الفصل الخامس والعشرون

صعود الابن الثاني

لا يمكن أبدًا أن يكون الخيار في الهند بين الفوضى والاستقرار، وإنما بين الفوضى القابلة للسيطرة والفوضى الخارجة عن السيطرة، وبين الفوضى الآدمية والفوضى غير الآدمية، وبين الِاضْطِراب المحتمل والِاضْطِراب غير المحتمل.

عالِم الاجتماع أشيس ناندي، ١٩٩٠

١

حتى بمعايير السياسة الهندية، كان عام ١٩٨٤ متقلِّبًا بصفة خاصة؛ فقد حدثت عمليةُ النجم الأزرق، الهجومُ غير المسبوق للدولة على إحدى دور العبادة، خلالَ الأسبوع الأول من يونيو. واغتيال إنديرا غاندي، الذي مثَّلَ أولَ حادثةِ قتلٍ كبرى منذ مقتل المهاتما غاندي، حدَثَ في اليوم الأخير من أكتوبر. وقد تسبَّبَ مقتل المهاتما غاندي في وقف مؤقت للعنف بين الهندوس والمسلمين، أما مقتل إنديرا غاندي فاستثار موجةً من العنف قادها الهندوس ضد السيخ.

بعد مرور شهر على تأدية راجيف غاندي قَسَمَ رئاسةِ الوزراء، شَهِدَت البلادُ فاجعةً حصدت أرواحًا لا تقل عن تلك التي حصدتها أعمالُ الشغب المعادية للسيخ؛ ففي الساعات الأولى من ٣ ديسمبر ١٩٨٤، بدأت أبخرة بيضاء تتصاعد في هواء مدينة بوبال في وسط الهند؛ فاستيقظ المواطنون النائمون في بيوتهم على نوبات من السعال والقيء وحَرَقان في العينين؛ فهبُّوا مذعورين من أسِرَّتهم وخرجوا إلى الشوارع، حيث تبعتهم السحابة المشبعة بالغاز. وبحلول الفجر، «كانت الطرق الرئيسية في المدينة مزدحمةً بسَيْلٍ لا ينتهي من البشر، يتحسَّسون خطاهم بحثًا عن محيطٍ أكثر أَمْنًا». وسقط كثير منهم في الشوارع وقد غلبهم الدوار والإنهاك، بينما استطاع آخَرون الوصولَ — على نحوٍ ما — إلى المستشفيات الحديثة القليلة بالمدينة، التي سرعان ما امتلأَتْ أسِرَّتها إلى أقصى سعتها.1

كان ذلك الغاز الفتَّاك هو إسوسيانات الميثيل، وجاء من مصنع للمبيدات الحشرية تملكه وتديره شركة أمريكية، هي يونيون كاربايد. كان الغاز يُخَزَّن في حاويات تحت الأرض، حيث كان جهاز تنقية الغاز يُحَيِّد ضرره قبل إطلاقه في الجو، إلا أنَّه في تلك الليلة حدث تفاعل كيميائي غير متوقَّع أفضى إلى إطلاق الغاز في حالته السامة. وكانت الآثار كارثيةً؛ ففي غضون ساعات من حدوث التسريب، كان ٤٠٠ شخص على الأقل قد قضوا نحبهم من جرَّاء التعرُّض للغاز، وبلغت الأعداد في الحِسبة النهائية أكثر من ألفَيْ ضحية، لتكون بذلك أسوأ حادثةٍ صناعية في تاريخ البشر. كان معظم الضحايا يقطنون المناطق العشوائية ومدن الصفيح المحيطة بالمصنع، وإضافةً إلى مَن قُتِلوا، كان ثمة ٥٠ ألفًا من الناس ظلوا يعانون بقية حياتهم أمراضًا وإصاباتٍ ناجمةً عن التعرُّض للغاز.

في أعقاب تلك الفاجعة، توافَدَ عدد كبير من الزوَّار على بوبال، بعضهم غير مرحَّب بهم؛ فقد جاء أطباء لمد يد المساعدة، ولكن جاء أيضًا محامون يسعون إلى التربُّح من دعوى جماعية بالنيابة عن الضحايا، تُرفَع في محكمة أمريكية. وجاء المدير التنفيذي لشركة يونيون كاربايد؛ حيث تمَّ التحفُّظ عليه لفترة وجيزة، ثم أُطْلِقَ سراحه بكفالة واستقلَّ طائرة للعودة إلى نيويورك. بعد مرور عشرة أيام على الحادث، جاء فريق من العلماء الهنود لتحييد مفعول غاز إسوسيانات الميثيل الذي ظل يُخَزَّن في مصنع يونيون كاربايد. سُمِّيَ ذلك المشروع «عملية الإيمان»، ولكنه لم يُثر في نفوس الناس سوى التشكُّك؛ فخوفًا من حدوث تسريب آخر، حاوَلَ آلاف السكان مغادرةَ بوبال، حيث «ضربت الفوضى أطنابها في محطة حافلات المدينة ومحطة القطار … بينما تزاحم فيهما السكان الفارُّون حاملين متعلقاتهم الضرورية».2
طرحت التحقيقات التي أُجْرِيَت بشأن حادث تسريب ٣ ديسمبر مجموعةً من الأسباب المحتملة؛ منها: دخول مياه في الحاويات، أو عدم تنظيف الحاويات على نحو سليم، أو تخزين الغاز في درجات حرارة أعلى من الموصَى بها.3 أما ما كان واضحًا فهو أنَّه لا ينبغي تواجُد صناعة محتملة الخطورة داخل المدينة؛ فقبل بدء الإنتاج في المصنع عام ١٩٨٠، كان مُخَطِّط المدينة، إم إن بوتش، قد أوصى بأن تختار شركة يونيون كاربايد موقعًا أكثر أمانًا وأقل ازدحامًا بالسكان. والحقيقة أنَّه، كما كشف تقريرٌ صدَرَ في يونيو ١٩٨٤، كانت للمصنع سوابق في تسريب الغاز وانفجار خطوط الأنابيب، لكنها كانت حوادث بسيطة، مثَّلت تنويهات لم يُنْتَبَه لها للحادثة الكبرى التي كانت تنتظر الوقوع.4

٢

وقعت حادثة بوبال في الأسبوع الأول من ديسمبر. وفي نهاية الشهر، عقدت الهند انتخاباتها العامة الثامنة. كان اغتيالُ إنديرا غاندي وذكراها مُسيطرَيْن على الانتخابات. وقدَّمت حملة حزب المؤتمر — التي أشرفت عليها وكالة ريدِفيوجن الدعائية — راجيف غاندي على أنه الوريث المنطقي لتركة الأم، وقدَّمت الحزبَ نفسه باعتباره حائطَ الصد الأخير أمام القوى الانفصالية؛ فجاء في إعلان تصدَّره راجيف غاندي: «قد يكون صوتك هو ما يفصل الهند عن الوحدة أو الانقسام.» وجاء في آخَر التساؤلُ: «هل سيتَّحِد فريقُ عملِ عامِ ١٩٧٧ يومًا على أيديولوجية مشتركة عوضًا عن الطمع المشترك في السلطة؟»5 وكتب معلِّق آخَر أنَّ حملة حزب المؤتمر «استغلت المخاوف الجماهيرية المتنامية»، حيث «تساوى اغتيال السيدة غاندي في المخيلة الشعبية مع الاعتداء على الدولة الهندية، وظلَّ ذلك التصوُّر يتعزز باستمرار».6
عندما ظهرت النتائج، كان حزب المؤتمر قد فاز باكتساح؛ إذ حصد قرابة ٥٠٪ من أصوات الناخبين ونحو ٨٠٪ من مقاعد البرلمان؛ فقد رَبِحَ حزب المؤتمر، تحت قيادة سياسي مُستَجَدٍّ: ٤٠١ مقعد، وهو عدد أكبر بكثير مما حصل عليه الحزب يومًا تحت قيادة نهرو أو إنديرا غاندي. إلا أنَّه، مثلما أقَرَّ أحدُ مستشاري رئيس الوزراء: «كان النصر يُعزَى إلى والدته الراحلة بقدر ما كان يُعزَى إليه.»7

فاز حزب المؤتمر بالانتخابات العامة بإزكاء الخوف من تَفَكُّك الدولة، إلا أنَّ رئيس الوزراء بعدما أصبح يتمتع بأغلبية كبيرة، تحرَّك بسرعة لإرساء السلام في البنجاب؛ فأُطْلِقَ سراحُ قيادات حزب أكالي دال، وأُرْسِلَ إليهم مبعوثون للتشاوُر معهم؛ فبدا سانت هرتشَران سينج لونجُوال حريصًا مثل راجيف غاندي على إلقاء الماضي وراء ظهره. وفي يوليو ١٩٨٥ وَقَّعَ الزعيمان اتفاقًا، وافَقَا فيه على نقل تشانديجار إلى البنجاب خلال فترة زمنية محددة، مع كفالة حصول البنجاب على حصة مُنصِفة من مياه الأنهار، وإلزام الحكومة بإعادة النظر في العلاقات بين الحكومة المركزية والولاية بصفة عامة. وتَقَرَّرَ إنهاء الحكم الرئاسي في الولاية، وعقد انتخابات.

عقب توقيع الاتفاق، طاف سانت لونجُوال بأنحاء البنجاب، مُلقِيًا الخُطَب في المؤتمرات الشعبية والمواعظ في المعابد السيخية، وطالَبَ الناس في كل مكان بدعم الجهود الرامية إلى المصالحة؛ فبينما كان لونجُوال يخطب في تجمُّع من الناس في سانجرور، أطلق عليه شابان الرصاصَ فأردياه قتيلًا، إيمانًا منهما بأنَّه خان قضية السيخ بتعاوُنه مع الحكَّام في نيودلهي. حدثت الواقعة يوم ٢٠ أغسطس، إلا أنَّ الحكومة تصرَّفت بشجاعةٍ، واختارت المُضِيَّ قُدُمًا في انتخابات مجلس الولاية في أواخر سبتمبر. وأسفَرَ مقتل لونجُوال عن موجةِ دعمٍ شعبي لحزبه؛ ففاز حزب أكالي دال بأغلبية كبيرة، لأول مرة في تاريخ المقاطعة. وبمشاركة ثلثَي السكان البالغين في التصويت، ارْتُئِيَ في الانتخابات انتصارٌ على التطرُّف.8
في الوقت نفسه، في الطرف المقابل من البلاد، توصَّلَتِ الحكومة أيضًا إلى اتفاق مع اتحاد طلاب عموم آسام؛ فاتفق الطرفان على تواريخ نهائية «للمتسللين»، بحيث يُسْمَح لمَن وصلوا بعد ١ يناير ١٩٦٦ وحتى ٢٥ مارس ١٩٧١ (عندما بدأت الحرب الأهلية في باكستان الشرقية) بالبقاء ولكن دون أن يكون لهم حق التصويت، أما مَن جاءوا بعد ذلك التاريخ فيتم تحديدهم وترحيلهم. وأُنْهِي الحكم الرئاسي وأُعْلِنَت الانتخابات في تلك الولاية أيضًا؛ فحوَّلَ اتحادُ طلابٍ نفسَه إلى حزب سياسي، حيث أنشأ أعضاءُ اتحاد طلاب عموم آسام حزبَ آسوم جانا باريشاد (اتحاد آسام الشعبي). وعندما انعقدت انتخابات مجلس الولاية في ديسمبر ١٩٨٥، اكتسح حزبُ آسوم جانا باريشاد حزبَ المؤتمر الذي كان المسيطِرَ على الولاية من قبلُ. لم يكن رئيس الوزراء الجديد، برافولَّا ماهَنتا، يتجاوز الثانية والثلاثين من العمر، وكثيرٌ من مشرِّعيه كانوا حتى أصغر منه سِنًّا. وكما في البنجاب، رُحِّبَ بالنتيجة باعتبارها إثباتًا للديمقراطية، وقال كبار أعضاء حزب المؤتمر في دلهي إنَّه في حين أنَّ حزبهم خَسِرَ، فقد ربحت جمهورية الهند. وقال أحد وزراء الاتحاد معلِّقًا: «الرجال الذين كانوا يُوَزِّعون الديناميت سابقًا، صاروا يوزِّعون ملصقاتِ الاقتراع؛ فمن وجهة النظر الوطنية، هل هذا نصر أم هزيمة؟»9
في يونيو ١٩٨٦، وقَّعت الحكومة الهندية اتفاقيةَ سلام مع لالدِنجا، زعيم جبهة ميزو الوطنية. وبموجب الاتفاقية، ألقى متمرِّدو الجبهة السلاحَ ومُنِحوا عفوًا من الملاحقة القضائية. وقالت الحكومة إنها ستجعل ميزورام ولايةً مكتملةَ الأركان، وعُيِّنَ لالدِنجا نفسه رئيسًا لوزرائها، متسلِّمًا زمام الأمور من عضو حزب المؤتمر الذي كان يشغل ذلك المنصب آنذاك. وكان النموذج المحتذى به هنا هو اتفاق عام ١٩٧٥ في كشمير، حين عاد الشيخ عبد الله إلى السلطة على النحو ذاته.10
ذكرت إحدى المجلات أنَّ راجيف غاندي «أبرز لقبائل الميزو حُسْنَ نوايا الدولة»، كما فعل قبلها مع السيخ والآساميين؛11 فعلى الرغم من أن تلك الاتفاقات كانت في الواقع نِتاجَ فكر وصياغة مسئولين — مثل الدبلوماسي المُخَضْرَم جي بارتاساراتي — فقد أُرْجِعَ الفضلُ إلى رئيس الوزراء الشاب، الذي نُظِرَ إليه على أنه يترفَّع عن الخصومات الحزبية في سبيل المصالحة الوطنية؛ ففي الحالات الثلاث، كانت أحزاب أو قيادات معارضة لحزب المؤتمر قد وصلتْ إلى السلطة بأساليب سِلْمية.

