الفصل الثالث والعشرون

الحكومة دون حزب المؤتمر

جميع أعمال والدي مؤلَّفة في السجن؛ فأنا أوصي بحياة السجون ليس فقط للكُتَّاب الطموحين، وإنما للسياسيين الطموحين أيضًا.

إنديرا غاندي، ١٩٦٢

١

في يناير ١٩٧٧، أثناء الإعلان عن عقد انتخابات جديدة، ذَكَّرَت رئيسة الوزراء بأنَّه «منذ نحو ثمانية عشر شهرًا، كان بلدنا الحبيب على شفا كارثة»، وأنها فرضت حالة الطوارئ «لأن أحوال الأمة لم تكن طبيعية بالمرة»، أما وقد «تماثلت للشفاء»، فمن الممكن عقد انتخابات.

أثناء حديث السيدة غاندي في الإذاعة، أُطْلِقَ سَراح معارضيها من سجونهم في جميع أنحاء البلاد. وفي اليوم التالي، ١٩ يناير، التقى زعماء أربعة أحزاب في منزل مورارجي ديساي بنيودلهي. كانت تلك الأحزاب هي: جانا سانج، وبهاراتيا لوك دال (حزب مُكَوَّن من مزارعين بالأساس، بقيادة تشاران سينج)، والحزب الاشتراكي، وحزب المؤتمر «أوه» بقيادة مورارجي نفسه. في اليوم التالي، أخبر ديساي الصحافة أنهم قرروا خوض الانتخابات تحت رمز واحد واسم واحد. وفي يوم ٢٣ يناير، أُعْلِنَ تأسيس حزب جاناتا (الشعب) رسميًّا في مؤتمر صحفي بحضور جايا براكاش نارايان.1

بعد تَشَكُّل حزب جاناتا بعشرة أيام، أعلن جاجيفان رام أنه سوف يترك حكومة الاتحاد ويستقيل من حزب المؤتمر. كان رام — المعروف ببابوجي — عضوًا في حزب المؤتمر طوال عمره، ووزيرًا بارزًا في حكومتَيْ نهرو وإنديرا غاندي، والأهم من ذلك كله أنَّه كان الزعيم المعترف به للطوائف الْمُجَدْوَلَة (المنبوذة سابقًا)، التي شكَّلت نحو ١٥٪ من جمهور الناخبين. وكان رام هو مَن اقترح القرار الداعم للطوارئ في مجلس الشعب الهندي؛ فجاءت استقالته صدمةً لحزب المؤتمر واعْتُبِرَت نذيرًا بأمور آتية؛ لأنَّ بابوجي كان مشهورًا بحنكته السياسية؛ فاعتبر كثيرون قرارَ تركه حزب المؤتمر علامةً على أنَّ تلك السفينة وإنْ لم تكن تغرق بعدُ، فإنَّ بها تسريبًا خطيرًا. وبعد استقالة رام من حزبه القديم، أنشأ حزبًا جديدًا، يُدْعَى حزب المؤتمر من أجل الديمقراطية، وقال إنَّ حزبه ذاك سوف يسعى مع حزب جاناتا إلى الحصول على مقاعد في البرلمان بحيث لا يستفيد حزبُ المؤتمر من انقسام أصوات المعارضة.

تقرَّر عقد الانتخابات في الأسبوع الثالث من مارس، وبدأت حملة المعارضة بتجمُّع حزبي حاشد بميدان رامليلا في نيودلهي يوم الأحد ٦ مارس. وفي محاولة يائسة لخفض أعداد الحاضرين، اختارت الحكومة عرض فيلم رومانسي محبوب يُدعى «بوبي» على التليفزيون في نفس وقت عقد التجمُّع الحزبي. عام ١٩٧٧ كان ثمة قناة تليفزيونية واحدة، تديرها الدولة، وفي الظروف العادية كان نصف سكان دلهي البالغين سيقبعون أمام شاشات التليفزيون. ولكن كما علَّقت صحيفة موالية لحزب جاناتا في نشوة، فقد فاز بابوجي على بوبي ذلك اليوم. حضر مليون شخص لسماع حديث جايا براكاش وجاجيفان رام، إلى جانب زعماء أحزاب المعارضة الأخرى، التي تعهَّدت كلها آنذاك بتوحيد جهودها في معركة مشتركة ضد إنديرا غاندي وحزب المؤتمر.2
في عاصمة الهند التجارية، بومباي، شهد يوم ٦ مارس وصول المجلة الأكثر رواجًا في المدينة إلى أكشاك الصحف حاملةً حوارين؛ أحدهما مع إنديرا غاندي والآخَر مع جايا براكاش نارايان، في سبق صحفي مزدوج حقيقي. قالت رئيسة الوزراء للمحاور إنَّ أعضاء حزب جاناتا «متحدون ضدي فحسب، ولكن ليس على أي برنامج إيجابي». فلا يمكن للاسم الجديد أن يواري «الهدفَ القديم ذاته؛ أَلَا وهو التخلُّص من إنديرا غاندي». وزعم جايا براكاش في حواره أنَّ «حزب جاناتا ليس أكثر اختلافًا في داخله من حزب المؤتمر» الذي ينطوى على «شتى ضروب المصالح المكتسَبة ويعجُّ بالخلافات الداخلية المعتملة فيه». وعندما طُلِبَ إليه توجيه رسالة إلى قراء المجلة، قال نارايان إنَّهم ينبغي أن يُصَوِّتوا دون خوف، ويتذكَّروا أنَّه: «إذا صَوَّتُّم للمعارضة فستُصَوِّتون للحرية، وإذا صَوَّتُّم لحزب المؤتمر فستُصَوِّتون للدكتاتورية.»3
كان أبطال نزاعات الفترة من عام ١٩٧٣ إلى ١٩٧٥ هم أيضًا الشخصيات الرئيسية في الحملة الانتخابية لعام ١٩٧٧؛ فقد طاف جايا براكاش أنحاء البلاد، على الرغم من كِبَر سِنِّه وسوء حالته الصحية؛ فتحدث فيما بين ٢١ فبراير و٥ مارس في باتنا وكلكتا وتشانديجار وحيدر أباد وإندور وبونا ورَتلام — حيث لم يكن يتوقَّف إلا لقضاء بعض الوقت على جهاز الغسيل الكلوي. وحذَّرَ جمهورَه في كل مكان قائلًا: «ستكون هذه هي الانتخابات الحرة الأخيرة التي تُعْقَد إذا ما أعاد التصويتُ حزبَ المؤتمر إلى السلطة»، ثم «ستتحوَّل تسعة عشر شهرًا من الطغيان إلى تسعة عشر عامًا من الإرهاب».4 أما السيدة غاندي، فنفت في خُطَبها أنَّ حزبها حِكْر على عائلة واحدة. وعلى أي حال، «قليل من العائلات في العالم» يتمتَّع بسجلٍّ مماثلٍ من الخدمة والتضحية. وأقرَّت بحدوث بعض التجاوزات أثناء فترة الطوارئ، إلا أنَّها دافعَتْ عن ذلك النظام باعتباره كان ضروريًّا في تلك الفترة، وقالت في إصرار: «لا يعنينا مَن ينتقدنا؛ فعلينا أنْ نمضي على الطريق الصحيح مسترشدين بالسياسات والبرامج والمبادئ السليمة.»5
في شمال الهند على الأقل، اعْتُبِرَت تلك الانتخابات استفتاءً على تلك السياسات والبرامج، لا سيما برنامج بعينه، وهو: التعقيم الإجباري؛ فحسبما أفاد أحد الصحفيين: كان ثمة «كراهية عنيفة للعمليات الإجبارية لقطع القناة المنوية»؛ فتلك «القضية المفرطة الإثارة للمشاعر والمتفجِّرة لأبعد حدٍّ أصبحت بؤرةَ مشاعر الإحباط والسخط المكبوتة كافة». فقد كان الناخبون يطالبون مرشحي حزب المؤتمر بإبراز شهادات التعقيم الخاصة بهم، وعندما يعجزون، كانوا يطلبون منهم المغادرة بكل بساطة. وضربت الشعارات الانتخابية للمعارضة أيضًا على ذلك الوَتَر؛ إذ نعتت حزب المؤتمر بمركز الإخصاء الرسمي، وحذَّرت من أنَّ إعادة انتخاب ذلك الحزب ستكون بمنزلة إعادة التعقيم الإجباري. واستهدفت شعاراتٌ أخرى كبيرَ المروجين لذلك البرنامج؛ على غرار: «في أرض غاندي ونهرو، مَن يكون ذاك المحتال سانجاي غاندي؟» كان من الفئات النشطة بصفة خاصة في الحملة الانتخابية مُعلِّمو المدارس وصغار الموظفين، أولئك الذين أُوقِفَت ترقياتهم أو نُقِلوا من أماكن خدمتهم عقابًا لهم على عدم الوفاء بالحصص التي كُلِّفوا بها فيما يتعلق بتعقيم الذكور.6
في ليلة ٢٠ مارس ١٩٧٧، عُلِّقَت نتائج الانتخابات خارج مكاتب الصُّحُف في دلهي لدى وصولها، وورد في صحف اليوم التالي أنَّ الجماهير «كانت منحازة ومناصِرة لحزب جاناتا بوضوح»، وقد راحت تُرَدِّد الهتافات «بينما تساقط قادة حزب المؤتمر واحدًا تلو الآخَر». وعندما أُذِيعَ نبأ هزيمة السيدة غاندي في مقعدها في رايباريلِّي، الذي كان آمِنًا من قبلُ، «بدأ الناس الذين تدفَّقوا في الشوارع يهتفون بالشعارات في طَرَبٍ ويطلقون الألعاب النارية». وأعقبت أنباء هزيمة سانجاي غاندي هتافات أعلى واحتفالات أطول أمدًا. خَسِرَت السيدة غاندي أمام غريمها القديم الذي قاضاها من قبلُ، راج ناراين. وفي دائرة أميتي المجاورة، هُزِم سانجاي على يد زعيم طُلَّابي مغمور.7
كان هزيمة الأم وابنها جزءًا من هزيمة نكراء أشمل تعرَّضَ لها حزب المؤتمر في ولاية أوتَّر براديش؛ فقد خَسِرَ مقاعدَ الولاية الخمسة والثمانين كلها، ومقاعد ولاية بيهار المجاورة الأربعة والخمسين كلها، أمام ائتلاف جاناتا وحزب المؤتمر من أجل الديمقراطية. وفي ولاية راجستان لم يَفُزْ حزب المؤتمر إلا بمقعد واحد من إجمالي خمسة وعشرين مقعدًا، في حين فاز بمقعد واحد من أصل أربعين في ولاية ماديا براديش. عُوِّضَت تلك الخسائرُ بعض الشيء بأداء الحزب الجيد في جنوب الهند، حيث كانت الطوارئ خفيفةَ الوطأة؛ ففاز حزب المؤتمر بواحد وأربعين مقعدًا من أصل اثنين وأربعين في ولاية أندرا براديش، وبستة وعشرين من أصل ثمانية وعشرين في كارناتاكا، وأحد عشر مقعدًا من أصل عشرين في كيرالا، وأربعة عشر من أصل تسعة وثلاثين في تاميل نادو؛ فصعود حزب جاناتا لم يكن قد طال الجنوب تقريبًا، ولكن على الرغم من ذلك، فإنه نظرًا لارتفاع معدلات الكثافة السكانية وحصص المقاعد في الولايات الشمالية، كان حزب المؤتمر ينقصه الكثير حتى يُحَقِّق الأغلبية؛ فقد رَبِحَ ١٥٣ مقعدًا في مجلسٍ مكوَّن من ٥٤٠ مقعدًا؛ أيْ إنَّ عدد المقاعد التي حصل عليها انخفض عن انتخابات ١٩٧١ بأكثر من ٢٠٠ مقعد. وفي المقابل، نجح ٢٩٨ من مرشحي حزبي جاناتا وحزب المؤتمر من أجل الديمقراطية.8
كشفت الانتخابات عن انقسام إقليمي، وكذلك انقسام قائم على الطائفة الاجتماعية والانتماء الديني؛ فكانت ثمة فئتان على وجه الخصوص، لطالما اعْتُبِرَتا من الناخبين الأوفياء للحزب الحاكم، تخلَّتَا عن حزب المؤتمر هذه المرة: إحداهما كانت الطوائف الْمُجَدْوَلَة، التي دفع انشقاقُ جاجيفان رام كثيرًا منها إلى التصويت لحزب جاناتا. أما الفئة الأخرى فكانت المسلمين، الذين عانوا الأمَرَّيْن على يد البرامج التي تبنَّاها سانجاي؛ فعندما دُعِي لعقد الانتخابات، طلب الإمامُ القوي التأثير لمسجد دلهي الأكبر، المسجد الجامع، من المسلمين التصويتَ ضد حزب المؤتمر، وهذا ما فعله معظمهم، ممَّا ساهَمَ بدرجة كبيرة في الأداء الكارثي للحزب في شمال الهند.9

