الفصل الرابع والعشرون

ديمقراطية مبعثرة

لا يكون كل فرد أو كل حزب مُعَدًّا دائمًا لاستخدام الإطار الديمقراطي الذي نعمل به لتحقيق أهداف بنَّاءة؛ فيبدو أنَّ ممارسة الحق الديمقراطي تَتَّخِذ أحيانًا هيئةَ الحرية حتى في التدمير.

إنديرا غاندي لجايا براكاش نارايان، مايو ١٩٦٨

١

بُعَيد انتخابات عام ١٩٧٧، كتب مراسل صحيفة «ذا جارديان» في الهند، مُعرِبًا عن رأيه، أنَّ عودة الديمقراطية ربما تكون قصيرةَ الأمد. وأشار إلى أنَّ «السبيل الوحيد لاستمرار الديمقراطية هو الإصلاح والتقدم الاقتصاديان؛ فحكومة جاناتا الجديدة تواجِه بالفعل أزمةً اقتصادية؛ إذ استفحل التضخُّم من جديد، وتفجَّرت المطالبات برفع الأجور، وهبَّت موجةٌ من الإضرابات؛ فإذا ما شعرت الحكومة بالعجز أمام الاحتجاجات، فمن الممكن أن تبدأ دورة القمع من جديد».1
أما الشخص الأكثر تفاؤلًا بصفة عامة، فكان الخبير المُحَنَّك في شئون الهند هوراس ألكسندر، الذي كان قد بلغ من العمر سبعة وثمانين عامًا، ويقيم في أحد دور الكويكرز للمتقاعدين في بنسلفانيا؛ ففي رسالةٍ نُشِرت في «نيويورك تايمز»، قال ألكسندر: لقد أثبتَتِ «الانتخابات الهندية المذهلة» أنَّ «عامة الشعب في الهند يتحلَّوْن بشجاعة سياسية»، مُستَمَدة من غاندي وتراث حركة التحرير. وفي رسالةٍ كتبها إلى رفيقٍ له في جماعة الكويكرز، وَصَفَ الانتخابات بالمِثْل بأنَّها «انتصارٌ لعامة شعب الهند»، مضيفًا: «لا تَدَعْ أحدًا يقول إن «الحرية الديمقراطية» مفهومٌ برجوازي، لا يدركه سوى عدد صغير من المثقفين اليساريين.»2
كتب ألكسندر الذي لا يعرف الكلل ولا الملل إلى السيدة غاندي أيضًا؛ فقد أمطَرَها إبَّان فترة الطوارئ بوابلٍ من الرسائل القَلِقة بشأن مصير الحرية والرجال الذين احتجزَتْهم. وتذكَّر صديقه القديم جواهر لال نهرو عندما كان يتمنَّى لو يحظى باستراحةٍ يبتعد فيها عن السياسة، حتى يقرأ ويسترخي فحسب. وتساءل عمَّا إذا كانت ابنة نهرو، في حالة ابتعادها عن السُّلْطة، سوف «تقضي بعضَ الوقت في الاستمتاع بمراقبة الطيور، على جبال الهيمالايا أو في كشمير». وكان ثمة بعض الثرثرة بشأن الفن والأدب، ثم اخْتُتِمَت الرسالة كالآتي: «سنحاول متابَعةَ الأنباء الواردة من الهند، وربما تجدين نفسك — بعد خمسة أعوام — في مقعد السُّلْطة مجددًا بأغلبيةٍ أكبر من أي وقتٍ مضى. هذه هي الديمقراطية!»3
الحقيقة أنَّ عودة السيدة غاندي إلى السلطة استغرقت أقل من ثلاثة أعوام، وحصل حزب المؤتمر الذي أسَّسته على ٣٥٣ مقعدًا في انتخابات عام ١٩٨٠؛ أيْ أكثر ممَّا حصل عليه في حملة «لنطرد الفقر» عام ١٩٧١ بمقعد؛ فقد أبلى الحزبُ بلاءً حسنًا للغاية في الجنوب — كما في الماضي — وفي الشمال أفاد كثيرًا بانقسام الأصوات بين الفصيلين المتنافسين في حزب جاناتا، اللذين خاضَا المعركةَ الانتخابية هناك بوصفهما حزبين منفصلين. على سبيل المثال: في ولاية أوتَّر براديش الرئيسية حصل حزب المؤتمر على ٣٦٪ من أصوات الشعب، ولكنه رَبِحَ ٦٠٪ من المقاعد البرلمانية، وحصل أحد فصيلي حزب جاناتا على ٢٢٫٦٪ من الأصوات، بينما حصل الفصيل الآخَر على ٢٩٪. وفيما بينهما، رَبِحَا اثنين وثلاثين مقعدًا في الولاية مقابل مقاعد حزب المؤتمر الخمسين.4
ذكر المحرِّر برابهاس جوشي أنَّ انتخابات ١٩٨٠ مثَّلت «نهاية الأيديولوجية» في السياسة الهندية؛ فقد خاضت الأحزابُ الانتخاباتِ السابقةَ ورَبِحَتها بناءً على مبادئ الديمقراطية والاشتراكية والعلمانية وعدم الانحياز. إلا أنَّ السيدة غاندي عام ١٩٨٠ لم تتحدَّث عن القضاء على الفقر وإنما عن قدرتها على الحكم؛ فقد قالت للناخبين إنَّ حزب جاناتا لم يستطع السيطرة على زمام الحكومة، في حين أنَّ هذا كان في استطاعتها، وقد فعلته من قبلُ؛ فإلى جانب المشاحنات داخل حزب جاناتا، كانت ثمة عواملُ أخرى في غير صالحه أيضًا؛ فقد كان ثمة قصورٌ في السلع الاستهلاكية الأساسية، نُسِبَ إلى الحزب الحاكم بطبيعة الحال؛ فقد ذهب أحد الشعارات الانتخابية إلى أنَّ: «حزب جاناتا فشل، وفي طريقه اغترَفَ من الكيروسين والسُّكَّر.»5
كان حزب جاناتا قد قَوَّضَ مصداقيته تمامًا؛ فكما كشف مراسل صحفي يغطي الانتخابات، على الرغم من أنَّ إنديرا غاندي كانت «صورتها مُشَوَّهةً»، فإن خصومها كانوا «كلهم تشوُّهات دون صورة».6 في ذلك الوقت، أفضت الهجمات الطائشة على الطوائف الْمُجَدْوَلَة إلى تحويل هذه الشريحة العريضة جدًّا من الناخبين نحوَ حزب المؤتمر مجدَّدًا. وكان سانجاي غاندي قد اعْتَذَرَ للمسلمين عن تجاوُزات فترة الطوارئ؛ فعادت قطاعات من تلك الكتلة التصويتية إلى صَفِّ إنديرا أيضًا.7
في معظم أنحاء الهند، كانت الانتخابات حرةً بدرجة كبيرة، إلا أنَّه في بعض المناطق في بيهار وأوتَّر براديش، حيث كانت الطرقُ رديئةً وخطوطُ الهاتف منعدمةً، لم تتمكَّن اللجنة الانتخابية من رصد أو منع استحواذ عصاباتٍ مسلَّحةٍ على مراكز الاقتراع؛ ففيها سادت «المليشيات الحرة» الساحةَ، حتى «حَلَّ التصويت بالإنابة» محل «تصويت البالغين»؛ حيث أصبح بإمكان المرشح الذي يملك أكبر قدرٍ من السلاح في حوزته «أن يُؤَدِّي وظيفةَ «التصويت الجماعي» بالنيابة عن جمهور الناخبين».8

٢

بعد عودة السيدة غاندي إلى السلطة بفترة غير طويلة، نصحها عالِمُ سياسةٍ متعاطف مع حزب المؤتمر بأن تعيد تشكيلَ الحزب بحيث يكون «المؤسسة الكبيرة التي كان عليها في عهد نهرو»؛ فقد كان «من الضروري أن يحلَّ تقاسُم السلطة محلَّ الشخصنة المعمول بها فيه، وأن يُسْمَح بظهور زعامات تستمد قوتها من القاعدة الشعبية عوضًا عن القيادات المُعينة فيه». وحينئذٍ سيمكن استغلال «الكاريزما المستَرَدَّة» للسيدة غاندي «في سبيل تدعيم وتعزيز مؤسسات كيان سياسي منفتح، قبل أن تتبدَّد مرةً أخرى كما حدث في الماضي».9
كانت تلك المشاعر نبيلة وساذجة في الوقت نفسه؛ فالسيدة غاندي لم تكن تخال أنَّها تُجَسِّد حزبَ المؤتمر وحده، وإنما الدولة الهندية ذاتها؛ ففي مايو ١٩٨٠ قالت لصحفي زائر: «كنتُ لأعوام طويلة هدفًا للهجوم من جانب أفراد وجماعات وأحزاب»؛ سواء أكانوا «هندوسًا ومسلمين متعصِّبين» أم «أصحاب المصالح الإقطاعية القُدامى» أم أشخاصًا «متعاطفين مع الأيديولوجيات الأجنبية». وفي حين أنَّها كانت تعمل على أن تُحَقِّق «للهند الاستقلالَ المطلق في تصرُّفاتها، والاكتفاء الذاتي، والقوة الاقتصادية»، فأولئك «المناهضون للاكتفاء الذاتي أو العلمانية أو الاشتراكية يجدون سببًا أو آخَر لإيذائي».10
قد يكون «جنونُ الاضطهاد» (البارانويا) هو الوصف الملائم في هذا الموضع. وفي هذا الإطار الذهني لم تكن إنديرا غاندي مستعدةً لتقاسُم السلطة مع أحدٍ جديًّا، سوى ابنها سانجاي، الذي كان قد أصبح آنذاك نائبًا برلمانيًّا، وكذلك أمينًا عامًّا لحزب المؤتمر. وفي الواقع، أصبح سانجاي غاندي — كما أشارت إحدى المجلات في دلهي — «العنصرَ الأكثر حيويةً على الساحة السياسية الهندية» مرةً أخرى؛ فعندما أقالَتِ السيدة غاندي تسعًا من حكومات الولايات بعد انتخابات عام ١٩٨٠، كان سانجاي هو مَن اختار المرشحين على قوائم حزب المؤتمر لمجالس الولايات، وهو مَن قرَّر مَن يكون رئيس وزراء الولاية في حال فوز حزب المؤتمر. وقد تحدَّث رئيسُ وزراء أوتَّر براديش الحديثُ التعيين، فيشوانات براتاب سينج، بلسان كثيرين حينما قال للصحافة: «سانجاي زعيمٌ في حد ذاته، وهو زعيمي أيضًا.»11
كانت السيدة غاندي آنذاك في الثالثة والستين من عمرها، ولم تكن أفكارُ التوريث ببعيدة عن ذهنها؛ إلا أنَّه في يوم ٢٣ يونيو من عام ١٩٨٠، لَقِيَ سانجاي مصرعه أثناء قيادته طائرةً بمحرك واحد على سبيل اللهو، كما كانت عادته؛ فقد دار بها ثلاث دورات في الهواء، وحاوَلَ القيام بدورة رابعة، لكنه فقَدَ السيطرةَ؛ فسقطت الطائرة على بُعْد ٥٠٠ ياردة من المنزل الذي كان يعيش فيه مع والدته، ولَقِيَ كلٌّ من سانجاي ومساعده حتفهما على الفور.12
عادت السيدة غاندي إلى العمل بعد أربعة أيام، شاعِرةً بوحدة عارمة. وقد علَّق أحد المراسلين على «عُزلتها التامة التي لم يستطع أحدٌ اختراقَ جدارها».13 وبحلول نهاية شهر أغسطس كانت قد أقنعت ابنها الأكبر بسد الفجوة. حتى ذلك الوقت لم يُبْدِ راجيف غاندي اهتمامًا يُذكَر بالسياسة؛ فقد كان رجلًا أُسَرِيًّا، متفانيًا تجاه زوجته الإيطالية سونيا، وطفلَيْهما الصغيرين. كان طيَّارًا لدى شركة النقل الجوي المحلية الوحيدة، وهي شركة الخطوط الجوية الهندية. كان يقود طائرات أفرو إلى لكنو وجايبور، وتلخَّص طموحُه المهني الرئيسي في أن يُسْمَح له بقيادة طائرات بوينج بين دلهي وبومباي.
إلا أنَّ الضغوط تزايدت عليه آنذاك لدخول مجال السياسة، ومعظمها كان نابعًا من رئيسة الوزراء نفسها؛ ففي حديثٍ لراجيف غاندي مع أحد المحاورين في أغسطس ١٩٨٠، قال: «غير وارد على الإطلاق أن أَحِلَّ محلَّ سانجاي.» وعند سؤاله عمَّا إذا كان ينوي شغْلَ وظيفة حزبية أو الترشُّح لمنصبٍ ما، ردَّ قائلًا: «لا أُحَبِّذ ذلك.» وأردف قائلًا: إن زوجتي سونيا «ترفض دخولي مجالَ السياسة رفضًا قاطعًا».14
بعد تسعة شهور انْتُخِبَ راجيف غاندي نائبًا في البرلمان بدائرة أخيه القديمة؛ أميتي. وعند سؤاله عن سبب عدوله عن رأيه الأول، قال: «أرى أنَّني يجب أن أساعد أمي الحبيبة بشيءٍ ما.» وكتب صحفي شديد التعاطف معه: إن دخوله السياسة «وإنْ كان قد حدث خِلْسةً، ربما مَثَّلَ مفهومَ السيدة غاندي عن منح الهند الاستقرارَ في القيادة والاستمرارية في الحكم». فنظرًا لأنَّ «الأفق لا يلوح فيه أيُّ نوع من القيادة»، فكَوْنُ راجيف أحدَ أفراد عائلة نهرو منَحَه «معدلًا مرتفعًا من التماهي» و«نقطةَ تميُّز».15
تَعَرَّفَ أعضاء حزب المؤتمر ووزراؤه على المؤشرات — أو تَقَبَّلوا المحتوم — فاصطفوا في جميع أنحاء البلاد للتسليم على راجيف. وطُلِبَ إليه وَضْعُ أحجارِ الأساس في كليات الطب، وافتتاحُ خطوط الكهرباء في مستوطنات الهاريجان، وإلقاءُ الخُطَب أمام نوادي حزب المؤتمر في ذكرى ميلاد نهرو.16

بينما كان راجيف غاندي يخطو أولى خطواته في عالم السياسة الهندية، كانت والدته منشغلةً بالساحة العالمية، حيث عملت على إعادة بناء الجسور التي هُدِمَت إبَّان فترة الطوارئ؛ فقد كانت السيدة غاندي شديدةَ القلق إزاء التدهور الذي أصاب صورتها في الغرب، ولما أعادتها صناديقُ الاقتراع إلى السلطة، عقدت العزم على إصلاح الضرر؛ فطوال ثمانية شهور عام ١٩٨٢، استضافت المملكة المتحدة مهرجانًا للهند، تَضَمَّنَ مَعارِضَ للفن الهندي في متحف فيكتوريا وألبرت، وحفلاتٍ موسيقيةً أقامها رافي شانكار وإم إس سوبَّلاكشمي في قاعة المهرجانات الملكية، ومظاهرَ احتفالية كثيرة أخرى. وتَدَرَّجَت العروض من الرفيع والكلاسيكي إلى العامِّيِّ والشعبي؛ ومن ثَمَّ أُحِيلَت مدرسةٌ ثانوية في وسترشير إلى «راجستان مُصَغَّرة»، حيث خَيَّمَ الراقصون ورواة القصص من تلك الولاية لمدة أسبوع، وقُوبِلَت فقراتهم بمثلها؛ حيث قدَّمت المدرسةُ عرضًا لرواية «كتاب الأدغال» لكيبلينج.

