الفصل الخامس عشر

تجربة الهزيمة

انقسام الهند ليس نذير سوء للشعب الهندي فحسب، وإنما لآسيا قاطبة وللسلام العالمي.

الزعيم القومي البورمي أَونج سان، يونيو ١٩٤٧

١

في اليوم الأخير من شهر مارس لعام ١٩٥٩، عَبَرَ الدلاي لاما خط مكماهون إلى أراضي جمهورية الهند؛ فلسنوات كان الحاكم العظيم للتبت يجلس قلِقًا على عرشه في قصر بوتالا بلاسا، بينما راح الصينيون يزيدون إحكام قبضتهم على بلده. زعم أحد المصادر المعاصرة له أنَّه كان ثمة ٥٠٠ ألف جندي صيني في التبت. وجاء في أعقابهم عشرة أضعاف ذلك العدد على الأرجح من مستوطني الهان.1

من المؤكد أن تلك الأعداد مبالغ فيها. إلا أنَّ الصينيين كان عددهم أكبر مما يَوَدُّ أهل التبت. وفي عام ١٩٥٨، بدأ شعب الكامبا في شرق التبت انتفاضة مسلَّحة ضد المحتلِّين. إلا أنَّه بعد إحراز بعض النجاحات في البداية، أخمدت الصين الثورة. وهددت الأعمال الانتقامية التالية بالمساس بالدلاي لاما نفسه؛ فعندما قبلت نيودلهي منحه حق اللجوء السياسي، فرَّ من لاسا تحت جنح الظلام، بصحبة مجموعة صغيرة من المرافقين المختارين بعناية.

قضى الدلاي لاما ليلته الأولى على الأراضي الهندية في دَيْر بوذي بتاوانج. ثم نزل إلى السهول، إلى بلدة تِزبور في آسام، حيث استجوبه مسئولون هنود. وبعد ثلاثة أسابيع نُقِل إلى نيودلهي لمقابلة رئيس الوزراء.

بدأت المحادثة بإخبار الدلاي لاما نهرو عن تمرد كامبا. كانت المعركة شرسة، والخسائر فادحة على الجانبين. وفي جميع أنحاء التبت، سادت مشاعر سخط عميقة إزاء دعاية الشيوعيين المضادة للدين. وعندما دعا الصينيون الدلاي لاما إلى بكين لحضور «مناسبة ثقافية»، حذَّره مستشاروه من أن يكون ذلك مخططًا يستهدف أسره واحتجازه. وعندما رفض الحضور، لجأ الصينيون إلى التهديد؛ لذا قرر الرحيل إلى الهند.

وقال الدلاي لاما لنهرو إنَّ أي إصلاحات تُجرى في التبت ينبغي أن تتم على أيدي أهلها بما يتماشى مع دينهم وتقاليدهم؛ فالطريقة الصينية ستجعل منهم «شعبًا بلا روح». كان يأمل هو نفسه في نيل التبت استقلالها، بمساعدة الهند. كذلك فقد كان مُعلِّمه القديم هاينريش هارر (مؤلف الكتاب الكلاسيكي «سبعة أعوام في التبت») يحثُّه على التماس الدعم من الغرب.

ردَّ عليه نهرو قائلًا إنَّ الهند لا يمكنها الدخول في حرب مع الصين من أجل حرية التبت. بل إنَّ «العالم أجمع لا يمكنه جلب الحرية للتبت ما لم يتمزق نسيج الدولة الصينية بالكامل». وقال نهرو للدلاي لاما إنَّه إنْ لجأ إلى الغرب، فسوف «يبدو سلعةً». فالأمريكيون أو الأوروبيون لا يكِنُّون تعاطفًا حقيقيًّا مع شعبه أو قضيته؛ وإنما «كل ما يريدونه هو استغلال التبت في حربهم الباردة مع الاتحاد السوفييتي».

وكان شعور نهرو هو أنَّ اتخاذ موقف «إما الاستقلال أو لا شيء» لن يوصل شعب التبت لشيء، وإنما يجب عليهم أن يبقوا الباب مفتوحًا أمام التفاوض على تسوية مع الصين. ويمكن للهند أن تساعد في ذلك، ولكن ليس قبل أن تُصلح علاقاتها هي نفسها مع بكين. فعلى حد تعبير نهرو، «في الوقت الحالي علاقتنا بالصين سيئة، وعلينا أن نعيدها إلى سابق عهدها، وهو ما لن يتحقق بإصدار التهديدات للصين أو التنديد بها».2

٢

وقت فرار الدلاي لاما، كانت العلاقات بين الهند والصين سيئة جدًّا بالفعل؛ ففي صيف عام ١٩٥٧، زار الراهب البوذي اللاداخي وعضو البرلمان كوشاك بَكولا التبت ولاحظ دلالات كثيرة على بناء طريق تجاه شينجيانج. ثم إنَّه في يوليو ١٩٥٨، طبعت مجلة رسمية — «تشاينا بيكتوريال»، التي تُنشَر في بكين — خريطة ظهرت عليها أجزاء كبيرة من منطقة الحدود الشمالية الشرقية ولاداخ على أنها أراضٍ صينية. ويوم ٢١ أغسطس، اسْتُدْعِيَ مستشار في السفارة الصينية إلى وزارة الخارجية، حيث سلَّمه أحد سكرتارية الخارجية الهندية المساعدين مذكرة احتجاج على الخريطة. ثم تصاعدت حدة المراسلات، وازداد التوتر في العلاقات.3 وفي يوم ١٨ أكتوبر، كتب سكرتير الخارجية الهندية إلى السفير الصيني معرِبًا عن احتجاجه على مرور جزء من الطريق السريع بين شينجيانج والتبت «عبر الجزء الشرقي من منطقة لاداخ في ولاية جامو وكشمير، التي تُمَثِّل جزءًا من الهند».4 وبحلول نهاية عام ١٩٥٨، كان رئيسا وزراء البلدين — جواهر لال نهرو وتشو إن لاي — يتبادلان الرسائل، في حوار استمر لبضع سنوات تالية، اتَّسم في البداية بالألم والحيرة وفي النهاية بالغضب والاستياء.
fig6

لا تزال الرسائل المتبادلة بين نهرو وتشو ذات أهمية رئيسية في فهم النزاع الحدودي. ربما صيغت على يد مسئولين آخرين، لكن المؤكد أنَّ الشخصين الذين وقَّعا عليها راجعاها بعناية من حيث اللهجة والمحتوى. كان هذان الرجلان سياسيَّين لديهما اهتمام عميق بالتاريخ. وكل منهما مشرَبٌ — ويمكن أن نقول إنه كان مدفوعًا — برسالة، ورغبة في نقل بلاده التي طال استعبادها إلى المرتبة العليا في العالم الحديث.

في إطار الترتيب الهرمي للحركة القومية الصينية المعاصرة، احتل تشو إن لاي المرتبة الثانية بعد ماو. وقد كان يرضخ في معظم الأمور — مثله في ذلك مثل نحو ثمانمائة مليون آخرين — لإرادة الرُّبَّان الأكبر، بل لأهوائه. لكن فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، تُرِك لتشو حرية التصرف؛ فمن بين كبار القادة الصينيين، كان هو الوحيد الذي عاش ودرس في الغرب. ونظرًا لبلوغه مرحلة النضج — الفكري — في باريس، فقد كان يتحدث الفرنسية بطلاقة، وكذلك بعض الإنجليزية. وكان يفتعل توجُّهًا عالميًّا في سلوكه؛ فحينما سُئِلَ عن أثر الثورة الفرنسية، رد قائلًا: «لا يزال الوقت مبكرًا للحكم.»

كما كتب ستيوارت شرام، فإنه عند عقد مؤتمر باندونج عام ١٩٥٥، كان تشو قد خلَّف انطباعًا بأنه «دبلوماسي مهذَّب وبارع»، وقف «جنبًا إلى جنب مع نهرو بصفته أحد الممثِّلين الرئيسيين للعالم غير الأوروبي، وقد فرَّقتهما الأيديولوجية، لكن وحَّدتهما حقيقة أنهما آسويَان».5

في عام ١٩٥٥ ربما كانت الأيديولوجية السياسية وحدها هي التي فرَّقت بين تشو ونهرو. ولكن عام ١٩٥٨، فرَّقت بينهما أيضًا المصلحة الوطنية. في ديسمبر ١٩٥٨، كتب رئيس الوزراء الهندي أول رسالة ضمن سلسلة طويلة من الرسائل إلى تشو. بدأ نهرو رسالته بالإعراب عن إعجابه بالتقدم الاقتصادي الذي أحرزته الصين، قبل أن يُحَوِّل دفة الحديث — بحذر ولطف — إلى مسألة الحدود؛ فقال مذكِّرًا إنهما حين التقيا عام ١٩٥٦، كان تشو يرى أنَّ خط مكماهون تركة الإمبريالية البريطانية، ولكنه أشار إلى أنَّه «نظرًا للعلاقات الودية» بين الصين والهند، فإنَّ الحكومة الصينية سوف تعترف به، بعد التشاور مع السلطات المحلية في التبت؛ فحينذاك أكَّد تشو انطباع نهرو بأنَّه «ليس ثمة خلاف حدودي ذو شأن بين الصين والهند». ثم ظهرت تلك الخريطة في مجلة «تشاينا بيكتوريال»، والتي رُسِمت حدودها «فوق الأراضي الهندية مباشرةً».

بعد مرور شهرٍ رَدَّ تشو، قائلًا إنه «تاريخيًّا لم تُبرَم معاهدة أو اتفاق بشأن الحدود الصينية الهندية قط». وخط مكماهون كان «نتاج عدوان السياسة البريطانية على منطقة التبت الصينية» و«لا يمكن اعتباره قانونيًّا». فكان تشو يرى أنَّ الهنود يحتجون على طريق شُقَّ في منطقة «كثيرًا ما كانت تحت الولاية الصينية». «كل ذلك يثبت أنه [خلافًا لادِّعاء نهرو] ثمة خلافات حدودية قائمة بالفعل بين الصين والهند.» كان ذلك هو السياق الذي ينبغي النظر فيه إلى الخريطة المنشورة في مجلة «تشاينا بيكتوريال». وقد اقترح تشو أن يحافظ الطرفان على الوضع الراهن مؤقتًا، لحين التوصل إلى «تسوية ودية» لمسألة الحدود.

كتب نهرو ردَّه يوم ٢٢ مارس ١٩٥٩، فقال إنه قد «فُوجِئ بعض الشيء» لمعرفة أنَّ بكين لم تقبل الحدود المُرَسَّمة بين الهند و«منطقة التبت الصينية»؛ إذ إنَّ تلك الحدود تعكس عدة اتفاقات محددة، منها: اتفاقات عُقِدَت بين كشمير ولاسا عام ١٨٤٢، وخط مكماهون في الشرق، الذي اتُّفِقَ عليه عام ١٩١٣-١٩١٤. هذا بالإضافة إلى أنه ثمة تضاريس طبيعية واضحة — مستجمعات أمطار وقمم جبال — تعرِّف الحدود بين البلدين. وقال نهرو إنه ربما كان ثمة فجوات في بعض المناطق، ولكن بالنسبة إلى «الجزء الأكبر من حدودنا مع الصين، ثمة مرجعيَّة كافية للحدود المبيَّنة في خرائطنا المنشورة، استنادًا إلى الجغرافيا والتقاليد وكذلك المعاهدات». واختتم نهرو الرسالة معربًا عن أمله في «الوصول إلى تفاهم في هذا الصدد عما قريب».

fig7
قبل أن يتسنَّى لتشو الرد، فرَّ الدلاي لاما إلى الهند، وهو ما عقَّد الأمور بدرجة هائلة؛ إذ كان الصينيون بالغي الاستياء من الترحيب الذي ناله من قطاعات كبيرة من الشعب الهندي. ولاموا نيودلهي على ذلك. أفلم يؤدِّ التقاء زعيم التبت بنهرو شخصيًّا إلى منحه مشروعية في غير محلها؟ كانت بكين ترى أنَّ ثورة التبت ليست انتفاضة شعبية على الإطلاق، وإنما هي من عمل «عناصر رجعية فارَّة تنتمي إلى الطائفة العليا» استمدت العَوْن من «الإمبرياليين الأمريكيين» و«عُصبة شيانج كاي-شيك». وقد بلغ الأمر ببعض وسائل الإعلام الصينية حد ادِّعاء أنَّ بلدة كاليمبونج الهندية هي «مركز قيادة الثورة»، وأنَّ الحكومة في دلهي تتأثَّر «بالدعاية والمكائد الإمبريالية»، وأنَّ علاقة الصداقة القائمة بين الصين والهند «تُهدَم من الجانب الهندي».6
كان ثمة بعض الدعاية من جانب لاجئي التبت في كاليمبونج، ولكن الصينيين بالغوا كثيرًا في تقدير أهميتها. وفي الواقع صدرت احتجاجات أعلى صوتًا بكثير عن مصادر هندية، لا سيما السياسي الذي تحوَّل إلى الخدمة الاجتماعية: جايا براكاش نارايان (جيه بي). كان جيه بي نصيرًا متحمِّسًا لقضية استقلال التبت، وهي القضية التي حَظِيَت بدعم عناصر أخرى أقل حيادية على ساحة السياسة الهندية؛ مثل حزب جانا سانج، الذي كان يرغب في دخول نيودلهي في تحالف صريح مع الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب الباردة والاستعانة بها في «تحرير» التبت.7 إلا أنَّه، مثلما أكَّد سكرتير الخارجية الهندية للسفير الصيني بعد شهر من فرار الدلاي لاما إلى المنفى، فإن «الهند لا رغبة لديها — في الماضي أو الحاضر — في التدخل في مُجريات الشئون الداخلية في التبت»، وأن الدلاي لاما «سوف يُعامَل باحترام في الهند، ولكن لا يُتوقَّع منه مباشرة أي أنشطة سياسية من هذا البلد». كان ذلك هو الموقف الحكومي، الذي عارضه بعض الهنود بطبيعة الحال؛ فكما أشار سكرتير الخارجية الهندية: «يكفل القانون والدستور الحرية الكاملة في التعبير عن الرأي في البرلمان والصحافة وغيرهما من الميادين في الهند. وكثيرًا ما يُعرَب عن الآراء في إطار شديد الانتقاد لسياسات الحكومة الهندية.»
لم يكن ذلك الفارق سهل الفهم على بكين، لأنه في الصين — في المجال العام على الأقل — لم يكن من الممكن انتقاد سياسات الحكومة. وقد انعكس الفرق بين هذين النظامين السياسيين — فلنسمِّهما الشمولية والديمقراطية — بنحو واضح على محادثة دارت بشأن حادثة وقعت في بومباي يوم ٢٠ أبريل؛ فوفقًا لرواية الجانب الصيني — التي عبَّرت عنها بكين لنيودلهي في رسالة بتاريخ ٢٧ أبريل — رفعت مجموعة من المتظاهرين شعارات وألقت خُطَبًا:

وَصَمَت إخماد الصين للتمرُّد الذي وقع في نطاق أرضها — منطقة التبت — بأنَّه عمل إمبريالي وتقوَّلوا عليها بشتى الافتراءات. والأخطر من ذلك أنَّهم ألصقوا صورة لماو تسي تونج، رئيس جمهورية الصين الشعبية، على جدار القنصلية العامة الصينية واقترفوا إهانة جسيمة بقذف الصورة بالطماطم والبيض الفاسد. وبينما كان أولئك الهمج يسيئون إلى الصورة، وقفت الشرطة الهندية متفرجة دون تدخُّل، وأبعدت الجمهور المحيط بهم حتى تتيح للمراسلين التقاط الصور.

