الفصل التاسع والعشرون

التقدم ومشاكله

[في الهند] عملية النمو متحيزة جدًّا؛ إذ تجعل البلد يبدو أكثر فأكثر كجزر كاليفورنيا في بحر في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.

جان دريز وأمارتيا سِن

١

عندما أُغلق باب الاقتراع في الانتخابات العامة لعام ٢٠٠٤ وجرى تجميع الأصوات، كانت النتائج معاكسة لما توقعَته استطلاعات الرأي. لقد توقعت تلك الاستطلاعات تحقيق التحالف الحاكم فوزًا مريحًا؛ ما حدث هو أن التحالف الديمقراطي الوطني حصل فقط على ١٨٩ مقعدًا، في حين أن التحالف التقدمي المتحد، الذي يقوده حزب المؤتمر، استطاع الحصول على ٢٢٢ مقعدًا. لذا، طلب الرئيس من التحالف الفائز تشكيل الحكومة. وكان من المتوقع بوجهٍ عام أن تصبح رئيسة حزب المؤتمر، سونيا غاندي، رئيسة الوزراء.

في سنواتها الأولى في عالم السياسة، لم يكن لسونيا غاندي تأثيرٌ مهم. لكنها عملت بجدٍّ شديد وقامت بجولاتٍ مكثفة في أنحاء البلاد. وقد كوفئت مثابرتها؛ فعلى الرغم من أن التحالف الديمقراطي الوطني الذي يقوده حزب بهاراتيا جاناتا كان يتولى السلطة في الحكومة المركزية، فقد كان حزب المؤتمر يرأس عددًا كبيرًا من حكومات الولايات يصل إلى ١٥.1

في مايو من عام ٢٠٠٤، عندما حان الوقت لكي يكون التحالف التقدمي المتحد على رأس السلطة في الحكومة المركزية، اختارت سونيا غاندي رفض منصب رئيس الوزراء. ورشحت بدلًا منها الدكتور مانموهان سينج، الاقتصادي غير المحب للظهور الذي كان وزير المالية في تسعينيات القرن الماضي والذي أصبح عضوًا منذ ذلك الوقت لثلاث فترات في مجلس الولايات. لم تكشف سونيا غاندي عن سبب إحجامها عن رئاسة الوزراء أو اختيارها للدكتور سينج وليس أحد قادة حزب المؤتمر الآخرين. على الأرجح رأت أن ميلادها ونشأتها في إيطاليا أمر سيثير جدلًا غير ضروري؛ وعلى الأرجح، نظرًا لأنها لم تعمل من قبلُ في الحكومة، فلم تكن متأكدة من قدرتها على التعامل مع تعقيدات الوظيفة.

كانت العلاقة الشخصية بين رئيسة الحزب ورئيس الوزراء ودية. لكنهما اختلفا فيما يتعلق بسياساتهما الاقتصادية. كان مانموهان سينج إصلاحيًّا، وإن تُرك الأمر له بمفرده بالكامل، كان سيدفع في اتجاه القيام بمزيد من التحرير لقوى السوق وتقليل الإعانات وإلغاء قوانين العمل المقيدة وجعل الروبية عملةً قابلة للتحويل بالكامل. على الجانب الآخر، كانت سونيا غاندي شعبوية ترغب في جعل الدولة تقيد دور السوق وتحمي مصالح العمال وتوفر إعانات وخدماتٍ اجتماعية أكبر للفلاحين والعمال الزراعيين.2
أسست سونيا غاندي مجلسًا استشاريًّا وطنيًّا، ترأسته بنفسها وتألف على نحوٍ كبير من ناشطين اجتماعيين شاركوها أفكارها التي تقوم على مبدأ دولة الرفاهية الاجتماعية. فرض هذا المجلس أفكاره على رئيس الوزراء. وكان من ضمن القوانين التي تبنَّتها الحكومة القانون الوطني لضمان العمل في الريف، الذي كان يضمن عملًا مدفوع الأجر لمدة ١٠٠ يوم في السنة للأفراد البالغين في الأسر الريفية. كان هذا البرنامج سيكلف خزانة الدولة نحو ٢٠ ألف كرور روبية سنويًّا.3 وتَمثَّل قانونٌ آخر في قانون الحق في الحصول على المعلومات الذي جعل الكشف عن تفاصيل البرامج والمخصصات والتخصيصات الحكومية إلزاميًّا عند طلب هذا، فيما عدا الأمور المتعلقة بالأمن أو الدفاع أو المصالح الوطنية الاستراتيجية. وتمثل قانونٌ ثالث في قانون حقوق الغابات، الذي سعى لتخصيص قطع أرض للأسر القبلية في الغابات المملوكة للدولة.
حذا حزب المؤتمر حذو التحالف الديمقراطي الوطني واحتفظ بوزارات المالية والداخلية والخارجية؛ إذ كانت رئيسة الحزب هي من اختارت وزراء تلك الوزارات وليس رئيس الوزراء. لكن جرى التنازل عن وزاراتٍ اقتصاديةٍ مهمة مثل وزارتَي تكنولوجيا المعلومات والزراعة لشركاء في التحالف.4

٢

في مارس من عام ٢٠٠٥، بعد أقل من عام من توليها السلطة، أعلنت حكومة التحالف التقدمي المتحد تأسيس لجنة «رفيعة المستوى» لدراسة الوضع الاقتصادي الاجتماعي والتعليمي للمسلمين في الهند. وقد تقرر أن يرأسها أحد قضاة محكمة دلهي العليا، القاضي راجيندر ساشار.

كان تأسيس لجنة ساشار مناورةً سياسيةً بارعة. كان المسلمون عبر أنحاء الهند قد صوَّتوا بأعدادٍ كبيرة لصالح التحالف التقدمي المتحد في الانتخابات العامة لعام ٢٠٠٤. لكن كان هذا أيضًا اعترافًا صادقًا بالفشل الواضح للدولة الهندية في الوفاء بالضمانات التي أعطاها غاندي ونهرو للمسلمين الذي بقوا في الهند بعد التقسيم. فبعد ستة عقود، ظلت هذه الطائفة هشة اقتصاديًّا وغير آمنة اجتماعيًّا ومهمشة سياسيًّا.

في الواقع، لم يكن كل المسلمين فقراء. كان هناك صُناع أثرياء في بعض المدن في شمال الهند، كانوا يصنعون منتجاتهم من أجل التصدير. كان يوجد بجوجارات ومهاراشترا العديد من التجار المسلمين المزدهرة أحوالهم. كانت شركة تكنولوجيا معلومات كبيرة، وعلى الأقل اثنتان من شركات الأدوية الكبيرة، مملوكة للمسلمين. وكان بعض نجوم السينما الأكثر شهرة في الهند مسلمين. لكن، في المجمل، كان المسلمون من بين أفقر الفصائل في الهند. وكان تمثيلهم ضعيفًا في البرلمان والهيئات التشريعية بالولايات والجهات الحكومية في كل أنحاء الهند والطبقات القضائية والمهنية بوجهٍ عام. كان غالبية المسلمين يعملون في أعمالٍ بسيطة مثل الحلاقة والخياطة وجر العربات والفلاحة، محققين دخلًا بالكاد يسد رمقهم. وكانت معدلات الأمية بينهم عالية. وكانت هناك نساءٌ مسلمات قليلات في القوى العاملة.5
في خمسينيات القرن الماضي، كان عدد الحاصلين على درجاتٍ جامعية من المسلمين يفوق كثيرًا نظراءهم من الداليت. وبحلول الوقت الذي تأسست فيه لجنة ساشار، انقلبت الآية. فقد اتخذ الداليت من أمبيدكار قدوة لهم واهتموا بشدة بالتعليم. كما أن التمييز الإيجابي ساعدهم على الالتحاق بالجامعات، وبمرور الوقت، العمل بوظائف مثل الأطباء وضباط الشرطة والموظفين الحكوميين والمهندسين. في تلك الأثناء، تأخر المسلمون، وأصبح وضعهم أكثر مدعاةً للقلق بسبب قيادتهم الرجعية المتمثلة في الملالي الذين فضلوا التطلع إلى الماضي المجيد للإسلام بدلًا من محاولة التعامل مع التحديات المعقدة للقرن الحادي والعشرين.6
كان الشيء الوحيد تقريبًا في الحياة الهندية الذي كان تمثيل المسلمين فيه جيدًا هو نسبتهم بالمدن. إذ كانوا يمثلون نحو ١٤٪ من السكان ككل و١٨٪ من سكان المدن. وهنا، أيضًا، لم يكن وضعهم جيدًا على الإطلاق. فقد كان نحو ٣٧٪ من المسلمين من سكان المدن يعيشون تحت خط الفقر، في مقابل ٢٢٪ من الهندوس من سكان المدن. لقد تفاقم وضعهم الاقتصادي السيئ بسبب وضعهم الاجتماعي الهش. كانوا يعيشون في أحياء فقيرة خاصة بهم ويتفاعلون على نحوٍ أساسي مع بعضهم. وعندما كانوا يحاولون الانخراط في المجتمع في المدن، كانوا يلاقون في الغالب تحيزًا وعداءً، وفي بعض الأحيان نبذًا صريحًا. على سبيل المثال، كان مُلاك العقارات الهندوس لا يؤجرون شققًا للمستأجرين المسلمين، حتى إن كان هؤلاء يتحدثون الإنجليزية ويعملون بوظائفَ ذات رواتبَ عالية، وأمميين وليسوا نمطيين. كما كان من الصعب على الأطفال المسلمين الالتحاق بمدارس غير طائفية.7

اعتمدت لجنة ساشار على استبياناتٍ سابقة والاستقصاءات التي قامت بها لوضع تقريرها، الذي قُدم في نوفمبر من عام ٢٠٠٦. حدد التقرير ثلاث مشكلاتٍ أساسية كانت تواجه المسلمين الهنود. تمثلت المشكلة الأولى في الهُويَّة. فبعد ستة عقود من التقسيم، كان لا يزال يُلقى باللائمة على المسلمين فيما يتعلق ﺑ «تشريح» الهند، وكانوا لا يزالون يُنظر إليهم على أن لديهم ولاءً غير مؤكد ومتزعزعًا للدولة الهندية. في نفس الوقت، كانت تجرى شيطنتهم لأنه كان يُعتقد أنهم كانوا على نحوٍ عشوائي بمنزلة بنك أصوات للأحزاب التي قيل إنها كانت تسعى فقط لإرضائهم.

تمثلت المشكلة الأساسية الثانية التي كان يواجهها المسلمون في مسألة الأمن. ففي القرى والمدن على السواء، كانوا معرَّضين في الغالب للتهكم والإهانة، وأخيرًا ليس آخرًا، العنف الجسدي. كانت الحياة اليومية قاسية بالنسبة لهم. وفي أوقات النزاعات الدينية، كانت الحياة مرعبة. ولأنهم كانوا يعيشون إلى حدٍّ كبير في مناطق منفصلة ولأنهم كانوا على نحوٍ شبه دائم يمثلون أقلية، فقد كانوا يعانون على نحوٍ متناسب في أوقات نشوب أعمال الشغب الطائفية.

تمثلت المشكلة الثالثة التي أشارت إليها لجنة ساشار في العدالة. لم يكن تمثيل تلك الطائفة كبيرًا في مؤسسات التعليم العالي وفي المهن. ولم يكونوا يحصلون على نسبتهم المقررة لهم من الوظائف الحكومية. ولم يكن لهم وصولٌ كبير للقروض البنكية.

بعد أن حددت اللجنة المشكلات، قدمت مجموعةً متنوعة من التوصيات لمواجهتها. فطالبت بإنشاء لجنة لتحقيق تكافؤ الفرص يمكن أن تُرفع إليها المظالم وتحل في النهاية. كما حثَّت الحكومة على العمل من أجل زيادة مشاركة المسلمين في الهيئات العامة وزيادة حصتهم في العمل في القطاع الحكومي والاعتراف بالدرجات العلمية التي تمنحها المدارس الدينية الإسلامية.8

٣

حدث تأخر في وضع بعض الجماعات الاجتماعية والمناطق، لكن الصورة الاقتصادية الكلية في المجمل استمرت وردية. إن تولي رئيس وزراء كان هو الاقتصادي الذي صاغ إصلاحات عام ١٩٩١ طمأن المستثمرين. كما استمر سينسيكس، وهو المؤشر الرئيسي في البورصة في العاصمة المالية للهند، مومباي، في القيام بأداءٍ جيد. وفي عام ٢٠٠٤، ارتفع هذا المؤشر تقريبًا فوق حاجز ٦٠٠٠؛ وبحلول أوائل عام ٢٠٠٧، كان قد تجاوز ١٤٠٠٠. وكان من ضمن الرابحين الكبار شركات الأدوية وتكنولوجيا المعلومات والسيارات الهندية، وهي القطاعات التي استفادت بشدة من التحرر الاقتصادي.9
في الأسبوع الأخير من أبريل عام ٢٠٠٧، انضمت الهند إلى نادي الدول التي يبلغ حجم اقتصادها تريليون دولار. كانت هي العضو الثاني عشر في المجموعة، وقد ساعد في انضمامها جزئيًّا الارتفاع المنتظم للروبية في مقابل الدولار.10 وبعد أسبوع، قامت أكبر طائرة ركاب في العالم، إيرباص إيه ٣٨٠، بأول هبوط لها في مطار إنديرا غاندي الدولي بنيودلهي، في علامةٍ أخرى على بروز البلد (أو الاقتصاد) على المسرح الدولي. قُوبل هبوط الطائرة بترحيبٍ كبير من جانب الحشد الذي تجمَّع خصوصًا لمتابعة الحدث.
من الناحية الإحصائية وكذلك الرمزية، كان الاقتصاد الهندي في صعود. في يناير عام ٢٠٠٧، تجاوز مؤشر سينسيكس حاجز ١٤٠٠٠، وبحلول أكتوبر من العام نفسه، كسر حاجز ٢٠٠٠٠. قارن المؤيدون الارتفاع الكبير في مؤشر الأسهم بالانتصار الذي حققته الهند مؤخرًا في بطولةٍ دوليةٍ كبيرة للكريكت. كتب أحد الصحفيين الاقتصاديين يقول: «هناك بعض التشابهات بين كأس العالم للكريكت تي ٢٠ والبورصات الهندية. لقد فازت الهند بالكأس، وحتى المشجعون المتحمسون فوجئوا بذلك. وبدا سينسيكس مستعدًّا لتجاوز حاجز ٢٠٠٠٠ رغم التقييمات الهبوطية التي جرت مؤخرًا. يوفراج سينج حقق إنجازًا كبيرًا في تلك البطولة؛ في حين ارتفع المؤشر من ١٦٠٠٠ إلى ١٧٠٠٠ نقطة في ست جلسات تداول. أثبت إم إس دوني أنه قائدٌ رائع وكان هادئًا وماكرًا؛ وقد جرى الثناء على صُناع السياسات الهنديين بسبب قراراتهم الاقتصادية الحكيمة.»11
كان الاقتصاد الهندي يزدهر في الداخل، وكان رواد الأعمال الهنديون يعقدون صفقاتٍ مربحة بالخارج. ففي يونيو من عام ٢٠٠٨، أعلنت مجموعة تاتا شراء العلامتين التجاريتَين البريطانيتَين الشهيرتَين جاجوار ولاند روفر في صفقةٍ نقدية بالكامل.12 في نفس الشهر الذي أصبحت فيه علامةٌ تجاريةٌ بريطانيةٌ أيقونية مملوكةً لمجموعةٍ هندية، استحوذ اليابانيون على علامةٍ تجاريةٍ هنديةٍ شهيرة. كانت هذه هي شركة الأدوية رانباكسي، التي كانت في السابق شركةً عائلية توارثها ابن عن أبيه، لتنتقل إدارتها الآن إلى الشركة اليابانية دايتشي سانكيو، التي دفعت ١٥ ألف كرور روبية (أي، نحو ٢٫٥ مليار دولار) للحصول على حصةٍ مسيطرة قدرها ٣٥٪.13

تلك الصفقات كانت تدل على وجود تحولٍ أكبر في رغبات الهنود وتطلعاتهم. فمنذ خمسينيات القرن الماضي وحتى ثمانينياته، كان صانع السياسات ورائد الأعمال على السواء لا تتجاوز آفاقهما السوق المحلي. وكان النمو الاقتصادي الهندي يحكمه حينها شعارا الاكتفاء الذاتي والاعتماد على النفس. كان الأمل، والطموح، يتمثل في أن يجريَ تصنيع كل شيء يستهلكه الهنود على يد شركاتٍ هندية فقط. في تلك الفترة، كان من المفترض أن تسيطر الدولة على الاقتصاد. أما حينها، فقد ابتعدت عن مجالَي الإنتاج والتوزيع؛ وانفتح الاقتصاد ببطء على العالم. كان العديد من الهنود حينها على نحوٍ متزايد يستهلكون منتجاتٍ مصنوعة بالخارج؛ في حين كان هنودٌ آخرون يُصنعون، في الهند، خدمات تُستهلك في الخارج. إن شراء بعض الشركات الهندية لعلاماتٍ تجاريةٍ بريطانية — كما فعلت مجموعة تاتا فيما يتعلق بجاجوار — وبيع بعض الشركات الهندية الأخرى لشركاتٍ يابانية — كما حدث في حالة رانباكسي ودايتشي سانكيو — لم يكن شيئًا يمكن أن يتوقعه جواهر لال نهرو أو إنديرا غاندي، أو في واقع الأمر التكنوقراط الذين كانوا يديرون لجنة التخطيط.

