الفصل الثالث

تفاحات في السلة

الولايات الهندية تحكمها معاهدات … الولايات الهندية — إذا لم تنضم إلى هذا الاتحاد — ستظل على وضعها الحالي تمامًا.

السير ستافورد كريبس؛ سياسي بريطاني، عام ١٩٤٢

سنضطر إلى مصارحة الأمراء عاجلًا أم آجلًا؛ فنحن حاليًّا مخادعون بتظاهرنا بأنه يمكننا الاحتفاظ بتلك الولايات الصغيرة كلها، مع علمنا التام بأننا لن نتمكن من ذلك عمليًّا.

اللورد ويفل؛ نائب الملك في الهند، عام ١٩٤٣

١

قليلون هم الرجال الذين انشغلوا بكيفية تصوير التاريخ لهم مثل انشغال اللورد ماونتباتن؛ آخر من تولَّى منصب نائب الملك والحاكم العام في الهند؛ فحسبما علَّق صحفي مخضرم ذات مرة، كان ماونتباتن يتصرَّف كأنه «مسئول العلاقات العامة لشخصه».1 وكان أحد مساعدي ماونتباتن أكثر صراحة؛ إذ قال على رئيسه إنه «أكثر الرجال غرورًا على وجه البسيطة». فلطالما أصدر نائب الملك التعليمات للمصورين أن يلتقطوا صوره من ارتفاع ست بوصات فوق مستوى عينيه؛ لأن صديقه الممثل كاري جرانت كان قد أخبره بأنَّ تلك الطريقة لا تُظهر التجاعيد، وعندما زار المارشال مونتجومري الهند وتزاحَم الصحفيون لالتقاط صور الاثنين معًا، انزعج ماونتباتن من تقلُّد مونتجومري أوسمة أكثر منه.2
وبصفة عامة، كانت شخصية ماونتباتن واضحة التناقض مع سلفه؛ فقد لاحظ أحد موظفي الخدمة المدنية الذين عملوا تحت إمرة اللورد ويفل، أن «الغرور والخيلاء ومثل تلك النقائص لم تمسه أبدًا»؛ أي، إنَّ ويفل لم يكن يأبهُ أو يبالي بكيفية حكم التاريخ عليه.3 بيد أن أغلب الفضل للشروع في إنهاء الحكم البريطاني في الهند يعود إلى ويفل؛ ففي حين أنه كان متشككًا إزاء النخبة السياسية، كان شديد التعاطف مع تطلعات الهنود.4 إذ كان هو من افتتح المباحثات والمفاوضات عند انتهاء الحرب، وهو من ضغط من أجل وضع جدول زمني واضح للانسحاب، إلا أن خلفه المتباهي تُركتْ له مهمة وضع اللمسات الأخيرة المثيرة التي أعلنت قيام الدولتين الجديدتين.
fig3
بعد رحيل ماونتباتن عن الهند عمل جاهدًا لتقديم فترة حكمه كنائب الملك في الهند على أفضل نحو ممكن، فأمر بتأليف مجموعة من الكتب الرامية إلى تعظيم نجاحاته والتعتيم على إخفاقاته، أو أنه استخدم نفوذه للحثِّ على تأليفها. تلك الكتب تخلِّف انطباعًا بأن ماونتباتن كان حَكَمًا عاقلًا نجح في التوسُّط بين تلميذين متخاصمين، سواء كانا الهند وباكستان، أو المؤتمر الوطني والعصبة الإسلامية، أو غاندي ومحمد علي جناح، أو جواهر لال نهرو وفالابهاي باتيل.5 وتؤخَذ ادعاءات ماونتباتن مسلَّمًا بها، إلى حدِّ السخافة في بعض الأحيان، كما في الإشارة إلى أنَّ نهرو ما كان ليضمَّ باتيل إلى مجلس وزرائه ما لم يوصِ ماونتباتن بذلك.6
والغريب أن الإسهام الحقيقي الذي قدمه ماونتباتن إلى الهند والهنود لم يلق اهتمامًا كبيرًا من مدوِّني سيرته المبالغين في مدحه. كان ذاك هو الدور الذي اضطلع به في حل مشكلة جغرافية سياسية لم تواجهها دولة حديثة الاستقلال مثلها من قبلُ (ومن المستبعَد أنْ تواجهها دولة في المستقبل)؛ فعندما رحلت بريطانيا عن شبه القارة الهندية تركت وراءها أكثر من ٥٠٠ إقليم منفصل؛ اثنان منها كانا دولتي الهند وباكستان الحديثتي النشأة، والباقي كان مجموعة متنوعة من القبائل والولايات التي كوَّنت ما كان يُعرف باسم «ولايات الهند الأميرية». وإنَّ قصة تفتيت تلك الوحدات لقصة شيِّقة إلى أقصى حد؛ إذ رواها في بي مينون من وجهة نظر متحيزة منذ خمسين عامًا في كتابه «قصة اندماج الولايات الهندية»، ولكنها لم تُروَ في أي موضع آخر، ولا أي وقت آخر منذ ذلك الحين.7

٢

كانت الولايات الأميرية من الكثرة بحيث اختُلِف على عددها؛ فأحد المؤرخين قدَّر أنها كانت ٥٢١ ولاية، وآخر بأنها كانت ٥٦٥ ولاية. ووفقًا لأي تقدير، فقد تجاوز عددها ٥٠٠ ولاية. وتفاوتت أحجامها ومكانة كلٍّ منها تفاوتًا بيِّنًا؛ فمن ناحية كان ثمَّة ولايات كبيرة مثل كشمير وحيدر أباد، كلٌّ منها يعادل حجمها حجم دولة أوروبية كبيرة، ومن ناحية أخرى، كان ثمَّة إقطاعيات صغيرة جدًّا تشتمل على اثنتي عشرة قرية أو أقل.

نتجت الولايات الأميرية الكبرى عن طول مدة التاريخ الهندي بقدر ما نتجت عن السياسية البريطانية؛ فكثير من الولايات اشتهرت بصدِّها موجات الغزاة المسلمين الذين اجتاحوا شمال الهند فيما بين القرن الحادي عشر والقرن السادس عشر، بينما يعود الفضل في تاريخ ولايات أخرى إلى الاتصال بأولئك الغزاة؛ على سبيل المثال: نشأت أسرة آصف جاه؛ حاكمة حيدر أباد، في أوائل القرن الثامن عشر، باعتبارها ولاية تابعة لإمبراطورية المغول العظيمة، إلا أنه كان ثمة ولايات أخرى — مثل كوتش بيهار في الشرق، وجارهوال في الشمال بمنطقة الهيمالايا — لم يمسها النفوذ الإسلامي تقريبًا.

وأيًّا كان التاريخ الماضي لتلك الولايات، فالفضل في شكلها وسلطاتها حاليًّا يعود إلى البريطانيين؛ فشركة الهند الشرقية — التي بدأت مؤسسةً تجارية — مضت تدريجيًّا تجاه شَغل منصب السيادة على الهند وولاياتها. ساعدها على ذلك تراجع دور المغول بعد وفاة أورنجزيب عام ١٧٠٧؛ فقد ارتأت الشركة في الحكام الهنود حلفاء استراتيجيين ذوي نفع في إيقاف طموح عدوهما المشترك — الفرنسيين — عند حدِّه. فرضت الشركة معاهدات على تلك الولايات تقرُّ بأن الشركة هي «السلطة العليا»؛ ومن ثم بينما كانت المناطق التي حكمها «النوابون» (لقب كان يُمنَح لحكام المقاطعة أو الأمراء في زمن المغول) أو «المهراجات» ملكًا لهم، احتفظ البريطانيون لأنفسهم بحق تعيين الوزراء والتحكُّم في من يخلفونهم، والحصول على مخصص مالي كبير نظير تقديم الدعم الإداري والعسكري. وفي كثير من الحالات، نقلت المعاهدات أيضًا مناطق مهمة من الولايات الهندية إلى البريطانيين؛ فليس من قبيل المصادفة أنه — عدا ولايات كاثياوار وقبيلتين في الجنوب — لم تحظَ أي ولاية هندية بساحل. وقد فاقمت التبعية الاقتصادية من حدة التبعية السياسية؛ إذ اعتمدت الولايات على الهند البريطانية للحصول على المواد الخام، والسلع الصناعية، وفرص العمل.8
وقد كان للولايات الأميرية الكبرى سككها الحديدية وعملاتها وطوابعها الخاصة، وهي شكليات سمح لها بها التاج البريطاني. ولكن قليلًا منها فقط كان به صناعات حديثة، وأقل من ذلك توافرت لديه صور التعليم الحديثة؛ فقد كتب مراقب بريطاني في أوائل القرن العشرين أنه، بصفة عامة، كانت الولايات «بؤرًا للرجعية، وقلة الكفاءة، والسلطة الاستبدادية الجامحة التي يمارسها أحيانًا أفراد متوحشون مختلُّون عقليًّا».9 وكان ذلك إلى حدٍّ ما رأي حزب الحركة القومية الرئيسي أيضًا؛ حزب المؤتمر. ومنذ عشرينيات القرن العشرين راح الحزب يضغط على حكام الولايات حتى يضاهوا البريطانيين، على الأقل، في السماح بنُذُر يسير من التمثيل السياسي. وقد شملت مظلة الحزب الاتحاد الشعبي لولايات عموم الهند، الذي تبعته الجمعيات الشعبية الفردية للولايات بدورها.