من وجهة نظر بكين، مثَّلت واقعة بومباي «إهانة بالغة لرئيس دولة جمهورية الصين الشعبية والزعيم المحترم والمحبوب للشعب الصيني». فكانت تلك إهانة «لا يمكن لجماهير الشعب الصيني البالغ تعدادها ستمائة وخمسين مليون نسمة تحمُّلها بالمرَّة». وجاء في الشكوى أنَّه «إن لم يتم التوصل إلى تسوية معقولة» بخصوص تلك المسألة، وإذا «لم يكن رد الحكومة الهندية مُرضِيًا»، فإنَّ «الجانب الصيني لن يهدأ أبدًا دون التوصل إلى تسوية مُرضِيَة للمسألة، أي إنه لن يهدأ أبدًا ولو بعد مائة عام».

وردًّا على الشكوى، أعربت الحكومة الهندية «عن عميق أسفها على التعامل بأسلوب يفتقر إلى اللطف مع صورة الرئيس ماو تسي تونج، الرئيس المحترم لدولة تربطها بالهند أواصر الصداقة». ولكن الهند نفت تقديم رجال الشرطة الذين كانوا في الخدمة ذلك اليوم أيَّ مساعدة للمتظاهرين، بل على العكس، هم «وقفوا أمام الصورة لإنقاذها من التعرض لمزيد من التدنيس». واستأنفت الحكومة الهندية ردها واصفةً سلوك المتظاهرين بأنه «مؤسف» ولكن:

الحكومة الصينية تدرك بلا شك أنه وفقًا لقانون الهند لا يجوز حظر المسيرات ما دامت سلمية … حتى إنَّها تُنَظَّم في أحيان غير قليلة بالقرب من مقر البرلمان ويستخدم المتظاهرون شتى الشعارات المناوئة لشخصيات رفيعة المستوى في الهند. وقد حدث في الماضي أنْ أخذ بعض الأشخاص غير المسئولين صورًا للمهاتما غاندي ورئيس الوزراء وتعاملوا معها بأسلوب مهين؛ فالقانون والدستور في الهند يُقِرَّان مساحة كبيرة من الحرية للناس ما لم ينخرطوا في عنف فعلي.

٣

في الأسبوع الأول من سبتمبر لعام ١٩٥٩، أصدرت حكومة الهند «ورقة بيضاء» تحتوي على مراسلات خمسة أعوام مع نظيرتها الصينية. تضمَّنت تلك الرسائل نزاعات تافهة، ناتجة عن توغُّل دوريات مسلَّحة في أراضٍ يدَّعي الطرف الآخر أحقيته فيها، ومسائل أكبر بشأن وضع الحدود في الغرب وفي الشرق، وخلافات بشأن دلالة التمرُّد في التبت.

كان أعضاء البرلمان المعارضون — بقيادة أتَل بِهاري فَجبايي الزعيم الشاب فائر الحماس لحزب جانا سانج — يطالبون منذ فترة بأن تعرض الحكومة مراسلاتها مع الصين على البرلمان. وقد عجَّلت سلسلة من الأحداث الحدودية في أغسطس إصدار الورقة البيضاء؛ فقد حدثت صدامات بين الدوريات الصينية والدوريات الهندية في مواضع عدة من منطقة الحدود الشمالية الشرقية، وتعرَّضت إحدى النقاط الحدودية الهندية في لونج جو لهجوم عنيف من الصينيين، الذين تغلَّبوا عليها في النهاية.

ولسوء حظ الحكومة، فقد تزامن ظهور الورقة البيضاء مع وقوع خلاف مرير بين وزير الدفاع ورئيس أركان جيشه. كان الوزير هو صديق نهرو القديم في كيه كريشنا مينون، الذي شغل ذلك المنصب عام ١٩٥٧ تعويضًا له على إبعاده عن المهام الدبلوماسية. وقد رحَّب الجيش بتعيينه في البداية؛ فسابِقوه في ذلك المنصب كانوا يفتقرون إلى الجاذبية والبراعة، أما هو فكان أبعد ما يكون عن ذلك، هذا إلى جانب أنَّه كان مقرَّبًا إلى رئيس الوزراء. ولكنَّ مينون ما إنْ بدا عليه الاستقرار في وظيفته الجديدة، حتى دخل في خلاف مع رئيس أركان جيشه، الجنرال كيه إس تيمايَّا (تيمي)، وهو رجل لا يقل عنه بأسًا.

كان تيمايا ابن صاحب مزارع قهوة في كورج، طوله ستة أقدام وثلاث بوصات وتمتَّع بشخصية مبهِرة وسِجِلٍّ عسكري أكثر إبهارًا. عندما كان ضابطًا شابًّا في الله أباد، التقى رجلًا مُسِنًّا في دار عرض سينمائي، سأله: «بم تشعر وأنت هندي ترتدي زي الجيش البريطاني؟» فأجابه تيمي بكلمة واحدة: «بالحر.» كان الرجل المُسِنَّ هو موتيلال نهرو، والد جواهر لال وهو نفسه أحد رجال الحركة القومية المشاهير. وفيما بعد، عندما أصبحا صديقين، سأله تيمايا إن كان حريًّا به أن يستقيل من منصبه في الجيش وينضم إلى الحركة القومية؛ فنصحه موتيلال بالبقاء فيه، قائلًا إنَّه بعد نيل الحرية سوف تكون الهند بحاجة إلى ضباط مثله.8

حارب تيمايا ببسالة في الحرب العالمية الثانية قبل أن يخدم بشرف في العام الأول المليء بالاضْطِرابات بعد نيل الهند حريتها. وأثناء عملية التقسيم، أشرف على حركة اللاجئين في البنجاب، ثم أُرسِل إلى كشمير، حيث طهَّرت قواته الوادي من الغُزاة. وفيما بعد، قاد فريق هدنة تابع للأمم المتحدة في كوريا، حيث أشرف على تدبير أمر ٢٢ ألف أسير حرب شيوعي. وقد حَظِيَت قيادته بالثناء من طرفي الطيف الأيديولوجي، الصينيين وكذلك الأمريكيين.

كان تيمي حتى ذلك الوقت أقرب شيء لفكرة البطل العسكري الأصيل لدى الهنود الرافضين للعنف والحرب.9 إلا أنَّه لم يكن على وِفاق مع وزير الدفاع الذي يرأسه؛ فقد كان تيمايا يرى أنَّ قواته ينبغي أن تكون أكثر تأهُّبًا لاشتباك محتمل مع الصين. ولكنَّ كريشنا مينون أصرَّ على أنَّ التهديد الحقيقي آتٍ من باكستان، ومن ثم فقد نُشِرَ الجزء الأكبر من القوات الهندية على الحدود مع باكستان. كذلك كان تيمايا قلِقًا من قِدَم الأسلحة التي يحملها جنوده آنذاك، وكانت تتضمن بنادق إنفيلد عيار ٣٠٣ بوصة، التي كانت تُستخدم في الحرب العالمية الأولى؛ فعندما اقترح الجنرال على الوزير أن تصنِّع الهند البندقية الآلية البلجيكية إف إن ٤ بترخيص من الشركة الأصلية، «قال كريشنا مينون في غضب إنَّه لن يسمح بأسلحة حلف شمال الأطلنطي في البلاد.»10
في الأسبوع الأخير من أغسطس ١٩٥٩ وقع خلاف بين تيمايا ومينون بسبب قرار مينون تعيين ضابط يُدْعَى بي إم كاول في رتبة فريق، متخطِّيًا بذلك أكثر من اثني عشر ضابطًا يفوقونه في الأقدمية. كان لدى كاول ميول دعائية؛ فقد كان يحب التمثيل في المسرحيات، على سبيل المثال. وكان قد أشرف على إنشاء مجمع سكني جديد، لَقِيَ إعجاب وزير الدفاع باعتباره مثالًا للكيفية التي يمكن بها للعسكريين أن يسهموا في المصلحة العامة. وإضافةً إلى ذلك فقد كان كاول معروفًا لدى جواهر لال نهرو، وهي حقيقة كان يروق للجنرال إذاعتها.11
لم يكن كاول معدوم الفضائل؛ فقد وصفه زميل مقرَّب بأنه «مفعم بالحيوية؛ فهو سريع البديهة وقوي ومغامِر». إلا أنَّه «يمكنه أيضًا أن يكون غير موضوعي ومتقلِّبًا وانفعاليًّا».12 كان تيمايا قلقًا من قلة خبرة كاول القتالية، إذ إنَّه أمضى جزءًا كبيرًا من حياته المهنية في سلاح الخدمة العسكرية، وهي خلفية لا تؤهِّله فعليًّا لشغل منصب مهم في الجيش. وقد استفزَّت ترقية كاول — عندما أُضيفَت إلى الإساءات الأخرى من جانب الوزير — الجنرال تيمايا إلى تقديم استقالته؛ ففي ٣١ أغسطس ١٩٥٩، كتب إلى رئيس الوزراء قائلًا إنَّه «يستحيل عليَّ وعلى رئيسي الأركان الآخرين الاضطلاع بمسئولياتنا تحت إمرة وزير الدفاع الحالي». وقال إن الظروف لا تسمح له بالاستمرار في منصبه.13
تسرَّب خبر استقالة رئيس أركان الجيش إلى الساحة العامة؛ فنوقِشَت المسألة في البرلمان، وفي الصحافة أيضًا. كان الشيوعيون هم الطرف غير الموالي لتيمايا؛ مثل إي إم إس نامبوديريباد، الذي قال إنَّ تيمايا ينبغي أن يمْثُل أمام محاكمة عسكرية، وكذلك الشيوعيون المتخفُّون مثل صحيفة بومباي الأسبوعية «بليتز»، التي زعمت أنَّ تيمايا أصبح أداة «اللوبي الأمريكي» دون أن يدري. أما من انحازوا إليه في مواجهة وزير الدفاع فكان منهم منافسة «بليتز» العظيمة (والموالية للولايات المتحدة بلا شك) — صحيفة «كارَنت» الأسبوعية — إلى جانب قطاعات كبيرة من الصحف غير الأيديولوجية. وصحيفة «هندوستان تايمز» الموالية للحكومة قالت إن «كريشنا مينون يجب أن يرحل» عوضًا عن تيمايا. واتَّهمت الصحيفة ذلك الوزير بإيصال القوات المسلحة إلى «حالة قريبة من تحطيم الروح المعنوية» بمحاولة تكوين خلايا من الضباط الموالين له شخصيًّا، في أعلى المستويات.14
كان البعض يأملون في أن تضطر نوبة الاحتجاجات العنيفة على استقالة تيمايا كريشنا مينون أيضًا إلى تقديم استقالته. وإذ كتب أحد المحامين البارزين إلى الجنرال، وصف الوزير بصاحب «العبقرية الشريرة في السياسة الهندية»، وأضاف: «إذا أجبر تصرُّفك مينون على التقاعد، فسوف تتنفس الهند الصعداء، وتكسب أنت امتنان الأمة الخالص.» ثم استدعى نهرو تيمايا إلى مكتبه، وأقنعه بسحب استقالته بعد جلستين طويلتين. وأكَّد لرئيس الأركان أنَّه سوف يتم التشاور معه في جميع القرارات المهمة المتعلقة بالترقيات. وكتب زميل قديم لتيمي — لواء متقاعد آنذاك في بلدة دهرادون الجبلية — إلى صديقه قائلًا له إنه كان ينبغي أن يتمسَّك بموقفه، لأنَّ «الحل الذي تم التوصل إليه غير مجدٍ؛ إذ لم يجرِ طرد أحد أو استبعاده. وشهر العسل لا يمكن أن يدوم طويلًا، كما سوف تكتشف عما قريب».15
زاد إصدار الورقة البيضاء الخاصة بالمراسلات مع الصين — الذي تزامن مع سلسلة الأحداث المرتبطة باستقالة الجنرال — حدَّة المشاعر العدائية تجاه وزير الدفاع؛ فحتى نواب البرلمان لم يكونوا على دراية بمدى السيطرة الصينية على الأراضي الهندية. وارْتُؤِيَ في إقامة نقاط حراسة صينية وشق طريق سيارات عبر أراضٍ تنتمي — على الخرائط على الأقل — إلى «الهند»، تهاونٌ غير معقول من جانب الجهات المسئولة عن حراسة الحدود. وبطبيعة الحال انتهز السياسيون المعارضون فرصة «حرب الخرائط [التي شنتها الصين] على الهند». وعلى حد تعبير أحد نواب البرلمان الاشتراكيين، فربما كانت نيودلهي لا تزال مؤمِنة بشعار: «الهنود والصينيُّون إخوة»، ولكن بكين تتبع مقولة لينين: «الوعود، مثل قشرة الفطيرة، صُنِعَت لتُكسَر.»16
ربما كان ينبغي تحميل رئيس الوزراء المسئولية، ولكن في ذلك الحين وُجِّهَت أصابع الاتهام إلى وزيره المدلَّل، كريشنا مينون. وقالت إحدى الصحف إنَّه لو كانت البلاد «غير مستعدة بالمرَّة للتصدِّي للعدوان الصيني»، فالخطأ خطأ الشخص «المُمْسِك بدفَّة وزارة الدفاع الهندية»؛ أي وزير الدفاع. وحتى أعضاء حزب المؤتمر أصبحوا يطالبون برأس مينون. وقد نصح وزير الداخلية جوفِند بالَّاب بانت — أحد الجنود المُخَضْرَمين في معركة الحرية ورفيق نهرو القديم — رئيس الوزراء بتغيير حقيبة مينون الوزارية؛ بمعنى أن يبقيه في مجلس الوزراء، مع تكليفه بوزارة أخرى غير الدفاع.17 وكتب الصحفي المحترم بي شيفا راو — ونائب البرلمان في ذلك الوقت — إلى نهرو معرِبًا عن «انزعاج بالغ لإصرارك على الإبقاء على كريشنا مينون في مجلس الوزراء. إننا نواجه خطرًا محدِقًا من جانب قوة شيوعية. وكما تعلم، ثمة مخاوف واسعة الانتشار من مشاعره الموالية للشيوعيين». وأردف شيفا راو قائلًا: «إنه لم يكن يسيرًا عليَّ أن أكتب هذه الرسالة، وأنا أعلم أن ذلك سيكون قرارًا شديد الصعوبة عليك.» إلا أنَّ «تلك ظروف طارئة لا يمكن لأحد التنبؤ بنهايتها».18

إلا أنَّ نهرو تمسَّك بموقفه، وبكريشنا مينون. وفي الوقت نفسه، استمرَّت المراسلات «الدبلوماسية» مع الصين؛ ففي ٨ سبتمبر ١٩٥٩، ردَّ تشو إن لاي أخيرًا على رسالة نهرو التي أرسلها بتاريخ ٢٢ مارس، والتي كانت قد عرضت موقف الهند؛ فأبدى تشو دهشته من أنْ تطلب الهند من الصين «منح الاعتراف الرسمي للوضع الناجم عن إعمال سياسة العدوان البريطانية ضد منطقة التبت الصينية». وقال: «إن الحكومة الصينية لا تعترف مطلقًا بخط مكماهون المزعوم»، وتصِرُّ على أنَّ «الحدود بين الصين والهند بأكملها غير مُرَسَّمة»، ودعا إلى عقد تسوية جديدة «منصفة ومقبولة للطرفين». واختتم الرسالة بإشارة إلى التوتر المتصاعد نتيجة التمرد الحادث في التبت، الذي شرعت القوات الهندية بعده في «حماية قُطَّاع طرق مسلحين من التبت» وبدأت «تتوغل باطِّراد في أنحاء القطاع الشرقي من الحدود الصينية الهندية».