تحدَّثَ المعلِّقون المتعقِّلون عن «موجة جاناتا»، بينما تحدَّث المعلِّقون الأقل تعقُّلًا عن «ثورة»؛ فلأول مرة في تاريخ تلك الدولة الذي امتدَّ ثلاثين عامًا، تمكَّنَ حزب غير حزب المؤتمر من السيطرة على الحكومة. ولم يكن أحدٌ من الهنود الأحياء عام ١٩٧٧ يدري كيف ستكون الحياة دون وجود حزب المؤتمر بصفته الحزب السياسي المسيطر والحاكم للبلاد. وقليلون عرفوا كيف تكون الحياة دون وجود نهرو أو إنديرا غاندي بصفته السياسي المسيطِر والحاكِم.

كانت نتائج الانتخابات مبعثَ سرورٍ لكثيرين، وغضبٍ للبعض، ومفاجأة للجميع؛ ففي رسالة كتبتها السيدة غاندي لصديقة لها، أرجعت هزيمتها إلى قوًى خبيثة، فكتبت: «دائمًا ما كان الناس يظنون أنني أتخيَّل وأبالغ في رَدِّ فعلي، ولكن كانت ثمة مؤامرةٌ متغلغلة، وكان من المحتم أن تكتسحنا.»10 وتبنَّى مُحَرِّرٌ كان من أقوى المناصرين لها الرؤيةَ البعيدة المدى الأكثر تفاؤلًا؛ فمِثل ونستون تشرشل، قادت إنديرا غاندي أمتها إلى النصر في الحرب، ومثله هتف لها الناس وهلَّلوا، ومثله أيضًا، أطاح بها شعب جاحد. كان في ذلك عزاءٌ للسيدة غاندي، وكذلك درسٌ لمَن حلَّوا محلَّها؛ فنظام حزب جاناتا وحزب المؤتمر من أجل الديمقراطية «سرعان ما سيتعلَّم أنَّ الوعود مثل الحلوى، ولكن التنفيذ مثل جرعة الدواء المُرِّ. والناس متقلِّبون كالزئبق؛ فالجماهير المهلِّلة بالأمس قد تتحوَّل إلى حشودٍ غاضبةٍ غدًا».11

٢

خلافًا لحزب المؤتمر، لم يَخُضْ حزب جاناتا حملته الانتخابية تحت قيادة زعيم واحد؛ فبعد ظهور نتائج الانتخابات، ثار جدل حول مَن ينبغي اختياره رئيسًا للوزراء. لقد شعر مؤيدو تشاران سينج أنَّ اجتياح الائتلاف لشمال الهند جعله الاختيار المنطقي. وذهب أعوان جاجيفان رام إلى أنَّه نظرًا لأن انشقاقه عن حزب المؤتمر كان له تأثير حاسم، فينبغي وضعه في الاعتبار. وإضافة إليهما، كان هناك مورارجي ديساي، الذي أوشك على أن يصبح رئيسًا للوزراء عام ١٩٦٤، ومرةً أخرى عام ١٩٦٧.

خلال الأسبوع الأخير من مارس، أُجْرِيَت حملات محمومة لالتماس الأصوات للمرشحين الثلاثة. وفي النهاية، تقرَّر أن يُعهَد بالاختيار إلى «الشيخين الجليلين» الواقفين وراء جاناتا — جايا براكاش نارايان وجيه بي كريبالاني — فاستقرَّا على ديساي، الذي كان يتمتع بخبرة إدارية لا نظيرَ لها، فضلًا عن سجله الشخصي الذي لا تشوبه شائبة. ومُنِح جاجيفان رام وزارة الدفاع المرموقة، بينما مُنِح تشاران سينج وزارة الداخلية القوية، وكُلِّف إتش إم باتيل — موظف الخدمة المدنية السابق — بوزارة المالية، بينما عُهِد بوزارة الخارجية إلى زعيم جانا سانج أتَل بِهاري فَجبايي.

كيف ستكون سياسات الحكومات الجديدة؟ كان ذلك أمرًا يصعب التنبؤ به؛ نظرًا لانطواء كلٍّ من حزب جاناتا ومجلس الوزراء على خليط من الأيديولوجيات: «بعضها يترصَّد لنهرو، والبعض الآخر يمدحه، وبعضها يتحدث عن أهمية القطاع العام، وآخرون يناصرون النموذجين الياباني والأمريكي في طَيش، والبعض يؤكِّد على الحاجة إلى الصناعات الثقيلة، بينما يطالب آخرون في صخب «بالعودة إلى القرى».»12 وقد أشارت أهمية تشاران سينج إلى التحيُّز المضاد للحَضَر، بل إن لجنة التخطيط أصبح يسيطر عليها اقتصاديون متخصصون في الزراعة عوضًا عن الصناعة. وأشارت أهمية الاشتراكيين إلى وضع رأس المال الأجنبي في موقف صعب، بل إن وزير الصناعة — الزعيم العُمالي الفائر الحماس جورج فرنانديس — أعلن أنَّ الشركتين الأمريكيتين المُتَعَدِّدَتَيِ الجنسيات كوكا كولا وآي بي إم ستُجبَران على الرحيل عن الهند (وهو ما حدث بالفعل بعد حين).
كان من أكثر الوزراء عمليةً مادهو دندَفاتى، الذي كُلِّفَ بوزارة السكك الحديدية. كان هذا الفرع من الحكومة يخدم عددًا من الهنود أكبر ممَّا يخدمه أيُّ فرعٍ آخَر، ويُقَدِّم لهم خدمةً دون المستوى. كان دندَفاتى اشتراكيًّا هو الآخر، ولكن اشتراكيته تحاشت إلقاء الخُطَب المعادية للأثرياء، محظيةً السياسات المعنية بالفقراء؛ فحسب تعبيره: «ما أريد أن أفعله ليس هو الحَطَّ من كفاءة الدرجة الأولى، وإنما الارتقاء بالدرجة الثانية.» فأدخل دندَفاتى الحوسبة في حجز تذاكر القطارات، مما خَفَّضَ معدل الفساد بين موظفي الحجز ورفع نسبة اليقين لدى الركاب. وشرع في صيانة أو استبدال ٥ آلاف كيلومتر من القضبان المتهالكة. إلا أنَّ التدبير الأبعد أثرًا الذي اتَّخَذَه كان هو وَضْعَ بوصتين من الإسفنج على المضاجع الخشبية القاسية التي اعْتُبِرَت «مقصورات نوم» في الدرجة الثانية، مما جعلها مريحةً أكثر وأقرب إلى المستوى السائد في قسم الدرجة الأولى من القطارات. أُدْخِل ذلك التغيير في الوجهات الكبرى أولًا، ثم طُبِّقَ مع مرور الوقت على القطارات كافة، مما ساعد مئات الملايين من المسافرين.13
في الشهور الأولى للحكومة، انتظر مراقِبو المشهد بلهفة حدوثَ تحوُّل في السياسة الخارجية؛ ففي اليوم التالي على إعلان نتائج الانتخابات، جاء في صحيفة «نيويورك تايمز» أنَّه في حين أنَّ موقف حزب المؤتمر إزاء الغرب «تراوح بين الحدة المشوبة بالاعتداد بالنفس» و«الجفاء المُقارب للعدائية»، فإنَّ «جميع المؤشرات» الصادرة عن ائتلاف جاناتا تشير إلى أنَّه «من الممكن توقُّع موقفٍ ودي إزاء الولايات المتحدة، وفتور ملحوظ إزاء الاتحاد السوفييتي». وكان احتمال إقامة تحالف بين الصين والهند والولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفييتي يُسيل لُعاب الاستراتيجيين الأمريكيين؛ فقد ظنوا أنَّ انتصار ائتلاف جاناتا يُمَثِّل «نوعًا من المكسب المفاجئ لواشنطن».14

كان الخطأ المُرتَكَب هنا هو المساواة بين أسرة واحدة والدولة بأكملها؛ فقد كانت واشنطن تخال أنَّ الاختيارات الشخصية لجواهر لال نهرو وابنته تُفَسِّر وحدها التحالُفَ مع الاتحاد السوفييتي. ولكن في الحقيقة، كان لذلك علاقةٌ أيضًا بتشكُّك أكثر شموليةً إزاء النوايا الأمريكية، ناجم عن مساندتها لباكستان، وكذلك نفور المثقفين الهنود من الرأسمالية الجامحة. وإضافةً إلى ذلك، كان التهديد الذي تُمَثِّله الصين يستتبع أنَّ نيودلهي لا يمكنها إدارة ظهرها لموسكو قطعًا.

