الفصل الثامن عشر

الحرب وخلافة نهرو

لا مجال للشك في أن نهرو لم يحاول إنشاء أسرة حاكمة خاصة به؛ فذلك لا يتسق مع شخصيته وسيرته المهنية.

الصحفي فرانك مورايس، عام ١٩٦٠

١

تُوُفِّيَ جواهر لال نهرو صبيحة يوم ٢٧ مايو من عام ١٩٦٤. ونُقِل الخبر للعالم في نشرة الساعة الثانية ظهرًا عبر إذاعة «أول إنديا راديو». وبعد ساعتين أدى وزير الداخلية، جولزاري لال ناندا، اليمين الدستورية ليصير القائم بأعمال رئيس الوزراء. وبعد ذلك مباشرةً، بدأ البحث عن خلف دائم.

كانت الشخصية المحورية في عملية اختيار رئيس الوزراء الجديد هي رئيس حزب المؤتمر، كيه كامراج. وُلِدَ كامراج عام ١٩٠٣ في أسرة من طائفة اجتماعية دنيا في ريف تاميل، وترك المدرسة ليلتحق بالحركة القومية. قضى قرابة ثمانية أعوام في السجن، متفرِّقة على مدار عقدين من الزمان وست فترات سجن. وتعزَّزت مكانته بين الناس بأسلوب حياته؛ فقد عاش حياة متقشفة ولم يتزوج قط. تدرَّج في مناصب الحزب باطَّراد، وشغل منصب رئيس حزب المؤتمر في تاميل نادو وكذلك رئيس وزراء مدراس قبل أن يتولى رئاسة الحزب على المستوى الوطني.1

كان كامراج رجلًا قصيرًا ممتلئًا له شارب أبيض، وحسب وصف أحد الصحفيين، فقد كان شكله «مزيجًا بين سوني ليستون والفقمة»؛ فمثل الملاكم ليستون (ولكن خلافًا لشخصية الفقمة في قصيدة لويس كارول) كان ذلك رجلًا قليل الكلام. وكان الصحفيون يقولون مازحين إنَّ إجابته على أي سؤال يطرحونه كانت كلمة واحدة باللغة التاميلية: «باركالام» (سوف نرى). وقد أفاده تحفُّظه كثيرًا، لا سيما بعد وفاة نهرو، حينما صار عليه الاستماع إلى ما لدى رجال حزبه؛ فمنذ يوم ٢٨ مايو، بدأ كامراج يتشاور مع رؤساء وزراء الولايات وزعماء الحزب («النقابة»، كما كان يُطلَق عليهم) بشأن الشخص الأمثل لخلافة نهرو. كان مورارجي ديساي من الأسماء المطروحة في البداية، وهو الإداري الممتاز من جوجارات، الذي أعرب بوضوح عن رغبته في تَبَوُّؤ ذلك المنصب.

في غضون أربعة أيام التقى كامراج اثني عشر رئيس وزراء للولايات و٢٠٠ نائب في البرلمان. وتبيَّن من تلك المحادثات أنَّ ديساي من شأنه أن يكون خيارًا مثيرًا للجدل؛ إذ كان أسلوبه شديد الفظاظة. أما الشخص الذي بدا أنه يحظى بتفضيل معظم الأعضاء فكان لال بهادور شاستري، الذي كان رجلًا إداريًّا لا غبار عليه أيضًا، ولكن التعامل معه أسهل، إلى جانب أنَّه كان من قلب الهند. وإضافةً إلى ذلك فقد اعتمد نهرو في أيامه الأخيرة على شاستري بصورة متزايدة. وتلك العوامل كلها كان لها ثِقَل كبير لدى كامراج، الذي كان معنيًّا بأن تُمَثِّل عملية الخلافة إشارةً للاستمرارية.

فأُقْنِعَ ديساي بسحب ترشُّحه، وفي يوم ٣١ مايو أقرَّت اللجنة العاملة لحزب المؤتمر اختيار لال بهادور شاستري. وفي اليوم التالي صدَّق الجناح البرلماني لحزب المؤتمر على الاسم، وفي اليوم الذي بعده أدَّى شاستري قَسَم رئاسة الوزراء. وسرعان ما بدأ رئيس الوزراء الجديد في العمل على توطيد سلطته؛ فقد استَبعد ديساي من الوزارة لأنَّه أصَرَّ على يكون الرجل الثاني بعد رئيس الوزراء. وثارت ضجة من أجل إدخال ابنة نهرو، إنديرا غاندي، في الوزارة، فامتثل شاستري لتلك الرغبة، ولكنه خصص لها حقيبة وزارية غير ذات أهمية، هي: وزارة الإعلام والبث. والسيدة غاندي بدورها استبقت أي تحرُّك لشاستري إزاء الانتقال إلى قصر تين مورتي (الذي عاش فيه نهرو رئيسًا للوزراء) باقتراحها تحويله إلى متحف تذكاري لوالدها.2
عندما أعلن كامراج اختيار شاستري للصحافة، قال إنَّ الحُكم غير المتنازَع عليه لرجل عظيم سوف يحل محله الآن نوع من القيادة الجماعية. ولكن شاستري كان له رأي آخر. كان من ابتكاراته الأولى إنشاء أمانة منفصلة لرئيس الوزراء، حيث يعمل مسئولون مختارون بعناية على إعداد الأوراق المعنية بمسائل السياسة. كان الهدف من ذلك هو ملء الفجوات في معلومات رئيس الوزراء — فجوات أكبر بكثير مما في حالة نهرو — وكذلك لإمداده بمصدر مستقل غير حزبي للنصيحة، يحرره من الاعتماد الزائد على مجلس الوزراء.3
قبيل وفاة نهرو، وقعت المملكة المتحدة في مأساتها الخاصة، إذ وقع انقسام عميق بين أعضاء حزب المحافظين بشأن اختيار خليفة هارولد ماكميلان؛ فكان التعليق الجذِل لصحيفة «ذا جارديان» التي جرت العادة على معاداتها لحزب المحافظين: «رئيس الوزراء الهندي الجديد اخْتِيرَ، رغم كافة النُّذُر التشاؤمية، بسرعة أكبر — وكرامة أكبر بكثير — من رئيس وزراء بريطانيا الجديد.»4 والتقى مراسل الصحيفة في نيودلهي بخليفة نهرو، ليجده «شديد الثقة بنفسه» و«رجلًا قويًّا جدًّا لا مراء»، تحدَّث في جمل قصيرة ومحددة «دون إطناب».5
أما موظفو الاستعمار القدامى فكانوا أقل تفاؤلًا؛ فقد كتب أحد رجال دائرة الخدمة المدنية الهندية لآخر يقول إنَّ وفاة نهرو جعلت مستقبل الهند مليئًا بالشك، وأضاف: «لا يُخَيَّل لي أنَّ شاستري يتمتع بالمكانة اللازمة لإبقاء الأمور تحت السيطرة، وكل مشاغب من كشمير إلى كومورين سيعمل على الاصطياد في الماء العَكِر، ناهيك عن الصين وباكستان؛ فهل سنكون قبرص ولكن بصورة مُكبَّرة؟ يا له من زمن بغيض ذلك الذي نعيش فيه!»6

٢

بموت نهرو، ماتت أيضًا مبادرته الخاصة بكشمير. إلا أنَّه على الجانب المقابل من البلاد، اتُّخِذَت خطوات لتسوية النزاع بين متمردي ناجا وحكومة الهند؛ فكنيسة ناجالاند المعمدانية إذْ آلمتها الدماء المُراقة طوال عقد من الزمان، شكَّلت «بعثة سلام» مكوَّنة من أفراد يتمتعون بثقة الجماعات المتمردة السرية وكذلك حكومة الهند. كان الأعضاء الثلاثة المتفق عليهم هم رئيس وزراء آسام، بي بي تشاليها، وزعيم حركة سارفودايا الذي حَظِيَ باحترام واسع النطاق، جايا براكاش نارايان، والقس الأنجليكاني مايكل سكوت، الذي ساعد على تأمين ملجأ في لندن لزعيم الناجا إيه زي فيزو.

طوال صيف عام ١٩٦٤، تنقَّلت بعثة السلام في المنطقة، حيث التقت أعضاء في حكومة الولاية و«جمهورية ناجالاند الفيدرالية». ووقَّع الطرفان اتفاقية وقف إطلاق نار، دخلت حيز التنفيذ يوم ٦ سبتمبر، وكانت إشارة بدئها هي دق أجراس الكنيسة. وبعد أسبوعين بدأت الجولة الأولى من المحادثات بين حكومة الهند والمتمردين.7
من كوهيما، كتب جايا براكاش نارايان إلى صديق له يخبره أنَّه في حين لا يزال من الصعب التنبؤ بنهاية الموقف، فإنَّ «الرغبة العارمة لدى جميع أبناء ناجا تقريبًا في الوقت الحالي هي إقامة سلام باقٍ على ما يبدو؛ فشعب ناجا لا يخشى شيئًا أكثر من استئناف القتال». ثم أضاف، بنبرة أقل تفاؤلًا: «إلا أنني لا أجد مفرًّا من أن أقول إنَّه فيما يتعلق بالمحادثات بين حكومة الهند وزعماء الحركة السرية، لم يُحْرَز تقدم يُذْكَر حتى هذه اللحظة.»8
تكشف السجلات المطبوعة للمحادثات بين الحكومة والمتمردين عن تعارض جوهري في الموقفين؛ فقائد مجلس ناجا الوطني — إيساك سو — بدأ بقوله: «نقف هنا اليوم أُمَّتين متجاورتين: أمة ناجا والأمة الهندية.» فرد وزير الخارجية واي دي جوندِفيا قائلًا: «نحن لا نعيش كأُمَّتين متجاورتين؛ فالتاريخ يخبرنا أنَّ ناجالاند كانت جزءًا لا يتجزأ من الهند.» وبين هذين الموقفين المتعارضين، حاول بي بي تشاليها وجايا براكاش نارايان بجسارة إيجاد أرضية مشتركة؛ فأثنى تشاليها على أبناء ناجا باعتبارهم «شعبًا ذا شِيَمٍ نادرة رفيعة» وأَمِلَ في أنَّ «يجد الطرفان وسيلة لسد الفجوة» بينهما. وقال نارايان إنه «يمكن الوصول إلى حل وسط لأننا نظن أنَّ الطرفين على جانب من الحق؛ فإذا كان أحدهما محقًّا ١٠٠٪ أو مخطئًا ١٠٠٪، فسيستحيل الوصول إلى حل وسط».9
كان في المطالبة باستقلال ناجا تحدٍّ لفكرة الهند. وظهر تحدٍّ آخر مختلف اختلافًا ما عندما أجرت الصين اختبارًا لسلاح نووي في أكتوبر ١٩٦٤؛ فعلى الفور تعالت دعوات المطالبة بتطوير الهند قنبلة ذرية بدورها. وفي ٢٤ أكتوبر، تحدَّث مدير هيئة الطاقة الذرية — الدكتور هومي جيه بهابها — عن المسألة النووية عبر إذاعة «أول إنديا راديو»؛ فتحدث عن الحاجة إلى النزع الشامل للسلاح النووي، ولكنه أشار إلى أنَّه حتى حدوث ذلك، يمكن للهند أنْ تبتكر رادعًا نوويًّا خاصًّا بها. وقال الدكتور بهابها إنَّه ما من طريقة ناجحة لوقف هجمة نووية في الجو، وأضاف: «الدفاع الوحيد ضد هجمة من هذا النوع هو على ما يبدو القدرة على الرد بالمثل والتهديد به.» وأردف: «الأسلحة الذرية تمنح الدولة التي تمتلك كمية كافية منها قوة رادعة ضد هجمات دول أقوى منها بكثير.» وفي نقطة تالية من حديثه، تطرَّق الدكتور بهابها إلى تكلفة إنشاء مخزون ذري؛ فوفقًا لحساباته، كانت الخمسون قنبلة تكلِّف نحو ١٠٠ مليون روبية، وهي تكلفة «صغيرة مقارنةً بالميزانيات العسكرية لدول كثيرة».10

كان حديث ذلك العالِم وقودًا لحماس السياسيين — من حزب جانا سانج بالأساس — الذين كانوا يدعون منذ زمن لاختبار الهند قنابل ذرية هي الأخرى. وطرح النائب البرلماني هُكُم تشاندرا كَشواي من دِواس مشروع قرار في هذا الشأن في مجلس الشعب الهندي؛ فقد عرَّف الصين في خطاب بليغ على أنها عدو الهند الرئيسي وقال: «أيًّا كانت الأسلحة التي يمتلكها العدو، فلا بد أن نمتلكها نحن أيضًا.» واستحضر ذكريات حرب عام ١٩٦٢ قائلًا إنَّ الأمة ينبغي ألا يهدأ لها بال حتى تسترجع كل شبر أرض فقدته أو سرقته منها الصين. وقال إن امتلاك مخزون ذري من شأنه أن يرفع مكانة الهند عالميًّا أيضًا.