ردَّ نهرو في الحال تقريبًا، قائلًا إنَّ الهنود «مستاءون للغاية من ذلك الزعم» القائل بأنَّ «حكومة الهند المستقلة تسعى إلى الاستفادة» من الإمبريالية البريطانية. وأشار إلى أنَّه فيما بين عام ١٩١٤ وعام ١٩٤٧ لم تبدِ أي حكومة صينية اعتراضًا على خط مكماهون. وأعرب عن رفضه اتهام الهند بحماية مسلَّحين من التبت، كما أعرب عن شعوره «بصدمة كبيرة» من لهجة تشو، مذكِّرًا إياه بأنَّ الهند كانت من أوائل البلدان التي اعترفت بجمهورية الصين الشعبية وما فتئت تسعى لصداقتها.19

في ذلك الوقت، كان الحوار بين الهند والصين يشمل تبادل الرصاصات إلى جانب الرسائل؛ ففي أغسطس ١٩٥٩، وقع اشتباك بالأسلحة في لونج جو، بمحاذاة خط مكماهون في القطاع الشرقي. وفي أواخر أكتوبر ١٩٥٩ هجمت كتيبة صينية على دورية حراسة هندية في منطقة ممر كونج كا في لاداخ؛ فقتلت تسعة جنود هنود، وأسَرَت مثلهم. أكَّد الجانب الصيني أنَّ جنود الهند دخلوا أرضهم عمدًا، وردَّ الجانب الهندي بأن كل ما فعلوه كان تسيير دورية حراسة على جانبهم من الحدود لا أكثر.

قادت تلك الاشتباكات نيودلهي إلى مراجعة سياستها الحدودية؛ فمن الجدير بالملاحظة أنَّه حتى تلك اللحظة لم تكن الحدود مع الصين مسئولية الجيش وإنما كانت مسئولية مكتب الاستخبارات؛ فكانت النقاط القائمة تخدم فيها كتائب شبه عسكرية: قوة «بنادق آسام» في الشرق وقوات الشرطة الاحتياطية المركزية في الغرب. أما قوات الجيش النظامية فكانت محتشدة على طول الحدود مع باكستان، التي كانت تُعتَبَر الخطر الرئيسي وربما الوحيد الذي يتهدد الهند. ولكن بعد حادثتي لونج جو وممر كونج كا، سُحِبَت الفرقة الرابعة من البنجاب وأُرسِلَت إلى منطقة الحدود الشمالية الشرقية. مثَّل ذلك تغييرًا لا يُستهان به؛ فالفرقة الرابعة المُدَرَّبة على حروب الدبابات في الأراضي المنبسطة أصبح عليها العمل في تضاريس مختلفة تمامًا.

كانت حكومة الهند تهدف من استخدام «سياسة التقدم إلى الأمام» الجديدة هذه إلى التوسع في تلك الأرض غير المأهولة، بإقامة سلسلة من نقاط الحراسة الصغيرة على طول الحدود أو على مقربة منها. نالت تلك العملية حظًّا وافرًا من الاهتمام في دلهي، حيث بُسِطَت الخرائط في مكاتب وزارة الدفاع وثُبِّتَت عليها دبابيس زرقاء صغيرة لتمييز مواقع تلك النقاط. لكن تلك الخرائط لم تبين المحاولات المقابلة من جهة الصين لملء الفراغات؛ إذ راحت تعمل من جانبها فيما أصبحت آنذاك حدودًا متنازَعًا عليها بشدة.20

٤

بحلول عام ١٩٥٩ على الأقل، اتَّضحت استحالة التوفيق بين موقفي الهند والصين؛ فقد أصَرَّ الهنود على أنَّ الحدود — في معظمها — أقرَّتها وأكَّدتها المعاهدات والأعراف، فيما قال الصينيون إنَّها لم تُرَسَّم قط. استندت ادِّعاءات الحكومتين إلى تركة الإمبريالية؛ الإمبريالية البريطانية (بالنسبة إلى الهند) والإمبريالية الصينية (على التبت) بالنسبة إلى الصين. ومن هذا المنطلق، ادَّعت كل منهما السيادة على أراضٍ مكتسبة بسبل غير مشروعة تمامًا.

بالنظر إلى الماضي، يُكْتَشَف أنَّ الهند استخفَّت باستياء الصين من «الإمبريالية الغربية». ففي النصف الأول من القرن العشرين، عندما كانت الصين ضعيفة، ذاقت شتى ضروب الإذلال على يد القوى الأوروبية. وكان خط مكماهون أحد صور ذلك الإذلال. وبعد أن أصبحت الصين قوية، في ظل حكم الشيوعية، عقدت العزم على رفع مظالم الماضي. وعندما زار المحامي الهندي دانييل لطيفي بكين في نوفمبر ١٩٥٩ قال له زملاؤه الصينيون إنَّ «خط مكماهون ليس له سند قانوني». وبدا أنَّ الرأي العام في الصين «بلغ حدًّا كبيرًا من الانفعال» بشأن مسألة الحدود. وإذ نقل لطيفي المحادثات التي أجراها إلى جواهر لال نهرو، قَرَنها بملحوظة كاشفة: «كما تعلم — أكثر من اللازم على الأرجح — فإنه من الصعب «في أي بلد» تقديم تنازلات عندما يُقال لعامة الشعب إن الأرض المتنازع عليها تُشَكِّل جزءًا من تراب الوطن.»21
ويسهل علينا أن نرى أيضًا إذا نظرنا إلى الماضي أنَّه بعد فشل ثورة التبت، كان ينبغي لحكومة الهند أن تتَّخذ أحد الإجراءين التاليين أو كليهما: تعزيز دفاعاتها على طول الحدود الصينية، مع استيراد أسلحة من الغرب إذا لزِم الأمر، والعمل بجدية على التوصل إلى تسوية جديدة للحدود مع الصين. إلا أنَّ التزام نهرو بعدم الانحياز حال دون اتِّخاذ الإجراء الأول، بينما حالت قوة الرأي العام دون الثاني؛ ففي أكتوبر ١٩٥٩، شَكَت صحيفة «تايمز أوف إنديا» من أنَّ رئيس الوزراء أبدى «اهتمامًا مبالغًا فيه بمشاعر الصينيين ولامبالاة نسبية إزاء الغضب والامتعاض اللذين اتسم بهما رد فعل الشعب الهندي».22 وأشارت صحيفة أخرى إلى أنَّ نهرو «يقف وحيدًا في مواجهة مدٍّ متصاعد من مشاعر السخط الوطنية على الصين».23
وكما أشار ستيفن هوفمن، فإنَّ سياسة إصدار الأوراق البيضاء قلَّصت الخيارات المتاحة أمام نهرو؛ فلو كان النزاع الحدودي بَقِيَ في طيِّ الكتمان، لكان رئيس الوزراء استطاع اللجوء إلى أكثر القنوات الخلفية هدوءًا، المتمثلةً في التسوية الدبلوماسية. ولكن عندما انكشفت المسألة للعلن، وأثارت الكثير من التعليقات الغاضبة، لم يكن أمامه سوى «انتهاج السياسات التي يمكن تصوُّر أنْ تلقى قَبولًا لدى البرلمان والصحافة الغاضبين». فقد قضت سياسة الأوراق البيضاء على روح الأخذ والعطاء، وأجَّجت في المقابل المشاعر الوطنية. وحادثة ممر كونج كا على وجه التحديد أسفرت عن صدور دعوات انتقام محنقة من قِبَل الطبقة السياسية بالهند.24
بعد وقوع الاشتباكات الحدودية في سبتمبر وأكتوبر من عام ١٩٥٩، كتب تشو إن لاي مُقْترِحًا انسحاب الطرفين ٢٠ كيلومترًا خلف خط مكماهون في الشرق، وخلف خط السيطرة الفعلية في الغرب. ردَّ نهرو بتجاهل الاقتراح باعتباره مجرد وسيلة لإضفاء المشروعية على التعدِّيات الصينية في القطاع الغربي، وللحفاظ «على سلامة ممتلكاتكم المكتسبة بالقوة». وأصرَّ على أنَّ «سبب المتاعب الأخيرة هو الإجراءات المتخَّذة من جانبكم على الحدود». وحينذاك أشار تشو إلى أنَّ الصين رغم إيمانها بعدم قانونية خط مكماهون، تمسَّكت بسياسة «عدم السماح مطلقًا لقواتها المسلحة بعبور هذا الخط مع انتظار تسوية ودِّية لمسألة الحدود». ومن ثم:

فالحكومة الصينية حتى هذه اللحظة لم تقدِّم أي طلب فيما يتعلق بالمنطقة الواقعة جنوب خط مكماهون المزعوم على سبيل الشرط المسبق أو التدبير المؤقت، وما أجده عسيرًا على الاستيعاب هو سبب مطالبة حكومة الهند بالانسحاب أحادي الطرف للجانب الصيني من منطقة حدوده الغربية.

كان ذلك اقتراحًا مثيرًا للاهتمام، يمكن ترجمته — عند تجريده من الشفرة الدبلوماسية — إلى الآتي: فلتحتفظوا بأراضيكم (التي يُحْتَمَل أن تكونوا قد حصلتم عليها عن طريق الاحتيال) في الشرق، فيما نحتفظ نحن بأراضينا (التي يُحْتَمل أن نكون قد حصلنا عليها عن طريق الاحتيال) في الغرب.25
لَخَّصَ عالم الثقافة الصينية أوين لاتيمور المعضلة الهندية بدقة في مجلة «إكونوميك ويكلي» في يناير ١٩٦٠؛ فكتب أنَّه نظرًا لكَوْنه جليًّا أنَّ الحدود مع الصين تركة الإمبريالية البريطانية، فإنَّ «التنازل عن جزء كبير من الأرض المتنازع عليها … ما كان ليمثِّل مسألة كرامة وطنية للهند لولا أسلوب الصينيين في محاولة رسم الحدود بالقوة، دون تفاوض؛ فما يمكن للسيد نهرو التنازل عنه عن طريق المفاوضات الرشيدة بين طرفين متساويين لا يمكنه أن يتنازل عنه أبدًا بالاستسلام الذليل».26
في العدد نفسه من تلك الدورية، حثَّ كاتب آخر يُسمي نفسه «البراجماتي» على تنفيذ برنامج قوي من الاستعداد الدفاعي. وكتب في حِدَّة أنَّ القيادة في بكين «ربما كان ظنها بالقوات المسلحة الهندية ليس أفضل من ظن ستالين بالقوات المسلحة للفاتيكان». فقد كانت قوة الجيش الصيني تعادل قوة نظيره الهندي خمس مرات، وكان مُجَهَّزًا بأحدث الأسلحة السوفييتية؛ فصار لزامًا على الفكر الاستراتيجي الهندي — الذي انشغل لفترة طويلة جدًّا بباكستان — أن ينظر بجدية في شأن التهديد الصيني، لأنَّ الصداقة بين البلدين «انتهت قطعًا». وتحتم أن تكون «الأولوية الأولى في تخطيطنا الدفاعي إبقاء الجيش الصيني على الجانب الشمالي من الحدود». وينبغي أن تُدَرِّب الهند وحدات على القتال في المناطق الجبلية، وتُزَوِّدهم بمعدات محمولة. ويجب توفير دعم احتياطي في صورة قوة مكوَّنة من طائرات هليكوبتر وطائرات قاذفة مقاتلة. وقال «البراجماتي»: «إن الشيء الأهم هو بناء قوة، في غضون عامين إلى أربعة أعوام، صلبة بما يكفي للتصدِّي بنجاح لأي حرب خاطفة تُشَنُّ على حدود الهيمالايا.»27
إلا أنَّ المعارضة السياسية لم تكن على استعداد للانتظار لحين حدوث ذلك؛ ففي الأسبوع الأخير من يناير لعام ١٩٦٠، تردد صوت رئيس حزب جانا سانج مدوِّيًا في قوله: «مصالح الأمة الذاتية وشرفها يتطلَّبان اتِّخاذ إجراء سريع وفعَّال لتحرير الأرض الهندية من العدوان الصيني.» والحكومة الحالية «أبقت الشعب والبرلمان في جهل تام بشأن حقيقة العدوان ذاتها»، والآن «لا تزال تقف موقف المتفرِّج، عاجزة، بينما يتقدم العدو مُوَطِّدًا أقدامه تدريجيًّا في المناطق المحتلة».28
إلا أنَّ الشك في الصينيين لم يكن مقصورًا على الأحزاب اليمينية فحسب بأي حال؛ ففي فبراير ١٩٦٠ علَّق رئيس الجمهورية راجندرا براساد على «السخط والغضب» السائدين فيما بين الطلاب في مسقط رأسه بيهار. وقال إنَّ هؤلاء الشباب أرادوا أن تُزيل الهند «العدوان الصيني» عن «كل شبر من أرضنا». وهم «لن يحتملوا أي خطوة خاطئة أو ضعيفة تتخذها الحكومة».29
مع زيادة تصلُّب موقف الطرفين، دعت نيودلهي تشو إن لاي لاجتماع بشأن مسألة الحدود. كان من المقرَّر عقد الاجتماع في أواخر شهر أبريل، وفي الأسابيع السابقة عليه جرت محاولات عديدة لإفشاله؛ ففي يوم ٩ مارس ناشد الدلاي لاما العالم قائلًا: «لا تنسوا معركة التبت، ذلك البلد الصغير المستقل الذي اغتصبته قوة متعصِّبة توسعيَّة.» وبعد ثلاثة أيام حثَّ أحد الأعضاء القدامى في حزب جانا سانج رئيس الوزراء على «عدم المساومة بمشاعر مئات الملايين من أبناء بلده» و«اتخاذ كافة الخطوات اللازمة لصد أي تعدِّيات أخرى من جانب الصينيين». أما ما جاء مفاجئًا بدرجة أكبر فكان البيان الصادر عن مجموعة دراسة الهيمالايا التابعة للجناح البرلماني لحزب المؤتمر، والذي حثَّ رئيس الوزراء على اتِّخاذ «موقف صارم بشأن مسألة الحدود».30
في الأسبوع الأول من أبريل، أرسل قادة المعارضة غير الشيوعية مذكرة إلى رئيس الوزراء مذكِّرين إياه «بالمشاعر الشعبية» إزاء الصين، وطالبين منه تأكيدًا على أنَّه في إطار محادثاته مع تشو إن لاي «لن يحدث شيء قد يُؤَوَّل على أنَّه تنازل عن أي رقعة من أرض الهند».31 فإذ وجد رئيس الوزراء نفسه محاصرًا من كافة الجهات، التمس الدعم من جانب فينوبا بهافي الحكيم، أحد تلاميذ غاندي، الذي كان يطوف ريف البنجاب سيرًا على الأقدام آنذاك. انفرد نهرو ببهافي ساعةً في معسكره بالقرية، وعلى الرغم من أنَّ أيًّا منهما لم يَبُح بفحوى تلك المحادثة، فقد اتَّضح إلى حدٍّ بعيد في خُطَب ألقاها فينوبا فيما بعد؛ ففي يوم ٥ أبريل، خطب بهافي في مجلس في كوروكشِترا، التي شَهِدَت في أزمنة الأساطير حربًا ملحمية بين أبناء العم الباندافا والكاورافا؛ فقد أدَّى صلاة على ساحة المعركة تلك من أجل نجاح المحادثات بين نهرو وتشو. وقال: «التشكُّك كان من شِيَم العصر السياسي البائد. أما العصر الجديد فقائم على أساس الثقة وحسن النوايا.» وكان بهافي يأمل أن تخلو المحادثات مع الزائر الصيني من الغضب والمرارة والريبة.

