاملًا كشف أنَّ «٩٩٫٩٩٪ صوَّتوا لصالح استقلال ناجا».17 تلك الأرقام أرجعت للأذهان ممارساتٍ مشابهةً في الدول الشمولية؛ حيث كان يُقال — مثلًا — أن ٩٩٫٩٩٪ من الشعب الروسي أيَّدوا ستالين قائدًا أعلى. ولكن لا شك في أنَّ فيزو نفسه كان يريد الاستقلال، وكذلك كثير من أتباعه.
كانت الهند ذاتها آنذاك قد أمضت أربعة أعوامٍ مستقلة؛ فحلَّ موظفون هنود محل البريطانيين، ولكن فيما عدا ذلك لم يكن للدولة الجديدة أثر يُذكَر على تلال ناجا؛ فالنخبة السياسية في نيودلهي، إذ انشغلت بمداواة جروح التقسيم وتوطين اللاجئين ودمج الولايات الأميرية وصياغة الدستور، لم تُعِرْ تلك القبائل انتباهًا كبيرًا. إلا أنَّه خلال الأسبوع الأخير من عام ١٩٥١ كان رئيس الوزراء بمدينة تزبور في آسام، يروِّج لحزبه في الانتخابات العامة؛ فجاء فيزو وثلاثة من أبناء ناجا للقائه؛ فعندما قال فيزو إنَّ قبائل ناجا تريد الاستقلال، وصف نهرو ذلك بأنه طلب «سخيف»، يسعى إلى «الرجوع بالزمن إلى الوراء». وأخبرهم أنَّ «أبناء ناجا يتمتعون بالحرية كأي هنديٍّ آخر» وأنهم بموجب الدستور «يتمتعون بدرجةٍ كبيرةٍ من الحكم الذاتي في إدارة شئونهم الخاصة». ثم دعا فيزو والآخرين إلى «تقديم مقترحاتٍ لتوسيع نطاق الحكم الذاتي في المجالات الثقافية والإدارية والمالية في أرضهم». وقال إنَّ اقتراحاتهم سوف يُنظَر إليها بعين العطف، ويمكن تعديل الدستور نفسه إنْ لزِم الأمر. إلا أنَّ استقلال ناجا أمر غير واردٍ بالمرة؛18
فرد مجلس ناجا الوطني بمقاطعة الانتخابات العامة. وبعد تولِّي حكومة حزب المؤتمر المنتخبة مهامها، طلب فيزو اجتماعًا آخر مع رئيس الوزراء في نيودلهي؛ ففي الأسبوع الثاني من فبراير ١٩٥٢، التقى هو واثنان آخران من زعماء مجلس ناجا الوطني بنهرو. وأخبرهم رئيس الوزراء مجدَّدًا بأنَّه في حين أنَّ الاستقلال ليس خيارًا مطروحًا، يمكن منح قبائل ناجا قدرًا أكبر من الحكم الذاتي. ولكن فيزو ظلَّ مُصِرًّا على موقفه. وقال في مؤتمرٍ صحفي: «إننا سنواصل سعينا المستميت إلى الاستقلال، ويومًا ما سوف نلتقي نهرو مجدَّدًا من أجل الوصول إلى تسويةٍ ودية» (كممثلين لدولة منفصلة). وكان من المفترض بالدولة الحرة التي ارتآها أن تجمع شمل ٢٠٠ ألف من أبناء ناجا في الهند، و٢٠٠ ألف آخرين فيما سمَّاه الأراضيَ «غير التابعة لأحد»، و٤٠٠ ألف كانوا آنذاك من مواطني بورما.19
وفيما بعدُ استضاف جيبال سينج زعيم حزب جهارخاند فيزو وجماعته على الغداء؛ فوصف أحد الصحفيين الحاضرين فيزو بأنه «رجل قصير القامة، رشيق القوام يبدو منغوليًّا، ويرتدي نظارة تُخفي وراءها عينين متَّقِدتين بالتصميم». كذلك فقد سمع ذلك الصحفي جيبال يقول إنَّه رغم تعاطفه مع قضايا أرض ناجا، فإنه «يكره أن يحدث أي تفتُّتٍ زائدٍ للهند في صورة باكستان جديدة». وقد نصح جيبال فيزو بألا يطالب بدولةٍ منفصلةٍ ذات سيادة، وإنما أن يقاتل في سبيل إقامة مقاطعةٍ قبليَّةٍ في الشمال الشرقي، تكون نظيرةً لجهارخاند التي يقاتل هو نفسه في سبيلها؛ فكان جواب الضيف الآتي: «قبائل ناجا منغولية؛ ومن ثَمَّ فهي لا تربطها صلة عرقية بشعب الهند.» وقال فيزو إنَّه يأمل في توحيد قبائل ناجا المقيمة على هذا الجانب والقبائل المقيمة على الجانب البورمي حتى تُكوِّن بلدًا خاصًّا بها. إلا أنَّه، حسبما أشار الصحفي: «وفقًا لوجهة النظر الرسمية لدلهي، مثل تلك الدولة لا يمكن أن تقوم، ونظرًا لأنَّ تلك التلال المهيبة تُمثِّل حدودًا استراتيجية بين دول، فمن الخطر أنْ يُطلَق العنان لقبائل ناجا فيها.»20