كان ما يريده قيادات جاناتا، ليس هو نبذ الاتحاد السوفييتي من أجل الولايات المتحدة، وإنما الوقوف على مسافة متساوية، قائمة على مبادئ، من القوتين العُظْمَيَيْن؛ فكما عَلَّقَ المحرِّر الواسع التأثير (ومدوِّن سيرة جايا براكاش نارايان) أجيت بهاتَّشارجيا، تمثَّل التحدِّي الذي يواجهه النظامُ الجديد في «تصحيح الميل الذي اتخذه عدم الانحياز تجاه الاتحاد السوفييتي مع مرور السنين، دون استعداء موسكو، إنْ أمكن».15 ومن ثَمَّ زار مورارجي ديساي وإيه بي فَجبايي الاتحادَ السوفييتي معًا في أكتوبر ١٩٧٧، للتأكيد على أنَّ العلاقة بين البلدين كانت أكثر بكثير من مجرد مسألة عائلية.
وفي الوقت نفسه، اتُّخِذَت مبادرات ودية مع الجانب الآخر؛ فقد بعثت الهند الفقيه القانوني ناني بالكيفالا، المعروف بميله إلى الغرب وحرية السوق، سفيرًا إلى واشنطن. وفي المقابل، جاء جيمي كارتر إلى الهند في يناير ١٩٧٨، ليكون بذلك أول رئيس أمريكي يزورها منذ جاءها أيزنهاور. وفي خطاب مؤثر ألقاه أمام البرلمان الهندي، تحدَّث عن «تطابق قِيَمنا الجوهرية»، وكيف أنَّ البلدين مَرَّا في الآونة الأخيرة «بأزمتين خطيرتين» (فضيحة ووترجيت وإعلان الطوارئ في الهند)، إلا أنَّهما تجاوزاها محافظين على التزامهما بالديمقراطية. ثم إنَّه تحدَّث في تَتِمَّة مُرتجَلة للنص المُعَدِّ مسبقًا، عن الفضل الذي تدين به حركةُ مارتن لوثر كينج للحقوق المدنية لأفكار المهاتما غاندي.16
سعت حكومة جاناتا أيضًا إلى رأب الصدع مع جيران الهند؛ ففي نوفمبر ١٩٧٧، وقَّعت الهند وبنجلاديش اتفاقيةً لتقاسم مياه نهر الجانج، أصبح بموجبها للهند ٢٠٥٠٠ قدمٍ مكعبة من المياه في المواسم العجاف، ولبنجلاديش ٣٤٥٠٠ قدم مكعبة. وُقِّعَت الاتفاقية على الرغم من احتجاجات حكومة ولاية غرب البنغال، التي ادَّعَتْ أنَّ ميناء كلكتا سوف يمتلئ بالطمي إذا حُرِمَ الماء الكافي.17 وفي فبراير ١٩٧٨، زار وزير الخارجية فجبايي باكستان، حيث أَبْهَرَ مضيفيه، ومنهم الدكتاتور الجنرال ضياء الحق، الذي افترض أنَّ رجلًا تربَّى في جانا سانج من شأنه أن يُبْدِي كراهيةً متعصبةً إزاء المسلمين.18 وبعد مرور عام، زار فجبايي الصين، ليكون بذلك الهندي الأعلى منصبًا الذي زارها منذ الحرب الحدودية لعام ١٩٦٢. إلا أنَّه في تلك المناسبة، عكر صفو الرحلةَ هجومُ الصين على فيتنام، الذي قامت به في تجاهُل متعجرف لصداقة الهند الطويلة مع البلد الذي غزته الصين.

فيما يتعلَّق بالسياسة الاقتصادية والخارجية كانت حكومة جاناتا أقل اتِّحادًا؛ فقد كان التوافق الأوضح في الآراء متعلِّقًا بمعاملة النظام الجديد لرئيسة الوزراء السابقة. كان زعماء ائتلاف جاناتا عازمين على جعل السيدة غاندي تدفع ثمنَ فرْضِها حالة الطوارئ؛ فعُيِّنت ثماني لجانِ تحقيقٍ، كل منها تحت رئاسة قاضٍ متقاعد. كانت لجانٌ عدة منها معنية بفساد رؤساء وزراء الولايات المنتمين إلى حزب المؤتمر، وإحداها معنية بمعاملة جايا براكاش في السجن، وواحدة — من قبيل السُّخف — معنية بسوء المعاملة المحتمَل للزعيم الاشتراكي (ومؤسس حركة «مناهضة حزب المؤتمر») رامانوهار لوهيا في إحدى المستشفيات الحكومية عام ١٩٦٧. وأُنشِئت كذلك لجنة للتحقيق في شئون شركة ماروتي المملوكة لسانجاي غاندي.

تمثَّل التحقيق الأوسع نطاقًا في لجنة شاه، التي أُنْشِئَت لمعاقبة المذنبين بتهمة ارتكاب تجاوزات خلال فترة الطوارئ. رَأَسَ اللجنةَ رئيسٌ سابق لقضاة المحكمة العليا، يُدْعَى جيه سي شاه. عقدت اللجنةُ اجتماعاتها في قاعة محكمة «باتيالا هاوس»، في وسط دلهي، حيث كان القاضي الأشيب يجلس على منصة مرتفعة، مُحاطًا بمساعِدَيْن على يمينه ويساره. وأسفل منه، يجلس شاهِدُ اليوم على منضدة مُثَبَّت عليها ميكروفون، حيث يستمع إلى شهادته جمهورٌ معظمه من الصحفيين.19
خلال الشهور القليلة الأولى لعمل لجنة شاه، استجوبت عشرات الشهود؛ من بيروقراطيين، وضباط شرطة، وموظفين في البلديات، وأعضاء في وزارة السيدة غاندي. ولكن السيدة غاندي نفسها رفضت الإدلاء بشهادتها؛ فقد اسْتُدْعِيَت إلى منصة الشهود ثلاث مرات، وحضرت ثلاث مرات، ولكنها امتنعت عن الإجابة عن الأسئلة، بزعم التزامها بقَسَم السرية الذي يقطعه مجلسُ الوزراء؛ فرأت إحدى المجلات التي كانت من ضحايا فترة الطوارئ في ذلك التصرُّف «محاولةً مشينة للاستهزاء بفعاليات اللجنة».20 وقال صحفي أكثر تعاطُفًا مع الجانب الآخَر معلِّقًا: «كان المفترض أن تكون لجنة شاه شبيهةً بمحاكمات نورمبرج. إلا أنها تحوَّلَتْ إلى مسرحية تمثيلية بطلتها (أو المرأة اللعوب فيها) غائبةٌ على الدوام، ولا يتصدَّر المسرح سوى الأشرار أو الممثلين الهزليين الثانويين. بل إنها ما فَتِئَتْ تخسر قيمتها الدعائية؛ إذ سَئِمَ الناس التعليقات الواردة على التليفزيون والإذاعة، فأصبحوا يُطفِئونهما بمجرد ذِكْر اسم لجنة شاه.»21

٣

كان تغيُّر الحكومة في الهند إيذانًا بتغيُّر النُّظُم الحاكمة للمقاطعات أيضًا؛ فقد اقتدى ائتلاف جاناتا بتصرُّف السيدة غاندي عام ١٩٧١، حيث أقال حكومات الولايات في شمال الهند، بدعوى أنَّ نتائج الانتخابات العامة أثبتَتْ أنَّ تلك الحكومات قد «خَسِرَتْ ثقةَ الشعب». وفي الانتخابات الجديدة لمجالس الولايات، رَبِحَ ائتلاف جاناتا بسهولة في ولايات أوتَّر براديش وماديا براديش وراجستان وبيهار.

كانت التغيُّرات تجري على قدم وساق في ولايات أخرى أيضًا؛ ففي غرب البنغال، وصل ائتلاف حزبي يساري إلى السلطة بأغلبية كبيرة؛ حيث رَبِحَ الحزب الشيوعي الماركسي نفسه ١٧٨ مقعدًا من إجمالي ٢٩٤، بينما فاز حلفاؤه باثنين وخمسين مقعدًا. عامَيْ ١٩٦٧ و١٩٦٩، كان الحزب الشيوعي الماركسي قد تشارك السلطةَ في البنغال مع أحزاب غير شيوعية، في ائتلافات غير مستقرة سَهُلَ حلُّها على الحُكام المكيافيلِّيين المبعوثين من نيودلهي. ولكنهم الآن لم تَعُدْ أمامَهم مشكلاتٌ من ذلك القبيل، وأصبح بإمكانهم الشروع في إصلاح المنظومة البرجوازية من داخلها.22

كان رئيسُ وزراء غرب البنغال الجديدُ هو جيوتي باسو، محامي ميدل تمبِل، الذي كان الرجل الثاني في حكومات ائتلاف الجبهة المتحدة والجبهة اليسارية في ستينيات القرن العشرين. أما الأعضاء الآخَرون في مجلس الوزراء فكانوا أقل رُقِيًّا؛ إذ جاءوا من خلفيات عمل مع مزارعين وعُمَّال. كانت الأولوية القصوى بالنسبة إليهم هي الإصلاح الزراعي، الذي ركَّز على تقنين حقوق «البَرجَدار» (المزارعين المستأجرين)، الذين تولَّوْا زراعةَ معظم الأراضي في ريف البنغال؛ فشرعت «عملية بَرجا» التي اضطلعت بها الحكومة الجديدة في تسجيل حقوقهم، وزيادة الحصة التي يجوز لهم الاحتفاظ بها من المحصول؛ ففيما سبق، كان مالك الأرض يأخذ نصفَ المحصول أو أكثر من المستأجِر، ثم انخفضت حصة المالك — بعد الإصلاحات — إلى ٢٥٪، حيث أصبح المستأجر يحتفظ بالنسبة المتبقية البالغة ٧٥٪. وقد استفاد أكثر من مليون فلَّاح فقير من تلك الإصلاحات.

