الفصل السابع عشر

الأقليات

أولى قواعد اللياقة هي الحفاظ على حرية الآخرين.

فريدريش شيلر

١

عصر يوم ٢٧ مايو ١٩٦٤، إذ ذاع نبأ وفاة جواهر لال نهرو في أرجاء نيودلهي، كان ممن بلغهم النبأ طالب دراسات عليا أمريكي يُدعى جرانفيل أوستِن. كان أوستن يُعِدُّ أطروحةً عن عملية وضع الدستور الهندي، ومن ثم كان مهتمًّا أكثر من العادي بالرمز الذي يمثِّله نهرو؛ فتوجَّه إلى قصر تين مورتي، لينضم إلى حشد كبير أصلًا من الهنود الآتين لتشييع الجثمان. وكما كتب أوستن في دفتر مذكراته في اليوم التالي: «كان الجميع يرغبون في الدخول، ولكنهم كانوا مستعدين للانتظار.» وقف الحشد «في نظام وهدوء»، بينما قاد موظفو رئيس الوزراء الدبلوماسيين والوزراء إلى الداخل. كان من الشخصيات المهمة الحاضرة الدكتور سيد محمود، محارب من أجل الحرية كان زميلًا لنهرو في جامعة كامبريدج وفي السجن. ومثله مثل الآخرين، اضْطُرَّ إلى النزول من سيارته والصعود على أرض الحديقة شديدة الانحدار أمام منزل رئيس الوزراء؛ فرأى أوستن محمود يسير باكيًا وهو مستند إلى جاجيفان رام، عضو حزب المؤتمر القديم وعضو مجلس الوزراء، الذي كان ينتمي لطائفة اجتماعية دنيا. كان ذلك حقًّا «مشهدًا يرمز إلى الهند في عهد نهرو: مسلم يسير بمعاونة أحد المَنْبوذين في طريقه إلى منزل هندوسي من الطوائف الاجتماعية العليا».1

كان المسلمون والمَنْبوذون يُشَكِّلون رُبع تعداد السكان في الهند الحرة. قبل عام ١٩٤٧، أبدى زعيمان تشكُّكًا بالغًا في زعم حزب المؤتمر تمثيله الهند كافة. كان أحدهما مسلمًا؛ هو محمد على جناح، الذي قال إنَّ حزب غاندي ونهرو لا يمثل سوى الهندوس. والآخر كان ينتمي سابقًا إلى طائفة المَنْبوذين؛ وهو بي آر أمبيدكار، الذي أضاف إلى ما سبق تعقيبًا رهيبًا مفاده أنَّ حزب المؤتمر لا يمثل الهندوس جميعًا حتى، وإنما الطوائف الاجتماعية العليا منهم فقط.

قُوبِل هذان الادِّعاءان بمقاومة قوية؛ فغاندي نفسه خاض معركة ضد ممارسة النَّبْذ قبل دخول أمبيدكار الساحة السياسية بزمن. وقد ضحَّى بحياته في سبيل قضية الانسجام بين الهندوس والمسلمين؛ فمن وجهة نظر المهاتما غاندي، لم يكن للحرية معنى إلا إذا أتت للهنود كافة، بصرف النظر عن الطائفة أو العقيدة (أو الجنس).

وكانت تلك التزامات اشترك فيها نهرو مع غاندي. في أمور أخرى، ربما كان تلميذًا غير مطيع إلى حد ما؛ فقد قرر بالاتفاق مع زملائه المثقفين قيادة الهند على طريق التحديث الصناعي، عوضًا عن تنمية الاقتصاد المرتكز على القرى (كما كانت رغبة غاندي). ولكنه فيما يتعلق بالحفاظ على حقوق الأقليات، وقف جنبًا إلى جنب مع المهاتما؛ فقوميته بالمِثل كانت مركَّبة إلى جانب كونها تقوم على المساواة.

فَبِإلْهامٍ من غاندي، وتوجيهٍ من نهرو، ألغى الدستور الهندي ممارسة النَّبْذ وأعلن حيادية الدولة في الأمور الدينية. كان ذلك هو القانون، فماذا عن الممارسة العملية؟ من بين كافة الاختبارات التي واجهتها الدولة الجديدة، ربما كان ذلك هو الأصعب؛ فنظرًا لتمثيل الهندوس أغلبية عددية وتصدُّرهم الساحة السياسية، فلم تكن فكرة الهند لتصمد أمام الدراسة المدقِّقة ما لم يحترموا حقوق الهنود المختلفين عنهم وحرياتهم.

٢

كانت فكرة باكستان مُبَرَّرَةً بضرورة تحرُّر الأقليات من الخوف من السيطرة الهندوسية. إلا أنه من قبيل التناقض أنَّ دولة باكستان تشكَّلت من المناطق ذات الأغلبية المسلمة حيث لم تكن تلك المشكلة قائمةً من الأساس.

بعد عام ١٩٤٧ كان ثمة أعداد كبيرة من المسلمين مبعثرةً في جميع أنحاء شبة جزيرة الهند، كما كان الحال قبل ذلك التاريخ؛ فقد هاجرت عدة ملايين من المسلمين عبر الحدود إلى باكستان الشرقية والغربية، ولكنَّ عددًا أكبر منهم بكثير فضَّل البقاء في الهند. وأدَّى قيام دولة باكستان إلى إضعاف موقفهم بشدة. من المفارقة أنَّ تلك كانت رؤية رجلين اضطلعا بدورين حيويين في تشكيل باكستان؛ هما: إتش إس سهروردي من العصبة الإسلامية البنغالية ونظيره في المقاطعات الاتحادية، تشودري خليق الزمان. ففي ١٠ سبتمبر ١٩٤٧ — بعد أقل من شهر على الاستقلال والتقسيم — كتب سهروردي إلى خليق الزمان، في فزع قائلًا: «إنَّ المسلمين في الاتحاد الهندي تُرِكوا بلا شفيع ولا نصير.» كانت المشاعر العدائية الناجمة عن تشكيل دولة باكستان قد تفاقمت بفرار اللاجئين من الهندوس والسيخ إلى الهند؛ فبات سهروردي يخشى من أنْه «قد ينشب صراع عامٌّ كفيل بسحق الأقلية المسلمة في الاتحاد الهندي». أما عن خليق الزمان، فقد خلُص إلى نتيجة حزينة مفادها أنَّ «تقسيم الهند أثبت ضرره القطعي على مسلمي الهند، وعلى المسلمين في كل مكان على المدى البعيد».

وبغية حماية مصالحهم — وحياتهم — صاغ سهروردي «إعلان تعاون ومساعدة مشتركة بين الدومنيونَين»، يلزمهما بحماية أقلياتهما وعدم الإدلاء بتصريحات مستفزة من أحدهما في حق الآخر. استطاع سهروردي إقناع غاندي بدعم الإعلان، ولكنه فشل في إقناع جناح بالموافقة عليه، رغم توسله إليه لكي يوافق، «من أجل مسلمي الاتحاد الهندي البائسين الذين لا حول لهم ولا قوة».2

كما رأينا، أعطى قيام دولة باكستان دَفعَة للنزعة الطائفية الهندوسية؛ فقد بات في إمكان راشتريا سوايامسيفاك سانج والجماعات المشابهة الدفع بأنَّ المسلمين خَوَنة قسَّموا الأُمَّة. وفي وجهة نظر الهندوسي المتطرف، كان ينبغي لهؤلاء المسلمين إما الذهاب إلى باكستان أو مواجهة العواقب. نمت قوة منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج بعد التقسيم على الفور، وعلى الرغم من أنَّ مقتل غاندي في يناير ١٩٤٨ أبطأ وتيرة صعودها، فقد ظلَّت المنظمة تمارس نفوذًا لا يُستهان به في شمال الهند وغربها.

الحق يُقال إنَّ حزب المؤتمر نفسه ضَمَّ بين أعضائه شوفينيين؛ رجالًا لم يكونوا على اقتناع كامل بأنَّ المسلمين سيكون ولاؤهم للدولة الجديدة. وبعض هؤلاء الشوفينيين كانوا يحتلون مناصب رفيعة؛ فقد حذَّر محافظ بيهار مُلَّاك مصنع الصُّلب الضخم في جمشيدبور من أنَّ موظفيه المسلمين سوف يغادرون إلى باكستان، ويدمِّرون الماكينات قبل رحيلهم. وراجت أقاويل أخرى من هذا القبيل في أنحاء البلدة، ولكن مُلَّاك المصنع ظلُّوا ثابتين على موقفهم، وأصدروا مذكرة مفادها أنَّهم لا نية لديهم لفصل موظفيهم المسلمين من العمل ولا لتعزيز الانقسام الطائفي بين العاملين.3
احتلَّ الشعور العميق بعدم الأمان لدى المسلم الهندي موقع الصدارة في مسح أجراه عالم نفس أمريكي عام ١٩٥٠. وكان المجيبون على المسح من المسلمين — من بلدات في شمال الهند وغربها — مُلاحَقين بالخوف والشك. وقال أحدهم: «إنهم ينظرون إلينا على أننا جواسيس باكستانيون.» وقال ثانٍ: «العيش في منطقة هندوسية خطر لأنهم قد يختطفون نساءنا ويغتصبونهن.» وقال ثالث: «الهندوس يفرضون أسعار السوق السوداء الباهظة للبضائع التي يبيعونها للمسلمين.»4