٤

في أكتوبر ١٩٥٢، أمضى رئيس الوزراء نهرو أسبوعًا في جولةٍ بمنطقة الحدود الشمالية الشرقية. كان لديه بالفعل بعض الدراية بقبائل شبه الجزيرة، التي أُعجِب كثيرًا بتقاليدها الفنية وحماسها للحياة؛ ففي شهر يونيو من ذلك العام، أدان نهرو في مؤتمرٍ خاطب فيه الأخصائيين الاجتماعيين في نيودلهي الراغبين في جَعْل أهل القبائل «نُسَخًا رديئة من أنفسهم». فقد كان يرى أن العالم المتحضِّر يمكنه أنْ يتعلَّم الكثير من الأديفاسي، الذين كانوا «أُناسًا بالغي الانضباط، وأكثر ديمقراطيةً في أغلب الأحيان من معظم سكان الهند الآخرين؛ فهم في المقام الأول أُناس يُغنُّون ويرقصون ويحاولون الاستمتاع بالحياة، وليسوا أُناسًا يجلسون في حجرات تداول الأوراق المالية، يتصايحون ويظنون أنفسهم متحضِّرين».21
وعند أول انكشافٍ مطوَّلٍ على الشمال الشرقي تجدَّد تقدير نهرو للقبليين؛ فمثلما كتب إلى صديقٍ له في الحكومة، كانت زيارته «مبهِجةً للغاية». وكان يتمنَّى لو كانت تلك المناطق «معروفةً أكثر بكثيرٍ مما هي معروفة لدى سائر الشعب الهندي؛ فمثل ذلك الاتصال يمكن أنْ يكون فيه نفع كبير لنا». وقد وجد نهرو نفسه «مذهولًا أمام المهارات الفنية لهؤلاء الذين يُدعَوْن قَبَليين … وبمنسوجاتهم اليدوية البديعة». إلا أنَّ تلك الصناعة كانت مُعرَّضة لخطر الدخول في منافسةٍ مع سِلَعٍ أكثر قُبحًا، وإنْ كانت أرخص ثمنًا، تُنتجها المصانع في السهول. ورجع نهرو «بانطباعٍ قويٍّ مفاده أنه ينبغي لنا بذل قصارى جهدنا لمساعدة هؤلاء القوم القبليين في ذلك الصدد».22

كتب رئيس الوزراء تقريرًا مطوَّلًا عن رحلته، أرسله إلى رؤساء وزراء الولايات كافة، ذكر فيه أنَّه ثَمَّةَ حركة ساعية إلى «دمج … أهل القبائل في أهل آسام». وكان نهرو يرى أنَّ الأجدر توجيه الجهود صوب «الحفاظ على ثقافتهم المتفرِّدة»، وإشعارهم «بأن لديهم الحرية الكاملة في عيش حياتهم كما يحلو لهم وتطوير أنفسهم وفقًا لرغباتهم وميولهم؛ فينبغي أنْ تُمثِّل الهند لهم قوة مُحَرِّرة إلى جانب كونها قوة حامية».