تولَّتِ الحكومة الهندية الدعايةَ للمهرجان وتمويل جزء منه؛ فقد زارت رئيسةُ الوزراء المملكةَ المتحدة في بدايته ونهايته، ظاهِرةً بمظهر «نجمة العرض»؛ فإبَّان فترة الطوارئ، صوَّرتها قطاعات من الصحافة البريطانية غولةً، ولكنها آنذاك — بحسب تعليق أحد الصحفيين — أصبح «عليها الترحيب بالاهتمام الأكثر إطراءً إلى حدٍّ ما، الذي تتلقَّاه». ففي إحدى المناسبات، التي كانت فيها السيدة غاندي ورئيسة الوزراء البريطانية ضيفتَيِ الشرف الرئيسيتين، قالت السيدة غاندي: إنَّ «الهند ملتزمةٌ بالديمقراطية والاشتراكية»، مُضيفةً أنَّه «فيما يتعلَّق بالمبدأ الأخير، نحن نختلف عن السيدة تاتشر». وفي لقاء لها مع مجموعة من محرِّري الصحف، قالت في حدة: «أرجو أن تتوقَّفوا عن مناداتي بإمبراطورة الهند الآن.»

اعتبر مُنَظِّمو مهرجان الهند أنَّ المهرجان كُلِّلَ بنجاح باهر، وقد اتُّبِّعَ بمهرجانات مشابهة في الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي وفرنسا. وربما كان للرسام الكاريكاتيري آر كيه لاكشمَن الكلمة الأخيرة تعليقًا على تلك الضجة؛ إذ قدَّم في إحدى رسومه رجلين شبه عاريين في أحد شوارع الهند، أحدهما يقرأ الصحيفة ويقول للآخَر: «لولا هذا المهرجان وأمثاله ما عرفنا مبلَغَ عظمتنا وعظمة إنجازاتنا!»17

٣

تقتضي مهنة رسامي الكاريكاتير السخريةَ من كبار الشخصيات، ولكن في حالة لكشمن ربما كانت لتعليقاته صلةٌ أيضًا بحقيقة أنه كان يعيش في مدينة بومباي؛ حيث كان التناقض بين الثراء والفقر صارخًا بدرجة تفوق أي مكان آخر في الهند؛ فالحقيقة أنَّ المهرجان الذي أُقيم في لندن تَزامَنَ مع إضرابٍ نظَّمه عمَّالُ صناعة النسيج في بومباي لأجلٍ غير مُسَمًّى، تحت قيادة دَتَّا سامَنت، الطبيب الذي لم تظهر له أيديولوجية سياسية واضحة، وإنْ بلغَتْ كاريزمته مبلغًا أتاح له الحلول محلَّ الاشتراكيين والشيوعيين الذين تزَّعموا الاتحادات العمالية في المدينة حتى ذلك الحين.

بدأت مسيرة دَتَّا سامَنت المهنية في بومباي بمصنعٍ يُدْعَى إمباير داينج، استطاع الحصول لعُمَّاله على علاوة قدرها ٢٠٠ روبية في الشهر؛ فشجَّعه نجاحه على الانتقال إلى مصانع أخرى، وسرعان ما اكتسب ولاء معظم عُمَّال صناعة النسيج الضخمة في بومباي. كانت أجورهم ترتفع بمعدل تدريجي عبر السنين، وإذ لم يحميهم ذلك الارتفاع من التضخم بدرجة كافية، فقد سعوا إلى تحقيق إصلاح شامل في هيكل الرواتب. طالَبَ سامَنت برفع الحد الأدنى للأجور من ٦٧٠ روبية إلى ٩٤٠ روبية في الشهر، وعندما قُوبِلَ مطلبه بالرفض القاطع، دعا إلى إقامة إضراب. بدأ الإضراب في ١٨ يناير ١٩٨٢، ودام قرابة عامين. شارَكَ أكثر من ٢٠٠ ألف عامل في الإضراب، وضاع أكثر من ٢٢ مليونَ يومِ عملٍ.

كانت تلك حركةً جماهيرية حقيقية، تردَّدت أصداؤها عبر أنحاء المدينة وتجاوزتها؛ فخرج آلاف العمال مُعَرِّضين أنفسَهم للاعتقال، بينما اشتَبَكَ آخَرون مع كاسري الإضراب. وأثَّر ذلك المزاج العنيف على قطاعات أخرى من قوة العمل في المدينة؛ فسعى رجال الشرطة الذين كانوا يتقاضون أجورًا متدنية إلى تشكيل نقابة خاصة بهم، وخرجوا في احتجاجات إلى الشوارع. وفي النهاية، اضْطُرَّت قوات أمن الحدود شبه العسكرية إلى نزع سلاح رجال الشرطة وحبسهم.18
حدثت اضْطِرابات في الريف أيضًا على أُسُس طبقية؛ فقد أكَّد ناشطو الناكسَل — الذين اعْتُقِلَوا خلال فترة الطوارئ ولكن أُطْلِقَ سراحهم بعدها — حضورَهم في المناطق القبلية من أندرا براديش، فيما بين المجتمعات المتعرضة لقهر إدارة الغابات الحكومية والمُرابين الهندوس. ونشطت جماعات أخرى من الناكسَل في السهول الواقعة في وسط بيهار؛ حيث عملوا على تنظيم عُمال الهاريجان ضد مُلَّاك الأراضي من الطوائف الهندية العليا. رأى بعض المتعاطفين، من قبيل الكاتب السويدي يان ميردال، في تلك الاضْطِرابات احتمالَ — وأملَ — أن يكون للثورة الصينية نظيرةٌ هندية يومًا ما.19
في مطلع الثمانينيات من القرن العشرين حدثت تعبئة على أُسُس عِرْقية أيضًا؛ فقد اتَّخذت الحركة الساعية من أجل إقامة ولاية جهارخاند القبلية صورًا أكثر عُنفًا؛ فطبقًا للأرقام الرسمية، أُنفِق ٣٠ مليار روبية على «التنمية القبلية» في هضبة تشوتاناجبور. تتعذَّر علينا معرفة أين ذهبت تلك الأموال، إذ ظلَّ أهل المنطقة يعيشون في «ظلام العصور البدائية» دون مدارس ولا مستشفيات ولا طرق ولا كهرباء، وقد استحوذ على أراضيهم أشخاص من خارجها، وأغلقت الدولة غاباتهم في وجوههم؛ فكما قالت الكاتبة ماهاسفِتا ديفي: «تقوم المطالبة بولاية جهارخاند على تلك الخلفية. قصص الويل والاستغلال من ناحية، ونبض المقاومة من ناحية أخرى.»20
في جهارخاند تَزَعَّمَ الاحتجاجات شيبو سورين، الذي كان شابًّا ذا شعر أسود طويل سرعان ما أصبح بطلًا شعبيًّا؛ فقد نظَّم عملية الحصاد القسري لمحصول الأرز في الأراضي التي «سرقها» الديكو (الأغراب) من الأديفاسي، فضلًا عن غزو أراضي الغابات التي ادَّعى الأديفاسي أحقيتهم فيها. وفي سبتمبر ١٩٨٠، أطلقت الشرطة النار على حشد من المتظاهرين من أبناء القبائل في جُوا، وقُتِلَ خمسة عشر شخصًا على الأقل؛ فكثَّفت تلك الواقعة حدةَ المطالبات بإقامة ولاية جهارخاند.21
إضافةً إلى ذلك، كان ثمة مطالبات — وإن لم يُعرَب عنها بقوة كما في حالة جهارخاند — بإقامة ولاية تُدْعَى تشاتيسجار، تُقْتَطَع من المناطق القبلية في ماديا براديش، وبإقامة ولاية تُدْعَى أوتَّراخند، تتألَّف من مناطق الهيمالايا في ولاية أوتَّر براديش. كانت هذه المناطق غنية هي الأخرى بالأخشاب والمياه والمعادن، وهي موارد زَايَدَ استغلالَها الاقتصادُ الوطني الأوسع نطاقًا ولصالحه، ممَّا أفضى إلى حرمان السكان من مواردهم.22

شَهِدَت الثمانينيات تجدُّدًا لتمرد قبائل ناجا؛ فأثناء حالة الطوارئ، تمكَّنت حكومة الهند من إقناع أعضاء كُثُر في مجلس ناجا الوطني التابع لفيزو بإلقاء السلاح والخروج إلى العلن؛ فكان بعض الأفراد في الإدارة يأملون في أنَّ «اتفاق شيلُّونج» هذا (الذي سُمِّيَ على اسم المدينة التي وُقِّعَ فيها) سوف يُمَثِّل نهايةَ التمرد. إلا أنَّ الراديكاليين من أمثال تي مويفا اعتبروا الاتفاق خيانةً. كان مويفا هو ابن قبيلة تانجكول ناجا الذي كان من أوائل المستعينين بالصين في الستينيات، وكان قد مكث أربعة أعوام في مقاطعة يونان الصينية، حيث تلقَّى تدريبات على يد جيش التحرير الشعبي. وإذ خلَّفت فيه الثورة الثقافية الصينية انبهارًا عميق الأثر، سعى إلى مزج مُثُلها بالديانة التي وُلِدَ عليها، ومن ثَمَّ جمع بين المسيحية الإنجيلية والاشتراكية الثورية.

في عام ١٩٨٠، أنشأ مويفا وإيساك سو «مجلس ناجالاند الاشتراكي الوطني». بحلول ذلك الوقت كانت الإمدادات الصينية قد انقطعت، فاستعاض عنها مويفا بإقامة صلات مع جماعات أخرى من المتمردين في شمال شرقي الهند وبورما. وقد نقل صحفي التقى مويفا في مخبئه بالغابة رأيَه المتمثِّل في أنَّ «الأمل الوحيد أمام قبائل ناجا في الحصول على استقلالها هو أنْ تَتَفَكَّك الهند ذاتها». كانت لزعيم قبائل ناجا ذاك صلاتٌ بمتطرفين سيخ وانفصاليين كشميريين، و«كان لديه أمل وطيد في أنْ تنشأ حركة مماثلة بين التاميليين في جنوب الهند، ممَّا من شأنه أنْ يُلْقِي بالبلاد في بحر الفوضى التي يتمنَّاها».23
كان أقوى أتباع مويفا من أبناء قبيلته تانجكول، الذين عاشوا في المناطق المرتفعة من مانيبور؛ فلو كان لدولة ناجا التشكُّل يومًا، لَكانت تلك المرتفعات جزءًا منها. إلا أنَّه في ظل الظروف التي كانت سائدة آنذاك، لم يكن التانجكول راضين تمامًا عن حكم جماعة ميتي الهندوسية لهم، وهي الجماعة السكانية المسيطرة في مانيبور. وإذ شعرت الحكومة الهندية بالقلق إزاء تشكُّل مجلس ناجالاند الاشتراكي الوطني، زادت انتشار قواتها في منطقة أُكرول بمانيبور. وفي ١٩ فبراير ١٩٨٢، نصب المتمردون شَرَكًا لقافلةٍ عسكرية مارَّة من طريق إمبال-أُكرول، قتلوا من جرَّائه اثنين وعشرين جنديًّا من الكتيبة السيخية، بينهم ضُبَّاط؛ فردَّ الجيش بثورة عارمة، إذ انطلق يفتش كلَّ قرية في المنطقة، فيعتدي على رجالها ويهاجم نساءها. وقد ذهب فريقٌ معنِيٌّ بالحريات المدنية لزيارة المنطقة، وسَجَّلَ إفادات الضحايا؛ فوجد أنَّه «على الرغم من أنَّ قلةً من الناس تؤيد الجماعات السرية، فقد كانوا جميعًا مشتبَهًا بهم في نظر الجيش».24

٤

نشأت حركات مطالبة بإقامة ولايات منفصلة أو جديدة داخل الاتحاد الهندي، وحركات مطالبة بمزيد من الاستقلالية في الحكم داخل حدود الولايات القائمة؛ ففي معقل حزب المؤتمر القديم، أندرا براديش، تزايَدَ السخط إزاء ميل الحكومة المركزية إلى «فرض» رؤساء وزراء الولاية؛ ففي الفترة ما بين عامَيْ ١٩٧٨ و١٩٨٢ غيَّرت السيدة غاندي رئيسَ وزراء الولاية ما لا يقل عن أربع مرات. وفي فبراير ١٩٨٢، ذهب رئيس الوزراء الجديد تي أنجايه إلى مطار حيدر أباد لاستقبال راجيف غاندي، مصطحبًا معه مجموعةً كبيرة من المؤيدين حاملين أطواق الزهور؛ فوبَّخَ راجيف رئيسَ الوزراء على اصطحابه ذلك الحشد إلى المطار، في شدةٍ دمعت لها عينا أنجايه.25

اسْتُشْعِرَت الإهانة على المستويين الشخصي والجمعي؛ إذ صوَّرها الإعلام الناطق باللغة التيلوجوية على أنَّها إهانةً لكبرياء الأندريين. كان ممَّنِ استفزَّتهم تلك الواقعةُ إلى الحركة الممثِّل السينمائي العظيم إن تي راما راو (المعروف بإن تي آر)، الذي مَثَّلَ للسينما التيلوجوية ما مثَّله إم جي آر للسينما التاميلية؛ بطلًا ونجمًا مشهورًا باعتراف الجميع. ذهب أحد التقديرات إلى أنَّ راو مَثَّلَ في ١٥٠ فيلمًا، و٣٠٠ فيلم وفقًا لتقدير آخَر. (فضَّل مصدر آخر تحرِّي الدقة، محددًا عدد الأفلام بأنها ٢٩٢.)