تبع خطابه نقاش محتدم، أيَّد فيه بعض الأعضاء كَشواي بينما عارضه آخرون بسبب سُمعة الهند باعتبارها قوة داعية إلى السلام. حينئذٍ ادَّعى رئيس الوزراء أنَّ أنصار القنبلة أخطئوا تأويل قصد الدكتور بهابها؛ فقد كان بهابها يدعو لنزع السلاح، وتكاليف الإنتاج التي ذكرها قصد بها الولايات المتحدة، التي تتيح البنية التحتية الذرية المتطورة لديها صنع قنابل إضافية بنفقات محدودة. أما في الهند، فالتكاليف — على حد قول شاستري — ستكون باهظة، وعلى أي حال، فإن تصنيع تلك الأسلحة الفتَّاكة سيكون فيه ابتعاد عن تراث غاندي ونهرو. ومن الجدير بالذكر أنَّ رئيس الوزراء لم يتحدث من المنطلق الوطني الضيق وإنما من منظور الجنس البشري؛ فقد قال إنَّ تلك القنابل تُشَكِّل تهديدًا لبقاء العالم، وإهانة للبشرية بأكملها.

اتسم حديث شاستري بلهجة دفاعية إلى حد ما، وكان أقل إثارةً للمشاعر بلا شك من خطاب المتحدث الرئيسي على الجهة المقابلة. إلا أن الأغلبية الكبيرة لحزب المؤتمر في مجلس الشعب كفلت هزيمة مؤكدة للقرار المطروح لمطالبة الهند بسلوك المسار النووي.11

٣

يُقام احتفال سنوي بعيد الجمهورية الهندي يوم ٢٦ يناير في نيودلهي، بانطلاق مسيرة تحت رعاية الحكومة في طريق راج باث (كينجزواي سابقًا)، تتنافس فيها العربات المكشوفة بزينتها الزاهية التي تُمَثِّل الولايات المختلفة على انتباه المشاهدين مع الدبابات والغواصات المحمولة على مركبات. وفي عام ١٩٦٥، كان من المفترَض أن يكون عيد الجمهورية أكثر من استعراض رمزي للكبرياء الوطني؛ فيكون تأكيدًا على الوحدة الوطنية. عام ١٩٤٩، كانت الجمعية التأسيسية للدستور قد اختارت اللغة الهندية لغةً رسمية للاتحاد الهندي. ودخل الدستور الذي صدَّق على هذا الاختيار حيز التنفيذ يوم ٢٦ يناير عام ١٩٥٠. إلا أنَّه تقرَّر ترك مهلة مدتها خمسة عشر عامًا تُستَخدَم فيها اللغة الإنجليزية إلى جانب الهندية للتواصل بين الحكومة المركزية والولايات؛ ففي عام ١٩٦٥ كانت تلك المهلة على وشك الانتهاء، وبذلك تكون اللغة الهندية وحدها السائدة.

كان السياسيون في الجنوب قلقين منذ فترة طويلة حيال التغيير الخاص باللغة؛ ففي عام ١٩٥٦، مرَّرت أكاديمية الثقافة التاميلية قرارًا يحضُّ على «استمرار الإنجليزية لغة رسمية للاتحاد ولغة للتواصل بين الاتحاد وحكومات الولايات وفيما بين حكومات الولايات». كان من الموقِّعين على ذلك القرار سي إن أنَّادوراي، وإي في راماسوامي «بِرِيار»، وسي راجا جوبالاتشاري. وكان المنظِّم الرئيسي للحملة هو حزب درافيدا مونيترا كازاجام، الذي عقد عدة اجتماعات للاحتجاج على فرض اللغة الهندية.12
في أعقاب الحرب مع الصين تخلى حزب درافيدا مونيترا كازاجام عن نزعته الانفصالية؛ فهو لم يعد يرغب في دولة مستقلة، ولكنه رغب في حماية ثقافة التاميليين ولغتهم. كان الزعيم المعترف به للحزب هو سي إن أنَّادوراي، المعروف بأنَّا («الأخ الأكبر»). كان خطيبًا مُفَوَّهًا قدَّم الكثير من أجل بناء حزبه حتى يصير قوة يُعتَدُّ بها في الولاية. وكان أنَّا يرى أنَّ اللغة الهندية مجرد لغة إقليمية مثل سائر اللغات في الهند، وليس لها «ميزة خاصة». بل إنها في الواقع أقل تطوُّرًا من اللغات الأخرى في الهند، وأقل تَواؤُمًا مع زمن حافل بالتطورات السريعة في العلوم والتكنولوجيا. وردَّ أنَّا ساخرًا على الحجة القائلة بأنَّ الهندية يتحدث بها عدد أكبر من الهنود من أي لغة أخرى، فقال: «لو كان علينا تقبُّل مبدأ التفوق العددي أثناء اختيار طائرنا الوطني، لوقع اختيارنا على الغراب العادي عوضًا عن الطاووس.»13
كان جواهر لال نهرو حساسًا تجاه مشاعر أهل الجنوب، التي شاركهم فيها أهل الشرق والشمال الشرقي؛ ففي عام ١٩٦٣ قاد مشروع قانون للغات الرسمية، نصَّ على أنَّه بدءًا من عام ١٩٦٥ «يمكن» أن تظل الإنجليزية مُستخدَمة إلى جانب اللغة الهندية في الاتصالات الرسمية. وقد اتضَّح أنَّ ذلك التنبيه يُمَثِّل إشكالية؛ ففي حين أنَّ نهرو فسَّر «يمكن» على أنَّها تعني «سوف»، ظَنَّ أعضاء آخرون في حزب المؤتمر أنها تعني في الواقع «لا يمكن».14

مع اقتراب تاريخ ٢٦ يناير ١٩٦٥، تأهَّب معارضو اللغة الهندية للتحرُّك؛ فقبل عيد الجمهورية بعشرة أيام، كتب أنَّادوري إلى شاستري، قائلًا إنَّ حزبه سيعتبر يوم التحوُّل للغة الهندية «يوم حداد». ولكن من المثير للاهتمام أنَّه أضاف في رسالته طلبًا بتأجيل فرض اللغة الهندية أسبوعًا. وحينئذٍ سوف يمكن لحزب درافيدا مونيترا كازاجام أن ينضمَّ بحماس لسائر الأمة في احتفالها بعيد الجمهورية.

تمسَّك شاستري وحكومته بقرار جعل الهندية اللغة الرسمية يوم ٢٦ يناير. وفي المقابل، شرع حزب درافيدا مونيترا كازاجام في حملة احتجاج على مستوى الولاية كلها؛ فأُحرِقت دمى شيطانية تُمَثِّل اللغة الهندية في قرى متعددة، وكذلك أُحْرِقَت كتب باللغة الهندية والصفحات ذات الصلة في الدستور، وفي محطات السكك الحديدية ومكاتب البريد أُزيلَت العلامات المكتوبة باللغة الهندية أو طُلِيَت كلها باللون الأسود. ونشبت معارك شرسة وقاتلة في بعض الأحيان بين الشرطة وطلاب غاضبين في بلدات الولاية قاطبة.15
كانت الاحتجاجات جماعية في المعتاد، وجاءت في صورة إضرابات ومسيرات؛ إضرابات عامة جبرية وطوعية واعتصامات سلمية. وتروي العناوين الرئيسية في صحيفة «ذا هندو» جانبًا من القصة:
إضراب عام شامل في كويمباتور
المحامون يضربون عن العمل
الطلاب يضربون عن الطعام في جماعات
إضراب سلمي في مادوراي
هجوم بالعِصِيِّ في فيلُّوبورام
استخدام الغاز المسيل للدموع في أوتَّامَباليام

وكان أحد أشكال الاحتجاج الاحتجاح الفرديِّ، والذي كان مفزعًا، هو: الانتحار. ففي عيد الجمهورية، أضرم رجلان النار في نفسيهما في مدراس. وترك أحدهما رسالة قال فيها إنَّه أراد تقديم نفسه قربانًا لتاميل. وبعد ثلاثة أيام، قَتَلَ شاب في العشرين من عمره في تيروشي نفسه بتناول مبيد حشري. وترك رسالة هو الآخر قال فيها إنَّه انتحر في سبيل قضية تاميل. وقد أشعلت تلك «العمليات الاستشهادية» فتيل المزيد من الإضرابات وحملات المقاطعة.

ورد وصفٌ حيٌّ للثورة عن أحد رجال الشرطة الذين أُرسِلوا لإخمادها؛ فعندما دخلت مجموعة من رجال الشرطة بلدة تيروبُّور، وجدوا أنَّ أعمال الشغب انتهت ولكن الحشود ظلت باقية في فضول أو وجوم. وكانت شاحنات الشرطة وسياراتها الجيب ما بين محترقة ومشتعلة في الشوارع وفي المجمع الذي ضم مكتب التعلقة. كان قسم الشرطة … حطامًا، فيه جهاز إرسال احتياطي مقلوب، وقد تهشَّم زجاج القسم كله، وتهدَّم سور شرفته. كان رجال الشرطة المصابون يستريحون بالداخل بينما استلقى المفتش على ظهره متأثِّرًا بجرح في بطنه. وتناثرت جثث القائمين بالشغب في الأرجاء؛ حيث تمدَّدت إحداها على سلَّم القسم، وأخرى في شارع خلفي، بينما كانت جثة ثالثة أُصيب صاحبها بطلق ناري في منتصف بطنه بالضبط مسجاةً على ضفة نهر قريب، ومن خلفها حشد عدواني كانت مجموعة من رجال الشرطة المحمَّلين بالبنادق لا تزال تصدُّ محاولاته للتقدم.

وكتب ذلك الشرطي أنَّ «الخطأ الحقيقي» كان هو «الفشل في تقدير عُمق المشاعر» التي أثارها فرض اللغة الهندية؛ فما اعتبره بعض الناس في نيودلهي «استعراضًا للتعصُّب ضيِّق الأفق لا أكثر» كان في الواقع «حركة قومية محلية».16

أثارت شدة الاحتجاجات المناهضة للغة الهندية قلق الحكومة المركزية. وسرعان ما اتَّضح أنَّ حزب المؤتمر الحاكم كان منقسمًا إلى نصفين؛ ففي اليوم الأخير من شهر يناير، التقت جماعة من رجال حزب المؤتمر البارزين في بنجالور لتوجيه نداء إلى «محبِّي اللغة الهندية ألا يحاولوا فرض الهندية على سكان المناطق غير المتحدثة بها». وقالوا إنَّ التعجُّل في فرض اللغة الهندية من شأنه أنْ يُعَرِّض وحدة البلاد للخطر.