كانت المنطقة التي عبرها نهرو — منطقة الحدود الشمالية الشرقية — ملاصقةً لمنطقة ناجا، بل كان فيها كثير من أبناء قبائل ناجا. وفي حين أنَّ نهرو وصف طلب إقامة دولةٍ مستقلةٍ لناجا بأنه «من قبيل السخف»، فقد كان لديه «شعور بأن الوضع في تلال ناجا كان يمكن أنْ يكون أفضل بكثيرٍ لو كان المسئولون المحليون تعاملوا معه بكفاءةٍ أكبر قليلًا، ولولا وجود بعض المسئولين المشهورين بقلة شعبيتهم. وإضافةً إلى ذلك فإنَّ أي محاولةٍ لفرض أساليبَ وأعرافٍ جديدةٍ على أبناء ناجا لا تفلح إلا في إثارة حفيظتهم وجلب المتاعب».23
وبينما كان نهرو يحثُّ المسئولين على اتِّخاذ سلوكٍ أكثر تعاطفًا تجاه قبائل ناجا، كان مجلس ناجا الوطني بصدد إصدار إنذارٍ نهائيٍّ له، حملته رسالة موجَّهة إلى نيودلهي يوم ٢٤ أكتوبر، بينما كان رئيس الوزراء لا يزال في منطقة الحدود الشمالية الشرقية. في ذلك الخطاب، أَصَرَّ فيزو ورجاله على «أنه ليس ثَمَّةَ قاسم مشترك واحد بين الهنود وشعب ناجا … وبمجرد أن نرى الهنود، يتسلل إلى أذهاننا شعور كئيب بالظُّلمة».24
بعد مرور ستة أشهر، زار نهرو كوهيما عاصمة ناجا في صُحبة رئيس وزراء بورما أُو نو؛ فعندما طلب وفد من ناجا مقابلة نهرو لتقديم مذكرة، رفض المسئولون المحليون السماح لهم بمقابلته. ذاع خبر الرفض، حتى إنَّ رئيس الوزراء وضيفه البورمي عندما جاءا لحضور مؤتمرٍ شعبيٍّ عُقِد على شرفيهما، شاهدا الحضور ينصرفون لدى مجيئهما. ووفقًا لإحدى الروايات فقد كشف أهل ناجا عن مؤخِّراتهم أثناء رحيلهم كأسلوب للاحتجاج. ووفقًا لروايةٍ أخرى، قالت ابنة نهرو — إنديرا غاندي — لوالدها في ميكروفون قيد التشغيل: «أبي، هؤلاء الناس يرحلون جميعًا.» فأجاب هو في ضجر: «نعم يا بُنَيَّتي، أراهم يرحلون.»25

قيل لاحقًا إنَّ ذلك الانسحاب زاد شدة موقف نهرو ضد أهل ناجا. وفي الواقع فقد كان فيزو ومجلس ناجا الوطني قد عقدا العزم على نيل الاستقلال على أي حال. وكانا عاكفين بالفعل على جمع السلاح وتنظيم «حرس وطني» في القرى. ومن جانبها أخذت الولاية تنقل فصائل من قوة «بنادق آسام» شبه العسكرية إلى المنطقة.

بحلول صيف عام ١٩٥٣ كانت القيادات العُليا لمجلس ناجا الوطني قد نقلت نشاطها تحت الأرض؛ فداهمت الشرطة معاقل الأنجاميين بحثًا عنهم؛ مما زاد نفور أهل القرى. وإلى جانب تمتُّع المتمردين بميزتَي الدراية بالمنطقة ودعم أهلها، كان لديهم ميزة عظيمة أخرى، وهي: تضاريس المنطقة. كان جمالها يفوق الوصف؛ إذ علَّق زائر بريطاني عليها قائلًا: «المناظر الطبيعية من أروع ما شاهدت؛ سلاسل من التلال المتلاحقة التي تغطيها الغابات والتي تُغيِّر تجمُّعاتها باستمرارٍ مع استمرارنا في الصعود. وقممها تبزغ من بين الضباب كجزرٍ وسط بحرٍ أبيض.»26 إلا أنَّها كانت أيضًا مثالية لحروب العصابات؛ فمثلما ذكر أحد أفراد الحملة اليابانية المحنَّكين، ذلك «بلد يمكن لفصيلةٍ تُحسن الاختباء أنْ تتصدَّى لفرقة، ويمكن لسَرِيَّة أن تتصدَّى لفيلق».27

كانت تلك حربًا دارت رحاها كاملةً بعيدًا عن أنظار العالم بنطاقه الواسع؛ فلم يُسمَح للصحفيين أو لأحدٍ من غير سكان المنطقة بدخولها. وإنَّ إعادة تصوُّر تاريخ تلك الحرب لَمهمة عسيرة تستلزم الاعتماد بالأساس على رواياتٍ نُقِلَت فيما بعدُ عن صحفيين وباحثين. ومن تلك الروايات يتضِح أنَّ الوضع تدهور بوضوح عام ١٩٥٤؛ ففي ربيع ذلك العام، صدم ضابط جيش أحد المارَّة خطأً بدراجته البخارية في كوهيما؛ فتجمَّعت حوله جمهرة من الناس احتجاجًا على ما بدر منه؛ فأطلقت الشرطة النار في ذعر، وتسببت في مقتل قاضٍ موقَّرٍ كان أيضًا عضوًا في مجلس ناجا الوطني.