وقد كان الأمراء سيئي السمعة حتى في أوج مجدهم؛ إذ كان يُنظَر إليهم، بصفة عامة، على أنهم ضعيفو الشخصية، ومنغمسون في الشهوات، ومولعون بخيول السباق، وزوجات الآخرين، وقضاء الإجازات في أوروبا. ورأى كلٌّ من المؤتمر الوطني والبريطانيين أنهم لا يبالون بالمسائل الإدارية المملة. كان ذلك صحيحًا في معظمه، ولكن كان ثمة استثناءات؛ فقد وهب مهراجا ميسور ومهراجا بارودا إمارتيهما جامعات رفيعة المستوى، وتصدَّيا للتحيز الطبقي، وشجَّعا إنشاء المؤسسات التجارية الحديثة، وثمة مهراجات آخرون حافظوا على التقاليد العظيمة للموسيقى الهندية الكلاسيكية.

وسواء كانوا صالحين أم فاسدين، مسرفين أم مراعين، استبداديين أم ديمقراطيين نوعًا ما، فبحلول أربعينيات القرن العشرين وجد الأمراء جميعًا أنفسهم أمام مشكلة مشتركة؛ ألا وهي مستقبلهم في الهند الحرة؛ ففي الجزء الأول من عام ١٩٤٦ أجرت الهند البريطانية انتخابات متوالية حاسمة، ولكنها لم تمسَّ الولايات الأميرية. ونتيجة لذلك، كان ثمة «عداء متنامٍ إزاء حكومات الولايات الأميرية».10 إلا أن وضعها الدستوري ظل يكتنفه الغموض؛ فقد انصبَّ اهتمام البعثة الوزارية لعام ١٩٤٦ على مسألة الهندوس والمسلمين، أو مسألة الهند المتحدة مقابل باكستان، وبالكاد ذُكرت الولايات من الأساس. وبالمثل، تجنَّب بيان ٢٠ فبراير ١٩٤٧ — الذي أعلن رسميًّا أن الحكم البريطاني في سبيله للانتهاء — التطرُّق لتلك المسألة. ويوم ٣ يونيو، أعلن البريطانيون تاريخ الجلاء النهائي، وكذلك إقامة دومنيونين، ولكن ذلك البيان أيضًا لم يوضِّح وضع الولايات، وحينها بعض الحكام «استغرقوا في أحلام جامحة يتمتعون فيها بسلطة مستقلة داخل دولة هندية متعددة الأجزاء».11

وحينئذ دقَّ ناقوس الخطر في الوقت المناسب تمامًا.

٣

خلال عامي ١٩٤٦ و١٩٤٧، رأس جواهر لال نهرو الاتحاد الشعبي لولايات عموم الهند، وأشار مدوِّن سيرته إلى أن نهرو «كان يملك آراءً قوية بخصوص موضوع الولايات ذاك؛ فقد كان يبغض استبداد الإقطاعيين والكبت الكامل للمشاعر الشعبية. واحتمال أن يُنَصِّب أولئك الأمراء الصوريون … أنفسهم ملوكًا مستقلين أورثه حنقًا بالغًا».12 وقد شجع مسئولون من الإدارة السياسية ذلك الاحتمال بتصويرهم للأمراء أنه بمجرد أن يرحل البريطانيون يمكنهم — إن رغبوا — أن يطالبوا بالاستقلال.
من جانبهم، لم يرُق نهرو للأمراء، بل إنهم كانوا يخشونه. ولحسن الحظ، كان المؤتمر الوطني قد أحال مشكلة الولايات إلى الإداري البراجماتي فالابهاي باتيل، وخلال ربيع عام ١٩٤٧ أقام باتيل سلسلة من حفلات الغداء حثَّ فيها ضيوفه الأمراء على مساعدة المؤتمر الوطني في صياغة دستور جديد للهند، وذلك عن طريق إرسال مندوبين إلى الجمعية التأسيسية، التي بدأت مداولاتها في دلهي في ديسمبر من عام ١٩٤٦. وفي الوقت ذاته، كتب باتيل إلى الدواوين (رؤساء الوزراء) الأكثر نفوذًا من الأمراء، مستحثًّا إياهم على مطالبة رؤسائهم بالتوافق مع الحزب الذي سوف يحكم الهند.13
كان أحد أوائل الأمراء الذين انضموا إلى صف باتيل هو مهراجا بيكانير. كان ديوانه هو كيه إم بانيكار؛ وهو مؤرخ مرموق أمكنه أن يرى — أوضح من غيره — أن «حقبة فاسكو دي جاما في تاريخ آسيا»14 شارفت على الانتهاء. لم يكن من سبيل لمقاومة القوى القومية، وإن لم يتوصَّل إلى حل وسط معها فسوف تكتسحه. ومن ثم فقد ناشد مهراجا بيكانير في الأسبوع الأول من أبريل ١٩٤٧ أقرانه الأمراء علنًا أن ينضموا إلى الجمعية التأسيسية، وقال إن دخولهم الجمعية من شأنه أن «يوضِّح للجميع أن الأمراء الهنود لا يعملون لصالح ولاياتهم وبلدهم الأم فحسب، وإنما أنهم في المقام الأول أبناء الهند الوطنيون الأبرار».15
والواقع أن أول ولاية تنضم إلى ركب الجمعية التأسيسية في فبراير كانت ولاية بارودا. وبعد النداء الذي أطلقته بيكانير، انضمت ١٢ ولاية أخرى، منها ولايات كثيرة في راجستان؛ فبانيكار وبيكانير «قادتا أمراء راجبوت في بادرة جديدة من بوادر إجلال دلهي التي صار يحكمها — عوضًا عن المغول أو البريطانيين — رجل هندي قدير. والأرجح — من وجهة نظرهم — أنهم كانوا مصيبين في عقدهم اتفاقًا مع المؤتمر الوطني».16

كانت ولايات عدة في راجستان — منها بيكانير — ستتشارك حدودها مع باكستان، واستتبع ذلك — إضافةً إلى ذكريات المعارك القديمة التي خاضتها مع الملوك المسلمين — استعدادها للتفاهم مع المؤتمر الوطني في مرحلة مبكرة. إلا أن الولايات الأخرى البعيدة عن الحدود لم تكن متأكدة من مبلغ سلطة دلهي بعد جلاء بريطانيا. أليس من الممكن أن يرتد الوضع إلى ما كان عليه إبان القرن الثامن عشر، عندما كانت شبه الجزيرة مقسَّمة إلى عشرات الولايات المتمتِّعة بالسيادة إلى حد ما؟