تضمَّن المُوَقِّعون على هذا النداء إس نيجالِنجابَّا (رئيس وزراء ميسور)، وأتوليا جوش (زعيم حزب المؤتمر البنغالي)، وسانجيفا ريدِّي (أحد وزراء الاتحاد القدامى)، وكيه كامَراج (رئيس حزب المؤتمر). وفي اليوم نفسه، تلقَّوا ردًّا من القيادي رفيع المستوى في حزب المؤتمر، مورارجي ديساي؛ ففي حديث إلى الصحافة في تيروباتي، زعم ديساي أنَّ تعلُّم الهندية سيُزيد في الواقع نفوذ التاميليين في الهند قاطبة. وقال إن زعماء حزب المؤتمر في مدراس ينبغي أنْ «يقنعوا الناس بخطئهم [بمعارضة اللغة الهندية] ويستميلوهم إلى صفهم». وأعرب ديساي عن أسفه لعدم جعل الهندية اللغة الرسمية في خمسينيات القرن العشرين، قبل أن تتبلور الاحتجاجات عليها؛ فالهندية وحدها هي التي يمكن أن تكون لغة الوصل في الهند، والبديل — اللغة الإنجليزية — «ليس لغتنا». وأصرَّ ديساي على أنَّه «لا ينبغي لأي نعرات إقليمية أن تعترض طريق هذه الخطوة التي تعتزم الحكومة اتِّخاذها لزيادة توطيد وحدة البلاد».17
أصبح رئيس الوزراء — لال بهادور شاستري — في موقف لا يُحْسَد عليه؛ فقد كان قلبه مع المتحمسين للغة الهندية، لكن عقله حثَّه على الإصغاء للأصوات الأخرى. وفي ١١ فبراير، أجبرته استقالة وزيرين اتحاديين من مدراس على الاستماع إلى صوت العقل؛ ففي مساء اليوم ذاته أعرب رئيس الوزراء عبر إذاعة «أول إنديا راديو» عن «شعور عميق بالضيق والصدمة» إزاء تلك «الأحداث المأساوية». وبغية تبديد أي «سوء فهم» أو «سوء تأويل»، قال إنَّه سوف يلتزم تمامًا بتأكيد نهرو على أنَّ اللغة الإنجليزية ستظل مُستخدَمة ما دام الناس يرغبون في ذلك. ثم قدَّم أربعة تأكيدات خاصة به، هي:
  • أولًا: : كل ولاية سيكون لها حرية كاملة ومطلقة في الاستمرار في إجراء المعاملات الخاصة بها بلغة تختارها، يمكن أن تكون اللغة الإقليمية أو الإنجليزية.
  • ثانيًا: : الاتصالات بين ولاية وأخرى ستكون إما بالإنجليزية أو ستصحبها ترجمة موثَّقة إلى اللغة الإنجليزية.
  • ثالثًا: : سيكون للولايات غير المتحدثة بالهندية حرية مراسلة الحكومة المركزية باللغة الإنجليزية، ولن يتم تغيير هذا الترتيب دون موافقة الولايات غير المتحدثة بالهندية.
  • رابعًا: : سيستمر استخدام اللغة الإنجليزية في إجراء المعاملات على المستوى المركزي.
وفيما بعد، أضاف شاستري تأكيدًا خامسًا بالغ الأهمية، وهو أن اختبار العمل في دوائر الخدمة المدنية لعموم الهند سوف يستمر إجراؤه باللغة الإنجليزية وليس اللغة الهندية فحسب (كما كان أنصار اللغة الهندية يريدون).18
بعد أسبوع من حديث رئيس الوزراء في الإذاعة، دارت مناقشة طويلة حامية في البرلمان عن أعمال الشغب التي اندلعت في ريف تاميل؛ فأصَرَّ أنصار اللغة الهندية على أنَّ معارضيها معادون للدستور وللوطنية في واقع الأمر، وزعموا أيضًا أنَّ الحكومة برضوخها للعنف سوف تشجع زيادة وتيرته. وردَّ الأعضاء التاميليون قائلين: «لقد قدَّمنا بالفعل تضحيات كافية من أجل شيطان اللغة الهندية.» وساندهم عضوان من البنغال؛ هما: هيرِن موكرجي اليساري، الذي اتهم المتحمسين للهندية «بالاستخفاف المزدري» بمن لا يتحدثون لغتهم، وإنْ سي شاترجي اليميني الذي أشار إلى أنَّ «القوة المُوَحِّدة الكبرى الآن هي الوحدة القضائية والقانونية للهند»، التي أتاحتها حقيقة أنَّ المحكمة العليا ومحاكم القضاء العالي تتعاملان باللغة الإنجليزية. واستهجن النائب الهندي البريطاني فرانك أنتوني «التعصُّب والنزعة الظلامية والشوفينية المتزايدة لمن يزعمون التحدُّث باسم اللغة الهندية». ورأى جي بي كريبالاني — في حديث أهدأ نبرةً — أن شوفينية اللغة الهندية لا أمل لها البتَّة؛ فحتى الأطفال الرُّضَّع الهنود — حسبما أشار — «لم يعودوا ينادون والديهم بالكلمات الهندية وإنما بالإنجليزية. وإننا نحدِّث كلابنا بالإنجليزية أيضًا». وقال كريبالاني معلِّقًا: «السيد أنتوني منفعل دون أي داعٍ بشأن لغته الأم؛ فهي قد تزول في إنجلترا، و[لكنها] لن تزول في الهند.»19

إنَّ نظائر مسألة اللغة في الخمسينيات مذهلة؛ فآنذاك أيضًا قادت حركة اجتماعية شعبية رئيس الوزراء إلى إعادة النظر في كل من الموقف الرسمي المُعلَن وتفضيلاته الشخصية؛ فقد كان نهرو معارضًا لفكرة الولايات اللغوية، وكان شاستري مؤمنًا بأنَّ اللغة الهندية ينبغي أن تكون اللغة الرسمية الوحيدة المعمول بها في الاتحاد الهندي. ولكن عندما تدفقت الاحتجاجات إلى الشوارع، وعندما أبدى المحتجون استعدادًا لبذل حياتهم (بوتِّي سريرامولو عام ١٩٥٣ واثنا عشر شابًّا تاميليًّا عام ١٩٦٥) اضْطُرَّ رئيس الوزراء إلى إعادة النظر في الأمر. وفي الحالتين بدا أنَّ صغار موظفي حزب المؤتمر انحازوا إلى صف المعارضة عوضًا عن حكومة حزبهم. وكما كان الحال مع نهرو، كان تغير فكر شاستري متأثِّرًا باعتبارات الحفاظ على وحدة الحزب بقدر تأثُّره باعتبارات الحفاظ على وحدة الأمة ذاتها.

٤

من جنوب الهند، دعونا نعد إلى البقعة القديمة المليئة بالمتاعب في الشمال؛ أي كشمير. في مارس ١٩٦٥، ذهب الشيخ عبد الله لأداء فريضة الحج في مكة؛ فقطع إليها الطريق الطويل، عبر لندن، حيث أقام أحد أبنائه. كان شاستري قد أخبر الشيخ عبد الله، عن طريق سودير جوش — نائب برلماني من مجلس الولايات كان قد تعاون مع المهاتما غاندي ذات مرة — أنَّ أكبر أمل له هو الحصول على وادٍ مستقل داخل الاتحاد الهندي. وظنَّ جوش أنَّ «أسد كشمير» كان في سبيله إلى تقبُّل تلك الفكرة، ولكن ببطء؛ فكتب إلى هوراس ألكسندر عضو جماعة الكويكرز — صديق الهند القديم — طالبًا منه إبقاء عبد الله تحت ناظريه في لندن؛ إذ إنَّ الحل المُخَطَّط لكشمير من شأنه أن «يتدمَّر إذا أدلى الشيخ عبد الله ببعض التصريحات غير الحكيمة في لندن، تحت ضغط من الصحفيين البريطانيين زائدي الحماس … فبضعة تصريحات خاطئة سوف تعطي عناصر حزب المؤتمر المتلهِّفة لإغماد سكينها في ظهر الشيخ الدَّفعة اللازمة لإحباط احتمال التوصُّل إلى أي تسوية».20

ويبدو أن عبد الله لم يفُه بأي قول أهوج في المملكة المتحدة؛ فقد مضى في طريقه إلى مكة وتوقف في العاصمة الجزائرية في طريق العودة إلى الوطن. وهناك فعل شيئًا أسوأ بكثير من التحدث بطيشٍ إلى صحفي بريطاني؛ فقد التقى رئيس الوزراء الصيني تشو إن لاي، الذي تصادف وجوده في العاصمة الجزائرية أيضًا. لم يُكشَف عن فحوى محادثتهما، ولكن كان كافيًا أنه تناول العشاء مع العدو؛ فقد افتُرِض أنَّ الشيخ عبد الله — كما عام ١٩٥٣، عندما التقى أدلاي ستيفنسون — ناقش احتمالية استقلال كشمير. عام ١٩٥٣ اقتضى الأمر حبس الشيخ عبد الله أربعة أشهر. ولكن في هذه المرة قُبِضَ عليه عند نزوله من الطائرة في مطار بَلام في نيودلهي. وأُخِذ إلى منزل تابع للحكومة في العاصمة، ثم نُقِل بعد فترة قليلة إلى الطرف المقابل من البلاد، إلى بلدة كودايكانال الجبلية في الجنوب. وهناك خُصِّص له كوخ رائع، ذو إطلالة بديعة على جبال ليست بعظمة جبال كشمير، ولكنه مُنِعَ من تجاوز حدود البلدية أو مقابلة الزوار دون تصريح رسمي.

استُقبِلت أنباء القبض على عبد الله بالتهليل في مجلسي البرلمان؛ فقد اعْتُبِر خائنًا للهند ليس لمجرد حديثه مع الزعيم الصيني، وإنما لحديثه معه بينما العدو الآخر — باكستان — لا يفتأ يقتطع أجزاءً من الحدود؛ فبينما كان عبد الله في الحج نشب نزاع بشأن صحراء الران، تلك المستنقعات المالحة الموجودة في كوتش، التي ادَّعت كل من الهند وباكستان أحقِّيتها فيها؛ ففي الأسبوع الأول من أبريل، تبادلت قوات البلدين إطلاق النار في صحراء الران. واستخدم الباكستانيون دباباتهم الأمريكية لقصف المواقع الهندية، وكُلِّلَ هجومهم بالنجاح؛ إذ اضْطُرَّ الهنود إلى التراجع نحو أربعين ميلًا حتى الأراضي الجافة. وتبادل الطرفان برقيات تلغرافية غاضبة، قبل أن يوافقا على اللجوء إلى تحكيم دولي تحت رعاية بريطانيا.21
كان هوراس ألكسندر أحد المنزعجين من تصاعد المشاعر الشوفينية؛ فكتب إلى إنديرا غاندي عن ذلك وتلقَّى منها ردًّا وضع المشاعر المتأجَّجة في سياقها الصحيح؛ فقالت السيدة غاندي: «ما لا يستوعبه سيادة الشيخ هو أنَّ الغزو الصيني والتحرُّكات الأخيرة لباكستان وداخلها، غيَّرتا وضع كشمير تمامًا.» فقد كانت حدود الولاية ملامسة للصين والاتحاد السوفييتي فضلًا عن الهند وباكستان. و«في إطار الوضع العالمي الحالي، من شأن كشمير إن استقلَّت أن تصير مرتعًا للدسائس والمؤامرات، وإلى جانب البلدان المذكورة أعلاه، فإنها سوف تجتذب الجاسوسية أيضًا وغيرها من الأنشطة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة».22
كان اعتقال عبد الله والاشتباكات التي جرت في كوتش قد أنبتا فكرة في مُخَيِّلَة الرئيس الباكستاني أيوب خان، مؤدَّاها: التحريض على قيام تمرُّد في الجزء الهندي من كشمير، يفضي إما إلى حرب تنتهي بضم الولاية إلى باكستان، أو إلى تحكيم دولي يأتي بالنتيجة ذاتها؛ ففي أواخر صيف عام ١٩٦٥، شرع الجيش الباكستاني في وضع خطة «عملية جبل طارق»، المُسَمَّاة تَيَمُّنًا بانتصار عسكري شهير للمورِيِّين في إسبانيا إبَّان العصور الوسطى؛ فدُرِّبت الجماعات القتالية الكشميرية على استخدام الأسلحة الصغيرة، وسُمِّيَت وحداتها على أسماء محاربين أسطوريين من الماضي الإسلامي: سليمان وصلاح الدين وما إلى ذلك.23
في الأسبوع الأول من أغسطس، عبرت مجموعات غير نظامية خط وقف إطلاق النار إلى كشمير. وراحوا يفجِّرون الجسور ويقذفون المنشآت الحكومية بالقنابل الحارقة. كانوا يهدفون إلى إثارة التخبُّط، وكذلك الِاضْطِراب. وأعلنت إذاعة «راديو باكستان» قيام انتفاضة شعبية في الوادي. في الواقع كان سكان المنطقة غير مبالين في معظمهم، بل إنَّهم سلَّموا بعض الدُّخلاء إلى الشرطة.24
فعندما لم يتحقق التمرد المأمول، تحوَّلت باكستان إلى خطتها البديلة، التي حملت اسم: «عملية جراند سلام». عبرت قوات باكستانية خط وقف إطلاق النار في قطاع جامو، وتقدَّمت سريعًا باستخدام المدفعية الثقيلة ومدافع الهاون. قاومت القوات الهندية، وفي قطاع أوري نجحت في استرداد السيطرة على ممر حَجي بير، وهو موقع استراتيجي يمكنهم استطلاع دخول المتسللين منه.25

يوم ١ سبتمبر شَنَّ الجيش الباكستاني هجومًا كبيرًا في شامب، حيث عبرت الحدود فرقة مشاة مصحوبة بكتيبتين من دبابات باتون الأمريكية. واستغل الباكستانيون عنصر المفاجأة واحتلوا ثلاثين ميلًا مُرَبَّعًا خلال أربع وعشرين ساعة. كان هدفهم هو الاستحواذ على الجسر عند أخنور ومن ثم قطع الصلات بين جامو وكشمير وبين ولاية البنجاب. حينذاك استدعى المدافعون قواتهم الجوية، ومن ثم أقبل نحو ثلاثين طائرة مُمطرةً قوات العدو بوابل من القنابل. وتصدَّت طائرات سابر النفاثة الباكستانية لطائرات فامبَيَر الهندية.