٤

على الرغم من ارتفاع مؤشر سينسيكس والخطوات المهمة التي قطعتها الشركات الهندية سواء في الداخل أو الخارج، لم تكن عملية النمو الاقتصادي دائمًا سلسة أو بدون مطبات. ففي ظل قانون مصادرة الأراضي الذي صدر في عام ١٨٩٤ — والذي صيغ عندما كانت الهند مستعمرةً بريطانية وظل في سجل القوانين — كان بإمكان الدولة نزع ملكية أراضٍ من الفلاحين لما تراه «منفعةً عامة». لكن هؤلاء الذين انتزعت ملكية أراضيهم بالقوة عادة ما كانوا يقاومون. ففي عام ٢٠٠٥، على سبيل المثال، عندما سعت الحكومة لإقامة محطةٍ نووية في منطقةٍ خصبة وغنية على ساحل مهاراشترا، نظم الفلاحون والصيادون سلسلة من المظاهرات والتجمعات الاحتجاجية. اتخذت الدولة إجراءاتٍ صارمة ضدهم، ملقية القبض على العديد من القرويين، حتى إن بعضهم احتُجز بموجب قانون إشاعة الفتنة الاستعماري القديم.14

كان مجال الطاقة النووية تابعًا للقطاع العام، لكن قانون مصادرة الأراضي كثيرًا ما استُخدم، أو أُسيء استخدامه، أيضًا لنقل ملكية الأراضي من الفلاحين إلى شركات القطاع الخاص. في غرب البنغال، على سبيل المثال، طالما صورت حكومة الجبهة اليسارية نفسها باعتبارها حزب الريف، في مواجهة مصالح الطبقة الوسطى المدللة لكلكتا. أما حينها، وفي تغيرٍ مفاجئ في السياسة، دعت تكتلًا إندونيسيًّا، وهو مجموعة سالم، لإقامة منطقةٍ اقتصاديةٍ خاصة في بلدة نانديجرام في منطقة بوربا مدينبور. فانطلقت عملية مصادرة الأراضي؛ ما أدى إلى غضب القرويين المحليين.

في يناير من عام ٢٠٠٧، نشِبت صداماتٌ عنيفة بين محتجين والشرطة في نانديجرام. فمات ستة أشخاص. في هذا الصراع، وقفت كوادر الحزب الشيوعي الهندي الماركسي مع الشرطة، في حين دعم المحتجين كوادرُ حزب المعارضة الرئيسي في الولاية، ترينامول كونجرس.

انتشرت حينها معسكرات الشرطة في الريف في نانديجرام. وطالبت الرئيسة المناضلة لحزب ترينامول كونجرس، ماماتا بانرجي، الحكومة بأن تسحب كل الإنذارات الخاصة بمصادرة الأراضي. في غضون ذلك، زارت نانديجرام سياسيةٌ قوميةٌ بارزة، وهي سوشما سواراج من حزب بهاراتيا جاناتا، وأدانت «الأعمال الوحشية» التي كانت تُرتكب في حق الفلاحين.15

إلى جانب دعوة مجموعة سالم الإندونيسية، طلبت حكومة غرب البنغال أيضًا من مجموعة تاتا إقامة مصنع سيارات في ولايتها. كان لدى رئيس المجموعة، راتان تاتا، حلم — أو لنقل، حلم يقظة — بتصنيع «سيارة شعبية»، تسمى «نانو»، يقلُّ سعرها عن ١٠٠ ألف روبية، بحيث تكون في متناول كل أسرة تنتمي للطبقة الوسطى في البلاد. وعندما عُرضت على المجموعة أرض في بلدة سينجور في غرب البنغال لإقامة مصنع لتصنيع سيارة نانو، قبلتها على الفور. لكن، وكما هو الحال في نانديجرام، جرى تقديم الوعد دون التشاور مع الفلاحين الذين كانت ستُصادر أراضيهم. كانت تلك الأرض أرضًا زراعيةً خصبة، ومروية جيدًا وأيضًا تهطل عليها الأمطار بغزارة.

قادت ماماتا بانرجي الفلاحين المحتجين وحشدتهم. فقد نظمت السيدة بانرجي العديد من المسيرات والتظاهرات ضد مشروع تاتا. كما أقدمت على الصوم عدة مرات. وفي أغسطس من عام ٢٠٠٨، بعد استمرار الاحتجاجات لنحو عام، علقت مجموعة تاتا العمل في سينجور وأعلنت أنها ستنقل المصنع والآلات إلى خارج غرب البنغال. وألقوا على نحوٍ مباشر باللائمة على هذا الانسحاب على حكومة الولاية. وجاء في بيان الشركة الذي صدر في الأول من سبتمبر ما يلي: «الوضع حول مصنع نانو عدائيٌّ ومفزع. لا يوجد سبيل يمكن من خلاله أن يعمل هذا المصنع بكفاءة سوى أن تصبح البيئة مواتية وداعمة للمشروع. لقد أتينا لغرب البنغال آملين في إمكانية إضافتنا لقيمة وجلبنا للرخاء وتوفيرنا لفرص عمل في أنحاء الولاية.»16

في أكتوبر من عام ٢٠٠٨ — بعد شهر من تركها لغرب البنغال — أعلنت شركة تاتا موتورز أنها وجدت مكانًا جديدًا لمصنع نانو الخاص بها. كان يوجد هذا المكان في جوجارات في منطقة تسمى ساناند حيث خصصت لها الحكومة ١١٠٠ فدان. مثَّل هذا مصدر ارتياح لمجموعة تاتا، التي استثمر رئيسها، راتان تاتا، الكثير من مكانته الشخصية في مشروع نانو. لكن مثَّل هذا أيضًا دفعة إلى الأمام لرئيس وزراء جوجارات، ناريندرا مودي. فمنذ المذبحة المدبرة التي جرت أحداثها في عام ٢٠٠٢، أصبح مودي محل شك في أعين النخبة الهندية. وكانت قطاعاتٌ كبيرة من الإعلام أيضًا تهاجم طرق تعامله الفظة والخرقاء. على الجانب الآخر، كانت لبعض الشركات الكبيرة مثل مجموعة أمباني، علاقاتٌ ممتازة معه. وفي ذلك الوقت، كان يعد تأييد راتان تاتا — الذي كان على رأس المؤسسة الصناعية الأكثر احترامًا في الهند — لمودي انتصارًا كبيرًا للأخير. وجاء التأييد في شكل عناقٍ علني؛ حيث تعانق الرجلان بينما كانا يظهران على المنصة في الحفل الذي أُعلن فيه المكان الجديد لمصنع نانو.

في الحقيقة، كانت عملية تحسين مودي لصورته جارية منذ بعض الوقت. فكما أشارت الصحفية شيلا بهات على نحوٍ ثاقب في عام ٢٠٠٥: «يعتقد ناريندرا مودي أن الشيء الذي يُسمَّى التنمية سيمحو ذكرى أحداث ٢٠٠٢.» فإلى جانب التركيز على مشروعات الصناعة والطاقة والبنية التحتية الجديدة، أطلق مودي ما أسمته بهات «حملة ضخمة للدعاية الذاتية»؛ إذ نشر مذكرات وتقويمات وكتيبات وملصقات تظهر عليها صورته على نحوٍ بارز إلى جانب كلمات وإحصائيات تتحدث عن الإنجازات التي تحققت في جوجارات تحت قيادته. أشارت بهات: «مودي تأكد من أنه لا أحد في جوجارات يمكنه عدم ملاحظته».17
في ذلك الوقت، كان الناس خارج جوجارات يلاحظونه أيضًا. لذا، وكما قال راتان تاتا في افتتاح مشروع نانو: «هناك شخصان يبدأ اسم كلٍّ منهما بحرف الميم، أحدهما جيد والآخر سيئ»، وكان يقصد بالشخص الأول ناريندرا مودي، الذي رحب به في جوجارات بعد أن طرده فعليًّا الشخص الآخر، وهو ماماتا بانرجي، من غرب البنغال. ومن جانبه، أثنى مودي على «الروح القومية» التي تتمتع بها مجموعة تاتا، وأعرب عن أمله في أن «يؤدي مجيء مشروع نانو إلى جوجارات إلى بدء فصلٍ جديد من الشراكة من شأنه أن يدفع الولاية في اتجاهٍ جديد من النمو.»18

٥

كانت صناعة البرمجيات، إن جاز القول، الوجه الحميد للتحرر الاقتصادي في الهند؛ نظرًا لأنها استخدمت العمالة المدربة والتقنيات الحديثة لإنتاج الثروة. وتمثل الوجه الوحشي في قطاع التعدين حيث خصص السياسيون عقودًا لرواد الأعمال القريبين منهم، والذين أعطَوهم في المقابل نصيبًا من الأرباح التي حققوها. في تلك الأثناء، وفي سعيهم المحموم لكسب أكبر قدر من المال بأسرع ما يمكن، أتلف أصحاب العقود هؤلاء الأرض، مخلِّفين وراءهم كمًّا كبيرًا من الخراب الاجتماعي والبيئي.

في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ارتفعت أسعار المعادن على المستوى الدولي بأكثر من ٤٠٠٪. وأحدث هذا ازدهارًا في أنشطة التعدين عبر أنحاء الهند، مع تحويل أعدادٍ هائلة من أراضي الغابات إلى مناطق لاستخراج الحديد والفحم والبوكسيت والحجر الجيري. ولذا، وفي يومٍ واحد، صدقت حكومة جهارخاند على ٤٧ عقد تعدين، وكانت ضمن ألف أو أكثر من عقود التعدين التي منحتها حكومات الولايات في تلك الأعوام.

كان النجاح في قطاع التعدين لا يعتمد كثيرًا على الابتكار والإبداع التقني أو الإداري. ما كان يهم أكثر بكثير هو القرب من سياسيٍّ معين أو حزبٍ سياسيٍّ محدد. في هذا الشكل الكلاسيكي من رأسمالية المحسوبية، اتخذ الفساد ثلاثة أشكالٍ رئيسية. أولًا، كان يأخذ الوزراءُ أو الحكومات المسئولة عن منح عقود التعدين مبلغًا معينًا — في الغالب من ١٠ إلى ١٢ كرور روبية — مقدمًا كرشوة. ثانيًا، بجعل العائد المستحق السداد للدولة يُحسب بسعرٍ منخفض على نحوٍ غير معقول، سمح السياسيون لأباطرة التعدين بتحقيق أرباحٍ خيالية، كانوا يحصلون على حصة منها. (على سبيل المثال، في عام ٢٠٠٨، عندما كانت أسعار خام الحديد تتراوح بين ٥ و١٠ آلاف كرور روبية للطن، كان العائد المستحق السداد للدولة أقل من ٣٠ روبية للطن.) ثالثًا، التلاعب في الفواتير كان أمرًا شائعًا، مع تحديد عدد قاطرات أقل بكثير من تلك التي استخدمت بالفعل في نقل الخام من المنجم إلى الميناء أو محطة القطار. لذا، على سبيل المثال، إن غادرت ٣٠ قاطرة محملة بالخام المنجم في أحد الأيام، فسيجري تسجيل اثنتين فقط من قبل مفتشي التعدين التابعين للحكومة.19

امتدت شبكة الفساد على نطاقٍ واسع. وتضمنت مسئولين من إدارات الغابات والتعدين والنقل، ومن السكك الحديدية والموانئ. ولكن المستفيدين الرئيسيين كانوا السياسيين من ناحية وأباطرة التعدين من الناحية الأخرى. كانت العلاقة بين هاتين الفئتين حميمية على وجه الخصوص. ووصل الأمر بالسياسيين لامتلاك مناجم (أحيانًا بأسماء أقاربهم)؛ ووصل الأمر بأباطرة التعدين لخوض الصراع الانتخابي والعمل كوزراء. وقد تورط في هذا الأمر سياسيون من حزب المؤتمر وحزب بهاراتيا جاناتا والعديد من الأحزاب الإقليمية.

أدى الازدهار في مجال التعدين إلى الخراب التدريجي للنظام السياسي بسبب الفساد والمحسوبية. وكانت له أيضًا آثارٌ اجتماعية وبيئيةٌ مدمرة. فنظرًا لأن شركات التعدين كانت مدعومة سياسيًّا، فلم تهتم بمراعاة الاشتراطات الخاصة بالبيئة أو ظروف العمل. وقد أحضر ملَّاك المناجم عمالًا من الخارج، كانوا، نظرًا لكونهم مغتربين عن عائلاتهم، ضعافًا جدًّا بحيث لم يستطيعوا الاتحاد معًا من أجل المطالبة بظروف عمل أو إعاشة أفضل. وقد جرى أيضًا تجاهل الضوابط الخاصة بالغابات والمياه والحياة البرية والتلوث، إذ غضَّ مسئولو الإدارة المحلية، على نحوٍ كبير، الطرْف عن تلك الانتهاكات، إذ كانوا يخشَون من العلاقات التي كانت تربط بين أباطرة التعدين والوزراء وحتى رؤساء الوزراء.

ونظرًا لأن مجال التعدين لم يكن منظمًا على نحوٍ فعال، عندما كان سعر خام المعدن مرتفعًا، كان هناك دافع لاستخراج أكبر كميةٍ ممكنة منه، وبأسرع ما يمكن. وقد تشارك كل ملاك المناجم والسياسيين في هذا الدافع فيما يتعلق بالإفراط في الاستخراج، نظرًا لأن السياسيين لم يكونوا يعرفون المدة التي سيبقون فيها في السلطة وأرادوا كذلك نصيبًا من تلك المكاسب الطائلة.