خلافًا لإم جي آر، لم يكن لإن تي آر ماضٍ سياسي. وإضافةً إلى ذلك، لم تكن أفلامه تحمل في المعتاد رسالةً اجتماعية (كانت قائمة بالأساس على قصص الأساطير والخرافات). ثم إنَّه — على أعتاب عامه الستين — أسَّسَ حزبًا إقليميًّا جديدًا؛ «تيلوجو ديسام»، يُعَبِّر عن «كبرياء ٦٠ مليون شخص من متحدثي التيلوجوية واحترامهم لذاتهم». وقال إنَّ ولاية أندرا براديش العظيمة لن تُعامَل معاملةَ أحد «الفروع التابعة» لحزب المؤتمر بعد اليوم.26
تَأَسَّسَ الحزب الجديد في مارس ١٩٨٢، وكان من المُزمَع عقْدُ انتخابات مجلس الولاية في نهاية العام؛ ففي إطار تحضير إن تي آر للانتخابات، طاف بأنحاء الولاية، مُنَدِّدًا بإدارة حزب المؤتمر «الفاسدة». واستقلَّ في أسفاره شاحنةً صغيرة عُدِّلَت لتبدو مثل عربات الخيول. وفي المؤتمرات الشعبية كان يخرج من العربة في مشهد درامي، معتليًا منصةً تُرفَع بالاستعانة بمولد كهرباء. كان يرتدي ملابس بلون الزعفران عادةً، وهو لون نكران الذات، دلالةً على أنَّه قد تخلَّى عن عمله في الأفلام لخدمة الشعب؛ فكان البطلَ الأسطوري الذي تحوَّل إلى حقيقة، وقد جاء ليُخَلِّص العالم من الطمع والفساد، ويجلب العدل للجميع؛ فحضرت النساء إلى اجتماعاته وفودًا، وهو بدوره وعدهن بجامعاتٍ خاصةً بهن ووضْع متميِّز في توزيع وظائف القطاع الحكومي.27
في حين أنَّ الصحافة القومية كانت متشكِّكة إزاء احتمالات نجاح إن تي آر، ألقت الصحيفةُ اليومية الكبرى «إينادو» الصادرة باللغة التيلوجوية ثِقَلها الكبير وراءه، وكُوفِئت ثقتها عندما فاز حزب تيلوجو ديسام بأغلبية الثلثين في مجلس الولاية. وفي الأسبوع الثاني من يناير ١٩٨٣، أدَّى إن تي آر قَسَم رئاسةِ الوزراء في ميدان الفاتح بحيدر أباد، بينما تدَفَّقَ جمهورٌ قوامه ٢٠٠ ألف من الأندريين المهلِّلين إلى الساحة.28
كان من أولى الخطوات التي اتخذها إن تي آر بعد وصوله إلى السلطة هو إصدار تعليمات لإدارة الغذاء في حكومته ببيع كيلو الأرز بروبيتين، وفاءً بعهدٍ قطعه قبل الانتخابات. وتَصَرَّفَ بصفة عامة كأنما هو الحزب والحكومة أيضًا، محاكيًا في ذلك صديقه إم جي آر وكذلك غريمته إنديرا غاندي. وعن ذلك قال أحد الاشتراكيين مُعَلِّقًا: «إذا كانت رئيسة الوزراء تظن أنها الهند، فإن تي آر يتصرَّف كأنه الممثِّل الوحيد لخمسةٍ وستين مليون متحدث باللغة التيلوجية؛ فأعضاء المجلس التشريعي المنتمين إلى حزب تيلوجو ديسام لا دورَ لهم في تشكيل سياسات الحكومة وبرامجها؛ فتي إر هو المتحكم في الأمور في منصبَيْ رئيس وزراء الولاية ورئيس الحزب على حدٍّ سواء.»29 ومثل السيدة غاندي أيضًا، كان إن تي آر منحازًا لأُسرته، كما في سماحه لابنه ببناء ستوديو سينمائي على أرضٍ غير مرخَّصة.30

٥

كان ثمة حركة أخرى أكثر خطورةً تطالِب بالحكم الذاتي، تتشكَّل في ولاية آسام. نقول «أكثر خطورةً» لأنها ناجمة عن آراء أطياف واسعة من السكان عوضًا عن الكاريزما الفردية، ولأنَّ موقع الولاية لم يكن في قلب الهند وإنما في طرفٍ منها لطالما ثارت فيه المتاعب.

كانت آسام تتقاسم حدودها مع غرب البنغال وعدة ولايات في الشمال الشرقي، إضافةً إلى دولتَيْ بنجلاديش وبوتان. كانت اللغة الآسامية هي لغة الولاية، ولكن اللغة البنغالية كانت واسعةَ الانتشار فيها أيضًا، وكان ثمة تاريخٌ طويل من العداء بين متحدِّثي اللغتين؛ فقد سَيْطَرَ البنغاليون على الدرجتين الوسطى والدنيا في حكومة الاستعمار، ومارَسُوا بصفتهم موظفين ومعلمين وقضاةً نفوذًا وسلطةً كبيرين على السكان المحليين الآساميين، معامِلين إياهم بترفُّع بل حتى بازدراء أيضًا. بدءًا من أواخر القرن التاسع عشر، بدأ الفلاحون البنغاليون المتعطشون إلى الأرض في الانتقال إلى غابات آسام ومنخفضاتها، واستمر ذلك النزوح بعد الاستقلال، مع ازدياد سرعةِ وتيرته متى تَعَرَّضَ شرق البنغال — أو ما أصبح فيما بعدُ بنجلاديش — لاضْطِرابات سياسية أو أزمات اقتصادية. في سبعينيات القرن العشرين، على سبيل المثال، قفز عدد الناخبين المسجَّلين في آسام من ٦٫٢ ملايين نسمة إلى قرابة ٩ ملايين نسمة، في زيادةٍ تُعْزَى بالأساس إلى السكان النازحين من بنجلاديش.31
كان الآساميون يخشون التعرُّض للتبعية الثقافية على يد الطبقة الوسطى البنغالية، وللغزو الديموغرافي على يد الفلاحين البنغاليين؛ فحدثت نوبات من أعمال الشغب في الخمسينيات والستينيات، استهدفت إعادةَ النازحين من حيث أَتَوْا. إلا أنَّ تلك المشاعر لم تتحوَّل إلى حركة اجتماعية واسعة الانتشار إلا في أواخر السبعينيات من القرن العشرين.32

كان التنظيم المحوري في هذا التحوُّل هو اتحاد طلاب عموم آسام. امتدَّت شبكة ذلك التنظيم إلى جميع أنحاء الولاية، حيث كانت اتحادات الطلاب في المدارس والكليات كافة تابعة لها؛ فبدءًا من عام ١٩٧٩ وطوال الأعوام الخمسة التالية، قاد اتحاد طلاب عموم آسام مئات الإضرابات والمسيرات، الرامية إلى الضغط على الحكومة المركزية من أجل تطهير آسام من المتسلِّلين.

استندت حجة القوميين الآساميين إلى الثقافة والديموغرافيا، ثم أضاف اتحاد طلاب عموم آسام أساسًا ثالثًا، وهو الاقتصاد؛ فقد كان جليًّا أنَّ اقتصاد آسام واقع تحت سيطرة أغراب عنها؛ فحقول الشاي الغنية في الولاية كانت مملوكةً في معظمها لشركاتٍ مقراتها في لندن أو كلكتا. وكانت آسام تتمتع بحقول النفط الأعلى إنتاجيةً في الهند، إلا أنَّ التنقيب عن النفط كان مسئوليةَ شركات قطاع عام لا توظِّف سوى قلة من السكان المحليين (وخلَتْ مستوياتُ الإدارة العليا منهم تمامًا)، والأدهى من ذلك أنَّ النفط كان يُرسَل بعد ذلك إلى معامل تكرير في ولايات أخرى. أما التجارة وتداوُل السلع المحليَّيْن فسَيْطَرَ عليهما المارواريون من راجستان؛ فبصفة عامة، كانت آسام «مستعمرةً داخلية»، تمدُّ الهند الحضرية بالمواد الخام الرخيصة حتى تعالجها الأخيرة وتربح منها.

تَمَثَّلَ المطلب الأكبر لدى حركة آسام في وضع سياسة اقتصادية جديدة، حتى يتمكَّن سكان الولاية من إدرار الدخل وتوفير فرص عمل من خلال التوظيف الأمثل لمواردها الطبيعية. إلا أنَّ الطلب الأكثر إلحاحًا تمثَّل في حذف أسماء النازحين من قوائم الناخبين، تهيئةً لترحيلهم من الولاية. أفضى ذلك إلى استقطابٍ طائفيٍّ مؤسف، وإنْ كان حتميًّا على الأرجح؛ نظرًا لأنَّ كثيرًا من آخِر النازحين كانوا في الواقع مسلمين. واتُّهِم حزب المؤتمر — الذي أمسك بزمام الحكم في الحكومة المركزية ولطالما كان الحزب المسيطر في الولاية — بحماية النازحين باعتبارهم كتلةً تصويتية حبيسة. وكان ممَّا عجَّل بعملية الاستقطاب أيضًا تشكُّلُ اتحاد طلاب الأقليات لعموم آسام.33
وجد صحفي من دلهي في زيارة إلى آسام في صيف ١٩٨٠ أنَّ «الحركة اكتسبت نطاقًا هائلًا بلا شك»؛ فهي لم تَعُدْ مقتصرةً على المتعلِّمين ولا الأشخاص الفصيحي اللسان؛ فقد شعر الآساميون كلهم «بالسخط المتزايد، والقنوط؛ فإلى جانب المشاعر المعادية للأغراب، تولَّدَتْ لدى الحركة توجُّهاتٌ خطيرة أخرى؛ من معاداة البنغاليين واليساريين والمسلمين وغير الآساميين، بل ظهر أيضًا توجُّهٌ بطيء، لكنه ملحوظ، إزاء معاداة الهنود أنفسهم».34 فهُوجِمَ البنغاليون، وأُحْرِقَت منازلهم. إلا أنَّ الحكومة المركزية اسْتُهْدِفَت أيضًا؛ فقد اقتلع أفراد مخرِّبون قضبان السكك الحديدية، وأوقف اتحادُ طلاب عموم آسام تصديرَ الخشب الرقائقي والجوت، بل إنَّه نجح في وقف تدفُّق النفط، ممَّا اضْطُرَّت معه الحكومة إلى إعلان أنَّ خط الأنابيب والأرض الممتدة حتى مسافة نصف كيلومتر على جانبَيْه «منطقة محمية». وفي النهاية اضْطُرَّت إلى استدعاء الجيش لجلب إمدادات النفط من آسام إلى معملِ تكريرٍ في ولاية بيهار البعيدة.35
في الأسبوع الأخير من يوليو ١٩٨٠، حذَّرت رئيسة الوزراء اتحادَ طلاب عموم آسام من أنَّ تصرُّفاتهم يمكن أن تستتبع عقابًا، وسألت: «لنفترض أنَّ الولايات الأخرى رفضت إمدادَ آسام بالصُّلب؛ فكيف سيتسنى للآساميين تطويرُ صناعتهم؟» فقد كانت الفيدرالية الهندية قائمةً على الاعتماد المتبادل؛ «لا يمكن لأي وحدة الاستمرار إلا في ظل وحدة أكبر، وإلا فاقت الضغوط الخارجية الاحتمال».36

إلا أنَّه في نفس وقت إصدار هذا التحذير، كانت الحكومة المركزية قد بدأتِ المفاوضاتِ مع زعماء اتحاد طلاب عموم آسام. استمرت المحادثاتُ طوالَ الأعوام الثلاثة التالية، بصفة متقطعة؛ حيث كانت الإضرابات والاحتجاجات تشتعل من جديدٍ متى توقَّفت المحادثات. كان طرفا المفاوضات رسميًّا هما اتحاد طلاب عموم آسام من ناحيةٍ، ووزارة الداخلية من الناحية الأخرى. إلا أنَّ وسطاء كُثُرًا اسْتُعِينَ بهم أيضًا، منهم مؤسسة غاندي للسلام ورئيس وزراء مانيبور؛ آر كيه دورِندرا سينج. كانت القضية موضع الخلاف الحقيقي هي تحديد التاريخ النهائي الذي يمكن أن يُعتبَر أيُّ نزوح إلى الولاية بعدَه «غيرَ شرعيٍّ». كان اتحاد طلاب عموم آسام يريد شطْبَ أيِّ نازحٍ جاء بعد عام ١٩٥١ من قائمة الناخبين وترحيله، أما الحكومة الهندية فرأت في ذلك تعدِّيًا على المبدأ الفيدرالي؛ إذ انتهَكَ حرية المواطنين في التنقُّل بين مختلف أنحاء البلاد. إلا أنها كانت مستعِدَّةً لقَبول عام ١٩٧١ تاريخًا نهائيًّا؛ لأنَّ مجريات الأحداث في باكستان الشرقية عام ١٩٧١ كانت قد استثارت نزوحًا غير مسبوق عبر الحدود يمكن اعتباره «غيرَ طبيعيٍّ».