إلا أنَّ رسالته لم تلقَ قَبولًا ولا انتشارًا؛ فقبل التاريخ المقرَّر لمجيء تشو إن لاي بخمسة أيام، نظَّم حزب جانا سانج مظاهرة كبيرة أمام مقر إقامة رئيس الوزراء، ورفع المتظاهرون لافتات تُذَكِّر نهرو بألا ينسى شهداء اللاداخ وألا يتنازل عن الأراضي الهندية. وفي اليوم التالي، عقدت المعارضة غير الشيوعية مؤتمرًا شعبيًّا حاشدًا في دلهي، محذِّرةً رئيس الوزراء من أنَّه إذا عقد صفقة مع الصينيين، «فسيكون حلفاؤه الوحيدون هم الشيوعيون والشيوعيون المستترون». في ظل تلك الأجواء، رأى المُحَرِّر المحترم فرانك مورايس أنَّ المحادثات محكوم عليها بالفشل. وكتب أنَّ الصدع بين البلدين «لا يمكن رأبه»، وأضاف: «إذا أَصَرَّ السيد تشو على الاحتفاظ بنقاط المراقبة القديمة كلها، فكل ما سيتسنَّى للسيد نهرو أن يقوله له بلطف هو أن يرجع إلى بكين ويعيد التفكير.»

إلا أنَّ نهرو أصرَّ على أنَّ رئيس الوزراء الصيني «سوف ينال ترحيبًا كريمًا يليق بالتقاليد الرفيعة لهذا البلد». كان تشو في زيارة لبورما آنذاك، فذهب فيكونت هندي لكي يقابله ويستقلَّ طائرة معه إلى دلهي. عندما جاء عام ١٩٥٦، كان قد نال استقبالًا شعبيًّا مؤثِّرًا، ولكن هذه المرة — رغم آمال نهرو — وصل تشو «وسط استعدادات أمنية غير مسبوقة»، وركب سيارة مغلقة في طريقه من المطار. أعَدَّت منظمة هندو ماهاسابها مظاهرة احتجاجية «بالأعلام السوداء» ضد تشو، وكذلك عارضت زيارته الأحزاب الأكثر تعبيرًا عن الاتجاه السياسي السائد. وقد عبَّرت دعابتان كانتا سائدتين آنذاك عن المزاج في دلهي؛ كانت الأولى مفادها أنَّ مقولة: «الهنود والصينيُّون إخوة» صارت بالأحرى: «الهنود والصينيُّون أعداء»، وفي الدعابة الأخرى سُئِلَ عن سبب عدم وجود كريشنا مينون ضمن الوفد الهندي في المحادثات، وكانت الإجابة: «لأنَّه حاضر ضمن وفد السيد تشو.»32

قضى تشو إن لاي أسبوعًا في نيودلهي، كان يلتقي نهرو فيه يوميًّا، في حضور المساعدين وغيابهم. وبدا في صورة نُشِرَت في صحيفة «إنديان إكسبريس» بعد انتهاء اليوم الثاني من المحادثات أن المحادثات لم تكن تسير على ما يرام؛ فقد ظهر تشو في الصورة وهو يشرب نخب الصداقة الهندية الصينية، قارعًا كأسه بكأس إنديرا غاندي. بدت السيدة غاندي أنيقة في الساري الهندي، ولكنها كانت تنظر إلى والدها في تساؤل. وعلى الجانب الآخر من المائدة وقف نهرو، خالعًا قبعته، منهمكًا في احتساء الخمر من كأس في وجوم، متحاشيًا النظر إلى تشو إن لاي. الهندي الوحيد الذي بدا عليه الاهتمام كان نائب الرئيس، إس رادها كريشنان، الذي ظهر في الصورة مادًّا كأسه ليقرعه بكأس تشو.

قضى تشو إن لاي ونهرو نحو عشرين ساعة في المحادثات. لا يزال نص محادثتهما سرًّا رسميًّا، إلا أنَّ مؤلف هذا الكتاب استعان بنسخ منها احتفظ بها مسئول يقِظ (أو خارق للقانون). تُبرز تلك النُّسَخ بجلاء مَبلغ الألم والعداوة اللذين تخلَّلا الحوار. بدأ نهرو بالتذكير بكل ما فعلته الهند من أجل الصين، مثل تقديم زعمائها إلى المؤتمر الآسيوي الأفريقي في باندونج، والدفع بقضيتها أمام الأمم المتحدة. وفي ضوء تلك اللفتات الطيبة، مثَّل «التعدِّي» الصيني على الحدود الهندية «صدمة هائلة». فردَّ تشو بشكوى من جانبه أيضًا؛ إذ قال إنَّه في ضوء الصداقة التي بين الهند والصين — في الماضي والحاضر — فقد «تجاوزت أنشطة الدلاي لاما وأتباعه حدود اللجوء السياسي بكثير».

راح نهرو وتشو يتبادلان الاتهامات طوال يومين؛ فعندما كان نهرو يُصِرُّ على أنَّ الهيمالايا كثيرًا ما اعتُبِرَت الحدود الطبيعية وكذلك الثقافية للهند، كان تشو يصف خط مكماهون بالتركة الخبيثة للإمبريالية. وقد أبدى رئيسا الوزراء كلاهما إلمامًا ممتازًا بالتفاصيل، إذ دافع كل منهما عن قضيته بدقة مثيرة للإعجاب؛ حيث ذكر كل منهما قرى وأوديةً وتلالًا وأنهارًا ونقاطًا أمنيةً ومعاهداتٍ بعينها، لعرض دعاوى بلده أو تعضيدها. وفي النهاية، اقترح تشو أن يحاولا «التوصل إلى حل» بدلًا من «تكرار الحجج». وتمثلت التسوية المناسبة — من وجهة نظره — في «امتناع الطرفين عن المطالبة بأراضٍ لم تَعُدْ واقعة تحت إشرافهما الإداري». وبعد بضع ساعات تحدَّث بصراحة أكبر، فقال: «في القطاع الشرقي، نحن نقرُّ بأنَّ ما تعتبره الهند حدودها قد بلغته الإدارة الفعلية للهند. ولكننا نرى بالمِثل أنَّ الهند ينبغي أنْ تقبل أنَّ الجهاز الإداري الصيني قد بلغ الخط الذي يعتبره حدوده في القطاع الغربي.»

مرة أخرى — بعد فك الشفرة بالشكل المناسب — نجد أنَّه قصد الآتي: حُجَّتكم أقوى في الغرب ولكن حاجاتنا فيه أكبر. وفي حين أنَّ حُجَّتنا أقوى في الشرق، فربما كان جزء أكبر من مصالحكم على المحكِّ هناك. أي إنَّ تشو كان يطلب من الهند الاحتفاظ بتاوانج ومحيطها، لأنَّ كل ما تريده الصين هو أكساي تشين والطريق الممتد بين شينجيانج والتبت.

كان تشو يدعو إلى الحفاظ على الوضع الراهن والاعتراف به، إلا أنه — مثلما أشار نهرو في رده — فإن لفظ «الوضع الراهن» موضع خلاف في حد ذاته؛ فقد سأل: «السؤال هو: ما الوضع الراهن؟» وأردف قائلًا: «الوضع القائم اليوم مختلف عن الوضع القائم منذ عام أو عامين. والحفاظ على الوضع القائم اليوم من شأنه أن يكون غير منصِف بالمرة إذا كان مختلفًا عن الوضع القائم في وقت سابق.» فالحل الذي اقترحه تشو من شأنه أنْ يبرر المكاسب التي حققتها الصين — من وجهة نظر نهرو والهند — خِلسةً وبسبل غير شرعية.33
التقى تشو إن لاي أيضًا بوزير الداخلية جي بي بانت ونائب رئيس الجمهورية الدكتور إس رادها كريشنان، اللذين شكا كلٌّ منهما — في لهجة طغى الأسف فيها على الغضب — عدم تقدير الصين لكل ما فعلته الهند لإكساب حكومة الصين الشيوعية المشروعية في أعين العالم. وواجه تشو تحدِّيًا أقوى حُجة من جانب وزير المالية النابغ قوي الآراء، مورارجي ديساي؛ فعندما سأل الزعيم الصيني كيف يسمح الهنود باستغلال منشقي التبت أرضهم، ردَّ ديساي قائلًا: «في بلدنا يعقد الجميع مؤتمرات؛ الجزائريون يعقدون مؤتمرات وكذلك الهنود أحيانًا ضد حكومتهم.» ثم أضاف بذكاء (ربما شابَهُ لؤمٌ): «رئيس الوزراء الصيني على دراية بأنَّ لينين طلب اللجوء إلى المملكة المتحدة ولكنَّ أحدًا لم يقيِّد نشاطه السياسي. ونحن في الهند لا نشجِّع أحدًا على التآمر على الصين، ولكننا لا نستطيع منع الناس من التعبير عن آرائهم؛ فحرية التعبير هي أساس ديمقراطيتنا.»34
فيما نقل نهرو إلى البرلمان الهندي بشأن محادثاته مع تشو إن لاي، قال في سخرية جافة: «الجملة الأكثر أهمية في البيان [المشترك] هي أنَّه رغم كافة المحاولات لم يتم التوصُّل إلى حلٍّ.» كذلك قدَّم فرانك مورايس مرثاة ملائمة لزيارة تشو قائلًا: «يبدو أنَّ المحادثات الصينية الهندية قد وصلت لطريق مسدود منذ زمن بعيد.» وكان ذلك ما حدث؛ فقد تبع الاجتماع الفاشل محادثات بين مسئولين على درجة أدنى، في بكين في شهري يونيو ويوليو من عام ١٩٦٠، ثم في نيودلهي في أغسطس وأكتوبر، وأخيرًا في العاصمة البورمية رانجون في نوفمبر وديسمبر. وقدَّم كل جانب كَمًّا هائلًا من المذكرات والخرائط والوثائق والرسائل لدعم حجته. وقد أشار تعليق معاصر على ذلك الجبل من الأدلة إلى أنَّه «من الواضح إلى حدٍّ بعيد أنَّه من حيث الاتِّساق — وطول مدة المطالبة — كفة حكومة الهند هي الراجحة». فلم تتوافر أي خرائط صينية تظهر أكساي تشين باعتبارها جزءًا من الصين قبل عشرينيات القرن العشرين، وقد تبيَّن من خريطة لإقليم شينجيانج من ثلاثينيات القرن العشرين أنَّ جبال كونلون كانت هي الحدود المتعارَف عليها — كما زعمت الهند طوال الوقت — وليس جبال كاراكورام؛ ففي القطاع الغربي على الأقل (الذي حدثت فيه التعدِّيات الصينية) بدا أنَّ حجة الهند أقوى؛ فقد «تَوَخَّت الحكومة الهندية الدقة والحرص في عرض قضيتها»، في حين أنَّ عرض الصينيين للقضية تميَّز بتضمُّنه «متاهة من أوجه عدم الاتساق الداخلية، والمقولات المنزوعة من السياق، بل الأكاذيب الصريحة التي يسهل فضحها».35
ولكن حتى لو كانت حجة نيودلهي أقوى بصفة عامة، فقد ظل الموقفان الهندي والصيني غير متوافقين؛ فأي أدلة واردة عن مصادر غربية — حتى المسافرين معدومي الانتماءات والقساوسة اليسوعيين الرحَّالة — كان يُغَضُّ الطرف عنها باعتبارها ملوَّثة بصبغة «الإمبريالية»؛ فكان الصينيون يقدمون أدلة مضادة وصولًا إلى حد معين، ولكنهم في النهاية كانوا يتراجعون قائلين إنَّ الحدود لم تُرَسَّم بين البلدين بصفتهما دولتين ذاتي سيادة، وأنَّ الهند لا يجوز لها المطالبة بتركة الهند البريطانية (غير المشروعة)، وأنَّ جمهورية الصين الشعبية لا تدعم أي معاهدات تفاوض عليها أي طرف كان يزعم تمثيل التبت أو الصين قبل عام ثورة عام ١٩٤٩.36
الجدير بالذكر أنَّ الصين كانت ترغب في الحفاظ على مكاسبها في القطاع الغربي، حيث كان سندها التاريخي ضعيفًا. وفي المقابل، كانت مستعدَّة للتخلِّي عن حقها الأقوى بكثير في الشرق. وكان من الواضح أنَّ ذلك يُعزَى إلى حاجتها لوجود إمكانية وصول سريع إلى التبت. وفي أكتوبر ١٩٦٠، بعد فشل قمة تشو إن لاي مع نهرو وعَجْز اجتماعات المسئولين عن التوصُّل إلى شيء، أعرب تشو إن لاي عن حنقه في ذلك الشأن للصحفي الأمريكي إدجار سنو؛ فقد زعم تشو أنَّ النزاع الحدودي لم «يبرز إلى السطح» إلا بعد «هروب الدلاي لاما وبدء الإصلاحات الديمقراطية في التبت». واتَّهم الهند بأنها تريد أنْ «تُحَوِّل منطقة التبت الصينية إلى «منطقة عازلة»». وشكا من أنَّها «لا تريد للتبت أن تصير اشتراكية، مثلما حدث في مناطق أخرى من الصين». ثم توصل إلى استنتاج بعيد الاحتمال، مفاده أنَّ «الجانب الهندي … يستخدم مسألة الحدود الصينية الهندية أداةً ضد القوى التقدُّمية في الداخل وكرأس مال يتيح لها الحصول على «معونة أجنبية» من الخارج».37

٥

كانت خريطة الهند الإقليمية تواجه تحديًا خارجيًّا من جانب الصينيين، وكذلك تحديًا داخليًّا من جانب جماعات لغوية عدة أرادت إعادة رسم الخريطة؛ إذ لم تُرضِها التوصيات الصادرة عن لجنة إعادة توزيع الولايات عام ١٩٥٦؛ فقد واصل المهاراشتريون الضغط على الحكومة لكي تمنحهم مدينة بومباي. عرض رئيس وزراء ولاية بومباي الشاب المفعم بالحيوية، واي بي تشافان، قضية المهاراشتريين ببراعة؛ إذ قال إنَّ حزب المؤتمر يمكنه أنْ يُعَوِّض بهذه الطريقة خسائر انتخابات عام ١٩٥٧، حين فاز تنظيم ساميوكتا مهاراشترا ساميتي ببعض مقاعد حزب المؤتمر. وفي النهاية، دخلت ولايتا جوجارات ومهاراشترا حيز الوجود يوم ١ مايو من عام ١٩٦٠، ومُنِحَت بومباي لولاية مهاراشترا.