علاوة على ذلك، أدت الأنشطة التعدينية في الهند إلى حدوث تدهورٍ بيئي؛ نظرًا لأنها قد جرت دون استخدام التقنيات الحديثة، ولأن القانون نادرًا ما كان يُحترم. فقد جرى تدمير الغابات وتلويث الأنهار والينابيع وتبوير الأراضي الصالحة للزراعة. وقُدِّر هذا الخراب بمئات آلاف الكرور روبية. في الغالب، لم يكن هذا التدمير قابلًا للإصلاح. لقد أثَّر على الحياة البرية والتنوع الحيوي، والأهم من ذلك بكثير، الاقتصاد الريفي المحلي القائم على التربة الخصبة والماء النظيف والغابات الصحية التي توفر الخشب من أجل الوقود وبناء المنازل، وكذلك الفاكهة والمواد الخام التي يحتاج إليها الحرفيون (مثل البامبو بالنسبة لصُنَّاع السلال) والنباتات الطبية. ومع اختفاء الغابات وتضرُّر الأراضي وندرة الماء أو تلوثها، عانى القرويون في مناطق التعدين بشدة.20

وأخيرًا، أثارت تلك الصناعة قدرًا كبيرًا من السخط؛ نظرًا لأن هؤلاء الذين كانوا يعيشون في مناطق التعدين وما حولها لم يستفيدوا منها، وفي واقع الأمر تضرروا بشدة في الغالب من آثارها الجانبية. لا غرابة إذن في أن الماويين كانوا نشطين على وجه الخصوص في ولايات مثل أوريسا وتشاتيسجار، حيث جرى تشريد المجتمعات القبلية بسبب حمى عقود التعدين الممنوحة لمنقِّبين من الخارج. على الجانب الآخر، أنشأت الحكومة ميلشياتٍ خاصة — مثل ميلشيا «سلوى جودوم» السيئة السمعة في تشاتيسجار — التي هاجمت وقتلت القرويين الذين كانوا يعارضون أنشطة التعدين وأجبروا الصحفيين ونشطاء حقوق الإنسان على ترك المناطق التي كانت تتم بها تلك الأنشطة.

لم تؤثر الجرائم وحالات الخروج عن القانون التي سادت مناطق التعدين في قلب الهند على صورة البلاد باعتبارها «أكبر ديمقراطية في العالم». فتلك المناطق كانت بعيدة جدًّا عن كونها مجتمعًا حديثًا ينتمي للقرن الحادي والعشرين وتحكمه القوانين لدرجة أن أقرب نظير له لا بدَّ أنه كان كاليفورنيا في القرن التاسع عشر أو الكونغو في القرن العشرين، عندما أشعلت حمى مماثلةٌ لنهب المعادن الثمينة دوامةً متصاعدة من العنف والوحشية.21

٦

في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت الهند، بأي مقياسٍ موضوعي، في حالة يُرثى لها من الناحية البيئية. فمن بين العشرين مدينة الأسوأ في العالم فيما يتعلق بتلوث الهواء، كان ثلاث عشرة منها في الهند. لقد عاش ٦٥٠ مليون شخص — أي ما يزيد على نصف سكان البلاد — في مناطق عُدت ملوثة على نحوٍ شديد من قبل المعايير الوطنية الهندية. ولو جرى تحسين لجودة الهواء للوفاء بتلك المعايير، لعاش كلٌّ من هؤلاء الهنود، في المتوسط، ٣٫٢ سنوات أكثر.22
كان الهواء ملوثًا وكانت المياه غير نظيفة. والنهر المفضل في البلاد، نهر الجانج، كان ملوثًا في معظم مساره، وذلك بسبب مياه الصرف الصحي غير المعالجة والمواد الكيماوية السامة التي تُخلِّفها المصانع والمدن على ضفافه. (نحو ١٤٤ مدينة، سواء صغيرة أو كبيرة، على ضفاف الجانج كانت تصرِّف مجتمعة ما يقدر بنحو ٣٥٠٠ مليون لتر من مياه الصرف الصحي يوميًّا في النهر.) وقد زاد من تلوث النهر الجثث البشرية نصف المحترقة التي تلقى فيه (حيث كان يُعَد حرق الجثث على ضفاف هذا النهر أمرًا ميمونًا). وكان مئات الآلاف من الهنود يموتون سنويًّا من الإسهال وغيره من الأمراض، التي تصيبهم بعد الشرب من تلك المياه الملوثة. في غضون ذلك، أدى نقص كميات السمك إلى فقْد الصيادين لعملهم.23

الأنهار الأخرى كانت بالكاد أقل تلوثًا. ففي العديد من الولايات (بما في ذلك مخزن حبوب البلاد، البنجاب)، كانت منابع المياه الجوفية تنفد على نحوٍ مقلق، الأمر الذي كان يهدد الاستدامة الزراعية. وكانت الغابات الطبيعية تُدمَّر أو تتدهور حالتها على نحوٍ مطرد؛ مما أضر بالمجتمعات القروية التي اعتمدت عليها للحصول على الوقود والعلف والمدخلات الزراعية.

كان الرأي السائد لدى الاقتصاديين التقليديين هو أن الهند «فقيرة جدًّا بحيث لا يمكن أن تكون مهتمة بالبيئة». وبمجرد أن تصبح غنية، ستراعي الجوانب البيئية. لكن ذلك الرأي — الخاطئ — كان قائمًا على النقل الآلي، أو ربما غير التاريخي، للتجربة التنموية الخاصة بغرب أوروبا وأمريكا الشمالية إلى آسيا وأفريقيا. فما مكَّن جزئيًّا، أو ربما على نحوٍ كبير، التصنيع والنمو الاقتصادي في أوروبا وأمريكا الشمالية هو استغلال أراضي وموارد المستعمرات التي كانت تلك الدول تسيطر عليها. إن الدول النامية مثل الهند ليست لها مستعمرات، كما أن لها كثافاتٍ سكانيةً أعلى بكثير. لذا، يمكن المحاجَّة بأن الهند كان عليها أن تكون حتى أكثر اهتمامًا بالبيئة من إنجلترا أو الولايات المتحدة في مرحلةٍ مماثلة من تجربتها التنموية.

تلك المحاجة دعمتها الأدلة التي توجد على أرض الواقع. إذ، عبر كل أنحاء الهند، كان الفقراء هم الذين تحملوا على نحوٍ مباشر عبء التدهور البيئي. فقد أدى قطع الغابات إلى حرمان الفلاحين من الوقود والعلف. كما حرمتهم الأنهار الملوثة من مياه الري (وفي بعض الأحيان مياه الشرب أيضًا). كما جلب التعدين السطحي الخراب على الحقول الزراعية وجفف الينابيع. وفي المدن، أدى تلوث الهواء إلى جعل سكانها من الفقراء — الذين كانوا بالفعل يقيمون في مساكنَ سيئة ويجبرون على العمل لساعاتٍ طويلة ولا يحصلون على تغذيةٍ جيدة — أكثر عرضة للإصابة بالأمراض التنفسية وغيرها من الأمراض، من نظرائهم الأكثر غنًى (والأفضل تغذية والأكثر حماية).

إن محاجات مثل هذه، التي تبطل الآراء التقليدية الخاصة باقتصاديات التنمية، كانت لها أصولٌ معروفة في الهند. لقد ظهرت لأول مرة في سبعينيات القرن الماضي، على يد حركاتٍ شهيرة مثل حركة تشيبكو أندولان، وهي تمثل صراع الفلاحين الفقراء في الهيمالايا ضد الاستغلال التجاري الأحادي الثقافة للغابات. تلت تلك الحركة حركاتٌ أخرى معنية بحقوق الغابات في أجزاء أخرى من الهند، وحركاتٌ مضادة لمشروعات السدود والتعدين الهدامة. في غضون ذلك، حشد الناشطون الاجتماعيون، ذوو التوجه الغاندي في الغالب، المجتمعات الريفية في مبادرات لإعادة زراعة الغابات وبرامج للحفاظ على المياه عبر الهند.

تحدت حركات مثل تشيبكو الفكرة — أو بالأحرى الخرافة — الاقتصادية السائدة التي ترى أن الهند فقيرة جدًّا بحيث لا يمكن أن تكون مهتمة بالبيئة. في الحقيقة، وكما أوضحت تلك الحركات، الإدارة المستدامة للمياه والتربة والمراعي والغابات كانت مهمة للغاية لحياة غالبية الهنود. وأدت تلك المساعي إلى إنشاء إدارة للبيئة في عام ١٩٨٠ في الحكومة المركزية (وبمرور الوقت في الولايات)، وإلى سن قوانين وتشريعاتٍ جديدة للتصدي لأي انتهاكاتٍ بيئية من قِبل صناعاتٍ تابعة للقطاع العام أو الخاص.24

كان المنوط بوزارة البيئة أن تكون جهةً تنظيمية وتوجيهية في آنٍ واحد. فمن جهة، كان عليها صياغة قوانين للحد من الأضرار التي تلحق بالبيئة ومراقبة تلوث الهواء والمياه وتقييم الأثر البيئي للمصانع والسدود والطرق السريعة والمناجم الجديدة المقترحة. ومن جهةٍ أخرى، كان منوطًا بها تمويل الأبحاث العلمية اللازمة للتوصل إلى سياساتٍ مستدامة خاصة بالغابات والحياة البرية والزراعة وإدارة الطاقة وغير ذلك.

للأسف، طَوال الجزء الأكبر من وجودها، إن لم يكن أغلبه، لم تحقق وزارة البيئة أيًّا من الهدفَين. الوزراء الذين ترأسوها بوجهٍ عام إما تجاهلوا نصائح كبار العلماء الهنديين وإما استخفُّوا بها. كان القانون ينص على أن يُعدَّ كل مشروعٍ كبير تقييمًا لأثره على البيئة. في دولٍ أخرى، كان يُعد هذا التقييم مجموعة من الخبراء المستقلين. أما في الهند، وفي مثالٍ صارخ على رأسمالية المحسوبية، كان مقدم المشروع هو من يختار المستشار الذي سيُعد هذا التقييم. بطبيعة الحال، التقرير الناتج كان يقلل إلى أقل حد الآثار السلبية للمشروع أو يقلل من أهميتها.

المناخ الأيديولوجي للتحرر الاقتصادي كان غير مهتم على نحوٍ كبير بالقضايا البيئية. ففي ظل المعدلات العالية من النمو الاقتصادي التي كانت تشهدها الهند (للمرة الأولى)، كان يُهاجم النشطاء البيئيون باعتبارهم أشخاصًا يرغبون في تعكير الصفو، أو يسعون إلى العودة للوراء إلى حقبة الاقتصاد الاشتراكي السيئة السمعة، أو يعملون لصالح قوًى أجنبية تسعى لإرجاع الهند للوراء. حنت الصحافة رأسها للتيار السائد وبدأت تقلل أكثر فأكثر من الأخبار التي تعرضها عن التدهور البيئي وما نتج عنه من تهميش للمجتمعات الريفية. حدث تخلٍّ أكبر عن المسئولية من قبل وزارة البيئة والغابات التي أفرغت الضمانات الوقائية الحالية من مضمونها، وجعلت إجازة حتى أكثر المشروعات تدميرًا مجرد مسألةٍ شكلية.

في الهند في أوائل القرن الحادي والعشرين، كان الهجوم على النشطاء البيئيين متكررًا وشديدًا. زعم سياسيٌّ بارز أنه «في أي دولةٍ نامية، المعايير البيئية التي وضعتها الدول المتقدمة لا يمكن اتخاذها كقاعدة.»25 وهاجم صحفي يدعم الاقتصاد الحر ما اعتقد أنه «الطبيعة المتطرفة واللاعقلانية للحركة البيئية»، زاعمًا أنها «جعلت المستثمرين يُغيِّرون مواقفهم تجاه الهند».26 وكتب صحفيٌّ معني بالشئون البيئية بأسًى يقول إن «محرر دار نشر كبيرة، كلما كان يُقدَّم له قصةٌ صحفية خاصة بالبيئة، كان يتذمر بثبات قائلًا: «الحركة البيئية تعوق النمو؛ إن كل ما أنا مهتم به هو النمو الثنائي الرقم لهذا البلد.»»27
في الحقيقة، كانت المسئولية البيئية ضرورية للغاية لاستدامة النمو الاقتصادي على المدى الطويل. قدَّر مجموعة من الاقتصاديين البيئيين العاملين في البنك الدولي التكلفة التي يتكبدها المجتمع الهندي — في شكل اعتلالٍ صحي وضعف دخل وزيادة الهشاشة الاقتصادية — من جراء أشكالٍ معينة من الانتهاكات البيئية؛ من بينها تلوث الهواء وفقْد الغابات والمراعي وتدهور حال الأراضي الزراعية وسوء وضع الصرف الصحي ومصادر المياه. قدرت الدراسة أنه في عام ٢٠٠٩ بلغت تكلفة التدهور البيئي في الهند نحو ٣٫٧٥ تريليونات روبية، وهو ما يساوي ٥٫٧٪ من الناتج المحلي الإجمالي. بعبارةٍ أخرى، إن لم يُلوَّث الهواء بهذه الدرجة الكبيرة ولو لم تقطع الغابات بتلك السرعة الهائلة وإن لم تصبح التربة سامة أو ملحية بهذه النسبة بسبب الاستخدام المفرط للمواد الكيميائية وإن ظلت مصادر المياه غير ملوثة، لكانت الهند قد أضافت أكثر من ٥٪ لمعدل نموها السنوي.28