أسفرت تلك الواقعة عن سخطٍ بالغٍ بين أهل ناجا؛ «فقد زادت عمق كراهيتهم «للهنود غير المرغوب فيهم» وكانت إيذانًا بالثورة». فقد سيطر المتطرِّفون على مجلس ناجا الوطني، ونُبِذَت العرائض والتظاهرات، وبدأ الإعداد لانتفاضةٍ مُسلَّحة؛ فبدأ المتمرِّدون في نقل الأسلحة إلى ملاذٍ آمنٍ في منطقة تونسانج. وفي يونيو من عام ١٩٥٤ هاجمت قوة «بنادق آسام» قريةً اعتُقِد أنَّها متعاطفة مع العصابات المسلَّحة. وفي شهر سبتمبر أعلن بعض العناصر المتمرِّدة «حكومة ناجالاند الفيدرالية».

بحلول ذلك الوقت كانت أعمال القتل والقتل المضاد تجري بصفةٍ منتظمة؛ فكان المتمردون يستهدفون القرى الموالية للحكومة، فيما تهاجم السلطات القرى المتعاطفة مع النضال من أجل الحرية. واسْتُدْعِيَت فرقة من الجيش الهندي لإخماد الثورة، إضافةً إلى كتائب قوة «بنادق آسام» الخمس والثلاثين التي نزلت ساحة المعركة بالفعل. وفي مارس ١٩٥٥ اندلعت معركة مريرة في منطقة تونسانج، وعندما انتهى إطلاق النيران وانقشعت سُحُب الدخان، تبين حرق ستين بيتًا وعدة صوامع.28

وعلى الرغم من الحرب الأهلية، فقد ظَلَّت بعض قنوات الاتصال مفتوحة؛ ففي سبتمبر ١٩٥٥، ذهب فيزو بنفسه مع اثنين من زملائه لمقابلة رئيس وزراء آسام. لا يوجد في متناول أيدينا تفاصيل عن ذلك الاجتماع، وعقب انتهائه عاد فيزو إلى دياره. إلا أنَّ أحد كبار معاونيه — تي صخري — كان قد اقتنع بأنَّ قبائل ناجا لا يمكنها أن تأمل أبدًا في هزيمة الجيش الهندي. وكان يرى أنَّ مجلس ناجا الوطني؛ إذ أوضح موقفه، ينبغي له أنْ يُلقيَ سلاحه، ويسعى إلى الوصول إلى تسويةٍ شريفةٍ مع الحكومة في نيودلهي.

في المقابل، كان فيزو قد تعهَّد بشَنِّ «حرب لا تعرف الهدنة ولا التقهقر ولا التسوية». وقد شعر بإهانةٍ بالغةٍ من اقتراح التفاوض، لا سيما وأنَّ صخري كان مثله أنجاميًّا من خونوما، بل من العشيرة ذاتها: مِرهوما. «كان فيزو غاضبًا جدًّا من لين موقف صخري»، الذي جاء مع انضمام شباب كُثُر إلى ركب المتمردين، وبلوغ جيشهم أعلى قوام له، وهو: ١٥ ألف فرد. ولكن صخري كان مقتنعًا بأنَّه رغم ذلك لا مجال أمامهم للصمود أمام الأمة الهندية الجبارة؛ فبدأ يطوف القرى، ويعظ الناس بمخالفة تطرُّف فيزو، ويُحذِّر من أنَّ العنف لن يجلب سوى مزيدٍ من العنف.29

ففي يناير من عام ١٩٥٦ جُرَّ تي صخري من سريره، وأُخِذ إلى الغابة ليُعَذَّب ثم يُقتَل. ساد ظن واسع النطاق بأنَّ فيزو كان مَن أمر بقتله، وإنْ كان هو أنكر ذلك. وعلى أي حال، فقد وصلت الرسالة؛ أنَّ ذلك هو مصير من يخون القضية. وفي مارس أُعْلِنت مجدَّدًا «حكومة ناجالاند الفيدرالية»، وصُمِّم عَلَم وطني جديد، وعُيِّن قادة جدد للمناطق المختلفة من الوطن المحدَّد. ثم وَقَعَ في شهر يوليو حادثُ قتلٍ ألحق بصورة الهند ضررًا مساويًا للضرر الذي أحدثه مقتل صخري بصورة مجلس ناجا الوطني؛ فقد كانت مجموعة من الجنود قد تغلَّبت لتوِّها على كمينٍ نصبه المتمرِّدون، وعائدةً أدراجها إلى كوهيما. كان حظر التجوال مفروضًا على المدينة، ولم يكن من المفترض بأحدٍ الوجود في الشوارع. لكن كان ثَمَّةَ رجل عجوز وحيد في الشارع، فعندما رآه الجنود أمروه بالابتعاد عن الطريق؛ فعندما احتجَّ الرجل، ضربه الجنود بأعقاب البنادق ثم ألقَوْه في النهاية من حافة جرف.