بحلول يوم ٥ سبتمبر كان وضع الهند يقترب من مرحلة اليأس، مع تقدُّم القوات الباكستانية الحثيث تجاه أخنور؛ فبغية تخفيف الضغط، أمرت نيودلهي الجيش بفتح جبهة جديدة؛ ففي صبيحة يوم ٦ سبتمبر، عبرت عدة كتائب من الدبابات — مدعومة بقوات مشاة — الحدود الدولية التي تقسم البنجاب. كانت متجهة إلى مدينة باكستان الأولى مباشرةً، لاهور؛ فأُعيد نشر القوات والدبابات الباكستانية المستخدَمة في عملية كشمير سريعًا. وآنذاك بدأت معركة بالدبابات ربما كانت هي الأشد ضراوةً في أي مكان منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية؛ فقد تقاتل الجانبان بلا هوادة، أحيانًا على أراض جدباء، وأحيانًا أخرى وسط حقول قصب السكر؛ فقد أجبرت القوات الهندية القوات الباكستانية على العدول عن مسارها تجاه أسَل أوتَّر ولكنها هُوجِمَت مرة أخرى أثناء محاولتها استعادة خِم كاران. وقال القائد الهندي، الذي كان من مقاتلي الحرب العالمية الثانية المحنَّكين: «لم يسبق لي رؤية هذا الكَمِّ من الدبابات المدمَّرة، ملقاةً في ساحة المعركة مثل لُعَب مُهمَلة.»26
دَوَّى هَدير الطائرات في السماء إذ انطلقت لمهاجمة قواعد العدو، وألقى الجانبان حمولات كبيرة من القنابل، ولكن — مثلما كتب مؤرخ هندي لذلك الحدث فيما بعد — «لحسن الحظ أو لسوء الحظ لم تنفجر بعض القنابل؛ فقد كانت قديمة ومعظمها حصل عليه الجانبان المتقاتلان من مصدر واحد».27
إذ احتدمت المعارك، أدلت الصين بدلوها مناصرةً للباكستانيين؛ ففي يوم ٤ سبتمبر، أدان المشير تشن يي — في زيارة لكراتشي — «الإمبريالية الهندية لانتهاكها خط وقف إطلاق النار» وتحدث مؤيِّدًا «الإجراءات العادلة التي اتخذتها حكومة باكستان لصدِّ استفزازات الجيش الهندي». وبعد ثلاثة أيام أصدرت بكين بيانًا ادَّعت فيه أنَّ الهند كانت «لا تزال معتدية» على قطاعات كبيرة من الأراضي الصينية. وفي اليوم التالي صرَّح تشو إن لاي بأنَّ «الأعمال العدوانية الهندية تُشَكِّل تهديدًا للسلام في هذه البقعة من آسيا».28
في نيودلهي، تملَّكت الشعب دفقة من المشاعر الوطنية؛ ففي جلسة الإحاطة الصحفية اليومية، كان الصحفيون يسألون المتحدثين باسم الحكومة: «هل سقط مطار لاهور؟» و«هل أصبحت محطة الإذاعة تحت سيطرتنا؟» ولكنَّ لاهور لم تسقط، وإنْ كان سبب ذلك ظل مسألة خلافية؛ فقد زعم الهنود أنَّ الاستحواذ على المدينة لم يكن في نيتهم مطلقًا؛ فلِمَ يقحمون أنفسهم في عملية في عقر دار العدو وسط شعب مُعادٍ؟! وزعم الباكستانيون أنَّ رئيس أركان الجيش الهندي تفاخر بأنه سيحتسي شرابه المسائي في نادي جيمخانة بلاهور، ولكن حُماة المدينة البواسل لم يسمحوا له بذلك قط.29

أثار تصعيد الأعمال القتالية انزعاج القوتين العظميين، وفي يوم ٦ سبتمبر اجتمع مجلس الأمن بالأمم المتحدة لمناقشة الأمر. واستقل الأمين العام للأمم المتحدة — يو ثانت — طائرة إلى شبه القارة الهندية، وبعد اجتماعه بزعماء في العاصمتين أقنعهم بالموافقة على وقف إطلاق النار. وكان اتِّخاذ ذلك القرار أيسر لأنَّ الجانبين كان القتال قد بلغ بهما طريقًا مسدودًا في البنجاب. وفي يوم ٢٢ سبتمبر، توقفت الأعمال القتالية أخيرًا.

وقعت المعارك في قطاعين بالأساس من المنطقة الشمالية الغربية، هما: كشمير والبنجاب. وحدثت بعض الاشتباكات في السند، ولكن الحدود الشرقية — التي تفصل بين شَطرَي البنغال — ظلت هادئة. وكما هو شائع في الحالات المماثلة، ادَّعى كل من الجانبين النصر، مبالغًا في تقدير خسائر العدو ومقلِّلًا من خسائره الشخصية. والحقيقة أنَّه لا بد من إعلان أن نتيجة الحرب كانت متكافئةٌ للطرفين؛ فوفقًا لمصدر مستقل إلى حد معقول، فقدت باكستان من ٣ آلاف إلى ٥ آلاف جندي ونحو ٢٥٠ دبابة وخمسين طائرة، بينما بلغت الخسائر على الجانب الهندي من ٤ آلاف إلى ٦ آلاف جندي ونحو ٣٠٠ دبابة وخمسين طائرة. إلا أنَّ الهند لضخامة تعداد سكانها وكِبَر جيشها مقارنةً بباكستان، كانت أكثر قدرةً على استيعاب تلك الخسائر.30
وبالنسبة إلى الغرب، قدَّمت مجلة «ريدرز دايجست» هذا الملخَّص الشيِّق لتلك الحرب البعيدة: «لوَّثت دماء جنود باكستان والهند حقول القمح في البنجاب ومرتفعات كشمير الصخرية، بينما حلَّقت الطيور الجارحة فوق الجثث على طريق جراند ترانك — ذلك الطريق السريع الذي خلَّدته رواية «كيم» للشاعر والروائي كِبلنج — وتجمَّع اللاجئون مستندين إلى عربات مائلة تجرُّها الثيران، متردِّدين في الشروع في رحلة العودة إلى ديارهم.»31

٥

قبل الحرب كان شاستري وأيوب خان قد التقيا مرة، في كراتشي، في أكتوبر ١٩٦٤، عندما توقَّف فيها الزعيم الهندي في طريق عودته من القاهرة. وثمة صورة لهما معًا، وقف فيها أيوب، ذلك الرجل العسكري بقامته الفارعة مُرْتَدِيًا بذلة، إلى جوار شاستري، تلميذ غاندي الضئيل الذي وقف مُرْتَدِيًا الْمِئْزَر الهندي. كان أيوب غير معجَب بالرجل بالمرة، وقال لأحد مساعديه: «إذن هذا هو خليفة نهرو!»32
من شبه المؤكَّد أنَّ القيادة الباكستانية استخفَّت بالعزيمة القتالية الهندية إلى حد خطير؛ فقد أُجْرِيَت عملية جبل طارق في ظل «النشوة التالية» لصراع كوتش، الذي «أظهر الهنود في موقف ضعيف».33 ففي الأسبوع الأول من يونيو ١٩٦٥، حملت صحيفة «دون» مقالًا موقعًا باسم مستعار لمسئول رفيع، حلَّل انتشار القوات الهندية قبل أن يوصي بأنَّ الاستراتيجية الباكستانية ينبغي «بداهةً أن تُسَدِّد ضربة قاضية على طريقة محمد على كلاي».34 وصرَّح الجيش بثقة في أمر رسمي بأنَّه «كقاعدة عامة لن تحتمل الروح المعنوية الهندوسية أكثر من ضربتين قويتين تُسَدَّدان في الوقت والمكان المناسبين».35
وبالفعل كانت توجد سمة دينية لا لبس فيها مرتبطة بعملية أقدم عليها المسلمون الباكستانيون للذَّوْد عن إخوتهم في كشمير. واستُحضِرَت ذكريات حروب خاضها المسلمون وانتصروا فيها منذ عشرة قرون؛ فكانت العناصر الراديكالية في باكستان تؤمن بأن الكفار سيُهزمون بمزيج الحماسة الإسلامية والأسلحة الأمريكية.36 وكان الأمل هو أنَّه بعد أن ينهض الكشميريون، سوف يقطع إخوانهم اتصالات العدو و«يبدءون النزهة الطويلة المتوقعة على طريق جراند ترانك إلى دلهي»، ليرغموها على استسلام مُهين.37 وكانت الأنشودة المترددة على شفاه المحاربين هي: «نِلنا باكستان هزلًا، وسنأخذ الهند حربًا.»
ولكنَّ الهجوم في واقع الأمر وحَّد صفوف الهنود؛ فكثير من الكشميريين وقفوا في صف الجيش ضد الغزاة. وقد نال جندي مسلم من كيرالا أعلى وسام شرف عسكري في الهند؛ وسام بارام فير شاكرا. ومسلم آخر من راجستان — يُدْعَى أيوب خان على سبيل المفارقة — أتلف دبابتين باكستانيتين. وفي جميع أنحاء الهند، أدلى المثقفون ورجال الدين المسلمون بتصريحات تدين باكستان وتعرب عن رغبتهم في التضحية بحياتهم في سبيل وطنهم.38
تشجَّع أيوب وأبناء بلده بالهزيمة النكراء التي ألحقتها الصين بالهند عام ١٩٦٢. إلا أنَّ تلك الهزيمة وقعت في منطقة الهيمالايا الرطبة الزَّلِقة، بينما كانت تضاريس تلك منطقة الحرب مع باكستان معروفة للهنود أكثر بكثير؛ فقد أثبت قادة الجيش الهندي براعتهم في معارك جرت على أراضٍ منبسطة في الحرب العالمية الثانية. وإضافةً إلى ذلك، فقد تزوَّدوا منذ عام ١٩٦٢ بمُعِدَّات أكثر (وأفضل)؛ فوزير الدفاع الجديد — واي بي تشافان — ذهب في رحلة تسوُّق عام ١٩٦٤، زار فيها عواصم غربية ودول الكتلة السوفييتية لشراء الدبابات والطائرات والبنادق والغواصات التي تحتاج إليها قواته.39
وإضافةً إلى ذلك، فوزير الدفاع هذا كانت قواته تحترمه أكثر من نظيره عام ١٩٦٢؛ فتشافان لم يكن ككريشنا مينون، وكذلك لم يكن شاستري كنهرو فيما يتعلق بالحرب. لا شك أنَّه كان يفضل السلام؛ فقد كتب إلى أحد أصدقائه بعد النزاع في كوتش معرِبًا عن رأيه في أنَّ المشكلات بين الهند وباكستان ينبغي أن تُحَلَّ وديًّا، تدريجيًّا. وكان يأمل ألَّا «يتَّخذ تقاتلنا ونزاعنا شكلًا يجعل خيار المعركة حتميًّا».40 ولكن عندما حان وقت الحرب كان حاسمًا، وأسرع بطلب النصح من قياداته وأمر بالضربة عبر الحدود البنجابية. (في وضع مشابه — عام ١٩٦٢ — رفض نهرو الاستعانة بالقوات الجوية لتخفيف الضغط.) وعندما انتهى النزاع، لم يجد شاستري حرجًا في أن تُلتَقَط له صورة — بمِئْزَره وزيه الكامل — فوق إحدى دبابات باتون التي استولت عليها القوات الهندية، وهي بادرة لم يكن سابِقُه لِيَعُدَّها هينة.
إلا أنَّ شاستري كان يشبه نهرو من ناحية واحدة في الواقع، وهي رفضه المزج بين شئون الدين والدولة؛ فبعد أيام على وقف إطلاق النار، بينما كانت المشاعر الوطنية مُتَأَجِّجة، تحدَّث شاستري في مؤتمر شعبي بساحة رام ليلا في دلهي؛ فأبدى اعتراضه على تقرير صادر عن إذاعة بي بي سي، ادَّعى أنَّه «بما أنَّ رئيس وزراء الهند لال بهادور شاستري هندوسيٌّ، فهو مستعد لدخول حرب مع باكستان». وقال شاستري إنَّه في حين أنَّه هندوسي، فإنَّ «مير مشتاق رئيس هذا المؤتمر مسلِم. والسيد فرانك أنتوني الذي تحدث إليكم مسيحي. وثمة سيخ وبارسيون بيننا أيضًا؛ فالسمة الفريدة لبلدنا هي أن لدينا هندوسًا ومسلمين ومسيحيين وسيخًا وبارسيين وأناسًا من الديانات كافة. ولدينا معابد ومساجد ودور عبادة سيخية وكنائس. ولكننا لا نُقحِم ذلك كله في السياسة … هذا هو الفرق بين الهند وباكستان؛ ففي حين أنَّ باكستان تُعلن نفسها دولة إسلامية وتستخدم الدين عامِلًا سياسيًّا، نتمتع نحن الهنود بحرية اتباع أي دين نختاره ونمارس عباداتنا كيفما يحلو لنا. وفيما يتعلق بالسياسة، كل واحد منا لا يقل هندية عن الآخر مثقال ذرة».41

٦

أثناء الحرب مع باكستان، صاغ رئيس الوزراء شعار «جاي جَوان جاي كيسان» (يَحيَا الجندي، يَحيَا الفلَّاح)؛ فكانت تحية الجندي العادي (جوان) في دولة أخرجتها سِلمية غاندي إلى النور بادرةً مميزة، وكذلك كانت الإشارة إلى المزارع المتواضع — كيسان — في أُمَّة تربَّت على الإعجاب بالأفران اللافحة والسدود الكهرمائية العالية.