وفي الوقت نفسه، عقدت الجبهة اليسارية انتخابات لمجالس القرى أيضًا. كان الحكمُ الذاتي المحلي سياسةً حكومية معلَنة، ينصُّ عليها الدستور، ولكنَّها نادرًا ما كانت تُتَّبَع. كانت انتخابات مجالس القرى لعام ١٩٧٧ في غرب البنغال أول انتخابات من نوعها تُجرَى بمثل تلك الجِدِّية وعلى مثل ذلك النطاق الواسع؛ فقد بلغ عدد المقاعد المتنافَس عليها فيها ٥٥ ألف مقعد، فاز مرشحو الجبهة اليسارية بثلثَيْها. ومن الجدير بالذكر أنَّ معظم المرشحين الذين انتُخِبوا على القائمة الشيوعية لم يكونوا من المزارعين المستأجرين، وإنما من صغار ملاك الأراضي والمعلمين والعاملين بالخدمة الاجتماعية، الذين ينتمون إلى ما يمكن أن تسميه الماركسية الكلاسيكية بالطبقة البرجوازية الصغيرة، ولكنهم على الرغم من ذلك كانوا من أعضاء الحزب أو المتعاطفين معه؛ فإلى جانب عملية بَرجا، ساعدت انتخاباتُ مجالس القرى على تعزيز سيطرة الجبهة اليسارية على ريف البنغال.23
حدث تغيُّر في النظام في تاميل نادو أيضًا؛ فقد سيطر حزب درافيدا مونيترا كازاجام على مقاليد الحكم فيها عقدًا من الزمان، قبل إقالته بدعاوى باطلة أثناء فترة الطوارئ. وفي الانتخابات التي عُقِدَت هذه المرة، كان خصمه الأكبر هو حزب أنَّا درافيدا مونيترا كازاجام لعموم الهند، الذي انشقَّ عن الحزب الأصلي وتزعَّمه الممثل السينمائي إم جي راماتشَندران، الذي ارتبطت هوية الحزب به ارتباطًا تامًّا؛ فحتى الأجهزة التنظيمية المتطورة لحزب درافيدا مونيترا كازاجام لم تستطع الصمودَ أمام الكاريزما والجاذبية اللتين تمتَّع بهما راماتشَندران؛ فقد رَبِحَ حزبه ١٣٠ مقعدًا مقابل ثمانية وأربعين لحزب درافيدا مونيترا كازاجام. وسرعان ما أوضح راماتشَندران أنَّ شعارات «إمبريالية شمال الهند» القديمة عفى عليها الدهر، وقال إنه يرغب في إقامة علاقات طيبة مع الحكومة المركزية. في تاميل نادو، أنشأت الحكومةُ برامجَ شعبويةً متماشيةً مع الصورة المرسومة لرئيس وزراء الولاية على الشاشة الفضية، باعتباره صديق الفقراء والمحتاجين. تضمَّنت تلك البرامج «وجبة منتصف النهار» التي قُدِّمَت في المدارس الحكومية، على أمل أن يُؤَدِّي ذلك إلى حثِّ الفتيات على حضور دروسهن والبقاء فيها.24
في الشرق، بدأ الشيوعيون يتقبَّلون الديمقراطية البرجوازية. وفي الجنوب، بدأت الحركات الانفصالية سابقًا تدخل في سلامٍ مع الدولة القومية الهندية. وحدثت أيضًا تطوُّرات واعدة في مناطق وبين شعوب كانت أكثر ميلًا للعنف في المعتاد؛ ففي صيف ١٩٧٧، التقى مورارجي ديساي وإيه زي فيزو زعيم قبائل ناجا، في لندن، وعلى الرغم من عدم وصولهما إلى تسوية، فقد اعْتُبِرَت حقيقة أنهما التقيا — وفي بلد أجنبي — تنازُلًا مهمًّا من جانب الحكومة الهندية. وفي وقت لاحق من ذلك العام، عُقِدَت انتخابات المجلس التشريعي في ناجالاند؛ فذهب مورارجي ديساي، البالغ من العمر اثنين وثمانين عامًا، للمشاركة في الحملة الانتخابية، متحديًا مخاطرَ النزول في وديان مغطَّاة بالضباب؛ فعلَّقت إحدى الصحف مشيرةً إلى أنَّ زيارته كانت «شهادةً على الأهمية» التي أولاها للانتخابات، التي كانت نيودلهي تأمل في أن «تضع حدًّا نهائيًّا للمطالب الإقليمية للسيد فيزو وأتباعه».25
أُجْرِيَت انتخابات أيضًا على الطرف المقابل — والمزعِج بالقدر ذاته — من جبال الهيمالايا الهندية؛ فقبل إعلان الطوارئ، كان الشيخ عبد الله قد وصل إلى سُدَّة الحكم في كشمير على رأس نظام تابع لحزب المؤتمر، ضمن اتفاقٍ كان قد وقَّعه مع السيدة غاندي؛ فكان مورارجي ديساي حريصًا على عقد الانتخابات، بهدف اختبار مشروعية ورقةٍ وقَّعَها شخصان؛ فحُلَّ مجلس الولاية، وأعاد الشيخ عبد الله إنشاءَ حزب المؤتمر الوطني الكشميري؛ فأثارتْ إعادةُ إحياء الحزب حماسًا كبيرًا، وكما ذكر أحد الكشميريين: «كان الوادي كله مغطًّى بأعلام حزب المؤتمر الوطني الكشميري الحمراء؛ فقد زُيِّن كلُّ منزل وكلُّ سوق بالرايات الاحتفالية.»26 وفاز حزب المؤتمر الوطني الكشميري بستة وأربعين مقعدًا من إجمالي خمسة وسبعين، وإن كانت أغلبيته أُخِلَّ بها نوعًا ما، نظرًا لأنَّه في حين اجتاح رجالُ الشيخ عبد الله وادي كشمير الذي يسيطر عليه المسلمون، فإنه لم يربح سوى سبعة مقاعد من أصل اثنين وثلاثين في منطقة جامو ذات الأغلبية الهندوسية. على الرغم من ذلك، فقد ظلت تلك أول انتخابات «حرة نزيهة بحق» تُجْرَى في الولاية منذ الاستقلال، «لتثبت لشعب كشمير أنَّهم أيضًا يتمتعون بالحقوق الأساسية ذاتها التي يتمتع بها الناس في سائر أنحاء البلاد ويمارسونها».27

٤

في شتاء ١٩٧٨-١٩٧٩، طاف الاقتصادي السويسري جيلبرت إتيان أنحاء الريف الهندي، وزار القرى التي درسها قبل خمسة عشر عامًا؛ فوجد تناقضًا ملحوظًا بين مناطق «ديناميكية» مثل غربي أوتَّر براديش ودلتا نهر كوفري في تاميل نادو، من ناحيةٍ، ومناطق «بطيئة النمو أو عديمة النمو» مثل شرقي أوتَّر براديش وأوريسا، من الناحية الأخرى؛ فقد بدا أنَّ العنصر المحوري في الازدهار الريفي هو إدارة المياه؛ فحيث حدث توسُّع في مَرافِق الري، ارتفعَتِ الإنتاجية، وارتفع معها الدخل وأسلوب الحياة. وإلى جانب المياه، كانت الأسمدةُ الكيميائية من المُدخَلات ذات الأهمية الحيوية، وهي التي زاد معدلُ استخدامها أربعةَ أمثال في مناطق الثورة الخضراء.

كشف إتيان أنَّ المكاسب الناجمة عن النمو الزراعي تراكمَتْ في الأساس لدى الطوائف الهندية «المتخلفة» الصاعدة؛ مثل الجات في أوتر براديش، والكورمي والياداف في بيهار، والماراثيين في مهاراشترا، والفيلَّالا في تاميل نادو. أما الطوائف الهندية العليا أو المتقدِّمة، التي كانت تمتلك أراضيَ كثيرة فيما مضى، فقد انتقلت للعيش في المدن؛ فسَعَتِ الطوائف المتخلفة إلى مَلْء مكانها الشاغِر. إلا أنَّ وضْعَ الطوائف الاجتماعية الدنيا ظلَّ باعثًا على الأسى؛ فالطوائف الْمُجَدْوَلَة، التي احتلَّتْ قاع التسلسل الهرمي التقليدي، لم تتحقَّق لها مكاسب تُذْكَر من وراء التنمية الريفية بالصورة التي كانت عليها خلال الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. وكانت طبقة الموساهار من بيهار مثالًا على ذلك؛ فقد وجد إتيان أنَّ «أطفالها يعانون سوء التغذية، والطبقة تبثُّ شعورًا بالبؤس الشديد».28

سَجَّلَ إتيان أنَّ «أحد أكثر البرامج ديناميكيةً» في ريف الهند سعى إلى زيادة إنتاج الحليب من جانب تعاونيات المنتجين. يرجع ذلك البرنامج إلى مشروعٍ بدأ في أربعينيات القرن العشرين في قرية أناند، بوسط جوجارات؛ ففي الخمسينيات، أصبحت التعاونيات تُغَطِّي منطقةَ كايرا بالكامل، حيث تقع قرية أناند. وأُرْسِل الحليب الذي أنتجَتْه تلك التعاونياتُ إلى مدينة بومباي، التي تَبْعُد عنها خمس ساعات بالقطار السريع. وشجَّع نجاح ذلك البرنامج (الذي يُدْعَى «أمول»، حيث يرمز الحرف الأول لاسم القرية التي بدأ فيها) على توسيع نطاقه ليشمل كافةَ أنحاء البلاد في السبعينيات. ففي بداية العَقد، كان ثمة ألف تعاونية تضم ٢٤٠ ألفَ مُزارِع، وتنتج ١٧٦ مليون لتر من الحليب في السنة. وبحلول نهاية العَقد بلغ عدد التعاونيات ٩ آلاف، تضم مليون عضو، أنتجوا وباعوا قرابة ٥٠٠ مليون لتر من الحليب في السنة إجمالًا.

أدَّت تلك الأرقام ببعض المتحمسين إلى الحديث عن «ثورة بيضاء» مُكَمِّلة للثورة الخضراء. والحقيقة أنَّ توزيع المكاسب فيها، كما في تلك الثورة الأخرى، كان شديد التفاوت؛ فقد أبلى البرنامج بلاءً حسنًا في ولاية تاميل نادو، التي تمتعت بمرافق جيدة فيما يتعلق بالسكك الحديدية والطُّرق وبتعداد سكاني كبير في الحَضَر. أما الولايات التي اتسمت بتدنِّي مستوى بنيتها التحتية، فكانت النتائج فيها مخيِّبةً للآمال. وفي جميع الأنحاء، كان أكثر المستفيدين هم الطبقى الوسطى والمزارعين الأثرياء؛ أيِ الأشخاصَ الذين توافر لديهم علفٌ أكثر (في صورة بقايا المحاصيل من أرضهم)، ومساحاتٌ أكبر يحتفظون فيها بالأبقار والجاموس، وقدرة أكبر على الحصول على ائتمان.29
عاد تسويق المنتجات الزراعية ومنتجات الألبان بالنفع على قطاع كبير من المزارعين في ريف الهند. والجدير بالاهتمام أنَّ المكاسب الاقتصادية تَحَوَّلَتْ إلى طموح سياسي؛ ففي فترة الستينيات، كانت تلك الطوائف الريفية الصاعدة هي التي سيطرت على حكومات الولايات في شمال الهند، وبحلول السبعينيات كان حضورها قد أصبح ملموسًا على الساحة السياسية الوطنية؛ ففي ظل نظام جاناتا كانت قوة التأكيد على حضور الريف «ممثلةً بصورةٍ لافتةٍ للنظر في شخصِ تشاران سينج وأيديولوجيته»، ولكن جذورها امتدَّت أعمق من ذلك؛ فعقب انتخابات مجلس الشعب الهندي لعام ١٩٧٧، أصبح ٣٦٪ من نواب البرلمان جميعًا يأتون من خلفية ريفية، مقارَنةً بنسبة ٢٢٪ عام ١٩٥٢. واسْتُشْعِرَ تأثيرهم في التوجُّه الريفي للسياسات الاقتصادية للحكومة، وفي الارتفاع المطَّرِد للسعر الذي تدفعه الدولة لشراء القمح والأرز.30

٥

فسَّر بعض المعلِّقين هذه القوة المتنامية للريف من منطلق الطبقات؛ فقد شاهدوا «صراعاتٍ بين الريف والحضر» وتزايُدًا في حدة الصراع بين مُلَّاك المصانع والمُزارعين. ومعدلُ التبادل التجاري بين قطاعي الصناعة والزراعة، الذي كانت كَفَّتُه مائلةً بقوة نحو القطاع الصناعي من قبلُ، بدأتْ كفَّتُه تميل نحو القطاع الزراعي.31 ولكن ذلك أيضًا — وربما بدرجة أهم — كان صراعًا بين الطوائف الهندية.

والحقيقة أنَّه عند النظر إلى الوضع من منطلق الطوائف الهندية عوضًا عن الطبقات، يمكن للمرء التعرُّف على محورين مميزين للصراع؛ المحور الأول كان يكمن في السياسة والإدارة، حيث سعت «الطوائف المتخلفة» إلى التنازع على المكانة المتميزة التي تمتعت بها فيما سبق «الطوائفُ المتقدمة»، مثل: البراهمة والراجبوت والكَياستا والبانيا، التي احتكرتْ على مَرِّ التاريخ الإلمامَ بالقراءة والكتابة، والعلم والمعرفة، والتجارة، والسلطة السياسية.