كان ذاك الرجل الذي قتله الجنود دون اكتراثٍ طبيبًا يُدْعَى تي هارالو. وكان في الواقع أول من مارَس الطب الإخلافي في تلال ناجا؛ ومن ثَمَّ كان معروفًا وموقَّرًا في أنحاء كوهيما وما حولها. وبدَّد مقتله أي ميزةٍ دعائيَّةٍ قد يكون الهنود حصلوا عليها إثر مقتل صخري؛ فلو كان مقتل ذلك الأخير «ضاعف الارتداد عن مجلس ناجا الوطني إلى نيودلهي، فقد حدث العكس تمامًا بمقتل الدكتور هارالو».30

وفي الوقت نفسه فقد تزايد وجود الجيش بوضوح؛ فكانت القوة المُسمَّاة حديثًا «قوة تلال ناجا» تتألَّف من وحدةٍ واحدةٍ من سلاح المدفعية الجبلية، وسبع عشرة كتيبة مشاة، وخمسين فصيلًا من قوة «بنادق آسام». كذلك كان للمتمردين هيكل عسكري خاص بهم، يرأسه قائد أعلى (خبير استراتيجي لامع يُدْعَى كايتو) يعمل تحت إمرته أربعة قادة، قُوَّاتهم مقسَّمة إلى كتائب وسَرايا. كان عتاد قبائل ناجا يتمثَّل في البنادق البريطانية واليابانية، ومدافع ستِنَّ ومدافع آلية، وكلها جزء من البقايا المتخلِّفة عن الحرب العالمية الثانية. كذلك كان المتمردون يستخدمون بنادق محلية الصنع تُعَبَّأ من الفوهة، وعند الالتحام المباشر كانوا يستخدمون السيف التقليدي لقبائل ناجا؛ أي، الداو.

وإضافةً إلى قوات ناجا النظامية كان ثَمَّةَ جماعات غير نظاميةٍ عالية الفاعلية، مقسَّمة إلى «فرق متطوعين» و«فرق مراسلة» و«منظمات تطوعية نسائية». تمثَّلت الأخيرة في مُمَرِّضات أثبتن جدارة فائقة في القتال عند استدعائهن للحرب. وإضافةً إلى ذلك كله كان الدعم الصامت للقروي العادي. وضمن عمليات محاربة التمرد، ضمَّ الجيش الهندي قرًى صغيرةً معزولةً في «قرًى مجمَّعة»، كان على سكانها المبيت فيها ليلًا، والذهاب للعمل في الحقول نهارًا. تلك الاستراتيجية التي كان القصد منها كَسْر سلسلة المعلومات الممتدة من الفلاحين إلى المتمردين، لكنها لم تفلح إلا في زيادة تدنِّي شعبية الجيش بين أبناء قبائل ناجا.31
وبحلول منتصف عام ١٩٥٦، اشتعلت حربٌ شاملةٌ في تلال ناجا. وأقَرَّ وزير الداخلية — جوفِند بالَّاب بانت — في بيانٍ ألقاه على البرلمان في الأسبوع الأخير من يوليو، بأنَّ الجيش الهندي فَقَدَ ثمانية وستين رجلًا، وقتل ٣٧٠ رجلًا من «القوات المُعادية». واتَّهم بانت فيزو بقتل صخري — الذي سمَّاه «قائد مجموعة المتعقِّلين والوطنيين» — و«الإلقاء بأبناء ناجا في التهلكة». أما الحديث عن استقلال ناجا فاستهزأ به باعتباره «مَحْض هُراء». كما أعرب عن أمله «في أن يثوب أبناء ناجا إلى رشدهم ويدركوا أننا جميعًا ننتمي إلى الهند».32
لم ينل النزاع تغطيةً من الصحافة الهندية (ولا الدولية)، ولكننا يمكن أن نستشعر نطاقه من رسائل كتبها طبيب من ناجا إلى نائب المفوِّض البريطاني الأخير في منطقة تلال ناجا، تشارلز بوزي؛ ففي رسالة كتبها في يونيو ١٩٥٦ وصف جولة في المحيط الداخلي للمنطقة قائلًا: «كُنَّا نرفع أنظارنا كل ليلةٍ لنرى قُرًى مشتعلةً بين التلال، ولا أحد يعلم مَن أضرَم النار فيها: المتمردون أم الجيش.» أما عن زعيم المتمردين، فقال:

فيزو يصنع فظائع رهيبةً بأي موظفٍ في حكومة ناجا يقع في يديه، بل أفظع من ذلك بأي أحدٍ من أبناء ناجا كان في صفه ثُم انصرف عنه — كما فعل الكثيرون — لأساليبه المتطرفة … فكثير من شيوخ القبائل اختفَوْا ولا أحد يعلم ما إذا كانوا مختبئين أم أنَّ فيزو قد نال منهم. لا شك أنَّهم في موقفٍ عصيب؛ فهم إن انضموا إلى صف الحكومة نال منهم فيزو، وإن لم يفعلوا نالت منهم الحكومة.