والحقيقة أنَّ أحد أول الإجراءات التي اتَّخذها شاستري بصفته رئيسًا للوزراء كان زيادة المبالغ المخصَّصة للزراعة من الميزانية؛ فقد كان شديد القلق بشأن نقص إنتاج الغذاء في السنوات الأخيرة؛ فمعدل زيادة الحبوب الغذائية بالكاد واكب النمو السكاني. وإذا شَحَّت الأمطار، حَلَّ الذعر، وطَفِقَ التجار يَكْنِزون الحبوب بينما الدولة تحاول في استماتة نقل المخزونات من مناطق الفائض إلى مناطق العجز. وقد حدث جفاف عام ١٩٦٤ وآخر عام ١٩٦٥؛ فسعيًا وراء حلٍّ بعيد المدى، عَهِدَ شاستري إلى سي سوبرامانيَم بوزارة الأغذية والزراعة. وُلِدَ سوبرامانيَم عام ١٩١٠ في أسرة من المزارعين، ونال درجتين علميتين في العلوم والقانون، ومارس القانون قبل انضمامه إلى المعركة من أجل الحرية. كان عضوًا في الجمعية التأسيسية للدستور، وحَظِيَ باحترام واسع النطاق عندما شغل منصب وزير في مدراس، قبل أن ينضم إلى وزارة الاتحاد. كان معروفًا عنه الذكاء والإقدام، ولهذا كلَّفه نهرو بوزارة الصلب والمناجم المرموقة؛ فكان نقله من مجال صناعة الصلب إلى الزراعة إشارةً إلى حدوث تغير كبير بحقٍّ.42

أقبل سوبرامانيَم على وظيفته الجديدة بهِمَّة؛ فركَّز على إعادة تنظيم العلوم الزراعية، بتحسين أجور العلماء وظروف عملهم وحمايتهم من التدخُّلات البيروقراطية. واكتسب المجلس الهندي للبحوث الزراعية — الذي كان فيما مضى هيئةً خاملةً إلى حد ما — حياة وهوية جديدتين. وإلى جانب إعادة إحياء المجلس، شَجَّعَ سوبرامانيَم الولايات أيضًا على إنشاء جامعات زراعية تُرَكِّز الأبحاث فيها على المحاصيل الإقليمية، وافتتح مزارع تجريبية، وأنشأ هيئة بذور هندية لإنتاج كميات كبيرة من البذور عالية الجودة التي سوف تستلزمها برامج التكثيف الزراعي المقترَحَة.

كان اثنان من المساعدين الرئيسيين لسوبرامانيَم مثله، من ريف تاميل؛ أحدهما سكرتير وزارة الزراعة القدير بي سيفارَمان، والآخر العالِم إم إس سواميناثان، الذي تولَّى توجيه الفِرق البحثية التي تعمل على تكييف القمح المكسيكي مع الظروف الهندية؛ فالاستراتيجية الجديدة كانت مرتكزة حول ذلك النوع من المحاصيل. ومن الجدير بالذكر أنَّه على الرغم من أنَّ القمح يُزرَع في شمال البلاد بالأساس، كان مهندسو السياسة الزراعية الهندية الثلاثة هؤلاء جميعًا من (أقاصي) الجنوب.43
وفي الوقت نفسه، استطاع سوبرامانيَم إقناع الولايات المتحدة بتقديم معونة غذائية حتى يصير الهنود قادرين على زيادة إنتاجهم المحلي؛ فقد التقى الرئيس الأمريكي — ليندون جونسون — وخلَّف لديه انطباعًا حسنًا، وأقام علاقة شراكة وثيقة مع وزير الزراعة الأمريكي، أورفيل فريمان. وفي ديسمبر ١٩٦٥ وقَّع سوبرامانيَم وأورفيل اتفاقية في روما، ألزمت الهند نفسها بموجبها بزيادة الاستثمار في الزراعة بدرجة كبيرة، وبإصلاح منظومة الائتمان الريفي، والتوسُّع في إنتاج الأسمدة واستهلاكها. وفي المقابل، قدَّمت الولايات المتحدة سلسلة من القروض الميسَّرة ووافقت على إبقاء إمدادات القمح مستمرة لتغطية العجز لدى الهند في تلك الفترة.44
بينما كان سوبرامانيَم يوقِّع ما سُمِّي «معاهدة روما» بصفة غير رسمية، كان رئيس الوزراء يتأهَّب للذهاب إلى موسكو لتوقيع اتفاقية هو الآخر، مع نظيره الباكستاني أيوب خان؛ فبعدما وضعت الحرب أوزارها، عرض الاتحاد السوفييتي المساعدة في التَّوَصُّل إلى تسوية سلمية. وفي الأسبوع الأول من يناير ١٩٦٦، التقى شاستري وأيوب خان في طَشقند، حيث اضطلع رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي — أليكسي كوسيجين — بدور الوسيط الرئيسي بينهما. وبعد أسبوع من المساومات الشاقَّة وافق الطرفان على التخلِّي عن أغلى شيء لديه؛ التحكيم الدولي لنزاع كشمير بالنسبة إلى باكستان، والإبقاء على نقط الحراسة الرئيسية المستحوَذ عليها أثناء الحرب (مثل ممر حَجي بير) بالنسبة إلى الهند. ونصَّت «اتفاقية طشقند» على انسحاب القوات إلى مواقعها قبل ٥ أغسطس ١٩٦٥، والنقل المنظَّم لأسرى الحرب، واستئناف العلاقات الدبلوماسية، ونبذ اللجوء إلى القوة في حل النزاعات المستقبلية.45
وُقِّعَت الاتفاقية عصر يوم ١٠ يناير ١٩٦٦. وفي تلك الليلة، تُوُفِّيَ شاستري أثناء نومه، إِثْر سَكْتَة قلبية. نُقِل جثمانه يوم ١١ يناير على متن طائرة سوفييتية إلى نيودلهي. وفي صباح اليوم التالي وُضِعَ جثمانه على عربة مدفع، ونُقِلَ في موكب إلى ضفاف نهر يمنا، حيث أُحْرِقَ على مقربة من مكان حرق جُثْمانَيْ غاندي ونهرو. جعلت مجلة «لايف» من ذلك الحدث قصة الغلاف، كما فعلت عند وفاة سَلَف شاستري قبل ذلك بعشرين شهرًا. نشرت المجلة صورًا حية لحشد من الناس بلغ مليون شخص جاءوا لتشييع رجل «شعر هنود كُثُر بتآلف معه أوثق من نهرو». وحسب ما ورد في المجلة، كان ما أعطاه شاستري للهند هو «مزاج بالأساس؛ صلابة جديدة وحس جديد بالوحدة الوطنية»؛ فالحرب الصينية كانت قد أوصلت البلاد إلى حالة شبه انهيار، ولكن هذه المرة، عندما جاءت الحرب، «سار كل شيء على خير ما يرام؛ فالقطارات مضت في مسارها، والجيش صمد، ولم تحدث أعمال شغب طائفية. وولَّى التكلُّف الأخلاقي القديم، وخيبة الأمل والنفور، والخوف والضيق».46
كانت تلك إشادة كريمة، ولكن ربما كانت المجاملات الواردة عمَّن جعلتهم أواصر القرابة ميَّالين لاعتبار شاستري دخيلًا هي الأجدر بالملاحظة؛ ففي الأشهر الأولى من حكم رئيس الوزراء الجديد، شَكَت إنديرا غاندي ابتعاده عن تراث والدها. ولكن في غضون سنة وجدت نفسها مضطرة إلى الإقرار بأنَّ «السيد شاستري أصبح — على ما أظن — يشعر بمزيد من القوة والثقة بنفسه الآن».47 وأيضًا فيجايا لاكشمي بانديت، التي كانت أكثر تَعَصُّبًا في إخلاصها لذكرى أخيها؛ فهي في يوليو ١٩٦٤ كانت ترى أنَّ الروح المعنوية للحكومة الهندية «منخفضة إلى حد لا يُصَدَّق»، وأنَّه «الآن لم يعد ثمة جواهر لال نهرو لكي ينهض ويعيد الثقة إلى أذهان الناس». إلا أنها عند وفاة شاستري شعرت «بحزن شديد» لأنَّه «كان قد بدأ ينضج وكلنا ظننا أنه سوف يضع الهند على الطريق الصحيح».48 كان ذلك التسامح خليقًا بها، ولكننا عندما ننظر إلى هُوِيَّة كاتبة هذه الكلمات ووقت كتابتها، لا بد أن نعتبرها إشادة كبيرة.

ربما يُنْظَر إلى لال بهادور شاستري مقارنةً بجواهر لال نهرو مثلما يُنْظَر إلى هاري ترومان مقارنةً بفرانكلين ديلانو روزفلت؛ فنهرو وروزفلت كلاهما أتى من طائفة عليا، وتوليا مقاليد السلطة فترة طويلة، وأحدثا تغييرات جوهرية في مجتمعهما وأمتهما، وحَظِيَا بإجلال كبير لدورهما ذاك. أما شاستري فكان مثل ترومان، فتى نشأ في بلدة صغيرة ومن خلفية بسيطة، أخفى ضعف كاريزمته وراءه إرادة راسخة وعقلية مستقلة. ومثل ترومان، كانت عقليته قد أمدَّته بحس عملي رفيع، على النقيض من أسلوب سلفه الذي اتسم بزيادة اعتماده الواعي على الفكر، بل الأيديولوجية. ولكن أوجه المقارنة تنتهي فيما يتعلق بطول مدة الخدمة؛ ففي حين أنَّ ترومان شغل منصب رئيس الولايات المتحدة سبعة أعوام كاملة، تُوُفِّيَ شاستري بعد قضائه أقل من عامين في منصب رئيس وزراء الهند.

٧

عند وفاة شاستري، أدى جولزاري لال ناندا مرة أخرى القسم كرئيس وزراء مؤقت، ومرة أخرى بدأ كامراج رحلة البحث عن خلف دائم. ومرة أخرى أعرب مورارجي ديساي عن رغبته في المنصب، ومرة أخرى رفضه كامراج وآثر عليه مرشَّحًا يحظى بقَبول أوسع نطاقًا.

كان الشخص الذي فكَّر فيه رئيس حزب المؤتمر خلفًا لشاستري هو إنديرا غاندي. كانت شابة — أتمَّت لتوِّها عامها الثامن والأربعين — وجذابة، ومعروفة لدى زعماء العالم، وابنة أكثر رجال الهند شعبية؛ فمن أجل تهدئة روع أمَّةٍ تعرَّضت لخسارتين متلاحقتين، بدت هي الخيار الأكثر بديهية. صحيح أنَّ خبرتها في الإدارة كانت محدودة، لكن «نقابة» حزب المؤتمر اعتزمت التأكُّد من جعل قيادتها «جماعية» على النحو السليم.