٣

كان من الأشخاص الذين لم يثقوا تمامًا في المسلمين فالابهاي باتيل، وزير داخلية الهند؛ فباتيل لم ينسَ أنَّ أغلبية المسلمين صوَّتوا للعصبة الإسلامية عام ١٩٤٦، حتى في المناطق التي لم تُشَكِّل فيما بعد جزءًا من باكستان. وبعد قيام الدولتين ظلَّ باتيل مُتَشَكِّكًا في المسلمين الذين قرروا البقاء في الهند. وفي خطاب ألقاه في لكنو بأوتَّر براديش في مطلع يناير عام ١٩٤٨، ذكَّر جمهوره بأنَّ «أساس نظرية الدولتين أُرْسِيَ» هناك؛ فقد كان مثقفو أوتَّر براديش هم من ادَّعَوْا أنَّ «المسلمين أمة منفصلة». وبالنسبة إلى من فضَّلوا عدم الذهاب إلى باكستان، فلم يكن كافيًا أن يعطوا «مجرد إعلان بالولاء للاتحاد الهندي»، وإنما «يجب عليهم تقديم «دليل عملي» على إعلانهم».5
وفي وقت لاحق من هذا العام، كتب سكرتير وزارة الداخلية التي يرأسها باتيل إلى نظرائه في الوزارات الأخرى كافة، لافتًا انتباههم:

إلى أن أحد الجوانب الأمنية الذي اكتسب إلحاحًا وأهمية في ظل السياق الحالي للعلاقات مع باكستان؛ فثمة أدلة متزايدة على أنَّ قطاعًا من المسلمين في الهند غير متعاطف مع حكومة الهند، لا سيما بسبب سياستها تجاه كشمير وحيدر أباد، ويُبدي تعاطفًا نشطًا مع باكستان. من المرجَّح أن يُمَثِّل موظفو الخدمة المدنية من ذلك القبيل قنوات مفيدة للمعلومات، وسيكونون عُرضَةً لتأثير أقربائهم بصفة خاصة.

من المرجَّح أنَّ بعض موظفي الحكومة من المسلمين يندرج تحت تلك الفئات. ومن البديهي أنَّهم يُمَثِّلون عنصرًا خَطِرًا في نسيج الإدارة، ومن الضروري ألا يُعهَد إليهم بأي عمل سري ولا أنْ يُسمَح لهم بتَبَوُّؤ مناصب مهمة. لهذا الغرض أود أنْ أطلب إليكم إعداد قوائم بأسماء الموظفين المسلمين في وزارتكم والمكاتب التابعة لكم، المشكوك في ولائهم لدومنيون الهند أو الذين يُرَجَّح أن يُشَكِّلوا تهديدًا للأمن. وينبغي لرؤساء الوزارات أو غيرهم من أصحاب المناصب الرفيعة إعداد تلك القوائم والتدقيق فيها بعناية، وأنْ تُستَخدَم القوائم للأغراض المحددة المتمثلة في استبعاد أشخاص من المناصب الرئيسية أو من التعامل مع أعمال سرية.

لا داعي لأن أضيف أنني واثق من أنَّكم سوف تتأكَّدون من عدم ممارسة الاضطهاد دون وجه حق، وأنَّ الحالات الحقيقية وحدها ستُدرَج في القائمة. أما الأشخاص ذوو الولاء والأداء المُرْضي في العمل فينبغي بالطبع أن يشعروا بأنَّ حقوقهم لا تقل عن حقوق الرجال المنتمين إلى طائفة الأغلبية.6

كانت تلك رسالة غير معتادة، أطلقت، إن لم يكن عملية لاضطهاد الموظفين المسلمين في حكومة الهند دون وجه حق، فهي محاولة نشِطة للبحث عن آثار للخيانة بينهم. انظروا لهيئة المسح الأثري للهند، التي تضمَّنت موظفين مسلمين كُثُرًا، مكلَّفين بصيانة مباني الهند المهيبة التي ترجع إلى العصور الوسطى؛ فعندما نقل سكرتير التعليم تلك الرسالة إلى المدير العام للهيئة، كتب ذلك الأخير إلى رؤساء الدوائر طالبًا منهم إعداد قوائم بأسماء الموظفين المسلمين، الموالين منهم لدومنيون الهند والذين «يُرَجَّح أن يُشَكِّلوا تهديدًا للأمن»؛ فعندئذٍ شرع رؤساء الدوائر في تحريات سرية في صفوف العاملين لديهم، وأبلغوا المقر الرئيسي بنتائجها. وعند قراءة تقاريرهم بعد مرور نصف قرن من الزمان، نجد فيها مادةً مثيرة تقشعرُّ لها الأبدان في بعض الحالات.

لقد رَدَّ عدة مُديرين للدوائر قائلين إنَّهم لم يتشكَّكوا في أيٍّ من موظفيهم على المستوى الشخصي، إلا أنَّهم تعرَّضوا لضغوط من أجل نقل الأشخاص الذين يُرجَّح أن يكونوا في موقف اشتباه؛ فقد نصح رائد وحدة مُشاة في بيجابور هيئة المسح الأثري قائلًا إنَّ حارس مزار جول جُمباز «لا يُعتَبَر قابلًا للاعتماد عليه»؛ لأنه على ما يبدو كان لديه أقارب في حيدر أباد، وهي ولاية كانت ترفض الانضمام إلى الاتحاد الهندي؛ فحينئذٍ نُقِل الحارس إلى كهوف كانهيري في بومباي.

ورد أكثر التقارير تفصيلًا عن رئيس الدائرة الشمالية، التي كان مقرها في أجرا وتضمَّن نطاق اختصاصها تاج محل وفاتح بور سِكري؛ فقد أدرج رئيس تلك الدائرة أسماء ثمانية وعشرين موظفًا لهم أقارب هاجروا إلى باكستان. ومن هؤلاء، حدَّد خمسة على أنهم «أشخاص قد لا يكون ولاؤهم لدومنيون الهند فوق مستوى الشُّبُهات»، و«قد يُشَكِّلون تهديدًا للأمن إذا أُتيحَت لهم فرصة مواتية». كان أحدهم موظف بيع تذاكر في قلعة أجرا، له أخ وابن وأم في حيدر أباد (السند)، وآخر كان حارسًا في تاج محل زوجته في كراتشي. وكان ثمة حارس آخر في تاج محل لديه ابنان وابنة في كراتشي. وأدرج رئيس الدائرة أسماء سبعة موظفين آخرين لم «يبدوا مؤذين بالفِطرة، ولكنهم قد يصيرون قنوات مفيدة لنقل المعلومات تحت تأثير أقاربهم في باكستان».

في يوم ٢٠ أكتوبر، أرسل سكرتير الداخلية رسالة أخرى بنفس المضمون، لكن تستهدف الموظفين الذين لديهم أقارب مقرَّبون في باكستان. وقال إنَّه إذ مرَّت أشهر عدة على التقسيم، «لم يعد ثمة سبب لإبقاء الموظفين الحكوميين أُسَرهم في باكستان. على العكس، فإنه بوضع العلاقات المتوترة بين الدومنيونين في الاعتبار سيُمَثِّل ذلك دليلًا ظاهرًا على عدم الولاء لدومنيون الهند». فالموظفون الذين تقيم أُسَرُهم في باكستان عليهم إعادتهم في غضون شهر. وطلبت وزارة الداخلية قائمة بأسماء المخالِفين، حتى تقرر دراسة كل حالة على حدة إن كانت «مصلحة البلاد» تستدعي اتخاذ إجراء تأديبي ضدهم.

مرة أخرى مرَّر المدير العام لهيئة المسح الأثري للهند رسالة سكرتير الداخلية إلى رؤساء الدوائر التابعين له كافة. ومرة أخرى ورد أكثر التقارير تفصيلًا عن رئيس دائرة أجرا، الذي بدا فعلًا أنه نظر إلى الأمر — بشيء من الاستمتاع — على أنه عملية اضطهاد للمسلمين. وقد اختصَّ بسخطه «خُدَّام» تاج محل — أي، حُرَّاسه بالوراثة — البالغ عددهم ثمانية عشر، الذين عيَّنهم الإمبراطور شاه جهان في ذلك المنصب في القرن السابع عشر، وأكَّد البريطانيون تعيينهم فيما بعد؛ ففي أعين رئيس الدائرة، بدوا جميعًا عملاء للعدو، و«غير مستعدين للبوح بحقيقتهم الكاملة». وستة منهم على الأقل كان لا يزال لهم أُسَر في باكستان. أمضى خادم منهم فترة أطول من اللازم مع أقربائه على الجانب الآخر من الحدود؛ فأُوقِف عن العمل، وتلقَّى أوامر بأنْ «يُسَلِّم الزِّيَّيْن الصيفي والشتوي وسائر المتعلقات الحكومية التي في حوزته». وكان رئيس الدائرة يريد وقف خادم آخر عن العمل، شَكَّ في نيته بيع البيت الذي يملكه في أجرا قبل الهجرة «إلى باكستان سِرًّا». واستهدف ذلك المسئول أيضًا رجلًا ثالثًا «يبدو أنه بذل جهدًا — وإن لم يكن متحمِّسًا بالقدر الكافي — لإعادة أفراد أسرته إلى الهند».

كانت أجرا في أُوتَّر براديش، التي ضرب انقسام المسلمين فيها بجذوره عميقًا؛ فقد هاجر مسلمو البنجاب في جماعات عبر الحدود، بينما هاجر العديد من المثقفين طواعيةً من بومباي والجنوب إلى باكستان، إلا أنَّ المسلمين من الطبقة العاملة ظلوا في الهند؛ فقد كانت باكستان بعيدة وغريبة عليهم إلى حد لم يستطيعوا معه التفكير في بدء حياة جديدة في مكان جديد. إلا أنَّ مسلمي أوتَّر براديش كانوا يتحدثون الأردية — اللغة الرسمية في باكستان — كما أنَّهم كانوا قريبين بما فيه الكفاية لأنْ يَسْتَقِلُّوا قطارًا ويذهبوا إلى هناك. وقد ذهب كثيرون، لكنَّ كثيرين غيرهم بقوا حيث كانوا.