٧

حتى مع عدم وجود أي مشروعاتٍ تعدينية أو صناعيةٍ جديدة، كان من الممكن أن تحدث صداماتٌ عنيفة في الريف. فالوعي الذاتي المتنامي لدى الداليت أدخلهم في صراع مع الطوائف التي كانت تُعَد أعلى منهم في التسلسل الاجتماعي للريف الهندي.29
تمثَّلت إحدى ساحات هذا الصراع في أقاصي جنوب ولاية تاميل نادو الجنوبية. وفيها وقعت الاشتباكات بين التيفَر — وهي طائفةٌ اجتماعيةٌ وسطى صاعدة من مُلَّاك الأراضي — والداليت الذين لا أرض لهم. كانت من الممكن أن تثور تلك الاشتباكات بسبب خلافاتٍ حول الأجور، أو الغيظ من أنَّ الطائفة التي كانت محكومًا عليها في السابق بالبحث عن طعامها في القمامة أصبحت الآن ترسل أفرادًا منها للعمل في دائرة الخدمة الإدارية الهندية. وازداد الداليت جرأةً، فبدءوا يرفضون أن يُقدَّم إليهم الشاي في كوبٍ منفصلٍ في مقاهي القرى (وهي عادةٌ كانت متعارفًا عليها منذ زمن). ومقابل كل تمثال ينحته التيفَر لزعيمهم المبجَّل ماتهورا مالينجا تيفَر (١٩٠٨–١٩٦٥)، كان الداليت يردُّون بتمثال لأمبيدكار. (في الحقيقة كانت بعض الاشتباكات الأكثر دموية مثارها تحطيم أحد الطرفين لتمثالٍ أقامه الآخر.) كانت الخلافات ماديةً إلى جانب كونها أيديولوجية، وكانت متكررة وتكلفتها باهظة؛ فخلال عَقدٍ واحد، أسفرت الصراعات الطائفية في تاميل نادو عن أكثر من ١٠٠ حالة وفاة.30
لم يتعرَّض الداليت لقهر مثل الذي ذاقوه في بيهار، ولم يكن ثمة مكان امتلكوا فيه قدرةً تنظيميةً أكبر تتيح لهم المقاومة منها، ولم يشهد مكانٌ آخر صراعاتٍ بين الطوائف الاجتماعية بتلك الوتيرة والمرارة والدموية. على مدار التاريخ، كانت المنظومة الزراعية في شرق الهند إقطاعية بصورةٍ صارخة. في غرب البنغال المجاورة خَفَّفت الإصلاحات الزراعية من وطأة أوجه التفاوت المشابهة، ولكنها في بيهار استمرت حتى وقتنا الحاضر. كانت الطوائف الاجتماعية العليا والوسطى تمتلك الأرض، والداليت يَفلَحونها. إلَّا أنه منذ سبعينيات القرن العشرين، تبنَّى الراديكاليون الماويون قضية الداليت. فعلى الرغم من أنَّ هؤلاء «الناكسَل» كانوا قد اختفوا تقريبًا من غرب البنغال — حيث بدأت حركتهم قبل عقد من الزمان — فقد تنامت قوتهم باطِّراد في مناطق في وسط بيهار. فشكَّلوا جبهات للعمالة الزراعية طالبت برفع الأجور، وتقليل ساعات العمل، ووضع حد للقَسر الاجتماعي (الذي تضمن في بعض المناطق حق مالك الأرض في فض بكارة عروس من طائفةٍ اجتماعية دنيا ليلة زفافها). وطالبوا أيضًا بحصة من الأراضي المشاع في القرية، ونصيب من الموارد الطبيعية مثل أسماك المياه العذبة، التي كانت نظريًّا مِلك «المجتمع» كله، ولكنها كانت في الغالب حِكْرًا على الطوائف الاجتماعية العليا وحدها دون غيرها.31
بثَّت تعبئة الراديكاليين اليساريين قدرًا كبيرًا من احترام الذات في نفوس الطوائف الدنيا في وسط بيهار. فمع تنقل الصحفي موكول في أنحاء الولاية عام ١٩٩٩، لاحظ ظهور ثقةٍ مستجدَّة فيما بين الداليت. فقد قابلوا الزوار باعتبارهم مساوين لهم اجتماعيًّا، والتقوهم بتحية «نماسكار بهاي جي» (أي «مرحبًا يا أخي»). فخلافًا للماضي، لم يعد الداليت «يضمون أيديهم. أو يحنون قاماتهم في خضوع. أو ينادون أحدًا بألقاب «سيدي» أو «صاحب» أو «حضرة» أو أي شيء من هذا القبيل. إن تلك الكلمة المستحدثة «بهاي جي» تتردد في جميع أنحاء المنطقة من قرية إلى أخرى وتأسر القلب.»32

وكتبت عالمة الأنثروبولوجيا بيلا بهاتيا تقول إنَّ «حِسَّ الكرامة هذا هو أحد الإنجازات الرئيسية لحركة الناكسَل». وتضمنت الإنجازات الأخرى إنهاء السُّخرة وإحداث ارتفاعٍ كبير في معدل الأجور. فقد تضاعف معدل الأجر — الذي كان يُدفَع عينيًّا في المعتاد — وإضافةً إلى ذلك تحسَّنت كثيرًا جودة الحبوب التي كانوا يحصلون عليها عن ذي قبل. والعمال الذين كانوا يُشَغَّلون فيما مضى اثنتَي عشرة ساعةً متواصلة، أصبحوا يُسْمَح لهم بأخذ فترات راحة منتظمة. ولأول مرة في التاريخ المُسَجَّل، تلقَّت النساء الأجر نفسه (والمعاملة نفسها) كالرجال.

إلا أنَّ الهدفَ الطويلَ الأجل لهؤلاء الراديكاليين كان الإطاحةَ بالدولة الهندية. فكانت الأنشطة المعلنة والخفية، القانونية وغير القانونية، تتم جنبًا إلى جنب؛ إذ كانوا ينظمون المسيرات والإضرابات من ناحية، ويجمعون الأسلحة ويَشنُّون الهجمات على أعدائهم من ناحيةٍ أخرى. وكان للناكسَل جيشٌ أحمر خاص بهم، تدرَّب أفراده على استخدام البنادق والقنابل اليدوية والألغام الأرضية. وكان لهم أيضًا فِرَق تطهير، دُرِّب رُماتها على اغتيال مُلَّاك الأراضي الشديدي البغي.33
استجابت النخبة الحاكمة بإنشاء جيوشٍ خاصة بها. إذ كان لكل طائفة من مُلاك الأراضي جيشٌ خاص. فأنشأ البهوميهار جيش رانبير، بينما أنشأ الكورمي جيش بهومي، والراجبوت جيش كونوار، والياداف جيش لوريك. ويتميز تاريخ بيهار الحديث بمذابح بشعة تقترفها إحدى الطوائف أو الطبقات ضد أخرى. فأحيانًا كان جيش البهوميهار أو الياداف يُطوِّق مجموعة من الداليت ويَحرِقهم أحياء. وفي أحيانٍ أخرى كان الناكسَل يُغِيرون على إحدى القرى الصغيرة التابعة للطوائف الاجتماعية العليا ويطلقون الرصاص على قاطنيها.34
كمنَ وراء ذلك العنف كراهيةٌ وحشية. فقد قال أحد مُلَّاك الأراضي من البهوميهار: «أهم ما في سيرتي هو عدد العمال [الداليت] الذين تسببت في قتلهم.» وهتف الناكسَل: «قصاص الثمانية مِنَّا ثمانون منكم».35
ظهرت القوة المتنامية للناكسَل في بيهار بجلاء في هجوم شُنَّ على بلدة جيهان أباد في نوفمبر ٢٠٠٥. فقد اجتاح مئات من الرجال المسلَّحين البلدة، حيث أمطروا المكاتب الحكومية بالقنابل، واقتحموا السجن. وحرَّروا ٢٠٠ سجين، معظمهم من حزبهم، ومنهم قائد المنطقة. وكان مما يسَّر العملية غياب جزءٍ كبير من قوات شرطة المنطقة للخدمة في الانتخابات. على الرغم من ذلك، فقد أبرزت تلك العملية هشاشة الولاية التي أنشئت على نحوٍ قانوني في بيهار. فجيهان أباد تبعد ستين كيلومترًا فحسب عن عاصمة الولاية، باتنا.36
لم تكن الفظائع المرتكبة في حق الداليت حِكْرًا على الطوائف الهندوسية فحسب. ففي البنجاب، كان السيخ الجات مُلَّاك الأراضي مستائين من تنامي ثقة طوائف العمال والحرفيين بنفسها. فمنذ مطلع القرن العشرين، حاربت طائفة الداليت السيخية من أجل الحصول على حصةٍ من الأرض ودخول الأضرحة المقدسة (وكلاهما كانا تحت سيطرة الجات). فسعى بعض الداليت إلى الهرب عبر ديانةٍ خاصة بهم، تسمى آدي دهارم. ثم في فترةٍ لاحقة، فتح الازدهار الناجم عن الثورة الخضراء آفاقًا جديدة للطبقات الدنيا: من عملٍ في البلدات والمصانع، وفرصٍ لإنشاء أعمالهم التجارية الخاصة. وإضافةً إلى ذلك، فقد تزايد عدد المهاجرين من السيخ، وكان المهاجرون يرسلون المال إلى أهلهم في القرى.37
نجد مثالًا معبِّرًا في هذا الصدد تمثَّل في نزاع. وكان هذا النزاع على إدارة مزار في قرية تلهان، على أطراف مدينة جالاندهار الصناعية. كان ذلك المزار قد أقُيم تخليدًا لذكرى الحرفيِّ الذي أصبح شهيدًا، المدعو بابا نيهال سينج. كان السيخ من كافة الطوائف الاجتماعية يتعبدون في ذلك المزار، ويُقدِّمون كمًّا من العطايا جعل ذلك المعبد أحد أغنى معابد المنطقة. (قُدِّر كمُّ العطايا المُجمَّعة بنحو ٥٠ مليون روبية سنويًّا.) إلا أن لجنة إدارة المعبد كانت تحت سيطرة الجات. فكانوا هم من يقرِّرون كيفية إنفاق الأموال؛ سواء على تجميل المعبد، أو على بناء طُرق إلى القرية، أو على الولائم. ولطالما طالب الداليت — دون استجابة — بوجود ممثلين لهم في لجنة الإدارة. وفي النهاية قرروا رفع المسألة إلى المحكمة. وفي يناير ٢٠٠٣، أثناء الاستماع إلى الدعوى، أعلن الجات بدء مقاطعةٍ اجتماعية للداليت. فنظَّم الداليت بدورهم سلسلة من الإضرابات الاحتجاجية. وبعد ستة أشهر، حدث اشتباكٌ عنيف بين الجماعتَين في سوق بالقرية. ومن ثم تدخَّلت الإدارة للتوصل إلى حلٍّ وسط؛ فمُنح اثنان من الداليت عضويةً في لجنة الإدارة، ولكن كان عليهما الالتزام بالتقليد السيخي المتمثل في إطلاق الشعر واللحية.38

٨

في الأعوام الأولى من الألفية الجديدة، كان السلام يسود كشمير نسبيًّا. فبعد انتخابات مجلس الولاية في عام ٢٠٠٢، بدأ السائحون يعودون لكشمير، فملئوا الفنادق في الوادي والمنازل العائمة في بحيرة دال. وفي يناير من عام ٢٠٠٥، عُقدَت انتخابات بلدية في جامو وكشمير لأول مرة منذ ثلاثة عقود تقريبًا. وبلغ الإقبال على الاقتراع في تلك الانتخابات المحلية نسبةً جديرة بالإعجاب هي ٦٠٪، على الرغم من تهديدات الإرهابيين واغتيال عدة مرشحين. قال من أدلَوا بأصواتهم إنَّهم أرادوا من الأعضاء المنتخبين الجدد توفير طرقٍ جديدة ومياهٍ نظيفة وتحسين أوضاع الصرف الصحي. ونُقِل عن أحد أصحاب المتاجر في بلدة سوبور — أحد معاقل المتمردين الموالين لباكستان — قوله: «لا يمكننا انتظار الاستقلال للحصول على مرافقَ مدنية.»39
وفقًا للإحصاءات الرسمية، انخفض عدد «حوادث العنف» في جامو وكشمير من ٣٥٠٥ حوادث عام ٢٠٠٢ إلى أقل من ٢٠٠٠ حادثة عام ٢٠٠٥.40 لا يمكن القول إنَّ السلام قد خيَّم على الولاية بأي حال. ولكن لأول مرة من سنين طويلة، لم يبدُ زعم الحكومة الهندية حول أحقيتها في تلك الأرض أجوف تمامًا. وفي المحادثات الدائرة مع باكستان، استطاعت نيودلهي الحثَّ على اتخاذ «تدابير بناء الثقة» من قبيل توفير حافلات تربط بين شطرَي كشمير. كان المقرر أن تغادر الحافلة الأولى من سريناجار إلى مظفر أباد يوم ٧ أبريل من عام ٢٠٠٥. وفي عصر يوم ٦ أبريل، داهم الإرهابيون المجمع السياحي حيث كان الركاب. فصُدَّ الهجوم، وفي اليوم التالي غادرت حافلتان حسبما كان مخطَّطًا. ووصف مراسلٌ صحفي استقلَّ إحدى الحافلتين ما حدث عندما عبرت الحافلة «جسر السلام» المُنشأ حديثًا ودخلت الأراضي الباكستانية:
جُمِع شَمل أُسر كانت مُفرَّقة، واختلطت الدموع ببتلات الورود على وجوههم. ربما كمنت أهمية تلك اللحظة غير العادية في خلفيتها العادية؛ فقد عبرت حافلتان على متنَيهما ٤٩ راكبًا، ومَحَت خطًّا قسَّم كشمير لما يربو على خمسة عقود من الدماء والتحامل41.
في تلك الأثناء، عبر البلاد، كان وقف إطلاق النار في ناجالاند الذي بدأ في عام ١٩٩٧ مستمرًّا، رغم التوتر الذي كان يسود الأجواء. إلا أنَّ التوصل إلى حلٍّ مُرضٍ للطرفين ظلَّ عصِيًّا. فحكومة الهند كانت تقول إنها سوف تمنح قبائل ناجا أكبر قدرٍ ممكن من الحكم الذاتي، ولكن في إطار دستور الهند. أما مجلس ناجالاند الاشتراكي الوطني، فكان يُصرُّ على أنَّ أي حل لا بدَّ أن يقرَّ بسيادة ناجا؛ فحسب زعمه، «ناجالاند لم تكن يومًا قطعة من الهند سواء بغزو من جانب الهند أو برضا أبناء ناجا».42 وطالب المجلس أيضًا بالإبقاء على جيشٍ منفصل لناجا. وأكد أنَّ أي شيء عدا ذلك سيكون خيانة لذكرى من ماتوا في سبيل القضية.
بجوار ولاية ناجالاند كانت توجد ولاية مانيبور، التي عانت على نحوٍ متزايد من العنف، بين الجماعات المتمردة والحكومة الهندية من جهة، وبين الطوائف المختلفة داخل الولاية نفسها. لقد أدت البطالة الواسعة النطاق بالعديد من الشباب إلى حمل السلاح. ومن بين الأغلبية السكانية المتمثلة في جماعة الميتي، التي سكنت الوادي، كانت هناك جماعاتٌ مسلحةٌ عديدة كانت غير راضية عن أن تكون جزءًا من الهند. في غضون ذلك، في تلال مانيبور، أرادت قبيلة تانجكول ناجا الانضمام إلى إخوانها في ناجالاند والعمل معًا في سبيل قضيةٍ مشتركة. واشتدت وتيرة العنف بسبب الخصومات العرقية بين الميتِّيين والناجا والكوكي.43

في وادي كشمير، وكذلك في بعض أجزاء الشمال الشرقي، كانت قوات الأمن الهندية تعمل بموجب قانون الصلاحيات الخاصة للقوات المسلحة، الذي يتيح للضبَّاط والجنود حصانة ضد الملاحقة القضائية من جانب المحاكم المدنية، ما لم تستصدر تصريحًا خاصًّا من الحكومة المركزية. وحيث إنَّ القانون كان يتيح أيضًا «إطلاق النار أو استخدام القوة بأي صورةٍ أخرى إلى حد التسبُّب في الوفاة» بحق أي شخص يُشتبَه في خرقه القانون، فقد شجَّع السلوك العدواني.