في ٢٧ يونيو، أنشأت حكومة الهند وزارة جديدة للولايات، حلَّت محل الدائرة السياسية القديمة التي تسبب عهدُها بمناصرته للأمراء ومعاداته للمؤتمر الوطني في ضررٍ بالغ.17 وتقرَّر أن يصير باتيل الوزير المسئول عنها، الذي اختار في بي مينون — رجل مالايالي قصير القامة، يقظ، حاد الذكاء من مالابار — سكرتيرًا له. وعلى غير المعتاد بالنسبة إلى الرجال الذين شغلوا ذلك المنصب، فقد كان مينون موظفًا عاديًّا ترقَّى في المناصب. وعوضًا عن أن يكون عضوًا في دائرة الخدمة المدنية الهندية الراقية — مثلما كان غيره من سكرتيري الحكومة — كان قد انضم إلى حكومة الهند موظفًا صغيرًا، وارتقى السلم الوظيفي بخطى ثابتة؛ فقد شغل منصب المفوض المعني بالإصلاح والمستشار الدستوري لنواب الملك المتعاقبين، واضطلع بدور رئيسي في صياغة قانون استقلال الهند.
وقد ناداه أقرانه في إدارة الخدمة الهندية ساخرين: «بابو (لقب شبيه بأفندي) مينون»، إشارةً إلى أصله المتواضع. والواقع أنه مع انتقال الحكم من يدي بريطانيا إلى المؤتمر الوطني، لم يكن ثمة رجل أقدر منه على الإشراف على ذلك الجانب الأصعب من المرحلة الانتقالية. وقد كان أول إجراء اتخذه مينون هو إثناء الحكومة البريطانية عن مساندة مطالب الاستقلال الخيالية للولايات، وقال للمسئولين في لندن: «أي إشارة إلى استعداد حكومة جلالة الملك للاعتراف باستقلالها، ستضفي صعوبة جمَّة على جميع المحاولات الرامية إلى توحيد صف الولايات والدومنيونين الجديدين في كافة المسائل الحيوية موضع الاهتمام المشترك.»18
إضافةً إلى ما سبق، كان مينون في وضع مثالي للتوسُّط بين رئيسه القديم ماونتباتن ورئيسه الجديد فالابهاي باتيل. وقد عملوا فيما بينهم على وضع مسودة صكِّ انضمام، تَقبَل الولايات بمقتضاها تسليم مقاليد الدفاع والشئون الخارجية والاتصالات إلى حكومة حزب المؤتمر. وفي ٥ يوليو، أصدر باتيل بيانًا ناشد فيه الأمراء أن يقبلوا طلب الاتحاد الهندي فيما يتعلق بتلك الموضوعات الثلاث وينضمُّوا إلى الجمعية التأسيسية. وعلى حد تعبيره، فإن «البديل عن التعاون في سبيل الصالح العام» هو «الأناركية والفوضى». وخاطب باتيل وطنية الأمراء طالبًا منهم العون في النهوض «بتلك الأرض المقدسة إلى المكانة التي تليق بها بين دول العالم».19
وفي ٩ يوليو، التقى كلٌّ من باتيل ونهرو نائبَ الملك، وسألاه «عما ينوي فعله لمساعدة الهند فيما يتعلق بأكثر المشكلات التي تواجهها إلحاحًا؛ أي العلاقات مع الولايات الأميرية»، فرد ماونتباتن أنه سيولي تلك المسألة «أشدَّ الاهتمام». وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، أتى غاندي للقاء ماونتباتن. وقد ذكر نائب الملك أن المهاتما «طلب إليَّ أن أبذل قصارى جهدي؛ لضمان ألا يخلِّف البريطانيون وراءهم تركة من البلقنة (التفتُّت) والِاضْطِراب يوم ١٥ أغسطس بتشجيع الولايات على إعلان استقلالها».20
وقد ألحَّ ثلاثي المؤتمر الوطني على ماونتباتن حتى يعضِّد موقفهم في مواجهة الولايات، وقد أدى تلك المهمة على أكمل وجه، لا سيما في الخطاب الذي ألقاه أمام مجلس الأمراء يوم ٢٥ يوليو، وظهر فيه بأبهى حلة وقد ازدان صدره بصفوف من الأوسمة العسكرية. وقد ذكر أحد مساعديه المجلِّين له أنه «ارتدى زيه العسكري كاملًا، مزدانًا بمجموعة من الأوسمة والنياشين المقصود بها إبهار حتى أولئك الأشخاص المتمرِّسين في الأبهة الأميرية».21

بدأ ماونتباتن حديثه بإخبار الأمراء أنَّ قانون استقلال الهند حرَّر «الولايات من كافة التزاماتها تجاه التاج البريطاني». وقد صارت الآن مستقلة عمليًّا، أو بمعنى آخر، وحيدة شريدة؛ فقد انفصمت عرى الصلات القديمة، ولكن «إذا تعذَّر الاستعاضة عن تلك السلطة، فلن ينشأ عن ذلك سوى الفوضى»، وهي فوضى «ستضرب الولايات أولًا». ونصحهم بإقامة علاقات مع أقرب الدولتين الجديدتين إليهم. وقد أعرب عن قصده دون مواربة قائلًا: «لا يمكنكم الفرار من حكومة الدومنيون التي صارت جارتكم، مثلما لا يمكنكم الفرار من الرعايا الذين تقع مسئولية رعايتهم على عاتقكم.»

كان صكُّ الانضمام الذي طُلب إلى الأمراء التوقيع عليه يتضمن التنازل عن مسئولية الدفاع، إلا أن ماونتباتن قال إن الولايات إذا استقلَّت فسوف «تنقطع عن أي مصادر إمداد من العتاد أو السلاح الحديث». وتتنازل الولايات أيضًا بموجب الصك عن مسئولية الشئون الخارجية؛ فالأمراء «لا يمكن أن يرغبوا في تحمل نفقات إرسال سفراء أو وزراء أو قناصل إلى تلك البلدان الأجنبية كلها». وتتنازل أيضًا عن الاتصالات، ولكنها «مجرد وسيلة للإبقاء على شريان الحياة في شبه القارة كلها». وقال ماونتباتن إن عرض المؤتمر الوطني تضمَّن ترك «نفوذ داخلي كبير» للحكام، مع تخليصهم من المسائل التي لا يمكنهم التعامل معها بمفردهم.22

كان حديث ماونتباتن إلى مجلس الأمراء عملًا ألمعيًّا، وهو يمثل — في رأيي — أهم أعماله كافة في الهند؛ فقد أقنع الأمراء أخيرًا بأن بريطانيا لم تَعُدْ حاميتهم ولا راعية شئونهم، وأن حصولهم على الاستقلال مجرَّد سراب.

وقد مهَّد ماونتباتن لخطابه برسائل شخصية إلى أهم الأمراء، وأتبعها بمواصلة الضغط عليهم حتى يوقِّعوا على صك الانضمام. قال لهم إنهم إذا وقَّعوه قبل ١٥ أغسطس، فسيتسنَّى له الاتفاق مع المؤتمر الوطني على منحهم شروطًا لائقة. أما إذا لم يستمعوا له، فقد يواجهون «وضعًا متفجرًا» عقب الاستقلال، عندما يصب عليهم القوميون جامَ غضبهم.23
بحلول يوم ١٥ أغسطس، كانت جميع الولايات تقريبًا قد وقَّعت صك الانضمام، وفي الوقت ذاته كانت بريطانيا قد رحلت بلا رجعة، وحينها نكص المؤتمر الوطني عن تعهده بأنه إذا وقَّع الأمراء على النقاط الثلاث المحددة، «فسوف نحترم تمامًا تواجدها المستقل في الأمور الأخرى».24 إذ استعادت الجمعيات الشعبية نشاطها، وقامت حركة في ولاية مَيْسور للمطالبة بإقامة «حكم ديمقراطي كامل»، وعرَّض ثلاثة آلاف شخص أنفسهم للحبس.25 وفي بعض الولايات في كاثياوار وأوريسا، استولى المحتجُّون على مقرَّات المصالح الحكومية، وعلى المحاكم والسجون.26
أحسن فالابهاي باتيل وحزب المؤتمر استغلال تهديد الاحتجاجات الشعبية حتى يدفعوا الأمراء إلى الإذعان. كانوا قد انضموا بالفعل، والآن طُلِب منهم أن «يندمجوا»؛ أي أن يفككوا الكيانات المستقلة لولاياتهم ويندمجوا في اتحاد الهند. وفي المقابل، يُسمح لهم بالاحتفاظ بألقابهم، ويُمنحون راتبًا سنويًّا دائمًا. أما إذا لم يمتثلوا، فسيواجهون خطر قلاقل خارجة عن نطاق السيطرة (وقد يستحيل السيطرة عليه) من الرعايا الذين تحررت مشاعرهم المكبوتة بحلول الاستقلال.27
وطوال الجزء الأخير من عام ١٩٤٧، طاف في بي مينون أرجاء الهند مستدرجًا الأمراء واحدًا تلو الآخر. وكما كتب مراسل صحيفة «نيويورك تايمز» في نيودلهي، فإن التقدم الذي أحرزه:

يمكن قياسه من خلال سلسلة من عناوين الصحف المتواضعة التي تبعته كالتالي:

أولًا: عنوان صغير فيه «السيد في بي مينون يزور ولاية شوتا هزري»، ثم في منشور المحكمة اليومي للحاكم العام، يأتي ذِكر موجز كالآتي: «سعادة مهراجا شوتا هزري وصل»، وسرعان ما يخرج العنوان الرئيسي «اندماج شوتا هزري».28
وكما يتضح من ذلك السرد، فقد كان باتيل ومينون يقومان بالأعمال التحضيرية، ولكن اللمسات الأخيرة كان يضعها ماونتباتن في صورة مقابلة أخيرة مثَّلت في بعض الأحيان تنازلًا ضروريًّا لإرضاء غرور الأمراء. وقد زار الحاكم العام أيضًا أهمَّ المشيخات؛ حيث أشاد «بالقرار الحكيم الخليق برجال الدولة» المتعلق بالاتحاد مع الهند.29

تولَّى ماونتباتن الجانب الرمزي من عملية اندماج الأمراء في الهند. أما مينون فتولَّى المضمون. وفي كتابه، وصف مينون ببعض التفصيل المفاوضات المضنية مع الحكام. انطوى الحديث على قدر كبير من الإطراء؛ إذ ادعى أحد الحكام أنه سليل الإله راما، وآخر أنه سليل الإله كريشنا، بينما قال ثالث إنه من سلالة خالدة، باركها حكماء السيخ.

وقد عُرضت على كل حاكم «مخصصات من خزانة الدولة» نظير أرضه؛ حيث كان يُحدَّد حجم المخصَّصات بمقدار العائد الذي تحققه الولاية، فالولايات الأكبر ذات الموقع الأكثر استراتيجية كان لا بد أن تحصل على صفقة أفضل. إلا أنه كان ثمة عوامل أخرى ذات صلة؛ مثل: عراقة الأسرة الحاكمة، والهالة الدينية التي قد تحيط بها، وأعرافها. وإلى جانب المخصصات السنوية، سُمِح للحكام بالاحتفاظ بقصورهم وغيرها من الممتلكات الخاصة، والأهم من ذلك أنه سُمِح لهم الاحتفاظ بألقابهم، فكان من شأن مهراجا شوتا هزري أن يظلَّ مهراجا شوتا هزري، ويورِّث اللقب لابنه أيضًا.30
وبغية طمأنة الأمراء، سعى باتيل إلى إضافة ضمانة دستورية متعلقة بمخصصاتهم من الخزانة، إلا أن المدفوع — مثلما أشار مينون — لم يكن شيئًا يُذكَر مقارنةً بالمكاسب المتحققة عنه. إضافةً إلى ضمان الوحدة السياسية للهند، كان اندماج الولايات — من الناحية الاقتصادية — غنيمة محققة. ووفقًا لحسابات مينون، في حين أن الحكومة ستدفع نحو ١٥٠ مليون روبية إلى الأمراء، ففي غضون عشرة أعوام من شأن العوائد المتحققة عن ولايات أولئك الأمراء أن تبلغ عَشَرة أمثال ذلك المبلغ على الأقل.31

وتبعت مهمة الحصول على أراضي الولايات مهمة أخرى لا تقل عنها صعوبة تتمثَّل في الاندماج الإداري؛ ففي معظم الولايات، كانت نظم ريع الأراضي والنظم القضائية بالية، ولم يكن ثمة تمثيل شعبي من أي نوع، فعمدت وزارة الولايات إلى نقل موظفين مدربين في الهند البريطانية لتلك الولايات حتى يضعوا نظمًا جديدة، وأشرفت كذلك على تعيين وزارات مؤقتة قبل إجراء انتخابات شاملة.

وقد نفَّذ باتيل ومينون أكثر من حيلة من حيل البريطانيين؛ فنفَّذا حيلة «فرِّق تَسُد»، باستمالتهما بعض الأمراء إلى صفِّهما مبكرًا، مثيرين البلبلة لدى الآخرين. كما أنهما قد لعبا على أوتار الغرور الطفولي للمهراجات، سامحين لهما بالاحتفاظ بألقابهم، ومانحين إياهم ألقابًا جديدة في بعض الأحيان (ولهذا عُين عدة مهراجات حكَّامًا للمقاطعات). ولكنهما — على غرار البريطانيين في القرن الثامن عشر — أبقيا المصلحة الذاتية نُصب عينيهما على الدوام، وهي: المزايا المادية، مثلما أخبر باتيل موظفي وزارة الولايات: «إننا لا نريد نساءهم وحُليَّهم، وإنما نريد أرضهم.»32

في غضون عامين لا أكثر، كان ما يربو على ٥٠٠ مشيخة مستقلة، بعضها عتيق، قد تحلل إلى أربع عشرة وحدة إدارية هندية جديدة. كان ذلك إنجازًا هائلًا بكل المقاييس، وقد أتت به الحكمة والبصيرة والعمل الشاق، وقدرٌ ليس بضئيل من التحايل.

٤

عندما تناقش فالابهاي مع ماونتباتن في مشكلة الولايات للمرة الأولى، طلب إليه إحضار «سلة كاملة من التفاح» بحلول تاريخ الاستقلال. سأله ماونتباتن عما إذا كان قد يرضيه ٥٦٠ تفاحة عوضًا عن ٥٦٥ تفاحة كاملة، فأومأ رجل حزب المؤتمر العتيد برأسه موافقًا.33 وفي النهاية ثلاث ولايات فقط هي التي سببت متاعب قبل ١٥ أغسطس، وثلاث ولايات أخرى بعد ذلك التاريخ.

كانت ترافنكور أول ولاية تشكك في حق حزب المؤتمر في خلافة بريطانيا باعتباره السلطة العليا. كانت تلك الولاية تحتل موقعًا استراتيجيًّا في الطرف الجنوبي القصيِّ من شبه القارة الهندية، وكان شعبها قد تلقَّى أفضل تعليم في البلاد، وازدهرت فيها التجارة البحرية، واحتوت على احتياطيات مُكتشَفة حديثًا من المونازيت الذي يُستخلَص منه الثوريوم، الذي يُستخدم في إنتاج الطاقة الذرية والقنابل الذرية. وكان السير سي بي راماسوامي آير يشغل منصب الديوان في ترافنكور، وهو محامٍ لامع طموح تسلَّم ذلك المنصب منذ ستة عشر عاما، وكان يُظَنُّ أنه الحاكم الحقيقي للولاية، وأن المهراجا والمهراني كانا طوع بنانه.

ومنذ فبراير ١٩٤٦، أعلن آير بوضوح عن اعتقاده بأن ترافنكور — عندما يرحل البريطانيون — ستصير «وحدة مستقلة تمامًا»، مثلما كانت قبل عام ١٧٩٥، عندما وقَّعت أول معاهدة مع شركة الهند الشرقية. وفي صيف عام ١٩٤٧، عقد سلسلة من المؤتمرات الصحفية طالبًا تعاون أهل ترافنكور في سعيه إلى الاستقلال، وذكَّرهم بعراقة أسرتهم الحاكمة وإغراق ترافنكور أسطولًا هولنديًّا عام ١٧٤١ (على ما يبدو كانت تلك الهزيمة البحرية الوحيدة التي ألحقتها دولة آسيوية بقوة أوروبية يومًا)؛ فكان القصد من الاستعانة بماضٍ يفوح منه عبق المجد الإقليمي هو التصدي للقومية الهندية في الحاضر. وقد كان للمؤتمر الوطني — وكذلك الحزب الشيوعي الهندي — تواجد قوي في الولاية، إلا أن الديوان أصرَّ على أنه من ١٥ أغسطس ١٩٤٧ فصاعدًا «ستصير ترافنكور بلدًا مستقلًّا»، وأضاف متحديًا: «ليس من سبب محدد يجعلها أقل من الدنمارك وسويسرا وسيام.»