كانت كل أسرة مسلمة تقريبًا في أُوتَّر براديش مقسَّمة، ولم يكن موظفو هيئة المسح الأثري مستثنين من ذلك. إلا أنَّ رئيس دائرة أجرا لم يُبْدِ أي تعاطف مع موظفين كان لديهم أقارب فيما اعتبره أرضًا «معادية»؛ فأخبر مرءوسيه بأنَّهم إما أن يعيدوهم أو يواجهوا العواقب. كان خادم لتاج محل يُدعى شمس الدين قد أثار شكوك رئيسه ببيع منزله، بينما كانت عائلته كلها في باكستان؛ ففي عريضة مثيرة للشفقة إلى حد ما مُقدَّمة بتاريخ ٨ ديسمبر ١٩٤٨، قال شمس الدين: «إنني لا نية لديَّ مطلقًا للذهاب إلى باكستان أبدًا.» فقد كان ثمة أربعة أسباب لبيعه ذلك المنزل؛ أولًا: سداد دين لأقاربه، وثانيًا: «بنتاي على وشك الزواج، ويجب أن أدبر مالًا من أجلهما»، وثالثًا: المستأجرون اللاجئون الذين سُكِّنوا في منزله كانوا يسيئون استخدامه، وصار من الأفضل أن يبيع مسكنه قبل أن تتدهور حالته أكثر، ورابعًا: «لا بد أن أُعِدَّ للمراسم الأخيرة في حياتي لأن أبنائي تخلَّوا عني».

لم يقتنع رئيس الدائرة وطالب بتقديم برهان أكثر قطعًا على ولاء شمس الدين للاتحاد الهندي. وأعلمتنا مذكرة بتاريخ ١٣ يونيو ١٩٤٩ أنَّ الخادم سافر إلى باكستان ورجع بابنتيه غير المتزوجتين، وحفيدين من ابنة متوفاة «كان لديه سيطرة عليهما».7
وإذا فُتِحَت سجِلَّات الحكومة الهندية لتلك الأعوام على الملأ يومًا، لوجد المرء أنَّ التعهُّدات بالولاء من ذلك القبيل، المقطوعة تحت ضغط كبار المسئولين، كانت تحدث في كل مكان تقريبًا. وقد عثر باحث مؤخرًا على بيان صادر عام ١٩٥١ عن رعاة مسلمين من كوتش، المنطقة شبه القاحلة من ولاية جوجارات على حدود مقاطعة السند في باكستان، أكَّدوا فيه للمفوض أنَّ «ولاءنا للحكومة الهندية، وإذا هاجمت الحكومة الباكستانية الحكومة الهندية، فسوف نبذل حياتنا فداءً لأمن الهند».8

٤

ليس من الواضح إن كان رئيس الوزراء أقرَّ محاولات التحقُّق من ولاء بعض الموظفين في حكومة الهند. ولكن ما نعلمه هو أنَّ رؤيته لوضع المسلمين كانت مغايرة إلى حد ما لرؤية نائبه؛ فهو كما كتب لباتيل، يستنكر «المطالبات المستمرة بالانتقام وعقاب مسلمي الهند كما يعاقب الباكستانيون الهندوس. هذه الحجة لا تروق لي مطلقًا. وأنا واثق من أنَّ سياسة الانتقام والعقاب بالنيابة هذه ستجلب الدمار على الهند وكذلك باكستان».9 وفي حين أنَّ وزير الداخلية طالب المسلمين بإثبات ولائهم، فقد حمَّل رئيس الوزراء الدولة الهندية المسئولية، الملزَمة لها دستوريًّا والتي تتمثل في إشعار مواطنيها جميعًا — لا سيما المسلمون منهم — بالأمان.
أعرب نهرو عن تلك الآراء لباتيل، وفي سلسلة من الرسائل كتبها لرؤساء وزارات المقاطعات المختلفة؛10 فبعد مرور ثلاثة أشهر على التقسيم، ذكَّرهم بأنَّ «لدينا أقلية مسلمة عددها كبير جدًّا بحيث يتعذَّر عليها الذهاب إلى أي مكان، حتى إنْ أرادت. تلك حقيقة أساسية لا مجال للجدل فيها؛ فمهما استفزَّتنا باكستان وأيًّا كانت الإهانات والفظائع التي يتعرَّض لها غير المسلمين هناك، فلا بد لنا من التعامل مع هذه الأقلية بأسلوب متحضِّر. ويجب علينا أن نمنحهم الأمن والحقوق التي يتمتع بها المواطنون في الدول الديمقراطية. أما إذا فشلنا في ذلك، فسيتكوَّن لدينا قرح متقيِّح سوف يُسَمِّم الكيان السياسي كله في نهاية المطاف ويدمره على الأرجح».
وفي جزء لاحق من الرسالة ذاتها، لفت الانتباه إلى «الأهمية القصوى التي يتسم بها حماية الهيئات العامة من فيروس السياسة الطائفية».11

كان ذلك موضوعًا لزم على نهرو التَّطَرُّق إليه مرة أخرى؛ فقد تمثل أحد صور الاستفزاز في الخلافات بشأن الملكيات العقارية؛ إذ طلب مسئولون مفرطو الحماس من المسلمين في بعض الأماكن التنازل عن منازلهم للاجئين الهندوس والسيخ؛ فانتهز رئيس الوزراء فرصة ذكرى مولِد غاندي للتحذير من «خلق مناخ من انعدام الثقة والأمن في أذهان أعداد كبيرة من أبناء بلدنا المسلمين». فهذا من شأنه أن يخلِّف «تبعات بعيدة الأثر ليس على الهند فحسب وإنما على كشمير أيضًا. وهو يؤثر على سُمعتنا في الخارج؛ فالحجز على بضعة منازل أو متاجر أو نزع ملكيتها لا يحدث فرقًا كبيرًا. ولكنه إن حدث دون وجه حق فإنَّه يؤثر فعلًا على سُمعتنا ومن ثم يضرُّنا».

أقرَّ رئيس الوزراء بأنَّ «باكستان تنتهج سياسة شديدة القسوة في هذا الشأن». إلا أنَّه أصرَّ على أنَّه «لا يمكننا محاكاة الأساليب أو المُثُل التي تتَّبِعها باكستان؛ فقد أعلنت نفسها صراحةً دولة إسلامية مؤمنة بنظرية الدولتين. أما نحن فنرفض تلك النظرية وندعو أنفسنا دولةً علمانية توفر حماية كاملة لجميع الأديان. وعلينا أن نرتقي بأفعالنا إلى مستوى مُثُلنا وبياناتنا. وفي هذا اليوم خاصة — ذكرى مولِد غاندي — ينبغي أن نتذكَّر ما علَّمنا إياه غاندي وما مات في سبيله».12
كان نهرو قد جعل من التنظيمات الطائفية خصمه الرئيسي في الحملة الانتخابية عام ١٩٥١-١٩٥٢؛ فقد خاض الانتخابات وفاز بها على أساس مبدأ الحيلولة دون أن تصير الهند «باكستان هندوسية». إلا أنَّ نهرو ظل قلِقًا بشأن حقوق الهنود الذين أبقتهم ثقافتهم وعقيدتهم بمَنْأًى عن الأغلبية. وكان قلقًا بصفة خاصة من النسبة بالغة الانخفاض للمسلمين في مناصب السلطة؛ فمؤسسات الدفاع لم يعد فيها موظفون مسلمون تقريبًا، وكذلك لم يعد في الحكومة مسلمون كُثُر؛ فشعر أنَّ ذلك الوضع ناجم عن فشل في بثِّ «روح مشاركة سليمة داخل كل جماعة وكل فرد في البلاد؛ حِس المشاركة الكاملة في المزايا والفرص المتاحة». وقال لرؤساء وزارات الولايات إنَّ الهند لو كان لها أن تصير «دولة علمانية مستقرة وقوية»؛ إذن «ينبغي أن يكون أول ما نوليه اهتمامنا هو التعامل مع أقلياتنا «بإنصاف مطلق»، حتى نشعرهم «بالانتماء الكامل» إلى الهند».13

٥

كان زعيم المسلمين المعترَف به الذي بَقِيَ في الاتحاد الهندي هو مولانا أبو الكلام آزاد؛ فخلافًا لمنافسه العتيد محمد علي جناح، كان آزاد يؤمن بأنَّه من الممكن لغير الهندوس العيش بسلام وشرف داخل هندٍ متحدة؛ فحسب صياغة نهرو البليغة كعادته، كان مولانا آزاد «ممثلًا خاصًّا للغاية ومميَّزًا يحتلُّ درجة رفيعة في تلك الثقافة المركَّبة العظيمة التي نمت تدريجيًّا في الهند». فقد كان يجسِّد «توليفة ثقافات متنوعة توافدت على الهند واحدة تلو الأخرى، كأنهار تدفقت فيها وذابت في محيط الحياة الهندية».14

أحدث التقسيم جرحًا عميقًا في نفس آزاد؛ فهو إِذِ ارْتَأَى فيه فشلًا لرسالة حياته، انسحب من عالم السياسة الحزبية. (على أي حال كثيرًا ما كان توجُّهه أقرب لتوجُّه طالب العلم من الزعيم الشعبي.) وقد شغل منصب وزير التعليم في وزارة الاتحاد، وساعد في ذلك المنصب على تشجيع إنشاء أكاديميات جديدة لتنمية الأدب والرقص والموسيقى والفن الهندي. إلا أنَّ عمره وطبعه أبقاه في دلهي معظم الوقت.