كان ثمة وجودٌ عسكريٌّ ضخم في الشمال الشرقي. فولايات تلك المنطقة تتباين حدودها بين الصين، التي خاضت معها الهند حربًا باهظة التكلفة، وبنجلاديش، التي كانت علاقة الهند بها متقلِّبة للغاية، وبورما. ولكن وجود هذا العدد من القوات هناك لا يُعْزى إلى الأمن الخارجي فحسب. فهي ضرورية أيضًا من أجل الحفاظ على تدفق السلع والخدمات الأساسية، وحماية الطرق والسكك الحديدية، وأخيرًا وليس آخرًا، قمع التمرد والمقاومة المسلحة. قال أحد رؤساء وزراء مانيبور، كان قد أمضى سنواتٍ طويلة في ذلك المنصب: «ليس لنا رأي في مواجهة الجيش. فهم لديهم أسلوب عمل خاص بهم، لا يخبروننا به ولا يستمعون إلينا، على الرغم من أنَّه من المفترض أنهم يعاونون الإدارة المدنية».44
لسنواتٍ طويلة، ظلَّت الجماعات الحقوقية تطالب بإلغاء ذلك القانون. احتلت نساء مانيبور موقع الصدارة بين تلك الجماعات؛ إذ طالما نشِطْنَ في معارضة العنف الذكوري بأشكاله كافة. وتشتمل الولاية أيضًا على عشرات المجموعات المحلية المسماة «ميرا بايبيس» (حاملات الشعلة). قادت تلك المجموعات حملاتٍ ناجحة ضد إدمان الكحول، قبل أن تُحوِّل انتباهها إلى تجاوزات قوات الأمن. فطالبت القوات بترك المدارس والأسواق، والكفِّ عن أخذ الفتية الصغار متى شاءوا، وفتح سجونهم ومراكز الاحتجاز لديهم للتفتيش العلني.45
في نوفمبر عام ٢٠٠٠، صامت شابة من مانيبور تُسمى إروم شارميلا عن الطعام لأجَلٍ غير مسمًّى من أجل إلغاء هذا القانون. وعندما نُقلَت إلى المستشفى، ظلت مضربة عن الطعام، فاضطرت الحكومة إلى جعلها تتلقى تغذيةً جبرية لأنها قالت إنها تفضل الموت على الحياة في ظل نظام يديره العسكريون.46
تجددت تلك المطالب في يوليو ٢٠٠٤، عندما أُخذت ربة منزل في مانيبور من منزلها بتهمة التحريض على الإرهاب. لقد عُذبَت تلك السيدة واغتُصبت وقُتلت، وتُركت جثتها لتتعفَّن على جانب الطريق. فأثارت الواقعة موجة من الاحتجاجات الغاضبة في وادي مانيبور. فقد سارت مجموعة من النساء إلى قاعدة الجيش في إمفال، حيث خلعن ثيابهن وغَطَّين أنفسهن بلافتةٍ بيضاء تحمل الشعار «يا جيش الهند، خُذ لحمنا». وأشعل زعيمٌ طلابي النار في نفسه يوم عيد الاستقلال، تاركًا رسالة كتب فيها: «الأفضل أن يقتل المرء نفسه بدلًا من أن يموت على أيدي قوات الأمن بموجب هذا القانون. أسير بهذه القناعة متصدِّرًا الناس كشعلةٍ آدمية.»47

٩

في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وكما هو الحال في العقود الخمسة التي سبقته، كانت أجزاء من الهند تتمتع بالسلام والهدوء؛ في حين كانت تعاني أجزاءٌ أخرى من الاضطراب والفوضى. لقد حدث نمو في الاقتصاد وتوسعت الطبقة الوسطى، لكن الفقر استمر في الازدياد. وسعت الحكومة المركزية من نيودلهي لإدارة الصراعات ومحاولة التخفيف من آثارها، على أفضل نحو، أو على النحو الأقل سوءًا على الأقل.

لم يكن رئيس الوزراء، الدكتور مانموهان سينج، دائمًا حرًّا في التصرف في المسائل المتعلقة بسياسة الدولة. كان عليه أن يتواءم مع التفضيلات الاقتصادية لرئيسة حزبه، حتى وإن تعارضت مع تلك الخاصة به. وكان عليه أن يتشاور معها في كل المناصب الكبرى؛ الوزراء وحكام الولايات ورؤساء اللجان.

كان الدكتور سينج في الأساس أكاديميًّا وموظفًا حكوميًّا، وليس سياسيًّا. وفي عام ١٩٩١، عندما عُين وزيرًا للمالية، شكر على الملأ رئيس الوزراء ناراسيمها راو لأنه، بحسب تعبيره «منحني فرصة لخدمة البلد في نهاية مسيرتي المهنية».48 هذا الابن للاجئين من البنجاب، والاقتصادي الجاد والمتواضع والمُجد في عمله والخبير لم يكن ليحلم يومًا بأن يشغل منصبًا يتحمل فيه تلك المسئولية. وعندما، بعد عقد أو يزيد، عرضت عليه رئيسة حزبه هذا المنصب الرفيع، كان حتى أكثر امتنانًا. ومن هنا، جاء إذعانه الشديد لسونيا غاندي تقريبًا في كل المسائل الخاصة بالسياسة الداخلية والأمور السياسية.
المجال الوحيد الذي أُطلقت فيه يده نسبيًّا هو السياسة الخارجية. هنا، عزم على تعزيز العلاقات أكثر مع الولايات المتحدة. لقد أصبحت في ذلك الوقت تلك الدولة القوى العظمى الوحيدة، وكانت سوقًا كبرى لصناعة البرمجيات الهندية. كان هناك حينها هنودٌ كثر وأغنياء في أمريكا، يمكن الاستفادة منهم على نحوٍ مثمر في هذا الإطار. حثَّ المفكرون الاستراتيجيون الهنود المتشككون من نوايا الصين الدكتورَ سينج على عقد شراكة أكثر قوة من ذي قبل مع واشنطن بحيث يمكن للدولتين معًا «تحمل أعباء تنظيم نصف الكرة الأرضية الشرقي في القرن الحادي والعشرين».49

كان الدكتور سينج على علاقةٍ طيبة مع رئيس أمريكا آنذاك، جورج دبليو بوش. وساعدت تلك العلاقة رئيس الوزراء على التفاوض من أجل التوصل لاتفاقٍ خاص تساعد الولايات المتحدة بموجبه في تعزيز القدرات الخاصة بالهند في مجال صناعة الطاقة النووية المدنية. فمنذ تفجيرات بوكران في عام ١٩٩٨، لم يسمح لها بالحصول على التقنيات الغربية المتقدمة. والآن، وعلى وعد أن هذا سيكون من أجل توليد الطاقة فقط وأن الهند ستفتح منشآتها النووية المدنية للتفتيش أمام الوكالات الدولية، وافقت الولايات المتحدة على تزويدها بالتقنيات والخبرات التي ستتطلبها تلك الصناعة.

نوقشت الصفقة النووية الهندية الأمريكية المقترحة في مجلس الشعب الهندي في نوفمبر ٢٠٠٧. ووجدت الحكومة أن خططها للتوصل إلى إجماعٍ وطني قد أُحبطت بسبب تحالفٍ غير متوقع بين حزب بهاراتيا جاناتا اليميني والحزب الشيوعي الهندي الماركسي اليساري. كان حزب بهاراتيا جاناتا مؤيدًا على الدوام لزيادة توثيق العلاقات مع الولايات المتحدة، ولو كان حينها في السلطة، لدفع بالتأكيد في اتجاه التصديق على صفقةٍ كهذه. لكنه آنذاك، عارض الصفقة، نكاية فقط في حزب المؤتمر وكي لا يُنسب لها الفضل في إتمامها. كانت معارضة الحزب اليساري على الأقل أكثر اتساقًا؛ إذ قامت على تشككٍ طويل الأمد في الدولة التي تقود العالم الرأسمالي.

كان رئيس الوزراء، الدكتور مانموهان سينج، يقود حكومة أقلية، استطاعت البقاء في السلطة فقط بسبب دعم الأحزاب الشيوعية. في الواقع، حتى وإن لم تكن تلك الأحزاب اليسارية رسميًّا جزءًا من الحكومة، فقد تركت بصمتها على بعض سياساتها، أبرزها البرنامج الخاص بضمان العمل في الريف. لكن التقارب المتزايد للهند الآن مع الولايات المتحدة أدى إلى شعور كبار قادة تلك الأحزاب بعدم الارتياح؛ نظرًا لأنهم تعوَّدوا أثناء الحرب الباردة على النظر إلى أمريكا باعتبارها عدوة للاشتراكية و«الطبقة العاملة». ولذا، وصف الحزب الشيوعي الهندي الماركسي اليساري الصفقة النووية باعتبارها «استسلامًا» لواشنطن.50
رغم معارضة اليسار، دفع الدكتور مانموهان باتجاه الميل نحو الولايات المتحدة. وفي يناير ٢٠٠٨، وقعت الدولتان اتفاقًا قيمته تتجاوز المليار دولار، بمقتضاه كانت ستزود الولايات المتحدة الهند بطائرات نقلٍ عسكري متطورة من طراز سي ١٣٠جيه، إلى جانب قطع غيارها. كان هذا سيزيد على نحوٍ كبير من قدرات القوات الجوية الهندية، نظرًا لأن تلك الطائرات يمكنها الطيران في أكثر الظروف الجوية عدائية ويمكنها الهبوط على مدارجَ مؤقتة في الصحاري والجبال.51
عبر النصف الأول من عام ٢٠٠٨، عقد حزب المؤتمر والأحزاب اليسارية سلسلة من الاجتماعات غير الرسمية للسعي لتجاوز الخلافات فيما بينهما. وفي النهاية، اتضح استحالة التوصل لتوافق. وفي يوليو، سحب الحزب الشيوعي الهندي الماركسي والحزب الشيوعي الهندي دعمهما للحكومة المركزية التي كان يقودها حزب المؤتمر، على نحوٍ رئيسي بسبب الصفقة النووية المدنية مع الولايات المتحدة. كان حزب المؤتمر غير آسف على ذلك؛ إذ أشار متحدث باسم الحزب إلى أن «اليسار يقف بمفرده فيما يتعلق بهذه المسألة. إنهم ليسوا فقط منعزلين وإنما في الصحبة المتعالية لحزب بهاراتيا جاناتا». كان الحزب الحاكم واثقًا من أن لديه العدد الكافي من الأعضاء للتصديق على الصفقة النووية في البرلمان.52
كان هذا التفاؤل في محله. إذ بدعم الأحزاب الإقليمية والمستقلين، فازت حكومة التحالف التقدمي المتحد باقتراع بالثقة في مجلس الشعب في يوليو، مع تصويت ٢٥٣ عضوًا لصالح الحكومة في مقابل ٢٣٢ ضدها. (كانت هناك مزاعم بأن بعض أعضاء المجلس من غير أعضاء حزب المؤتمر قد جرت رشوتهم للتصويت لصالح الحكومة.) إن تلك النتيجة، بحسب قول رئيس الوزراء سينج: «سترسل رسالة إلى العالم أجمع مفادها أن الهند مستعدة لأخذ مكانتها المستحقة في مجتمع الأمم».53

في المسائل الاقتصادية، كان لدى رئيس الوزراء دومًا توجهٌ عالمي، إذ كان يتبنى سياسة تجارية منفتحة على الخارج في وقتٍ مبكر من مسيرته الأكاديمية ويسعى لتقويض حصص تراخيص راج بينما كان يشغل منصب وزير المالية في تسعينيات القرن الماضي. الجديد والمميز كان عزم الدكتور سينج على توثيق علاقة الهند أكثر بالولايات المتحدة. لقد اعتقد أن القوة الاقتصادية الصاعدة للهند يجب أن تصاحبها زيادةٌ مماثلة في تأثيرها السياسي العالمي. ومن أجل هذا، رأى أن على الهند أن تتحالف بقوة مع القوى العظمى الوحيدة المتبقية في العالم.

بينما كانت سونيا غاندي تفضل أن يستمر التحالف مع اليسار كما هو، كان مانموهان سينج مستعدًّا لإنهائه بسبب مسألة الصفقة النووية، التي كان يراها حيوية لحدوث تقاربٍ هنديٍّ أمريكي أكبر. لم يكن محل شك أن الدكتور سينج كان مخلصًا في اعتقاده بأن تلك السياسة كانت مفيدة للمصالح العليا للهند؛ لكن حماسه كان كبيرًا لدرجة أدت به إلى المبالغة في الحديث، على نحوٍ لم يكن معتادًا منه. ففي زيارته التالية للولايات المتحدة، في سبتمبر ٢٠٠٨، قال للرئيس الأمريكي، جورج دبليو بوش: «في الأربع السنوات والنصف الأخيرة التي شغلت فيها منصب رئيس الوزراء، كنت أسير كرمكم وحبكم وصداقتكم». ثم أضاف: «لمدة ٣٤ عامًا، عانت الهند من تمييز عنصري فيما يتعلق بالمجال النووي. لم نكن قادرين على الحصول على موادَّ نووية ومفاعلاتٍ نووية ومواد خام نووية. وعندما ينتهي هذا النظام المقيد، أعتقد أن قدرًا كبيرًا من الفضل في ذلك سيعود للرئيس بوش. ومن أجل هذا، أنا ممتنٌّ جدًّا لكم، سيادة الرئيس.»

يجب أن نصدق الدكتور سينج فيما قاله بشأن الود والصداقة اللذين أبداهما جورج دبليو بوش تجاهه. ويجب أن نعتقد أيضًا أن إنهاء العزلة النووية للهند كان انتصارًا كبيرًا. لكن الإعلان عن تلك الحقائق بهذا الأسلوب المتملق أمر يجب أن يكون محل نقاش. الجدير بالملاحظة أكثر كان دفقة المشاعر الأخيرة؛ حيث قال رئيس الوزراء الهندي للرئيس الأمريكي، أمام حشد من الكاميرات وأجهزة التسجيل، إن «شعب الهند يحب شخصكم بشدة» وهو زعمٌ مشكوك فيه أكثر بكثير وأصعب كثيرًا في تبريره من المزاعم التي سبقته.54

١٠

خلال عامي ٢٠٠٧ و٢٠٠٨، بينما كان يجري الانتهاء من تنفيذ الخطوات السياسية العليا الخاصة بالصفقة النووية الهندية الأمريكية في كل من نيودلهي وواشنطن، وقعت موجة من الهجمات الإرهابية في أجزاء مختلفة من البلاد. ففي فبراير ٢٠٠٧، فُجِّر قطار سامجوتا السريع الذي يمتد من نيودلهي إلى الحدود مع باكستان؛ مما أدى إلى مقتل ٦٧ شخصًا في الهجوم. كان يُنظر إلى هذا الخط باعتباره رمزًا للسلام والتفاهم؛ وهؤلاء الذين فجَّروه كانوا بالتأكيد على نحوٍ شبه تام من الأصوليين الهندوس المعارضين لأي تقارب مع باكستان. التوقيت كان يشي بنفس الشيء تقريبًا؛ إذ حدث الهجوم الإرهابي قبل يومٍ واحد من الزيارة المرتقبة لوزير الخارجية الباكستاني لنيودلهي.55
كانت هناك هجماتٌ إرهابيةٌ أخرى من تدبير إرهابيين مسلمين، غالبًا ما كانوا من باكستان أو تساعدهم عناصر من هناك. ففي مايو ٢٠٠٧، قُتل تسعة أشخاص عندما ضرب أحد التفجيرات مسجد مكة التاريخي في حيدر أباد. وبعد عام، قُتل على الأقل ٦٤ شخصًا عندما ضربت سلسلة من التفجيرات مدينةً تاريخيةً قديمةً أخرى وهي جايبور، عاصمة ولاية راجستان. وبعد ذلك، في سبتمبر ٢٠٠٨، قُتل ٢٠ شخصًا عندما فُجِّرت خمس قنابل في سوقٍ مزدحمة في نيودلهي.56

تعرضت الهند لهجماتٍ إرهابية من قبلُ. فعلى مر السنين، حدثت عشرات التفجيرات بالقنابل في الأسواق وقطارات الضواحي. ففي عام ٢٠٠١، هاجم البرلمانَ في نيودلهي مجموعةٌ من الإرهابيين. وفي تلك الهجمات على مر السنين، على الأرجح قُتل أو شُوه المئات من أفراد الأمن وبالتأكيد الآلاف من المدنيين.