كانت الطوائف المتقدمة هي المسيطِرة على الحركة القومية؛ ومن ثَمَّ، فعندما جاء الاستقلال سيطرتْ تلك الطوائف على الحكومات، سواء الحكومة المركزية أو حكومات الولايات. وشيئًا فشيئًا، دفعت ضغوط الديمقراطية النيابية بمطالب الطوائف الأدنى مقامًا والأكثر عددًا؛ فزاد عدد رؤساء وزراء الولايات المنتمين إلى طوائف متخلفة، وكذلك بالنسبة إلى وزراء الحكومة المركزية. ولكن ظلَّت قلعةٌ واحدة منيعة، رئاسة وزراء الدولة؛ فمثل نهرو وإنديرا، كان مورارجي ديساي ينتمي إلى الطائفة البرهمية العليا. (وعلى الرغم من أنَّ لال بهادور شاستري لم يكن برهميًّا، فقد كان ينتمي إلى الكَياستا؛ طائفة الكَتَبة الراقية.)

في جنوب الهند، قَلَّلَ نظامٌ للتمييز الإيجابي — وُضِعَ في الأصل في ظل حكم الاستعمار — نسبةَ الوظائف الحكومية التي يمكن أن تشغلها «الطوائف المتقدمة». ثم سعى نظام جاناتا إلى توسيع نطاق هذا النظام ليشمل معاقله في الشمال؛ ففي بيهار أوصت لجنةٌ أُنشِئَت في مطلع السبعينيات بأنْ يُحْجَز ٢٦٪ من المناصب كافة في الإدارة للطوائف المتخلِّفة، وأُهِيلَ التراب على تلك التوصية في فترة الطوارئ. وبعد انتصار حزب جاناتا في بيهار عام ١٩٧٧، أزال رئيس وزراء الولاية الجديد، كابوري تهاكور، الغبارَ عن التوصية وقرَّر أن يُطَبِّقها.

أسفَرَ قرار تهاكور عن عاصفةٍ من الاحتجاجات من جانب الطوائف المتقدمة؛ فأَقْدَمَ الطلاب الراجبوت والبهوميهار على إحراق الحافلات والقطارات وتخريب المباني الحكومية، ولكنَّ زعماء الطوائف المتخلفة لم يتزحزحوا عن موقفهم. وتعزَّز تصميمهم بنسبة تمثيلهم القوية في مجلس الولاية التشريعي؛ حيث كان نحو ٤٠٪ من الأعضاء ينتمون إلى طوائف من شأنها أن تفيد بتوسيع نطاق المناصب المحجوزة؛ فعلى حد تعبير أحد السياسيين: «إن حركتنا لا تهدف إلى حجز المناصب فحسب، وإنما تهدف أيضًا إلى اقتناص السلطة السياسية في شمال الهند ودلهي.» وبالفعل فقد عَيَّنَ مورارجي ديساي — تحت ضغط لوبي الطوائف المتخلفة داخل حزب جاناتا — لجنةً لدراسةِ ما إذا كان ينبغي توسيع نطاق المناصب المحجوزة لتشمل الوظائف في الحكومة المركزية أيضًا؛ فقد نصَّ الدستور على أن يُخَصَّص ١٥٪ من هذه الوظائف للطوائف الْمُجَدْوَلَة، و٧٫٥٪ للقبائل الْمُجَدْوَلَة؛ فأصبحت الطوائف المتخلفة تريد حصة لها هي الأخرى. رَأَس اللجنة المكلَّفة بالنظر في هذه المسألة سياسي من بيهار، هو بي بي مَندَل.32
إلى جانب الانقسام بين الطوائف المتخلفة والمتقدمة، أصبحت بيهار مثالًا على الممارسات الخاطئة كافة في الهند؛ فقد شَكَتِ المقالاتُ الافتتاحية بالصحف «تدهورَ وضْعِ القانون والنظام في المناطق»، وفساد المسئولين الحكوميين وقلة كفاءتهم، وعدم الاستقرار السياسي للولاية (تسعة أشخاص أقسموا يمين رئاسة الوزراء منذ عام ١٩٦٧)، وتلك العوامل مجتمعة جعلت من بيهار «ولاية فقيرة فقرًا مدقعًا». وعُقِدَت مقارنة بين حالتها آنذاك وحالتها أيام العصر الذهبي البائد، عندما أنجبت بيهار بوذا والإمبراطور أشوكا والإمبراطورية الماورية. ولكن الآن «لا تصل أنباء بيهار إلى عناوين الصحف أبدًا، إلا إذا ضربتها الفيضانات والمجاعات، أو عندما تهدأ قوى الطبيعة، فتَرِدُ تقارير عن حوادث مأساوية في مناجم الفحم، وفظائع تُرْتَكَب في حق الهاريجان، وحالات فساد».33

٦

جاءت تلك الفظائع نتيجةَ ازدياد حدةِ نوعٍ ثانٍ من الصراع بين الطوائف الهندية، وهو الصراع بين الطوائف المتخلفة من ناحية والطوائف الْمُجَدْوَلَة — أو الهاريجان — من ناحية أخرى. وهذا الصراع أيضًا كان له أساس مادي؛ فالطرف الأول كان مَن يملك الأرض بالأساس، والطرف الثاني كان مَن يفلحها بالأساس؛ فإلى جانب التنازع على الأجور وظروف العمل، كان ذلك نزاعًا على الكرامة أيضًا؛ فقد تدثَّرت الطوائف المتخلفة بسهولة بعباءة الطوائف المتقدمة التي حصلوا على أراضيها، ومثلها أيضًا عامَلَتِ الهاريجان باحتقارٍ وكثيرًا ما انتهكت أعراض نسائهم. في الماضي، لم يكن أمام الطوائف الاجتماعية الدنيا خيارٌ سوى المعاناة في صمتٍ، إلا أنَّ التوسُّعَ في التعليم والمساحاتِ التي أتاحها التمثيل السياسي كان معناهما أنَّ أبناء الهاريجان «لم يعودوا مستعدين لتحمُّل الاحتقار وسوء المعاملة والضرب وغير ذلك من أشكال الإهانة التي تقبَّلَتْها الأجيالُ الماضية باعتبارها أمرًا طبيعيًّا».34
حدثت زيادة لافتة للانتباه في عدد الهجمات على الهاريجان منذ تسلُّم الحكومة الجديدة مقاليدَ السلطة في نيودلهي؛ فخلال السنوات العشر التي أمسكت فيها السيدة غاندي بزمام السلطة كان عددُ الحوادث المسجَّلة ٤٠ ألفًا. أما فيما بين أبريل ١٩٧٧ — عندما تسلَّم حزب جاناتا مقاليد السلطة — وسبتمبر ١٩٧٨، فقد سُجِّلَت ١٧٧٧٥ حالة «انتهاك شديد ضد الهاريجان». وبحسب التقديرات، فقد وقع ثلثَا تلك الحوادث في الشمال، في الولايات التي أمسك نظامُ جاناتا بزمام سلطتها.35

إلا أنَّ النزاع الأخطر وقع في ماراثوادا، المناطق الداخلية القاحلة من ولاية مهاراشترا، التي شكَّلت في الماضي جزءًا من المناطق الخاضعة لحكم «نظام». في تلك المناطق، كانت الطوائف الْمُجَدْوَلَة متأثرةً بدرجة كبيرة بنموذج الدكتور بي آر أمبيدكار؛ فكثيرٌ منهم اعتنقوا البوذية، وآخَرون كُثُر اختاروا الاستعاضة عن تسمية غاندي لهم — «الهاريجان»، بمعنى «أبناء الرب» — بلفظة «الداليت» الأقوى تأثيرًا، بمعنى «المقهورون». وطالبت مجموعة من الكُتَّاب والشعراء أطلقوا على أنفسهم «نمور الداليت» بأنْ تُسمَّى الجامعة في المدينة الرئيسية بالمنطقة، أورانج أباد، على اسم زعيمهم الأعظم. واستُجِيب لطلبهم ذاك أخيرًا في ٢٧ يوليو ١٩٧٨، عندما أصدرت حكومة الولاية قرارًا بإعادة تسمية جامعة ماراثوادا إلى جامعة الدكتور بابا صاحب أمبيدكار.

قُوبِلَت إعادة التسمية بمعارَضة ضارية من جانب طائفة الماراثا المسيطرة؛ فقد أَعْلَنَ الطلاب إضرابًا عامًّا جبريًّا في مدن المنطقة، أغلقوا بمقتضاه المدارس والكُلِّيات والمتاجر والأعمال، وتَشَعَّبوا بعد ذلك إلى القرى؛ حيث هاجموا قرى الداليت الصغيرة وأحرقوها في بعض الأحيان، فشُرِّدَ ما يُقَدَّر بنحو ٥ آلاف شخص، كلهم تقريبًا من الطوائف الهندية الدنيا؛ وعليه، سُحِب أمرُ تغيير اسم الجامعة.36
قبل وقوع أحداث الشغب في ماراثوادا بثلاثة أشهر، وقعت اشتباكات عنيفة بين الداليت والطوائف الاجتماعية العليا في مدينة أجرا بأوتَّر براديش، فمرة أخرى، أثار إعجابُ عامةِ الشعب بالدكتور أمبيدكار المتاعبَ؛ فقد كان بأجرا مجتمعٌ قوي من الجاتاف؛ الإسكافيين الذين اغتنوا من جرَّاء تجارة الأحذية. وفي يوم ١٤ أبريل ١٩٧٨ — ذكرى مولِد أمبيدكار — خرجوا في مسيرة، تقدَّمَها فيلٌ يحمل صورةً مطوَّقة بالزهور لبطلهم؛ فكان استخدامُ الداليت لِمَرْكَبة جرى العُرْف على ارتباطها بالملوك الهندوس، أكثرَ ممَّا تستطيع الطوائف الاجتماعية العليا احتمالَه؛ فهُوجِمَت المسيرة. وعلى سبيل الرد، اقتحم الجاتاف المتاجرَ المملوكة للطوائف الاجتماعية العليا. تَلا ذلك أسبوعان من الاشتباكات المتقطعة، وفي النهاية اسْتُدْعِيَ الجيش لإعادة النظام.37

٧

من بين العشرة آلاف واقعة عنفٍ طائفي أو أكثر التي سُجِّلَ حدوثها إبَّان السنة الأولى من حكم جاناتا، كان لإحداها أثرٌ امتدَّ أبعد كثيرًا من مكان منشئها. كانت تلك هي واقعة قرية بِلتشي في بيهار؛ حيث أحرقَتْ جماهير غاضبة من طائفة اجتماعية عليا — في ٢٧ مايو ١٩٧٧ — تسعةً من الهاريجان حتى الموت؛ فأعلَنَ واي بي تشافان، زعيم المعارضة في البرلمان، أنَّه سيذهب إلى القرية للتحقيق في الواقعة، وعندما أخلف تشافان وعده، قرَّرت زميلته في الحزب ورئيسة الوزراء السابقة الذهابَ عوضًا عنه.