أما العضو الأصغر سنًّا في حزب المؤتمر الذي سعى إلى الاضطلاع بدور سياسي أكثر نشاطًا فكان سيف طيابجي، سليل عائلة مشهورة في الحركة القومية. ولما كان طيابجي حفيد أحد الرؤساء الأوائل لحزب المؤتمر، وهو نفسه مهندس تخرَّج في جامعة كامبريدج؛ فقد كان مؤهلًا للاضطلاع بدور جسر الحداثة بين حزب المؤتمر وجمهور المسلمين. وفي عام ١٩٥٥ كتب سلسلة من المقالات في الصحيفة الأردية واسعة الأثر «انقلاب»، وتُرجِمَت المقالات فيما بعد إلى الإنجليزية ثُم نُشِرت بعنوان «مستقبل المسلمين في الهند». في انتخابات عام ١٩٥٢، صوَّت المسلمون بأعداد كبيرة لحزب المؤتمر، الذي شعروا بأنه — تحت قيادة نهرو — يمكنهم الثقة به أكثر من خصومه.15 إلا أنَّ طيابجي كان يشعر أن المسلمين ينبغي لهم أن يفعلوا ما هو أكثر من التصويت للحزب الغالب في الهند؛ فينبغي لهم أن ينضموا إليه، ويؤثروا في سياساته.

وأشار سيف طيابجي إلى أنَّ حزب المؤتمر مؤسسة ديمقراطية؛ إذ يتألَّف مجلسه الوطني من ممثِّلين منتخَبين مُرسَلين من الولايات، مُختارين بدورهم من لجان المناطق والتَّعلقات؛ فالانضمام إلى حزب المؤتمر لم يكن يكلِّف سوى دفع رسوم اشتراك قيمتها رُبع روبية؛ فكان بإمكان المسلمين المنتشرين في أنحاء الهند الالتحاق بالحزب بأعداد كبيرة في جميع المناطق، ومن ثَمَّ يتسنى لهم التأثير على عملية اختيار قيادات حزب المؤتمر في المستويات العليا من ذلك التنظيم. كانت تلك هي الاستراتيجية السياسية لطيابجي، ولكنه حثَّ أبناء مِلَّته أيضًا على الانخراط في الحياة الثقافية للبلاد بصورة أكمل؛ فهو بصفته «هنديًّا وطنيًّا» كان يتمنى أن تكون «الثقافة الهندية الجديدة» الناشئة «على أكبر قدر ممكن من الثراء والتنوع والحيوية، وهذا لا يتأتى إلا بأن تستمد غذاءها من جميع المصادر المحتملة». فمثل سائر الهنود، لا بد للمسلمين من «الاضطلاع بدور نشط في تشكيلها». ولكن «إذا جلس المسلمون مَكْتوفِي الأيدي، فيمكننا أن نتأكَّد من أنَّ الثقافة الهندية الجديدة لن تكون لها صلة تُذكَر بالإنجازات التي تحققت في هذا البلد فيما بين القرن الحادي عشر ومجيء البريطانيين. هذا سيجلب المعاناة على الهنود جميعًا، ولكن مسئولية الخسارة سيتحمل أكثر وطأتها المسلمون من الهنود».

كان من اقتراحات طيابجي الأخرى أن يطلب المسلمون العلم في المجالات الفنية والتجارية، عوضًا عن الاكتفاء بدراسة العلوم الإنسانية والانضمام إلى صفوف العاطلين المتعلِّمين. وحتى فيما يتعلق بالعلوم الإنسانية، فقد استنكر محاولات «إبقاء ثقافتنا الإسلامية … في حالة من النقاء المتحجِّر». فعوضًا عن بكاء المسلمين على أطلال لغتهم الأردية المنحسرة، عليهم أن يدركوا أنَّ اللغة الهندية بالأبجدية الديفاناجارية جاءت لتبقى. واللغة الأردية ستصير أكثر عصرية بإتاحة أدبياتها بالأبجدية الديفاناجارية، وباقتراح كلمات وتعبيرات اصطلاحية جديدة ملائمة لإثراء اللغة الهندية الحديثة الجديدة والناشئة.16
وفي حين أنَّ مولانا آزاد وسيف طيابجي — على سبيل المثال — سعيا إلى ضمِّ المسلمين إلى حزب المؤتمر، كان ثمة آخرون يرون أنَّ مجتمع المسلمين يمكنه تمثيل نفسه بصورة أفضل من خلال تنظيمات خاصة به؛ ففي أكتوبر ١٩٥٣، التقت مجموعة من المثقفين والمهنيين في عليكرة، لمناقشة فكرة تأسيس حزب سياسي من شأنه أن «يحمي حقوق الأقلية المسلمة، وتمكينهم من العيش بشرف في هذا البلد». وكان من أهم ما يقلقهم انخفاض نسبة تمثيل المسلمين في المجالس التشريعية، ومناصب الخدمة المدنية العليا.17 رأس ذلك المؤتمر عُمدة سابق لكلكتا، زعم أنَّه إذا استمرت الاتجاهات الحالية، فلن يحمل المستقبل سوى «الشلل الاقتصادي، والموت أو التفتت الثقافي والعبودية السياسية للمسلمين».18 وبعد مرور ستة أشهر، في خطبة أُلقيت في المسجد الجامع بدلهي، هاجم الأمين العام لجمعية علماء الهند براديش حكومة الهند ناعتًا إياها بالمعادِية للديمقراطية والمناصِرة للهندوس. وقال: «آن الأوان لمسلمي الهند أن يتحدوا وينظموا أنفسهم تحت قيادة واحدة لمواجهة مستجدات الأمور في المستقبل.»19
في ذلك الوقت، اتُّخِذَت خطوات معينة في هذا الصدد في جنوب الهند؛ ففي سبتمبر ١٩٥١ نشأ حزب العصبة الإسلامية للاتحاد الهندي في مدراس، وقد ميَّزه اسمه وميثاقه عن حزب ما قبل التقسيم الذي قد يظن البعض أنَّه يشبهه. سعى ذلك الحزب إلى «تأمين وحماية وصون الحقوق والمصالح» الدينية والثقافية والاقتصادية وغيرها من الحقوق والمصالح «المشروعة للمسلمين وغيرهم من الأقليات»، ولكنه تعهَّد أيضًا بالحفاظ على «استقلال وحرية وشرف» الاتحاد الهندي والدفاع عنها.20 وبعد أعوام عدة، تشكَّل حزب في حيدر أباد لتمثيل مسلمي المدينة، هو: «مجلس اتحاد المسلمين». كان لذلك الحزب عدة مرشحين في انتخابات عام ١٩٥٧، ولكنه لم يفز إلا بمقعد واحد في المجلس التشريعي. أما حزب العصبة الإسلامية للاتحاد الهندي فقد حقق نجاحًا أكبر في معقله — كيرالا — حيث فاز بعشرة مقاعد في الانتخابات النصفية لعام ١٩٦٠.21