٣

كان عدم انتماء راجيف غاندي إلى الوسط السياسي في صالحه؛ ففي المخيلة الشعبية، «لم يكن اسمه مرتبطًا بأي قضايا مثيرة للجدل، ولم يَنْحَزْ إلى أي كتلة سياسية، ولم يكن قد كوَّن بعدُ زمرةً خاصة به». وازدادت جاذبيته لصِغَر سنه — لم يكن قد بلغ الأربعين عام ١٩٨٤ — ووسامته، وأسلوبه المنفتح؛ فقد كان «شخصًا مهذبًا راقيًا، حَسَنَ النية إلى أبعد حدٍّ، وجادًّا ومخلصًا … وقد سمَّاه أبناءُ بلده السَّمحون «السيد نظيف»».12
كان مستشارو راجيف الرئيسيون من خارج الوسط السياسي أيضًا، ومنهم: أرون سينج وأرون نهرو، وهما صديقان من قطاع الشركات عُيِّنوا وزراء. ومثله كانا شابين ويجيدان تحدُّثَ الإنجليزية، ومثله أيضًا كانا متمكِّنَيْن في استخدام التكنولوجيا الحديثة، وقد أعلنا عن نيتهما نقْلَ الهند مباشَرةً من القرن السادس عشر إلى القرن الحادي والعشرين، من عصر العربات التي تجرها الثيران إلى عصر أجهزة الكمبيوتر الشخصية. كان مثل هؤلاء المستشارين محلَّ سخريةٍ أو فكاهة لدى بعض وسائل الإعلام، حيث أُطْلِقَ عليهم «فتية الكمبيوتر لدى راجيف». إلا أنهم كانوا محلَّ استحسان في وسائل إعلام أخرى؛ حيث شُبِّه راجيف غاندي بجون إف كينيدي، الذي كان مثله «يرمز للشباب والأمل في جيل جديد»، إذ ألَّفَ «فريقًا من أفضل العناصر وألمعها» لتشكيل مستقبل جديد لبلاده.13
قضى رئيس الوزراء العام الأول من فترته في جولات، تعرَّف فيها على أجزاء لم يشاهدها من قبلُ من البلاد؛ فغطَّت الصحافة والتليفزيون في إعزازٍ جولةَ «استكشاف الهند» التي قام بها راجيف غاندي. إبَّان الثمانينيات حدَثَ نموٌّ هائل في عدد مقتني أجهزة التليفزيون، ولما كان البث لم يزل حِكْرًا على الدولة؛ فقد صوَّرت قناة دوردَرشان الحكومية، وعرضت مئات الساعات لرئيس الوزراء الشاب الوسيم: في منزل عائم في كشمير، وفي قرية قَبَلية صغيرة نائية، وبين أشجار جوز الهند في كيرالا. وأينما ذهب، كان يلتقي الهنود العاديين ويتلقَّى عرائضهم، ثم يحوِّلها إلى إدارة المنطقة لاتخاذ إجراءاتٍ بشأنها.14

كانت أول أزمة يتعرَّض لها النظام الجديد ناجمة في الواقع عن إحدى العرائض التي لم تُسلَّم إلى رئيس الوزراء وإنما إلى المحكمة الهندية العليا. كان مقدِّمُ العريضة رجلًا مُسِنًّا — محمد أحمد خان — طعن في حكم محكمةٍ أقل درجة ألزَمَه بدفع نفقة شهرية لزوجته المطلَّقة، شاه بانو. واحتجَّ خان بأنه أدَّى واجبه بدفعه نفقةً لمدة ثلاثة أشهر، وهي الفترة التي تنصُّ عليها الشريعة الإسلامية (حسبما قال)؛ ففي رفض طعن خان، احتكمت المحكمة العليا إلى المادة ١٢٥ من قانون الإجراءات الجنائية، التي يحقُّ للمرأة المطلَّقة بموجبها مطالَبة زوجها السابق بنفقةٍ إذا اتَّخذ زوجةً أخرى (وهو ما حدث في حالة خان)، وإذا لم تتزوَّج مرةً أخرى وعجزت عن إعالة نفسها بأي سبيلٍ آخَر (كما في حالة شاه بانو). وأشارت المحكمة إلى أنَّ المادة ١٢٥ «سُنَّتْ لتقديم حلٍّ سريعٍ وعاجل لفئة من الناس عاجزة عن إعالة نفسها؛ فما الفرق إذن الذي تُحدِثه الديانة التي تعتنقها الزوجة أو الطفل أو الوالد المُهمَل؟» فقد ارْتَأَت المحكمة أنَّ الشروح الملحَقة بقانون الإجراءات الجنائية أثبتَتْ «بما لا يَدَع مجالًا للشك، أنَّ المادة ١٢٥ تطغى على قانون الأحوال الشخصية، إذا حدث أيُّ تنازُع بينهما».

كان إم إيه خان قد قدَّم أول طعن عام ١٩٨١، واستغرق صدور الحكم أربعة أعوام؛ فبرفض الطعن يوم ٢٣ أبريل ١٩٨٥، أكَّدت المحكمة العليا أنَّ خان سيضطر إلى مواصلة دفع النفقة إلى شاه بانو كما حدَّدتها المحكمة العليا (رقم غريب قدره ١٧٩٫٢٠ روبية شهريًا). ثم تجاوَزَ القضاة تفاصيلَ القضية لإصدار بعض التعليقات العامة؛ فقد استنكروا حقيقةَ أنَّ المادة ٤٤ من الدستور، التي تنص على توحيد القانون المدني، «ظلت مجرد حبر على ورق». وذكروا أنه «يبدو أنَّ ثمة اعتقادًا سائدًا بأنَّ المسلمين لهم حق التصرُّف فيما يتعلَّق بإصلاح قانون الأحوال الشخصية الخاص بهم. القانون المدني الموحَّد يدعم قضيةَ الوحدة الوطنية بالتخلُّص من تبايُن الولاءات للقوانين المتنازعة الأيديولوجيات».15
في بعض الأوساط، اعْتُبِرَت تلك التعليقات توبيخًا غير مبرَّر لمجتمع الأقلية كله، ولم يَرُقْ للمسلمين زعم القضاة أنَّ «أسوأ ما في الإسلام هو الحَطُّ من قدر المرأة». (إحقاقًا للحق، أشار القضاة أيضًا إلى أنَّ المُشرِّع الهندوسي، مانو، كان يؤمن بأنَّ «المرأة غير جديرة بالاستقلال».) انتقد المشايخ المسلمون الحكْمَ باعتباره هجومًا على الإسلام. وفي المساجد في طول البلاد وعرضها «تردَّدَتْ أصواتُ الملالي والمولوية مُنَدِّدة بشاه بانو وحكم المحكمة العليا».16 ومن ناحية أخرى، أيَّد بعض العلماء المسلمين الحكْمَ، أو إنهم على أي حال لم يَرْتَئُوا فيها تنافرًا مع النصوص الدينية، التي توافر فيها «سندٌ إسلامي وافر موثوق» يدعم افتراض وجوبِ دَفْع الزوج المطلِّق نفَقَةً لحين وفاة زوجته السابقة أو زواجها مجددًا.17
بعد ثلاثة أشهر من صدور حكم المحكمة العليا، طرح النائب البرلماني جي إم بانَتوالا مشروعَ قانونٍ خاصٍّ (غير حكومي)، يسعى إلى إعفاء المسلمين من المادة ١٢٥؛ فواجَهَ مشروعُ القانون معارَضةً في مجلس الشعب من جانب وزير الدولة للشئون الداخلية، عارف محمد خان، الذي مثَّل وجهةَ النظر الإسلامية «التقدُّمية»، إنْ جاز التعبير. لقد دافَعَ عن حكم المحكمة مستشهدًا بمولانا آزاد، الذي كان أشهر مسلم في الحركة القومية، وفي الوقت نفسه كان مرجِعًا معترَفًا به فيما يخص النصوص الدينية الإسلامية. كتب مولانا آزاد أنَّ «القرآن يعيد التأكيد في كل فرصة على وجوب إبداء الاهتمام الملائم للمرأة المُطَلَّقة في الظروف كافة». وهذا التأكيد «قائم على أساس أنَّها أضعف نسبيًّا من الرجل، ولا بد من صَوْن مصالحها على النحو السليم». وقال خان أيضًا: «يجب أن نحسِّن الممارسات المتَّبعة هذه الأيام، ولا يمكن أن نقول إن أركانَ الإسلام مُتَّبعةٌ والعدالةَ قائمةٌ، ما لم ننهض بالمقهورين.»18
حَظِيَ عارف محمد خان بدعم رئيس الوزراء، وصوَّت حزبُ المؤتمر بالرفض، فهُزِم مشروع القانون. إلا أنَّ النقاش استمرَّ خارجَ جدران المجلس؛ ففي إندور، مسقط رأس شاه بانو التي كانت تبلغ من العمر خمسة وسبعين عامًا، رماها المحافظون بالكُفر، وأُقِيمت تظاهرات أمام منزلها، وطُلِبَ من جيرانها نَبْذها. وفي يوم ١٥ نوفمبر رضخت شاه بانو للضغوط، وبَصَمت على بيانٍ مفاده تنكُّرها لحكم المحكمة العليا، وأنها ستتصدَّق بأموال النفقة، وأنها تعارِض أيَّ تدخُّل قضائي في قانون الأحوال الشخصية للمسلمين.19
نحو نهاية عام ١٩٨٥، خَسِرَ حزب المؤتمر سلسلةً من الانتخابات الفرعية في شمال الهند؛ فرأى المعلِّقون على الموقف أثرَ «عامِل شاه بانو»، إذ عمل منافسو حزب المؤتمر على «تأجيج الحماسة الدينية» بمهاجمة المحكمة العليا في الدوائر الانتخابية ذات الأعداد الكبيرة من المسلمين.20 أثارت أنباءُ ذلك النفور الانزعاجَ لدى راجيف غاندي، الذي كان قد تزايد أخذه — داخل حزبه ومجلس وزرائه — بنصيحة زي إيه أنصاري المُحافظ عوضًا عن عارف خان الليبرالي؛ فخلال خُطبة برلمانية دامت ثلاث ساعات، هاجَمَ أنصاري حكْمَ المحكمة العليا بوصفه «متحامِلًا وتمييزيًّا ومليئًا بالتناقضات». وأضاف في كيدٍ أنَّ القضاة «رجالٌ قليلو الشأن غيرُ مؤهَّلين لتأويل قوانين الشريعة الإسلامية».21
بحلول ذلك الوقت، لم تكن شاه بانو وحدها من رضخت للضغوط؛ فحزب المؤتمر «منَحَ رجالًا أصوليين اعترافَه بأنهم المتحدثون الوحيدون بلسان جماعتهم».22 وفي فبراير ١٩٨٦، طرحت الحكومة مشروعَ قانونٍ للمرأة المسلمة في البرلمان يسعى إلى تجاوُز حكم المحكمة العليا، بإخراج قانون الأحوال الشخصية للمسلمين من نطاق اختصاص قانون الإجراءات الجنائية. وأوقَعَ مشروعُ القانون عبءَ إعالةِ المرأة المُطَلَّقة على أقاربها، بحيث لم يَعُدِ الزوجُ مُلزَمًا بشيء سوى دفع نفقة لمدة ثلاثة أشهر. تحوَّلَ مشروع القانون إلى قانون في مايو، بعدما أصدر حزب المؤتمر أمرًا لأعضائه بالتصويت لصالح مشروع القانون؛ فاستقال عارف محمد خان، بعدما تخلَّى عنه قائدُه وحزبُه وحكومتُه، قائلًا لمحاوِر إنَّه بموجب هذا التشريع الجديد «ستكون المسلمات الهنديات هن النساء الوحيدات اللائي سيُحرَمْنَ نَفَقةَ الإعالة في العالَم أجمع».23

مَثَّلَ الجدلُ الدائر حول قضية شاه بانو تكرارًا من نواحٍ عدة للنقاش المعنِيِّ بإصلاح قوانين الأحوال الشخصية للهندوس قبل ثلاثة عقود من الزمان؛ فآنذاك أيضًا، قُوبِلَت محاولاتُ تعزيز المساواة بين الجنسين بمقاومةٍ ضارية من جانب كَهَنةٍ زعموا أنهم يتحدثون بلسان المجتمع الهندوسي بأكمله. وقد اخْتُبِرَ ذلك الزعم وثبت ضعفه، عندما خاض جواهر لال نهرو انتخابات عام ١٩٥٢ وفاز بها استنادًا إلى قضية مشروع قانون الأحوال الشخصية الهندوسي، ضمن قضايا أخرى.