وفي ٢٦ نوفمبر من عام ٢٠٠٨، شهدت الهند أجرأ هجومٍ إرهابي في تاريخها. ففي مساء ذلك اليوم، جاء مجموعة من المسلحين من باكستان في قارب وتوجهوا مباشرة إلى الواجهة البحرية في جنوب مومباي، وهي مكانٌ سياحي يقصده الكثيرون يضم البوابة الأيقونية للهند وفندق تاج محل. كانوا قد قضَوا من قبلُ أسابيع من التدريب في معسكرات تديرها الجماعة الأصولية الإسلامية التي تسمى لَشكر طيبة، والتي يقودها ضباطٌ متقاعدون وغير متقاعدين من الجيش الباكستاني. على مدار فترة تدريبهم، كان يقول رئيس الجماعة حافظ سعيد للمقاتلين الشباب: «إن متُّم أثناء الجهاد، فستضيء وجوهكم مثل القمر. وستفوح من أجسادكم رائحة المسك. وستدخلون الجنة».57

بعد أن وصل هؤلاء الإرهابيون، الذين كان عددهم عشرة، إلى مومباي، أخذوا يهاجمون الضيوف في فندق تاج محل والركاب في محطة السكك الحديدية الرئيسية في المدينة وأي شخصٍ آخر يصادفونه في طريقهم. كما هاجم المسلحون أيضًا مركزًا يهوديًّا، وهو هدفٌ آخر كان مختارًا بعناية، وذلك نتيجة للتقارب المتزايد للهند مع إسرائيل، والشيطنة العامة لليهود من قبل الراديكاليين الإسلاميين حول العالم.

انتشرت أخبار الهجوم عبر مومباي وأنحاء الهند، مثيرة الرعب والدهشة بنفس القدر. انتقلت طواقم التغطية الإعلامية والكاميرات التليفزيونية لتقيم خارج فندق تاج محل، حيث كان الإرهابيون يلقون قنابلَ يدوية وهم ينتقلون من غرفة إلى أخرى، ومن طابق إلى آخر. كانت مومباي تمتلك قوة شرطة كبيرة، لكنها لم تكن تمتلك قواتٍ خاصةً مدربة لمواجهة تلك الهجمات. لقد كانت تلك القوات الخاصة متمركزة في دلهي لحماية المنشآت الحكومية والسياسيين المهمين. وعندما وصلت القوات الخاصة، كان الإرهابيون يقومون بأعمالهم الوحشية لأكثر من ١٢ ساعة. وقد استغرق الأمر أربعة أيام في المجمل من أجل قتل ٩ من المهاجمين، والقبض على العاشر، الذي يعد المهاجم الوحيد الناجي. اعترف هذا المهاجم الذي قُبض عليه بأنه قد أتى من باكستان وتدرب على يد جماعة لَشكر طيبة.58

قُتل أكثر من مائتَي شخص على يد الإرهابيين في مومباي. وكان من بينهم نحو ٢٠ أجنبيًّا. وقد تعرضت أجزاءٌ كبيرة من فندق تاج للدمار من الداخل. لكن إلى جانب الخسارة في الأرواح والممتلكات، خلَّف الهجوم جرحًا عميقًا في نفوس سكان مومباي والهنود بوجهٍ عام. فتلك الأجزاء من المدينة كان يحبها بشدة الهنود ويزورونها كثيرًا. كان فندق تاج بلا شك أشهر فندق في الهند. وكانت محطة شاهترباتي شيفاجي أكثر محطات السكك الحديدية ازدحامًا في الهند. وقد زاد من عمق الصدمة السهولة التي هوجمت بها تلك الأماكن الشهيرة، من قبل مجموعة من المتسللين الذين جاءوا عبر الماء في قاربٍ صغير قاموا باختطافه.

الهجوم الإرهابي على جنوب مومباي سرعان ما أطلق عليه اسم «٢٦ / ١١ »، ليقابل هجوم «١١ / ٩» الذي تسبب في دمار نيويورك؛ تلك المدينة العظيمة، الصاخبة، العالمية الطابع، الحيوية من الناحية التجارية والثقافية. وبإعادة النظر إلى المأساة بعد مرور ٨ سنوات على حدوثها، كانت هناك ثلاث استجابات للهجوم في وقت حدوثه يعدها المرء مثيرة للاهتمام بوجهٍ خاص. جاءت الأولى من رئيس وزراء جوجارات، ناريندرا مودي، الذي طار إلى مومباي واستقر خارج فندق ترايدنت (الذي كان هدفًا آخر للإرهابيين) حيث أخذ يوضح للمراسلين المتلهفين الطريقة التي يود أن تتعامل بها الحكومة مع مثل هذه الهجمات. لم تكن مومباي في ولايته، ولذا، لم يكن هناك داعٍ لحديثه العلني عن تلك الأمور. كانت هذه محاولةً انتهازية من جانبه لتقديم نفسه كقائد بطموحات وتطلعاتٍ وطنية.

بعقد مودي لمؤتمرٍ صحفي في مومباي، كان يناقض بوضوح تفضيله للتحرك القوي والسريع والواضح مع الأسلوب الأكثر تحفظًا بعض الشيء لرئيس الوزراء، الدكتور مانموهان سينج. وقد كان بالتأكيد التأخر الشديد في وصول القوات الخاصة إلى مومباي هفوةً أمنية كانت الحكومة الهندية مسئولة عنها. وبمجرد إيقاف الهجوم وقتل الإرهابيين، تعالت الصيحات بضرورة القيام برد فعلٍ انتقامي ضد الدولة التي آوت ودرَّبت المهاجمين. فقد طالب سياسيو المعارضة بتفجير معسكرات الإرهاب في باكستان. وقد قاوم رئيس الوزراء هذه الضغوط. فحقيقة الهجوم والطريقة التي انتهى بها أمام الجميع قد جلبا العار على باكستان بالقدر الكافي في أعين العالم. وقد كان تصعيد الأمور آنذاك، مع امتلاك الدولتين لأسلحةٍ نووية، أمرًا محفوفًا بالمخاطر لأبعد حد. وكان ضبط النفس هذا في مواجهة الاستفزاز الشديد أمرًا ضروريًّا وحكيمًا.

مارس مواطنو مومباي العاديون ضبط نفس من نوعٍ آخر، ربما حتى أكثر إثارة للإعجاب. إن للمدينة تاريخًا طويلًا من العنف الهندوسي-المسلم، امتد على مدار مائة عام أو يزيد. في الآونة الأخيرة في عامَي ١٩٩٢ و١٩٩٣، حدثت هجماتٌ وحشية على المسلمين على يد الحشود الهندوسية التي كانت تحتفل بهدم مسجد بابري، تلتها هجمات بالقنابل من قبل متطرفين مسلمين على البورصة وغيرها من المباني. وعلى الرغم من أن المرء لا يمكن على الإطلاق أن يكون متأكدًا من ذلك، فإنه من المحتمل بشدة أن يكون أحد أهداف إرهابيي هجوم ٢٦/  ١١ ومن وجَّهوهم هو إشعال حلقةٍ جديدة من العنف الديني. لو جرى استفزاز الهندوس للهجوم على المسلمين في مومباي، فربما كان سيمتد ذلك لمدنٍ أخرى؛ مما يبرر زعم (أو رجاء) الإسلاميين بأن الهند كانت دولةً «هندوسية» مثلما أن باكستان كانت دولةً «مسلمة». لكن هذا لم يحدث. لم يستهدف الهندوس المسلمين الأبرياء؛ ومن جانبهم، رفض رجال الدين المسلمون بمومباي دفن جثث الإرهابيين المنتمين لنفس دينهم والقادمين عبر الحدود؛ نظرًا لأن أفعالهم كانت غير أخلاقية على نحوٍ واضح.

١١

شهِد عام ٢٠٠٨ قيام الراديكاليين المسلمين بهجماتٍ إرهابية في أجزاءٍ مختلفة من الهند، انتهاءً بالهجوم على مومباي في نوفمبر. وشهد الاثنا عشر شهرًا تلك كذلك نشاطًا من قبل متطرفي الهندوتفا. فقد كان هناك تفجير قطار سامجوتا السريع المذكور آنفًا. وفي خريف ٢٠٠٨، كانت هناك حلقةٌ كبيرة من أعمال الشغب الديني في المناطق القبلية من أوريسا. وقد كان السبب في إشعال تلك الأحداث مقتل أحد قادة المجلس الهندوسي العالمي، الكاهن لاكشماناناندا، بعد هجوم على أشرمه في جيلسباتا في منطقة كاندامال. وكان القتلة في الأغلب من الماويين.

عمِل الكاهن لاكشماناناندا، الذي يُعَد نتاج حركة حماية البقر التي ظهرت في ستينيات القرن الماضي، لسنواتٍ عديدة في كاندامال، ساعيًا لصهر القبائل في البوتقة الهندوسية، بحثِّهم على عبادة الآلهة والإلهات الهندوسية والامتناع عن تناول الكحوليات. وفي عام ٢٠٠٦، للاحتفال بمرور مائة عام على ميلاد زعيم منظمة راشتريا سوايامسيفاك، سانج إم إس جُلوالكَر، نظم الكاهن تجمعًا كبيرًا لسكان القبائل وغيرهم في كاندامال. كان هذا جزءًا من السعي العام لإعادة سكان القبائل إلى «الدار» (جار وابسي)؛ لما عده الكاهن عقيدتهم الأصلية والطبيعة، ألا وهي الهندوسية.59

مع ذلك، لم يكن الكاهن لاكشماناناندا المبشر الوحيد الناشط في تلك الأجزاء. ففي المناطق القبلية لأوريسا، بحسب ما كتب أحد المراسلين، كان هناك «مزيجٌ خطير من المبشرين المسيحيين وناشطي سانج باريفار … والماويين، كان يتنافس من أجل الاستحواذ على قلوب وعقول الناس». نجح المبشرون المسيحيون في تنصير أعدادٍ كبيرة من المنتمين في السابق لإحدى الطوائف المنبوذة التي تدعى البانوس. واستهدف المبشرون الهندوس قبيلة كاندا، التي كانت تمثل نحو ٥٢٪ من السكان. أما الماويون، من جانبهم، فقد سعوا لتجنيد متطوعين من الجانبين من أجل صراعهم المسلح ضد الدولة.

في تلك المنطقة الهشة المتنازع عليها بشدة، كان مقتل الكاهن لاكشماناناندا، كما تقول الأمثال، بمنزلة انتشار النار في الهشيم. وقد قاد أحد قادة المجلس الهندوسي العالمي من جوجارات، برافين توجاديا، وهو رجل لديه سوابق في إذكاء العنف الطائفي، مراسم الجنازة التي تلاها حرق الحشود الغاضبة لمنازل المسيحيين وكنائسهم. استمر العنف لسبعة أسابيعَ كاملة. وقد فرَّ عشرات الآلاف من البانوس المسيحيين من قراهم إلى مخيمات لاجئين مؤقتة.

زار أحد المراسلين القرى التي هجرها البانوس، فوجد منازلهم قد «تحولت إلى أطلالٍ محروقة وكنائسهم منهوبة وممتلكاتهم التي اكتسبوها بشق الأنفس مسلوبة أو مدمرة، وحبوبهم محروقة وماعزهم مبعثرة. والطريقة التي استُهدفت بها المنازل تشي بوجود معرفةٍ سابقة؛ فكما هو الحال في جوجارات [في ٢٠٠٢]، فقط منازل الأقليات هي التي أُحرقت».60
كان يوجد في منطقة كاندامال ١٣ قسم شرطة فقط، يعمل بها فقط ٥٠٠ شرطي مهمتهم الحفاظ على الأمن في تلك المنطقة الشاسعة والوعرة. كان عدد أفراد الشرطة قليلًا جدًّا، ولم يكونوا مدرَّبين أو مسلَّحين على نحوٍ جيد. وحتى لو أرادوا احتواء العنف، فلم تكن لديهم السبل الكافية لذلك. في واقع الأمر، لقد هوجم على الأقل قسما شرطة على يد الحشود، وحاصر الآلاف من مثيري الشغب أحد الأقسام وبداخله القليل من أفراد الشرطة المرتعدين.61

١٢

مع اقتراب الانتخابات العامة التالية، كانت الساحة السياسية معقدة ومتعددة الأطياف كما هو حالها دائمًا. وفي مايو ٢٠٠٧، فاز حزب باهوجان ساماج على نحوٍ مفاجئ، ولافت للنظر كذلك، بأغلبية في ولاية أوتر براديش. كان الحزب في السابق معاديًا بشدة للطوائف العليا واستطاع الآن الوصول للبراهمة والمسلمين. لقد كان عددٌ كبير من المقاعد التي تنافس عليها الحزب — وصل إلى ١٣٩ — مخصصًا للطوائف العليا.62 وكما صاغ أحد المعلقين الأمر، من خلال عقد تحالفات مع الطوائف الأخرى، «قلب حزب باهوجان ساماج جماعة الناخبين القديمة التي كانت تصوت لحزب المؤتمر — البراهمة والمسلمين والداليت مجتمعين — رأسًا على عقب. ففقط، في عالم ماياواتي الجديد المختلف، أصبح الداليت في مقعد القيادة بدلًا من البراهمة؛ في واقع الأمر، لقد فعلت ما حلم به مرشدها ومؤسس حزب باهوجان ساماج، كانشي رام؛ لقد قلبت الهرم رأسًا على عقب. وهكذا، ولأول مرة بعد عام ١٩٩١ عندما فاز حزب بهاراتيا جاناتا بأغلبيةٍ مطلقة في أوتر براديش، تصوت الولاية لصالح سيطرة حزبٍ واحد والاستقرار، منهية ١٤ عامًا من الحكومات الائتلافية التي كانت سببًا في انتشار الفوضى».63
وبعد عام، في مايو ٢٠٠٨، شكل حزب بهاراتيا جاناتا الحكومة في كارناتاكا. كانت هذه هي أول ولايةٍ جنوبية يفوز فيها بالسلطة حزب بهاراتيا جاناتا، الذي كان في الأصل حزب الشمال والغرب. لقد خسر حزب المؤتمر مكانته في الولاية بعد سنين من الحكم (أو لنقل الحكم السيئ)؛ وفي الوقت نفسه، دعم مجموعة من أباطرة التعدين من ذوي النفوذ والثروة حزب بهاراتيا جاناتا بكل ما لديهم من مكانة وأموال. وصف أحد قادة حزب بهاراتيا جاناتا البارزين، أننت كومار، تلك الانتخابات باعتبارها «الدور نصف النهائي»؛ متنبئًا بما تمنى أن يكون انتصار الحزب في الانتخابات العامة التي كان من المقرر انعقادها في غضون عام.64

في ديسمبر ٢٠٠٨، عندما أجريت انتخابات الولاية في جامو وكشمير، برز حزب المؤتمر الوطني الكشميري. وأصبح رئيس الوزراء عمر عبد الله، حفيد الشيخ عبد الله وابن فاروق عبد الله. وانضم حزب المؤتمر مرةً أخرى إلى الائتلاف الحاكم، بوصفه شريكًا صغيرًا. وفي الانتخابات التي أجريت في ولاياتٍ أخرى في نفس الشهر، استعاد حزب المؤتمر السلطة في راجستان، لكنه لم يستطع استعادة السلطة من حزب بهاراتيا جاناتا في ماديا براديش وتشاتيسجار.

كانت الانتخابات العامة التالية من المقرر انعقادها في مايو ٢٠٠٩. كان حزب المؤتمر في السلطة في الحكومة المركزية وفي بعض الولايات الرئيسية. ولكن تولي حزب بهاراتيا جاناتا السلطة في كارناتاكا أشار إلى جاذبيته المتزايدة عبر الهند. وفي ذلك الوقت، كانت الأحزاب الإقليمية لا تزال قوية في بعض الولايات، في حين في أكبر الولايات على الإطلاق، أوتر براديش، كان يتولى السلطة حزب أُسس من أجل الداليت ومن قِبلهم.