والمثير للاهتمام أن محمد على جناح رحَّب بسعي ترافنكور إلى الاستقلال، فأرسل يوم ٢٠ يونيو برقية إلى آير أشار فيها إلى أنَّ باكستان «مستعدة لإقامة علاقات مع ترافنكور قائمة على المنفعة المتبادلة». وبعد ثلاثة أسابيع، كتب الديوان إلى حكومة مدراس يحيطها علمًا بأن ترافنكور تتخذ خطوات بغية «تأكيد وضعها ككيان مستقل». إلا أنها كانت مستعدة لتوقيع معاهدة بين ترافنكور «الدولة المستقلة ذات السيادة» و«حكومتي الدومنيون» لكلٍّ من الهند وباكستان.

يوم ٢١ يوليو، كان ديوان ترافنكور على موعد لمقابلة نائب الملك في دلهي. وفي مساء اليوم السابق، التقى دبلوماسيًّا بريطانيًّا كبيرًا وأخبره أنه يأمل في نيل الاعتراف من الحكومة البريطانية، وسأل عما إذا كانت المملكة المتحدة ستتدخل في حالة رفض الهند إمداد ترافنكور بالمنسوجات. ويبدو أن ساسة من لندن كانوا قد شجَّعوا آير في طموحاته؛ إذ رأوا في ترافنكور المستقلة مصدرًا لمادة خام ذات أهمية حيوية بالنسبة إلى الحرب الباردة المقبلة. والحقيقة أن حكومة ترافنكور كانت قد وقعت اتفاقية بالفعل مع حكومة المملكة المتحدة من أجل إمدادها بالمونازيت. وفي لندن، نصح وزير الإمدادات حكومته بتجنب الإدلاء بأي تصريح من شأنه أن «يعضِّد موقف الدومنيونين الهنديين في محاربة سعي ترافنكور إلى الاستقلال»، وقال الوزير إنه بما أن تلك الولاية تملك «أكبر مخزون نعرفه من رمل المونازيت»؛ فمن وجهة النظر البريطانية «سيكون احتفاظ ترافنكور باستقلالها السياسي والاقتصادي — على الأقل في الوقت الحالي — ميزة».

يوم ٢١ يوليو، ذهب آير إلى المقابلة المقررة مع ماونتباتن. اجتمعا أكثر من ساعتين، استغلهما الديوان في شن هجوم ضارٍ على غاندي ونهرو وحزب المؤتمر. وبعد أن «أفرغ مكنونات صدره»، نائب الملك «تركه يرحل، وأوكل أمره إلى في بي مينون»، الذي حثه على توقيع صك الانضمام، ولكن الديوان قال إنه يفضِّل التفاوض على إبرام معاهدة مع الهند عوضًا عن ذلك.

عاد آير إلى ترافنكور دون أن يفقد فيما يبدو عزمه على الاستقلال، ثم إنه بينما كان في طريقه لحضور حفل موسيقي يوم ٢٧ يوليو، هاجمه رجل يرتدي السروال العسكري القصير، وسدد إليه طعنة في وجهه، وأخرى في جسده، ومن ثم أُخضِع لجراحة طارئة. (اتضح أن من شرع في قتله كان عضوًا في حزب كيرالا الاشتراكي.) كانت تبعات ذلك الحادث فورية، ومن وجهة النظر الهندية مُرضية إلى أقصى حد؛ فعلى حد تعبير نائب الملك في تقريره الأسبوعي إلى لندن: «فتح تنظيم الاتحاد الشعبي لولايات عموم الهند النار واستسلمت ترافنكور فورًا.» فمن فراشه بالمستشفى نصح آير المهراجا «بسلوك سبيل التوافق والتفاهم»، الذي لم يتبعه هو نفسه «لاستبدادي وحسمي المفرط». وفي ٣٠ يوليو، أبرق المهراجا إلى نائب الملك معلنًا اعتزامه الانضمام إلى الاتحاد الهندي.34

ولاية أخرى ترددت في مسألة الانضمام كانت بوبال. كانت تقع في وسط الهند، وتمتعت بالتوليفة المعتادة المكوَّنة من سكان معظمهم من الهندوس وحاكم مسلم. ومنذ عام ١٩٤٤، عمل نواب بوبال مستشارًا لمجلس الأمراء. كان معروفًا عنه معارضته الشديدة لحزب المؤتمر، وقُربَه بالقدر ذاته من جناح والعصبة الإسلامية؛ فعندما أفصح البريطانيون بعد الحرب عن نيتهم الرحيل عن الهند، ملأ ذلك الاحتمال نفس النواب يأسًا. كان يرى في ذلك «أحد أعظم المآسي التي حلت بالبشرية، إن لم تكن أعظمها على الإطلاق»؛ فالآن «صارت الولايات والمسلمون وعامة الشعب أجمع، الذين كانوا يركنون إلى العدالة البريطانية … فجأة بلا معين ولا نظام ولا نصير»، فلم يعد أمام النواب سوى «الموت في سبيل مسلمي العالم».

وردت تلك السطور في رسالة كتبها في نوفمبر ١٩٤٦ إلى المستشار السياسي للورد ويفل. وبعد أربعة أشهر، حل ماونتباتن محل ويفل في منصب نائب الملك، وقد صادف أن ماونتباتن كان رفيقًا قديمًا لنواب بوبال في لعب البولو. كانت صداقتهما عمرها خمسة وعشرون عامًا، وزعم ماونتباتن ذات مرة أن النواب كان «ثاني أعز صديق له في الهند».35 لكن سرعان ما اتضح أنهما صارا ينتميان إلى معسكرين مختلفين؛ ففي منتصف يوليو ١٩٤٧، كتب ماونتباتن إلى بوبال — مثلما كتب إلى سائر الأمراء — ناصحًا بالانضمام إلى الهند، فرد عليه النواب برسالة طويلة — أقرَّ بأنها ذات لهجة «عاطفية» — بدأها بالإعراب عن «صداقة وفية لم ينفصم عراها» مع التاج الانجليزي، وهي صلة تعمد حكومة جلالة الملك إلى كسرها من طرف واحد. ولمن سلَّمت بريطانيا بوبال وزميلاتها؟ إلى حزب غاندي ونهرو المكروه. وسأل نواب بوبال غاضبًا: «هل ينبغي لنا أن نستسلم لقادة حزب المؤتمر دون قيد أو شرط وندعهم يُملُون شروطهم؟»

وانتقلت الرسالة من الاتهام بالخيانة إلى التحذير، فقال النواب إنه في الهند، كان حائط الصد الأساسي أمام «المد الشيوعي المتصاعد» هو أصحاب الأملاك. وقد صرَّح حزب المؤتمر بالفعل بنيته القضاء عليهم. وإلى يسار ذلك الحزب، وقف الحزب الشيوعي الهندي الذي يتحكم في اتحادات عمال النقل؛ فيمكن للشيوعيين إن أرادوا أن يصيبوا شبه القارة بالشلل والمجاعة. وقال نواب بوبال لصديقه: «أصدقك القول، إنه ما لم تقدم أنت وحكومة جلالة الملك الدعم للولايات وتحول دون زوالها من على خارطة الهند، فسرعان ما ستجدون أنفسكم أمام دولة هندية واقعة تحت السيطرة الشيوعية … فإذا وجدت الأمم المتحدة نفسها ذات يوم أمام ٤٥٠ مليون شخص إضافي تحت القبضة الشيوعية، فسيكون لديها مبرر كاف لإلقاء اللوم على بريطانيا العظمى لوقوع تلك الكارثة، وطبعًا أنا لا أود أن يقترن اسمك بذلك.»