٦

ذكر دبليو سي سميث في كتاب له عام ١٩٥٧ أنَّه في تاريخ الإسلام، كان مسلمو الهند مميزين، نظرًا لأنَّ عددهم كبير جدًّا ولكنهم لا يعيشون في دولة خاصة بهم؛ فخلافًا لمسلمي إيران أو العراق أو باكستان أو تركيا شارك مسلمي الهند مُواطَنَتَهم في الجمهورية الهندية الجديدة «عددٌ هائل من الأشخاص الآخرين. وهم يُشَكِّلون الكيان الإسلامي الكبير الوحيد في العالم الذين ينطبق عليهم هذا الوضع الآن أو في أي وقت مضى».22
كان مسلمو الهند أقلية كبيرة العدد، إلى جانب أنَّ موقفها كان ضعيفًا؛ فقد كانت معرَّضة لتهديد الطائفية الهندوسية والاستفزاز الباكستاني؛ فقد نزع الزعماء الباكستانيون إلى السخرية من العلمانية الهندية و«افتراض وتشجيع عدم ولاء المسلمين الهنود لدولتهم». كان المسلمون رهينة العلاقات الهندية الباكستانية بصفة عامة، ورهينة معاملة باكستان لأقلياتها بصفة خاصة. ومن ثم «كل هندوسي ساخط جديد يفرُّ من باكستان الشرقية، وكل حادث جديد على الحدود أو تفاقم لنزاع على مياه القنوات أو مسألة ملكية للاجئين، كان لها تبعات على حياة المسلمين في الهند».23
تمثَّلت مشكلة أخرى — ذات صلة بالتقسيم أيضًا — في عدم وجود طبقة وسطى يُعتمَد عليها؛ ففي وقت التقسيم أو بعده بفترة قصيرة، هاجرت أعداد كبيرة من موظفي الخدمة المدنية والمحامين والباحثين والأطباء ورجال الأعمال المسلمين إلى الدولة الإسلامية الجديدة، لبدء حياة عملية جديدة متحرِّرين من منافسة الهندوس. أما المسلمون الباقون في الهند فكانوا من الطبقة العاملة الفقيرة: من الفلاحين والعمال والحرفيين، الذين صاروا آنذاك في حاجة ماسَّة إلى قيادة مستنيرة ليبرالية؛ فمثلما كتب موظف بريطاني فطِن: كان «أحد مساوئ التقسيم» في البنغال أنَّ الموظفين المسلمين فضَّلوا جميعًا الذهاب إلى باكستان، بحيث «ستفتقر الأقليات المسلمة في غرب البنغال إلى التمثيل في الجهات الخَدَمية أو أي جهة أخرى يمكن أن يلجئوا إليها طلبًا للمساعدة أو الحماية».24 كانت كشمير استثناءً جزئيًّا في ذلك، حيث شَجَّع نظام الشيخ عبد الله المسلمين بين عام ١٩٤٧ وعام ١٩٥٣ على تملك الأراضي، واتِّخاذ المِهَن، وتثقيف أنفسهم في المقام الأول. وكان من الإصلاحات الأبعد نظرًا إنشاء مدارس وكليات للفتيات، حيث نالت كلية البنات في سريناجار عن جدارة سُمعةً ممتازة على مستوى البلد كله.25 وفي سائر الأنحاء، ظلَّ المسلمون يعملون في وظائف دونية مع انخفاض نسبة تمثيلهم في التعليم والمِهَن والمجالس التشريعية والإدارة.26
من ناحية أخرى، بذلت القيادة السياسية الهندية جهدًا في إنشاء دولة علمانية، وغرس الإحساس بالانتماء بين الأقليات. كان نهرو هو الشخصية الرئيسية في هذا الصدد، ولكنه استمد العون من أعضاء آخرين في حزب المؤتمر ممن تربَّوا على يدي غاندي؛ فعندما هددت اشتباكات في الشوارع بالتصاعد إلى مستوى الشغب في أحمد أباد عام ١٩٥٦، صام رئيس وزراء الولاية — مورارجي ديساي — عن الطعام لأجل غير مسمى في سبيل إعادة السلام.27 كانت تلك التصرفات نابعةً في جزء منها من قناعة حقيقية، وفي جزء آخر من المواءمات الدبلوماسية، بترك أفضل انطباع ممكن عند الدفع بقضية كشمير؛ فتعرُّض المسلمين لهجمات من شأنه أن يضعِف موقف الهند في المطالبة بالوادي.28 على الرغم من ذلك فإنه لم يكن «بالأمر الهَيِّن أن كَبَحَ زعماء الأمة الهندوس — باسم العلمانية والإنسانية — جِماح الدافع الطبيعي الذي يُحْتَمل تَحَوُّلُه إلى الضراوة لدى الأغلبية الهندوسية للانتقام من جماعة المسلمين».29
كان البعض — بعد التقسيم مُباشَرةً — يخشون نشوب صراع يُدَمِّر الأقلية المسلمة في الهند. ولكن كما ذكر مشير الحسن، فإنه عوضًا عن ذلك: «ظلت درجة الحرارة الطائفية في خمسينيات القرن العشرين منخفضة نسبيًّا؛ فقد كان ثمة فترة سكون بعد العاصفة العاتية، واتجاه واضح تنازلي في وتيرة الأحداث الطائفية.»30 كان ثمة تشكُّك وتوتر وأحداث عنف متفرقة، ولكن لم تقع أحداث شغب على النطاق المشهود في عشرينيات القرن العشرين أو ثلاثينياته أو أربعينياته. كانت صراعات الخمسينيات قائمة على أساس اللغة والعِرق والطبقة والطائفة الاجتماعية عوضًا عن الدين.
ثم كُسِرَت الهدنة باندلاع أحداث الشغب في جبلبور في مطلع عام ١٩٦١، التي فقد فيها نحو خمسين هنديًّا — معظمهم من المسلمين — حياتهم. إلا أنَّ ذلك كان عراكًا صغيرًا مقارنةً بما حدث في شتاء ١٩٦٣-١٩٦٤؛ فحينئذٍ أثارت سرقة شعرة النبي محمد من مسجد حضرة بال في سريناجار سلسلة من الهجمات على الهندوس في باكستان الشرقية. وفرَّ آلاف اللاجئين إلى الهند، حيث أدت قصصهم إلى رفع درجة الحرارة الطائفية وإلى عنف انتقامي ضد المسلمين؛ ففي كلكتا ومحيطها قُتِلَ ٤٠٠ شخص في أعمال الشغب الدينية، ٣٠٠ منهم مسلمون. كان بعض العنف ناشئًا عن انتهاز تجار الفرصة لهدم مستعمرات القاطنين بوضع اليد وتطويرها من أجل بيعها. كذلك حدثت أعمال شغب خطيرة في مدينتي جمشيدبور وروركيلا المشهورتين بصناعة الصلب، التي ربما بلغ عدد القتلى فيها ألف شخص، معظمهم من المسلمين.31
بحلول ذلك الوقت كان التقسيم قد مضى عليه نحو عقدين من الزمان، إلا أنَّ آثاره ظلت باقية. وكما علَّق أحد الزعماء المسلمين في مدراس بمرارة، فإنَّ عنف ١٩٦٣-١٩٦٤ عزَّز «الخوف من أنَّ أي شيء يحدث في باكستان سَيُخَلِّف تَبِعات على المسلمين في الهند، لا سيما عندما تظهر تقارير مبالغ فيها في الصحافة الهندية، ويقف الأشخاص والأحزاب المعادون للمسلمين على استعداد لاستغلال الفرصة».32

٧

مِثْل المسلمين، كان المَنْبوذون منتشرين في جميع أنحاء الهند. ومثلهم أيضًا، كانوا فقراء موصومين وكثيرًا ما يتعرَّضون للعنف على يد الطوائف الهندية العليا. كان المَنْبوذون يعملون في القرى، في المِهَن الدنيا؛ كخَدَم في المزارع، وعُمال زراعيين، وأساكفة وجامعي قمامة. وحسب التعاليم الهندوسية المتشددة فإن لمسهم نجس عند الطوائف الاجتماعية العليا، وحتى رؤيتهم في بعض المناطق. وكان محرَّمًا عليهم دخول الأراضي والوصول إلى مصادر المياه، وحتى مساكنهم كانت تُقام بعيدًا عن القرية الرئيسية.

في ظل الحكم البريطاني، سنحت الفرصة أمام بعض المَنْبوذين للفكاك من طغيان القرية؛ فهؤلاء إما حصلوا على وظائف في الجيش، أو عملوا في المصانع أو المُجَمَّعات السكنية الحضرية. وهناك أيضًا كانوا يُكَلَّفون عادةً بأدنى الأعمال وأكثرها إذلالًا، مثل جمع القمامة.

كان غاندي قد أعاد تسمية المَنْبوذين باسم الهاريجان؛ أي «أبناء الرب». وقضى الدستور الهندي على ممارسة النَّبْذ، وأدرج المجتمعات التي كانت منبوذة سابقًا في جدول منفصل؛ فاكتسبوا اسمهم الجماعي الجديد: الطوائف المُجَدْوَلَة. إلا أنَّ الدراسات الإثنوغرافية التي أُجْرِيَت على القرى في خمسينيات القرن العشرين أكَّدت أن ممارسة النَّبْذ استمرَّت كسابق عهدها؛ فقد ظلت ملكية الطوائف الْمُجَدْوَلَة للأراضي محدودة، إنْ وُجِدَت، وظل أبناء تلك الطوائف معرضين لإساءة المعاملة الاجتماعية، والجنسية في بعض الحالات. ولكن تلك الدراسات الإثنوغرافية كشفت أيضًا أنَّ الأمور كانت في سبيلها للتَّغَيُّر في القاع، وإن كان تغيُّرها بطيئًا؛ ففي بعض المناطق أصبحت الطوائف الهندية الدنيا ترفض تأدية المهام التي ارتأت فيها تدنيسًا لها؛ فأفرادها لم يعودوا يقبلون حمل الأشياء دون مقابل، ولا السماح لرجال الطوائف الاجتماعية العليا بانتهاك أعراض نسائهم وهم صاغرون. والأكثر جرأة من ذلك أنَّهم بدءوا يطلبون أجورًا أعلى وأراضي يزرعونها، تحت حماية نشطاء شيوعيين في بعض الأحيان.33
وفي المدن، اتَّخذ حضور الطوائف الهندية الدنيا شكلًا أكثر تنظيمًا؛ فبتشجيع من الحزب الشيوعي الهندي، شكَّل كنَّاسو البلدية في دلهي — المنتمين إلى طائفة بالميكي — اتحادًا خاصًّا بهم. وفي أكتوبر ١٩٥٣ قدَّم ذلك الاتحاد ميثاقًا تضمَّن أحد عشر مطلبًا إلى هيئة البلدية، تركَّزت حول رفع الأجور وتحسين ظروف العمل. وخرج الكنَّاسون في مسيرات وعقدوا مؤتمرات شعبية، ونظَّموا مسيرةً إلى مجلس البلدية لاستعراض قوتهم. كذلك حدثت سلسلة من حالات الصيام عن الطعام، ومواجهة كبيرة واحدة على الأقل مع الشرطة. ويشير مؤرِّخ تلك المسيرات الاحتجاجية إلى أنَّها «لم تكن معنيَّة بالأجور فحسب، وإنما بالكرامة أيضًا، وقيمة العمل الذي تؤديه طائفة بالميكي».34