في يناير ٢٠٠٩، خضع رئيس الوزراء لجراحة في القلب. واعتقد البعض أنه سيتقاعد بمجرد انتهاء مدته. لكن عندما أعلن عن انعقاد الانتخابات العامة في أوائل مارس، قُدم مانموهان سينج باعتباره أحد الوجوه الثلاثة الرئيسية لحزب المؤتمر. كان الآخران هما رئيسة الحزب، سونيا غاندي — المسئولة الرئيسية عن انتصار ٢٠٠٤ — وابنها راهول، الذي عين في سبتمبر ٢٠٠٧ سكرتيرًا عامًّا لحزب المؤتمر. وقد ضمت ملصقات الحزب صورًا للقادة الثلاثة جميعهم.

على الجانب الآخر، ومع مرض أتَل بِهاري فَجبايي، قدَّم حزب بهاراتيا جاناتا مرشحًا لمنصب رئيس الوزراء زميله القديم وفي بعض الأحيان نائبه، لال كريشنا أدفاني. لقد انتظر أدفاني عدة سنوات تلك الفرصة. ورغم كونه المحرك الرئيسي لحملة أيوديا التي كانت السبب فعليًّا في جعل حزبه قوةً وطنية، فقد أفسح الطريق، في ١٩٩٦ ومرةً أخرى في ١٩٩٨، لفَجبايي عندما كان الحزب في وضع يسمح له بتشكيل الحكومة المركزية.

وفي وقت انتخابات ٢٠٠٩، كان أدفاني في الواحد والثمانين من عمره. وكان مانموهان سينج أصغر منه فقط بخمس سنوات، لكنه استطاع جعل حكومته تكمل فترتها كاملةً. وكان الاقتصاد يسير بمعدلاتٍ جيدة، وهو الأمر الذي أرجع قطاعات من الطبقة الوسطى الفضل فيه إليه، كما فعلوا فيما يتعلق بالصفقة النووية التي عقدت مع الولايات المتحدة. وكان الهدف من المكانة المعطاة لراهول غاندي هو جذب الناخبين الذين كانوا يصوِّتون لأول مرة، في حين كان لسونيا غاندي، باعتبارها مخططة نظم الرعاية الاجتماعية التي أقرها التحالف التقدمي المتحد، قَبول لدى المعدومين. وقد بدأ برنامج ضمان العمل في الريف يؤتي ثماره. إذ استفادت الطوائف المجدولة والقبائل المجدولة والنساء على نحوٍ كبير منه، في حين أدى بناء الطرق والآبار إلى تحسين الاقتصاد الريفي بوجهٍ عام.65

أغلب المراقبين (ومن بينهم كاتب هذه السطور) توقعوا عدم حصول حزب المؤتمر أو حزب بهاراتيا جاناتا على أغلبية، وحينها كان سيبحث كلٌّ منهما على شركاء للوصول للأغلبية المطلوبة. إن احتمال تشكيل «جبهة ثالثة» (كما حدث في عامَي ١٩٨٩ و١٩٩٦) للحكومة كان أيضًا أمرًا مطروحًا. ولكن ما حدث بالفعل هو أن حزب المؤتمر قد زاد غلته بأكثر من ٦٠ مقعدًا. فقد فاز ﺑ ٢٠٦ مقاعد في مجلس الشعب، وهي المرة الأولى التي يكسر فيها حاجز المائتَين منذ عام ١٩٩١. ومع وجود عدة أحزابٍ إقليميةٍ ملتزمة بالفعل بالتحالف معه، لم يَعُد حزب المؤتمر بحاجة إلى اليسار على الإطلاق.

كان رئيس الوزراء الحالي، مانموهان سينج، الآن سيشغل منصبه لمدة فترتين كاملتين، شأنه شأن جواهر لال نهرو وإنديرا غاندي. قال الدكتور سينج، متحدثًا إلى أعضاء حزبه بعد ظهور النتائج، إن السنوات الخمس القادمة من الممكن أن تكون «حاسمة» في تاريخ الهند. وأردف: «إن استطعنا الحفاظ على معدلات النمو الخاصة بالسنوات الخمس الأخيرة، فيمكننا تقليل معدل الفقر وخلق فرص عمل جديدة وتسريع وتيرة تطوير الريف والتصنيع وتحسين حياة الناس». ثم أضاف: «يجب أن نتعامل مع هذه المهمة الصعبة بكل ما أوتينا من قوة، ونمضي قدمًا إلى الأمام».66

١٣

في انتخابات ٢٠٠٩، أبلى حزب المؤتمر بلاءً حسنًا على وجه الخصوص في ولاية أندرا براديش؛ إذ حاز ٣٣ من إجمالي ٤٢ مقعدًا متاحًا. كان هذا بسبب الدعاية النشطة التي قام بها رئيس وزراء الولاية، واي إس راجاسيخار ريدي. كان «واي إس آر»، كما كان معروفًا، سياسيًّا حازمًا، يدير كلًّا من الحزب والولاية بقبضة من حديد. وكان أحد إنجازاته، إن جاز التعبير، هو قمع المطالبات القديمة بإنشاء ولايةٍ منفصلة لتيلانجانا، ستُقتطع من مناطق أندرا التي كانت جزءًا من ولاية حيدر أباد القديمة.67

كانت أجزاء أندرا براديش التي كان يحكمها البريطانيون على نحوٍ مباشر في السابق قريبة من الساحل، وتُروى أراضيها من مياه أنهارٍ كبيرة. وكانت متقدمة ومزدهرة مقارنة بالأجزاء التي كانت تقع في الداخل، وكان يحكمها في السابق النظام. ولكن عندما تكونت ولاية أندرا براديش الموحدة في عام ١٩٥٦، اختيرت عاصمة الولاية السابقة كعاصمة لها أيضًا.

كانت هناك تفرقة بين أندرا الساحلية وتيلانجانا في التعامل من الأساس. شكا مفكرو تيلانجانا من أن السياسيين ورجال الأعمال كانوا يحولون الاستثمارات العامة بعيدًا عن المناطق الداخلية باتجاه المناطق الساحلية المزدهرة بالفعل. وقد قدَّموا أرقامًا توضح أنه في حين أن تيلانجانا كان يوجد بها ٤٢٪ من المنطقة المزروعة في الولاية، فقد كان مخصصًا لها ٣٠٪ من نفقات الولاية الخاصة بالزراعة، و٢٧٪ من المخصصات الخاصة بالأسمدة، وأقل من حصتها العادلة فيما يتعلق بمياه القنوات والطاقة الكهرومائية كذلك.

في أواخر ستينيات القرن الماضي، ظهرت حركةٌ كبيرة، يقودها الطلاب، تطالب بإنشاء ولايةٍ منفصلة لتيلانجانا. حاجج منشور أصدره قادة الحركة بأن «الولايات الأصغر يمكن أن تساعد في إضفاء الطابع الديمقراطي على عمليتنا السياسية، والذي بدوره سيجذب الأجزاء الأكبر إلى عملية التنمية …». في واقع الأمر، «الولايات الأصغر قد تبشر بحقبةٍ جديدة وواعدة في الحياة السياسية والاقتصادية للأمة». صاحبت تلك الكلمات مظاهراتٌ احتجاجيةٌ هائلة، أصابت الطرق وخطوط السكك الحديدية بالشلل. وقُمعت الحركة فقط بالقوة.68

في العقود اللاحقة، لم تتوقف المطالبات بإنشاء ولاية تيلانجانا، مع قيام إضرابات واعتصاماتٍ سلمية من وقت لآخر. وقبل الانتخابات العامة لعام ٢٠٠٤، عقد حزب المؤتمر، الذي كان حينذاك خارج السلطة، تحالفًا مع حزب تيلانجانا رشترا سميثي. وقد أعطى وعدًا محددًا وآخر عامًّا؛ وهما دعم قضية إنشاء ولايةٍ منفصلة لتيلانجانا، وإنشاء لجنةٍ جديدة لإعادة تنظيم الولايات. لقد ضمنت الولايات اللغوية الوحدة الهندية؛ وربما يكون قد حان الوقت في ذلك الوقت لعملية إعادة تنظيم أخرى لتقسيم الولايات الكبيرة الصعبة إدارتها مثل أندرا ومهاراشترا وغرب البنغال، وعلى الخصوص، أوتر براديش.

بعد أن وصل حزب المؤتمر للسلطة على نحوٍ غير متوقع، لم يفِ بالوعدَين؛ فالأول عارضه رئيس وزراء أندرا القوي، واي إس راجاسيخار ريدي، والثاني عارضته أحزاب اليسار التي كان دعمها مهمًّا لاستمرار الحكومة الجديدة التي اعترضت على قيام لجنةٍ جديدة لإعادة تنظيم الولايات لأن الشيوعيين البنغال لم يرغبوا في تشجيع الحركة الداعية لإنشاء ولاية جورخلاند.

المطالبات بإنشاء ولاية تيلانجانا تجددت بعد موت واي إس راجاسيخار ريدي في حادثة تحطم طائرة هليكوبتر في سبتمبر ٢٠٠٩. وكان خليفة واي إس آر يفتقد نفوذه وحزمه. وعلى الجانب الآخر، كانت حركة تيلانجانا يقودها الآن كيه تشاندراسيخار راو (المعروف باسم كيه سي آر) وهو زعيمٌ ذو كاريزما وخطيبٌ مُفوَّه. وفي الأسبوع الأخير من نوفمبر ٢٠٠٩، دخل كيه سي آر في صوم حتى الموت مطالبًا بالتأسيس الفوري لولايةٍ مستقلة لتيلانجانا. دفع هذا عشرات الآلاف من أتباعه إلى النزول إلى الشوارع؛ مما عطل الحياة في عاصمة الولاية، حيدر أباد، التي كانت حينها أيضًا مركزًا كبيرًا لصناعات الأدوية وتكنولوجيا المعلومات.

أصيب التحالف التقدمي المتحد بالذعر بسبب صوم كيه سي آر والانتفاضة الشعبية التي تسبب فيها. وفي ٩ ديسمبر ٢٠٠٩، أصدر وزير داخلية الاتحاد، بي تشيدامبارام، بيانًا وعد فيه بأن «عملية إنشاء ولاية تيلانجانا سيجرى إطلاقها». وحث كيه سي آر على إنهاء صومه (وهو الأمر الذي فعله)، وطالب رئيس الوزراء بسحب كل القضايا المرفوعة ضد كل الضالعين في تحريض الجماهير.

أدى البيان إلى غضب وخيبة أمل أعضاء البرلمان من حزب المؤتمر المنتمين لأندرا الساحلية. لكن بمجرد الإعلان العلني لوزير داخلية الاتحاد عن وعده، لم يكن هناك مجال للتراجع. وبعد سلسلة من المفاوضات الشاقة والمطولة، جرى تقسيم أندرا براديش رسميًّا إلى ولايتين. ستتشارك الولايتان نفس العاصمة؛ حيدر أباد، لمدة عشر سنوات، وبعدها، ستكون خاصة فقط بتيلانجانا. وستُخصص مخصصاتٌ مركزية للولاية المتبقية، التي احتفظت باسم أندرا براديش، ولكنها كانت معروفة شعبيًّا باسم سيماندرا، لبناء عاصمةٍ جديدة.69

١٤

كانت المساواة والتعددية من أهم المبادئ التي قام عليها الدستور الهندي. فقد سعى الدستور إلى إعطاء حقوقٍ متساوية للنساء والداليت والاعتراف باللغات والديانات وطرق الحياة المختلفة واحترامها. كان هناك بالتأكيد تباينٌ شاسع بين النظرية والتطبيق. فقد استمر التمييز ضد النساء والداليت. وجعل راديكاليو الهندوتفا المسلمين والمسيحيين يشعرون بالضعف وعدم الأمان.

الاختيار الجنسي كان أحد الأمور التي لم يكن مسموحًا فيها بالتعددية أو المساواة، أو معترفًا بها، حتى في النظرية. فقد كانت ممارسة المثلية مجرَّمة، وفقًا لما جاء في المادة ٣٧٧ من قانون العقوبات الهندي الذي صدر في القرن التاسع عشر. وفي أغسطس ٢٠٠٩، وبعد فترةٍ قصيرة من إعادة انتخاب التحالف التقدمي المتحد، أصدرت محكمة دلهي العليا حكمًا بإلغاء المادة ٣٧٧ من قانون العقوبات الهندي. رأت هيئة المحكمة، المكونة من رئيس المحكمة إيه بي شاه والقاضي إس موراليدهار، أن المادة ٣٧٧ انتهكت الحق الخاص بالخصوصية والكرامة. واستعرضت نشوء التشريعات التقدمية فيما يتعلق بتلك الأمور في الدول الأخرى، حيث لم يجرِ تجريم ممارسة الجنس بين البالغين المرتضين بمنأًى عن الأنظار، مع إعطاء المثليين حقوقًا متساوية في النطاق المهني، حتى في معاقل التحفظ مثل الجيش.

المذكرة الأصلية المطالبة بإلغاء المادة ٣٧٧ كانت قد تقدمت بها مؤسسة ناز في عام ٢٠٠١. لقد سعت إلى إباحة ممارسة الجنس المثلي بين البالغين المرتضين. وقد لاقى مقدمو المذكرة معارضة من جانب جماعاتٍ دينيةٍ متعددة، سواء هندوسية أو مسلمة أو مسيحية، إلى جانب وزير داخلية الحكومة الهندية.

زعم هؤلاء الذين طالبوا بالإبقاء على المادة ٣٧٧ أنها كانت مطلوبة من أجل مفهومٍ عام، وظاهريًّا، عالمي يتمثل في «الآداب العامة». أما القاضيان شاه وموراليدهار، على الجانب الآخر، فوجدا أن المادة محددة في المكان والزمان؛ فقد أشارا إلى «أنها كانت قائمة على مفهوم للآداب الجنسية يعود إلى الحقبة الفيكتورية يقوم على مفهومَي الشهوانية والخطيئة». إن المادة ٣٧٧، بحسب حكم المحكمة العليا، «تستهدف جماعة المثليين كفئة وتقف وراءها كراهية لتلك الفئة الضعيفة من البشر». فبصيغتها الحالية، «المادة ٣٧٧ من قانون العقوبات الهندي تؤدي إلى النظر إلى كل المثليين باعتبارهم مجرمين. وعندما يُنظر إلى كل شيء مرتبط بالمثلية باعتباره غير سوي وغريبًا وبغيضًا، فكل الفئة المثلية، سواء من الرجال أو النساء، سيوصمون بالانحراف السلوكي والفساد الأخلاقي. إنهم عرضة لتمييزٍ كبير بسبب ما هم عليه أو ما يراهم الآخرون عليه، وليس بسبب ما يفعلونه. والنتيجة هي أن مجموعةً كبيرة من الناس تُضطهد وتُهمش وتنغلق على نفسها، بسبب اختلافها الجنسي.»

إن إلغاء المادة ٣٧٧ سيمحو تلك الوصمة عن تلك الفئة، وسيكون بالتبعية إجراءً تقدميًّا خاصًّا بالصحة العامة كذلك. في كل الأحوال، بحسب ما قاله القاضيان، إنه «ليس من ضمن الصلاحيات الدستورية للدولة أن تخترق خصوصية حياة المواطنين أو تحكم السلوك الذي منوط به المواطن وحده … إن تجريم العلاقات الجنسية الخاصة بين البالغين المرتضين التي لا يشوبها أي شبهة ضررٍ كبير تجعل الهدف من المادة متعسفًا وغير معقول.»