وسرعان ما أيَّد رؤساء وزراء الولايات الذين طلب كامراج مشورتهم اسم إنديرا غاندي، حتى هذه اللحظة سارت الأمور على خير ما يرام، باستثناء أنَّ مورارجي ديساي قرَّر المنافسة على القيادة. ومن ثم فإن نيودلهي «تحوَّلت إلى بؤرة للجهود المتضافرة لالتماس الأصوات، وممارسة الضغوط واسعة النطاق، والمساومات المحمومة». فقد التقت السيدة غاندي ومورارجي ديساي بالزعماء الكبار، فيما انطلق مساعدوهم في إثر الأعضاء الصغار.49
من حيث الخبرة وكذلك المقدرة كان ينبغي أن يحظى ديساي بالأفضلية؛ فقد كتب جواهر لال نهرو ذات مرة: «قليلون جدًّا هم الأشخاص الذين أُكِنَّ لهم احترامًا كبيرًا لاستقامتهم ومقدرتهم وكفاءتهم وإنصافهم كمورارجي ديساي.»50 وثمة شك في أنَّ نهرو كان يمكن أن يكتب عن ابنته بالأسلوب ذاته. ومن المؤكد أنه لم يكن يأمل أنْ تخلفه إنديرا غاندي في رئاسة الوزارة أبدًا. إلا أنَّ الكلمات التي اقتبستها هنا وردت في رسالة خاصة، لم يطَّلع عليها ديساي ومؤيدوه. وحتى لو كانوا اطَّلعوا عليها، فمن المستبعَد أن يكون ذلك قد حسَّن الموقف؛ فبالدعم القوي الذي قدَّمه كامراج ونقابة حزب المؤتمر للسيدة غاندي، والشكوك التي انتابت أعضاء آخرين في حزب المؤتمر حيال ديساي، حصلت ابنة نهرو على دعم أغلبية الأعضاء في الجناح البرلماني لحزب المؤتمر. وعندما صوَّت ذلك الكيان لاختيار رئيس وزراء يوم ١٩ يناير، ربحت ٣٥٥ صوتًا مقابل ١٦٩. وكما كتب أحد صحفيي دلهي ساخرًا: كامراج «جمع حكام الولايات صفًّا وراء السيدة غاندي» لأنَّ «زعماء الولايات ما كانوا ليرضوا إلا بشخص وديع ليشغل منصب رئيس الوزراء في الحكومة المركزية».51

٨

كانت إنديرا غاندي ثاني امرأة تُنتَخَب لقيادة دولة حرة (كانت سيريمافو باندرانيكي في سيلان هي الأولى)، وثاني عضو يشغل منصب رئيس وزراء الهند في أسرتها. وإن جاز وصف الأشهر الأولى التي قضتها في منصبها بشيء فهو أنَّها كانت مضطربة مثل الأشهر الأولى لوالدها. لم يحدث الكثير في فبراير، ولكن في شهر مارس اندلعت ثورة كبرى في تلال ميزو. تلك التلال المُتَعرِّجة، التي مثلت منطقة قبلية متاخمة لباكستان الشرقية، بلغ تعداد سكانها ٣٠٠ ألف فحسب. ولكنهم — كما في ناجالاند — كان بينهم بعض الشباب الطموحين العازمين على اقتطاع وطن خاص بهم.

ترجع أصول نزاع ميزو إلى مجاعة حدثت عام ١٩٥٩، عندما أفضت نوبة ازدهار عظيمة لأشجار البامبو إلى زيادة هائلة في أعداد الفئران. أتت تلك الفئران على الحبوب المزروعة في الحقول وفي مخازن القرية، مسببة ندرة في الطعام للبشر؛ فتشكَّلت جبهة ميزو الوطنية للمجاعة، التي وجدت تهاونًا في استجابة الدولة؛ فحينئذٍ أسقطت الجبهة لفظة «المجاعة» من اسمها، لتصبح «جبهة ميزو الوطنية». وطالبت في البداية بولاية منفصلة داخل الاتحاد الهندي، ثم ببلد مستقل.

كان زعيم جبهة ميزو الوطنية محاسبًا سابقًا يُدعى لالدِنجا؛ فإذ أحدثت فيه المجاعة تأثيرًا عميقًا، التجأ إلى الكتب؛ القصص البوليسية لبيتر تشيني في البداية، ثم تطوَّر مع الوقت إلى قراءة أعمال ونستون تشرشل وكتب تمهيدية عن حروب العصابات. وفي شتاء ١٩٦٣-١٩٦٤، اتَّصل لالدنجا بالحكومة العسكرية لباكستان الشرقية، التي وعدته بإمداده بالأسلحة والأموال وقاعدة يطلق منها هجماته. وخُزِّنت الأسلحة التي حصل عليها بهذه الطريقة في غابات محاذية للحدود.52
بعد سنوات من التخطيط المتأنِّي — جنَّد خلالها كثيرًا من شباب قبائل الميزو ودرَّبهم على استخدام الأسلحة الحديثة — أشعل لالدنجا فتيل انتفاضة في اليوم الأخير من فبراير ١٩٦٦؛ فهاجمت مجموعات من جبهة ميزو الوطنية المكاتب والمنشآت الحكومية، ونهبت البنوك، وعطَّلت الاتصالات. وسُدَّت الطرق لمنع الجيش من تحريك قوات إلى المنطقة. وفي أوائل مارس أعلنت جبهة ميزو الوطنية انفصال المنطقة عن الاتحاد الهندي وتحوُّلها إلى جمهورية مستقلة.53
أسقطت الجبهة مدينة رئيسية واحدة، هي لونجلي، وزحفت زحفًا حثيثًا على إيزاول عاصمة المنطقة؛ فردت الهند باستدعاء الجيش والقوات الجوية. أمطرَت القوات الجوية لونجلي بوابل من النيران حتى تجبر المتمردين على الخروج منها؛ فكانت تلك أول مرة تستخدم فيها الدولة الهندية قواتها الجوية ضد مواطنيها. وكما في ناجالاند، كان المتمردون يلوذون إلى الأدغال، ويزورون القرى ليلًا. وبعد أسبوعين من القتال الشرس، تمكَّن مبشِّر من ويلز كان يعمل في المنطقة من تهريب التقرير الآتي إلى صديق له في إنجلترا:

صباح يوم السبت حزمنا ما استطعنا من أمتعة في صناديق … وحزمنا حقيبة محمولة للذهاب إلى دُرلانج عبر الغابة … وقبل الموعد المقرر لبدء مسيرتنا بخمس دقائق حلَّقت فوقنا طائرة فاتحةً نيران مدافعها الرشاشة … لم تكن تُطلِق النيران عشوائيًّا، وإنما حاولت تصويبها على مواقع المتمردين … مكثنا هناك طوال اليوم وراح الرجال يحفرون خندقًا، كنا نختبئ فيه كلما جاءت الطائرات مطلقةً نيرانها. شاهد بَكليرا بيته يحترق. طهونا بعض الأرز في بيت صغير، ولكننا قررنا أن النوم فيه لن يكون آمنًا ومن ثم نمنا جميعًا في شرفة في الغابة كانت لها حافة واقية. ولكنه كان نومًا قلِقًا؛ فقد أفقنا في الليل على مرأى النيران مشتعلةً في دَوْروبي كلها، من طرفها القصيِّ حتى طريق الجمهورية. يقولون إنَّ تلك كانت محاولة من أتباع لالدنجا لطرد أفراد قوة «بنادق آسام» من المدينة.

قدَّمت تلك الرسالة تصويرًا حيًّا لخوف رجل الميزو العادي، الذي وقع في مرمى النيران بين المتمردين والدولة. ومضت الرسالة لتتحدث — بنبرة أكثر تأمُّلًا — عن أنَّ النزاع:
سيمثل انتكاسة خطيرة جدًّا للبلاد … فقد اضْطُرَّت الحكومة إلى إرسال مثل تلك القوات من الجيش حتى تَئِدَ هذه الحركة في مَهْدها تحسُّبًا لتحوُّلها إلى ما يشبه أرض ناجا. كل ما كنا نتمناه هو أنْ يستسلم المتمردون حتى تعود الأوضاع إلى طبيعتها بأسرع ما يمكن، ولكن التعليم سيظل في حالة فوضى عارمة لفترة؛ فامتحانات القَبول بالجامعة ينبغي أن تبدأ الأسبوع المقبل. وجزء كبير جدًّا من المسئولية عن وضع البلاد في هذه الحالة المؤسفة يبوء بها رجال مثل لالدنجا وسَكلاوليانا.54
على النقيض من الاستسلام، واصل المتمردون القتال، واستمر النزاع بقية ذلك العام، وجزءًا من العام التالي. وفي الوقت نفسه، كانت بعثة السلام في ناجالاند قد انهارت؛ ففي الأسبوع الأخير من فبراير ١٩٦٦، استقال جايا براكاش نارايان من البعثة، قائلًا إنَّه فقد الثقة في قبائل ناجا. كان قد أخبر جماعة المتمردين السرية أنَّه بعد الحرب الهندية الباكستانية صار ينبغي لها التخلي عن مطالبتها بالاستقلال، والاكتفاء بالتمتع بالحكم الذاتي داخل الاتحاد الهندي؛ ففي ظل النظام الفيدرالي، تتركَّز الشئون الخارجية وشئون الدفاع في يدي الحكومة المركزية، ولكن أكثر المسائل أهمية — التعليم والصحة والنمو الاقتصادي والثقافة — تقع تحت سيطرة الولايات. ومن ثم نصح جايا براكاش نارايان رجال فيزو بإلقاء السلاح والترشُّح للانتخابات، من أجل تولِّي زمام الإدارة سِلميًّا.55
في الوقت الذي أعرب فيه جيه بي عن خيبة أمله في المتمردين، فَقَد مايكل سكوت ثقة الحكومة الهندية؛ فقد اتهمته بالسعي إلى «تدويل» قضية ناجا من خلال اللجوء إلى الأمم المتحدة. وكان سكوت قد اقترح أنَّ النماذج المرجَّحة لناجالاند كانت بوتان وسيكِّيم، وكلاهما بلد مستقل اسميًّا، له عَلَم وعملة وحاكم، ولكنه تابع للهند عسكريًّا؛ ففي مايو ١٩٦٦، طلبت نيودلهي من سكوت مغادرة البلاد، موضحةً أنَّه لا يجدر به العودة.56
لم يكن ثمة شك في التزام مايكل سكوت الراسخ تجاه قضية ناجا؛ ففيما بين عامي ١٩٦٢ و١٩٦٦ من المرجَّح أنَّه زار الهند نحو اثنتي عشرة مرة نيابةً عن فيزو، لكنه عجز عن رؤية أنَّ الاستقلال السياسي لقبائل ناجا لم يكن مقبولًا بالنسبة إلى الحكومة الهندية. كانت الحكومة على استعداد لمنح فيزو العفو، وحق المرور الآمن إلى ناجالاند، وحتى منصب رئاسة وزراء الولاية إذا كانت تلك رغبته. إلا أنَّ المتمرد العجوز ظل ينتظر المزيد في إصرار عنيد، وسانده سكوت في إصراره. استثار هذا الوضع رجلًا انجليزيًّا آخر طويل العهد بالهند، هو الصحفي جاي وينت، الذي علَّق قائلًا: «إن العقبة الرئيسية أمام إرساء السلام في تلال ناجا هي تعصُّب أشخاص من قبيل مايكل سكوت وديفيد أستور، اللذين سمح كل منهما لفيزو باستغلاله. وكلاهما لا يدرك إطلاقًا الشيء الموضوع على المحَكِّ بقَبول مطالبة قبائل ناجا بالانفصال الكامل.»57
تمثَّل انهيار محادثات السلام في نوبة من الهجمات على أهداف مدنية؛ ففي يوم ٢٠ أبريل فُجِّرَت قنبلة في قطار في آسام العليا، وراح ضحيتها خمسة وخمسون راكبًا. وبعد ثلاثة أيام حصد انفجار على قطار آخر أرواح أربعين شخصًا. كان الراديكاليون في قبائل ناجا آنذاك على اتصال ببكين، التي التمسوا منها العون لاستئناف معركتهم.58
خيَّم الِاضْطِراب على القبائل الحدودية، وكذلك في أجزاء من قلب الهند؛ فقد أشعلت نوبات نقص الغذاء في منطقة بَستار — في وسط الهند — فتيل حركة شعبية بقيادة المهراجا المخلوع، برافير تشاندرا بهانج ديو؛ فقد زعم برافير تشاندرا وأتباعه أنَّ الرخاء لن يعود إلا عندما يعود هو — الوريث الشرعي — إلى كرسي الحكم. كان من المعتاد أن يُعتبر المهراجا شبه إله، والوسيط الرئيسي بين الناس وآلهتهم؛ فكان رجلٌ مثل برافير تشاندرا، الذي بلغت غرابة أطواره حد الجنون — وكان ذلك سبب إحلال الحكومة شقيقه محله — يحظى بتبجيل شعبه رغم ذلك؛ فثارت سلسلة من التظاهرات المطالبة بإعادته إلى الحكم، ثم خرج عدة آلاف يوم ٢٥ مارس في مسيرة إلى العاصمة القديمة، جاجدالبور. ودارت معركة بين القبائل التي استخدمت الأقواس والسهام من ناحية، وبين الشرطة التي استخدمت الغاز المسيل للدموع والرصاص من ناحية أخرى؛ فعندما انقشعت سحب الدخان عُثر على نحو أربعين قتيلًا، أحدهم شرطي والبقية من القبائل. وكان ممن قُتِلوا برافير تشاندرا نفسه. كانت تلك — نقلًا عن رئيس وزراء ماديا براديش، في رسالة كتبها إلى وزير الداخلية في نيودلهي — «واقعة مأساوية»، «صادمة ومؤسفة».59
تحولَّت رئيسة الوزراء الجديدة بارتياح من تلك التمردات إلى إقامة ولاية منفصلة للسيخ؛ ففي الحرب ضد باكستان، أبدى كثير من قواد الجيش وكذلك الجنود السيخ من ولاية البنجاب تميُّزًا، وكذلك البنجابيون العاديون؛ فقد فتح المزارعون أكشاكًا على جانب الطريق لإطعام الجنود ما لَذَّ وطاب، وفتح آخرون منازلهم، بينما عكف البعض على تمريض الجرحى. وحسبما تذكر الجنرال القائد، فقد «هبَّت المقاطعة بأكملها هَبَّة رجل واحد. ومُدَّت يد العون للقضية دون تحفُّظات».60
وقد أجبرت شجاعة السيخ في الحرب حكومة الهند على تلبية الطلب الذي ما فَتِئوا يدفعون به منذ زمن طويل؛ ففي مارس ١٩٦٦، أوصت لجنة نواب في البرلمان بتقسيم ولاية البنجاب القائمة إلى ثلاثة أجزاء؛ بحيث تتبع المناطق الجبلية ولاية هيماجَّل براديش، بينما تُؤَلِّف المناطق الشرقية ذات الأغلبية الهندوسية ولاية جديدة، هي ولاية «هاريانا». وما تخلَّف بعد حذف تلك الأجزاء أصبح — أخيرًا — ولاية البنجاب الناطقة بالبنجابية وذات الأغلبية السيخية أيضًا.61