أسفر إنشاء ولاية مهاراشترا عن تهدئة السخط في غرب الهند، مع إعطاء دَفعة للتوقعات غير المتحققة في الشمال؛ فمتحدثو البنجابية كانوا هم الجماعة اللغوية الرئيسية الوحيدة التي ظلت دون ولاية خاصة بها؛ فطلبهم لم يُلَبَّ، استنادًا إلى أنَّ اللغة في تلك الحالة كانت مرتبطة ارتباطًا خطيرًا بالدين، وأنَّ ما قُدِّم باعتباره «مقاطعة بنجابية» كان في الواقع «مقاطعة سيخية»، وذريعة لما قد يصبح فيما بعد دولة سيخية منفصلة. ولكن خلال عامي ١٩٦٠ و١٩٦١، أثار المعلم تارا سينج الذي لا يعرف الكلل سلسلة من القلاقل للمطالَبة بإقامة ولاية بنجابية اللغة. ورافقه في مسعاه رجل دين سيخي آخر — سانت فاتح سينج (أو «الحكيم») — كان نائبًا للمعلم تارا سينج قبل أن يصير فيما بعد خصمًا له؛ فبقيادة هذين الرجلين بدأ متطوعو حزب أكالي دال يثيرون القلاقل بين الجماعات. وفي الوقت نفسه كان تارا سينج والحكيم يصومان عن الطعام دوريًّا، معلنين في كل مرة أنَّهما سينقطعان عن الطعام «حتى الموت»، ولكن صيامهما كان يُكسَر في كل مرة قبل بلوغ تلك التضحية العظيمة.38
تصدَّى نهرو بصلابة لحزب أكالي دال، وفاقه صلابةً رئيس وزراء مقاطعة البنجاب المنتمي لحزب المؤتمر، براتاب سينج كايرون؛ فقد اتَّخذ كايرون إجراءات صارمة ضد القلاقل التي أثارها حزب أكالي دال، وأودع آلاف المتظاهرين السجن. كان قد تلقَّى تعليمه في الولايات المتحدة الأمريكية وتميَّز بالحيوية والطموح، وهما سمتان كانتا غائبتين لدى رؤساء وزارات الولايات والمقاطعات الأخرى آنذاك. وظن نهرو أنهما تعبِّران أيضًا عن جاذبية شعبية؛ فكما كتب لأحد أصدقائه: «تكمن قوة السردار براتاب كايرون في البنجاب في أنَّه يُمَثِّل أهل الريف، ويتمتع بثقة جانب كبير منهم؛ فعادةً ما يكون منتقدوه من أهل المدن، سواء من السيخ أو الهندوس. وأثناء نوبة صوم المعلم تارا سينج عن الطعام الأخيرة، كان عدم تأثُّر المناطق الريفية مذهلًا؛ فقد كان سكانها منشغلين بانتخابات مجالس القرى وغيرها من الأنشطة.»39
كان كايرون ملك البنجاب غير المتوَّج طوال الأعوام الثمانية التي قضاها في منصبه؛ فقد كان يتمتع بالحيوية والرؤية، وقد أنشأ جامعة زراعية، وكان رائد ثورة الآبار الأنبوبية، وأقنع الفلاحين بتوسيع نطاق نشاطهم إلى المجالات المربِحة مثل تربية الدواجن. وأخرج المرأة البنجابية من عُزلتها، وأقنعها بالدراسة والعمل، بل المشاركة في الرياضات التنافسية، نظرًا لاهتمامها بالرياضة. وكان يسهل عليه التعامل مع عامة الشعب؛ فكان يمكن لأي أحد أن يدخل مكتبه في أي وقت. ومن ناحية أخرى، كان صارمًا حاسمًا في تطبيق العدالة. ومن ثم فقد أصدر أوامر لرجال الشرطة بفرض غرامات على الفلاحين المتظاهرين عوضًا عن اعتقالهم، لكونهم لا يتورَّعون عن التضحية بأنفسهم في موسم الركود، ولكنهم «لا يمكنهم تحمُّل خسارة إيراداتهم». ولكن رجل الحضَر الذي يخرق القانون لا بد من سجنه «لأنه لا يطيق الابتعاد عن مباهج الحياة الأُسَرِيَّة».40
والحقيقة أنَّه كان ثمة مباهج لم يستطع كايرون نفسه مفارقتها بسهولة؛ فقد عاث ولداه في الأرض فسادًا خلال فترة توليه رئاسة وزارة الولاية؛ فبنى كل منهما إمبراطورية تجارية عملاقة بمساعدة أجهزة الولاية، مستهينين بقوانين الملكية ومواد تقسيم الأراضي؛ فقد اتُّهِم كايرون «بإساءة استغلال جسيمة لمنصبه من أجل دعم المصالح التجارية لابنيه اللذين جنيا عشرات الملايين من الروبيات في الأعوام الأخيرة». وتلقَّى موظفو الخدمة المدنية تعليمات بغضِّ الطرف عن تلك المخالفات؛ فطُرِحت تساؤلات حادة في البرلمان. وحثَّ عدة أعضاء من حزب المؤتمر — من بينهم إنديرا غاندي — رئيس الوزراء على إقالة كايرون. ولكن نهرو ساند رجله، مُبْدِيًا إعجابه بحيوية كايرون وموقفه الصامد أمام المطالبات بإقامة مقاطعة بنجابية، إلا أنَّه وافق على تأسيس لجنة، بقيادة أحد قضاة المحكمة العليا، للتحقيق في الادِّعاءات الموجَّهة لكايرون.41
وكما كتب إيه جي نوراني: «كان ثمة أوجه تشابه كثيرة جدًّا بين السردار براتاب سينج كايرون [في البنجاب] وباكشي غلام محمد [في كشمير]»؛ فكلاهما «كان صريحًا في كلامه، مباشرًا في أسلوبه، قليل الصبر أمام التعطيل البيروقراطي، مستهينًا بآداب الحياة العامة. وكان كل منهما يُمَثِّل رجل المهام القذرة»، و«كلاهما حَظِيَ بدعم رئيس الوزراء نهرو».42
كان ثمة دعاية سلبية ضد رئيس الوزراء في إحدى الولايات الحدودية — البنجاب — نجمت عن قلاقل أكالي دال والمخالفات التي ارتكبتها إدارة الولاية. وكان ثمة دعاية أكثر سلبية في منطقة حدودية أخرى — تلال ناجا — نجمت عن الظهور الدرامي لزعيم المتمرِّدين، إيه إن فيزو، في لندن؛ ففي وقت ما من عام ١٩٥٦ كان فيزو قد عَبَر الحدود إلى بورما ثم إلى باكستان الشرقية، ومنها واصل توجيه حركة المقاومة في منطقة ناجا. وبعد ثلاثة أعوام من القيادة عن بُعد، قرَّر أنَّ قضيته بحاجة إلى دعم العالم الغربي؛ فسافر بواسطة جواز سفر سلفادوري مزوَّر، وبلغ سويسرا، حيث اتَّصَل بالأب مايكل سكوت، القسِّ الأنجليكاني الراديكالي الذي سبق له العمل مع الحركة المناهضة للفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وبمساعدة الأب سكوت، استطاع فيزو الوصول إلى المملكة المتحدة.43
وفي لندن، عقد فيزو سلسلة من المؤتمرات الصحفية، اتَّهم فيها الجيش الهندي — بينما كان مايكل سكوت واقفًا إلى جواره — بالإبادة الجماعية لأهل ناجا. وبمساعدة سكوت أيضًا، طَبَع نشرة تحدَّث فيها عن «حريتنا القديمة قِدَم الدهر التي كانت ولا زالت تتعرض لتدمير منهجي على يد الجيش الهندي … فقد حاول إخضاع أمتنا ومحوها من وجه البسيطة». ووُصِفَت حملة الجيش بأنها «خطة للإبادة العِرقية في أسوأ صور طبَّقها الفاشيون الأوروبيون». وزعم فيزو أنَّ القوات الهندية كانت «تطلق الرصاص على القساوسة المسيحيين وزعماء الكنيسة، وتحرق الرجال والنساء أحياء، وتحرق الكنائس». ودعت النشرة إلى وقف «المذبحة»، وطالبت باعتراف حكومة الهند «بدولة ناجالاند المستقلة ذات السيادة». وقال فيزو إنَّ ناجالاند المستقلة سوف «تودُّ البقاء في كنف الأمم المسيحية والكومنولث … فدولة ناجالاند بالغة الصغر يسرُّها أن تكون من أتباع المسيح يسوع، الذي صِرنا نؤمن بأنَّه مُخَلِّصنا».44
كان فيزو يخاطب حب بريطانيا للمستضعفين، وذكريات الحرب الأخيرة ضد الفاشية (حيث وُضِعت قبائل ناجا محل اليهود، والحكومة الهندية محل النازيين)، والمشاعر المسيحية لدى جمهوره في وقت واحد. كان خطابه يفتقر إلى الكياسة شيئًا ما، ولكنه لَقِيَ نجاحًا غير متوقع؛ فقد تبنى قضيته ديفيد أستور، مالك صحيفة «ذي أوبزرفر» الليبرالي، الذي كان له دور رائد في المعركة ضد النازيين؛ فأفردت تلك الصحيفة مساحة واسعة لاتهامات فيزو، وكذلك مطبوعات دورية أخرى عدة.45

ونظرًا لحساسية الحكومة الهندية الدائمة إزاء آراء الصحافة البريطانية، فقد ردَّت بمنشور دعائي خاص بها: جاء فيه أنَّه على الرغم من أنَّ رئيس الوزراء طمأن قبائل ناجا إلى حصولها على «الحد الأقصى من الحكم الذاتي»، فما حدث تحت قيادة فيزو هو أنَّ «حركة ناجا بدأت تتَّسِم بالعنف». فلم ينفِ المنشور وقوع عنف ومعاناة المدنيين، ولكنه أرجعهما إلى المتمردين. وظل موقف الحكومة ثابتًا على أنها «مستعدة لمنح قبائل ناجا أكبر حد ممكن من الحكم الذاتي في شئونها الداخلية بالإضافة إلى جميع مزايا المواطنة الهندية — مثل التمثيل في البرلمان — ولكنها لا يمكن أن تقبل بإقامة دولة مستقلة لها».

كان الكلام منطقيًّا، ولكن وقعه اختلَّ إثر تذييل أُلحِق به صوَّر فيزو وغْدًا مدفوعًا بالإحباط والفشل لا أكثر: «تَشَكَّلَ توجُّه فيزو الذهني عبر سلسلة من الإحباطات والانتكاسات؛ فقد رسب في امتحان القَبول بالجامعة. ولم تنجح محاولاته إثبات نفسه أولًا في تجارة قطع غيار المركبات ثم في مجال التأمينات. وقد أُصيب بنوبة شلل، شوَّهت وجهه وأورثته عُقدة نفسية شديدة … ومن المعروف عنه أنَّه يعاني شعورًا قويًّا بالذنب لزجِّه برجاله في طريق العداوة والعنف، مما أسفر عن وفاة كثير منهم وتَرَدِّي أوضاع آخرين كُثُر أيضًا.»46
وفي حقيقة الأمر، توسَّط بين حكومة الهند وزعيم مجلس ناجا الوطني عدد من أبناء ناجا «المعتدلين». هؤلاء اتَّحدوا معًا في «مؤتمر شعوب ناجا»، الذي شرع منذ عام ١٩٥٧ في السعي إلى التوصل إلى تسوية سلمية للمشكلة. احتلَّت قبائل الآو مركز الصدارة بين صانعي السلام هؤلاء، وكان معهم ممثلون عن قبائل أخرى أيضًا. وفي يوم ٣٠ يوليو ١٩٦٠، قدَّم مؤتمر شعوب ناجا مذكرة إلى رئيس الوزراء للمطالبة بإنشاء ولاية ناجالاند منفصلة داخل الاتحاد الهندي، يكون لها حاكم خاص بها، ورئيس وزراء، ومجلس وزراء، ومجلس تشريعي. وإضافةً إلى ذلك، لا يكون لبرلمان الاتحاد الهندي سلطة التدخل في دين منطقة ناجا أو ممارساتها الاجتماعية أو قانونها العُرفي.47
واجهت مطالب إقامة ولاية داخل الهند لشعوب ناجا مقاومة من جانب النخبة الآسامية، التي كانت كارهةً لفكرة التنازل عن أي جزء من مقاطعتها. ولكن بعد نجاح أبناء ناجا في تدويل قضيتهم، ارْتَأَى نهرو حصافة تقديم ذلك التنازل؛ ففي الأسبوع الأول من أغسطس ١٩٦٠، أعلن في البرلمان اعتزامه اقتطاع ولاية ناجالاند من آسام. أثار قرار إنشاء الولاية الصغرى في الاتحاد سلسلة من ردود الأفعال كانت مثيرة للاهتمام ومتباينة، ولكنها كانت متوقَّعة تمامًا؛ فقد رأى حزب جانا سانج اليميني في إنشاء ناجالاند «تصرُّفًا مشحونًا بالاحتمالات المنبئة بالانفجار»، وإذعانًا للإرهاب، «يعادل مكافأة العنف والتمرُّد»، وتشجيعًا مستهترًا «للنزعات الإقليمية وضيق الأفق» من شأنه أن يهدِّد «وحدة البلاد وسلامة أراضيها». وعقدت قبائل أخرى في آسام — الخاسيون والجارويون والجانتيون — العزم على الكفاح في سبيل إنشاء ولاية لهم أيضًا، تحت اسم «الحدود الشرقية».48
كذلك كان رد فعل رجال فيزو متوقَّعًا؛ فقد رأى بعض مثقفي ناجا أنَّ إنشاء ولاية لهم داخل حدود الهند لم «يكن كل ما يمكن أن يأملوا في الحصول عليه فحسب، وإنما هو أيضًا كل ما يحتاجونه لحماية هويتهم الاجتماعية والسياسية». ولكن كيف يمكن إقناع القروي العادي بذلك؟ فحسبما أشارت إحدى الصُّحُف: «يمكن للمتمردين المسلَّحين الخروج من الأدغال في أية ليلة قائلين إنَّ الفئة المنادية بالولاية متواطئة مع العدو، وعقاب من يخالفهم الرأي بالرصاص أو الحِراب.»49

٦

بعد مرور عقد من الزمان، حين بدت حكومة جواهر لال نهرو واثقة من سيطرتها، اعتراها فجأة اضْطِراب شديد؛ فقد واجهت معارضة في الجنوب — في كيرالا وتاميل نادو — وفي منطقة الحدود، في البنجاب وتلال ناجا. وفي الوقت نفسه حذَّر تقرير صادر عن مؤسسة فورد من «التهديد الصارخ» الذي تُشَكِّله «أزمة رهيبة» يمكن أن تحدث في القطاع الزراعي. وزعم ذلك التقرير أنَّه ما لم يتضاعف إنتاج الغذاء في العقد المقبل ثلاث مرَّات، فسيعم قحط ومجاعة كبيران أنحاء الهند.50
والأكثر إثارةً للقلق — من وجهة نظر نهرو على الأقل — كان عودة الصراع الطائفي إلى الساحة بعد عَقد من السلام الاجتماعي النسبي؛ ففي يونيو ١٩٦٠، تفجَّرت أعمال شغب عنيفة ضد البنغال في آسام. كان الضحايا لاجئين من مرحلة ما بعد التقسيم آتين من شرق البنغال، اتُّهِموا بسَلْب الآساميين وظائفهم وبعدم تحدُّثهم بلغتهم؛ فدُمِّرت آلاف المساكن وقُتِلَ بنغاليون كُثُر، بينما هرب آخرون عبر الحدود إلى معسكرات اللاجئين في غرب البنغال؛ فسافر وزير الداخلية لال بهادور شاستري إلى آسام لإرساء سلام غير يسير، دَعَمَ الآسامية باعتبارها اللغة الرسمية للولاية مع السماح باستخدام اللغة البنغالية في المنطقة التي يغلب عليها المهاجرون.51
ثم اندلعت أعمال شغب دينية في يناير ١٩٦١ في مدينة جبل بور بوسط الهند؛ فقد انتحرت فتاة هندوسية، وعُزِيَ ذلك إلى اعتداء رجلين مسلمين عليها. وقدَّمت صحيفة محلية تابعة لحزب جانا سانج دعاية صارخة لذلك الزعم، مما أسفر عن اجتياح الطلاب الهندوس البلدة في حالة من الهياج؛ فهاجموا منازل المسلمين وأحرقوا المتاجر. وفي المقابل أحرقت مجموعة من المسلمين هندوسيًّا حيًّا. استمرَّ الشغب أيامًا، وامتدَّ نطاقه إلى الريف أيضًا. كانت تلك أخطر حادثة من ذلك النوع منذ التقسيم، ووقعت المعاناة الكبرى فيها على فقراء المسلمين، من النسَّاجين وصانعي لفائف التبغ بالأساس.52
أثارت المتاعب الحدودية مع الصين، وتفاقم الصراع الاجتماعي داخل البلاد، مخاوف جديدة بشأن مستقبل الهند الديمقراطية؛ ففي عام ١٩٦٠ نشر باحث أمريكي كتابًا ثريًّا إلى حدٍّ مُبْهِر حمل عنوانًا بسيطًا — «الهند» — مع عنوان فرعي غني بالدلالة: «العقود الأكثر خطورة». كذلك كانت عناوين الفصول والأجزاء كاشفة؛ فكان أحدها: «هل سيصمد الاتحاد؟» وكان آخر: «توازن شمولي». كان الكاتب منزعجًا من الانقسامات الطبقية والإقليمية والدينية واللغوية، ومن صعود موجة الطائفية الهندية. وكان يشعر بوجود «ما يبدو أنه دوافع قهرية لا يمكن مقاومتها في طبيعة الاتحاد الهندي لإجراء تجارب شمولية من نوع أو آخر».53
في العام التالي — ١٩٦١ — زار الكاتب أُلدوس هَكسلي الهند بعد فترة غياب دامت خمسة وثلاثين عامًا؛ فهالَه ما رأى: «توقعات الزيادة السكانية ونقص التشغيل والاضْطِرابات المتنامية.» وكتب إلى أحد أصدقائه قائلًا: «الهند مثيرة للاكتئاب إلى أبعد حد؛ إذ لا يبدو أنَّه ثمة حلٌّ لمشكلاتها على أي نحو يمكن لأي مِنَّا في الغرب أن يعتبره مَقْبولًا.» وكتب هكسلي إلى أخيه جوليان قائلًا: «عندما يرحل نهرو، سوف تتحول الحكومة إلى دكتاتورية عسكرية، كما هو الحال في كثير من الدول حديثة الاستقلال؛ لأنَّ الجيش على ما يبدو هو مركز القوة الوحيد الذي يتمتع بدرجة عالية من النظام.»54
وقد رَدَّدَ الصحفيون العاديون الحكم الصادر عن ذلك المثقف البريطاني؛ فقد رأى مراسل صحفي من الصحيفة اللندنية «ديلي ميل» زار الهند بعد هكسلي بفترة قصيرة أنَّه «حتى الآن مثَّل نهرو وحده القوة الموحِّدة الرابطة وراء حكومة الهند وسياستها الخارجية». ولكن بعد رحيل نهرو، فإن «القوى الطبقية والدينية لليمين واليسار … يمكن أن تقسِّم البلاد من شمالها إلى جنوبها في نهاية المطاف، وتعيدها ١٠٠ سنة إلى الوراء».55