وبعد مرور شهرين، كتب الطبيب إلى بوزي قائلًا:

حسبما أرى، فإن ٠٫٥٪ من أبناء ناجا في صف فيزو، و١٪ أكثر اعتدالًا، ويريدون الانفصال عن آسام والدخول تحت مظلة دلهي، في حين أنَّ ٩٨٫٥٪ لا يرغبون إلا في أن يُترَكوا وشأنهم … لا شك أنَّ السلوك الذي كان الجيش — ولا يزال — يتَّبعه يعني انعدام الأمل في نشأة تعاونٍ طوعيٍّ الآن بين أبناء ناجا وأي حكومة.

وأضاف أنَّ أساليب الجيش بلغت حدًّا «سوف يؤثِّر على العلاقات بين الهند وقبائل ناجا حتى ٥٠ إلى ١٠٠ عام».33

وفي أغسطس من عام ١٩٥٦ دار نقاش مُطَوَّل داخل مجلس الشعب الهندي حول الوضع في تلال ناجا. وحكى عضو ميتِّي في مانيبور عن زيارةٍ للمنطقة في الآونة الأخيرة، هاجم فيها المتمردون قافلة المركبات التي كان مسافرًا فيها. واستنادًا إلى تحرياته، اتَّضح أنَّه «من الصعب أن نقنعهم بطريقة تفكيرنا وأسلوب حياتنا، وفيزو على وجه التحديد يصعب استمالته». ووافق ذلك العضو على أنَّ قبائل ناجا لا يمكن «أن تحظى باستقلالٍ منفصل»، إلا أنَّه رأى أنه ينبغي منحها ولايةً منفصلةً فورًا داخل الاتحاد الهندي.

كان المتحدث التالي هو الاشتراكي ريشانج كيشينج، الذي هاجم الجيش بشراسةٍ لإقدامه على حرق القُرى وقتل الأبرياء. (كيشينج ذاته كان من قبيلة تانجكول ناجا بمانيبور.) فقال: «لقد أبدى الجيش استهانة تامَّة بمشاعر قبائل ناجا المحلية، فقد حاول إثارة ذعرهم بحمْل الجثث العارية لمن قتلوهم من أبناء ناجا.» وقال كيشينج إنه عندما التقى فيزو بنهرو عامَي ١٩٥١ و١٩٥٢، «لم يحاول أيٌّ من الطرفين فهم عقلية الآخر وسرعان ما تعكَّر صفو الجوِّ وفقد كلٌّ منهما أعصابه». وكان يتمنَّى «لو كان رئيس الوزراء أبدى في ذلك الموقف القدر ذاته من الصبر والبصيرة النفسية اللذين اشتُهر بهما في ميدان الدبلوماسية الدولية». وفي السنوات التالية على ذلك اللقاء، استخدم الجانبان أساليب وحشية. وسأل كيشينج: «من يمكن أن يتباهى بسجلٍّ نظيف؟ من يجرؤ أن يُلقي الحجر الأول مؤكِّدًا أنَّه ليس بآثِم؟ هذا سؤال أوجِّهه للقوات المعادية في ناجا وللحكومة على حدٍّ سواء.» وأوصى بإصدار «إعلان فوري للعفو العام»، وإرسال وفد برلماني من الأحزاب كافةً إلى منطقة الاضْطِرابات، وعقد اجتماع بين الحكومة ومجلس ناجا الوطني. وقد ناشد رجال فيزو أيضًا القَبول بعقد هدنة؛ «لأن استمرار الأعمال العدائية يعني هلاك المواطنين الأبرياء».