قررت محكمة دلهي العليا أن المادة ٣٧٧ من قانون العقوبات الهندي تنتهك مواد الدستور التالية: المادة ١٤ (الخاصة بالمساواة أمام القانون) والمادة ١٥ (الخاصة بمنع التمييز على أساس الدين أو العرق أو الطائفة أو الجنس أو محل الميلاد، مع قَبول المحكمة لدفوع مقدمي الالتماس التي ترى أن «الجنس» يتضمن «الميل الجنسي») والمادة ٢١ (الخاصة بحماية الحياة والحرية). وفي النهاية، أشار القاضيان إلى أنه «إن كان هناك أساسٌ دستوريٌّ واحد يمكن اعتباره الهدف الأساسي للدستور الهندي، فهو ذلك الخاص ﺑ «الشمول». تعتقد هذه المحكمة أن الدستور الهندي يعكس تلك القيمة المتجذرة بعمق في المجتمع الهندي، التي أخذت تنمو عبر العديد من الأجيال. يتمثل الشيوع الذي أبداه المجتمع الهندي منذ القدم، تقريبًا في كل منحًى من مناحي الحياة، في الاعتراف بوجود دور لكل فرد في المجتمع. إن هؤلاء الذين تراهم الأغلبية باعتبارهم «منحرفين» أو «مختلفين» لا يجري وفقًا لهذا المعيار استبعادهم أو نبذهم.»70

١٥

قوبل حكم محكمة دلهي العليا بترحيبٍ واسع من قبل الديمقراطيين الذين رأوه باعتباره الامتداد الطبيعي والمنطقي لوعدي الدستور الخاصين بالمساواة والتعددية. لكن حتى مع امتداد التعددية في اتجاهٍ ما، نظريًّا، فقد جرى إنكارها في اتجاهٍ آخر، عمليًّا. فبعد سنواتٍ عديدة من السلام النسبي، حدثت اضطرابات في ذلك الوقت مرةً أخرى في وادي كشمير.

في مايو ٢٠٠٨، جرى تخصيص نحو ٤٠ هكتارًا من أرض الغابات لإنشاء أماكن لإقامة الحجاج في الطريق المؤدي إلى أمارناث، وهو مزارٌ هندوسيٌّ شهير في جبال كشمير، لا يمكن الوصول إليه باستخدام السيارات، بل سيرًا على الأقدام أو على ظهر الخيول في رحلةٍ شاقة وطويلة. وعندما جرى الإعلان عن تخصيص الأراضي، خشي البعض من أن هذه كانت الخطوة الأولى في تنفيذ السياسة المعلنة لراديكاليِّي الهندوتفا التي تسعى لتوطين الهندوس على نحوٍ دائم في الوادي.

في الأسبوع الثالث من شهر يونيو، اندلعت احتجاجات في الوادي ضد جعل تلك الأراضي في خدمة الحج إلى أمارناث. أدى هذا إلى احتجاجاتٍ مضادة في منطقة جامو ذات الأغلبية الهندوسية، حيث هدد ناشطون بإغلاق الطريق الوحيد الذي يربط البر الرئيسي بالوادي. وبعد المزيد من الاحتجاجات ومقتل العديد من الكشميريين على يد الشرطة، جرى إلغاء الأمر الخاص بتخصيص الأراضي. وحينها دعا التحالف التقدمي المتحدد وشركاؤه إلى إضرابٍ عام على مستوى الهند. وقال قائد المجلس الهندوسي العالمي برافين توجاديا في دلهي: «إن لم يوجد حج إلى أمارناث، فلن يكون هناك أيضًا حج إلى مكة.» ودعا المجلس الهندوسي العالمي أيضًا لمقاطعة على مستوى الدولة لكل المنتجات والبضائع القادمة من كشمير.

استمرت الاحتجاجات والاحتجاجات المضادة خلال خريف عام ٢٠٠٨. وعندما حل الشتاء وانتقلت الطبقة السياسية للولاية إلى جامو من أجل الشتاء، هدأت الاضطرابات. ولكنها تركت جراحًا أخرى جديدة في العقل الجمعي لكشميريِّي الوادي، مولدة عقباتٍ جديدة في سبيل نظر الآخرين إليهم، ونظرهم هم إلى أنفسهم، باعتبارهم مواطنين هنديين كاملي الأهلية.71
كان عام ٢٠٠٩ هادئًا نسبيًّا في كشمير (وبالنسبة للكشميريين)، لكن ٢٠١٠ كان عامًا آخر من الاضطرابات. ففي يونيو، قُتل طالب في إطلاق نار من قِبل الشرطة. أدى هذا إلى خروج حشود من الشباب (وفي بعض الأحيان الفتية) إلى الشوارع للاحتجاج؛ مما أدى إلى مزيد من إطلاق النار من جانب الشرطة؛ وبالطبع المزيد من الاحتجاجات. قذف المحتجون الشرطة بالحجارة والطوب. واستُدعي الجيش حينها لاستعادة النظام. انتشرت القوات عبر الأزقة الضيقة لسريناجار والمدن الأخرى، بينما كان الكشميريون يراقبونهم، في تجهم، من منازلهم.72
استمرت الاحتجاجات، وعلى مدى فتراتٍ متقطعة، حدثت اشتباكات بين الشرطة والمحتجين في الشوارع. وأمسيات الجمعة كانت غالبًا الأوقات الأكثر توترًا، حيث يصبح الشباب الكشميريون، بعد سماعهم للخطب المحرضة في المساجد، في حالاتٍ مزاجيةٍ عدائية. وفي بعض الأحيان، كانت تُهاجَم أقسام الشرطة؛ مما استدعى ردًّا عنيفًا. وطَوال شهرَي يوليو وأغسطس، كانت أجزاءٌ كبيرة من سريناجار والمدن الأخرى في الغالب خاضعة لحظر تجول. وفي أحيانٍ مختلفةٍ متعددة، كانت الشرطة والقوات شبه العسكرية تطلق النار على الحشود التي كانت تصيح «الحرية، الحرية»؛ مما أدى إلى تزايدٍ منتظم في عدد القتلى والجرحى.73
اشتدت وتيرة الاحتجاجات أكثر في سبتمبر، عندما حُرقت نسخ من القرآن على يد قسٍّ متشدد في فلوريدا. أحرق كشميريون غاضبون مدرسةً مسيحية واشتبكوا مع قوات الشرطة التي أتت لاحتوائهم. لقد تجاوزت حصيلة القتلى في صيف ٢٠١٠ السبعين.74 حثَّ أحد الصحفيين الذي تابع عن كثب أحوال كشمير لعدة سنوات رئيس الوزراء على «اتخاذ خطواتٍ جريئة لإثبات استعداده للتعامل مع مظالم الكشميريين العاديين». كتب هذا المعلق يقول إن الدكتور سينج عليه ألا يجرح مشاعر الكشميريين «بالحديث عن برامج اقتصادية ومؤتمرات مائدةٍ مستديرة ومحادثات تضم كل الأحزاب». بدلًا من ذلك، «عليه دون تحفظ أن يُبديَ أسفه على حالات القتلى التي وقعت في تلك الأسابيع القليلة الماضية. وعليه أن يعترف، بصراحة وتواضع، بفشل الدولة الهندية في توفير العدالة في كل تلك السنوات. وعليه أن يطلب من شعب كشمير أن يعطوه فرصة لتعويضهم. لا توجد أي ضمانة لأن تهدأ حمم بركان الغضب العام التي كانت متدفقة.» إذ، بحسب ما كتب هذا الصحفي في أغسطس ٢٠١٠، إن لم يقم رئيس الوزراء «ببذل أقصى جهد لخلق مجالٍ سياسيٍّ ما اليوم، فلن يمكن التنبؤ إلى أين سيأخذنا الاندلاع التالي لبركان الغضب في الوادي».75
كانت النصيحة معطاة بنيةٍ حسنة، لكن كان من غير المحتمل أن تتبع. فالمؤسسة السياسية الهندية تركت على نحوٍ متزايد مسئولية وادي كشمير للجيش. وقد استمر الاحتجاج الشديد على قانون الصلاحيات الخاصة للقوات المسلحة، لكن لم يمتلك أي رئيس وزراء الشجاعة الكافية للتفكير في إلغائه، حتى في المناطق البعيدة عن الحدود حيث كانت الأعمال العدائية في تناقص. إن لم تكن الحكومة المركزية قادرة أو راغبة في تقديم يد الصداقة والمصالحة، فإن الكشميريين من جانبهم كانوا في ذلك الوقت على نحوٍ متزايد تحت تأثير نسخةٍ أصوليةٍ وهابية من الإسلام. كانت الصوفية التي كانت منتشرة في السابق في الوادي في تراجعٍ مستمر الآن. وما بدأ كنضال من أجل الحرية قد أخذ الآن صورة حربٍ مقدسة.76

١٦

في أغسطس ٢٠٠٩، أقرَّ مجلس الشعب قانون حق الأطفال في التعليم المجاني والإلزامي لعام ٢٠٠٩، الذي يكفل تعليمًا مجانيًّا وإلزاميًّا للأطفال فيما بين السادسة والرابعة عشرة من عمرهم. وعلى الرغم من أن هذا الالتزام قد كفله الدستور، فلطالما فشلت الحكومات في تنفيذه. في واقع الأمر، كانت المدارس الحكومية تدار بطريقةٍ سيئةٍ جدًّا لدرجة أنه حتى أسر الطبقة المتوسطة والفلاحين فضلت أن ترسل أبناءها للمدارس الخاصة؛ مما جعلهم في الغالب يتداينون. والآن، ومن أجل تجاوز حالات الفشل السابقة من قبل الدولة، كان من الآن فصاعدًا على كل المدارس الخاصة، فيما عدا تلك المعروف عنها أنها مؤسسات خاصة ﺑ «الأقليات»، أن تخصص ٢٥٪ من الأماكن الموجودة بها للأطفال المنتمين لفئاتٍ محرومة، والذين لن يدفعوا أي مصروفات.77
لاحقًا في نفس الشهر، اقترحت حكومة التحالف التقدمي المتحد أن تزيد النسبة المحجوزة للنساء على كل المستويات في نظام حكم البنشايات من ٣٣٪ إلى ٥٠٪، على الأقل. وحتى يصير هذا الاقتراح قانونًا، كان يجب إجراء تعديل على الدستور.78 وبعد عدة أشهرٍ لاحقة، وافقت الحكومة على اقتراحٍ جذري أكثر وهو تخصيص ٣٣٪ من المقاعد في البرلمان الوطني، وفي مجالس الولايات، للنساء. وقد كانت رئيسة حزب المؤتمر، سونيا غاندي، تدعم بقوة هذا الاقتراح.
في مارس ٢٠١٠، عُرض القانون الخاص بزيادة النسبة المحجوزة للنساء في نظام حكم البنشايات على مجلس الولايات، حيث لاقى معارضةً مريرة من بعض الشركاء المتحالفين مع حزب المؤتمر. وسحب حزب راشتريا جاناتا دال وزراءه من الحكومة احتجاجًا على القانون. فجرى التخلي عن القانون، خشية حدوث انشقاق في الائتلاف الحاكم.79
كان الهدف من تلك المساعي المتعلقة بتوفير التعليم للجميع وزيادة المقاعد المخصصة للنساء في البرلمان هو تعزيز زعم حزب المؤتمر بتمثيله لغالبية الهنود أو الحديث باسمهم. ولكن، بداية من نهاية ٢٠٠٩، وجدت حكومة الاتحاد نفسها وسط فضيحة تلو الأخرى. أولًا، كان هناك جدل حول تخصيص رخص اتصالات الجيلين الثاني والثالث، التي قال مكتب التحقيقات المركزي إنه جرى إعطاؤها لشركات خاصة «على أساس الأسبقية بأسعار عام ٢٠٠١، كانت منخفضة جدًّا، وذلك دون أن تكون هناك أي مزايدة تنافسية». وقد قدر مكتب التحقيقات المركزي الخسارة بالنسبة لخزانة الدولة بنحو ٢٢ ألف كرور روبية.80
كان الوزير المسئول عن قطاع الاتصالات هو إيه راجا من حزب درافيدا مونيترا كازاجام. ولكن الفضيحة التالية تورَّط فيها سياسيٌّ كبير من حزب المؤتمر، وهو سوريش كالمادي، الذي كان مسئولًا عن الاستعدادات الخاصة بدورة ألعاب الكومونولث، التي كان مقررًا أن تُقام في نيودلهي في ٢٠١٠. بدأت تظهر تقارير تقول بأنه جرى دفع مبالغَ كبيرة من المال من أجل الحصول على عقودٍ خاصة بالطرق والبناء لتلك البطولة.81

جرى تداول تلك المزاعم بقوة في الصحف والبرامج التليفزيونية. وفي محاولة لاحتواء الموقف، عينت الحكومة لجنة للتحقيق في قضية دورة ألعاب الكومونولث، واستقال إيه راجا من الوزارة. لكن فضائح الفساد أضرَّت بسمعة رئيس الوزراء الذي، رغم النزاهة المعروفة عنه، سمح لتلك الممارسات غير القانونية المزعومة بأن تحدث.

في أكتوبر ٢٠١٠، عُرض تقرير قدَّمه المراقب المالي ومراجع الحسابات العام على البرلمان. وقد قدَّر هذا التقرير الخسارة بالنسبة لخزانة الدولة نتيجة تخصيص ترخيص الجيل الثاني بنحو ١.٧٦ لاخ كرور روبية.82 وانخفضت مصداقية رئيس الوزراء وحكومته أكثر عندما، في فبراير ٢٠١١، شعر مكتب التحقيقات المركزي بأن لديه ما يكفي من الأدلة للقبض على إيه راجا.83

كان هناك حينئذٍ عددٌ كبير من القنوات التليفزيونية التي تتنافس بقوة من أجل اجتذاب المشاهدين. كان الفساد أمرًا مألوفًا في الماضي؛ لكن لم يكن من قبلُ قط واضحًا في العديد من المناصب العليا. لقد جعل ضلوع أفراد من الحكومة المركزية، التي يرأسها رئيس وزراء زعم أنه نزيه، من هذا مادةٍ مثيرة للاهتمام للصحفيين. وقد جعل القصةَ أكثر جاذبية إقرارُ هيئاتٍ حكومية مثل مكتب التحقيقات المركزي والمراقب المالي ومراجع الحسابات العام بحدوث مثل هذه الممارسات غير القانونية، وحقيقة أن المبالغ المالية الحقيقية أو المزعومة التي جرى اختلاسها كانت كبيرة على نحوٍ هائل، وحالات القبض على الوزراء الحكوميين. وخلال شتاء عام ٢٠١٠–٢٠١١، تصدرت الفضائح الخاصة بتراخيص الجيلَين الثاني والثالث ودورة ألعاب الكومونولث العناوين الرئيسية، في التليفزيون والصحافة، باللغتَين الإنجليزية والهندية، مع وجود متابعةٍ حثيثة لوسائل إعلام بلغاتٍ أخرى. وأضاف صمت رئيس الوزراء ورئيسة حزبه تجاه الأمر إلى الشعور بوجود مؤامرة والاعتقاد بتواطؤهما المزعوم في أعمال الفساد التي قام بها زملاؤهم في الحزب. وفي صيف ٢٠١١، وفي غضون سنتين من إعادة انتخابه، كان يواجه التحالف التقدمي المتحد أزمةً كبيرة في المصداقية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