وفقًا لإحدى الروايات، التقى ممثلو الحكومة واتحاد طلاب عموم آسام في ١١٤ يومًا في أعوام ١٩٨٠ و١٩٨١ و١٩٨٢، طُرِحَت خلالها تسويات متنوعة؛ إحداها اقترحَتْها مؤسسةُ غاندي للسلام، ومفادها مَنْحُ مَن دخلوا آسام بين عامَيْ ١٩٥١ و١٩٦١ حقَّ الإقامة وحقَّ التصويت (المواطنة فعليًّا)، وتوزيعُ الوافدين بين عامَيْ ١٩٦١ و١٩٧١ على ولايات الهند الأخرى، وترحيلُ مَن جاءوا بعد ٢٥ مارس ١٩٧١ (تاريخ إعلان بنجلاديش دولةً ذات سيادة).37
إلا أن الوضع بَدَا مستعصيًا؛ فقد اسْتُؤْنِفَ النزاع، واتَّخذ صورًا أسوأ؛ ففي واقعةٍ بَشِعة حدثت في فبراير ١٩٨٣، ذبح حشد كبير غاضب من الآساميين والقبليين مئات المسلمين البنغاليين؛ لتتحقق بذلك نبوءة الصحفي ديفدَت الحزينة، الذي أشار — في تعليقٍ كتبه بينما كانت المحادثات بين الحركة والحكومة في مراحلها المبكرة — إلى أنَّه إنْ لم يتم التوصُّل إلى حلٍّ ما، «فمثل نهر براهمابوترا الثائر الذي يجري مسافة ٤٥٠ ميلًا في آسام، سوف تجلب مشاعرُ الاستياء والسخط العارمة الويلَ هي الأخرى».38

٦

تزامنت مع حركة آسام اضْطِراباتٌ أخطر منها حتى مطالِبة بزيادة الحكم الذاتي في ولاية البنجاب. وأقول «أخطر منها حتى» لأن البنجاب كانت متاخمة لباكستان، البلد الذي دخلت الهند في ثلاثة حروب معه. وإضافةً إلى ذلك، كانت الأغلبية السكانية في الولاية من السيخ لا الهندوس؛ ومن ثَمَّ أُضِيفَ إلى الانتماءَيْن الأساسيين المتمثِّلين في اللغةِ والإقليمِ، العنصرُ الذي يُحتمَل أن يكون فتَّاكًا؛ أَلَا وهو الدين.

كما في آسام، كان «الِاضْطِراب» أو «الحركة» أو «الأزمة» (وهي ثلاثة من أسماء عديدة له) في البنجاب ناجمًا عن أسباب مباشِرة وأخرى غير مباشِرة؛ فقد كان ثمة قطاعٌ من النخبة السيخية المثقفة يأمل — بصورة أو أخرى — في إعادة الولاية السيخية التي حكمها المهراجا رانجيت سينج في النصف الأول من القرن التاسع عشر، بينما اكتفى آخَرون بالتطلُّع إلى فترة التقسيم، وما تعرَّضت له طائفتهم من مآسٍ وخسائر آنذاك؛ فقد استغرق إجبار نيودلهي على تشكيل مقاطعة ذات أغلبية سيخية داخل الهند عشرين عامًا من الكفاح شبه المتواصل. إلا أنه حتى بعد تشكُّل البنجاب الجديدة عام ١٩٦٦، لم يتمكَّن الحزب السياسي السيخي الأكبر — أكالي دال — من إحكام قبضته على الولاية. وكان مما ولَّد ضغائنَ عميقةَ الأثر أنَّه بين عامَيْ ١٩٦٧ و١٩٦٩، اضْطُرَّ حزبُ أكالي دال إلى تشكيل ائتلافات غير مستقرة مع أحزاب «هندوسية» مثل جانا سانج، في حين أن حزب المؤتمر المنافس له تَمَكَّنَ من السيطرة على مقاليد حكم البنجاب في عام ١٩٧١ بمفرده.39

في أكتوبر ١٩٧٣ مررت اللجنة العاملة لحزب أكالي دال «بيان أناندبور صاحب»، الذي طالبت فيه الحكومة الهندية بتسليم تشانديجار إلى البنجاب (كانت المدينة مشترَكةً بين البنجاب وهاريانا)، وكذلك تسليم المناطق الأخرى الناطقة بالبنجابية التي كانت تابعةً لولايات أخرى آنذاك، وزيادة نسبة السيخ في الجيش. وفي مطالبتها بتعديل الدستور الهندي فيما يخصُّ «المبادئَ الفيدرالية الحقيقية»، قالت إنَّه «في البنجاب الجديدة هذه وفي غيرها من الولايات، سوف يقتصر تدخُّلُ الحكومة المركزية على شئون الدفاع والعلاقات الخارجية والعُمْلة والإدارة العامة، بينما تقع كافة الإدارات الأخرى ضمن نطاق اختصاص البنجاب (والولايات الأخرى) التي سيكون لها كامل الحق في سَنِّ قوانينها الخاصة في تلك الموضوعات».

يمكن تأويل هذا البيان على أنه مجرد سعي إلى الوفاء بوعد الحكم الذاتي للولايات، الذي ألمح إليه الدستور. إلا أنَّه قابل أيضًا لأن تكون له تأويلات أكثر خطور؛ فقد تحدَّثت ديباجته عن أكالي دال باعتباره «التجسيدَ الحيَّ لآمال «الأمة» السيخية وتطلُّعاتها». وحُدد «الهدفَ السياسي للمجتمع السيخي» بأنه: «غَلَبة الخالصة (جماعة السيخ)»، بينما تمثَّلت «السياسة الجوهرية» لأكالي دال في «الوصول إلى هذا الحق الطبيعي للخالصة، عن طريق تهيئة بيئةٍ ووضعٍ سياسيٍّ مُوَاتِيَيْن».40
ربما لم يكن عام ١٩٧٣ الوقتَ الأمثل لتقديم تلك المطالب، بينما كانت السيدة غاندي منتشيةً بالنصر الذي أحرزته في الحرب الأخيرة، والحكومة المركزية أقوى من أي وقت مضى. وقد زادت سلطاته أكثر مع فرض الطوارئ، عندما سُجِنَ آلاف الأعضاء في حزب أكالي. ولكن حالة الطوارئ رُفِعَت عام ١٩٧٧، وعُقِدَت الانتخابات، ومُنِيَ حزبُ المؤتمر بهزيمة نكراء شاملة؛ فمع وصول أكالي دال إلى السلطة في البنجاب، عادت مطالب بيان أناندبور صاحب إلى الحياة، وأُضِيفَت إليها مطالبُ جديدة. تَضَمَّنَتْ خسائرُ التقسيم نهرين من الأنهار الخمسة التي يُعْزَى إليها اسم الولاية. وكأنَّ ذلك لم يكن سيئًا بما فيه الكفاية، فقد اضْطُرَّت ولاية البنجاب الهندية إلى تقاسم الأنهار الثلاثة المتبقية مع ولايتَيْ هاريانا وراجستان؛ فزعم أعضاء حزب أكالي أنهم يحقُّ لهم الحصول على حصة أكبر من مياه تلك الأنهار، وصاحَبَ ذلك المطلبَ الاقتصادي آخَرُ ثقافيٌّ، تَمَثَّلَ في اعتبار أمريتسار — مقر قدس الأقداس لدى السيخ، المعبد الذهبي — «مدينة مقدسة».41
في أبريل ١٩٧٨ انعقد مؤتمر شعبي في أمريتسار لطائفة دينية، هي النيرانكاري. كانت تلك الطائفة تَعتبر نفسها من السيخ، ولكن نظرًا لأنَّها تؤمن بأن هناك جورو حيٌّ بعد الجورو جرانث صاحب، فقد اعتبرهم السيخ كُفَّارًا. وإذ أمسك حزب أكالي دال بزمام السلطة، أعرب بعض الكهنة عن شعورهم بالعار لانتهاك حُرمة المدينة المقدَّسة بوجود هؤلاء. كان زعيم المعارضة في مؤتمر النيرانكاري واعِظًا مغمورًا حتى ذلك الحين، يُدْعَى جارنيل سينج بيندرانوال. وُلِدَ بيندرانوال في أسرة سيخية من الجات، وكان قد ترك زوجته وأبناءه لإدارة معهد ديني يُدْعَى دَمدَمي تَكسال. كان شخصيةً ذات حضور مؤثر؛ إذ تجاوَزَ طولُه ستة أقدام، وكان قوامه رشيقًا رياضيًّا، وعيناه نافذتين، ويرتدي عباءةً زرقاء طويلة. وكان أيضًا واعظًا مُؤَثِّرًا بل ملهِمًا أيضًا، واسعَ المعرفة بالنصوص السيخية، وقد زعم أنَّ السيخ «عبيد في الهند المستقلة»، يعانون الاضطهاد على يد الهندوس. وأراد بيندرانوال من السيخ أن يُطَهِّروا أنفسهم ويعودوا إلى أُسُس عقيدتهم. وتحدث باحتقار عن الهنودسي الفاسد الواهن، ولكنه استهزأ أكثر بالسيخي العصري، الذي نَسِيَ نفسه تمامًا إلى حدِّ أنه قَصَّ شعره وأصبح يُدَخِّن التَّبْغ ويُعاقِر الخمر.42
ذهب البعض إلى أنَّ بيندرانوال كان صنيعة يد سانجاي غاندي ووزير داخلية الاتحاد زايل سينج (الذي كان رئيس وزراء البنجاب سابقًا هو نفسه) للتصدِّي لحزب أكالي دال؛ ففي سبتمبر ١٩٨٢، كتبت الصحفية عائشة كاجال أنَّ بيندرانوال «كان في الأصل صنيعة يد الحكومة المركزية التي أنزلته إلى الساحة بغية تقليص دائرة نفوذ حزب أكالي دال».43 والكلمة المحورية هنا هي «في الأصل»؛ فأيًّا كان مَن روَّج لبيندرانوال في أول الأمر، فهو سرعان ما أظهَرَ كاريزمتَه وتأثيرَه المستقلين؛ فقد انجذب إليه كثير من الجات ذوي الخلفية الريفية، الذين شهدوا احتكار كبار ملاك الأراضي لمكاسب الثورة الخضراء. وجاء أتباعٌ آخَرون من الطوائف السيخية الدنيا المتمثلة في العمال والحرفيين، الذين ارْتَأَوْا في عملية التطهير ارتقاءً اجتماعيًّا لهم أنفسهم. وقد استفاد بيندرانوال أيضًا من زيادة التديُّن بصفة عامة، التي تبعت — في البنجاب كما في بعض المناطق الأخرى — النموَّ الاقتصادي السريع وغير المتوقَّع.44

ولكن دعونا نعد إلى مؤتمر النيرانكاري في أمريتسار في أبريل ١٩٧٨؛ فأثناء انعقاده، ألقى بيندرانوال خُطبة عصماء غاضبة من داخل المعبد الذهبي؛ فحرَّكت كلماته مشاعرَ جمهرةٍ من السيخ ليهاجموا مكان التقاء الكَفَرة؛ فقاوَمَهم النارينكاري، ولَقِيَ خمسة عشر شخصًا مصرعهم في المعركة.

وتَعَرَّضَ كبرياء السيخ لضربة أخرى عام ١٩٨٠، عندما أُقِيلَ حزب أكالي دال من الحكومة، وعاد حزب المؤتمر إلى مقاعد السُّلْطة في البنجاب؛ ففي شهر يونيو من ذلك العام، التقت جماعة من الطلاب في المعبد الذهبي، وأعلنت قيام جمهورية سيخية مستقلة، وأطلقوا على الجمهورية اسم خالستان، واختاروا لها رئيسًا؛ هو جاجيت سينج تشاوهان، السياسي السيخي المقيم في لندن. كان سيخيو المهجر هم الواقفين وراء هذه الخطوة بالأساس، وصدر الإعلان في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وفرنسا في وقت واحد.45

لم تكن الحكومة في دلهي شديدةَ القلق حيال هذه العناصر الهامشية؛ فقد كان انتباهها مُنَصَبًّا على أكالي دالي، الذي اختار طريقَ المواجَهة لدى إبعاده عن السلطة؛ فقد استقرَّ زعيمه الجديد — سانت هرتشَران سينج لونجُوال — في المعبد الذهبي، حيث طَفِقَ يعلن عن نزول التظاهُرات إلى الشوارع احتجاجًا على موضوعات متنوعة، مثل تسليم تشانديجار أو زيادة الحصة الموزَّعة من مياه القنوات. أما بيندرانوال فعمل في جزء آخَر من المعبد؛ فقد اكتسب مجموعةً من الأتباع المخلصين المدجَّجين بالسلاح، الذين اضطلعوا بدور الأعوان والحرس الشخصيين له، كما اضطلعوا من حين لآخَر بوظيفة القَتَلة غير المأجورين لحسابه.