عندما واجه راجيف غاندي موقفًا مشابهًا عامَيْ ١٩٨٥ و١٩٨٦، كان يتمتع بالفعل بدعم ٤٠٠ عضو في البرلمان؛ فكان إحداث إصلاح في قانون الأحوال الشخصية للمسلمين للنهوض بحقوق المرأة أمرًا ميسورًا بدرجة كبيرة، ومثله أيضًا كانت إمكانية سَنِّ قانون مدني موحد مراعٍ للاعتبارات الخاصة بالنوع (كما طلب الدستور). أما ما لم يكن متوافرًا فكان رئيس وزراء متَّسِقًا في التزامه نحو الإصلاح الاجتماعي. وحسبما قال مسئول رفيع في حكومة راجيف غاندي مسترجعًا ذكرياته لاحقًا: «في التعامل مع تبعات قضية شاه بانو، طغى النظام السياسي بغتة على رئيس الوزراء الشاب.» فقد أظهرت مبادراته في البنجاب وآسام جُرأةً واستقلالية؛ إلا أنَّه في هذه الحالة، بعدما أيَّد تيارَ الإصلاح في أول الأمر، رضخ للتيار المحافظ في النهاية خوفًا من خسارة أصوات المسلمين؛ ومن ثَمَّ، «بدأ راجيف غاندي رجلُ الدولة يتحوَّل إلى رجل سياسة».24

٤

بعد عشرة شهور على صدور حكم المحكمة العليا في قضية شاه بانو، أثار حكْمٌ لمحكمةٍ أدنى درجةً جدلًا أشدَّ من سابقه؛ ففي ١ فبراير ١٩٨٦، أمر قاضي المنطقة في مدينة أيوديا، بأوتر براديش، بفتح الأقفال للسماح بالتعبُّد في مَقام هندوسي صغير. وقد كانتْ لذلك المكان على الرغم من صِغَره مكانةٌ خاصة؛ فقد كان يقع داخل مسجد كبير، شيَّده جنرال في جيش الإمبراطور المغولي بابور في القرن السادس عشر (ومن ثم صار يُعرَف بمسجد بابري). وإضافةً إلى ذلك، زُعِمَ أنَّ ذلك المكان شَهِدَ مولِد الإله الهندوسي رام، وأنَّه قبل بناء المسجد، كان ذلك مقرَّ معبدٍ مُكَرَّس لعبادة ذلك الإله.

لا يوجد دليل على أنَّ بطل ملحمة «رامايانا» كان شخصية تاريخية حقيقية، ولكن الرأي السائد في المشاعر والأساطير الهندوسية هو أنَّه كان شخصية حقيقية، وأنه وُلِدَ في أيوديا، وتحديدًا في البقعة التي شُيِّدَ عليها المسجد فيما بعدُ. كان ذلك المكان معروفًا بين أهل المنطقة برام جانمابهومي؛ أيْ رقعة الأرض التي وُلِدَ عليها رام. وقد حدثت اشتباكات على مدار القرن التاسع عشر بين جماعات متناحرة تزعم ملكية المكان؛ فتوصَّل الحكامُ البريطانيون إلى حلٍّ وسط، يكون للمسلمين بمقتضاه مواصلة التعبُّد في المسجد، بينما يقدِّم الهندوس القرابين على منصةٍ قائمةٍ خارجَه.

نالت الهند استقلالها عام ١٩٤٧، وبعد عامين، سمح مسئول متعاطف مع المصالح الهندوسية بوضع تمثال لرام الطفل (رام لالَّا) داخل المسجد. نُفِّذَ هذا العمل تحت جنح الظلام، وأُقنِع الأتباع المتحمِّسون بأنَّ التمثال ظهَرَ بمعجزة، دلالةً على رغبة الإله المنقول من مكمنه في العودة إلى محل ميلاده. تصاعَدَ التوتُّر من جديد ولكنه تراجَعَ بصدور أمرٍ يسمح بالتعبُّد لرام لالَّا يومًا واحدًا في ديسمبر، وفي بقية السنة، يُحتفظ بتمثاله وراء أبواب مغلقة بعيدًا عن المتعبِّدين.

ظل الوضْعُ على ما هو عليه ثلاثة عقود من الزمان، حتى بدأ فيشوا هندو باريشاد (المجلس الهندوسي العالمي) يقود حملةً في مطلع ثمانينيات القرن العشرين من أجل «تحرير البقعة التي وُلِدَ عليها رام». جمع المجلس تحت رايته مئات الرهبان من المعابد القديمة المتعددة التي زخرت بها أيوديا، ونُظِّمَت مسيرات ومؤتمرات شعبية، وخُطَب حماسية تَحُثُّ الهندوس على تحرير إلههم من «سجن المسلمين»؛ فحينئذٍ رفع محامٍ من أهل المنطقة دعوى قضائية طلب فيها السماحَ بالتعبُّد للتمثال على الملأ. واستجابةً لذلك الالتماس، حكم قاضي المنطقة بفتح الأقفال، والسماح بالتعبُّد.25
ساد اعتقادٌ واسعُ الانتشار بأنَّ حكْمَ القاضي كان موَجَّهًا من دلهي، من مكتب رئيس الوزراء نفسه لا أقل من ذلك؛ فقد بدا أنَّ الإدارة المحلية كانت على علمٍ بالقرار قبل صدوره، إذ فُتِحَت الأقفال في خلال ساعة من صدور الحكم. ومن الجدير بالذكر أنَّ حتى القناة التليفزيونية الحكومية، دوردَرشان، كانت حاضرةً لتصوير لحظة اندفاع المتعبِّدين إلى المقام المفتوح حديثًا. بدا أنَّ ثمة صلةً قوية بين مشروع قانون المرأة المسلمة والحكم الصادر في أيوديا؛ فقد قِيلَ إنَّ راجيف غاندي أمَرَ بفتح الأقفال بناءً على نصيحة زميله أرون نهرو، الذي رأى أنَّه أصبح على حزب المؤتمر تعويض المتعصِّبين على الجانب المقابل. وعلَّق نائب برلماني يساري في سخريةٍ قائلًا إنَّه في حين أنَّ رئيس الوزراء قدَّم نفسه في صورة الرجل العصري بامتيازٍ، الذي يجتهد من أجل العبور بالهند إلى القرن الحادي والعشرين، فقد كان في الواقع «يمتلك عقليةً بدائيةً كعقليات رجال الدين الإسلامي والهندوسي».26 وكتبت المحلِّلة السياسية نيرجا تشودري: «السيد راجيف غاندي يريد ألا يخسر أيًّا من طرفي الصراع.» فإنْ كان أحد التصرفين يستهدف صوتَ «المسلمين»، فقد بدا أن التصرُّف الثاني يستهدف صوتَ «الهندوس» الأكثر عددًا بكثير. وحذَّرت تشودري من أنَّ «اتِّبَاع الحكومةِ سياسةَ استرضاءٍ للجماعتين بهدف كسب الانتخابات، يُمثِّل حلقةً مفرغة سيصبح من الصعب كسرها».27

زاد فتح الأقفال من جرأة المجلس الهندوسي العالمي؛ إذ لم يَعُدْ يسعى وراء هدفٍ أقل من هدم المسجد، والاستعاضة عنه بمعبد جديد مهيب مُخَصَّص للإله رام. وكان للمجلس تعاوُنٌ وثيق مع منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج، المنظمة الهندوسية الأطول باعًا منه، التي كُتِبَ لها عُمْرٌ جديد. فكان التنظيمان يعقدان اجتماعات في جميع أنحاء الهند مطالِبَيْن بدفاع «الأغلبية» عن حقوقها. واسْتُشْهِدَ بمشروع قانون المرأة المسلمة باعتباره مثالًا آخَر على رغبة حكومة حزب المؤتمر في إرضاء الأقلية. وقيل إنَّ الهندوس وحدهم دون غيرهم هم المطالَبون بالتنازُل عن عقيدتهم في هذه الدولة «العلمانية» خطأً؛ فصِيغَ وأُذِيعَ شعارٌ جديد، مفاده: «قل بفخر إنك هندوسي!»

هذه الرسالة، مثلما جاء في مجلة «إنديا توداي» الأسبوعية في مايو ١٩٨٦، «لمست وترًا عاطفيًّا حساسًا للغاية؛ فقد أخذت حركةُ بعْثٍ هندوسية ملموسة صاعدة متحدة ومتزايدة التعصُّب تجتاح البلادَ في بطءٍ وثِقَةٍ، مثل قوة ساحقة تكتسب زخمًا محتقنًا». فكانت تلك حركة «انتقامية النزعة»، لكنها بدأت أيضًا «تتنسَّم عبير السلطة السياسية المصاحبة للاتحاد».28

٥

قد يتراءى لنا أن ننظر إلى العقيدة الهندوسية على أنَّها نهر متعدد الفروع، منها روافدُ تُغَذِّي التيار الرئيسي وقنواتٌ تتفرَّع منه. ولكن ربما كان ذلك التصوُّر مغلوطًا؛ حيث إنه لا وجود لنهر رئيسي مطلقًا من عدة أوجه؛ فهذا دينٌ لا نظيرَ له في لامركزيته؛ فكل منطقة لها مقاماتها المقدسة، وكل مقام يديره كاهنٌ خاص به يبجِّله أهلُ المنطقة. وأحيانًا تتحدد الولاءات بالطائفة الاجتماعية كما بالمنطقة؛ فبراهمة مادهافا في منطقة أوتَّرا كانادا، مثلًا، لديهم معبدُهم المختار، ومعلِّمهم الديني الخاص.