٨

يتبين أيضًا من العدد المتنامي للسير الذاتية للمنبوذين إلى أنَّ الخمسينيات كانت عقدًا اتسم بالتقلُّبات؛ فقد تفشَّى فيها اضطهاد الطوائف الهندية الدنيا والتمييز ضدها، ولكنهما لم يعودا مقبولين برضًا كسابق عهدهما؛ فقد لاحت بوادر حركة، تكشَّفت في صورة احتجاجات اجتماعية واستفادت من السُّبُل الجديدة للحِراك الاجتماعي.35
كان أول تلك السبل هو التعليم؛ فبعد الاستقلال حدث توسُّع ضخم في التعليم المدرسي والجامعي. وبمقتضى القانون، كانت نسبة محدَّدة من الأماكن في المؤسسات التعليمية تُحْجَز للطوائف الْمُجَدْوَلَة. وبمقتضى السياسات، قدَّمت حكومات ولايات عدة مِنَحًا دراسية لأبناء الأُسَر المحرومة. وكانت تلك الأُسَر تستفيد من تلك الفرص متى أمكن؛ فنشأ جيل كامل مثَّل أفراده أول جيل متعلِّم في أُسَرهم. ووفقًا لأحد التقديرات، ففي حين زاد عدد تلاميذ المدارس إلى الضِّعف في العَقد الأول بعد الاستقلال، فإن عدد المَنْبوذين السابقين في المدارس زاد ثمانية أو عشرة أضعاف. وكذلك زاد كثيرًا عدد طلاب الجامعات من الطوائف الْمُجَدْوَلَة عن أي وقت مضى.36
تمثَّل السبيل الثاني في الوظائف الحكومية؛ فبمقتضى القانون، حُجِزَ ١٥٪ من جميع الوظائف في مؤسسات الدولة والمؤسسات المدعومة من الدولة للطوائف الْمُجَدْوَلَة. وهنا أيضًا حدث توسُّع هائل بعد عام ١٩٤٧، حيث توافرت مناصب جديدة لهم في الإدارة وفي المدارس والمستشفيات والمصانع ومشروعات البنية التحتية الحكومية. وعلى الرغم من صعوبة الحصول على أرقام دقيقة، فمن المُرَجح أنَّ عدة ملايين من الوظائف أُتيحت للطوائف الْمُجَدْوَلَة في القطاع الحكومي خلال أول عقدين بعد الاستقلال. كانت تلك مناصب دائمة، يُحْتَفَظ بها حتى التقاعد، ولها معاش ومزايا صحية. نظريًّا، كانت تلك المناصب المحجوزة متوافرة في جميع مستويات الحكومة، ولكن عمليًّا كانت الوظائف في المستويات الدنيا هي أولى وأسرع الوظائف التي تُشغَل عادةً؛ فحتى عام ١٩٦٦، في حين أنَّ ١٫٧٧٪ من المناصب الإدارية الكبرى شغلها هنود ترجع أصولهم إلى الطوائف الهندية الدنيا، فإن تلك النسبة ارتفعت إلى ٨٫٨٦٪ في الأعمال المكتبية، وبلغت ١٧٫٩٤٪ في وظائف القائمين بالخدمة والسُّعاة.37
كذلك حُجِزَت لهم مقاعد في البرلمان ومجالس الولايات، حيث شغل مرشَّحو الطوائف الْمُجَدْوَلَة ١٥٪ من المقاعد كافة. وإضافةً إلى ذلك، كان منح حق الاقتراع للجميع معناه أنَّه يمكنهم التأثير على نتيجة الانتخابات في الفئة «غير المحجوزة» أيضًا. وفي أماكن كثيرة، أسرعت الطوائف الْمُجَدْوَلَة باقتناص الفرص التي أتاحتها لهم أصواتهم؛ فكما أشار أحد رجال السياسة من طائفة اجتماعية دُنيا في أجرا، فإن الناخبين في دائرته «قد لا يفهمون أمور السياسة المعقدة»، ولكنهم «يفهمون قوة الصوت الانتخابي ويريدون استغلالها».38 وقد كانوا يفهمون تلك القوة في جميع السياقات؛ الوطنية والإقليمية والمحلية. وبحلول مطلع الخمسينيات، سُجِّلَت حالات لتشكيل الطوائف الْمُجَدْوَلَة تحالفات بغية منع ملاك الأراضي من الطوائف الاجتماعية العليا من الفوز في انتخابات مجالس القرى؛39 فسرعان ما أصبح يُنظَر إلى الصوت الانتخابي على أنَّه أداة للمساومة. على سبيل المثال، في إحدى قرى أوتَّر براديش، أخبر صانعو الأحذية مرشَّحًا من طائفة اجتماعية عليا أنَّهم سيدعمونه إذا وافق على نقل الساحة التي تُلقَى فيها الحيوانات النافقة من مُجَمَّعهم السكني إلى موقع آخر خارج القرية.40
أتى التمييز الإيجابي بمنافع حقيقية لعدد كبير من الطوائف الْمُجَدْوَلَة؛ فقد أصبح بإمكان أبناء عُمال المزارع أن يَصيروا أعضاء في البرلمان، وقد كان. وصار بإمكان من التحقوا بالعمل الحكومي بصفتهم موظفين بسطاء من «الدرجة الرابعة» أن يروا أبناءهم ينضمون إلى دائرة الخدمة المدنية الهندية التي تضم أهل النخبة. إلا أنَّ التمييز الإيجابي جلب أيضًا وَصْمة من نوع جديد؛ فهو وإنْ نَوَى القضاء على التمييز الطبقي الهندوسي، أدَّى إلى تثبيت المستفيدين منها في طبقتهم الأصلية على نحو أكثر رسوخًا من أي وقت مضى. وقد نشأت مشاعر الشك والسخط بين أبناء الطوائف الاجتماعية العليا، وكذلك ظهرت في بعض الأحيان نزعةٌ بين المستفيدين من التمييز الإيجابي للاستعلاء على أبناء طبقتهم، بل حتى نسيانهم؛ فكما كتب أحد الباحثين في سخرية، أنتجت ممارسة حجز المقاعد «كتلة من الأشخاص المنشغلين بذاتهم الذين يرضون بسرعة ويسر بالمكاسب الصغيرة التي يمكنهم تحقيقها لأنفسهم».41
تمثَّل السبيل الأخير للحراك الاجتماعي في النمو الاقتصادي بصفة عامة؛ فقد استتبع التصنيع والتوسع العمراني خلق فرص جديدة بعيدًا عن حدود القرية، حتى لو أنَّ الطوائف الْمُجَدْوَلَة — كما في القطاع الحكومي — لم تشغل سوى الوظائف الأقل مهارةً وإدرارًا للربح؛ فعيش أبناء تلك الطوائف بعيدًا عن منبتهم ساعد على توسيع آفاق ذهنهم، كما في حالة عامل زراعي من أوتر براديش الذي أصبح عامل مصنع في بومباي وتعلَّم حب متاحف المدينة، وخاصةً مجموعات غانذارا الفنية.42 وأحيانًا كانت تتحقق مكاسب اقتصادية؛ فجماعة الجاتاف مثلًا في أجرا هي طائفة من الأساكفة وصانعي الأحذية تغير عالمها لدى نمو سوق منتجاتها في الشرق الأوسط والاتحاد السوفييتي؛ فقد أصبح أفراد هذه الجماعة من «صغار ملاك الأراضي في الحضر»، وأصبح بإمكانهم بناء مساكنهم وامتلاكها. وفي حين ظل كثير منهم يعملون في صناعة الأحذية لحسابهم الخاص، فكثير من هذه الطائفة تمكَّنوا من إنشاء مصانع خاصة بهم، وكانت الأجور التي يدفعونها لعمالهم فيها أعلى بكثير مما كانوا يأملون هم أنفسهم في جَنْيِه في الماضي؛ ففي عام ١٩٦٠ كان رئيس العمال الحرفيين يجني ٢٥٠ روبية في الشهر، ويجني عامل المصنع نحو ١٠٠ روبية، وحتى هذا المبلغ الأصغر كان يضاهي ما يجنيه العُمال غير المهرة أضعافًا مضاعفة. وعلى الرغم من أن توزيع المكاسب لم يكن متساويًا بأي حال، فقد ساعد السوق على الارتقاء بأوضاع طائفة الجاتاف الاقتصادية وكذلك الاجتماعية؛ فالوضع نحو عام ١٩٦٠ كان «بعيدًا كل البعد عنه أيام ما قبل أوائل القرن العشرين، حين لم يكن الجاتاف أكثر من عُمال وخدم في المدن».43

٩

مِثْل المسلمين، شكَّلت الطوائف الْمُجَدْوَلَة جمهور ناخبين مهمًّا بالنسبة إلى حزب المؤتمر؛ فهم أيضًا كانوا يميلون إلى الثقة بمهاتما غاندي أكثر من منافسيه؛ ففي انتخابات عام ١٩٥٧ — على سبيل المثال — فاز حزب المؤتمر بأربعة وستين مقعدًا من المقاعد الستة والسبعين المحجوزة للطوائف الْمُجَدْوَلَة في البرلمان، وما بلغ ٣٦١ مقعدًا من أصل ٤٦٩ مقعدًا محجوزًا لهم في المجالس التشريعية المحلية.

عندما أضيفت المقاعد المحجوزة لأعضاء الطوائف الْمُجَدْوَلَة، أصبح نحو رُبع نواب البرلمان يأتون من خلفية «محرومة». إلا أنَّ معظم الوزراء في مجلس وزراء جواهر لال نهرو كانوا من الطوائف الاجتماعية العليا، وهو ما أثار قلقه؛ فقد قال لأحد زملائه القدامى: «أحد الصعوبات الكبرى التي أواجهها هو العثور على أشخاص مناسبين من غير البراهمة.» وطلب نهرو من ذلك الزميل أن يقترح عليه مرشحين، لكنه وجد مرشحًا مناسبًا بنفسه آنذاك، وهو: السيدة تشاندراسيخار من مَدراس، إحدى بنات الطوائف الْمُجَدْوَلَة المتعلِّمات، التي قلَّدها منصب نائبة وزير.44
أما الوزير رفيع المستوى، الذي انتمى إلى الطوائف الْمُجَدْوَلَة في مجلس الوزراء الهندي، فكان جاجيفان رام من بيهار. وُلِدَ جاجيفان رام لأسرة من طائفة الأساكفة، وكان أول صبي في قريته يذهب إلى المدرسة الثانوية ومنها إلى جامعة باناراس الهندوسية. وعند تخرُّجه التحق بحركة غاندي. وكوفئ عمله المثابر بعد عام ١٩٤٧ بتعيينه في سلسلة من المناصب الوزارية. وكان من الوزارات التي تولاها وزارة العمل، والاتصالات، والمناجم، والسكك الحديدية. كان لجاجيفان رام سُمعة طيبة بصفته إداريًّا من الدرجة الأولى، رغم أنَّه لم يعش الحياة الشريفة ناصعة البياض التي ربما تطلَّبتها خلفيته الغاندية.45

إلا أنَّ الزعيم الأكثر كاريزمية من الطوائف الْمُجَدْوَلَة ظلَّ خارج نطاق حزب المؤتمر. كان ذلك هو بي آر أمبيدكار، الذي انضمَّ إلى وزارة نهرو بصفته عضوًا مستقلًّا وترك الحكومة عام ١٩٥١ لإعادة إحياء حزبه المدعو اتحاد الطوائف الْمُجَدْوَلَة. كان أداء حزبه كارثيًّا في انتخابات عام ١٩٥٢، على الرغم من أنَّ أمبيدكار نفسه انتُخِب فيما بعد في مجلس الولايات، الهيئة التشريعية العليا في الهند. بحلول ذلك الوقت كان ذلك العدو القديم للهندوسية يسعى إلى الخروج من عباءة أجداده؛ ففكَّر في التحول إلى السيخية، ثم الإسلام، ثم المسيحية. وفي النهاية استقرَّ على البوذية، العقيدة ذات الأصول الهندية التي بدت الأكثر تواؤمًا مع طبعه النازع إلى العقلانية والمساواة.