في أوائل الثمانينيات، كان ثمة حالة من التعايُش القَلِق بين سياسة التحريض على الثورات وسياسة الاغتيالات؛ ففي أبريل ١٩٨٠ أُردِي زعيم النيرانكاري بابا جورتشاران سينج قتيلًا في نيودلهي، وساد ظنٌّ واسعُ النطاقِ بأنَّ بيندرانوال كان وراء مقتله، ولكن لم يُتَّخَذ أيُّ إجراء ضده. ثم جاء اغتيال لالا جاجَت ناراين في سبتمبر ١٩٨١، المحرر الواسع التأثير الذي أثار جدلًا عنيفًا ضد التطرف السيخي. في هذه المرة صدرتْ مذكرةُ اعتقالٍ في حق بيندرانوال، وذهبت الشرطة للقبض عليه في معبد سيخي بولاية هاريانا، وعندما وصلت إليه كان قد عاد ليحتمي بمعهده الديني في البنجاب. فأراد رئيس وزراء الولاية، دربارا سينج، أن يذهب لاعتقاله ولكن وزير الداخلية، زايل سينج، ثَناه عن ذلك تَخَوُّفًا من تبعات مثل تلك الخطوة. ثم أرسل بيندرانوال خبرًا مفاده أنَّه مستعد للاعتقال، ولكن على يد سيخ ملتحين وفي الوقت الذي يختاره هو، وممَّا يدعو للعجب أن حكومة البنجاب استجابت لتلك الشروط المهينة؛ فبعد مرور أسبوعين على حادثة الاغتيال، سلَّمَ نفسه أمام المعهد الديني الذي يُدِيره، بينما راح جمهور من مؤيديه يهتف بالشعارات ويقذف رجال الشرطة بالحجارة. وهاجَمَ أتباعُه ممتلكات الدولة في عدة أماكن أخرى، مستفزين الشرطة لإطلاق النار عليهم. ووفقًا لإحدى الروايات، فقد لَقِيَ نحو اثني عشر شخصًا مصرعهم في أعمال العنف المحيطة باعتقال بيندرانوال.46
أُطْلِقَ صراح بيندرانوال بعد ثلاثة أسابيع لعدم كفاية الأدلة؛ فكتب اثنان من مُسَجِّلي وقائع ثورة البنجاب أنَّ «إطلاق سراح بيندرانوال مَثَّلَ نقطةَ التحول في مساره المهني؛ فقد أصبح يُنْظَر إليه على أنَّه بطل تحدَّى الحكومة الهندية وهزمها». وقال آخَر إنَّ بيندرانوال «حَوَّلَ نفسه»، باستخدام الأحداث الدرامية المقترنة باعتقاله، «من متهمٍ بالقتل إلى قوة سياسية جديدة».47
أثناء عام ١٩٨٢، دارت عدة جولات من المفاوضات بين الحكومة المركزية وحزب أكالي دال، ولكن دون التوصُّل إلى اتفاقٍ؛ إذ ظلَّ حجرَيِ العثرة كلٌّ من مسألة المناطق التي سوف تتنازل عنها البنجاب لولاية هاريانا مقابل تشانديجار، ومسألة تَقاسُم مياه الأنهار. وفي ٢٦ يناير ١٩٨٣ — عيد الجمهورية — استقال المشرِّعون المنتمون إلى حزب أكالي دال من مجلس الولاية، وربما أَلْمَحَ توقيتُ إقدامهم على هذا التصرُّف إلى تَذَبْذُب التزامهم بالدستور الهندي؛ فقد اضْطَرهم التحدي الذي مثَّله بيندرانوال إلى اتِّخاذ منحًى أكثر تطرُّفًا؛ فقد أصبح أعضاء حزب أكالي دال ينزعون إلى تشبيه حُكْم حزب المؤتمر بعهد المغول البائد المشئوم، وبدءوا يُنَظِّمون «فِرَقًا استشهادية» لمحاربة مُعَذِّبي السيخ الجُدُد.48

في ٢٢ أبريل ١٩٨٣، قُتِلَ شُرطِيٌّ سيخي رفيع المستوى — إيه إس أتوال — لدى خروجه من المعبد الذهبي بعد تأدية الصلاة فيه، ثم دخل الرجل الذي أطلق عليه النار عن قُرْبٍ المعبدَ بكل هدوء؛ فأسفَرَ مقتلُ أتوال عن زيادة انخفاض الروح المعنوية لقوات الشرطة البنجابية، التي كانت أغلبيتها هي نفسها من السيخ. وأعقبتْ ذلك نوبةٌ من سرقات البنوك. وبدأت قطاعات من الأقلية الهندوسية تفرُّ من الولاية، أما المتبقون منها فنظَّموا أنفسهم تحت لواء «قوة دفاعية» هندوسية، وبدأت قرونٌ من العلاقات السِّلْمية بين الهندوس والسيخ تنهار تحت الضغط.

في حوارات أجراها بيندرانوال مع الصحافة، وَصَفَ السيخَ بأنهم «قوم منفصلون». تُفَسَّر لفظةُ «قوم» أحيانًا بمعنى «مجتمع»، ولكن المرجح أيضًا أن تُؤَوَّل أيضًا بمعنى «أُمَّة». وقال إنه لم يطالِب بخالستان، لكنها إنْ عُرِضَت عليه فلن يرفضها. وسَخِرَ من رئيسة الوزراء باعتبارها «بانديتين»، ابنة برهمي، وهو وصف مشحون بالازدراء الذي كَنَّه السيخ من الجات لمَن يُعمِلون عقولَهم عوضًا عن أيديهم. وعند سؤاله عمَّا إذا كان سيقابل السيدة غاندي، أجاب: «لا أود مقابلتها، لكنها إذا كانت تريد مقابلتي، فيمكنها المجيء إلى هنا.»49
وكان بيندرانوال من الممكن أن يتحدث مع أتباعه بصراحة أكبر؛ إذ قال لهم ذات مرة: «إذا جاء الهندوس بحثًا عنكم، فهَشِّموا رءوسَهم بهوائيات أجهزة التليفزيون.» وذَكَّرَهم بالتاريخ البطولي للسيخ؛ فعندما حاوَلَ المغول القضاء على الجورو، «حارَبَ آباؤنا وقد كانوا ٤٠ سيخيًّا مقابل ١٠٠ ألف باغٍ». وقال لهم إنهم بإمكانهم فعل الشيء ذاته مع قاهِرِيهم الجدد. وكان أمامهم نموذج معاصر أيضًا؛ هو إسرائيل. فقد قال بيندرانوال إنَّه إنْ كان في إمكان القلة اليهودية هناك السيطرةُ على العرب الذين يفوقونهم عددًا بكثير، فالسيخ يمكنهم فعْلُ الشيء نفسه مع الهندوس.50
في ٥ أكتوبر ١٩٨٣، أَوْقَفَ إرهابيون حافلةً على الطريق السريع، ثم انتقَوْا منها الركاب الهندوس، وأطلقوا عليهم الرصاص، وفي اليوم التالي فُرِضَ الحكم الرئاسي على الولاية. وفي الأسابيع الأخيرة من عام ١٩٨٣، أقام بيندرانوال في «أكال تخت»، المبنى الذي يلي المعبد الذهبي مباشَرةً في الأهمية؛ فالأخير، الذي يقع في وسط بحيرة زرقاء رقراقة، يجلُّه السيخ باعتباره مقرَّ السلطة الروحانية. أما الأول، وهو بناء رخامي مهيب قائم شمال المعبد الذهبي مباشَرةً، فمَثَّلَ في الماضي مقرَّ السلطة الدنيوية. وكان أكال تخت هو المكان الذي أصدَرَ منه الجورو العظماء تعاليمَهم، وهي الأوامر التي كان على السيخ جميعًا اتِّباعها واحترامها. وإلى ذلك المكان كان محاربو السيخ يأتون ليتبرَّكوا قبلَ الشروع في حملاتهم المسلحة ضد قاهِرِيهم في العصور الوسطى؛51 فكان قرارُ بيندرانوال الانتقال إلى أكال تخت آنذاك، وافتقارُ الجميع إلى الشجاعة لوقفه، أمرين مليئين بدلالات رمزية عميقة إلى أخطر حد.

٧

أثبَتَ بزوغ العنف الطائفي في البنجاب خطأَ كثيرٍ من النبوءات المتعلقة بتلك المقاطعة وسكانها؛ فقد قِيلَ في خمسينيات القرن العشرين إنَّ السيخ سيزدادون «هندوسيةً»، بل إنهم سيصبحون إحدى طوائف العقيدة الكبرى المعتنَقة في عموم الهند، عوضًا عن الوقوف بمفردهم كديانة منفصلة. وفي الستينيات قِيلَ إنَّ حزب أكالي دال بعدما يذوق السلطة، سوف يتحوَّل إلى «العلمانية»، ومن ثَمَّ ستُتَوَجَّه خُطَبُه وسياساته بعدها بالاعتبارات الاقتصادية لا الدينية. وبحلول السبعينيات، كان الصراع قد حلَّ محلَّ الوفاق في موقع الصدارة بين موضوعات العلوم الاجتماعية البنجابية، فيما عدا أنَّ المتوقع كان أنَّ المتاعب حينما تأتي ستنشأ على أُسُس طَبَقِيَّة، إثر تحوُّل الثورة الخضراء إلى ثورة حمراء.

إلا أنَّه عند الوصول إلى مطلع العقد التالي، أصبح وَضْع السيخ في الهند يُقارَن بوَضْع التاميليين في سريلانكا؛ فقد كتب عالِم السياسة بول والاس عام ١٩٨١ أنَّه في كلتا الحالتين: «اتَّحَدَتِ اللغة والدين والنعرة الإقليمية مكوِّنين سياقًا محتمل التفجُّر تسعى النخبةُ السياسية جاهدةً إلى احتوائه.»52 وعلى مدار العام أو العامين التاليين، ازداد المزيجُ فَتْكًا بإضافة عنصر رابع، وهو العنف المسلَّح.
كان الصراع بين الهندوس والسيخ أمرًا غير مسبوق على مدار تاريخ الهند. وبينما أخذ يتبدَّى، تكشَّفت أيضًا صورٌ أخرى أقدم منه للصراع الاجتماعي؛ ومن ثَمَّ أطلق الصحفي إم جيه أكبر، الذي جمَّع تقاريره عن عقد الثمانينيات في مجلَّد واحد، على كتابه عنوان: «شغب بعد شغب»، وهو عنوان محزن، لكنه ملائم.53
تمثَّل أحد محاور ذلك الصراع في الطائفة بطبيعة الحال؛ فخلال شهرَيْ يناير وفبراير من عام ١٩٨١، هزَّتْ ولايةَ جوجارات اشتباكاتٌ بين الطوائف المتقدمة والمتخلفة. كان محلُّ الخلاف هو مسألةَ حجزِ المقاعد في كليات الهندسة والطب للمستويات الدنيا؛ فالهاريجان تحديدًا كانت نسبةُ تمثيلهم ضئيلةً جدًّا في هذين المجالين، سواء أكانت في فئة الطلاب أم الأستاذة؛ فمن بين ٧٣٧ عضوًا في هيئات التدريس بكليات الطب في جوجارات، كان اثنان وعشرون منهم فقط من الهاريجان. إلا أن مطالباتهم بزيادة تمثيلهم قُوبِلَت بمقاومة ضارية، واتسع نطاقُ الصراع متجاوزًا الطلابَ تمامًا؛ فحتى عمَّال النسيج في أحمد أباد، الذين لطالما كانوا متحدين تحت لواء واحد، سرعان ما فَرَّقَتْ بينهم طوائفُهم الاجتماعية، ولَقِيَ خمسون شخصًا على الأقل مصرعهم في أحداث العنف.54
تَمَثَّل محورٌ ثانٍ للصراع في الدين، وهو أمر أكثر طبيعيةً؛ فقد كانت النعرة الطائفية قد أخذت تشتدُّ بدرجة مقلقة إبَّان حكم حزب جاناتا؛ فمع وصول السياسيين المتحالفين مع منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج إلى السلطة في الحكومة المركزية والولايات، نمت قوة المنظمة ونفوذها؛ ففي عام ١٩٧٩ اندلعت أعمالُ شغبٍ كبيرةٌ في مدينة جمشيدبور معقل صناعة الصلب، وخلص تحقيق قضائي أمرت به الحكومة إلى أنَّ منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج «كان لها دورٌ إيجابي في تهيئة مناخٍ مُوَاتٍ لتَفَشِّي الاضْطِرابات الطائفية».55
بعد الهزيمة النكراء التي لَقِيَها حزب جاناتا في انتخابات عام ١٩٨٠، انْشَقَّ عنه أعضاؤه الذين كانوا منتمين قَبْلًا إلى جانا سانج، ليُؤَسِّسوا حزبهم الخاص، وأطلقوا على ذلك الحزب اسمَ حزب بهاراتيا جاناتا، ولكن الاسم الجديد لم يكن لِيُوارِي فعليًّا هدفًا قديمًا جدًّا؛ وهو السَّعْي لتمثيل المصالح «الهندوسية» والدفع بها. والحقيقة أنَّ تشكيل حزب بهاراتيا جاناتا استهلَّ موجةً من العنف الديني في شمالي الهند وغربها؛ فقد وقعت أعمالُ شغب بين الهندوس والمسلمين في مدينتَيْ مراد أباد (أغسطس ١٩٨٠) وميروت (بين شهرَيْ سبتمبر وأكتوبر ١٩٨٢) بأوتَّر براديش، وفي مدينة بيهار شريف بولاية بيهار بين أبريل ومايو من العام ١٩٨١، وفي مُدُن فادودارا (سبتمبر ١٩٨١) وجودرا (أكتوبر ١٩٨١) وأحمد أباد (يناير ١٩٨٢) بولاية جوجارات، وفي مدينة حيدر أباد عاصمة ولاية أندرا براديش في سبتمبر ١٩٨٣، وفي مدينتَيْ بيواندي وبومباي خلال شهرَيْ مايو ويونيو من عام ١٩٨٤. وفي كلٍّ من تلك الحالات، كانت أعمال الشغب تستمر لأيامٍ، متسبِّبةً في خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، وكانت القوات المسلحة تتدخل لإخمادها في النهاية.56
يمكن للمرء تبيُّن بعض السمات المتكررة في الدراسات المتعددة التي أُجْرِيَت على أعمال الشغب المتعددة تلك:57 ففي المعتاد كان الشغب يبدأ بمشاجرة تافهة في حدِّ ذاتها؛ فربما كان نزاعٌ على قطعة أرض أو مساحة في الشارع، طالَبَ بها كلٌّ من الهندوس والمسلمين. ويمكن أن تثور بسبب خنزير ضلَّ طريقه إلى داخل مسجد، أو بقرة نافقة عُثِرَ عليها بالقرب من معبد هندوسي. وأحيانًا كان السبب يتمثَّل في تزامن عيدين للهندوس والمسلمين، يُسْفِر عن التقاء مسيرات كبيرة للطرفين في الشارع.