وقد ألمح إلى أنه — مثل ترافنكور — سوف يعلن استقلال بوبال، وأنه لن يحضر على أي حال اجتماع مجلس الأمراء المقرر عقده يوم ٢٥ يوليو. ويوم ٣١ كتب ماونتباتن مجددًا إلى النواب يدعوه مرة أخرى إلى توقيع صك الانضمام، وذكَّره بما قاله في الخطبة التي ألقاها؛ إنه ما من حاكم سيتمكن من «الهرب» من الدومنيون الأقرب إليه. وقلَب الجدل حول الشيوعية رأسًا على عقب بحنكة؛ فقال إنه يقر بوجود خطر المد الشيوعي، ولكن الأفضل أن يتحد حزب المؤتمر والأمراء في التصدِّي له، فالرجال مثل باتيل «يخشون الشيوعية بقدر ما تخشاها، وإن نالوا تأييد مصادر التأثير المتَّزنة جميعها مثل طبقة الأمراء، فقد يتمكنون من درء الخطر الشيوعي».36
وحينئذ كان نواب بوبال قد بلغته أخبار اجتماع ٢٥ يوليو؛ فسمع بالانطباع الرائع الذي خلَّفه صديقه القديم، وبموجة الانضمامات المتنامية من زملائه الأمراء، فاستسلم واكتفى بطلب رشوة صغيرة لكبريائه، وسأل عما إذا كان بإمكان نائب الملك أن يضغط على باتيل لكي يطيل المهلة الزمنية المتاحة التي تبلغ عشرة أيام، بحيث يعلن انضمام بوبال «بعد» ١٥ أغسطس لا قبلها. قال نواب بوبال إن ذلك «من شأنه أن يسمح لي بأن أوقع على حكم إعدامنا بضمير مرتاح». (الواقع أن باتيل قال إنه لا يمكنه أن يسمح بأي استثناءات، فقال ماونتباتن إنَّه إذا وقَّعت بوبال صك الانضمام يوم ١٤ أغسطس، فسيحتفظ به ثم يُسلِّمه إلى باتيل بعد يوم ٢٥ أغسطس.)37

والحالة الأغرب كانت حالة ولاية جودبور؛ وهي ولاية قديمة كبيرة ذات ملك هندوسي وأغلبية سكانية هندوسية أيضًا؛ ففي حفل غداء أقامه ماونتباتن في منتصف يوليو، كان مهراجا جودبور الشاب قد انضم إلى غيره من أمراء راجبوت الذين أشاروا إلى استعدادهم للانضمام إلى الهند، ولكن سرعان ما غرس أحدهم — لم يتضح من — في رأسه فكرة أنه بما أن الولاية تقع على حدود باكستان، فقد يحصل على شروط أفضل منها؛ فأُعدَّ اجتماعًا بينه وبين جناح، ربما بإيعاز من نواب بوبال. وفي ذلك الاجتماع، عرض زعيم العصبة الإسلامية منح جودبور مرافق الموانئ كاملة في كراتشي، واستيراد الأسلحة دون قيود، وإمداد ربوعها التي ضربتها المجاعة بالحبوب من السِّند. وثمة رواية تذهب إلى أن جناح ناول المهراجا ورقة بيضاء وقلم حبر وقال له: «فلتملِ شروطك كاملة.»

لو كانت جودبور قد تحولت إلى صف باكستان، لكان ذلك فتح الباب أمام احتمال أن تحذو الولايات المتاخمة لها — مثل جايبور وأودايبور — حذوها، إلا أن تلك الخطة نمت إلى علم كيه إم بانيكار، وطلب إلى فالابهاي باتيل التدخل؛ فاتصل باتيل بحاكم جودبور ووعده بحرية استيراد السلاح أيضًا، فضلًا عن إمداده بمخزون لائق من الحبوب. وفي الوقت ذاته، أخبر نبلاء جودبور وشيوخ قراها المهراجا أنه لا يمكن أن يتوقَّع أن يرتاحوا للتواجد في دولة مسلمة، وسأله حاكم ولاية ملاصقة أيضًا — جايسالمر — عمَّا سيحدث إن انضم إلى باكستان ثم ثار الشغب بين الهندوس والمسلمين، فإلى أي صفٍّ سينحاز حينها؟

وبذلك رضخ مهراجا جودبور بدوره، ولكن ليس قبل تمثيلية تحدٍّ قام بها في اللحظة الأخيرة، فعندما قُدِّم إليه صك الانضمام في غرفة الانتظار بمكتب نائب الملك، أخرج المهراجا مسدسًا وصوَّبه إلى رأس السكرتير قائلًا: «لن أقبل إملاءاتك.» ولكنه هدأ بعد دقائق قليلة ووقع على الصك.38

٥

من الولايات التي لم توقع الصك حتى ١٥ أغسطس كانت جوناجاد، التي تقع في شبه جزيرة كاثياوار في غرب الهند. تلك الولاية — على غرار بوبال — كان بها نواب مسلم يحكم أغلبية هندوسية. كانت جوناجاد محاطة من ثلاث جهات بولايات هندوسية أو بالهند، ولكنها على الجهة الرابعة — وهذا ما ميزها عن بوبال — كان لها ساحل طويل، وكان ميناؤها الرئيسي فيرافال يقع على بُعد ٣٢٥ ميلًا بحريًّا من مدينة كراتشي، الميناء الباكستاني المهم، وعاصمة باكستان في ذلك الوقت. وكان حاكم جوناجاد عام ١٩٤٧ — محبة خان — دائم الشغف بشيء واحد: الكلاب. تضمَّنت حديقة الحيوان التي كان يقتنيها ألفي كلب أصيل، منهم ستة عشر كلبَ صيدٍ موفَد خاصة لحراسة القصر. وعندما تزاوج اثنان من كلاب الصيد الأثيرين لديه، أعلن ذلك اليوم عطلةً رسمية، وأنفق على «زواجهما» ٣٠٠ ألف روبية؛ أي قرابة متوسط الدخل السنوي لأحد رعاياه ألف مرة.

داخل حدود جوناجاد كان مزار الهندوس المقدس لسومناث، فضلًا عن جيرنار، التلِّ الذي بنى الجاينيون على قمته معابد مهيبة من الرخام لعبادتهما؛ فاجتذب كلٌّ من سومناث وجيرنار آلاف الحُجَّاج من سائر أنحاء الهند. كما أنَّ غابات جوناجاد كانت هي الملاذ الأخير للأسود الآسيوية، التي حَظِيَت بحماية محبة خان وأسلافه، الذين أثنوا حتى كبار المسئولين البريطانيين على صيدها.39
وفي صيف عام ١٩٤٧، سافر نواب جوناجاد لقضاء عطلة في أوروبا. وأثناء سفره، حل السير شاه نواز بوتو — سياسي بارز في العصبة الإسلامية من السِّند وثيق الصلة بجناح — محلَّ الديوان القائم.40 وحينما عاد النواب، ضغط عليه بوتو لكي يبقى خارج الاتحاد الهندي. وفي ١٤ أغسطس — يوم تسليم السلطة — أعلنت جوناجاد أنها سوف تنضم إلى باكستان. كان ذلك جائزًا من الناحية القانونية، وإن لم يكن منطقيًّا من الناحية الجغرافية، وتعارض أيضًا مع نظرية «الدولتين» الخاصة بجناح، بما أن ٨٢٪ من سكان جوناجاد كانوا هندوسيين.

درست باكستان طلب النواب بضعة أسابيع، ثم قبلت انضمام جوناجاد يوم ١٣ سبتمبر. ويبدو أنها قررت ذلك اعتقادًا منها في إمكانية استخدام جوناجاد في المقايضة على جامو وكشمير؛ فتلك الولاية أيضًا لم تكن قد انضمت إلى أي من الدومنيونين حتى ١٥ أغسطس. كان بها مهراجا هندوسي يحكم أغلبية مسلمة؛ أي، إنها من حيث التكوين كانت جوناجاد المعكوسة.

وقد أثار قَبول باكستان انضمام جوناجاد إليها سخط الزعماء الهنود. وأصاب ذلك «وترًا حساسًا» لدى فالابهاي باتيل بالذات؛ إذ إنه كان من أبناء تلك المنطقة، وكان يتحدث اللغة ذاتها (الجوجاراتية) التي يتحدثها سكان جوناجاد؛41 فكان أول رد فعل له هو ضمان انضمام ولايتين تابعتين لجوناجاد، هما: مانجرول وبابرياواد؛ فقد ادعى زعيماهما الهندوسيان أنَّ لهما الحق في الانضمام إلى الهند؛ ونفى نواب جوناجاد ذلك، زاعمًا أنهما لا بد أن يحصلا على موافقته أولًا بصفتهما تابعتين له، فأخذت الحكومة الهندية صف الولايتين التابعتين، وأرسلت قوة عسكرية صغيرة لمساندتهما.
وفي منتصف شهر سبتمبر، ذهب في بي مينون إلى جوناجاد للتفاوض مع النواب، ولكن الأخير امتنع عن مقابلته، متمارضًا، فاضْطُرَّ مينون إلى الاكتفاء بمقابلة الديوان عوضًا عنه، وأخبر السير شاه نواز أنه ينبغي لجوناجاد من الناحيتين الثقافية والجغرافية أن تنضم إلى الهند. لم يناقشه السير شاه نواز في ذلك، ولكنه شكا إليه تأجيج «الكتابات المتشددة في الصحافة الجوجاراتية» مشاعر السكان المحليين، وقال إنه شخصيًّا يحبِّذ طرح المسألة للاستفتاء.42