فتح الجدل الدائر في أيوديا إمكانيةَ الجمع بين تلك الطرائق المتباعدة في حركةٍ موحَّدة؛ فشكَّلَ المجلس الهندوسي العالمي «مجلسًا دينيًّا» يتضمَّن الزعماءَ الرئيسيين للطوائف الهندوسية. وهؤلاء الزعماء بدورهم أقاموا صلات مع رجال الدين الأدنى درجةً، وهم الآلاف من «السانت» و«السادهو» الذين كان لكلٍّ منهم أتباعٌ قليلون. فإلى جانب بناء معبد للإله رام في أيوديا، كان أمام تلك التحرُّكات الرامية إلى وحدة الطوائف الهندوسية كافة آفاقٌ سياسية رَحْبة. وكما شرح أحد الكهنة البارزين:
يشتمل المجتمع الهندوسي على العشرات من زعماء الطوائف الهندوسية، ويحتكم كلٌّ منهم على كتلة تصويتية تُقَدَّر بقرابة ٢٫٥ مليون صوت. على سبيل المثال، لدينا حكيم جوجارات شري موراري بابو، وشري رامسوك داسجي مهراج في راجستان، وحكيم أوتَّر براديش شري ديفراه بابا، وشري ديوراسجي في منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج، وشري نريتيا جوبال داسجي مهراج في أيوديا، وغيرهم كُثُر. وإضافةً إلى هؤلاء، يتحكَّم المئات من زعماء الطوائف في كتلة تصويتية لا تقل عن مائة ألف صوت. ينطوي المجتمع الهندوسي على فِرَقٍ قوامُها نحو مليون من السادهو؛ فإذا حشد كلٌّ منهم مائة صوت، فستأخذ سياسة هذا البلد منحًى جديدًا ويغلب عليها الطابع الهندوسي.29
على الجانب الآخر، كانت الأخطار التي تتهدَّد المسجد القديم في أيوديا قد أفضت إلى تعبئة الرأي العام للمسلمين دفاعًا عنه؛ فقد شُكِّلَت لجنة عمل مسجد بابري، التي حثَّت الدولة على كفالة عدم استيلاء الهندوس الراديكاليين على هذا المقام الإسلامي وغيره. وساد بعضَ قطاعات المجتمع مزاجٌ شرسٌ، وصدرت دعوات بالسماح بالصلاة في المساجد الخاضعة لسيطرة هيئة المسح الأثري للهند، بل حتى لمقاطعة احتفالات عيد الجمهورية إنْ لم تستجِب الحكومة لمطالبهم.30
تَعَزَّزَت الوحدة الهندوسية المتنامية إلى حدٍّ لا نهائي بواقعتين حدثتا مصادفةً؛ ففي سبتمبر ١٩٨٧، انتحرت امرأة شابة تُدعَى روب كانوار في قرية بولاية راجستان عقب وفاة زوجها؛ تماشيًا مع طقس «ساتي»، الذي وإنْ كان جائزًا في التراث الهندوسي، فقد حظره القانون منذ زمن بعيد؛ ففي حين أدانَتِ الدولة — والجماعات النسوية بنشاط أكبر — فِعْلة روب كانوار، أثارت تلك الفِعْلة انتفاضةً إيمانية في ريف راجستان؛ فقد أُقيم معبد في البقعة التي احترقت فيها، مجتذِبًا آلافَ المتعبِّدين. وأُقِيمَت تجمُّعات للإشادة بروب كانوار باعتبارها النموذج المثالي للمرأة الهندوسية في إخلاصها لذكرى زوجها.31

أما الواقعة الأخرى الأكثر أهميةً فتمثلت في بثِّ قناة دوردَرشان لعمل جديد مُبهِر لملحمة «رامايانا». كانت الحلقات تُعرَض صباح كل أحد، بدءًا من يناير ١٩٨٧ وانتهاءً في يوليو ١٩٨٨. كان عدد الحلقات ثمانيًا وسبعين حلقة إجمالًا، حيث توقَّف عرض الحلقات لفترة راحة مدتها أربعة أشهر.

كانت تلك الملحمة ملحمةً رَحْبة، مثَّلت قصةَ حب وتضحية وبطولة وخيانة، يتخلَّلها قدرٌ كبير من الدماء والعنف. وكان بها طاقمٌ ثري من الشخصيات الرئيسية والثانوية، وقصةٌ ملائمة للمعالجة الدرامية، وجاء عرضها في وقت تصاعدت فيه نسبة مشاهدة التليفزيون بمعدل سريع، مع بيع ٣ ملايين جهاز تليفزيون جديد كل سنة.32 على الرغم من ذلك، فقد فاق نجاحُ المسلسل جميعَ التوقعات؛ فقد قُدِّرَ عدد المشاهدين بنحو ٨٠ مليونًا، و«كانت الشوارع والأسواق تخلو من المارة صباح أيام الأحد، وحَرِصَ المعلنون عن أي حدث هام يُنَظَّم يوم الأحد على ذِكْر أنَّه «سيُقام بعد مسلسل «رامايانا»». وكانت الجماهير تتجمَّع حول أي جهاز تليفزيون على جانب الطريق لمشاهدته». وسجَّلت الفنادق والمستشفيات والمصانع ارتفاعَ معدلات التغيُّب عن العمل في صباح أيام الأحد.33
وبقدر ما يَسْتَوْجِب عدد المشاهدين الانتباه، فكذلك تَسْتَوْجِبه شدةُ حماستهم إزاء تلك التجربة؛ فقد كان المشاهدون يستيقظون باكرًا صباح يوم الأحد، ليغتسلوا بحسب طقوسهم الدينية ويؤدُّون صلواتهم. وقبل بدء الحلقة، كانوا يضعون أطواقَ الزهور على أجهزة التليفزيون ويمسحونها بمعجون خشب الصندل. ومن الجدير بالذكر أنَّ جاذبية المسلسل تخطَّتِ الحواجز الدينية؛ فقد شاهَدَه المسلمون في حبور وافتتان، وعدَّلت الكنائس مواعيدَ صلواتها لكي تتجنَّب تعارُضَها مع مشاهدة المسلسل؛34 فكما كتب عالم الأنثروبولوجيا فيليب لَتجِندورف: «لم يسبق أن اتَّحدت مثل هذه النسبة الكبيرة من سكان جنوب آسيا على نشاطٍ واحد، ولم يسبق أن وصلت رسالةٌ واحدة إلى مثل هذا الجمهور الضخم في آنٍ واحد.»35
وفي حين أنَّ المسلمين والمسيحيين كانوا يشاهدون مسلسل «رامايانا» على سبيل الترفيه فحسب، كانت المُتعة لدى كثيرٍ من الهندوس مشوبةً بالعبادة؛ فَبِطَرِيق المصادفة لا العمد، أخذت الملحمة التليفزيونية تُدخِل تغييرات غير ملحوظة على هذه الديانة التعدُّدية اللامركزية، التي طالما انقسمَتْ إلى طوائف تعبد كلٌّ منها آلهة مختلفة وتفتقر إلى كتاب مقدَّس، أو إله واحد أحد، أو عاصمة واحدة لمعتنقي ذلك الدين. فآنذاك، أمام أجهزة التليفزيون، «استمع الهندوس كافة في جميع أنحاء البلاد لأول مرة وفي وقت واحد إلى شيء واحد وشاهدوه؛ فالحقيقة أنَّ المسلسل أدخَلَ «ضرورة التجمُّع» في العقيدة الهندوسية».36

صدر مسلسل «رامايانا» بناءً على تكليف التليفزيون الحكومي بمعزل عن مجريات الأحداث في أيوديا، إلا أنَّ جاذبيته وتأثيره أسهَمَا بدرجة هائلة في حركة المجلس الهندوسي العالمي الساعية إلى «تحرير» مكان ميلاد رام؛ فبعدما كان أحد آلهة كثيرة يعبدها الهندوس، تزايَدَ النظر إليه — بفضل المسلسل المعروض على التليفزيون — على أنه أهمها وأعظمها كافة.

٦

كانت إحدى الجبهات التي أبدى فيها رئيسُ الوزراء الجديد خروجًا أكثر جرأةً على النمط السائد: الجبهة الاقتصادية؛ فقد عيَّن راجيف غاندي في بي سينج وزيرًا للمالية، وهو سياسي هادئ من أوتَّر براديش كان معروفًا بنزاهته، وسعت الميزانية الأولى للحكومة، المُقدَّمة في مارس ١٩٨٥، إلى رفع بعض القيود والضوابط عمَّا كان أحد أكثر النُّظُم الاقتصادية تقيُّدًا في العالم. لقد حرَّر نظام التبادل التجاري، بتخفيض الرسوم الجمركية على مجموعة متنوعة من الواردات وتقديم حوافز للمصدرين. وبسَّطَ نظامَ إصدار التراخيص، مع رفع الضوابط عن القطاعات الحيوية مثل الآلات والمنسوجات وأجهزة الكمبيوتر والعقاقير، ورُفِعَت القيود عن أصول شركات الأفراد جزئيًّا، وخُفِضَت الضرائب على دخول الشركات والأفراد. قِيلَ إنَّ تلك التغييرات من شأنها أن تُشَجِّع زيادةَ الإنتاج والقدرة التنافسية؛ فقد قال رئيس الوزراء في فبراير ١٩٨٥ إنَّ الاقتصاد الهندي «عُلِّقَ في حلقة مفرغة من صنع المزيد والمزيد من القيود. والحقيقة أنَّ القيود تفضي لكل أشكال الفساد والتأخر، وهذا ما نريد التخلص منه».37
هاجَمَ المثقفون اليساريون الميزانيةَ باعتبارها تدليلًا للأثرياء، وكان رأيهم أنَّ تحرير نظام التبادل التجاري سيجعل الهند مفرطةَ الاعتماد على رأس المال الأجنبي.38 إلا أنَّ السياسات الجديدة لاقَتْ ترحيبًا من جانب قطاع الأعمال، والطبقة الوسطى.39 كان تعداد الطبقة الوسطى قد زاد إلى حدٍّ بعيد بحلول ذلك الوقت؛ حيث ذهبت بعض التقديرات إلى أنَّ تعدادها بلغ ١٠٠ مليون نسمة، وأخذت سوق السلع الاستهلاكية المعمِّرة تزداد اتِّساعًا، وهي سلع من قبيل الثلاجات والمركبات، كانت في الماضي حِكْرًا على القِلَّة من الصفوة. خلال عامَيْ ١٩٨٤ و١٩٨٥، زاد عدد الدراجات البخارية الصغيرة والكبيرة المُباعة بنسبة ٢٥٪، وعدد السيارات المُباعة بنسبة تصل إلى ٥٢٪. وكانت التجارات والأعمال الجديدة تُفتَتَح باستمرار، وحدثت طفرةٌ في سوق الإسكان وسوق العقارات، وفي المطاعم ومراكز التسوُّق، وكتب أحد مراقبي المشهد أنَّ الطبقة الوسطى الصاعدة «أصبحَتِ العلامةَ الأبرز على اقتصادٍ سريعِ التقدُّم».40
كان النصف الأخير من الثمانينيات فترةَ ازدهار لقطاع الأعمال الهندي؛ فقد نمت الصناعة بمعدلٍ جيد قدرُه ٥٫٥٪ سنويًّا، وكان أداءُ قطاع التصنيع أفضلَ منها؛ إذ نما بمعدل ٨٫٩٪ سنويًّا. وارتفعت القيمة السوقية للشركات من ٦٨ مليار روبية عام ١٩٨٠ إلى ٥٥٠ مليار روبية عام ١٩٨٩.41 بطبيعة الحال، كانت بعض الشركات تنمو بمعدل أسرع من غيرها؛ فكان أعظم صعودٍ لشركة ريلاينس للصناعات، التي كان مؤسِّسها دهيروبهاي أمباني عاملًا بسيطًا في محطة وقود بمدينة عدن يومًا ما، ولدى عودته إلى الهند بدأ تجارة توابل، قبل أن يتفرَّع عمله ليشمل تصديرَ النايلون والحرير الصناعي، ثم تحوَّل إلى تصنيع المنسوجات، قبل أن يضيف مصانعَ البتروكيماويات والشركات الهندسية والوكالات الدعائية إلى حصيلة اهتماماته المتنامية باستمرار.
حَظِيَتْ شركة ريلاينس بمعدلات نمو غير مسبوقة في مجال الصناعة الهندية، ويندر رؤيتها في أي مكان آخَر في العالم؛ فخلال ثمانينيات القرن العشرين، نمت أصولُ الشركة بمعدل يُقَدَّر بنحو ٦٠٪ في السنة، بينما نمت مبيعاتها بمعدل يزيد عن ٣٠٪ في السنة، وأرباحها بقرابة ٥٠٪. كان أمباني مبتكِرًا، يستخدم أحدثَ الوسائل التكنولوجية (المستوردة عادةً)، ويحصل على التمويل من الطبقة الوسطى المتنامية عن طريق الاكتتاب العام (وهو الشيء الذي كانت الشركاتُ العائلية الهندية الأخرى تستنكف أن تفعله). إلا أنَّ صعود شركته يُعْزَى إلى براعته في إقامة العلاقات بقدر فطنته التجارية؛ فقد كان ينال رضا السياسيين والبيروقراطيين بإقامة الحفلات لهم وإهدائهم رحلات سياحية. ونتيجةً لذلك، كان في أغلب الأحيان يعرف التغيُّرات الوشيكة في السياسات — مثل التعريفات الجمركية — قبل منافسيه بكثير.42
كان قُرْب مالك شركة ريلاينس من رموز السلطة مؤشرًا واحدًا ضمن كُثُر على تنامي الرابطة بين السياسيين ورجال الأعمال؛ فكل شركة كبيرة كانت لها جماعات ضاغطة في دلهي، لكي «تُؤَثِّر خِلسةً على السياسيين والبيروقراطيين تحقيقًا لمصالح الشركة». ولم تكن تلك التصرُّفات مقتصرةً على عاصمة البلاد؛ فقد زُعِمَ أنَّ وزراء الولايات ورؤساء وزرائها كان يؤدُّون خدمات لرجال الصناعة مقابل المال. وكانت إحدى أعلى مصادر الفساد ربحًا هي المعاملات العقارية. وقد أتاح قانون حق الاستملاك العام استيلاءَ الدولة على مزارع في محيط المدن بأسعارٍ أقل كثيرًا من أسعار السوق، ثم تسليمها إلى الشركات المحظية لكي تبني عليها مصانع أو مقرَّات لها؛ فكانت مئات الملايين من الروبيات تُتَبادَل في تلك الصفقات، حيث كان بعض المال يدخل جيوبَ السياسيين، بينما تذهب بقيته إلى خزينة حزبهم، لكي يُسْتَخدَم في الانتخابات.43
أفضت تعامُلات السياسيين الهنود مع الثروة إلى تغيُّر عميق في أسلوب حياتهم؛ فبعد أن كانوا معروفين من قبلُ بالتقشُّف والبساطة، أصبحوا يعيشون في بيوت فسيحة فاخرة الأثاث. وإذ ركبوا سيارات فارهة وتناولوا عشاءَهم في فنادق خمس نجوم، أصبحوا حقًّا «المهراجات الجدد»؛ فقد قال أحد مراقبي المشهد معلِّقًا: «المسافة الفاصلة بين غاندي (المهاتما) وغاندي (راجيف) تُمَثِّل نَقلةً هائلة في الأخلاقيات السياسية؛ فقد ولَّى عهدُ الْمِئْزَر وعصا المشي والصندل الخشبي وركوب مقصورة الدرجة الثالثة في القطار، وحلَّتْ محلَّها أحذية جوتشي، ونظارات شمس كارتييه، والسترات الواقية من الرصاص، وسيارات مرسيدس بنز، وطائرات الهليكوبتر المملوكة للدولة؛ فالسياسة الهندية لم تَعُدْ يفوح منها رائحةُ العَرَق، ولا هي نظيفة تمامًا عديمة الرائحة؛ وإنما تفوح منها رائحة عِطْر ما بعد الحلاقة.»44