على أي حال، فالنزاع بمجرد أنْ يبدأ فإنه يتصاعد بسرعة. ودورُ الإشاعات محوريٌّ في هذا الصدد؛ حيث يتضاعف حجم الواقعة الأصلية في كل مرة يُعاد فيها سرْدُ القصة، حتى يتحول اشتباك بسيط بين فردين إلى حرب مقدسة بين ديانتين انْتُهِكتا في وقت واحد. كانت المنظمات الطائفية تساهم في ذلك التصعيد، وكذلك الخصومات الحزبية؛ إذ كان السياسيون المحليون ينحازون إلى أحد الجانبين؛ فكانت الكلمات تتطوَّر إلى ضربات، والقتالُ بالأيدي يتطوَّر إلى قتال بالسيوف، ثم تتحوَّل تلك الأخيرة بدورها إلى قنابل حارقة ورصاصات. وكانت الشرطة إما تقف موقفَ المتفرج وإما تنحاز إلى أحد الجانبين؛ ففي ولايتَيْ بيهار وأوتَّر براديش كانت الشرطة تحابي الهندوس على الدوام، فتشجِّعهم وأحيانًا تشارك حتى في نهب منازل المسلمين ومتاجرهم.

كانت أعمال الشغب تقع عادةً في المدن التي يُمَثِّل فيها المسلمون نسبةً كبيرة من تعداد السكان — بين ٢٠٪ و٣٠٪ — وحيث كان بعضهم قد ارتقى درجات السلم الاقتصادي في الآونة الأخيرة، كأن يتسع نطاق السوق التي يخدمها الحرفيون. وأيًّا كان البادئ في تلك المشاجرات — ودائمًا ما كانت ثمة دعاوى ودعاوى مضادة في هذا الصدد — كان المسلمون والفقراء هم الضحايا الأساسيين؛ فالمسلمون، على الرغم من أنَّ أعدادهم كانت كبيرةً بما يكفي للمحاربة في معاقلهم، كانوا في نهاية المطاف يقلُّون عددًا عن خصومهم بنسبة النصف أو الثلث. أما الفقراء فكانوا يعيشون في المناطق المزدحمة من المدينة، في منازل مبنية من خامات هشة أو سريعة الاشتعال؛ فبمجرد أن يهب حريقٌ، فسرعان ما يلتهم الحي بأكمله. في المقابل، كانت الطبقة الوسطى تعيش في تجمعات سكنية فسيحة تَيَسَّرتْ فيها أكثرَ كفالةُ الأمن على المستويين الشخصي والجماعي.

في الهند، كانت الصراعات الطبقية والطائفية تجري في خطين متوازيين عادةً، ولكن في ثمانينيات القرن العشرين بدأت كلٌّ منهما تتأثَّر بالأخرى على نحوٍ غير ملحوظ. كان الحدث المحوري في هذا الشأن هو اتخاذ قرية بأكملها من الهاريجان في تاميل نادو قرارَ اعتناقِ الإسلام؛ ففي ١٩ فبراير ١٩٨١، تحوَّل ألف ساكن في ميناكشي بورام إلى الإسلام، وهم لم يغيِّروا دينَهم وأسماءهم الشخصية فحسب، وإنما غيَّروا اسمَ قريتهم أيضًا؛ فقالوا إنَّها ستُعْرَف باسم «رحمة نجر» منذ ذلك الحين.

أثارت تلك الواقعة السخطَ في أوساط منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج والمنظمات التابعة لها؛ فقد أُطْلِقَ نداء «الهندوسية في خطر»، وارْتُئِيَتْ في الحدث اليد الآثمة «لأموال دول الخليج العربي»؛ فقيل إنَّ البلدان العربية تستخدم أموال النفط لنشر الدعوة إلى الإسلام في شبه القارة الهندية، وأن المسلمين الهنود متواطئون معها بكامل إرادتهم. كان الدعاة الإسلاميون ناشطين في تلك المنطقة بالفعل، ولكن قرار الهاريجان جاء أيضًا استجابةً للقهرِ المستمر الذي تعرَّضوا له على أيدي ملاك الأراضي من الطوائف الاجتماعية العليا، والاضطهادِ الذي تعرَّضوا له في دخول المدارس والحصول على وظائف حكومية؛ فكانوا يأملون في أنْ يتمكنوا من الفِكاك من الوصمة الاجتماعية باعتناقِ دينٍ يؤمن بالمساواة بين المؤمنين به كافةً.58

٨

يرى المؤرخ أوجهَ تشابُه غريبة بين السنوات الأولى في الفترة الأولى للسيدة غاندي والسنوات الأولى في فترتها الثانية؛ ففي كلتا الفترتين كانت تلك السنوات مليئة بمتاعب لا تنتهي؛ ففيما بين عامَيْ ١٩٦٦ و١٩٦٩ واجَهَ حزبُ المؤتمر والحكومة المركزية تحديات خطيرة من داخل المنظومة الديمقراطية — على سبيل المثال، انتصار حزب درافيدا مونيترا كازاجام في مدراس وانتصار الجبهة المتحدة في البنغال — ومن خارجها، كما في تمرد الميزو والناكسَل. وإضافة إلى ذلك، لاح شبح المجاعة جليًّا في الأفق، وحدث نقص حاد في السلع الضرورية.

وقد شاهدنا بالفعل كيف تعاملت السيدة غاندي مع تلك الأزمات؛ حيث ساعَدَنا على إعادة تصوُّر الوضع آنذاك المخزونُ الهائل من الأوراق التي حَفِظَها سكرتيرها الأول بي إن هاكسَر. ولكن بحلول عام ١٩٨٠ كان هاكسَر قد تركها، ومن ثَمَّ لا يتوافر لدينا مسار من الأوراق يمكننا تتبُّعه لإعادة تصوُّر استجابتها للأزمات الجديدة، الناجمة عن نوبة جديدة من الحركات العِرْقية والإقليمية وعن تفاقم الصراع الطائفي.

خلال عامَيْ ١٩٦٩ و١٩٧٠، كان المسار الذي سلكته السيدة غاندي أيديولوجيًّا؛ إذ أعادت تقديمَ نفسها في صورة منقذة الفقراء، وشكَّلت حزبًا جديدًا بسياسات جديدة. تُرَى أي مسار كان يمكنها أن تسلك لو كان بي إن هاكسَر إلى جوارها؟ أو أي مسار كان يمكنها أن تسلك لو كان سانجاي غاندي لا يزال على قيد الحياة؟

طبعًا تلك تكهنات نظرية بحتة؛ فما نعلمه فعلًا هو أنَّه منذ أواخر عام ١٩٨٢ أو نحوه كانت رئيسة الوزراء قد بدأت تفكر جديًّا في مسألة إعادة انتخابها، فهي لم ترغب في هزيمةٍ كالتي مُنِيَت بها عام ١٩٧٧؛ فقررت، تفاديًا لهذا الاحتمال، أن تقدِّم نفسها في الانتخابات في صورة منقذة الأمة، التي تصون وحدتها من القوى المثيرة للشِّقاق التي تَتَهَدَّدها.59

في الوقت نفسه كانت الأحزاب الأخرى غير حزب المؤتمر واعيةً بالقدر ذاته بالانتخابات المقبلة، وبالحاجة إلى بناء جبهة مشتركة. تَزَعَّم الجهود الرامية إلى الوَحدة إن تي راما راو (إن تي آر)، الذي دعا إلى عقد اجتماع لأحزاب المعارضة في فيجاياوادا في مايو ١٩٨٣، حَضَرَه رئيس وزراء ولاية جامو وكشمير الجديد؛ فاروق عبد الله، الذي حلَّ محلَّ والده الشيخ عبد الله بعد وفاة الأخير عام ١٩٨٢.

أثارت مبادرة إن تي آر حفيظة رئيسة الوزراء، كما أثارتها مشاركةُ فاروق فيها؛ فعندما أُجْرِيَت الانتخابات في ولاية جامو وكشمير عام ١٩٨٣، قادت السيدة غاندي حملةً ضارية من أجل حزبها. وفي خُطَبٍ ألقتها في منطقة جامو ذات الأغلبية الهندوسية، صوَّرت فاروقًا على أنَّه شبه انفصالي. كان الشِّقاق بين جامو ووادي كشمير قد قُدِّمَ قَبْلًا في صورة الشِّقاق الطائفي، ولكن لم يسبق قطُّ أن حدث ذلك على يد رئيس للوزراء؛ فكانت تلك استراتيجيةً خَطِرةً، ثم إنها لم تُفلِح؛ إذ أُعيد انتخاب فاروق وحزبه (حزب المؤتمر الوطني الكشميري) بأغلبية كبيرة.60

في ذلك الوقت، تفاقم الصراع في البنجاب إلى حد مقلق؛ فقد ازدادت وتيرة الهجمات على المدنيين الهندوس. وفي ٣٠ أبريل ١٩٨٤، قُتِلَ ضابط شرطة سيخي كبير، كان أحد جلَّادي الإرهابيين المميزين. وفي ١٢ مايو، اغْتِيلَ أيضًا راميش تشاندِر، ابن المحرر لالا جاجَت ناراين وخليفته في عمله. بحلول ذلك الوقت، كان رجال بيندرانوال قد بدءوا في تحصين المعبد الذهبي، تحت إشراف شوبيج سينج، اللواء السابق في الجيش الهندي، الذي كان أحد أبطال حرب ١٩٧١ ودَرَّبَ مقاتلي موكتي باهيني.

تحت إرشاد شوبيج، بدأ المسلحون يضعون أكياسَ الرمل على أبراج المراقبة، ويحتلون البنايات المرتفعة والأبراج المحيطة بمُجمع المعبد الذهبي. وكان الرجال الذين شغلوا نقاطَ المراقبة تلك جميعهم على اتصالٍ لاسلكي بشوبيج في أكال تخت، فكان من الواضح أنَّهم كانوا يتوقَّعون هجومًا من جانب قوات الحكومة؛ فأُعِدَّت الدفاعات على أمل أن تتمكَّن من الصمود فترةً كافية لإثارة انتفاضة عامة في أوساط السيخ في القرى ومسيرة جماهيرية تجاه المعبد المُحاصَر. وخُزِّن غذاء يكفي المدافعين شهرًا.

أخذ الجانب الآخَر يستعِدُّ للتحرك أيضًا؛ ففي يوم ٣١ مايو، اسْتُدْعِيَ اللواء آر إس برار من ميروت، حيث كان مسئولًا عن فرقة مشاة، وأُمِرَ بقيادة عملية تخليص المعبد من الإرهابيين. كان برار سيخيًّا من الجات، تبعُد قرية أسلافه بضعة أميال فحسب عن قرية أسلاف بيندرانوال، ثم إنه يعرف شوبيج سينج حق المعرفة؛ فسينج معلمه في الأكاديمية العسكرية الهندية في دهرادون، وقد عملَا معًا في العمليات العسكرية ببنجلاديش.

تلقَّى برار إحاطةً من الفريق سوندَرجي والفريق دَيال؛ فقِيلَ له إنَّ الحكومة تعتقد أنَّ الوضع في البنجاب لم يَعُدْ في إمكان الإدارة المدنية السيطرة عليه؛ فمحاولاتُ الحكومة المركزية الوصولَ إلى تسوية مع حزب أكالي دال قد بلغت طريقًا مسدودًا؛ إذ فشل أكالي دال في إقناع بيندرانوال بتفكيك التحصينات ومغادرة المعبد. وكان أكالي دال نفسه يزداد تشدُّدًا؛ فقد أعلن سانت لونجُوال زعيمُ الحزب أنَّه سيقود حركة يوم ٣ يونيو لوقف تصدير الحبوب من الولاية. طُرِحَت فكرة الحصار، لكنها رُفِضَت؛ خوفًا من قيام تمرُّد في الريف، ومن ثَمَّ قرَّرت رئيسة الوزراء، «بعد كثير من التردد»، أنَّه لا بد من طرد المسلحين بالقوة؛ فطُلِبَ من برار تخطيط وقيادة ما عُرِفَ بعملية النجم الأزرق، التي تَقَرَّرَ إتمامها في غضون ثمانٍ وأربعين ساعة إنْ أمكن، دون الإضرار بالمعبد الذهبي، وبأقل قدرٍ ممكن من الخسائر في الأرواح.61

خلال أربعٍ وعشرين ساعة من تلك الإحاطة بدأ الجيش يدخل أمريتسار؛ حيث تسلَّم دفة القيادة في المدينة من القوات شبه العسكرية. وفي يوم ٢ يونيو، دخل ضابط سيخي شاب المعبد، متظاهرًا بأنه أحد زوار المعبد، وأمضى ساعة متجوِّلًا في أنحائه، مراقبًا بعناية الإعدادات الدفاعية المتَّخذة في المعبد. وأُرْسِلَت دوريات أيضًا لاستطلاع نقاط المراقبة التي احتلَّها المسلَّحون في الخارج، التي كان لا بد من إزاحتها من الطريق قبل شَنِّ الهجوم.