في الشهور الفاصلة بين هزيمة السيدة غاندي في الانتخابات وزيارتها لبلتشي، كانت مصابةً باكتئاب شديد، وفكرت هي وسانجاي اعتزالَ السياسة، وربما الاستقرار في كوخ في الهيمالايا. ولكنَّ حوادث القتل التي وقعت في بيهار حثَّتها على التحرُّك؛ فقد أنبأها حدسها السياسي بأنَّ هذه ربما تكون بداية عودة محتملة؛ ومن ثَمَّ، فبينما عمد تشافان إلى المماطلة، ركبت السيدة غاندي طائرة إلى باتنا ومضت منها إلى بلتشي. كانت الطرق قد جرفتها الأمطار؛ فاضْطُرَّت إلى الاستعاضة عن سيارتها بأخرى رباعية الدفع، ثم الاستعاضة عن تلك بجَرَّار زراعي، ثم الاستعاضة عن الجرار بفيل — عندما أصبح الوحل عميقًا للغاية — فقد وصلت رئيسة الوزراء السابقة إلى بلتشي على ظهر فيل لمواساة أُسَر ضحايا العنف.38
تلك البادرة الدرامية أعادت إنديرا غاندي إلى بؤرة الضوء على المسرح السياسي؛ فكما ذكر أحد خصومها فيما بعدُ، زيارتُها إلى بلتشي «حقَّقَتْ عدة أغراض: لقد ساعدت على وصم حكومة حزب جاناتا باللامبالاة بمصير الفقراء والهاريجان، وجدَّدت الرحلة التي قطعتها إنديرا غاندي صورتها باعتبارها صديقة الفقراء والبسطاء، وأثبتَتْ أيضًا لأعضاء حزب المؤتمر العاديين رجالًا ونساءً أنَّ إنديرا غاندي امرأةُ أفعالٍ، وهي وحدها التي يمكن أن يُعْهَد إليها بتزعُّم معركة العودة إلى السلطة».39

كانت زيارة قرية بلتشي فكرةَ السيدة غاندي نفسها، ولكنَّ ما ساهَمَ أيضًا في إعادة تأهيلها كان مبادرة أقل ذكاءً من جانب الحكومة القائمة؛ ففي الأسبوع الأول من أكتوبر ١٩٧٧، قرَّرَ وزير الداخلية تشاران سينج أنَّه يجب أن يُقْبَضَ على رئيسة الوزراء السابقة؛ فأعَدَّ مكتب الاستخبارات المركزي — عملًا بتعليماته — صحيفةَ اتهامٍ تنسب إليها تهمةَ الفساد. وذهبت الشرطة، مُسلَّحةً بتلك الورقة، إلى منزل السيدة غاندي حيث قَبَضَت عليها. كانت نية الشرطة أن تنقلها بالسيارة إلى استراحة في ولاية هاريانا المجاورة، ولكن سيارة الشرطة اضْطُرَّت للتوقُّف عند تقاطع سكك حديدية، فخرجت السيدة غاندي من السيارة وجلست على أنبوب تصريف. وفي تلك الأثناء، أخبر محاموها رجالَ الشرطة أنَّ المذكِّرة الصادرة لا تبيح لهم نقل موكِّلتهم خارج دلهي، وتبعت ذلك مُشادَّةٌ، في حضور العديد من المارَّة المهتمين. وفي النهاية أقرَّت الشرطة بصحة حجتهم، وعاد الركب إلى العاصمة.

احتجزَتِ الشرطةُ السيدةَ غاندي تلك الليلة، لكنها عندما مثلت أمام المأمور في صباح اليوم التالي، اعتبر صحيفةَ الاتهام لا قيمةَ لها. كان لمحاولة الاعتقال الفاشلة مردودٌ سلبي على حكومة جاناتا، وساعدَتْ على رد اعتبار عدوتها اللدودة؛ فقد بدأت إنديرا غاندي تلقي خطبًا ذات نبرة قتالية مناوِئة للحكومة الجديدة، استشهدت فيها بزيادة معدلات الجريمة والتضخُّم (الذي بلغ مستواه خانةَ العشرات المئوية)، واستغلال المكتنزين وتجار السوق السوداء؛ فعلَّقت صحيفة «نيويورك تايمز» خلال الأسبوع الأخير من أكتوبر على أنَّ رئيسة الوزراء المعزولة «أصبحت تتحدَّث بجرأة متزايدة في الآونة الأخيرة، محاولةً استعادة مكانة الزعامة الوطنية من جديد».40
انزعَجَ حزب جاناتا من عودة السيدة غاندي للظهور، كما انزعج كثير من قيادات حزبها نفسه؛ فبعض وزراء حزب المؤتمر كانوا قد شهدوا ضدها بالفعل أمام لجنة شاه. وفي يناير ١٩٧٨ أُعْلِنَ انقسام المؤتمر رسميًّا إلى فصيلين؛ حيث شكَّل الفصيل الذي بَقِيَ مع السيدة غاندي حزب مؤتمر إنديرا، وفي الشهر التالي فاز ذلك الحزب بسهولة في انتخابات ولايتَيْ أندرا براديش وكارناتاكا. تزعَّمت رئيسة الوزراء السابقة الحملة الانتخابية، وكما تبين من النتائج، فقد احتفظت في الجنوب على الأقل بصورة منقذة الفقراء والقبليين والطوائف الْمُجَدْوَلَة والمرأة.41
بدأت السيدة غاندي آنذاك تبحث عن مقعد آمِن، حتى تعود منه إلى البرلمان، وفي النهاية اختارت دائرة تُدْعَى تشيكماجَلور، تقع ضمن نِطاق حزام القهوة في ولاية كارناتاكا. كان رئيس وزراء الولاية، ديفَراج أورس، معروفًا بكفاءته العالية، وتضمَّنت الإنجازات التي حقَّقها تَمَلُّكَ مئات الآلاف من المزارعين المستأجرين للأراضي التي كانوا يستأجرونها؛ فكانت إنجازات أورس ووَضْع السيدة غاندي نفسه الذي لم يتأثر كثيرًا في جنوب الهند هما اللذان قاداها إلى السعي وراء الانتخاب على الطرف المقابل في الهند من مسقط رأسها أوتَّر براديش.42
تَرَشَّحَ ضدها رئيس وزراء سابق (ومحترم جدًّا) لكارناتاكا، هو فيرِندرا باتيل، وتَزَعَّمَ حملةَ باتيل الانتخابية غريمُ السيدة غاندي أثناء فترة الطوارئ؛ جورج فرنانديس، الذي أصبح وزيرًا للصناعة في حكومة جاناتا؛ فقد قال فرنانديس في تصريح لأحد الصحفيين: «لن أبارح الدائرة الانتخابية حتى ينتهي الاقتراع. لا بد أن نهزمها.» وأخذت السيدة غاندي التحدِّي على محمل الجد؛ فكما ذكر الصحفي نفسه: «تبتسم بسماحةٍ للنساء والأطفال، وتتلقَّى أطواقَ الزهور في مئات الاجتماعات المُقامة على جانب الطريق، وتُغَيِّر مسارَها لزيارة كثير من دور العبادة، وتزور القديسين من جميع الطوائف.»43
في النهاية فازت السيدة غاندي بسهولةٍ، وما إن عادت إلى مجلس الشعب الهندي، قُدِّمَت ضدها «مذكرةٌ بخرق الامتيازات البرلمانية»؛ فقد أفادت لجنة برلمانية، مليئة بأعضاء حزب جاناتا، بأنَّه عام ١٩٧٤، عندما كانت إنديرا رئيسةَ الوزراء، عرقلت التحقيقَ في شأن مصنع ماروتي المملوك لسانجاي، وتعمَّدت تضليلَ البرلمان بذلك. وتُرِكَ تقرير عقوبتها ﻟ «حكمة المجلس»؛ فقرَّرت الأغلبية المكوَّنة من نوَّاب حزب جاناتا وجوبَ حبسها لمدة أسبوع؛ فقرَّر رئيس اللجنة الانتخابية أن حَبْس السيدة غاندي يعني أنَّه يجب عليها الاستقالة من البرلمان. ثم دُعِيَ إلى انتخاباتٍ فرعية أخرى في تشيكماجَلور، نافست فيها السيدة غاندي، وفازت.44

٨

نجمت محاولات حزب جاناتا لإذلالَ رئيسة الوزراء السابقة عن سوء تقدير خطير؛ فقد اكتسبت السيدة غاندي بتحمُّلها الصبور لمعاناتها إعجابَ الكثيرين، وفترتا الاعتقال الوجيزتان اللتان تعرَّضت لهما أسبغتا عليها هالةَ الشهداء. صحيح أنَّ الرجال الذين أصبحوا يمسكون بزمام السلطة تعرَّضوا لأذًى خلال فترة الطوارئ، إلا أنَّ إيثارهم الانتقامَ من فرد واحد، بينما كان يُفْتَرَض بهم أن يديروا الحكومة، أظهَرَ شيئًا من ضِيق الأُفُق.

كانت محاولات اعتقال السيدة غاندي تكمن وراءها خصوماتٌ شخصية داخل معسكر جاناتا؛ فوزير الداخلية، تشاران سينج، لم يكن متقبِّلًا لفكرة كونه الرجل الثاني في مجلس الوزراء؛ فمَثَّلَ تحرُّكه ضد السيدة غاندي محاولةً لسحب البساط من تحت قدمَيْ مورارجي ديساي. وفتح جبهةً أخرى في المعركة ذاتها عندما كتب إلى رئيس الوزراء يشكو إليه تنامي نفوذ كانتي ابن ديساي. كان كانتي ديساي يعيش مع والده، ويتولى إدارة مواعيده، وقد عُقِدَت مقارناتٌ غير سارة بالدور الذي اضطلع به سانجاي غاندي من قبلُ.

خلال النصف الأول من عام ١٩٧٨، تبادَلَ تشاران سينج ومورارجي ديساي سلسلةً من الرسائل الغاضبة. وفي النهاية، في يونيو ١٩٧٨، اضْطُرَّ ديساي إلى إعفاء سينج من منصبه في الوزارة، ومعه كبيرُ مساعديه؛ راج ناراين. حاول أعضاء آخَرون في حزب جاناتا التوسُّط لإحلال السلام بينهما، لكن دون جدوى. وفي ديسمبر، خرج سينج من فترة عُزلةٍ امتدَّتْ شهورًا لينظِّم تجمُّعًا هائلًا للمزارعين في العاصمة؛ فجاء نحو ٢٠٠ ألف فلَّاح — معظمهم من شمال الهند، وكثير منهم من طائفة الجات التي ينتمي إليها تشاران سينج نفسه — إلى دلهي في جرَّاراتهم الزراعية وشاحناتهم للاستماع إلى زعيمهم.

أجبر استعراض القوة ذاك ديساي على إعادة تشاران سينج إلى الوزارة؛ ففي فبراير ١٩٧٩ عُيِّنَ سينج وزيرًا للمالية. وبالإضافة إلى ذلك كان آنذاك أحدَ نائبين لرئيس الوزراء؛ حيث كان الآخَر هو جاجيفان رام. قدَّمت أول ميزانية وضعها سينج ترضيات للمزارعين، من قبيل زيادة الدعم المخصَّص للأسمدة والري. ولكن الوفاق لم يَدُمْ طويلًا؛ فأحد العناصر المهمة في حزب جاناتا — الاشتراكيون — انحاز في معظمه لصف سينج، بينما قرَّرَ عنصرٌ مهم آخَر — جانا سانج — الوقوفَ وراء ديساي. وازداد الصدع اتساعًا إثر مسألة «الانتماء المزدوج»، المتمثل في تنامي الشعور بأنَّ أعضاء جانا سانج في حزب جاناتا ولاؤهم الأول لمنظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج. في مارس ١٩٧٧، كان أتَل بِهاري فَجبايي قد صرَّح بأنَّ حزبه القديم «مات ودُفِن»، ولكن على الرغم من ذلك استمرَّ الشعور بأنَّ منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج هي التي تُوَجِّه تصرُّفات أعضاء جاناتا ووزرائه الآتين في الأصل من جانا سانج. وقد طُلِبَ منهم أن يتخلَّوْا عن روابطهم بالمنظمة المذكورة، ولكنهم رفضوا، متعلِّلين بأنها مجرد كيان «ثقافي».