٧

بينما ازدهرت الصناعة والطبقة الوسطى، عانت قطاعات كبيرة من الهند الفقرَ وسوءَ التغذية المتوطِّنَيْن؛ ففي خريف ١٩٨٥، سُجِّلَت سلسلة من حالات الموت جوعًا في المناطق القبلية من أوريسا؛ فعندما شَحَّت الأمطار، وشحَّت المحاصيل معها، اضْطُرَّ القرويون إلى التغذِّي على عصيدة مصنوعة من بذور التمر الهندي ونوى المانجو، وهو الخليط الذي أسفر في حالات كثيرة عن أمراض مَعِدِيَّة. قبل ذلك مثَّلت الغابات مصدرَ إمداد بالغذاء والفاكهة في أوقات النُّدرة، ولكنْ مع تفشِّي ممارسة إزالة الغابات لم تَعُدْ هذه الصورة من التأمين متاحةً؛ فسُجِّلت أكثر من ألف حالة وفاة في منطقتَيْ كورابوت وكَلاهاندي وحدهما.45
وفي عام ١٩٨٧ حدثت نوبة جفاف أخرى أكثر خطورةً، ضربَتْ مرتفعاتِ أوريسا مرةً أخرى، ولكنها أصابت أيضًا المناطقَ شبه الجافة في غرب الهند، لا سيما ولايتا جوجارات وراجستان؛ فدفع اليأس الرعاة إلى نقل حيواناتهم بالشاحنات إلى الغابات الغنية في وسط الهند، بحثًا عن العلف غير المتوافر في محيطهم الأصلي. كان ثمة اعتقادٌ بأنَّ تلك كانت أسوأ نوبة جفاف في القرن العشرين؛ فقد طال أثرُها نحوَ ٢٠٠ مليون من الناس، وعَبَّرِتِ الصحف عن معاناتهم تعبيرًا حيًّا بصورٍ لأراضٍ جافة متشقِّقة وجثث الماشية مبعثرة فوقها.46
سلَّطت ندرة الغذاء عامَيْ ١٩٨٥ و١٩٨٧ الضوءَ على اعتماد الاقتصاد الدائم على الأمطار الموسمية، إلا أنَّ السخط لم يَغِبْ عن مناطق الزراعة بالري أيضًا، وهو الشعور الذي أجَّجَه تنظيمان زراعيان حديثا العهد؛ هما: منظمةُ المزارعين، التي تَرَكَّزَ نشاطَها في مهاراشترا، واتحادُ مزارعي الهند في هاريانا والبنجاب. عمل التنظيم الأول تحت قيادة موظف خدمة مدنية سابق، هو شاراد جوشي، بينما عمل الثاني تحت قيادة مزارع من الجات، يُدْعَى ماهيندرا سينج تيكايت. وفقًا لجوشي، كان المحور الرئيسي للنزاع بين «الهند»، مُمَثَّلةً في الطبقى الوسطى من سكان المدن متحدثي الإنجليزية، و«بهارَت»، ممثَّلةً في سكان القرى. وكان يرى أنَّ السياسات الاقتصادية تُؤْثِر الهند على بهارَت باستمرار؛ فبغية إصلاح هذا التحيُّز، اقترح هو وتيكايت رفْعَ أسعار الغلال الزراعية وخفْضَ تعريفة استهلاك الكهرباء للمَزارع. كان التنظيمان يتحكمان في قاعدة شعبية كبيرة؛ إذ كان في مقدور كلٍّ منهما تعبئة ٥٠ ألف مزارع أو أكثر للمسير إلى عاصمة الدولة والدفع بمطالبهم.47
على الرغم من أنَّ جوشي وتيكايت زعما التحدُّث بلسان سكان الريف جميعًا، كانا في حقيقة الأمر يمثِّلان الفلاحين من الطبقة الوسطى والطبقة الغنية، الذين يستخدمون الجرَّارات الزراعية والمضخات الكهربائية وكان لديهم فائضٌ يبيعونه في السوق، أما الفقراء فكانوا خارج هذا التصنيف في معظمهم؛ فكما أكَّدت من جديد الدراسات التي أُجْرِيَت في الثمانينيات، كانت الطبقات متداخلةً مع الطوائف الاجتماعية في الهند القروية، حيث ظلت الفئات المُهَمَّشة حقًّا هي الهاريجان أو الطوائف الْمُجَدْوَلَة، وقد كشف مسح أُجْرِيَ في كارناتاكا أنَّ قرابة ٨٠٪ من القبائل الْمُجَدْوَلَة القاطنة في الريف، إضافةً إلى أكثر من ٦٠٪ من الطوائف الْمُجَدْوَلَة في المدن، كانت تحت خط الفقر الرسمي، حيث قلَّت نفقاتهم الشهرية عن خمسين روبية. وكان الوضع مماثلًا تقريبًا في أنحاء أخرى من الهند.48

٨

عمل راجيف غاندي خلال عامه الأول في المنصب على حلِّ سلسلة من النزاعات العِرْقية، في آسام وميزورام والبنجاب. إلا أنَّه بحلول نهاية عامه الثاني، تَعَرَّضَ نظامه لتحديات جديدة قائمة على أساس عِرْقي، أُضِيفَت إلى التحديات القائمة على الدِّين والطبقة.

كما هو الحال دائمًا، من المتعذر على فصلٍ أو كتابٍ أو باحثٍ واحدٍ تحقيقُ تغطيةٍ شاملة للنزاعات الاجتماعية التي وقعت في هذا العقد (أو غيره) من تاريخ الهند المستقلة؛ فأقصى ما يمكن للمرء عمله هو تسليط الضوء على النزاعات الأهم. بادئ ذي بدء، وقعت نزاعات بين جماعات متباينة داخل الولاية ذاتها؛ ففي البنغال، على سبيل المثال، بدأ السكان متحدثو النيبالية في تلال دارجيلنج يطالبون بولايةٍ خاصة بهم. كان قائدهم جنديًّا سابقًا؛ هو سوبهاش جيسينج. كان جيسينج يتمتع بتأييد تام أعمى من أتباعه؛ فكان بإمكانهم بكلمة منه أن يغلقوا مدراس ومتاجر المنطقة كافة. وعملت جبهة تحرير جوركا الوطنية التي تزعَّمها في إطار العملية الديمقراطية وخارجها، حيث كانت تقدِّم العرائض لوزراء الاتحاد في بعض الأحيان، وتنخرط في معارك حامية الوطيس مع الشرطة في أحيان أخرى. وخلال النصف الأخير من عام ١٩٨٦ ازدادت حدة الاشتباكات، ثم التقى رئيس الوزراء بجيسينج في نهاية الأمر، وأقنعه بالقَبول بمجلس تلال دارجيلنج المتمتع بالحكم الذاتي عوضًا عن إنشاء ولاية لمتحدثي النيبالية.49
وعلى الجانب الآخر من الحدود، في آسام، ثارت قبائل بودو على الآساميين المهيمنين محليًّا. وفي محاكاة لخصومهم، تزعَّم حركتَهم شبابٌ من اتحاد طلاب عموم بودو. كان زعماء الحركة يريدون ولايةً خاصة بهم تُقْتَطَع من آسام. وسعيًا وراء هدفهم، عمدوا إلى سَدِّ الطرق وإحراق الجسور ومهاجمة الأفراد غير المنتمين إلى قبيلتهم؛ فعندما ردَّت العناصر الراديكالية الآسامية، أخذت الاشتباكات منحًى عنيفًا، وحصدت عشرات الأرواح.50
في الوقت نفسه، كان النشطاء القبليُّون في تريبورا قد بدءوا معركةً ضد البنغاليين الذين نزحوا بأعداد كبيرة إلى الولاية عقب التقسيم. كان «متطوعو تريبورا الوطنيون» يُعَدُّون — وفقًا لتعريف البعض — «إرهابيين»؛ إذ كانوا يغتالون المدنيين ويختطفونهم وينصبون الأفخاخ لفِرقَ الشرطة سعيًا وراء تحقيق أهدافهم؛ ففي عام ١٩٨٦ قُتِلَ على يد عصاباتهم أكثر من ١٠٠ شخص. وفي العام التالي زاد عدد القتلى عن ذلك، إلا أنَّ زعيم الجماعة، بيجوي هرانكاول، خرج إلى العَلَن في أغسطس ١٩٨٨ ليوقِّع اتفاقًا مع الحكومة؛ فألقى متطوِّعوه السلاحَ، مقابل حصول القبائل على المزيد من المقاعد في المجلس التشريعي المحلي وتوفير الأرز وزيت الطهي بأسعار مُدَعَّمة في القرى القَبَلية.51
تضمَّنت مجموعة ثانية من النزاعات سكانَ ولايات قائمة بذاتها في مواجهة حكومة الاتحاد الهندي. ومن ثَمَّ، اتَّضح أنَّ حالة النشوة المتولدة في البنجاب عن الاتفاق المُبرَم بين راجيف غاندي ولونجُوال كانت مؤقتةً؛ فقد كان اغتيال الأخير نذيرًا بأمور آتية، حيث تسلَّم جيل جديد من الإرهابيين مقود الصراع من أجل خالستان؛ فقد كانت الجروح الناجمة عن عملية النجم الأزرق وأعمال الشغب المضادة للسيخ في دلهي قد جنَّدت أفرادًا جُدُدًا كُثُرًا لتلك القضية، كما ساهَمَ في ذلك فشلُ الحكومة المركزية في الوفاء بالتزامها بنقل تشانديجار إلى البنجاب؛ فاستوطَنَ المقاتلون المعبدَ الذهبي مرةً أخرى، وراح الكهنة يدلون بتصريحات مؤيدة لخالستان، ومن حين لآخَر كان أعضاء حزب أكالي دال الحاكم نفسه هم مَن يدلون بتلك التصريحات.52
بغية التعامل مع الإرهاب الذي عاد إلى الظهور، نما قوام جهاز الشرطة في البنجاب إلى ٣٤ ألف فرد. وبغية شد أَزْره، عُيِّنَ له رئيس جديد؛ كان شُرطيًّا من بومباي يَتِّسِم بالصراحة ويُدْعَى جيه إف ريبيرو. وعُيِّنَ أيضًا — بعد برهة — كيه بي إس جيل، وهو رجلٌ سيخيُّ الجذور كانت لديه خبرةٌ في محاربة التطرف في الشمال الشرقي؛ فتبنَّى ريبيرو وجيل سياسةَ الترغيب والترهيب؛ حيث التقيا فلاحي السيخ في إطار برنامج «اتصال جماهيري» واسع النطاق من جهة، وشكَّلا قوات أمن أهلية للقضاء على الإرهابيين من جهة أخرى. وتشعَّبت فِرَق الشرطة في الريف، حيث كانت تجري عمليات بحث وتفتيش، وتطلق النار على الهاربين؛ فقُتِلَ عشرات المتطرفين في تلك العمليات، لكنها انطوت أيضًا على مضايقات بالغة للقرويين العاديين.53

إلا أنَّ الأعمال الإرهابية استمرت؛ فقد كانت الحافلات تُوقَف على الطرق السريعة، ثم يُفْصَل الركاب الهندوس عن السيخ ويُقْتَلون؛ ففي عام ١٩٨٦ قُتِلَ ضِعْف العدد الذي قُتِلَ عام ١٩٨٤، عندما كان بيندرانوال لا يزال على قيد الحياة؛ فشرع الكثير من الهندوس المذعورين في الفرار إلى هاريانا عبر الحدود.