٧

خلال عامي ١٩٦٠ و١٩٦١، إذ انغمس بعض الهنود في أعمال الشغب والبعض الآخر في التظاهر، واصلت حكومتهم مراسلاتها مع الصين. لم تَعُدْ تلك المراسلات خليقة برجال الدولة، ولا تُجْرَى على أيديهم، وإنما تألَّفت من مذكرات يرسلها موظفون مجهولون يتهم كل منهم الآخر بتعديات من نوع أو آخر؛ فقد أحصت إحدى المذكرات الواردة من الصين خمسة عشر انتهاكًا للمجال الجوي الصيني من جانب طائرات هندية، بينما عدَّدت مذكرة هندية حوادث كثيرة لإساءة معاملة مواطنين هنود في التبت.56

أدت المراسلات — المنشورة في أوراق بيضاء متعاقبة صادرة عن الحكومة الهندية — إلى تجدد الدعوات المطالبة بإقالة كريشنا مينون. تزعَّم فريق الهجوم جيه بي كريبالاني، النائب الاشتراكي في البرلمان من سيتامارهي ببيهار. كان كريبالاني، الباحث والمعلم وعامل غزل الخادي والمتمرد، بطلًا أصيلًا من أبطال الكفاح الهندي في سبيل الحرية. كانت سلطته الأخلاقية مستمدة — جزئيًّا — من تقرُّبه إلى غاندي أثناء مساعدته في المسيرة السلمية بشمباران عام ١٩١٧، أي قبل سنوات من تعرُّف نهرو نفسه على غاندي. كذلك فقد سبق لكريبالاني رئاسة حزب المؤتمر، كما أنه قضى — بالطبع — سنوات طويلة في السجن دفاعًا عن قضيته.

يوم ١١ أبريل ١٩٦١، ألقى كريبالاني ما وُصِف آنذاك بأنَّه «ربما كان أعظم خطاب قُدِّم على أرض ذلك المجلس منذ الاستقلال». كان ذلك الخطاب هجومًا كاسحًا على وزير الدفاع؛ فقد قال كريبالاني إنه تحت رعاية كريشنا مينون «خَسِرَنا ١٢ ألف ميل مربع من أرضنا دون تسديد ضربة واحدة». وزعم أنَّ ترقيات الجيش لا تستند إلى الجدارة وإنما تتم «وفقًا لأهواء وزير الدفاع ونزواته أو ما يتواءم مع أغراضه السياسية والأيديولوجية»، فمينون «ألَّف عُصَبًا وخفض الروح المعنوية لقواتنا». وفي إدانة جارحة، اتهم كريبالاني وزير الدفاع بأنَّه «يُبَدِّد أموال هذه الأمة الفقيرة الجائعة» إثر «إهماله دفاعات البلاد» و«دعمه نظمًا شمولية ودكتاتورية خلافًا لرغبة الشعب في الحرية».

اختتم كريبالاني خطابه بمناشدة ضمير أعضاء الحزب الحاكم؛ فإذ استحضر كيف أرغم النواب المحافظون في البرلمان البريطاني — عام ١٩٤٠ — رئيس وزرائهم على تقديم استقالته، ناشد «أعضاء حزب المؤتمر الذين لم يخشوا رصاص البريطانيين وحِرابهم أن يُعلوا مصلحة الأمة على مصلحة الحزب». وبعدما سدد كريبالاني طلقته الأخيرة تلك، جلس وسط تصفيق حار من صفوف المعارضة.57
خلال النصف الثاني من عام ١٩٦١، شهد البرلمان الهندي سلسلة من النقاشات المريرة بشأن النزاع مع الصين. وتعرَّض رئيس الوزراء نفسه للمضايقات والأذى من قِبَل مجموعة من المطاردين الذين تعقَّبوه بإصرار. كان ثلاثة منهم أشد ضراوة من غيرهم؛ هم: أتَل بِهاري فَجبايي من حزب جانا سانج، وهِم باروا من حزب براجا الاشتراكي، وإن جي رانجا من حزب سواتنترا؛ فقد اتُّهِم نهرو بغض الطرف عن «احتلال» الصين لأراضي هندية ونَأْيِه بنفسه عن الجدل في وقار؛ فقال أحد النواب: «فيما يتعلق بالنزاعات الحدودية يميل رئيس الوزراء إلى التصرُّف كحَكَم مباراة كريكيت وليس طرفًا تتأثر مصالحه بتلك النزاعات.» اتسمت الانتقادات بطابع شخصي وجدلي بصورة عدوانية، لأنَّ نهرو كان يشغل منصب وزير الخارجية أيضًا، وكان من المعروف أن سياسة الصداقة مع الصين كانت مشروعه الخاص. ولما كان رئيس الوزراء غير معتاد على تلك اللهجة العدائية، فقد أصبح سريع الغضب بصورة متزايدة، وبلغ في إحدى المرات حد الإشارة لمنتقديه بوصف «الطفولية والصبيانية».58
بحلول ذلك الوقت، كانت بعض العناصر في حزبه ذاته قد أعربت عن استصوابها اتِّخاذ رئيس الوزراء موقفًا أكثر تشدُّدًا إزاء الصين؛ فعندما انتقد أحد نواب المعارضة نهرو بشأن قوله إنَّ أكساي تشين أرض جدباء، لا يكسوها عشب، أضاف أحد أعضاء المؤتمر تلك العبارة المُكَمِّلة الدالَّة؛ إذ قال: «رأسي لا يكسوه شعر. هل معنى ذلك أنَّ ذلك الرأس بلا قيمة؟» ورأى كثيرون أنَّ تلك كانت سخرية من نهرو، الذي كان هو نفسه أصلع الرأس تمامًا.59

٨

في الأسبوع الثالث من ديسمبر ١٩٦١، أُرسِلَت وحدة عسكرية من الجيش الهندي إلى حدود المستعمرة البرتغالية جُوا؛ فطوال عقد من الزمان سعت نيودلهي — بالحوار والسبل السلمية — لإقناع البرتغال بالتخلي عن تلك الأرض. وعندما فشلت تلك التدابير، قرَّرت حكومة نهرو «تحرير» جُوا بالقوة.

صبيحة يوم ١٨ ديسمبر، دخلت القوات الهندية جُوا من ثلاثة اتجاهات: سافَنتفادي في الشمال وكاروار في الجنوب وبِلجاوم في الشرق. في ذلك الوقت، أسقطت الطائرات منشورات تهيب بأهل جُوا «التحلِّي برباطة الجأش والشجاعة» و«الاستمتاع بالحرية وتعزيزها». وبحلول مساء ذلك اليوم، كانت العاصمة بانجيم قد طُوِّقَت. تلقَّت القوات المساعدة من الأهالي، الذين أرشدوهم إلى المواضع التي زرع فيها البرتغاليون الألغام. وأطلق المستعمرون بضع طلقات قبل أن ينسحبوا. أما في مستوطنتي دامَن وديو الأصغر حجمًا فكانت المقاومة أكثر صلابة إلى حد ما. في المجمل فقد نحو خمسة عشر جنديًّا هنديًّا حياته، وربما ضِعف ذلك العدد من البرتغاليين. وبعد ست وثلاثين ساعة على بدء الغزو، وقَّع الحاكم العام البرتغالي وثيقة استسلام غير مشروطة.60
وجدت الصحافة الغربية فرصة ذهبية للنقد باستعراض ذلك «النِّفاق الهندي»؛ فإذ استمعت طويلًا إلى محاضرات نهرو وكريشنا مينون في الأخلاق، ردَّت آنذاك الصاع صاعين بمهاجمة استخدام القوة من دولة تزعم «نبذ العنف». وصوَّرت ذلك الإجراء أيضًا على أنَّه خرق للقانون الدولي، والأسخف من ذلك أنَّها صوَّرته على أنه تهديد للمسيحيين والمسيحية في جوا.61 في الواقع كان الهندوس يمثِّلون ٦١٪ من تعداد سكان جوا، كما أنَّ مسيحيي جُوا البارزين — مثل الصحفي فرانك مورايس ورئيس الأساقفة الكاردينال جراسياس — حظَوا بمكانة مرموقة في الحياة العامة الهندية. كانت الحركة التحررية الأهلية قائمة في جوا منذ زمن، وكثير من سكانها — ربما معظمهم — رحَّبوا بالغزو الهندي. وعلى أي حال، فقد بات أهل جوا آنذاك أحرارًا في اختيار زعمائهم بأنفسهم، وهو الخيار الذي كثيرًا ما حرمهم إياه البرتغاليون.
لم يكن ثمة خلاف على أنَّ جوا تنتمي إلى الهند قانونيًّا. وكذلك كان من الجليِّ أنَّ الهند قد انتظرت بما فيه الكفاية قبل أنْ تشرع في الحركة. إلا أنَّ توقيت ما سُمِّي «عملية النصر» كان مثارًا للتساؤلات؛ فلماذا جرت في ديسمبر ١٩٦١، وليس ديسمبر ١٩٦٠ أو ديسمبر ١٩٦٢؟ ربما ظنَّ نهرو أنَّه قد انتظر جلاء البرتغاليين بما فيه الكفاية؛ أربعة عشر عامًا. كما كان يتعرَّض لضغوط من اليسار وكذلك اليمين؛ فحزب جانا سانج والشيوعيون — في بادرة اتفاق نادرة الحدوث — كانا يحثَّانه على استخدام الجيش لتحرير مستعمرة جوا. رغم ذلك فقد استمرَّ الشك في أنَّ التوقيت الدقيق لذلك الغزو ارتبط بالاحتياجات الانتخابية لزميله كريشنا مينون؛ فقبل دخول القوات عاينها وزير الدفاع على الحدود. وكما جاء في صحيفة «نيويورك تايمز» فقد جاء «يُجري حملة مزدوجة»، واحدة للحرب الموشكة على البدء، والأخرى للانتخابات العامة التي كان قد تقرر عقدها في فبراير ١٩٦٢.62

في تلك الانتخابات، كان خصم كريشنا مينون هو عدوه اللدود في البرلمان، أتشاريا كريبالاني، الذي كان قد أعلن أنَّه سيبرح مقعد سيتامارهي الآمن وينافس وزير الدفاع على الدائرة الانتخابية التي يمثلها؛ أي شمال بومباي. وأعلنت أحزاب المعارضة كافة (عدا الشيوعيين) دعمها لكريبالاني؛ فكانت معركة هيبة في طور التحضير؛ إذ كان رئيس الوزراء قد رفض إقالة مينون من مجلس الوزراء، فصارت المعارضة تأمل في استبعاد الناخبين له.

بعد أقل من شهرين على دخول القوات جوا، كان مينون في بومباي يحارب من أجل مقعده في الانتخابات العامة لعام ١٩٦٢. وتمثَّل فريق دفاعه في رئيس وزراء مهاراشترا القوي واي بي تشافان، والأعضاء الكبار في وزارة الاتحاد. حتى الأشخاص المعروفون بانتقاد مينون في الحكومة — مثل مورارجي ديساي وجاجيفان رام — تلقَّوا أوامر بالخروج والمشاركة في حملته الانتخابية. أما كريبالاني فوقف في صفه أعمدة من قبيل سي راجا جوبالاتشاري، إلى جانب الكثير من الرجال المميزين غير الحزبيين؛ من محامين ومثقفين ورجال صناعة.

مثَّلت تلك المنافسة ضمن ما مثَّلت شهادة على الطبيعة العالمية لمدينة بومباي؛ إذ تنافس فيها مرشحٌ مالاياليٌّ وآخر سِنْدِيٌّ على مشاعر أهل ولاية لا ينتمي أيٌّ منهما إليها. وقد كانت تلك الدائرة الانتخابية فائقة التنوع؛ إذ اشتملت على كثير من متحدثي الماراثية والجوجاراتية، وكذلك على متحدثين كُثُر بالهندية من أُوتَّر براديش وجوا والسِّند وتاميل. وقد حاول المتنافسون نَيل ود تلك الشرائح المتباينة، واتَّسمت الحملة الانتخابية بضراوة تتناسب مع مكانة الطرفين المتنازعَين فيها وأهمية نزاعهما.

على مدار تاريخ الانتخابات الهندية الثري الذي أصبح طويلًا حاليًّا، ربما لم يسبق أنْ نالت منافسة واحدة هذا القدر من الاهتمام؛ فقد أطلقت عليها مجلة «لينك» — المتعاطفة مع مينون — وصف «الانتخابات الأهم في تاريخ ديمقراطيتنا». وقال الأخصائي الاجتماعي جايا براكاش نارايان، صديق كريبالاني، إن «مستقبل الديمقراطية الهندية وقيمنا الروحانية موضوعَان على المحكِّ» في تلك المنافسة.

كانت الحملة الانتخابية مشوِّقة، ومليئةً بالملصقات المثيرة للمشاعر والشعارات القوية؛ فقد شنَّت الصحيفة اليسارية الأسبوعية «بليتز» حملة شرسة ضد رجل اختارت تسميته «كريبل-لوني» (الأحمق الأعرج). وعلى صعيد مقابل سلَّط ناظمو الشعر ألسنتهم الساخرة على مينون بمختلف اللغات؛ فجاء في مقطع شعري الآتي: «الصين تتقدم/ومينون نائم/دعوه نائمًا إن أراد/ولكن ائتوا بكريبالاني.» وأعربت قصيدة شعرية بالإنجليزية عن المشاعر نفسها، لكن بأسلوب منمَّق أكثر: «لا أتَّفق مع كل هذا التهكُّم والسخرية/من كريشنا مينون؛ فإلى فضائله أود أنْ أركن. انظروا مثلًا إلى براعته مع الآنية: فما عسى أن يكون أَرَقَّ/من حرصه المحِبَّ في تعامله مع الصيني؟»

اعتبر رئيس الوزراء تحدِّي مينون تحديًا له شخصيًّا؛ فدشَّن نهرو حملة حزب المؤتمر في بومباي، وأوجد سببًا لدعم رجله في أماكن أخرى أيضًا؛ ففي سانجلي وبونا وبارودا، قال إنَّ هزيمة مينون ستشير لهزيمة سياسات الاشتراكية وعدم الانحياز التي ينتهجها هو نفسه. مَثَّلَ الدعم الذي تلقَّاه مينون من معلِّمه مصدر عون هائل له، وكذلك تحرير جوا، الذي لَقِيَ صدًى طيبًا لدى عامة الشعب في شمال بومباي، وليس فقط لدى أبناء جوا هناك.