في الأسبوع الثالث من يوليو ١٩٧٩، قرر الاشتراكيون الجلوسَ في جماعة منفصلة في البرلمان، مما أفضى إلى وقوع انقسام داخل حزب جاناتا، وخسارة حكومة مورارجي ديساي للأغلبية، واستقالة ديساي نفسه. وفي محاولة ديساي لتجميع أغلبية جديدة، سعى إلى خطبِ وُدِّ أحد فصائل حزب المؤتمر، بينما سعى جاجيفان رام إلى خطبِ وُدِّ فصيلٍ آخَر. أما الزعيم الثالث في المعركة، تشاران سينج، فقد شَكَّلَ تحالُفًا نفعيًّا مع إنديرا غاندي؛ فاستطاع — مستعينًا برسالة دعم من حزب المؤتمر — إقناع الرئيس بأنَّ لديه أغلبية في مجلس الشعب؛ فأقسم اليمين في الوقت المناسب تمامًا لإلقاء خطاب رئيس الوزراء السنوي في عيد الاستقلال من القلعة الحمراء، ليكون بذلك أول مزارع يفعلها.45
مع تواصل تفكُّك حزب جاناتا، كتب جايا براكاش نارايان رسائل يائسة إلى تلامذته. وفي أكتوبر ١٩٧٩، تُوُفِّيَ جايا براكاش كسير الفؤاد؛ فكتب المحرر الليبرالي إيه دي جوروالا رثاءً لنارايان وصفه فيه بأنه «القوة الأخلاقية العظمى في البلاد، ومحَكُّ الصواب والخطأ». وكتب جوروالا أن «آخر جهوده العظيمة» كان تشكيل حزب جاناتا والوصول به إلى النصر، بينما «خذله رجالُ الحزب الضيقو الأفقِ الأغبياءُ تمامًا … بانغماسهم في مصلحتهم الشخصية واعتدادهم بأنفسهم».46 هؤلاء الرجال المحِبُّون لذاتهم — مورارجي ديساي وتشاران سينج وجاجيفان رام — حضروا جميعًا جنازة جايا براكاش، والأكثر إثارةً للدهشة أنَّ سانجاي غاندي ووالدته حضراها أيضًا. وكتبت السيدة غاندي إلى صديقة لها فيما بعدُ: «مسكين جايا براكاش العجوز! يا لعقله المشوَّش الذي قادة إلى تلك الحياة المُحْبِطَة!» وقد أعْزَتِ الصعوبات التي عايَشَها إلى «النفاق الغاندِيِّ»، وإلى عهد العزوبية الذي قطعه عندما تزوَّجَ برابهافاتي تلميذة المهاتما. وذكرت أنَّه: «من المرجَّح أن تكون بقية حياته تشكَّلت بذلك إضافةً إلى غيرته من والدي.» وأضافت: «إنَّ القول بأنَّه لم يرغب في منصبٍ لَمحض هراء؛ فجزء منه كان يرغب فيه، وبشدة. وكان متأرجحًا بين ذلك وبين رغبته في أن يُنْظَر إليه على أنَّه شهيد وقديس.»47
ينطوي ذلك التقييم على شيء من الحقد، وكذلك على نبرة متغطرسة نوعًا ما. وقد كان للسيدة غاندي الضحكة الأخيرة، ليس فحسب على صديقها القديم جايا براكاش، الذي أصبح غريمًا لها، وإنما على الحزب الذي أسسه أيضًا؛ ففي شهر يوليو، عندما قَدَّمَ مورارجي ديساي استقالته واخْتِيرَ خليفته، علَّقت مجلة «هِمَّت» ببصيرة نافذة قائلة: «السيدة غاندي هي الوحيدة التي ستودُّ أن يُجرَى اقتراع في منتصف المدة، وستفيد منه في ظل المناخ الحالي؛ فمن مصلحتها أن يُنَصَّب السيد تشاران سينج رئيسًا للوزراء، وإن كان ذلك لشهرين أو ثلاثة فحسب.»48

أدَّى تشاران سينج قَسَم رئاسة الوزراء في الأسبوع الأخير من يوليو ١٩٧٩، وبعد شهر أخبر حزبُ مؤتمر إنديرا الرئيسَ أنه سيسحب تأييده؛ فاستغرق الرئيس أكثر من شهر لدراسة البدائل واستبعادها. وعندما قَرَّرَ أنَّ الحل الوحيد هو إجراء اقتراع في منتصف المدة، كانت اللجنة الانتخابية لا تزال بحاجةٍ إلى بعض الوقت للإعداد للانتخابات؛ ومن ثم ظلَّ تشاران سينج رئيسًا للوزراء حتى نهاية السنة، أيْ شهرين أكثر ممَّا توقَّعَتْ له مجلة «هِمَّت».

٩

جاء حزب جاناتا إلى السلطة وسط موجة من المبالغات، والحديث عن تحرر ثانٍ من الحكم الاستبدادي، وإعادة مدوِّية للديمقراطية. ومنذ الأسبوع الأول لتولِّي الحزب السلطةَ، بَدَا عازمًا على تبديد هذه المشاعر الطيبة؛ فسرعان ما لُوحِظَ أنَّه في الحكومة المركزية وحكومات الولايات على حد سواء، راح وزراء حزب جاناتا يضعون أيديهم على أفضل المنازل الحكومية، ويغزون إدارةَ الأشغال العامة بحثًا عن أجهزة التكييف والبُسُط، ويُنَظِّمون حفلات وأعراسًا باذخة لأقربائهم، ويسرفون في استهلاك الهاتف والكهرباء، ويسافرون إلى الخارج لأهون سبب (أو دون أي سبب)؛49 فحتى المجلات المعروف عنها معاداتها حزب المؤتمر، بدأت تكتب عن «موت المثالية» في حزب جاناتا، قائلةً إنه سرعان ما أصبح «حزبًا سياسيًّا من النوع التقليدي»، أعضاؤه «متزايدو الاهتمام بالمناصب والعلاوات ومتناقصو الاهتمام بالتأثير على المجتمع». وأصبح الناس يقولون إنَّه في حين أنَّ حزب المؤتمر استغرق ثلاثين عامًا لكي يتخلَّى عن مبادئه، فقد فقدها حزبُ جاناتا خلال عام من تشكُّله.50
استرجع أحد المحللين ذكرياته عن فترة حكم حزب جاناتا البالغة ثلاثة أعوام، واصفًا إياها بأنَّها «سجلٌّ من المشاجرات الحزبية المُرْتَبِكَة والمُرَكَّبَة، والخصومات داخل الأحزاب، والتحالفات المتقلِّبة، والانشقاقات، وتبادل اتهامات عدم الكفاءة، وفساد وإذلال الأشخاص الذين تسلَّموا مقاليدَ السلطة بعد السيدة غاندي».51 معظم الهنود الذين عاصروا تلك الأعوام من شأنهم الوصول إلى الحكم ذاته، ولكن ببلاغة أكبر؛ إذ سيقولون إنَّ حزب جاناتا لم يكن أكثر من طُغْمَة من المُهَرِّجين؛ فكان مراقب أجنبيٌّ بارزٌ — يُدعى جرانفيل أوستن — هو الذي ذكَّرنا بأنَّه بعيدًا عن المشاحنات والمشاجرات، قدَّمت حكومة جاناتا إسهامًا ملحوظًا للديمقراطية الهندية، تمثَّلَ — بحسب تعبيره — في «نجاحها الباهر في إصلاح الدستور بعد الاعتداءات التي تعرَّض لها في فترة الطوارئ، وإعادة إحياء الممارسة البرلمانية المفتوحة عبر أسلوبها التشاوُري في إصلاح الدستور، وفي استعادة استقلال القضاء».52
كان مورارجي ديساي هو صاحب المبادرة في هذا الصدد؛ ففي حوارٍ أدلى به قُبَيْل انتخابات ١٩٧٧، ذكر أنَّه أثناء فترة الطوارئ، تعرَّضت الديمقراطية نفسها إلى «التعقيم». وقال إنَّه إذا فاز حزبه، فسوف «يعمل على تبديد الخوف الذي استبدَّ بالناس»، ويتعهَّد «بتصحيح الدستور». وكان مورارجي واضحًا في قوله: «علينا التأكُّد من أنه لن يمكن ثانيةً فرضُ حالة طوارئ كهذه؛ فلا ينبغي أن يكون ذلك في مقدور أي حكومة.»53

بعد انتصار حزب جاناتا، أُوكِلَت مهمة الإشراف على إصلاح الدستور إلى وزير القانون المجتهد شانتي بوشان. كان أهم تعديل يستوجب الإلغاء هو التعديل الثاني والأربعين؛ فبغية تغيير أحكامه «المُدَنِّسة» للدستور، صِيغ تعديلان جديدان، أعادا الفترة النيابية في البرلمان ومجالس الولايات إلى خمسة أعوام، وأعادا حق المحكمة العليا في الفصل في أي انتخاب (بما في ذلك انتخاب رئيس الوزراء)، وحدَّدا فترة الحكم الرئاسي في الولايات، وأمرا بنشر مَحاضِر جلسات البرلمان والمجالس التشريعية، وجعلا فَرْضَ حالة الطوارئ عمليةً أصعب بكثير؛ فقد صار لا بد أن توافِق أغلبية الثلثين في البرلمان على أي إجراء من هذا القبيل، وأن يُجَدَّد كلَّ ستة شهور بعد التصويت عليه من جديد، وأن يأتي استجابةً إلى «تمرُّد مُسلَّح» (وليس مجرد «اضْطِرابات داخلية»، كما كان الحال في السابق). كان القصد من هذه التغييرات هو تحجيمَ القوى التعسُّفية للسلطة التنفيذية واستعادةَ حقوق المحاكم، وإعادة الدستور فعليًّا إلى حالته قبل التعديلات التي أدخلتها عليه السيدة غاندي في عهد الطوارئ.

استغرقت صياغة هذين التعديلين وقتًا لدواعي الدقة القانونية والحاجة إلى كفالة نوعية الدعم عبر مختلف الأحزاب التي تتيح تمريرهما في مجلسَيِ البرلمان. وأثناء مناقشة تلك الإصلاحات، أخذت الصحافة تنشر أنباءَ لجنةِ شاه بشراهة، بينما نُشِرَت سلسلةٌ متتابعة من الكُتُب والمذكِّرات التي توثِّق تجاوزات فترة الطوارئ؛ ففي ظل مناخ الرأي السائد ذاك، حتى حزب المؤتمر لم يكن في مزاج يسمح بالدفاع عن التغييرات التي أحدَثَتْها قياداته في الدستور. وقد رُفِعَ هذا الضرر بموجب التعديل الرابع والأربعين المُصاغ حديثًا؛ فعند تمريره بأغلبية كبيرة في ٧ ديسمبر ١٩٧٨، كان ممَّن صوَّتوا عليه هذان العدوان القديمان: مورارجي ديساري وإنديرا غاندي.54

١٠

على الرغم من فشل حزب جاناتا في الصمود مدة كاملة، فقد مثَّل انتصارُه علامةً فارقة في مسار السياسة الهندية؛ فلأول مرة منذ الاستقلال، جاء حزبٌ غير حزب المؤتمر إلى سُدَّة الحُكْم في الحكومة المركزية. وفي الولايات أيضًا، ازداد المشهد السياسي تنوُّعًا، بانتصار الشيوعيين في غرب البنغال وانتصار حزب أنَّا درافيدا مونيترا كازاجام لعموم الهند في تاميل نادو.