في ليلة ٢ يونيو، تحدثت رئيسة الوزراء على إذاعة «أول إنديا راديو»، مناشِدةً «جميع قطاعات البنجاب» الإحجام عن «إراقة الدماء» والإقدام في المقابل على «نبذ الكراهية». كانت تلك الدعوة مخادعة؛ إذ كان الجيش يستعِدُّ للهجوم بالفعل. وفي يوم ٣ يونيو قُطِعَت الطرق والسكك الحديدية وخطوط الهاتف في البنجاب، ولكن في أمريتسار نفسها رُفِعَ حظر التجوال، للسماح لزوار المعبد الذهبي بإحياء ذكرى استشهاد الجورو أرجون ديف.

في اليوم التالي حدث تبادُل إطلاق نار بصورة متقطعة في محيط المعبد؛ إذ حاولت قوات الجيش إسقاط الأبراج التي يحتلها المسلحون. وطوال ذلك اليوم واليوم التالي، طُلِبَ من زوار المعبد مغادرته من خلال مكبرات الصوت، ثم بدأ الهجوم نفسه في ليلة ٥ يونيو. كان برار يأمل في السيطرة على الأجزاء الواقعة في محيط المعبد بحلول منتصف الليل، وبعدها تُوضَع وحدة داخل أكال تخت وتُرسَل تعزيزات؛ بحيث يُخْلَى المكان بأكمله من العناصر المسلحة بحلول صباح اليوم التالي. إلا أنَّ خطته استهانت إلى حدٍّ خطير بعدد المسلحين ومبلغ عَتَادهم ومهارتهم وعزيمتهم؛ فجميع نوافذ أكال تخت كانت قد غُطِّيَت بالألواح، بينما وقف قنَّاصون وراءها لإطلاق النار من شقوق في الداخل، وتفرَّق مسلحون آخَرون حاملين مدافعَ آليةً وقنابلَ يدويةً في أنحاء المُجَمَّع، مستفيدين من معرفتهم بممراته وشرفاته الضيقة لمباغَتة القوات المتقدِّمة.

في تمام الساعة الثانية صباحًا من يوم ٦ يونيو كانت القواتُ متأخرةً عن الجدول المحدد لها بدرجة كبيرة، وكتب برار أنَّه «نظرًا لكثافة النيران التي أطلقها المسلحون من اتجاهات متعددة، لم تتمكَّن قواتنا من الاقتراب من أكال تخت مسافةً كافية للتصويب بأي قدرٍ من الدقة».62 وفي النهاية، لَزِمَ الحصول على تصريحٍ من دلهي باستخدام الدبابات لاختراق الدفاعات. وبحلول الفجر، كانت دبابات عدة — تَتَراوَح التقديرات بين خمس دبابات وثلاث عشرة دبابة — قد اقتحمت بوابات المعبد واحتلَّتْ مواقعَ فيه. راحت الدبابات تُمْطِر أكال تخت بوابلٍ من النيران معظم ذلك اليوم، وفي المساء ارْتُئِي أن إرسال قوات إلى المبنى آمِن، للقبض على المدافعين الذي يمكن أن يكونوا متبقين؛ فوجدت القوات جثة شوبيج سينج في القبو، وقد ظلَّ قابضًا على بندقيته وإلى جواره جهاز اتصال لاسلكي. وعثرت القوات في القبو أيضًا على جثتي بيندرانوال وأحد أعوانه المخلصين، أمريك سينج من اتحاد الطلاب السيخ لعموم الهند.

قدَّرت الحكومة أعداد القتلى بأربعة ضباط، وتسعة وسبعين جنديًّا، و٤٩٢ إرهابيًّا. وتذهب روايات أخرى إلى أنَّ أعداد القتلى كانت أعلى من ذلك بكثير: ربما ٥٠٠ جندي وضابط أو أكثر، و٣ آلاف ممَّن سواهم، بمَن في ذلك زوار كُثُر من زوار المعبد، الذين وقعوا في مرمى النيران.

قال آر إس برار معلِّقًا: «بصرف النظر عن حقيقة أنَّ تحويل بيت الرب إلى ساحة قتال، وعن أن كافة المبادئ والأسس التي دعا إليها الجورو السيخ العشرة قد ضُرِبَ بها عُرْضَ الحائط؛ فلا مفرَّ من الإقرار بأنَّ التصميمَ الذي تمسَّك به المسلحون بموقفهم، والجسارةَ العنيدة التي خاضوا بها المعركة، والدرجةَ العالية من الثقة بالنفس التي أظهروها؛ جديرةٌ بالإشادة والاعتراف.»63 من المستحيل ألَّا يتعاطف المرء مع كاتب هذه الكلمات، الذي كانت مهمته — دون شك — هي أصعب مهمة أُوكِلَت إلى قائدٍ في الجيش الهندي، سواء أكانت في وقت السِّلْم أم الحرب. وكان تعليق الجنرال السيخي، الذي عمل كلٌّ من برار وشوبيج تحت إمرته أثناء تحرير بنجلاديش، عن عملية النجم الأزرق هو الآتي: «لقد اسْتُخْدِمَ الجيشُ لإنهاء مشكلة تسبَّبت فيها الحكومة. هذا هو نوع التصرُّف الذي سوف يُدَمِّر الجيش.»64

٩

يَبْعُد المعبد الذهبي مسيرة عشر دقائق عن جليانوالا باج، حيث أمر قائد لواء بريطاني قواتِه في أبريل ١٩١٩ بإطلاق النار على جمهورٍ من الهنود العُزَّل؛ فلَقِيَ أكثر من ٤٠٠ شخص مصرعهم. وتحتل تلك الواقعة مكانةً مقدَّسةً في المخيلة والذاكرة القوميتين. وقد استغل المهاتما غاندي مشاعرَ السخط الجماعية التي استفزتها تلك الواقعةُ ببراعةٍ لشَنِّ حملة ضد الاستعمار في جميع أنحاء البلاد. أما عملية النجم الأزرق فكان هدفها مختلفًا — إذ كانت موجَّهة ضد متمردين مسلحين، وليس تجمعًا سلميًّا — إلا أنَّ تبعاتها كانت مشابهةً؛ فقد خلَّفت جُرحًا جمعيًّا في نفسية السيخ، وشكًّا عميقًا في حكومة الهند؛ فقد قُورِنَ النظام في دلهي بالقامعين والمدنِّسين السابقين؛ مثل المغول والغازي الأفغاني أحمد شاه عبدالي من القرن الثامن عشر.65 ووجد مراسل صحفي طاف بأنحاء ريف البنجاب «مجتمعًا حانقًا نافرًا»، وعلى حدِّ تعبيرِ أحد السيخ المسنين: «لقد أُوذِيَت ذاتُنا الداخلية، وهُوجِمَ أساسُ عقيدتنا؛ فقد أُبِيدَ تقليد كامل.» وفي ذلك الحين، حتى السيخ الذين كانوا معارضين لبيندرانوال سابقًا بدءوا يرونه في ضوء جديد؛ فأيًّا كانت أخطاؤه وآثامه الماضية، فقد مات هو ورجاله وهم يدافعون عن المعبد المقدس من المخرِّبين.66
كان المشهد من خارج البنجاب مختلفًا إلى حدٍّ بعيد؛ فكثير من الناس أشادوا بالسيدة غاندي لاتِّخاذها موقفًا (وإن كان متأخرًا) ضد الإرهابيين الذين زُعِمَ أنهم يتقاضون أجرَهم من باكستان. وحُثَّتْ رئيسة الوزراء نفسها آنذاك على اتِّخاذ خطوات ضد العناصر المعارضة لها في ولايات أخرى؛ فقد ظلت تضغط فترةً من أجل إقالة حكومة فاروق عبد الله من جامو وكشمير، وعندما أخبرها حاكمُ الولاية بي كيه نهرو بأنَّ ذلك تصرُّفٌ منافٍ للدستور، اسْتُعِيضَ عنه بمساعد سانجاي غاندي السابق؛ جاجموهان. وفي يوليو ١٩٨٤، نجح جاجموهان في إحداث انشقاق داخل حزب المؤتمر الكشميري، ونصب زعيم المجموعة المتبقية رئيسَ وزراء الولاية الجديد. أرسل حزب المؤتمر في دلهي حقائب من النقود لرشوة المشرِّعين الكشميريين حتى يتخلُّوا عن زعيمهم. ولم يُمْنَح فاروق فرصةً لاختبار أغلبيته على أرض المجلس؛ فقد صدر قرارُ الإقالة بحقه في منتصف الليل، كما حدث مع والده عام ١٩٥٣، الذي أُبْعِدَ عن منصبه أيضًا بحجة التشكيك في التزامه بالقانون، والتشكيك بدرجةٍ أكبر في أخلاقياته؛ فكما كتب بي كيه نهرو، أصبح الكشميريون «مُوقِنين الآن لدى الإطاحة بزعيمهم المنتخب للمرة الثانية، بأنَّ الهند لن تسمح لهم بحكم أنفسِهم بأنفسهم أبدًا».67
بعد مرور شهر، غُيِّرَ النظام في أندرا براديش. ومرة أخرى اضْطَلَعَ الحاكم — عضو حزب المؤتمر السابق — بدورٍ شرير في التغيير؛ فقد حَرَّضَ قسمًا من حزب تيلوجو ديسام على الانشقاق، وتكوين حكومة جديدة، بمساندة حزب المؤتمر.68 مثَّلت إقالةُ رئيسَيْ وزراء كلٍّ من ولاية جامو وكشمير وولاية أندرا براديش انتهاكًا صارِخًا للممارسة الديمقراطية؛ فهاتان لم تكونا من الحركات المتمردة المسلحة، وإنما كانتا حكومتين منتخبتين وفقًا للقانون. ولا يمكن للمرء استبعاد فكرة الضغائن الشخصية؛ فعلى أي حال، كان إن تي آر وفاروق هما مَن ابتدآ الجهودَ الرامية إلى توحيد صفوف المعارضة. ومن المؤكد أن رئيسة الوزراء قدَّرت أيضًا أنَّه سيكون من المفيد أن تُنَصِّب نُظُمًا متعاطفةً معها في الولايات قبل الانتخابات العامة؛ فقد كتبت إلى صديقة لها، متَّهِمةً المعارضة بأنَّ «الهدف الوحيد الذي يشغلها هو الإطاحة بي»، وزعمت أنَّ «ائتلافاتهم المختلطة» قائمة على «النعرات الإقليمية والطائفية والطبقية».69 قد يتراءى لنا قَلْب ذلك النقد رأسًا على عقب؛ فلا شك أنَّ كثيرًا من سياسات السيدة غاندي خلال عامَيْ ١٩٨٣ و١٩٨٤ بَدَتْ إملاءات لهدف أوحد يتمثل في الفوز في الانتخابات العامة المقبلة.
في أعقاب عملية النجم الأزرق، حذَّرت الأجهزة الاستخباراتية رئيسةَ الوزراء من احتمال تعرُّضها لمحاولة اغتيال، ونصحتها بتغيير السيخ الموجودين ضمن حرسها الخاص؛ فرفضت السيدة غاندي الاقتراح قائلةً: «ألسنا علمانيين؟»70 وفي صبيحة يوم ٣١ أكتوبر، أثناء سيرها من منزلها إلى مقر عملها المجاور، أطلق عليها اثنان من حرسها الخاص — سَتوانت سينج وبيانت سينج — النار عن قُرْب. كان كلاهما سيخيًّا عاد من زيارةٍ إلى داره حديثًا حيث اسْتَفَزَّه الألمُ والغضبُ اللذان شهدهما للثأر لما حدث في عملية النجم الأزرق.

عندما نُقِلت رئيسة الوزراء إلى المستشفى كانت قد تُوُفِّيَت بالفعل، ومع حلول فترة ما بعد الظهيرة كانت المحطات الإذاعية الأجنبية قد أذاعت النبأ، إلا أنَّ إذاعة «أول إنديا راديو» لم تقدِّم إعلانَها الرسمي إلا في تمام الساعة السادسة مساءً. وبعد فترة وجيزة، أدَّى ابنها راجيف غاندي قَسَمَ رئاسة الوزراء. كان راجيف في البنغال عندما أطلق الحارسان النار على والدته، فهُرِعَ إلى العاصمة حيث أجمع فريق من كبار الوزراء وقيادات حزب المؤتمر على أنَّه ينبغي أنْ يخلف والدته.