وفي النهاية هُزِمت حملة كريبالاني أمام خُطَب نهرو والتدخل العسكري في جوا وقوة حزب المؤتمر؛ فقد خَسِرَ بفارق يربو على ١٠٠ ألف صوت.63

٩

في الانتخابات العامة لعامي ١٩٥٢ و١٩٥٧ أفاد حزب المؤتمر كثيرًا بكونه الحزب الذي قاد المعركة من أجل الحرية. إلا أنَّ حملته عام ١٩٦٢ ركَّزت أكثر على ما فعلته منذ نيل الحرية؛ فقال إنَّ سياساته زادت الإنتاج الزراعي والصناعي، وارتقت بالتعليم ومعدلات الأعمار، وعزَّزت وحدة البلاد. أما المعارضة التي لم يسبق لها الإمساك بزمام الحكم قط، فلم يكن بوسعها مواجهة تلك الادعاءات بادعاءات مضادة من جانبها.64 ومن ثَم فقد حافظ حزب المؤتمر على أغلبيته في البرلمان؛ إذ رَبِحَ ٣٦١ مقعدًا من أصل ٤٩٤. أما الشيوعيون ففازوا بتسعة وعشرين مقعدًا، في حين فاز حزب سواتنترا المعارِض الجديد بثمانية عشر مقعدًا، وهو رقم جدير بالاحترام. وفي ولاية مدراس نشأ تحدٍّ عن حزب درافيدا مونيترا كازاجام شبه الانفصالي، الذي فاز بسبعة مقاعد في البرلمان (وخمسين مقعدًا في المجلس التشريعي للولاية). ولكن بصفة عامة تأكدت ريادة حزب المؤتمر، وبدأ جواهر لال نهرو فترته الرابعة في رئاسة الوزارة.
كانت المعارضة داخل الحزب قد حُجِّمَت، ولكنَّ المعارضة خارجه ظلت قائمة؛ فخلال ربيع وصيف عام ١٩٦٢ استمرَّت الاشتباكات على الحدود. وفي شهر يوليو، عقدت مجلة «سمينار» في دلهي ندوة عن السياسة الدفاعية للهند، أصرَّ أحد الأشخاص المساهمين فيها على أنَّ «جمهورية الصين الشعبية لا تُشَكِّل أي تهديد عسكري لبلدنا»، في حين شكَّك مساهم آخر في ذلك الرأي. كان ذلك المتشكك هو الجنرال تيمايَّا، الذي كان متقاعدًا آنذاك، والذي أشار إلى وجود تهديدات نابعة من باكستان والصين على حد سواء. وفي حين أنَّ الهند كانت مُؤَهَّلة إلى حد معقول لمواجهة هجوم من الأولى، فقد قال تيمايَّا: إنني أعجز «حتى بصفتي عسكريًّا عن تصوُّر مواجهة الهند بمفردها للصين في صراع مفتوح؛ فقوة الصين الحالية من حيث الموارد البشرية والمعدات والطائرات تفوق مواردنا مائة مرة مع توافر الدعم الكامل من الاتحاد السوفييتي، ولا يمكننا أنَّ نأمل في مواكبة الصين في المستقبل المنظور؛ فلا بد أن تُوكَل كفالة أمننا إلى الساسة والدبلوماسيين». وأضاف الجنرال: «إن القوة الحالية لجيش الهند وقواتها المسلحة أقل حتى من «الحد الأدنى من التأمين» الذي يمكن أن نوفره لشعبنا.»65

كان المعنى المتضمَّن في حديثه واضحًا؛ فإما أن يسعى الدبلوماسيون إلى إبرام معاهدة مع الصين، أو أن يلتمس الساسة المساعدة العسكرية من المعسكر الغربي، إلا أنَّ المد المتنامي للمشاعر الوطنية حال دون اللجوء إلى الخيار الأول، في حين حالت سياسة عدم الانحياز التي انتهجها رئيس الوزراء — والتي عضَّدتها معاداة وزير الدفاع للولايات المتحدة الأمريكية — دون اللجوء إلى الخيار الثاني.

في الأسبوع الثالث من يوليو ١٩٦٢، حدثت اشتباكات بين القوات الهندية والقوات الصينية في وادي جَلوان بلاداخ. ثم نشب نزاع في أوائل شهر سبتمبر بشأن سلسلة جبال دولا-تاجلا، في وادي نهر نامكا تشو، على بُعد نحو ستين ميلًا غربي تاوانج. كانت تلك منطقة التقاء حدود كل من الهند والتبت وبورما، وكان الترسيم الدقيق لخط مكماهون فيها محل خلاف؛ فقد زعم الهنود أنَّ سلسلة الجبال تلك تقع جنوب خط مكماهون، فيما رأى الصينيون أنَّها تقع في جانبهم من الحدود.66

في وقت سابق، في شهر يونيو، كانت فصيلة من قوة «بنادق آسام» قد أقامت نقطة حراسة في دولا، ضمن سياسة التقدم إلى الأمام المستمرة؛ ففي يوم ٨ سبتمبر أقام الصينيون نقطة حراسة خاصة بهم في تاجلا، كانت تطل على دولا (وتهددها)؛ فتبادلت بكين ونيودلهي رسائل غاضبة. كانت القيادات الهندية منقسمة فيما بينها بشأن كيفية التصرف؛ فقال البعض بضرورة إبعاد الصينيين من تاجلا، فيما قال آخرون إنَّ ذلك أمر صعب، حيث إنَّ تضاريس تلك المنطقة كانت في غير صالح الهنود (كانت تاجلا تقع على ارتفاع أعلى من دولا بنحو ألفي قدم). وفي ذلك الوقت، بدأت القوات الصينية تستخدم مُكَبِّرات الصوت مُصْدِرَةً تحذيرات بالهندية، كان أحدُها مفاده: «الهنود والصينيون إخوة، لكنَّ هذه الأرض أرضنا؛ فارحلوا عنها.»

استمرَّت الأزمة ثلاثة أسابيع، وقفت خلالها قوات الدولتين متواجهة عبر نهر ضيق، غير عالمة إن كان قادتها بصدد الصُّلح أم التأهُّب للحرب. وأخيرًا، في يوم ٣ أكتوبر، حلَّ بي إم كاول — الذي طار من دلهي لتولي قيادة منطقة الحدود الشمالية الشرقية — محل الفريق أومراو سينج، الذي كان ينصح بالتروِّي، قائدًا للقوات. ورُفِضَت جميع الآراء الموصية بتوخِّي الحذر؛ فقد «قدَّم كاول تأكيدات كاسحة غير واقعية لدحض جميع الاعتراضات، استنادًا إلى افتراض تقديم دلهي الدعم اللوجستي اللازم في المستقبل لأي مقامرة قد يُقْدِم عليها الآن».67 فبغية اقتلاع الصينيين من تاجلا، حرَّك كتيبتين إلى أعلى من السهول. صعدت القوات محمَّلة بأسلحة خفيفة وزاد لا يكفي سوى ثلاثة أيام؛ فهي لم تكن مزوَّدة بمدافع هاون ولا قاذفات صواريخ، ولا شيء سوى الوعود بمجيء الإمدادات ولحاقها بها.
وصل الجنود الهنود وادي نامكا تشو عصر يوم ٩ أكتوبر، عقب المسير عبر «الأوحال والجبال والأمطار»، «تلك القوات المنهكة بفعل أيام من السير على ارتفاعات شاهقة وفي ظروف جوية رهيبة، كانت في حاجة ماسَّة إلى الراحة والتزوُّد بأدوات الحرب».68 في ذلك المساء أقاموا نقطة حراسة في كوخ أحد الرعاة يمكنهم منه محاولة طرد العدو، عندما تصلهم التعزيزات. لكن الفرصة لم تسنح أمامهم لذلك؛ إذ بادر الصينيون بالهجوم صبيحة يوم ١٠ سبتمبر. قاتل جنود الهند ببسالة، لكنهم كانوا مُسْتَنْزَفين بسبب طول المسافة التي قطعوها للصعود إلى ذلك المكان. كذلك فقد فاقهم العدو عددًا وعتادًا؛ إذ لم يكن لأسلحتهم الخفيفة قِبَلٌ بمدافع الهاون الثقيلة التي استخدمها الصينيون.

منذ عام ١٩٥٩، انخرط الصينيون والهنود في لعبة القط والفأر، في لاداخ ومنطقة الحدود الشمالية الشرقية، إذ راح الجانبان يرسلان القوات لاحتلال الأراضي غير التابعة لأحد، ويشتبكان هنا وهناك، فيما راح قادتهم يتبادلون الرسائل، بل يلتقون من حين لآخر. ثم تصاعد الموقف إلى مستوًى غير مسبوق؛ فتَمَرْكُز الهنود في دولا قابله الصينيون بالمجيء إلى تاجلا، فوق دولا مباشرةً؛ الأمر الذي استفزَّ بدوره الهنود إلى محاولة زحزحتهم؛ فعندما باءت تلك المحاولة بالفشل، أخبر نهرو الصحافة بأنَّ الجيش تلقَّى تعليمات بمحاولة إخراج «العدو» مرة أخرى.

ولكن العدو أمسك بزمام المبادرة؛ فالحرب الزائفة التي دامت ثلاثة أعوام كاملة أصبحت حقيقة ليلة ١٩-٢٠ أكتوبر، عندما غزت القوات الصينية القطاعين الشرقي والغربي في وقت واحد؛ فقد حلَّت «الحرب الخاطفة» عبر جبال الهيمالايا، كما كان «البراجماتي» قد تنبَّأ. وكما كان يخشى، لم يكن الهنود مستعدين. تلك الليلة، جاء في صحيفة «نيويورك تايمز» أنَّ «الجذوة تحوَّلت إلى شعلة متأجِّجة»؛ إذْ «نشبت معارك طاحنة في المنطقتين المتنازَع عليهما على حد سواء. ودفعت حشود القوات الصينية الهنود تحت غطاء من قذائف الهاون المتفجرة إلى التقهقر على الجبهتين». كان الجانبان قد حشدا قواتهما على الحدود، لكن «المراقبين المستقلين عزَوا الهجوم إلى الجانب الصيني». وقد شنَّ الصينيون هجومهم على دُفعات، متسلِّحين بمدافع آلية متوسطة الحجم تدعمها مدافع هاون ثقيلة. اشتركت في الغزو فرقتان صينيتان، اشتملتا على قوات بلغ قوامها خمسة أمثال نظيرتها لدى الهنود.69
«غلبت المفاجأة» الهنود؛ لأنَّ الصينيين سرعان ما احتلُّوا كثيرًا من المواقع، وعبروا وادي نامكا تشو، وتوجَّهوا إلى الدير في تاوانج، بينما توجَّهت وحدة عسكرية أخرى إلى الجزء الشرقي من منطقة الحدود الشمالية الشرقية. وراحت القوات الصينية تتوغل أكثر فأكثر في الأراضي الهندية؛ فسُجِّل سقوط ثمانِ نقط حراسة في لاداخ، وقرابة عشرين نقطة في منطقة الحدود الشمالية الشرقية. ووقعت تاوانج نفسها تحت سيطرة الصين.70
لم يكن ثمة ما يستدعي الدهشة في سهولة استحواذ الصينيين على نقاط الحراسة الهندية؛ فقد كانت قواتهم مرابطة على هضبة التبت بكامل قوتها منذ منتصف خمسينيات القرن العشرين، إما منخرطة في قتال متمرِّدي كامبا أو التأهُّب لقتالهم. وخلافًا للهنود، كان الصينيون معتادين على القتال في المرتفعات الشاهقة. وإضافةً إلى ذلك كان الدخول أيسر بكثير من جانب التبت، حيث كانت الأرض منبسطة نسبيًّا، مما يسهِّل إنشاء الطرق وتحريك القوات. وكانت الميزة الجغرافية في صالح الصينيين تمامًا؛ فمن آسام حتى خط مكماهون كان طريق الصعود شديد الانحدار، وكانت التلال مكسوة بالنباتات والمناخ رطبًا وممطرًا في كثير من الأحيان. وكانت نقاط الحراسة الهندية الأمامية تفتقر إلى التجهيز إلى حد مروِّع؛ فهي إذ لم تتوافر لها طرق صالحة، كانت «تعيش على المعونات الجوية»، وتعتمد في بقائها على الإمدادات والطلعات الجوية لطائرات الهليكوبتر.71

تضاعفت مشكلات الجانب الهندي بغياب القيادة؛ ففي يوم ١٨ أكتوبر تعرَّض الجنرال كاول لآلام حادة في صدره، ونُقِل إلى دلهي، فبقي فَيْلَقُه دون قائد خمسة أيام، سقطت تاوانج خلالها.

في ٢٤ أكتوبر أوقف الصينيون توغُّلهم، فيما كتب تشو إن لاي إلى نهرو طالبًا التوصل إلى طريقة «لوقف الاشتباكات الحدودية» و«إعادة فتح المفاوضات الحدودية». فكتب كل منهما رسالتين للآخر على مدار الأسبوعين التاليين، لكن رسائلهم لم تأتِ بشيء. قال تشو إنَّ الصين والهند أمام عدو مشترك، وهو: «الإمبريالية». ورغم الصراع الجاري، رأى أنَّه من الممكن لهما «إعادة العلاقات الصينية الهندية إلى نمطها السابق المتسم بالدفء والصداقة، بل الارتقاء بذلك النمط». وكان الحل الذي اقترحه هو انسحابُ الطرفين عشرين كيلومترًا إلى ما وراء خط السيطرة الفعلي، وفضُّ الاشتباك.

تكشَّفت جروح نهرو جليَّة للجميع في ردوده؛ فقد قال: «لم يؤلمني شيء في تاريخي السياسي الطويل ويحزنني» أكثر من «التطورات العدائية وغير الودية التي طرأت على العلاقات الهندية الصينية» في السنوات الأخيرة، التي بلغت أوجها في «ما مثَّل فعليًّا غزوًا صينيًّا للهند»، في «تناقض صارخ» مع زعم أنَّ الصين ترغب في حل مسألة الحدود «سلميًّا». كانت بكين قد اتَّخذت «قرارًا مدروسًا وبدم بارد بأن تفرض حقوقها الحدودية المزعومة قسرًا عن طريق غزو الهند عسكريًّا». وكتب أنَّ عرض تشو كان يهدف إلى تعزيز مكاسب ذلك العدوان والحفاظ عليها. أما الحل الذي اقترحه نهرو فكان مفاده أنْ تنسحب القوات الصينية إلى ما وراء خط مكماهون في الشرق، وتعود في الغرب إلى موقعها حتى ٧ نوفمبر ١٩٥٩، لتلغي بذلك حصيلة ثلاثة أعوام من المكاسب المطَّرِدة التي حققتها بإقامة نقط حراسة على أراضٍ متنازع عليها.72
في ذلك الوقت أُضيفَت خسارة حدثت في دلهي إلى الخسائر المتكبَّدة على الجبهة؛ فإذ انكشفت نقاط الضعف الهندية تمامًا آنذاك، أُقيل في كيه كريشنا مينون أخيرًا من منصب وزير الدفاع. (نُقِل أولًا إلى وزارة الإنتاج الدفاعي، ثم استُبعِد من مجلس الوزراء بأكمله.) وصاحَب خروج مينون من الحكومة طلب دلهي لأسلحة غربية؛ ففي يوم ٢٨ أكتوبر ذهب السفير الأمريكي لمقابلة رئيس الوزراء. وقال إنَّ نهرو «كان ضعيفًا وهشًّا وبدا ضئيلًا ومُسِنًّا. كان من الواضح أنَّه متعب جدًّا». وقال نهرو إنَّهم لا بد أن يحصلوا على معونة عسكرية من الغرب.73 وسرعان ما كانت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية ترسل طائرات نقل مُحَمَّلةً بالأسلحة والذخيرة. ووافقت كل من فرنسا وكندا أيضًا على توريد السلاح.74

في ٨ نوفمبر، طرح رئيس الوزراء قرارًا في البرلمان يندد «بخيانة» الصين روح معاهدة بانشيل و«بوادر حسن النية والصداقة الدائمة» من جانب الهند بشنِّها «غزوًا واسع النطاق». وقال إنَّ ألمنا ملموس؛ إذ «أصبحنا نحن في الهند … الذين … سعينا إلى كسب صداقة الصين … ودافعنا عن قضيتها في مجالس العالم، نجد أنفسنا الآن ضحية النزعة الإمبريالية والتوسعية الجديدة لبلد يقول إنَّه ضد الإمبريالية بجميع أشكالها». وقال نهرو إن الصين قد تصف نفسها بأنها «شيوعية»، ولكنها كشفت أنَّها «بلد توسعي ذو ميول إمبريالية يغزو بلدًا آخر عمدًا».