كان النظام السياسي الهندي في سبيله إلى الابتعاد عن المركز، وليس فيما يتعلَّق بالأحزاب فحسب؛ فقد شَهِدَت نهايات سبعينيات القرن العشرين أيضًا ازدهارَ عددٍ كبير من الحركات الاجتماعية «الجديدة»؛ ففي عام ١٩٧٨ عُقِدَ مؤتمر كبير «للنسويات الاشتراكيات» في بومباي، انصَبَّ الاهتمام فيه على الانتهاكات المتزايدة لحقوق المرأة؛ فشُنَّت حملات على ممارسة طلب المَهْر من العروس، وعلى الاغتصاب، وإدمان الكحوليات بين الرجال والإساءة الجنسية التي تنجم عنه في كثير من الأحيان، وطُلِبَ بتحسين ظروف العمل للنساء للعاملات في المصانع ووحدات القطاع المنزلي. كانت تلك الموجة الجديدة من الحركة النسوية واسعةَ الانتشار، وكذلك واسعةَ النِّطاق؛ إذ نشطت جماعاتها في ولايات كثيرة، حاشدةً الدعمَ من خلال التجمُّعات الجماهيرية، والمسرحيات المعروضة في الشوارع، وحملات الملصقات، والطواف بالمنازل واحدًا تلو الآخر التماسًا للأصوات.55
شَهِدَت أواخر السبعينيات من القرن العشرين أيضًا حركةً بيئية مفعمة بالنشاط؛ فقد حارَبَ الفلاحون دفاعًا عن حقهم في الغابات، بينما احتجَّ أهلُ القبائل على تهجيرهم من قِبَل المشروعات الصناعية الكبيرة، وعارَضَ الصيَّادون الحرفيون سُفُنَ الصيد التي كانت تستنزف مخزونَ الأسماك في المحيط. في خِضَمِّ تلك الاحتجاجات، كانت ثمة سمتان بارزتان: الدورُ البارز للمرأة التي تحمَّلت هي نفسها وطأةَ التدهور البيئي، وحقيقةُ أنَّه في الهند (خلافًا للغرب، حيث صِيغَ الاهتمام بالطبيعة في سياق جمالي وعَبَّرَت عنه الطبقةُ الوسطى) كانت تلك «حركة بيئية تزعَّمها الفقراء»، وساندتها مجتمعات ريفية ارتبط بقاؤها بإمكانية الحصول على هِبات الطبيعة.56
نشأت كلٌّ من الحركة النسوية والحركة البيئية في الأصل في مطلع سبعينيات القرن العشرين، وتعطَّلت مسيرتهما في فترة الطوارئ، ولكن عند انتهائها اسْتُؤنِفَت الحركتان بنشاط متجدِّد. وسرى ذلك أيضًا على حركة الحقوق المدنية؛ فقد كانت أصولها ترجع إلى أسلوب معامَلة نشطاء الناكسَل المحبوسين في سجن كلكتا؛ فعندما بدأ هؤلاء السجناء الكفاحَ من أجل الحصول على لفائف السجائر والرسائل (التي حرمهم إياها سجَّانهم)، قرَّر مهندس متقاعِد يُدْعَى كابيل بهاتَّاتشاريا إنشاءَ جمعيةٍ لحماية الحقوق الديمقراطية. وقد مثَّلت فترة الطوارئ مصدرَ إلهام لتشكيل مجموعات أخرى من هذا القبيل، في دلهي وبومباي وحيدر أباد وسائر الأنحاء؛ بعضها ركَّز على حرمان «الحقوق المدنية»، أيِ انتهاك الدولة للحقوق الإنسانية الأساسية لمواطنيها، وعملت مجموعات أخرى مع مفهوم أوسع لمصطلح «الحقوق الديمقراطية»، اعتبر أنَّ الحق في الحياة والحرية الذي يكفله الدستور يستتبع أيضًا الحق في الحصول على أجورٍ أعلى وظروفِ عملٍ أفضل، والحق في العمل المُجزي في حد ذاته. عُنِيَت الفئة الأولى من المجموعات بإصلاح السجون ومسألة إساءة استغلال سلطات الدولة (ولا سيما الشرطة) لنفوذها، بينما وضعت الثانية في اعتبارها أيضًا تأثيرَ سياسات الدولة على حياة المحرومين ومعايشهم، لا سيما الطوائف الاجتماعية الدنيا والقبائل. أصدرت تلك المجموعات عشرات التقارير عن انتهاك الدولة للحريات المدنية والحقوق الديمقراطية، مستمَدة من دراسات ميدانية، كثيرًا ما كانت تُجرَى في مناطق نائية من البلاد على يد مُثقَّفي المُدُن الحريصين على الصالح العام.57
وُصِفَت هذه الحركات بلفظ «جديدة» لأنَّها تناولت قضايا أَغْفَلَتْها الحركاتُ الاجتماعية الطبقية القديمة والمعنية بالفلاحين والعمال. إلا أنَّ تلك الحركات الأقدم عَبَّرَتْ عن نفسها بصورٍ جديدة هي الأخرى في أواخر السبعينيات؛ ومن ثَمَّ بدأت حركة الاتحادات العمالية — التي ركَّزت على قطاع المصانع على مَرِّ التاريخ — تعمل مع عمال المناجم وعمال الصناعات المنزلية. كانت من المبادرات الجديرة بالذكر مبادرةُ اتحادِ عمَّال مناجم تشاتيسجار، التي سعى قائدُها شانكار جوها نِيوجي إلى المزج بين أفكار غاندي وماركس؛ فقد كانت المناجم التي نَشِطَ بها هذا الاتحاد العمالي تخدم صناعةَ الصُّلب الضخمة التابعة للقطاع العام في بيهار. وإذ عَمِلَ نيوجي مع عمال مناجم من خلفية قبلية بالأساس، قاد حملةً مُطالِبةً بمنح العاملات أجورًا مساوية، ومعارِضةً للإفراط في تعاطي الكحول من جانب الرجال، وأنشأ مدارسَ للأطفال، وقاتَلَ من أجل أن يُولِي مُلَّاكُ المناجم الصحةَ والسلامة المهنية اهتمامًا لا يقلُّ عن الاهتمام بدفع أجرٍ يُحَقِّق مستوى معيشةٍ لائقًا.58

صاحَبَ تلك الحركاتِ وكمَّلَها نوعٌ جديد من الصحافة الهندية؛ فقد أطلق انتهاء حالة الطوارئ العنانَ لطاقات الصحفيين على نحوٍ غير مسبوق إلا في معركة الاستقلال الوطني؛ فقد انتهت الرقابة، ولم تَعُدْ ثمة حدودٌ للموضوعات التي يمكن للصحفيين والمحررين الكتابة عنها، أو لطول أخبارهم ومقالاتهم. وكان من العوامل المساعِدة أيضًا أنَّ أولى طابعات الأوفسِت وصلت الهند في السبعينيات؛ فلم تَعُدِ العملية المُضنية لصَبِّ الحروف في المعدن الساخن لازمةً، ولم تَعُدْ طباعةُ المجلات حِكْرًا على المدن والبلدات الكبيرة فحسب.

تَتَبَّعَ المؤرخ روبن جيفري في دراسة محكَّمة «ثورة الصحف الهندية» التي بدأت عام ١٩٧٧، وما فَتِئَتْ تكتسب زخمًا منذ ذلك الحين. من بين العناصر المكوِّنة لهذه الثورة يمكننا أن نختصَّ بالذكر خمسة؛ اثنين منها أتاحتهما التكنولوجيا الجديدة، هما: طباعة طبعات متعددة من الصحيفة ذاتها في بلدات متباعدة في وقت واحد، وتحسُّن جودة الطباعة، ولا سيما طباعة الصور وغيرها من المواد المرئية. تولَّدت ابتكارات أخرى عن التغيُّرات الحادثة في المجتمع والسياسة؛ فقد يَسَّرَ رفعُ الرقابة صعودَ الصحافة الاستقصائية، على غرار كتابة موضوعات شديدة اللهجة عن الجريمة والفساد السياسي. وأعطى كلٌّ من انتشارِ التعليم وتمدُّدِ الطبقة الوسطى دفعةً هائلة للصحافة الصادرة باللغة الهندية؛ فقد قَدَّرَ مَسْحٌ لجمهور القُرَّاء على المستوى الوطني — أُجْرِيَ عام ١٩٧٩ واقتصر على البلدات والمدن — أنَّ نحو ٤٨ مليون هندي يعيشون في الحَضَر يقرءون مطبوعة من نوعٍ أو آخَر بصفة منتظمة؛ حيث حدثت أسرعُ زيادة في هذا المجال في البلدات الصغيرة وفيما بين لغات الهند؛ ففي عام ١٩٧٩، ولأول مرة، فاق عددُ قرَّاء الصحف الصادرة باللغة الهندية (التي يتحدَّثها ٤٠٪ من الهنود) عددَ قرَّاء الصحف الصادرة باللغة الإنجليزية (وهي لغة يتحدَّثها ٣٪ من الهنود لا أكثر). واستبدلت الصحافةُ الجديدة لغةً نثرية دارجة وشعبية بالأسلوب الجامد الرسمي الذي آثَره المحرِّرون والصحفيون من قبلُ؛ فالتعبيرات الاصطلاحية والعبارات المشتقة من اللغة السنسكريتية الكلاسيكية — التي كانت من موجبات العصر في الماضي — نُبِذَت لصالح أوزان وإيقاعات أحاديث الحياة اليومية.59

ظهر في الهند اتجاهان متناقضان إلى حدٍّ ما في نهايات سبعينيات القرن العشرين؛ فمن ناحية حدث تفكُّك متزايد في الكيان السياسي، تجلَّى في ارتفاع معدل إحلال الحكومات وتبديلها؛ فباستثناءات متناقصة باستمرار، تخلَّى السياسيون والأحزاب عن الأيديولوجية في سبيل المنفعة، وعن المبادئ في سبيل الأرباح. ومن ناحية أخرى، ظهرت صورٌ جديدة من الظهور الاجتماعيِّ بين فئاتٍ كانت مُهَمَّشَة على مَرِّ التاريخ، مثل الطوائف الاجتماعية الدنيا والنساء والعمالة غير المنظمة؛ فلأول مرة أصبح هناك حركة نَشِطة للحريات المدنية، وأصبحت الصحافة — التي طُوِّعَت في معظمها دون مقاوَمةٍ خلال فترة الطوارئ — أكثرَ نشاطًا من أي وقتٍ مضى.

فعلى الجانب الأكثر رسميةً، السياسي المَحْض، بَدَا أنَّ الديمقراطية الهندية كانت تَتَعَرَّض للتجريف والتدهور، إلا أنَّه عند النظر لها من زاويةٍ «اجتماعيةٍ» أكثر، بَدَا أنَّها في الواقع ازدادت عُمْقًا وثراءً.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