في وقت لاحق من تلك الليلة، سُجِّلَت بعض حوادث إشعال الحرائق والنهب في دلهي. وفي صباح اليوم التالي، وُضِعَ جثمان السيدة غاندي في قصر تين مورتي، حيث أقام والدها أثناء شَغْلِه منصبَ رئيس الوزراء. وطوال ذلك اليوم واليوم التالي، ظلت القناة التليفزيونية الهندية الوحيدة — دوردَرشان — تعرض مشهدَ صفوف المشيِّعين المتوافدين إلى جوار الجثمان. ومن وقت لآخَر، كانت الكاميرا توجِّه عدساتها إلى الجماهير بالخارج، التي راحت تهتف بشعاراتٍ من قبيل: «الخلود لإنديرا غاندي»، وشعاراتٍ أخرى أكثر توعُّدًا من قبيل: «قصاص الدم بالدم».

اتَّسَعَ نطاق العنف الذي تفجَّر في ليلة ٣١ أكتوبر وتفاقَمَ خلال يومَيْ ١ و٢ نوفمبر. حدثت أولى الوقائع الخطيرة في جنوب ووسط دلهي، وفيما بعدُ انتقلت رياح العنف شرقًا عبر نهر يمنا، وصولًا إلى مستعمرات إعادة التوطين القائمة هناك. وفي كل مكانٍ، كان السيخُ وحدهم دون غيرهم المستهدفين؛ فقد أُحْرِقَت منازلهم ونُهِبَت متاجرهم وانتُهِكَت ودُنِّسَت دورُ عبادتهم وكتبهم المقدسة. وبينما أعملت الجموع الغاضبة انتقامَها، راحت تهتف بشعارات أيضًا؛ فمن الشعارات التي سَجَّلَ الناس تردُّدَها كان: «أَجْهِزوا على السردارات»، و«الموت للخونة»، و«لقِّنوا السيخَ درسًا».

في دلهي وحدها، قُتِلَ أكثر من ألف من السيخ في العنف، وكان الذكور منهم الذين تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشر والخمسين مُستهدَفين بصفة خاصة؛ فكانوا يُقتَلون بأساليب متنوعة، عادةً أمام أمهاتهم وزوجاتهم. وكانت النار تُشْعَل في الجثث. وفي إحدى الحالات، أُحْرِقَ صبي صغير مع والده، بينما قال الجاني: «لا بد من القضاء على ذرية هذا الثعبان أيضًا.»

تألَّفت الجموع الغاضبة من الهندوس المقيمين في دلهي ومحيطها؛ من كناسي الطوائف الْمُجَدْوَلَة العاملين في المدينة، ومُزارعي الجات والرُّعاة الجوجاريين من القرى الواقعة على أطراف المدينة. في كثير من الأحيان كانوا يعملون تحت قيادة وتوجيه سياسيين من حزب المؤتمر؛ من أعضاء في مجلس المدينة، ونواب برلمانيين، بل حتى وزراء اتحاديين أيضًا. وكان زعماء حزب المؤتمر يَعِدُون الأشخاصَ المستعدين لتأدية المهمة بالمال والخمر، فضلًا عن البضائع المسروقة من موقع الحدث. وكانت الشرطة إما تقف مكتوفةَ الأيدي وإما تُقَدِّم عونًا نشيطًا لعمليات النهب والقتل.71

كان تعليق راجيف غاندي نفسه على أعمال الشغب هو: «عندما تسقط شجرة كبيرة، تهتزُّ الأرض.» فلا شكَّ أن مقتل السيدة غاندي استثار مشاعرَ قويةً لدى معجبيها الكُثُر؛ فقد كانت ثمة قطاعاتٌ من الطبقة الوسطى تنظر إليها بعين الإجلال لسلوكها وقيادتها أثناء حرب عام ١٩٧١، بينما اعتبرتها قطاعاتٌ من الفقراء السياسيةَ الهندية الوحيدة المتعاطفة مع حالهم. والهندوس بصفة عامة كانوا مستائين من مجريات الأمور في البنجاب؛ فقد كانوا يعتقدون أنَّ الحركة المطالبة بإقامة دولة خالستان تهدف إلى تمزيق البلاد إربًا، وقد أكَّد تلك المخاوفَ إقدامُ اثنين من السيخ على قتل رئيسة الوزراء. بعد مقتل السيدة غاندي مباشَرةً، بدأ تناقل أقاويل عن أعمال أخرى؛ فقِيلَ إنَّ ثمة قطاراتٍ محمَّلةً بجثث الهندوس قادمةً من البنجاب، وإنَّ العناصر المتذمِّرة سَمَّمَت إمداد المياه في المدينة.

كان المزاج العام في دلهي غاضبًا، وقد أفسدته مجرياتُ الأمور الحقيقية والمتخيَّلة. ولكن على الرغم من ذلك، فقد كان تعليقُ راجيف غاندي يُعْوِزه الإحساس بدرجة كبيرة. كان متماشيًا مع السلوك العام للإدارة التي طُلِبَ منه إدارتها؛ فقد مثَّل عرضُ تليفزيون الدولة لمشاهد الجماهير، المتعطِّشة للدماء في قصر تين مورتي، نبوءةً تُحَقِّق ذاتها. وكانت لامبالاة الشرطة صادمةً، بينما كان الدورُ الذي اضطلع به سياسيو حزب المؤتمر غيرَ أخلاقي. إلا أنَّ الزَّلَّة التي ربما انطوت على دلالة أكبر من سواها كانت الإحجامَ عن استدعاء الجيش؛ فثمة معسكر كبير للجيش في دلهي نفسها، وكذلك كانت ثمة عدة فِرَق مشاة في دائرةٍ نصفُ قطرها خمسون ميلًا من العاصمة. أخذ الجيش أُهْبَته، ولكن على الرغم من المناشدات المتكررة لرئيس الوزراء ووزير داخليته، بي في ناراسيمها راو، لم يُطْلَب من الجيش التحرُّك. حتى مسير القوات في أنحاء المدينة في يومَيْ ١ و٢ نوفمبر كان من المرجَّح أن يُخْمِد أعمالَ الشغب، ولكن الأوامر لم تصدر قطُّ.

على الرغم من أنَّ السيخ في العاصمة تحمَّلوا وطأةَ العنف، فقد شُنَّت هجمات أيضًا على السيخ في مدن وبلدات أخرى شمالي الهند؛ فقُتِلَ أكثر من ٢٠٠ فرد من السيخ في حوادث بولاية أوتَّر براديش، وقُتِلَ عشرون منهم في إندور، وستون في مدينة بوكارو معقل صناعة الصلب، حيث خرجت الجموع — كما في دلهي — تحت قيادة أعضاء حزب المؤتمر المحليين.

كانت المدينة التي ظلَّ فيها مستوى العنف متدنيًا هي كلكتا؛ فقد كان ثمة ٥٠ ألفًا من السيخ مقيمون في كلكتا، كثير منهم سائقو سيارات أجرة، وكلٌّ منهم يسهل التعرُّف عليه بعمامته ولحيته. ولكنَّ قليلًا منهم جدًّا تعرَّضوا لأذًى، ولم يُقتَل أحدهم؛ فقد أمر رئيس وزراء ولاية غرب البنغال، جيوتي باسو، الشرطةَ بحفظ السلام. وعملت الشرطة بتعليماته، بينما أبقت اتحادات العمال القوية في المدينة عينًا يَقِظة. أثبت نموذج كلكتا أنَّ التصرُّف السريع من جانب الحكومة من شأنه أن يَحُول دون نشوبِ عنفٍ طائفي، وإنْ كان ذلك درسًا لم يجد آذانًا مصغيةً في سائر أنحاء البلاد.72

١٠

كان تأثير السيدة غاندي على التاريخ الهندي حاسمًا؛ بدرجةٍ لا تقلُّ فعليًّا عن تأثير والدها. كان جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند طوال ستة عشر عامًا وتسعة شهور، وشغلت ابنته ذلك المنصب نفسَ المدة تقريبًا، على فترتين؛ من يناير ١٩٦٦ إلى مارس ١٩٧٧، ومرةً أخرى من يناير ١٩٨٠ إلى أكتوبر ١٩٨٤. هذان هما الشخصيتان الأبرز أهميةً في تاريخ الهند المستقلة؛ فالمقارَنةُ بينهما حتميةٌ، وربما أيضًا ضروريةٌ.

تفوَّقت السيدة غاندي على والدها بما لا يُقاس في القيادة العسكرية؛ فقد كان في حسمها وقتَ أزمة بنجلاديش تناقُضٌ صارخ مع موقف نهرو المتذبذب تجاه الصين؛ فكان تارةً يَعِدُ بالصداقة الخالدة، وتارةً أخرى يُصْدِر تهديداتٍ لا يملك قوةً تُعَضِّدها؛ فيما يتعلَّق بالسياسات الاقتصادية، كان اهتمامُ نهرو بالقطاع العام والاكتفاء الذاتي متماشيًا مع روح العصر، في حين أنَّه في ستينيات القرن العشرين، عندما حان وقت فتح الاقتصاد بحذرٍ أمام قوى السوق، شدَّدت السيدة غاندي قبضةَ الدولة عوضًا عن ذلك. من الناحية الاجتماعية، كان كلاهما واسعَ الأفق عن حقٍّ، يسعى إلى تمثيل الهنود كافة، بصرف النظر عن الجنس أو الطبقة أو الدين أو اللغة.

إلا أنَّ نهرو كان متميِّزًا عن ابنته بوضوحٍ فيما يتعلَّق بالعمليات والإجراءات الديمقراطية. أشار كريشنا راج — محرر المجلة الهندية الأبرز للشئون العامة، «إكونوميك آند بوليتيكال ويكلي» — إلى هذه النقطة عند وفاة السيدة غاندي؛ فقد تمثَّلت إحدى نقاط التناقُض في طريقة معامَلة كلٍّ من الأب وابنته للحزب الذي حَظِيَ بولائهما طوال عمريهما؛ فقد كتب كريشنا راج أنَّه عندما تولَّت إنديرا غاندي منصبَها عام ١٩٦٦، «وجدت حزب مؤتمر حسن التنظيم إلى حد معقول، يتألف من عدة طبقات من القيادة المتجاوبة في طول البلاد وعرضها». لكنها «فَكَّكَت الحزبَ بتصميم واضح. ولأنها لم تثق بأحدٍ يرفض الاضطلاع بدور تابع لها ولأسرتها، تخلَّصت من القيادات المتوسطة وأعادت بناء الحزب في صورة كيان صوري، يفتقر إلى الهيكل الديمقراطي، وتُوَزَّع المناصب فيه على أفرادٍ تختارهم وتُعَيِّنهم بمعرفتها».

ممَّا يُؤسَف له أنَّ حزب المؤتمر لم يكن وحده الذي صار طوع بنان رئيسة الوزراء، فمثله أيضًا كانت حكومة الهند؛ فعلى الرغم من الخزي الناجم عن الحرب مع الصين، عندما جاءت إنديرا غاندي إلى الحكم في يناير ١٩٦٦ «كانت الهند دولةً متماسِكة، تمتاز بهالة هادئة من الاستقرار الاجتماعي». وكانت متحدة حول مجموعة من الأهداف الاجتماعية والاقتصادية، وأدركت الطبقة السياسية الصلة بين الوسيلة والغاية؛ «كان الاعتقاد الذي لا يزال سائدًا لدى الكثيرين هو أنَّ أدوات الدولة لم يُقصَد قطُّ — بصورة واعية على الأقل — إعمالها لإعلاء المصالح الخاصة». ولكن بحلول وقت وفاة السيد غاندي، كان ثمة «تَحَوُّلٌ نَوْعي» قد حدث، و«أصبحت الهند دولة منقسمة». فقد كانت ثمة «جروحٌ غائرة وخلافاتٌ عميقة». والخططُ الخمسية، التي كانت يومًا ما تُعْتَبَر «تصريحًا جادًّا بالآمال والطموحات»، أصبحت الآن «بلا معنًى»؛ فالآن «تتعرَّض أجهزة الدولة لتلاعُب مستمر لصالح الأقلية الضئيلة من السكان المتربعة على قمة السلم الهرمي الاجتماعي». والآن «الحكومة المركزية فاسدةٌ حتى النخاع، وإنديرا غاندي لا يمكن إعفاؤها من المسئولية المباشِرة عن هذا الوضع».73
في ذلك الوقت، تنبَّأ الصحفيون الغربيون بأنَّ أيامًا سوداء تنتظر الهند؛ فكتب مراسل صحيفة «نيويورك تايمز» أنَّه مع موت السيدة غاندي، ستواجِه البلاد «فترةً طويلة من عدم اليقين، مع احتمال زيادة الاضْطِرابات على المستوى الداخلي وظهور توترات جديدة مع جيرانها، ولا سيما باكستان». وكانت صحيفة «ذا صَن» الصادرة في نيويورك أكثر تشاؤمًا؛ إذ كتب مراسِلها أنَّ اغتيال رئيسة الوزراء «فتح احتماليةً كئيبة بأن تتبعثر أجزاءُ الهند، من الداخل، وأن تصبح العامل المحفز للخصومات الإقليمية والعالمية بصفة متزايدة». بعض المسئولين في واشنطن أَبْدَوْا قلقَهم من أنَّ الخصومات العِرْقية والدينية سوف «تتفجَّر في صورة عنف شامل»، وأن البلد سيتفكَّك، وأنَّ «القيادة اليائسة في الهند سيزداد تطلُّعُها إلى الاتحاد السوفييتي التماسًا للعون».74

لم تكن تلك أول مرثاة تُكتَب في الاتحاد الهندي، وربما لن تكون الأخيرة. إلا أنَّه من المثير للدهشة أنَّه، على غرار المُتَزَلِّفين في حزب المؤتمر، بَدَا أنَّ هؤلاء المراقبين الغربيين يعتبرون إنديرا الهندَ فعلًا، ومثَّلَ التوصُّلُ إلى هذه النتيجة برهانًا إضافيًّا على نجاح رئيسة الوزراء الراحلة في تقويض المؤسسات التي حالت بينها وبين الدولة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