٩

في شهر مارس أيضًا ذهبت رئيسة الوزراء في أول رحلة رسمية لها خارج البلاد؛ فمرَّت بباريس ولندن، لكن وجهتها الرئيسية كانت الولايات المتحدة، البلد الذي كان لدى الهند رغبة شديدة في نيل رضاه وحبوبه؛ لأنَّ الاستراتيجية الزراعية الجديدة كانت ستستغرق بعض الوقت حتى تأتي بنتيجة. كان سي سوبرامانيَم قد حرث الأرض المحيطة بمنزله في دلهي بهدف زراعة نوع جديد من القمح عالي الإنتاجية، ضمن سلسلة من التجارب التي أُجْرِيَت لاختبار تلك البذور الجديدة في الظروف المحلية؛ ففي ذلك الوقت، اقتضت الضرورة على المزارعين الأمريكيين المساعدة في توفير الغذاء للهنود.62
كان العنوان الرئيسي الذي تصدَّر وصف إحدى صُحُف ألاباما لزيارة السيدة غاندي هو: «زعيمة الهند الجديدة تأتي مستجديةً». خلفَّت السيدة غاندي انطباعًا أكثر إيجابية في الساحل الشرقي، إذ أحسنت التعامل مع الصحافة وأبهرت عامة الناس بأناقة ملبسها ورُقِيِّ سلوكها. وكذلك بدا أنَّها راقت لليندون جونسون.63 ولكن بعد عودتها، قرَّر جونسون التضييق على المستَجْدين؛ ففي حين طلبت الهند التزامًا سنويًّا بالمعونة الغذائية، كان يرسل السفن شهريًّا. ووصف السفير الأمريكي في نيودلهي ممارسة جونسون في سياق شخصي بأنَّها «قسوة؛ إذ تُجْبِر الهنود على الخضوع، وتضطرهم إلى التزلُّف، وتَسْتَوْجِب جرح كبريائهم». وإذ يئس جونسون من قدرة الهنود على ترتيب أمورهم، اقترح ذات مرة إرسال ألف مرشد زراعي لتعليمهم كيف يزرعون. رأى سفيره الفكرة «مفزعة»؛ فالمسألة ليست أن هؤلاء الأمريكيين لا يفقهون شيئًا عن الزراعة في آسيا فحسب، وإنما أنَّهم إلى جانب ذلك سيجلبون معهم «٩٥٠ زوجة، و٢٥٠٠ طفل، و٣ آلاف مكيف هواء، وألف سيارة جيب، وألف ثلاجة كهربائية (كثير منها لن تعمل)، و٨٠٠ أو ٩٠٠ كلب وألفَي أو ٣ آلاف قطة».64
خلال عامَيْ ١٩٦٥ و١٩٦٦ استوردت الهند ١٥ مليون طن من القمح الأمريكي بموجب البرنامج بي إل ٤٨٠، لإطعام ٤٠ مليون شخص. وقد صرَّحت مذكرة من إعداد وزارة الزراعة الأمريكية دون مواربة بأنَّ «الهند مُعدَمَة». وعندما شَحَّت الأمطار مرة أخرى في عام ١٩٦٦ كانت الآفاق المتوقعة أمام الهند هي «عام آخر من الجفاف، وعام آخر من الاعتماد الشديد على واردات برنامج بي إل ٤٨٠، وعام آخر من الظهور أمام العالم بمظهر المتسولين».65
رأى بعض الأشخاص في مؤسسة الحكم بواشنطن الهنود منافقين، لطلبهم المعونة بيد ومهاجمتهم السياسة الخارجية الأمريكية بالأخرى؛ فقد خلَّفت انتقادات نيودلهي لحرب فيتنام ضغائن عميقة الأثر. ولم يُسَرَّ ليندون جونسون لإرسال الرئيس الهندي، إس رادها كريشنان، رسالة يحثُّ فيها «الولايات المتحدة على وقف قصف فيتنام الشمالية من طرف واحد ودون أي شروط»، مضيفًا أنَّه عندما يحدث ذلك، «سوف تأتي بقية دول العالم بالمفاوضات، من خلال قوة الرأي العام العالمي».66

١٠

أسفر شراء الأسلحة والحبوب من الخارج، إلى جانب استيراد الماكينات والخامات اللازمة للتنمية الصناعية، عن هبوط خطير في احتياطيات العملة الأجنبية لدى الهند، التي انخفضت إلى ٦٢٥ مليون دولار في مارس ١٩٦٦؛ فقررت الحكومة مواجهة ذلك الهبوط بخفض قيمة الروبية في شهر يونيو؛ فسعر صرف الدولار الذي كان يعادل ٤٫٧٦ روبية أصبح ٧٫٥٠ روبية.67

كان كلٌّ من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي قد أوصى بخفض قيمة العملة، وإنْ كان قدر التخفيض فاق حتى توقعاتهما. إلا أنَّ تلك الخطوة قُوبِلَت بعاصفة من الاحتجاج من جانب اليساريين؛ فقد زعم النائب البرلماني الشيوعي هيرِن موكرجي أنَّ تخفيض العملة فُرِضَ على الهند «من جانب مانحي المعونة الأمريكية المتآمرين»، فيما اعتبره اتحاد عُمال شيوعي «خيانة وطنية مشينة».

عارضت قطاعات كبيرة من حزب إنديرا غاندي نفسه قرار خفض قيمة العملة؛ فكامراج — مثلًا — رأى فيه تقويضًا للسياسة الوطنية للاعتماد على الذات. إلا أنَّ حزب سواتنترا المناصر لحرية السوق أيَّد الخطوة، وقال متحدثه الرئيسي في البرلمان، مينو ماساني، إنَّه: «إذا مثَّل خفض قيمة العملة خطوة أولى في إطار سياسة اقتصادية واقعية عوضًا عن السياسات غير العملية التي تتَّبعها حكومة حزب المؤتمر، فسيأتي ببعض النتائج المستحسَنَة من حيث زيادة الصادرات وتشجيع تدفق رءوس الأموال الأجنبية.»

وكتبت رئيسة الوزراء إلى صديق لها قائلةً إنَّ قرار خفض قيمة العملة كان «قرارًا صعبًا ومؤلمًا إلى أقصى حد»، ولم يُتَّخذ إلا «حين لم تأتِ إجراءات تلطيفية عدة أخرى جُرِّبت على مدار العامين الماضيين بنتائج مُرضية».68 وأضافت مجلة دلهي الليبرالية «ثوت» إلى ما سبق أنَّ ذلك كان «أصعب قرار اتَّخذته الحكومة الهندية منذ استقلال هذا البلد». وكان محررو المجلة يأملون في أنْ يُفْضي القرار إلى إعادة توجيه السياسة الاقتصادية، إزاء إنتاج سِلع تصديرية وتعزيز وضع الهند التجاري. وحسبما ورد في المجلة، فإنَّ تخفيض قيمة العملة ينبغي أنْ «يستتبع منطقيًّا نهاية التوسُّع الهائل في جهودنا المبذولة لتنمية اقتصاد الدولة».69

إلا أنَّه في نهاية الأمر لم يصاحب خفض قيمة العملة تحرير النظام التجاري؛ فقد ظلت الضوابط على تدفقات رءوس الأموال قائمة، ولم تحدث دَفعة من أجل زيادة الصادرات؛ فالظاهر أنَّ الانتقادات من داخل الحزب وخارجه أثنت السيدة غاندي عن تشجيع إجراء إصلاحات أكثر شمولية. ولم يكن تأييد حزب سواتنترا ليجدي نفعًا أيضًا، بل إنَّه — لو كان له أثر يُذْكَر — فقد كان سيميل إلى دفع ابنة نهرو تجاه اليسار من جديد.

١١

خلال عام ١٩٦٦، كان المكان الذي خيَّم عليه سكون غير معتاد هو وادي كشمير؛ فقد كانت حرب ١٩٦٥ قد أضعفت موقف الانفصاليين. وكانت إدارة رئيس وزراء الولاية — جي إم صديق — تتسم بالكفاءة والنزاهة، وبدا ذلك جليًّا مقارنةً بنظام باكشي غلام محمد. وكان أداء قطاع السياحة حسنًا، وكذلك سوق المصنوعات اليدوية الكشميرية.

وفي أواخر صيف عام ١٩٦٦، كتب جايا براكاش نارايان رسالة مميزة إلى السيدة غاندي، سعى فيها إلى حلٍّ دائم لمشكلة «ابتُلي بها هذا البلد طوال ١٩ عامًا». وأضاف جيه بي: «لقد شَوَّهَتْ كشمير صورة الهند أمام العالم أكثر من أي شيء آخر.» وحتى في ذلك الوقت، حين خَيَّمَ السلام على السطح، فقد قبع أسفله «سخط عميق الجذور واسع النطاق فيما بين الناس». ورأى أنَّ السبيل الوحيد لإنهاء ذلك الوضع هو إطلاق سراح الشيخ عبد الله بعد التعهُّد «بالحكم الذاتي الداخلي الكامل؛ أي الرجوع إلى الشروط الأصلية للانضمام». وكان جيه بي يرى أنَّ التوصُّل إلى تسوية مع عبد الله «قد يمنحنا الفرصة الوحيدة التي قد تُتاح أمامنا لحل مشكلة كشمير». وذلك لأنَّ «الشيخ عبد الله هو الزعيم الكشميري الوحيد القادر على استمالة الرأي العام لمسلمي الوادي إلى صفه».

كانت المحادثات التي خاضها الشيخ عبد الله مع تشو إن لاي قد أدت إلى نعته ﺑ «الخائن»، ولكنَّ جيه بي رأى أنَّ ذلك التصرُّف — وإنْ كان أهوج — لم يكن يندرج تحت وصف الخيانة العظمى مطلقًا. وعلى أي حال، فقد عاد الشيخ عبد الله إلى الهند للرد على منتقديه. وقد التقى رفيق جيه بي — نارايان ديساي — بالشيخ في كودايكانال، ووجده ميَّالًا لفكرة الحكم الذاتي الكامل؛ ففي أعقاب الحرب الأخيرة مع باكستان، رأى عبد الله بجلاء استحالة استقلال كشمير. ومن ثم اقترح نارايان آنذاك أنْ تطلق الحكومة سراح عبد الله وتسمح له بالتنافس على الانتخابات العامة لعام ١٩٦٧، بغية طمأنة الكشميريين إلى أنَّهم «سوف يتخلصون من الشرطة الهندية المتسلِّطة ويتمتعون بالحرية الكاملة في تنظيم حياتهم كما يحلو لهم». فإذا خاض الشيخ المعركة الانتخابية وفاز فيها، وإذا «أمكن إثبات أن الكشميريين اتَّخذوا ذلك القرار بحرية في إطار انتخابات أُجْرِيَت تحت إدارة زعمائهم الأصليين، فلن يتبقَّى أمام باكستان مجال للتدخل في شئونهم».