بعدما ترك أمبيدكار الوزارة، انغمس في قراءة الأدبيات المعنيَّة ببوذا؛ فأصبح عضوًا في جماعة مهابودهي، وطاف أنحاء البلدان البوذية في جنوب شرق آسيا. وفي مؤتمر شعبي عُقِد في بومباي في مايو ١٩٥٦، أعلن أمبيدكار أنَّه سوف يعتنق البوذية قبل نهاية العام. كانت دراسته العملاقة — «بوذا والدارما» — في المطبعة بالفعل. فكَّر أمبيدكار في إقامة مراسم التحول إلى البوذية في بومباي — حيث ستكون الدعاية هائلة — أو في مركز البوذية العريق، مدينة سارنات. وفي النهاية اختار ناجبور، وهي مدينة في وسط الهند كان له فيها أتباع كثُر مخلصون؛ فانضمَّ إليه كثيرون في اعتناق البوذية، في مراسم زاهية حَظِيَت بحضور كبير أُقيمَت يوم ١٥ أكتوبر من عام ١٩٥٦. وبعد ستة أسابيع تُوُفِّيَ أمبيدكار فجأة؛ فأُحرِق جثمانه في بومباي، ووضِعت أيقونة لبوذا تحت رأسه. وشارك مليون شخص في موكب الجنازة.46
قبيل وفاة أمبيدكار كان قد قرر تأسيس حزب جديد، يُدْعَى «حزب الهند الجمهوري». بدأ ذلك الحزب عمله رسميًّا عام ١٩٥٧، وكانت قياداته وأعضاؤه — مثل أمبيدكار نفسه — من طائفة المَهار. كذلك كان أبناء المهار بالأساس هم من تبعوا زعيمهم في اعتناق البوذية. كان أمبيدكار شخصيةً موقَّرة بين أبناء المهار في منطقة ناجبور؛ ففي حياته كانوا يحتفلون بعيد ميلاده بحماس، مُنَظِّمين مسيرات تُحْمَل فيها صورته عاليًا. وعندما كان يأتي ليدلي بخطب في المدينة، كان عُمَّال المصانع يتزاحمون للاستماع إليه، وحتى «النساء كُنَّ يذهبن في تلك المسيرات وكأنها حفلات زفاف». وقد ألهم أمبيدكار أبناء المهار لتكوين فرق مسرحية مثَّلت الطقوس الهندوسية وسلوك الطوائف الاجتماعية العليا تمثيلًا هزليًّا. وغنَّوا أيضًا أغنيات على شرفه؛ فكانت افتتاحية إحدى الأغنيات كالتالي: «منذ لحظة وقوع نظر بيم [راو أمبيدكار] على الفقراء، منذ ذلك اليوم وقوتنا في نماء.»47

ولكن أمبيدكار لم يكن يحظى بالاحترام في معاقل المهار فحسب، بل في جميع أنحاء شمال الهند، كان محطَّ إعجاب لإنجازاته الأكاديمية — فقد كان حاصلًا على درجة الدكتوراه من جامعة كولومبيا وجامعة لندن — وإنجازاته السياسية عديدة، ولا سيما صياغته دستور الهند. وبالنسبة إلى الطوائف الْمُجَدْوَلَة التي حَظِيَت ببعض التعليم — ممن تلقوا التعليم الثانوي أو سافروا خارج قريتهم — كان أمبيدكار مثالًا يُحتذَى به وكذلك رمزًا؛ فهو رجل اخترق قلعة الطوائف الاجتماعية العليا الحصينة وحثَّ رفاقه على الاحتذاء به.

كان شعار أمبيدكار لأتباعه هو «علِّم، حرِّك، نظِّم». وأنشأ جمعية تعليمية شعبية أدارت مدارس وكليتين جيدتين على الأقل؛ فكان أبناء الطوائف الْمُجَدْوَلَة الذين يذهبون إلى تلك المدارس وغيرها يتطلَّعون جميعًا إلى أمبيدكار باعتباره معلِّمهم. وفي أوساط النخبة المثقفة للطوائف الْمُجَدْوَلَة، أصبحت كتب أمبيدكار أو كتيِّباته من قبيل القراءة الإلزامية، التي يتبادلونها بحب.48 وهكذا بدأ ابن عامل المرفأ، الذي أرسلته منحة الحكومة إلى كلية سيدهارت في بومباي، يكتب في المجلات ويشارك في جلسات النقاش، حيث «كان موضوع تلك الكتابات والخطب كافة هو دائمًا بابا صاحب [أمبيدكار] وحركة الداليت التي أنشأها».49

يُبرز وجود بي آر أمبيدكار اختلافًا كبيرًا بين الطوائف الْمُجَدْوَلَة والأقلية الأخرى التي قارنتها بها؛ فالمسلمون لم تُحجَز لهم مقاعد في الحكومة ولا البرلمان، ولا كان لهم في الهند المستقلة زعيم في مقام أمبيدكار ليلهمهم ويوجههم في حياته أو بعد مماته.

١٠

في مارس من عام ١٩٤٩، سارت مجموعة من الطوائف الْمُجَدْوَلَة من القرى المحيطة بدلهي إلى نصب المهاتما غاندي التذكاري في المدينة. كان السائرون قد طُرِدوا من منازلهم على يد ملاك أراضٍ من طائفة الجات، غضبوا من أنَّ هؤلاء الخدم الذين كانوا مستعبَدين سابقًا بلغت بهم الوقاحة حد المشاركة في الانتخابات المحلية ورعي ماشيتهم في أراضي القرية العامة؛ ففي قلب العاصمة، بدأ هؤلاء المَنْبوذون إضرابًا عن الطعام؛ حيث اجتذبوا بجلوسهم عند النصب التذكاري لأبي الأمة واستخدامهم أساليب الاحتجاج التي ابتكرها، اهتمامًا واسع النطاق؛ تضمَّن زيارات تضامنية من شخصيات بارزة من أتباع غاندي ووزراء في الاتحاد.50
ننتقل بعد ذلك إلى حالة من الهند الحضرية، وهي: حالة نائب برلماني منتخَب حديثًا من الطوائف الْمُجَدْوَلَة تقدَّم بطلب انضمام إلى نقابة المحامين في مسقط رأسه، سيتابور. ظلَّ طلبه معلَّقًا أربعة أشهر، قِيلَ له بعدها إنَّه يمكنه الانضمام، لكن لا يحق له استخدام دورة المياه، ولا يمكن إلا لمسلم أن يقوم على خدمته؛ فرفع المشرِّع المسألة إلى رئيس الوزراء، الذي تدخَّل ليكفل قَبوله دون أي شروط.51
ولكن في أماكن أخرى، لم يكن أبناء الطوائف الْمُجَدْوَلَة الذين تمسَّكوا بمواقفهم محظوظين مثله؛ فقد جمع عالِم الاجتماع إن دي كامبل نماذج لمئات «الفظائع» المرتكَبة في حق الطوائف الْمُجَدْوَلَة في الهند المستقلة. وإليكم بضعة نماذج مختارَة — إن جاز التعبير — من البحث الذي أجراه كامبل:

أبريل ١٩٥١: معسكر عمال في ماتونجا، بومباي.

مجموعة من عمال المصانع يمثِّلون مسرحية يوم عيد ميلاد أمبيدكار. شباب من طائفة اجتماعية عليا يقاطعون العرض، ويعتدون على الممثلين، ويدمِّرون المسرح.

يونيو ١٩٥١: قرية في هيماجَّل براديش.

ملاك أراضٍ من الراجبوت يهاجمون مؤتمرًا للطوائف الْمُجَدْوَلَة. فيضربون أعضاء المؤتمر بالعصي، ويقيدون زعماءه بالحِبال ويحبسونهم في حظيرة للماشية.

يوليو ١٩٥١: مدرسة ريفية في منطقة جلجاون بولاية بومباي.

معلم برهمي يسيء إلى أمبيدكار لطرحه مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية الهندوسي في البرلمان. صبي من الطوائف الْمُجَدْوَلَة يحتجُّ؛ فيُضرَب ويُخرَج من المدرسة.

يونيو ١٩٥٢: قرية في منطقة مادوراي بولاية مدراس.

شاب من الطوائف الْمُجَدْوَلَة يطلب الشاي في كوب زجاجي بمتجر محلي. التقاليد تنص على أنَّه لا يحق له الشرب إلا في كوب من قشر جوز الهند يستعمَل مرة واحدة؛ فعندما يلحُّ في طلبه، يركله هندوس من الطوائف الاجتماعية العليا ويضربونه على رأسه.

يونيو ١٩٥٧: قرية في منطقة برباني بولاية ماديا بهارَت.

أشخاص اعتنقوا البوذية حديثًا يرفضون سلخ ماشية نافقة. ملاك الأراضي الهندوس يقاطعونهم، ويحرمونهم أي عمل آخر، ويهددونهم بالانتقام البدني.

مايو ١٩٥٩: قرية في منطقة أحمد ناجار بولاية بومباي.