كان التخلُّص من الأقليات في البنجاب أحدَ أهداف الإرهابيين فعلًا، أما الهدف الأكثر شَرًّا فكان بَثَّ الرعبِ في نفوس السيخ المقيمين خارج البنجاب. وتحقيقًا لهذا الغرض، فجَّروا قنابلَ في الأسواق ومحطات الحافلات في دلهي ومدن أخرى من شمال الهند، وكان الهدف من تلك التفجيرات هو استثارة نوبة جديدة من القتل الانتقامي ضد السيخ؛ حتى يعود السيخ الناجون إلى البنجاب، لتشكيل مجتمع واحد متَّحد متناغم، وبذلك يُحَسِّنون فُرَصَهم في الصراع من أجل خالستان. وكان النموذج المحتذَى به، على ما يبدو، هو المعركة الناجحة من أجل باكستان في أربعينيات القرن العشرين، التي ساهمت فيها أيضًا إثارةُ الذعر في نفوس المسلمين المقيمين خارجها.54
في عمليةٍ كُبرى أُجْرِيَت في مايو ١٩٨٨، طردت القوات الخاصة نحو خمسين إرهابيًّا متحصِّنًا بمجمَّع المعبد الذهبي. خلافًا لعملية النجم الأزرق، شُنَّ ذلك الهجوم في وضح النهار حتى يتسنَّى تحديد أماكن العدو بوضوح أكبر. وعلى أي حال، فهؤلاء المقاتلون لم تكن لديهم استعدادات رجال بيندرانوال ولا حماستهم؛ فقد تراجَعُوا إلى قدس الأقداس بالمعبد، ولما مُنِعَ عنهم الطعام والماء، استسلموا بعد اثنتين وسبعين ساعة.55
تزامنت عودة الإرهاب في البنجاب مع تجدُّد المتاعب في ولاية حدودية أخرى؛ هي: ولاية جامو وكشمير؛ ففي عام ١٩٨٤، كانت السيدة غاندي قد أمرت بإقالة فاروق، ابن الشيخ عبد الله، من منصبه. ثم أعاد ابنها بناء الروابط التي جمعت بين العائلتين وحزبيهما — حزب المؤتمر وحزب المؤتمر الوطني الكشميري — يومًا ما. وفي نوفمبر ١٩٨٦ شكَّلا معًا حكومة تسيير أعمال في الولاية، وقال فاروق عبد الله، مبرِّرًا التحالف: «حزب المؤتمر يدير دفة الحكومة المركزية. وفي ولايةٍ مثل كشمير، إذا كان لي أن أُنفِّذ برامجَ لمحاربة المرض وأدير حكومةً، فلا أبد أن أكون على علاقةٍ طيبةٍ بالحكومة المركزية.»56
في عام ١٩٨٧، عُقِدَت انتخابات مجلس جامو وكشمير؛ فشكَّل السياسيون الكشميريون الساعون إلى الاستقلال عن الحكومة المركزية — عوضًا عن الاعتماد عليه أو التبعية له — كيانًا جامعًا؛ هو: «الجبهة الإسلامية المتحدة». تعرَّض العاملون في تلك الجبهة إلى مضايقات من جانب الحكومة، وكانت الانتخابات نفسها أبعد ما تكون عن الحرية والنزاهة؛ فعلى الرغم من أن ائتلاف حزب المؤتمر الكشميري وحزب المؤتمر الوطني كان سيربح على أي حال على الأرجح، فقد عمل على زيادة هامش الربح بتزوير الانتخابات لصالحه. حتى مكتب الاستخبارات أقرَّ بأنَّ الائتلاف خَسِرَ ما يصل إلى ثلاثة عشر مقعدًا لصالح الجبهة الإسلامية المتحدة بسبب «الممارسات الانتخابية السيئة».57
وَلَّدَت طريقة إدارة انتخابات عام ١٩٨٧ إحباطًا عميقًا بين النشطاء السياسيين في كشمير؛ فإذ يئسوا من أن تُنْصِفهم نيودلهي، بدءوا يتطلَّعون إلى باكستان لنجدتهم؛ فعَبَرت جماعاتٌ من الشباب الحدودَ، حيث انضمت إلى معسكرات تدريبٍ يديرها الجيش الباكستاني. وبعد مرور عام، عبروا الحدودَ مرةً أخرى، لتطبيق ما تعلَّموه؛ ففي ربيع عام ١٩٨٩، شَهِدَ وادي كشمير سلسلةً من حوادث إطلاق النار والتفجيرات والهجمات بالقنابل اليدوية؛ فقد أصبح ذلك الوادي الجميل موطن «مدافع الكلاشنكوف، وأجهزة التفجير، وخلطات المولوتوف، والفتائل الجيلاتينية، ومدافع الهاون، والمقاتلين الملثَّمين». وسُجِّلَت سبع وتسعون واقعةَ عنفٍ منفصلة خلال النصف الأول من عام ١٩٨٩، الذي قُتِلَ فيه اثنان وخمسون شخصًا على الأقل، وأُصِيبَ ٢٥٠ آخَرون؛ فقال أحد الصحفيين معلِّقًا في وجوم إنَّ كشمير «لديها على ما يبدو المقوِّمات التي تؤهِّلها لكي تصير بنجاب أخرى».58

٩

بينما كانت الحكومة الهندية تحاول — بدرجات متفاوتة من النجاح — احتواءَ الجهود الانفصالية في الداخل، أقدمت على محاولة طَموحة لوضع حدٍّ للقلاقل العِرْقية في دولة سريلانكا المجاورة؛ فقد وقعت تلك الجزيرة الصغيرة — الآسِرة الجمال في حد ذاتها ككشمير الجبلية — بين براثن حرب أهلية دامية بين الأغلبية السنهالية والأقلية التاميلية. وكانت أسبابُ النزاع مألوفةً إلى درجة الملل، بالنسبة إلى الهنود على أي حال؛ إذ تلخصت في التنافُس على أساس اللغة والعِرْق والدِّين والأرض.

من شأن السرد المفصَّل لتاريخ النزاع السريلانكي أن يُبعِدنا عن موضوعنا أكثر من اللازم؛59 فيكفي القول إنَّ البداية الحقيقية للنزاع كانت عندما فُرِضَت اللغة السنهالية باعتبارها «اللغة الرسمية» الوحيدة؛ فطالَبَ التاميليون بالمساواة للغتهم، وعندما رُفِضَ طلبهم، نزلوا إلى الشوارع تعبيرًا عن احتجاجهم. ومع مرور السنين، تخلَّوْا عن الأساليب السِّلْمية مُؤثِرين عليها الكفاحَ المسلح.

من بين تنظيمات المقاومة التاميلية المتعددة، كانت «جبهة نمور تحرير تاميل إيلام» الأقوى والأشد تأثيرًا. كان هدف ذلك التنظيم — الذي تزعَّمه محارِب شَرِس، هو فيلوبيلَّاي برابهاكاران — هو إقامة دولة منفصلة، تتألف من شمال الجزيرة وشرقها حيث مثَّل التاميليون أغلبيةً. وخلال ثمانينيات القرن العشرين، أغار نمور التحرير على معسكرات الجيش السريلانكي وارتكبوا فظائعَ في حق المدنيين، وكان رد السنهاليين أكثر شراسةً، على أقل تقدير. بمعنًى آخَر، كان ذلك نزاعًا تكاد الكلمات تعجز عن وصف وحشيته وهمجيته.

كان مقاتلو جبهة نمور التحرير يستخدمون ولاية تاميل نادو الهندية ملاذًا آمِنًا منذ زمن، وكانت حكومة الولاية تمدهم بمساعدة نَشِطة، بينما غضَّت نيودلهي الطرف. إلا أنَّ الرئيس السريلانكي جيه جاياورديني طلب إلى راجيف غاندي، في صيف عام ١٩٨٧، المساعدة في التوسُّط بين طرفَي النزاع؛ فتقرَّر بموجب اتفاقيةٍ وُقِّعَت بين كولومبو ونيودلهي أن تطير قوة حفظ السلام الهندية إلى الجزيرة، حيث ينسحب الجيش السريلانكي إلى ثكناته، وينزع مقاتلو جبهة نمور التحرير سلاحَهم، بالإقناع أو بالإكراه.

في أواخر يوليو ١٩٨٧، بدأت القوات الهندية تتوجَّه إلى سريلانكا في مجموعاتٍ قوامُ كلٍّ منها بضعة آلاف جندي. (في نهاية الأمر، وصل عدد جنود الجيش الهندي هناك ٤٨ ألفًا.) لم يَلْقَ وجودُ قوة حفظ السلام الهندية استحسانًا لدى القوميين السنهاليين، الذين رَأَوْا فيه انتهاكًا للسيادة، ولا لدى التاميليين الذين طالما اعتبروا الهند في صفِّهم. وعندما طُلِبَ من نمور التحرير إلقاءَ سلاحهم، أصرُّوا على سلسلة من الشروط المسبقة، منها: إطلاقُ سراح التاميليين المتحفَّظ عليهم في سجون الحكومة جميعًا، ووقفُ الاحتلال السنهالي في شرق الجزيرة. دام سلامٌ حَذِرٌ حتى شهر أكتوبر، ولكنه خُرِقَ بتحرُّك قوة حفظ السلام الهندية ضد المتمردين؛ فقد داهمت مقرَّ الجبهة في مدينة جافنا واستولت عليه، لكنها دفعت ثمنًا باهظًا؛ فقد تحوَّل الرأي الشعبي في حسم ضد القوات الهندية، التي أصبح يُنظَر إليها على أنها قوات احتلال. لاذتْ جبهة النمور بالغابة، حيث يمكنهم قنص الهنود عن بُعْد ومهاجمتهم باستمرار، وكانوا يُحسِنون استخدام الألغام الأرضية بصفة خاصة، لتفجير قوافل الجنود أثناء تنقُّلاتها على الطرق.

بحلول نهاية عام ١٩٨٧ كانت الصحافة تكتب عن سريلانكا بوصفها «فيتنام الهند»؛ ذلك لأنَّ «الجيش الهندي لم يسبق له رؤية حربٍ كهذه؛ فهي تدور على أرض غريبة، ضد عدو أجنبي لا يرتدي زيًّا عسكريًّا، ولا عِلْمَ لديه باتفاقية جنيف المعنية بأخلاقيات الحرب، ولكنه يحمل على الرغم من ذلك أسلحةً حديثة فتَّاكة ويقاتل عادةً من وراء ستار النساء والأطفال».60 وكان أحد قيادات القوات الهندية أكثر كَرَمًا في سرده؛ فبينما طَفِقَ يُنَدِّد بنمور التحرير و«إصرارهم الأخرق العنيد المدمِّر» على الكفاح المسلح، أشاد في الوقت نفسه «بانضباطهم وتفانيهم وعزيمتهم وحماستهم وخبرتهم الفنية».61

لدى عودة جثامين الجنود في أكياس إلى البر الرئيسي، تصاعدت الضغوط الدافعة إلى سحب قوة حفظ السلام الهندية؛ فبدءًا من صيف ١٩٨٩ بدأت القوات تعود أدراجها، وإنْ كان الانسحاب النهائي لم يتم حتى ربيع ١٩٩٠، بعدما لَقِيَ أكثر من ألف جندي حتفه في النزاع.