وذكر نارايان أنَّ «عقد انتخابات عامة في كشمير بينما الشيخ عبد الله في السجن يشبه أمر بريطانيا بإجراء انتخابات في الهند بينما جواهر لال نهرو في السجن؛ فلا يمكن لشخص مُنْصِف أنَّ يعتبرها انتخابات مُنْصِفَة». كان من المفترض أن تلقى تلك النقطة صدًى عند السيدة غاندي، ولكن تحسُّبًا لعدم حدوث ذلك، قدَّم جيه بي نبوءة حزينة مفادها الآتي:
إذا ضيَّعنا فرصة استغلال الانتخابات العامة المقبلة لكسب رضا الشعب الكشميري عن وضعه داخل الاتحاد، فلا يسعني أنَّ أرى وسيلةً أخرى أمام الهند لحل المشكلة. وسنكون واهمين إنْ ظَننَّا أنَّنا سوف نتمكن في النهاية من إنهاك هذا الشعب وإجباره على تقبُّل الاتحاد بسلبية على الأقل، فربما أمكن تصوُّر حدوث ذلك لو كان موقع كشمير الجغرافي مغايرًا لحقيقته. أما في موقعها الحالي، وفي ظل السخط الذي يعتمل في صدور الناس، فإنَّ باكستان لن تدعها في سلام أبدًا.70
ردَّت رئيسة الوزراء برسالة موجزة، شكرت فيها جيه بي «على مشاركتك إيانا آراءك بشأن كشمير وسيادة الشيخ».71 ولكن لم يُتَّخَذ أي إجراء عملًا برسالته، وظل الشيخ عبد الله في محبسه. إلا أنَّ رئيسة الوزراء زارت في أكتوبر ١٩٦٦ وادي كشمير لأول مرة منذ توليها مهام منصبها، وتحدَّثت في الاستاد الرياضي في سريناجار عن «المحبة الخاصة» التي تكنُّها لكشمير والكشميريين. حضر حشد كبير من الناس لسماعها، بل إنَّ السيدة غاندي أينما ذهبت في الوادي، كان الناس يصطفُّون في الطرقات لرؤيتها.72

١٢

في ذلك الوقت بدت كشمير ساكنة، وشعبها هادئًا. ولكن في الجنوب — في أندرا براديش — كان ثمة اضْطِرابات في طَوْر التحضير. خرجت الحركة الاحتجاجية تحت قيادة طُلَّاب، طالبوا بالتنفيذ الفوري لمقترح قدَّمته لجنة التخطيط لإقامة مصنع صلب في فيشاكاباتنام (فيزاج). كانت الموافقة على إنشاء المصنع قد صدرت منذ أعوام عدة، لكن الأزمة المالية التي تعرضت لها الحكومة أدَّت إلى إرجاء الشروع فيه.

تسبَّب قرار تأجيل إنشاء مصنع فيزاج للصلب في تعالي صيحات الاحتجاج في ريف أندرا. بالنسبة إلى الشباب، كانت فكرة المصنع الحكومي الضخم لا تزال تحمل سحرًا؛ إذ انطوت على الأمل في توفير فرص عمل منتِجة؛ فسدَّ المتظاهرون الطرق، وأوقفوا القطارات، وهاجموا المتاجر ومكاتب الأعمال. وانتشرت الحركة في جميع أنحاء الولاية، وقال أحد المصادر: «يبدو أنَّ مجتمع طلاب جونتور بأكمله في الشارع.» اسْتُدْعِيَت الشرطة في عدة مدن، وفي فيزاج نفسها اضطلعت القوات البحرية بحماية المنشآت المهمة. أُضْرِمَت النيران في محطة قطار في أحد الأماكن، بينما أطلقت الشرطة النار على جمهرة من الناس في مكان آخر. وأتلف الطلاب المنارة في فيزاج وأجبروا محطة الإذاعة على إيقاف البثِّ المباشر. وأُلْغِيَت كافة القطارات المارَّة من الولاية.73
وفي الوقت نفسه، لاحت المجاعةُ في الأفق تجاه الشمال، في بيهار. كانت المناطق القبلية هي الأكثر تضرُّرًا؛ ففي منطقة مونجر بلغ الأمر بقبائل الأديفاسي حدَّ أكْل جذور النباتات؛ فقد حدث نقص حاد في الغذاء والعَلَف، فراح الفقراء ينهبون الحبوب هنا وهناك، وأصبحت الطوائف الاجتماعية العليا في الريف تحيا في خوف من قيام تمرُّد أكثر شمولية.74

وأُضِيف إلى جموع الطلبة المضربين والفلاحين الجياع طائفة معارضة أكثر إثارة للعجب، وهي: المتصوِّفون أو الرهبان الهندوس، أو «السادهو»؛ فالتيار الهندوسي المتشدد كثيرًا ما طالب بوضع حد لقتل الأبقار المقدسة، ثم تحولَّت مطالبته آنذاك — بمساعدة حزب جانا سانج — إلى حركة اجتماعية.

ففي يوم ٦ نوفمبر، خرجت مسيرة هائلة في شوارع العاصمة. وكان من بين ١٠٠ ألف سائر فيها كثير من الهندوس، ملوِّحين بالرماح العادية والرماح ثلاثية الشُّعَب. وانتهت المسيرة بمؤتمر شعبي خارج مبنى البرلمان، كان المتحدث الأول فيه هو السوامي كَرباتريجي (الشهير بمعارضة مشروع قانون الأحوال الشخصية الهندوسي). وازدادت الجماهير حماسةً بفعل السوامي راميش وراناند، النائب البرلماني المنتمي إلى حزب جانا سانج الذي كان قد أُوقِف عن العمل في مجلس الشعب مؤخرًا لسلوكه غير المنضبط. وقد طَلَب إلى السادهو أنَّ يُطَوِّقوا مبنى البرلمان. ومن ثم «توجَّهت الحشود إلى مبنى البرلمان مباشرةً، هاتفةً: «يحيا السوامي راميش وراناند».» في تلك اللحظة ناشد أتَل بِهاري فَجبايي، رئيس حزب جانا سانج، السوامي أن يسحب نداءه. ولكن فات الأوان؛ فقد هجم السادهو على أبواب البرلمان، فصدَّتهم شرطة الخيَّالة. وتبعت ذلك معركة طاحنة، بالغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي من ناحية، والعِصِي والحجارة من ناحية أخرى. وإذ تصاعدت أعمدة كثيفة من الدخان فوق مجلسَي البرلمان، تراجعت الحشود، لتصبِّ غضبها على ما وجدته في طريقها؛ فدمَّرت مبنى إذاعة «أول إنديا راديو» وأشعلت النار في منزل رئيس حزب المؤتمر (كيه كامراج). وكذلك دُمِّرَت ٢٥٠ سيارة و١٠٠ دراجة بخارية و١٠ حافلات، حسب التقديرات. وبحلول المساء، كان الجيش يجوب الطرقات، لأول مرة منذ الأيام السوداء لعام ١٩٤٧.

وعلَّقت إحدى المجلات بحدة قائلةً إنَّ اضْطِرابات بقيادة رهبان أسفرت عن «فَورة من العنف والتخريب والبلطجة». وأصدر إيه بي فَجبايي بيانًا أدان فيه حقيقة أنَّ «العناصر غير المرغوب فيها، التي لجأت إلى الأنشطة العنيفة في التظاهرة المناهضة لذبح الأبقار، ألحقت ضررًا كبيرًا بالقضية الدينية».75

١٣

كان ثمة اتجاه فكري — سائد بدرجة كبيرة في الغرب — ارْتَأَى أنَّ شخصية جواهر لال نهرو والقدوة التي مثَّلها، وحدهما أبقيا على وحدة الهند وديمقراطيتها؛ فسرعة التغييرات في القيادة بعد وفاته، ونوبات الجفاف المتلاحقة، والتمردات الصغيرة التي لا حصر لها، والحرب مع باكستان؛ كل تلك العوامل مجتمعةً بدا أنها تؤكد تلك المخاوف؛ ففي ديسمبر ١٩٦٥، أعربت صحيفة «سيدني مورنينج هيرالد» عن قلقها بشأن مستقبل الديمقراطية في الهند. كان محررو الصحيفة يرون «صحوةً كاسحة للروح القومية» في الهند، وهي روح كانت «معرَّضة لخطر التحوُّل إلى الشوفينية، مع تزايد المرارة إزاء القوى الغربية». وبدا أيضًا أنَّ ذلك التعصُّب موجَّه إلى الداخل، «من أكثر ما يزعج مراقبي الموقف من الخارج هو أنَّ حرية تعبير الهنود عن الآراء الليبرالية يبدو أنها أصبحت في خطر».76
في العام نفسه — ١٩٦٥ — نشر الكاتب رونالد سيجال كتابًا كبيرًا بعنوان «أزمة الهند»؛ فقد وجد في جولة دراسية للبلاد أنَّ الهند تقف «على حافة هاوية اقتصادية»، و«الأرض … تتداعى من تحتها». وفي الوقت نفسه، كانت «مكانتها الدولية تنخفض باستمرار». فمع تفشِّي الفقر ونقص المؤن والصراعات الإقليمية والفساد، كانت الهند تُذَكِّر سيجال أحيانًا بألمانيا في عهد جمهورية فايمار، وفي أحيان أخرى بالصين في عهد حزب الكومينتانج. ولم يكن لديه أمل كبير في صمود الديمقراطية؛ فكان من «البدائل السلطوية المتاحة: الشيوعيون على اليسار، والطائفية المتشددة على اليمين» ومن المرجح أن ينجح أحدهما قبل مرور سنين طويلة.77
كذلك كان القِسُّ مايكل سكوت من اليائسين من مستقبل البلاد أيضًا؛ فقد وجده صديق له زاره في مايو ١٩٦٦:
في حالة اكتئاب شديد، ليس بسبب فشله فيما يتعلق بتسوية ناجا، وإنما بسبب الهند بصفة عامة؛ فهو يرى أنَّ الجيل الأكبر والأقدر يحتضر ويحل محله ذوو الهامات القصيرة الفاسدون غير الأكفاء بالمرة. وهو لديه شعور بأنَّ الهند سوف تتفكك إن آجلًا أو عاجلًا، وأنَّ الأمر بأكمله سيصبح مستنقعًا شبيهًا بفيتنام تنجذب إليه بريطانيا والولايات المتحدة.78
عندما شحَّت الأمطار الموسمية مجددًا عام ١٩٦٦، كان المتوقع حدوث مجاعة جماعية عوضًا عن تفكك الهند أو إبطال الديمقراطية؛ فمن وجهة نظر العديد من أنصار البيئة الغربيين، بدت الهند تقدم برهانًا صارخًا على نبوءة مالتوس الزاعمة أنَّ معدل النمو في تعداد السكان سيفوق إمدادات الغذاء يومًا ما. وكتب عالم الأحياء المحترم باول إرليش من جامعة ستانفورد أنَّه بينما فَهِمَ «الانفجار السكاني فكريًّا منذ فترة طويلة»، فقد فهمه «معنويًّا ذات ليلة قائظة في دلهي منذ عامين تقريبًا». فإذ مضت سيارة الأجرة التي ركبها في الشوارع ببطء، رأى من حوله «أُناسًا يأكلون ويغتسلون وينامون ويتزاورون ويتجادلون ويصرخون، وأناسًا يدفعون بأيديهم من نافذة السيارة متسوِّلين، وأناسًا يتبرَّزون ويتبوَّلون، وآخرين متعلقين بالحافلات، وآخرين يسوقون الماشية. وأناسًا، وأناسًا، وأناسًا».79
في عام كتابة إرليش هذه السطور، كان ثمة عالِمَا أحياء أمريكيان آخران على وشك الانتهاء من كتاب زعما فيه أنَّ «اليوم، أصبحت الهند أولى الدول الجائعة التي تقف على شفا المجاعة والكوارث». وغدًا، «ستأتي المجاعات»، و«ستصحبها بلا شك أعمال شغب وغيرها من القلاقل المدنية التي ستكون الحكومة أضعف من السيطرة عليها». وكان عام ١٩٧٥ هو العام المُزمَع أن تصير فيه «الاضْطِرابات المدنية، والفوضى، والدكتاتوريات العسكرية، والتضخم الجامح، وتعطُّل المواصلات، والاضْطِرابات الفوضوية، هي القاعدة».80
وفي الحقيقة، حتى المراقبون المطَّلعون على الموقف من الهنود كان بعضهم قد بدأ تنتابه مخاوف بشأن مستقبل بلده؛ ففي الأسبوع الأول من نوفمبر ١٩٦٦، نشرت صحيفة موالية لحزب المؤتمر الهندي في المعتاد مقالًا افتتاحيًّا بعنوان «الموقف الأكثر قتامة على مدار ١٩ عامًا». وأُعزِيَت إضرابات الطلاب ونقص الغذاء إلى «الانهيار التقريبي للسلطة». وتنبأ المقال بأنَّ «موجة العنف ستزيد حدتها» مع «تحوُّل أجزاء أخرى من البلاد إلى نماذج أخرى من بيهار». وورد في صحيفة «هندوستان تايمز» أنَّ «مستقبل البلاد مظلم لعدة أسباب، كلها يمكن إرجاعها بصورة مباشرة إلى فترة حكم حزب المؤتمر البالغة ١٩ عامًا».81

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