ردًّا عليه، أقَرَّ رئيس الوزراء بحدوث بعض عمليات القتل — بما في ذلك مقتل الدكتور هارالو «الذي أثار بالغ ضيقنا» — ولكنه زعم «أنَّ القوات المعادية في ناجا أحرقت أكثر منَّا بكثير». وقال إنَّ الحكومة تبتغي تعاون قبائل ناجا، وأنَّ نيودلهي — كما كان قد أخبر فيزو مرارًا وتكرارًا — مستعدة للنظر في الاقتراحات المتعلقة بتعديل الجدول السادس بالدستور، الذي سمح للمناطق القَبَلِيَّة بدرجةٍ كبيرةٍ من الاستقلال في إدارة أرضها ومواردها. إلا أنَّه لم يرَ الوقت مناسبًا لإرسال وفدٍ برلمانيٍّ إلى تلال ناجا. وقد أَصَرَّ على أنَّه «لا فائدةَ من التحدُّث إليَّ عن الاستقلال … فأنا أراه أمرًا عجيبًا أن يُدْعَى ذلك الركن الصغير الواقع ما بين الصين وبورما والهند — وجزء منه في بورما — دولة مستقلة».34
وفي ديسمبر ١٩٥٦، أعلن منشور أصدرته البعثة الدبلوماسية الهندية في لندن عن «نجاح» العمليات العسكرية في تلال ناجا. وزعم أنَّ الجيش قد حطَّم صفوف المتمردين، ثم «انخرط في عمليات تمشيط». ويبدو أنَّ ذلك الزعم كان له مصداقية كاملة؛ إذ لم تكد تمر بضعة أسابيع حتى نشرت صحيفة «مانشستر جارديان» خبرًا بعنوان «نهاية تمرُّد ناجا تقريبًا». وجاء في الخبر أنَّ الحكومة الهندية بصدد اتِّخاذ خطواتٍ «للوصول إلى اتفاقٍ ما مع المعتدلين في ناجا، الذين تتزايد أعدادهم بانتظام». إلا أنَّه لم يكن ثَمَّةَ دليل على وجود أيِّ دليلٍ مستقلٍّ على ذلك الفَجْر الجديد الذي قِيلَ إنَّه أوشك على الطلوع.35

٥

طوال خمسينيات القرن العشرين واصلت حركة جهارخاند حملتها من أجل إقامة مقاطعة داخل الهند تحت إدارة الأديفاسي وترعى مصالحهم؛ فعندما زارت لجنة إعادة تنظيم الولايات المنطقة في يناير ١٩٥٥، قُوبِل أعضاؤها بمتظاهرين في كل مكانٍ يهتفون بشعار «جهارخاند ولاية منفصلة!» وفيما استرجع أحد المحتجين ذكرياته عن تلك الفترة، قال: «ارتسم مطلب ولاية جهارخاند جليًّا على وجه كل فردٍ من الأديفاسي.»36

وفي الجهة المقابلة من البلاد، درات معركة في مانيبور في سبيل إعلان تلك المشيخة السابقة ولاية مكتملة الأركان ضِمن الاتحاد الهندي. وفي عام ١٩٤٩، قامت حركة شعبية أجبرت المهارجا على عقد مجلسٍ مُنتَخَبٍ على أساس حق الاقتراع العام للبالغين. ولكن المجلس انحلَّ عندما اندمجت مانيبور في الهند. ومن ثَمَّ صارت المنطقة تندرج تحت فئة ولايات «الجزء جيم»؛ أي إنها لم يكن بها هيئة منتخبة شعبيًّا وحَكَمَها مفوَّضٌ يتبع دلهي مباشرةً.

كانت مانيبور ممتدة على مساحة ٨٦٠٠ ميل مربع، غطَّى الوادي ٧٠٠ ميل مربع منها فقط، وسكنه ٣٨٠ ألف فرد من الميتِّيين، الذين يعتنقون التقاليد الفايشنافية الهندوسية. أما القطاع الجبلي الأكبر فكان موطن ١٨٠ ألفًا من قبائل ناجا وكوكي. وقد كان أحد هؤلاء القبليين — ريشانج كيشينج المذكور سابقًا — هو من أشعل فتيل حركة في عام ١٩٥٤ للمطالبة بإقامة حكومة نيابية في مانيبور؛ فكان كيشينج وزملاؤه الاشتراكيون يرابطون يوميًّا أمام مكتب المفوض في إمفال. وقُبِضَ على آلاف المتظاهرين السلميين، كثيرٌ منهم من النساء. ولكن الحكومة لم ترضخ؛ فقد تحدَّث وزير الداخلية في البرلمان، قائلًا إنَّ الوقت لم يحنْ بعدُ لتشكيل مجالس تشريعية في ولايات «الجزء جيم» مثل مانيبور وتريبورا. وقال: «هاتان الولايتان تحتلَّان موقعَين استراتيجيَّين على حدود الهند. وشعباهما لا يزالان متخلفَين سياسيًّا نسبيًّا، والجهاز الإداري في هاتين الولايتين لا يزال ضعيفًا.»37

لا أحد يعلم ما إذا كان مجلس ناجا الوطني كان على درايةٍ بالصراع الدائر في جهارخاند ومانيبور، أو بامتناع نيودلهي عن الرضوخ؛ فعلى أي حال، كان فيزو ورجاله يطمحون إلى هدفٍ أكبر بكثير؛ ليس مجرد مقاطعة داخل الهند، وإنما دولة خارجها. ربما كان ذلك المطلب «سخيفًا» ولكنه ألهم أعدادًا كبيرة من قبائل ناجا بهجر قُراهم والانضمام إلى صفوف المقاتلين.