كان قرار إرسال قوات إلى سريلانكا متماشيًا مع تنامِي تصوُّر الهند أنها «القوة الإقليمية المهيمنة الشرعية في جنوب آسيا».62 فقد كانت هي القوة المسيطرة في المنطقة من الناحيتين الديموغرافية والاقتصادية، وعقدت العَزْم على التعبير عن هذه السيطرة من ناحية الاستعداد الحربي أيضًا؛ ففي يناير ١٩٨٧، شرعت وحدات هندية من المشاة في مناورة عسكرية كبيرة على الحدود مع باكستان؛ ظاهريًّا لاختبار معدات جديدة، ولكن فعليًّا لاستعراض قوتها المستحدثة أمام عدوتها القديمة.63 ثم اختبرت الهند، في مارس ١٩٨٨، أولَ صاروخ أرض أرض لها، الذي تتوافر به القدرة على مهاجمة أهداف على بُعْد يصل إلى ١٠٠ ميل. وبعد عام أجرت اختبارًا ناجحًا على سلاحٍ أكثر تطوُّرًا، حمولته أكبر عشر مرات ويصل إلى أهداف على بُعْد ١٥٠٠ ميل؛ فقد نقل علماء الصواريخ الهنود بلادهم إلى نادٍ حصري، اقتصرت عضويته على الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي وفرنسا والصين وإسرائيل والمملكة المتحدة.64
وَلَّدَت تلك التطورات مشاعرَ توجُّس لدى البلدان الأصغر منها في جنوب آسيا؛ حيث بدأ الناس يتحدثون عن «الهندي القبيح» مثلما كان يتحدَّث الناس في سائر أنحاء العالم عن «الأمريكي القبيح» (إشارةً إلى رواية أمريكية شهيرة من تأليف ويليام ليدرر ويوجين بودريك). فقد أقرَّت مجلة أسبوعية في كلكتا بحسرة أنَّ الهند «يُنظَر لها على أنها شريرُ المنطقة».65

١٠

كان راجيف غاندي قد جاء إلى السلطة بتفويض هائل النطاق في الانتخابات التي عُقِدَت بعد وفاة والدته، إلا أنَّه لدى اقتراب الانتخابات العامة لعام ١٩٨٩، كانت فُرَص حزبه غير أكيدة؛ فكما عامَيْ ١٩٦٧ و١٩٧٧، وجد حزبُ المؤتمر — الذي تصدَّر الساحةَ يومًا ما — صعوبةً كبيرة في الحفاظ على وضعه.

بادئ ذي بدء، واجَهَ الحزب تحديًا متزايد الخطورة من جانب الأحزاب الإقليمية؛ فخلال معظم فترة حكم راجيف غاندي، كان حزب آسوم جانا باريشاد هو الحزب الحاكم في آسام، وحزب تيلوجو ديسام في أندرا براديش (حيث كان إن تي راما راو قد عاد إلى السلطة عام ١٩٨٥)، وحزب أكالي دال في البنجاب. وفي يناير ١٩٨٩ عاد حزب درافيدا مونيترا كازاجام إلى سدة الحكم في تاميل نادو. والأقوى من تلك الأحزاب جميعًا كان الحزب الشيوعي الماركسي في غرب البنغال، الذي كان قد احتفظ بالسلطة اثني عشر عامًا على التوالي بحلول عام ١٩٨٩، وخلال تلك المدة كان جيوتي باسو — زعيم الحزب ورئيس وزراء الولاية — قد «تنامت مكانته إلى حد مذهل»؛ فقد كان باسو محلَّ إجلال كبير في الريف بسبب الإصلاحات الزراعية التي حقَّقها حزبه. وخلافًا للمعتاد بالنسبة إلى شيوعي، حَظِيَ باحترام رجال الصناعة أيضًا، الذين راق لهم نهجه العملي في الاستثمار وتخفيفه نزعة الاتحادات العمالية إلى العنف.66
نبع تحدٍّ آخر من اليمين الهندوسي؛ فحزب جانا سانج القديم — الذي أُعيدت تسميته إلى «حزب بهاراتيا جاناتا» — لم يَفُزْ إلا بمقعدين في انتخابات عام ١٩٨٤. ولكنه في هذه المرة انضمَّ إلى الحملة الساعية إلى بناء معبدٍ للإله رام في أيوديا. فإذ تنامت شعبيةُ تلك الحملة، ارتفعت أسهم الحزب معها؛ فقد انضمَّ العاملون بحزب بهاراتيا جاناتا إلى العاملين بالمجلس الهندوسي العالمي ومنظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج في مراسم وضع حجر الأساس لمعبد رام، التي تتضمن الصلاة على أحجار يأملون في استخدامها في تشييد معبد الإله رام، ووقفها لهذا الغرض. ولكي يدفع المجلس الهندوسي العالمي بالقضية، أعلن أنَّه سوف يُنَظِّم مراسم تدشين رسمية، في الموقع محل الخلاف في أيوديا يوم ٢ نوفمبر. ووصلت الموقعَ قوالبُ طوب من مناطق متباينة في اليوم المنتظَر. نُصِحَت حكومة حزب المؤتمر في دلهي بإيقاف مراسم التدشين، لكنها في النهاية تركتها تمضي؛ خوفًا من استعداء الهندوس قبل الانتخابات العامة. واختار المجلس الهندوسي العالمي عاملًا من الداليت في بيهار لوضع حجر الأساس، لما زعموا أنه سيكون معبدًا مهيبًا مكرَّسًا للإله رام ذات يوم.67
أفضت المراسم إلى نشوب نزاع ديني في عدة مدن بشمال الهند، كان أسْوَؤُها في مدينة بهاجالبور ببيهار، حيث دامت المعارك بين الهندوس والمسلمين أسبوعًا في شهر نوفمبر. ثم امتد النزاع إلى الريف، حيث عمدت بعض الجماعات بقيادة نشطاء من راشتريا سوايامسيفاك سانج إلى تحطيم المغازل والمنازل المملوكة للنسَّاجين المسلمين الذين تشتهر بهم المنطقة؛ فقُتِلَ مئات المسلمين في الأحداث، وشُرِّدَت أعداد أكبر بكثير، وجُمِعَ المشرَّدون في معسكرات إغاثة تحت إدارة تجار مسلمين ومنظمات إغاثة إسلامية، وليس الحكومة. أدَّت أعمال الشغب في بهاجالبور، وتبعات مراسم التدشين بصفة عامة، إلى زيادة الاستقطاب بين الجماعتين السكانيتين؛ فقد شعر المسلمون بأنَّ حزب المؤتمر خانهم، وأعلن قطاعٌ كبير من الطبقة الوسطى الهندوسية دَعْمه لحزب بهاراتيا جاناتا.68

جاء تحدٍّ ثالث لرئيس الوزراء من جانب في بي سينج، زميله السابق في مجلس الوزراء؛ فأثناء تولي سينج منصب وزير المالية، أجرى سلسلة من الغارات على الشركات الصناعية المتَّهمة بالتهرُّب الضريبي؛ فاعْتُبِرَ ذلك تجاوزًا لنطاق صلاحياته، ومن ثَمَّ نُقِلَ إلى وزارة الدفاع، وفيما بعدُ اسْتُبْعِدَ من مجلس الوزراء برمته. وبعد فترة ليست بطويلة، هبَّت عاصفةٌ بسبب خروج تسريبات أشارت إلى تقاضي وُسَطاء عمولات في صفقةٍ تضمَّنَتْ بيعَ مدافع من شركة بوفور السويدية إلى الجيش الهندي. صدر أول بثٍّ للنبأ على الإذاعة السويدية في أبريل ١٩٨٧، وعلى مدار العامين التاليين، واصلت الصحافة وسياسيو المعارضة الضغط على الحكومة، مطالبين بإعلان أسماء الجُناة ومعاقبتهم.

رفضت الحكومة التعاون، مما غَذَّى الشكوكَ في أنَّ الوسطاء كانوا على صلةٍ ما برئيس الوزراء نفسه؛ فأثار العِلْمُ بوقوع فسادٍ في صفقةِ دفاعٍ عاصفةً من الغضب، ضاعَفَها اكتشاف أنَّ الخبراء العسكريين كانوا يفضِّلون مدفعًا فرنسيًّا على المدافع السويدية، لكن الساسة تجاهَلوا رغبتهم.69
وقَرَّ في المخيلة الشعبية — سواء أكان صوابًا أم خطأً — أنَّ ثمة صلةً بين الجدل الدائر حول صفقة مدافع بوفور وبين خروج في بي سينج من مجلس الوزراء، وانتقل لقب «السيد نظيف» من راجيف غاندي إليه. ترك سينج حزب المؤتمر، وترشَّح في انتخابات يونيو ١٩٨٨، ورَبِحَ بصفته مرشَّحًا ضمن قوى المعارضة المتحدة في انتخابات برلمانية فرعية في الله أباد. بحلول ذلك الوقت كان قد أصبح بؤرة المشاعر المتنامية ضد حزب المؤتمر. في أكتوبر ١٩٨٨ اندمجت الجبهة الشعبية التي شكَّلها مع حزب جاناتا القديم ليُشَكِّلا حزبَ جاناتا دال، ثم اتَّحَد ذلك الحزب الجديد مع التجمُّعات الإقليمية لتشكيل جبهة وطنية، أُعْلِنَ بدْءُ عملها في شاطئ مارينا بمدراس وأشاد بها أحد أعضائها — إن تي راما راو بحماسه الفائر على الدوام — واصفًا إياها بأنها عربةٌ «تجرها سبعةُ خيول ستطرد الغيومَ والظلال التي ازدادت كثافةً على مدار العقود القليلة الماضية في التاريخ الوطني».70
أقدم راجيف غاندي في عامه الأخير في الحكومة على أربع مبادرات ترمي إلى إنقاذ شعبيته المتراجعة: طرح في سبتمبر ١٩٨٨ مشروعَ قانونٍ لوضع ضوابط على حرية الصحافة، يمكن بمقتضاه حَبْسُ الصحفيين وأصحاب الصحف إذا ثبتت إدانتهم بتهمة «نشر الأخبار المُغرِضة» أو «التشهير»، وهما المصطلحان اللذان احتفظت الدولة وحدها بحق تعريفهما. من الجَلِيِّ أنَّ مشروع القانون ذاك جاء استجابةً لفيض المقالات الصحفية التي كانت قد صدرت مؤخرًا عن الفساد؛ فقد كانت تلك «ضربةً استباقية متأخرة لمنع إلحاق المزيد من الضرر بصورة الحكومة». أثار مشروع القانون احتجاجًا جماعيًّا بين الصفحيين في جميع أنحاء البلاد، فانسحب أعضاء في البرلمان من جلساته، وفي النهاية أُسْقِطَ مشروع القانون.71
ثم قام راجيف غاندي، في يناير ١٩٨٩، بزيارة الصين، ليكون بذلك أول رئيس وزراء هندي يُقْدِم على تلك الخطوة منذ ما يربو على ثلاثة عقود. ومثَّلت تلك، ضمن أمور أخرى، محاولةً لإعادة تنصيب نفسه رجل دولة على المستوى الدولي. نُحِّيَت المسألة الحدودية جانبًا بحصافة في المباحثات مع الزعماء الصينيين، إلا أنَّ نيودلهي تنازَلَتْ بشأن التبت، في حين قالت بكين من جانبها إنَّها لن تقدِّم العونَ إلى المتمردين في شمال شرقي الهند. وخاض راجيف غاندي حوارًا دام تسعين دقيقة مع دينج شياو بينج، البالغ من العمر آنذاك أربعة وثمانين عامًا، قِيلَ له فيه: «أنت الشباب. أنت المستقبل.»72
بعد ذلك، في مارس ١٩٨٩، بَدَّلَ راجيف غاندي مسار السياسات الاقتصادية المتطلِّعة للخارج والموجَّهة نحو النمو، التي تبنَّاها في أعوامه الأولى في منصبه. وفي آخِر ميزانية قدَّمَتْها حكومته، رفع الضرائبَ على السلع الاستهلاكية المُعَمِّرة، وفرَضَ رسومًا إضافية على تذاكر الطيران والفنادق الفاخرة. وفي الوقت نفسه، طرح خطةً جديدةً لخلق فرصِ عملٍ في المناطق الريفية. وعندما لاحت الانتخابات في الأفق، بدأ راجيف غاندي «يعود إلى النهج الشعبوي الذي تفرَّدَتْ به والدته».73
وأخيرًا، في صيف عام ١٩٨٩، بدأت الحكومة سلسلةَ برامج رفيعة المستوى احتفالًا بالذكرى المئوية لميلاد جواهر لال نهرو؛ فأقامت على شرف نهرو حلقاتٍ دراسيةً، ومعارضَ للصور الفوتوغرافية، ومسابقاتٍ تليفزيونيةً ومهرجاناتٍ شعريةً، وحفلاتٍ موسيقيةً، وحتى مسابقات تزلُّج؛ وكلها بتمويلٍ من الدولة وترويجِ الإذاعة والتليفزيون التابعين لها. في ظاهر الأمر بَدَتْ تلك البرامج تكريمًا لرئيس وزراء الهند لا أكثر، ولكن «على مستوًى آخَر، يخاطب اللاوعي بدرجة أكبر، تهمس تلك الحملة المكثَّفة بصفة متكررة مستترة بالرسالة الحقيقية الخفية، وهي أنَّ الأمة لم تَحْظَ براعٍ أفضل من عائلة نهرو، وأنَّ التخلِّي عن تلك العائلة يستتبع، في التحليل النهائي، نبْذَ تركةٍ مقدَّسة واحتضانَ قوى الفوضى».74
على الرغم من ذلك، لم يَدَعْ راجيف غاندي شيئًا للصدفة؛ ففي الحملة التي خاضها من أجل إعادة انتخابه، تحدَّث في ١٧٠ مؤتمرًا في شتى أنحاء البلاد. وكما عام ١٩٨٤، نصحته وكالة ريدِفيوجن الدعائية بالتأكيد على الأخطار التي تُهَدِّد وحدة البلاد، التي تُزَكِّيها وتُؤَجِّجها المعارضة الطائفية، والتي لا يمكن لأحد التغلُّب عليها سوى حزب المؤتمر.75 إلا أنَّ رسالته في هذه المرة، لم تَلْقَ الصدى نفسه من قريب أو بعيد، وذلك لسببين؛ أولًا: كانت اتهامات الفساد قد ألحقَتْ ضررًا بالغًا بمصداقية الحكومة، وثانيًا: كانت المعارضة أفضلَ تنظيمًا بكثير مما كانت في المرة الماضية؛ فقد أجرت الجماعات الرئيسية الثلاث تعديلاتٍ على المقاعد، بحيث واجَهَ مرشحُ حزب المؤتمر في معظم الدوائر خصمًا رئيسيًّا: من الجبهة الوطنية، أو حزب بهاراتيا جاناتا، أو أحد الأحزاب الشيوعية.