قافلة زفاف بوذية لا يُسمَح لها بدخول القرية من أبوابها. وعند إصرار أفراد القافلة، يهاجمهم هندوس من الطوائف الاجتماعية العليا بالأحجار والسيوف.

أكتوبر ١٩٦٠: قرية في منطقة أورانج أباد بمهاراشترا.

هندوس من الطوائف الاجتماعية العليا يدخلون قرية خاصة بالطوائف الْمُجَدْوَلَة ويحطمون تمثالًا لبوذا ولا يتبقى منه سوى قطع صغيرة.52

ما تكشفه تلك الحالات — وحالات كثيرة أخرى مثلها — هو منظومة تتعرَّض لاضْطِراب عميق؛ ففي جميع أنحاء الهند، جعلت رياح السياسة الديمقراطية أبناء الطوائف الْمُجَدْوَلَة أكثر استعدادًا للمطالبة بحقوقهم؛ فبمساعدة المقاعد المحجوزة لهم في المدارس والوظائف والمصانع والمجالس التشريعية، والإلهام الذي استمدوه من نموذج قائدهم بي آر أمبيدكار، والتشجيع الذي تلقوه من الأحكام الدستورية المؤيدة للمساواة الاجتماعية، مَالَ كثير منهم إلى نَبْذ أسلوب الإذعان القديم مفضِّلين طريق التحدي الأكثر وعورة. وهذا بدوره أثار ردود أفعال مؤذية في بعض الأحيان ممن ظلُّوا يظنون أنفسهم في مكانة اجتماعية أسمى.

١١

في شتاء ١٩٢٥-١٩٢٦، قام الكاتب أُلدوس هَكسلي برحلة طويلة في أرجاء الهند البريطانية؛ فحضر جلسة حزب المؤتمر الهندي في كنبور، واستمع إلى خطب مطالبة بالحرية. كان هَكسلي متعاطفًا مع تلك التطلُّعات إلى حد ما، ولكنه كان قلِقًا من أنها لا تعبر إلا عن مصالح الطوائف الاجتماعية العليا من الهندوس. وقد كتب عن أسفاره في كتاب فقال:
يبدو أمرًا شبه قطعيٍّ أنَّ جماهير الطوائف الهندية الدنيا سوف تعاني على أي حال في البداية، عند استقلال الهند؛ فحيث يُمَثِّل سُمُوُّ الطوائف الاجتماعية العليا فوق الطوائف الاجتماعية الدنيا مسألة عقيدة دينية، يتعذَّر توقُّع أن تكون الأقلية الحاكمة حريصة بنحو خاص على حقوق الأكثرية، كما أن السماح لهم بحقوق يُعَدُّ بالنسبة لهم من قبيل الهرطقة.53
بعد مُضيِّ عقدين من الزمان نالت الهند استقلالها، وأسبغ الدستور حقوق المساواة على المواطنين جميعًا، بصرف النظر عن الطائفة الاجتماعية أو العقيدة أو السِّن أو الجنس. بل إنَّ الطوائف الاجتماعية الدنيا مُنِحَت حقوقًا خاصة، وفرصًا خاصة في الالتحاق بالمدارس والوظائف، تعويضًا عن التفرقة التي عانوها على مَرِّ القرون السابقة. إلا أنَّه مثلما أشار أحد الأعضاء المنتمين للطوائف الْمُجَدْوَلَة في الجمعية التأسيسية للدستور، فإنَّ قانون الدولة شيء والممارسة الاجتماعية شيء آخر تمامًا؛ فقد عارض مصلحون مثل جوتاما بوذا والمهاتما غاندي الاضطهاد الواقع على الطوائف الهندية، إلا أنَّهم جميعًا «وجدوا صعوبة بالغة في طرد شبح ممارسة النبذ». فقد سُنَّت قوانين لرفع التمييز ضد المَنْبوذين، فيما يتعلق بدخول المعابد على سبيل المثال؛ فقال أحد الأعضاء سائلًا: «ما أثر تلك القوانين؟» ثم قدَّم الإجابة: «تلك القوانين لم تُزَحْزِح النَّبْذ مثقال ذرة … إذا كان لشبح النَّبْذ أو وصمته أن ينصرفا عن الهند يومًا، فلا بد من تغيير عقول عشرات الملايين من الهندوس، وما لم تتغير قلوبهم فلا أمل لدي يا سيدي في القضاء على ممارسة النَّبْذ؛ فالأمر منوط بالمجتمع الهندوسي الآن ألا يمارس النَّبْذ بأي شكل من الأشكال.»54
ساد مناخ تشاؤمي بشأن وضع المَنْبوذين في الهند الحرة، وأيضًا بشأن مستقبل تلك الأقلية الأخرى الكبيرة غير الآمنة؛ المسلمين. وعندما تنقَّل آغا خان — الزعيم المؤثر للطائفة الإسماعيلية — في أنحاء الهند وباكستان عام ١٩٥١، وجد «خوفًا رهيبًا» لدى المسلمين على جانِبَيِ الحدود، ولكن بدرجة أكبر في الهند؛ فكتب إلى جواهر لال نهرو رسالة حدثه فيها عن «التَّخَوُّف السائد بين المسلمين الذي أشاركهم شخصيًّا فيه إلى حدٍّ بعيد». كان ذلك التَّخَوُّف من أنه «بعد خمسة أو عشرة أعوام من الآن قد تنشأ حكومة من هندو ماهاسابها تجعل من الاتحاد بين ما يمثل باكستان الآن — شرقًا وغربًا — مع بهارَت [الهند] هدفًا رئيسيًّا معلنًا للسياسة الخارجية والسياسات العليا». وكان ذلك الزعيم المسلم يرى أنَّه ما إنْ يتولَّى حزب هندوسي شوفيني زمام السلطة، فسوف يستخدم قنابل ذرية لتحويل مجرى الأنهار المتدفقة عبر كشمير إلى باكستان، ومن ثم يجبر باكستان على الخضوع. وشبَّه الوضع بالحالة في العالم العربي، حيث يستعد السودان — حسب زعمه — لوقف تدفق مياه النيل إلى مصر. وكان آغا خان يرى أنَّ الهند الهندوسية كانت لباكستان المسلمة مثلما كان السودان المسيحي لمصر المسلمة. وعلى حد تعبيره، فقد قال: «لقد شعرت بذلك المناخ التشاؤمي مخيِّمًا على المسلمين بسبب مسألة المياه تلك ذاتها … إنه مطابق للتَّخَوُّف المشابه في مصر.»55

تلك الرسالة جديرة بالاهتمام لثلاثة أسباب على الأقل؛ أولًا: إنها تعبير مبكر عن الخوف واسع الانتشار الآن من تعرُّض المسلمين للاضطهاد في جميع أنحاء العالم. وثانيًا: هي تساوي بين مصالح الهنود المسلمين ورفاه باكستان. وثالثًا، وهو السبب الأكثر دلالة على الأرجح: هي تتنبأ بأن جمهورية الهند ستصبح دولة هندوسية في غضون عشرة أعوام.

كان آغا خان وألدوس هِكسلي مُحِقَّين ومخطئين في تشكُّكهما؛ محقَّين فيما يتعلق باستمرار الاضطهاد الاجتماعي، ومخطئين فيما يتعلق بنوايا القيادة السياسية العليا. ذلك لأن «الأقلية الحاكمة» كانت في الواقع حريصة كل الحرص على حقوق الأكثرية؛ ففي عام ١٩٥٩ — أي بعد أكثر من عقد على الاستقلال — كتب محرر هندي معارض بشدة لجواهر لال نهرو، مُضْطَرًّا، عن أعظم إنجازين لنهرو، وهما: إقامة دولة علمانية، ومَنْح المَنْبوذين حقوقًا متساوية مع باقي الهنود. وإذ تذكَّر المحرر «القُوَى الرجعية التي ظهرت على الساحة بعد التقسيم»، قال مُعَلِّقًا: «لو كان نهرو أبدى أدنى قدر من الضعف، لكانت تلك القوى حولَّت هذا البلد إلى دولة هندوسية … لم تكن الأقليات لتستطيع العيش فيها بأي قدر من الأمن أو السلامة.» وإضافةً إلى ذلك، يعود «الفضل الدائم» إلى نهرو في إصراره على منح المَنْبوذين حقوقًا كاملة، بحيث «تُصان المساواة بين الناس بكل صرامة في الحياة العامة وفي جميع تصرفات الحكومة في دولة الهند العلمانية».56

لا شك أنَّ الفجوة بين السياسة العامة والممارسة الشعبية ظلت قائمة؛ فقد كان ثمة قوانين سارية تعزز العلمانية والمساواة الاجتماعية، ولكن معظم المسلمين والطوائف الْمُجَدْوَلَة ظلوا فقراء مهمَّشين. ولم يكن خطر العنف بعيدًا أبدًا. ولكن على الرغم من ذلك، فإنه نظرًا لميلاد الأمة الدامي، والاستفزاز المستمر من باكستان، فلم يكن رفض الحكومة الهندية مزج الدين بالدولة أمرًا هيِّنًا. وعِلمًا بصلابة المؤسسات الاجتماعية عامةً، والتاريخ العريق المقدَّس لمنظومة الطوائف الهندية خاصةً؛ فقد كان تغيُّر تلك المنظومة بهذا القدر أمرًا لافتًا للنظر. كان التقدم المُحْرَز سواء في القضاء على ممارسة النَّبْذ أو كفالة المساواة بين المواطنين في الحقوق مُتَعثِّرًا وبطيئًا جدًّا، بمقاييس المُصلِحين الذين يمكن تفهُّم قلة صبرهم. إلا أنَّ التقدم المُحرَز خلال الأعوام السبع عشرة التالية على استقلال الهند كانت أكثر على الأرجح من المُحرَز خلال ١٧٠٠ عام سابق في المُجمَل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