في الوقت نفسه، أُقيمَت «حكومة مؤقتة لجوناجاد» في بومباي، رأسها سمالداس غاندي؛ أحد أبناء إخوة غاندي، وأحد سكان المنطقة، فأصبحت تلك «الحكومة» وسيلة لإثارة السكان داخل جوناجاد. فرَّ النواب مذعورًا إلى كراتشي آخذًا معه اثني عشر كلبًا من الكلاب الأثيرة لديه، وأُلقيت المسئولية على عاتق الديوان. في ٢٧ أكتوبر، كتب السير شاه نواز إلى جناح قائلًا إنه في حين أنه «عقب الانضمام إلى باكستان مباشرةً، تلقيت أنا ومعاليه مئات الرسائل من المسلمين بالأساس تهنِّئنا على قرارنا، اليوم أصبح أشقاؤنا لا مُبالين باردين. يبدو أنَّ مسلمي كاثياوار فقدوا كل حماسهم لباكستان».

وبعد عشرة أيام، أخبر السير شاه نواز الحكومة الهندية أنه يرغب في تسليم إدارة جوناجاد لها، فتمت عملية نقل السلطة رسميًّا يوم ٩ نوفمبر، إلا أن ماونتباتن في دلهي كان مغتاظًا من عدم مشاورته في الأمر قبل تسليم الولاية؛ فنظَّم الهنود حينئذ — جزئيًّا بهدف إرضائه ولكن أيضًا ترسيخًا للمشروعية — استفتاءً شعبيًّا، فنتج عن الاستفتاء الذي أُقيم في ٢٠ فبراير ١٩٤٨ تصويت ٩١٪ من الناخبين لصالح الانضمام إلى الهند.43

٦

ولاية حيدر أباد بدورها كان حاكمها مسلمًا وأغلبية سكانها هندوسًا، ولكنها مثَّلت غنيمة أكبر بكثير من بوبال أو جوناجاد؛ فقد امتدت الولاية عبر هضبة الدكن في وسط شبه القارة، وفاقت مساحتها ٨٠ ألف ميل مربع، بينما زاد تعدادها عن ١٦ مليون نسمة موزَّعين على ثلاث مناطق لغوية: المنطقة التيلوجوية، والمنطقة الكانادية، والمنطقة الماراثية. كانت حيدر أباد محاطة بالمقاطعات الوسطى من الشمال، وبومباي من الغرب، ومدراس من الجنوب والشرق. وعلى الرغم من أنها كانت ولاية حبيسة بلا سواحل، فقد كانت مكتفية ذاتيًّا من الغذاء والقطن والبذور الزيتية والفحم والأسمنت، إلا أن البنزين والملح كان لا بد من استيرادهما من الهند البريطانية.

نشأت حيدر أباد ولايةً تابعة للمغول عام ١٧١٣، وقد جرى العرف على تسمية حاكمها «النظام». كان ٨٥٪ من سكانها هندوسًا، إلا أن المسلمين تحكَّموا بمقاليد الجيش والشرطة ودائرة الخدمة المدنية. كان النظام نفسه يمتلك نحو ١٠٪ من أراضي الولاية، بينما يتحكَّم كبار ملاك الأراضي في أكثر الأراضي الباقية. بلغ دخل الحاكم من حيازته ٢٥ مليون روبية سنوية ريعًا، في حين كانت تمنحه خزانة الولاية ٥ ملايين روبية أخرى. وكان ثمة نبلاء فاحشو الثراء، إلا أن غالبية المسلمين — كغالبية الهندوس — كانوا عمَّالًا بالمصانع وحرفيين وعاملين وفلاحين.44
في عامي ١٩٤٦ و١٩٤٧، كان الحاكم هو النظام السابع — مير عثمان علي — الذي اعتلى العرش منذ عام ١٩١١. كان أحد أغنى أغنياء العالم، ولكنه كان أيضًا أبخلهم؛ إذ نادرًا ما كان يرتدي ثيابًا جديدة، وكان لباسه المفضل منامة غير مكوية وقميصًا وطربوشًا باهت اللون، وكان «عادةً ما يقود سيارة قديمة متهالكة شبيهة بعلبة الصفيح، طراز عام ١٩١٨، ولم يكرم وفادة أي من زائريه قط».45
كان النظام عاقدًا العزم على التشبُّث بأكثر من ثروته الشخصية؛ فما أراده لولايته — عندما يرحل البريطانيون — كان الاستقلال، مصحوبًا بإقامة علاقات مباشرة بينه وبين التاج البريطاني. وقد استعان في قضيته بالسير والتر مونكتون؛ مستشار الملك القانوني وأحد أرفع المحامين مقامًا في إنجلترا. (كان من ضمن موكِّلي مونكتون السابقين الملك إدوارد الثامن، الذي طلب مشورة مونكتون أثناء أزمة تنازله عن العرش.) كان النظام مستعدًّا لدفع مبلغ باهظ نظير خدمات ذلك المحامي الإنجليزي، بلغ ٩٠ ألف جنيه بريطاني في السنة، حسبما قيل. وفي اجتماع مع نائب الملك، مونكتون «شدد على أن معاليه سيواجه صعوبة جمة في سلك أي طريق من المرجح أن ينتقص من سيادة النظام المستقلة». وعندما اقترح ماونتباتن أن تنضم حيدر أباد إلى الجمعية التأسيسية، أجابه المحامي قائلًا إنَّ الهند إنْ بالغت في الضغط، فموكله «قد ينظر جديًّا في خيار الانضمام إلى باكستان».46
وإنَّ طموحات النظام — لو كانت تحقَّقت — لكان من شأنها أن تفصل شمال الهند عن جنوبها فعليًّا. ومثلما أشار الخبير الدستوري رجينالد كوبلاند، فإن «الهند يمكنها أن تعيش إنْ بُتِر طرفاها المسلمان في الشمال الغربي والشمال الشرقي، ولكن هل يمكنها أن تحيا دون الوسط؟» وعبَّر باتيل عن ذلك المعنى بمزيد من الصراحة قائلًا إنَّ استقلال حيدر أباد بمنزلة «سرطان في معدة الهند».47

في تلك المواجهة بين النظام وحكومة الهند، كان لكلٍّ منهما وكيله الخاص؛ فالهنود كان لديهم حزب مؤتمر ولاية حيدر أباد — الذي تشكَّل عام ١٩٣٨ — الذي مارس ضغوطًا شديدة من أجل إقامة حكومة تمثيلية داخل حدود الولاية. أما النظام فكان لديه «اتحاد المسلمين»، الذي رغب في صون مكانة المسلمين في الإدارة والسياسة. وكان الحزب الشيوعي الهندي طرفًا فاعلًا مهمًّا أيضًا؛ إذ كان له حضور قوي في منطقة تيلانجانا بولاية حيدر أباد.