قد يُؤَوَّل خطاب نهرو على إنه أقرار متأخر بصحة تحذير فالابهاي باتيل عام ١٩٥٠، حين قال إنَّ الشيوعية في الصين ليست إبطالًا للنزعة القومية، وإنما هي تعبير متطرِّف عنها. استغرق النقاش التالي على ذلك الخطاب أسبوعًا كاملًا، تحدث خلاله ١٦٥ نائبًا برلمانيًّا، وهو ما يمثل رقمًا قياسيًا على ما يبدو.75
وعلى الحدود، كسرت الصين فترة الهدوء المؤقت بهجوم ثانٍ شنَّته يوم ١٥ نوفمبر؛ حيث هاجمت جبهة طولها ٥٠٠ ميل في منطقة الحدود الشمالية الشرقية. دارت معركة مريرة في والونج، حارب فيها جنود من كتيبتي دوجرا وكوماون — وكلهم من أبناء الجبال الأشِداء — ببطولة، وكادوا ينتزعون إحدى سلاسل الجبال الرئيسية من قبضة الصينيين.76 كذلك شُوهِدت مقاومة قوية في لاداخ، التي لم يكن القائد الميداني فيها عُرضةً للإشارات المتضاربة من دلهي؛ ففيها صمدت القوات، و«أجبرت الصينيين على دفع ثمن باهظ نظير الأرض التي حصلوا عليها».77

ولكن في معظم أنحاء منطقة الحدود الشمالية الشرقية كان الأداء ضعيفًا بحق؛ ففيها تمزَّق الهنود أشتاتًا؛ إذ تقهقرت فصائل وكتائب بأكملها في جماعات متفرَّقة. وتملَّكَ القادة الهنود اضْطِرابٌ شديدٌ عندما اجتاحت الصين تلك المناطق؛ فأين كان يجدر بهم تنظيم مواجهتهم الأولى، وربما الأخيرة؟ فكَّروا في خيار تاوانج ثم استبعدوه. ورأى أحد الجنرالات بومديلا الخيار الأنسب؛ إذ كانت على بعد ستين ميلًا إلى الجنوب، ومن ثم يَسْهُل إرسال الإمدادات إليها من السهول. وأخيرًا تقرَّر وقف تقدُّم القوات الصينية في سِلا، على بعد خمسة عشر ميلًا فحسب من تاوانج.

كان كاول هو صاحب قرار ترتيب المواجهة في سِلا؛ فعندما سقط مريضًا، حلَّ محله الفريق هَرباكش سينج، القائد الموقَّر ذو الخبرة الميدانية الواسعة. ولكن قبل أن يتسنَّى لسينج إعادة تنظيم الدفاعات على النحو اللائق، كان كاول قد عاد من دلهي لتولِّي القيادة من جديد.

كان الصينيون قد احتلُّوا تاوانج يوم ٢٥ أكتوبر؛ فعندما توقَّفوا هناك، اسْتُدْرِجَ الهنود إلى حالة من التراخي، لكنَّ الصينيين كانوا في الواقع يعملون على تحسين الطريق إلى سِلا. ويوم ١٤ نوفمبر، شرع الهنود في هجوم مضاد مقتَرَح، مختارين نقطة حراسة للعدو بالقرب من والونج هدفًا لهم. وفي الوقت نفسه، نشب قتال شمالي سِلا، كان للصينيين الغَلَبة فيه مرة أخرى. أمر قائد الحامية بالانسحاب — وقد انتابته حالة من الذعر — وبدأ اللواء الذي يعمل تحت إمرته في التقهقر صوب بومديلا. وهناك وجد الجنود أنَّ الصينيين قد طوَّقوا سِلا بالفعل وقطعوا عليهم الطريق من الخلف. حُصِدت أرواح عدد كبير من الجنود أثناء فرارهم، بينما ألقى آخرون سلاحهم وفرُّوا فُرادى أو في جماعات صغيرة. وبذلك سقطت سِلا بسهولة، وسرعان ما تلتها بومديلا.78
أثار سقوط بومديلا نوبة ذعر في آسام؛ فوجدها مراسل صحفي هندي، لدى بلوغه تزبور يوم ٢٠ نوفمبر، «مدينة أشباح». كانت الإدارة قد انسحبت إلى جوهاتي، بعد حرق الأوراق في مقرها والأوراق النقدية في البنك المحلي. وقبل رحيل الإدارة «فُتِحَت أبواب مَصَحَّة الأمراض العقلية لتطلق سراح نزلاء ذاهلين».79
في دلهي وبومباي، راح الشباب يصطفُّون للانضمام إلى الجيش. كانت مراكز التجنيد تلك أماكن تتَّسِم بالخمول في المعتاد، حيث لا تفتح أبوابها سوى يوم أو يومين في الأسبوع، و٩٠٪ من الرجال الذين يأتون إليها يرسبون في الاختبار الأول. ولكن في ذلك الوقت أصبحت تلك المجمَّعات «محاصَرة بآلاف المجنَّدين المحتَمَلين». كان بعضهم من العُمال اليدويين وعمال المصانع، والبعض الآخر من الخِرِّيجين العاطلين عن العمل. وجميعهم كانوا يأملون في أنَّ الجيش في ظل تلك الظروف الطارئة سوف «يخفض الشروط البدنية اللازمة للالتحاق به ويوفِّر لهم الطعام والمأوى ويعطي لحياتهم هدفًا».80

يبدو مستبعَدًا أن يكون أداء هؤلاء الرجال أفضل ممن حاربوا وهُزِموا بالفعل. وعلى أي حال فهم لم تُتَح لهم فرصة الحرب؛ فإذ وقف الصينيون متأهبين لدخول سهول آسام، أعلنوا عوضًا عن ذلك وقف إطلاق النار من جانب واحد يوم ٢٢ نوفمبر. وفي منطقة الحدود الشمالية الشرقية تراجعوا إلى شمال خط مكماهون. وفي قطاع لاداخ تراجعوا أيضًا إلى مواقعهم قبل بدء القتال الأخير.

ما الذي دفع الصينيين إلى حزم أمتعتهم والعودة إلى ديارهم؟ رأى بعض المعلِّقين أن احتشاد الأحزاب جميعًا — بما فيها الحزب الشيوعي — حول الحكومة الهندية هو الذي ردعهم عن مواصلة المضيِّ في الطريق الذي بدءوه. وكانت القوى الأوروبية قد تعهَّدت بمساندة الهند، وشرعت بالفعل في إرسال طائرات محمَّلة بالأسلحة والذخيرة إليها.81 وكانت حقائق الطبيعة على القدر ذاته من الأهمية كتلك الاعتبارات السياسية؛ فقد كان الشتاء على الأبواب، وسرعان ما كان الجليد سيغطي جبال الهيمالايا. وبالتوغُّل إلى عمق الهند، كان الصينيون يزيدون خطوط إمداداتهم طولًا والحفاظ عليها صعوبةً.

في حين يمكن تفسير نهاية الحرب على هذا النحو، فإن منشأها أصعب على الفهم. فالجانب الصيني لم تصدر عنه أوراق بيضاء، وسجلاته غير متاحة للناس، ومن المرجَّح أنها لن تُفتَح أبدًا؛ فجُلُّ ما يمكن للمرء أن يقوله هو إنَّ ذلك الهجوم مُحكَم التنسيق لا بد أن تكون سبقته أعوام من التحضير. أما عن توقيته الدقيق، فكانت التكهُّنات المُقدمة آنذاك — التي لا تزال تبدو منطقية — مفادها أنَّ القوتين العظميين؛ أي الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، كانتا منشغلتين بأزمة الصواريخ الكوبية، مما سمح لبكين بتنفيذ مغامرتها الصغيرة دون خوف من انتقام.

أبرزت الحرب الحدودية تفوُّق الصين من حيث «الأسلحة والاتصالات والاستراتيجية والخدمات اللوجستية والتخطيط».82 فوفقًا للإحصاءات الواردة من وزارة الدفاع، قُتِلَ ١٣٨٣ جنديًّا هنديًّا، وأُسِر ٣٩٦٨، وكان ١٦٩٦ لا يزالون في عِداد المفقودين.83 كانت تلك الخسائر قليلة بمعايير الحرب الحديثة، إلا أنَّ تلك الحرب مثَّلت هزيمة نكراء في المخيِّلة الهندية. وبطبيعة الحال بدأت عملية البحث عن كباش الفداء. على مَرَّ السنين، نشر الجنرالات الميدانيون سلسلة من المذكِّرات لتبرئة أنفسهم، سعى كل منهم فيها لدرء التهمة عن نفسه وإلقائها على عاتق قائد آخر، أو على عاتق الساسة الذين تجاهلوا تحذيراته وأصدروا أوامر مستحيلة التنفيذ. ويشير اللواء دي كيه باليت — الذي شغل منصب المدير العام للعمليات العسكرية وقت الحرب — في إسهامه الشخصي لذلك النوع من المؤلفات أنَّ تلك المذكِّرات تشتمل على «تناقضات صارخة؛ فكل منهم يحاول حماية موقفه». وقال مضيفًا: «عادةً ما يُوجِد التفكير بأثر رجعي مَنْطِقًا في أحداثٍ كانت في الواقع خالية من الاتِّساق أو التسلسل المنطقي.»84
في أوساط عامة الشعب الهندي، كان الشعور المسيطر هو الإحساس بالخيانة، وأنَّ جارًا معدوم الضمير والمبادئ غرَّر بهم بعد أنْ حدت بهم سذاجتهم إلى اختياره محلًّا لثقتهم ودعمهم. وقد أعرب نهرو في رسائله إلى تشو إن لاي عن تلك المشاعر مثله مثل غيره. ولكنِ؛ ابتغاءً لمعرفة الأسباب العميقة للنزاع، لا بد للمرء من الرجوع إلى كتاباته السابقة، وتحديدًا لمقابلةٍ تحدَّث فيها ليس بصفته زعيم الهند وإنما بصفته دارسًا لتاريخ العالم؛ ففي عام ١٩٥٩، أخبر نهرو إدجار سنو أنَّ «السبب الرئيسي للنزاع الصيني الهندي هو أنَّ كلتيهما «دولة جديدة»، بمعنى أنَّ كلتيهما حديثة الاستقلال وتحكمها «قيادة قومية ديناميكية»، وكانتا نوعًا ما تشهدان أول «لقاء» لهما في التاريخ عند حدودهما». ففي الماضي «كان البلدان تفصل بينهما مناطق عازلة، وكان كلا الطرفين «بعيدًا» عن الحدود». ولكنهما في ذلك الحين، «التقتا على الحدود بصفتهما «دولتين حديثتين»». ومن ثم فقد «كان من الطبيعي أنْ تنشأ بينهما درجة من الصراع قبل أن يتسنَّى لهما إرساء حدودهما على نحو مستقرٍّ».85
إذن فقد مثَّل الصراع بين الهند والصين صِدامًا بين الخرافات القومية والذوات القومية والمخاوف القومية وأخيرًا وحتمًا الجيوش القومية. من هذا المنطلق، على الرغم من أنَّ ذلك الصراع بدا للهنود فريدًا من نوعه (ومُزعِجًا بصورة غير معهودة)، فقد كان مثالًا نموذجيًّا على الصراعات من ذلك النوع؛ فتَضارُب المطالبات بالأرض مصدر شائع جدًّا للصراع في العالم الحديث. وكان ذلك تقريبًا ما قاله نهرو لإدجار سنو. ولكن دعونا نعطي الكلمة الأخيرة لمصدر غير متوقَّع، وهو: الشاعر الوجودي ألِن جينزبِرج؛ ففي مارس ١٩٦٢ شرع جينزبِرج في رحلة مدتها عامان حول شبه القارة الهندية، هام فيها على وجهه وارتاد العشوائيات بحثًا عن النيرفانا (السعادة القصوى في البوذية). وفي أغسطس، مع بدء تصعيد الاشتباكات القائمة على الحدود، سجَّل في دفتر يومياته خواطر وضعت ذلك النزاع الحدودي في نصابه:

معارك عام ١٩٦٢

الولايات المتحدة في مواجهة روسيا في العموم/الصين في مواجهة فورموسا بشأن التبعية/الهند في مواجهة الصين بشأن أراضٍ حدودية/الهند في مواجهة باكستان بشأن كشمير؛ معركة دينية/الهند في مواجهة البرتغال بشأن جُوا/الهند في مواجهة قبائل ناجا بشأن الاستقلال/مصر في مواجهة إسرائيل بشأن نزاع على الأرض والدين/ألمانيا الشرقية في مواجهة ألمانيا الغربية بشأن السيادة/كوبا في مواجهة الولايات المتحدة بسبب الأفكار/كوريا الشمالية في مواجهة كوريا الجنوبية بشأن السيادة/إندونيسيا في مواجهة هولندا بشأن الأرض/فرنسا في مواجهة الجزائر بشأن الأرض/الزنوج في مواجهة البيض في الولايات المتحدة الأمريكية/كاتانجا في مواجهة ليوبولدفيل/أتباع ستالين في مواجهة أتباع خروتشوف في روسيا/حزب التحالف الثوري الشعبي الأمريكي في مواجهة العسكريين في بيرو/العسكريون في مواجهة البرجوازيين في الأرجنتين/قبائل النافاهو البيوتية في مواجهة مجلس نافاهو القبلي؛ صراع قبلي/الأكراد في مواجهة العراق/الزنوج في مواجهة البيض في جنوب أفريقيا؛ صراع عِرقي/السنغال من المعسكر الأمريكي في مواجهة مالي من المعسكر الشيوعي بشأن الأرض/غانا في مواجهة توجو بشأن الأرض/الواتوسي في مواجهة الباهوتو في رواندا بشأن النفوذ القَبَلي/الاتحاد الديمقراطي الأفريقي الكيني في مواجهة الاتحاد الوطني الأفريقي الكيني بشأن النفوذ القَبَلي/الصومال في مواجهة إثيوبيا وكينيا وأرض الصومال الفرنسي/كهنة التبت في مواجهة علمانيي التبت الصينيين/الهند في مواجهة باكستان الشرقية بشأن الحدود وتريبورا/الجزائر في مواجهة المغرب بشأن الصحراء الكبرى.86

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