في ذلك الوقت — منتصف خمسينيات القرن العشرين — بلغ تعداد سكان قبائل ناجا المقيمين بالمنطقة التي تحمل اسمها ٢٠٠ ألف، إضافةً إلى عددٍ مُقاربٍ في منطقة الحدود الشمالية الشرقية، و٨٠ ألفًا آخرين في مانيبور؛ فكان تعداد سكان قبائل ناجا نصفَ مليونٍ إجمالًا، نحو ١٠ آلاف منهم متفرِّغون للقتال. إلا أنَّ قوة الإرادة عوَّضت ضعف العدد بما فيه الكفاية؛ فتلك الجماعة الصغيرة من المتمرِّدين أجبرت الدولة الهندية على إرسال قواتٍ عسكريةٍ كبيرةٍ لقمعها.

كان الهنود المُلِمُّون بنزاع ناجا خارج المنطقة الشمالية الشرقية آنذاك قِلَّة، في حين لا أحد تقريبًا من غير الهنود كان على درايةٍ به. إلا أنَّ النزاع كان له عواقب وخيمة على وحدة الدولة، واستمرار الديمقراطية فيها، ومشروعية حكومتها؛ فلم يحدث في أي مكانٍ آخر من الهند — ولا حتى كشمير — أن أُرسِل الجيش لإخماد تمرُّد أشخاصٍ يُعَدُّون مواطنين رسميًّا في دولة الهند.

واجهت الهند في عقدها الأول مشكلاتٍ كثيرة؛ منها حركات معارِضة على أساس الطبقة والدين واللغة والمنطقة. وقد عومِلت تلك الحركات بالعقل والحوار، أو — في حالاتٍ نادرة — بالاستعانة بقوات الشرطة النظامية. أما النزاع الذي نشب في تلال ناجا فلم يُفسح المجال أمام مثل تلك الحلول؛ فقد كان ثَمَّةَ تعارُض جوهري بين ما كان مجلس ناجا الوطني يطالب به وما كانت حكومة الهند مستعدة لمنحه. كان ذلك جدالًا لا يمكن حلُّه — على ما يبدو — إلا بتغلُّب أحد الطرفين على الآخر عسكريًّا.

فهم جواهر لال نهرو تمامًا الطبيعة الفريدة للموقف في منطقة ناجا؛ فعندما كتب إلى مجلس وزرائه في مارس من عام ١٩٥٥، نبَّههم إلى «المشكلة الصعبة إلى حدٍّ بعيد في المناطق القبلية بشمالنا الشرقي … حيث فشلنا في استمالة سكان تلك المناطق؛ فالواقع أنهم ما برحوا يبتعدون عَنَّا؛ ففي منطقة تلال الناجا، انتهج السكان طوال الأعوام الثلاثة والنصف المنصرمة سياسة عدم التعاون، وبقدرٍ كبيرٍ من الالتزام والنجاح».38
وبعد مرور عام، كتب نهرو إلى رئيس وزراء آسام قائلًا إنه في حين أنَّ الجيش سيظل منتشرًا ما دام المتمرِّدون حاملين السلاح ومتأهِّبين لاستخدامه، «لن تقتصر المسألة على النهج العسكري». وقال إنَّه على الرغم من أنه «ما من شكٍّ في أنَّ الثورة المسلحة لا بد من مواجهتها بالقوة، فماضينا كله ونظرتنا الحالية قائمة على أنَّ القوة في حد ذاتها ليست علاجًا؛ فقد ردَّدنا ذلك فيما يتعلق بمشكلات العالم الكبرى. لا بد أن نتذكر هذا بدرجةٍ أكبر حينما نتعامل مع أبناء وطننا الذين لا بد من استمالتهم لا مجرد قمعهم».39

كان تمرُّد ناجا متواريًا عن أعين العالم، ومجهولًا حتى لمعظم الهنود، إلا أنه على الرغم من ذلك تسبَّب في صداعٍ موجعٍ لحكومة الهند. فيما عدا ذلك، بدا نظام نهرو راسخًا مستقرًّا؛ فقد كان مُنتخَبًا ديمقراطيًّا، بأغلبيةٍ كبيرة، وكانت سياسته الخارجية والداخلية تستند إلى توافقٍ وطنيٍّ واسع النطاق. ولكن عمَّا قريب، كان مُقدَّرًا لتحدياتٍ جديدةٍ أن تنشأ، ليس على أطراف الهند، بل في مناطق تُعتبر جزءًا لا يتجزَّأ منها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