مثَّلت الانتخاباتُ التي عُقِدَت في نوفمبر ١٩٨٩ ضربةً موجِعة لحزب المؤتمر؛ فقد رَبِحَ ١٩٧ مقعدًا فحسب، أي أقل من الانتخابات السابقة بما يربو على ٢٠٠ مقعد. في المقابل، لم تستطع المعارضة ادِّعاء النصر أيضًا؛ فقد حصل حزب جاناتا دال على ١٤٢ مقعدًا، بينما حصل حزب بهاراتيا جاناتا على ستة وثمانين مقعدًا، وفاز اليسار بما يربو قليلًا على خمسين مقعدًا. ونُصِّبَ في بي سينج رئيسًا لحكومة الجبهة الوطنية، بينما اختار اليسارُ وحزبُ بهاراتيا جاناتا مسانَدةَ الحكومة من خارجها؛ ومن ثَمَّ، كان ثاني رئيس وزراء هندي من خارج حزب المؤتمر — مثل الأول (مورارجي ديساي) — قد قضى معظم تاريخه السياسي في حزب المؤتمر.

كانت الانتخابات العامة لعام ١٩٨٩ هي أول انتخابات لا يفوز فيها حزبٌ واحد بأغلبية. وكونها مثَّلت علامةً فارقةً ليس استنتاجًا وليد النظر للأحداث بأثر رجعي فحسب، وإنما قال به بعض المعلِّقين آنذاك أيضًا. كتب فير سانجفي: «كانت الهند بصدد دخول فترة من عدم الاستقرار السياسي. لقد ولَّى عهد الحكومات القوية المحكومة برؤساء وزراء دكتاتوريين؛ فقد مثَّلت هذه الانتخابات تدشينًا لفترة من عدم اليقين.»76

١١

حتى بمقاييس التاريخ الهندي، كان عقد الثمانينيات عاصفًا بصفة خاصة؛ فلطالما واجهَتْ جمهورية الهند حركات معارِضة، لكنْ لم يسبق لها أن واجهتها بهذه الكثرة، في وقت واحد، وفي تلك المناطق كلها، وبتلك الشدة في التعبير عنها. وكان ثمة تحديان مُقلِقان أكثر من غيرهما؛ هما: استمرار التمرُّد في البنجاب — وهو الوضع الأول من نوعه في ولايةٍ تُعْتَبَر جزءًا من قلب الهند (خلافًا لمنطقتَيِ الِاضْطِراب القديمتين: ناجالاند وكشمير) — والتعبئة غير المسبوقة للهنود الراديكاليين في جميع أنحاء البلاد، ممَّا هدَّد الهوية العلمانية للدولة. وأُضيف إلى العنف — بمستوياته المرتفعة والمنخفضة — تنامِي الفساد السياسي والإداري، الذي جعلته الصحافةُ اليَقِظة أكثرَ بروزًا وإثارةً للقلق. وخارج حدود البلاد، ألحقَتْ هزيمةُ الجيش الهندي على يد جبهة نمور التحرير في سريلانكا ضررًا بالغًا بهيبة الدولة.

في صيف عام ١٩٨٥، نشرت مجلة «صَنداي» الأسبوعية الصادرة بكلكتا، التي كانت في أوج مكانتها وتأثيرها آنذاك، قصةَ غلافٍ عن «موجة العنف الخارجة عن نطاق السيطرة» التي اجتاحت البلاد. وجاء في المجلة أنَّ «التوتُّر والسخط المنتشرَيْن في كل مكان — على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي — أفسحَا المجالَ أمام العمليات الإرهابية المتفرقة والاحتجاجات الجماعية؛ فأعمالُ التخريبِ والحرقِ المتعمَّد للممتلكات والقتلِ والتدميرِ متفشِّية في جميع أنحاء الهند كطفح جلدي قبيح». فبعد مرور سبعة وثلاثين عامًا على الاستقلال، «تجد الهندُ نفسَها في نقطة مفصلية في تاريخها».

طرحت المجلة السؤال الآتي: «ما الذي يحدث للبلاد، ولِمَ؟» وطلبت إلى قائمة من الشخصيات الهندية البارزة الإجابة عليه. وقال المحرِّر روميش تابَّار معلِّقًا إنَّ العنف والغضب أظهَرَا أنَّه «لا توجد سيطرةٌ على أي مستوًى … وثمة خوفٌ متنامٍ من أننا في سبيلنا إلى الوصول إلى نقطة اللاعودة، بحسب مصطلح ملاحي الطائرات. لقد أصبح التفكك أوضح من اللازم». واقتبس كاتب الأعمدة كولديب نَيار سلسلةً من عناوين الصحف الرئيسية المتعلقة بأعمال الشغب والقتل، التي سَجَّلَت وقوع «اضْطِرابات متفاوتة الشدة في مناطق تفصل بينها آلاف الأميال»، على يد أشخاص «عاشوا رَدحًا من الزمن على شفا الهاوية»، ولكن «يبدو أن مشاعر السخط لديهم بلغت الآن حد الانفجار». وأشار الشُّرطي كيه إف رستم جي في صرامةٍ إلى أنَّ السياسة والإدارة في الهند أصبحتا تحت رحمة «المتعصِّبين والخطباء الشعبيين المحرِّضين» الذين «يدَّعون أحقيتهم في تنظيم موت الآلاف تحت غطاء المعارضة الديمقراطية». وقال رستم جي: «دعوا عنكم الأموات، وأحصوا الأصوات الانتخابية.» كان ذلك توصيفًا قاسيًا وإن كان دقيقًا للأهداف السياسية لأولئك المتعصِّبين والمُحَرِّضين. ثم أضاف: «في غضون بضعة أعوام، حتى الأصوات الانتخابية قد لا تستأهل الإحصاء؛ لأننا ربما نكون قد قضينا على الديمقراطية بحلول ذلك الوقت.»77
كانت تلك سمات متكررة في التعليقات الصحفية لتلك الفترة: أن الهند سوف تتفكَّك أو تتخلَّى عن الديمقراطية برمتها؛ ففي أبريل ١٩٨٧، أصدر محرِّر مجلة «صنداي» السياسي نفسه، كِوال فِرما، هذا التحذير الخطير:
إذا ظل راجيف غاندي يتراجع ولم يظهر بديلٌ له (… لم يَلُحْ أحدٌ في الأفق بعدُ)، فسيُسفِر ذلك عن زعزعةٍ للاستقرار السياسي تُخَلِّف تبعاتٍ كارثيةً؛ فخالستان قد تصبح حقيقة؛ ففي المناطق الريفية من البنجاب، يقود المتطرفون السيخ إدارةً موازية بالفعل. وإضافةً إلى ذلك، من الممكن أن تفضي مسألةُ رام جانمابهومي ومسجد بابري إلى حرب طائفية واسعة النطاق في شمال الهند. ومن شأن استمرار حالة عدم اليقين وعدم الاستقرار السياسيين أن تُمَثِّل دعوةً للقوى المغامِرة للتدخُّل في الموقف، على سبيل المثال: إذا أقال رئيسُ الجمهورية رئيسَ الوزراء، فقد يكون الجنرال سوندَر جي [رئيس أركان الجيش] هو مَن يُقَرِّر أيهما يبقى.78

جميع الكُتَّاب المُستشَهد بهم في الجزئية السابقة كانوا هنودًا في أواخر الخمسينيات أو أوائل الستينيات من العمر، نشئوا في كنف البريق الدافئ لعهد نهرو، وهم هنا كانوا يتذكرون الآمال التي بُنِيَت عليها الدولة الجديدة. لا شك أنَّ مشاعرهم اصطبغت بحنين إلى الماضي، بعضه على الأقل في موضعه؛ فالساسة في عهد نهرو كانوا يعملون على احتواء الانقسامات الاجتماعية عوضًا عن تعميقها وزيادتها تحقيقًا لمصالحهم الشخصية. ولكن في بعض النواحي، ربما كان ذلك الحنين في غير محله؛ فذلك الاهتزاز، وإن كان عنيفًا ومكلِّفًا بلا شك، يمكن لعينٍ أكثر تعاطفًا أنْ تفسِّره على أنَّه تَنَامٍ في لامركزية الكيان السياسي الهندي، بعيدًا عن سيطرة منطقة واحدة (الشمال) وحزب واحد (حزب المؤتمر) وأسرة واحدة (آل غاندي).

لا بد أن يتحفَّظ المرء في إصدار تعليقه النهائي على ما إذا كان التشاؤم مبررًا حقًّا؛ فكما تبيَّنَ من النبوءات المتعددة الواردة في هذا الكتاب، اعْتُبِرَ كل عَقد منذ الاستقلال «الأخطر» حتى حينه؛ فإذا كان ثمة شيء جديد في تلك النبوءات الأخيرة، فهو صدورها عن هنودٍ لا أجانب فحسب.

١٢

بنهاية هذا الفصل، ينتقل هذا الكتاب من تناول «التاريخ» إلى ما يمكن في المقابل أن يُسَمَّى «السرد الصحفي الخاص بالتاريخ». فالجزء الخامس — وهو الجزء التالي — يتناول أحداث العقدَين والنصف الأخيرَين، بينما تتكشَّف أحداثهما.

معظم السجلات في العالم تتبع قاعدة «الثلاثين عامًا»، التي تُحفَظ بموجبها سريَّةُ الوثائق المكتوبة خلال العقود الثلاثة الأخيرة. ويبدو هذا سليمًا؛ إذ إنه بعد مرور ثلاثين عامًا، يصير من المستبعد أنْ يكون لأي «كشفٍ» جديد تأثيرٌ ملموس على الباقين على قيد الحياة.

وفي خبرتي الشخصية، يحتاج المرء لكي يكتب عن أحداثٍ بصفة المؤرِّخ إلى أن تفصل بينه وبينها مسافةُ جيلٍ أيضًا؛ فلا بد من انقضاءِ هذه المدة قبل أن يتسنَّى للمرء وضْعُ تلك الأحداث في نَسَق محدد، والنظرِ إليها بمَنْأًى عن ضجة الحاضر وصخبه. وبمجرد أن تمر ثلاثة عقود تقريبًا، تزداد المواد المتاحة كثيرًا؛ فليست سجلات المحفوظات هي وحدها التي تصير متاحةً، وإنما المُذكرات أيضًا والسِّيَر الذاتية والأعمال التحليلية التي نُشِرَت منذ ذلك الحين.

عندما يكتب المرء عن الماضي القريب جدًّا، يفتقر إلى المصادر الأولية المتاحة في الفترات الأسبق. وإضافةً إلى ذلك، يكتب المؤرِّخ في هذه الحالة عن أوقاتٍ قريبة إليه كما هي قريبة إلى قُرَّائه؛ فتكون لديه، ولديهم، آراء قوية عن ساسة اليوم وسياساتهم؛ ففي الفصول التالية، حاولتُ أن أُبعِد تحيُّزاتي الشخصية عن السرد، ولكن ربما يكون نجاحي في هذا الصدد محدودًا، أو على أي حال، محدودًا بدرجة أكبر من أجزاء أخرى في الكتاب؛ فقد كان هذان العقدان حافلين بالأحداث والجدل كأي وقتٍ آخَر في تاريخ الهند المستقلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