في عامي ١٩٤٦ و١٩٤٧، تعالت أصوات الأطراف الثلاثة؛ فطالب حزب مؤتمر الولاية بأن تحذو حيدر أباد حذو سائر ولايات الهند، ونظَّم قادته احتجاجات في الشوارع، معرِّضين أنفسهم للحبس. وفي المقابل، اكتسى اتحاد المسلمين بصبغة راديكالية على يد زعيمه الجديد قاسم رضوي؛ وهو محامٍ درس في عليكرة وكان عنده إيمان قوي بفكرة «عِزَّة المسلمين». تحت قيادة رضوي، دعم الاتحاد جماعة شبه مسلحة تُدعَى «رضا كار» ذرَع أعضاؤها شوارع حيدر أباد جيئةً وذهابًا حاملين السيوف والأسلحة النارية.48
وفي الوقت ذاته، هبَّت انتفاضة في الريف بقيادة وتوجيه من الشيوعيين، فصودرت أراضٍ كبيرة في جميع أنحاء تيلانجانا وأُعيد توزيعها على الفلاحين المتعطشين للأرض. في البداية، صادر المتمردون أيَّ حيازة تزيد عن ٥٠٠ فدان، ثم خفضوا الحد إلى ٢٠٠ فدان، ولاحقًا ١٠٠ فدان، كما أنهم قضوا على ممارسة السُّخرة، وشكَّل الشيوعيون ما يشبه حكومة موازية في مناطق نالجوندا وورانجال وكاريمناجار، وما يربو على ألف قرية «تحررت عمليًّا من حكم النظام».49
في ١٥ أغسطس، رفع عمال حزب المؤتمر العلم الوطني في شتى أنحاء ولاية حيدر أباد، فقُبِضَ على منفِّذي العملية وزُجَّ بهم في السجن.50 وعلى الجانب الآخر، ازدادت جماعة رضا كار ضراوةً، فأكدت دعمها لإعلان الاستقلال الذي أصدره النظام، وطبعت منشورات ووزَّعتها جاء فيها: «حرِّروا حيدر أباد من أجل الحيدر أباديين»، و«لا اتفاق مع الاتحاد الهندي».51
وقد تلقَّت طموحات النظام تشجيعًا من حزب المحافظين في بريطانيا؛ فالسير والتر مونكتون نفسه كان عضوًا بارزًا في حزب المحافظين، وقد كتب إلى زعماء الحزب طالبًا إليهم دعم موكِّله. زعم مونكتون أنَّ حزب المؤتمر يمارس نوعًا من «سياسة القوة» تعد «نسخة طبق الأصل من السياسات التي انغمس فيها هتلر وموسوليني». وبما أن ماونتباتن كان على وفاق تام مع نهرو وباتيل، فقد بات على حزب المحافظين «التأكد من أنه إذا كان لا مناص من تلك الخيانة المشينة لأصدقائنا وحلفائنا القدامى، فإنها على الأقل لن تُترَك دون عقاب أمام ضمير العالم».52
وإن رؤية حيدر أباد تحت حكم النظام على أنها بولندا، وحزب المؤتمر على أنه معادل لهتلر لتُبِلبل الفكر، ولكن حتى ونستون تشرشل سمح لنفسه بتصديق ذلك التشبيه؛ ربما لأنه لطالما كَرِه غاندي. قال تشرشل في خطابه بمجلس العموم إنَّ البريطانيين عليهم «مسئولية شخصية … ألَّا يسمحوا لولاية أعلنوا أنها ذات سيادة أن تُخنَق أو تُجوَّع أو يتمكَّن منها العنف فعليًّا». وألقى آر إيه باتلر — النجم الصاعد لحزب المحافظين — بثقله مع تشرشل قائلًا إن بريطانيا ينبغي أن تلقي بثقلها في سبيل تحقيق «مطالب حيدر أباد العادلة المتعلقة باحتفاظها باستقلالها».53
وقد استمدَّ النظام — وجماعة رضا كار بدرجة أكبر — دعمًا لقضيته من باكستان أيضًا، وبلغ الأمر بجناح حدَّ أن أخبر اللورد ماونتباتن أن حزب المؤتمر إذا «حاول الضغط على حيدر أباد بأي شكل، فسوف يهبُّ مئات الملايين من المسلمين هَبَّة رجل واحد دفاعًا عن أعرق أسرة حاكمة مسلمة في الهند».54

وحينها قال النظام إنه سيوقع معاهدة مع الهند، ولكن ليس صكَّ انضمام. وفي أواخر نوفمبر ١٩٤٧، وافق على توقيع «اتفاقية تجميد الوضع»، التي استمرت بمقتضاها الترتيبات التي كانت قائمة بين حيدر أباد والراج البريطاني مع الحكومة الوريثة له. فكسب الطرفان بذلك بعض الوقت؛ بالنسبة إلى النظام حتى يعيد النظر في سعيه إلى الاستقلال، والهنود حتى يجدوا سبلًا أفضل لإقناعه بالانضمام.

وبمقتضى تلك الاتفاقية، أوفد كلٌّ من النظام والحكومة الهندية نوابًا عنهما في أرض الآخر. كان النائب عن الحكومة الهندية هو كيه إم مونشي؛ الحليف المؤتمَن لدى فالابهاي باتيل، وكان النظام قد عين ديوانًا جديدًا في شهر نوفمبر، مير لائق علي، وهو رجل أعمال ثريٌّ معروف عنه تعاطفه مع باكستان. عرض لائق علي تضمين بعض الممثلين عن الهندوس في حكومته، ولكن حزب مؤتمر الولاية رأى ذلك العرض هزيلًا جدًّا ومتأخرًا للغاية. وعلى أي حال، كانت السلطة الحقيقية قد انتقلت آنذاك إلى جماعة رضا كار وقائدها قاسم رضوي. وبحلول مارس ١٩٤٨، كان عدد أعضاء اتحاد المسلمين قد بلغ مليونًا، عُشرهم مُدرَّبون على حمل السلاح، واتخذ كل عضو في جماعة رضا كار موثقًا من الله بأن «يحارب حتى الرمق الأخير للحفاظ على غَلَبة القوة الإسلامية في الدكن».55
في أبريل عام ١٩٤٨، زار أحد مراسلي صحيفة «ذا تايمز» اللندنية حيدر أباد، وأجرى حوارًا مع قاسم رضوي، ووجد أنه «خطيب شعبي متطرِّف ذو ملكات تنظيمية عظيمة، فهو ممتاز في دور «المحرِّض»، وآسِر حتى عند لقائه وجهًا لوجه».56 أما رضوي فرأى نفسه الزعيم المنتظر لدولة إسلامية، زعيمًا على شاكلة جناح بالنسبة إلى الحيدر أباديين، وإن كان أكثر تشدُّدًا. وقد احتلت لوحة الزعيم الباكستاني مكانًا بارزًا على جدار حجرته. وأخبر رضوي صحفيًّا هنديًّا أنه يكنُّ إعجابًا شديدًا لجناح، وأضاف أنه «متى راودتني الشكوك أذهب إليه للمشورة، وهو لا يضنُّ عليَّ بها أبدًا».
يظهر رضوي في الصور بلحيةٍ كثَّة، فقد بدا «أشبه بمفستوفيليس (رمز الشيطان في حكايات شعبية ألمانية) شرقي»،57 وكان أكثرَ ملامحه لفتًا للانتباه هو عيناه الناريَّتان «اللتان تشع منهما نيران التطرف». كان يزدري حزب المؤتمر ويقول: «لا نريد حكم البراهمة أو التجار الهندوس هنا.» وعندما سُئِلَ عن الجانب الذي سينحاز إليه إذا ما حدث صدام بين باكستان والهند، أجاب رضوي بأن باكستان قادرة على تدبُّر أمرها، ولكنه أردف قائلًا: «أينما تضررت مصالح المسلمين، فستجدون اهتمامنا وتعاطفنا. ذلك ينطبق على فلسطين أيضًا بالطبع؛ فحتى إن تضررت مصالح المسلمين في الجحيم، فستميل قلوبنا تعاطفًا معهم.»58
نظرت جماعة رضا كار إلى المعركة الدائرة بين دلهي وحيدر أباد من منظور هندوسي إسلامي. أما المؤتمر الوطني فارْتَأَى فيها صدامًا بين الديمقراطية والاستبداد. والحقيقة أنها اشتملت على الأمرين معًا. وكان مواطنو حيدر أباد هم ضحايا ذلك الاشتباك الذين مثَّلت لهم الشهور التالية على أغسطس ١٩٤٧ فترة من انعدام الأمن البالغ.59 شرع بعض الهندوس في الفرار إلى المناطق الملاصقة لهم من مدراس، وتزامن ذلك مع توافد المسلمين من المقاطعات الوسطى إلى حيدر أباد؛ فأولئك المسلمون — الذين كانوا أميِّين في معظمهم — بَلَغتهم روايات مخيفة عن هجمات على إخوانهم في الدين في البنغال والبنجاب، ولكنهم لم يستوعبوا على ما يبدو أنهم سيكونون أقلية في حيدر أباد أيضًا؛ فعلى حد تعبير مراقب مستقل، ربما «كانت ثقة هؤلاء المهاجرين المسلمين في حماية قوات النظام والعرب لهم أكبر من ثقتهم في إدارة مقاطعات الاتحاد». وقيل عن هؤلاء المسلمين إنهم بدورهم طردوا هندوسًا من ديارهم في حيدر أباد بمساعدة رجال النظام. كما كان ثمة مزاعم أيضًا عن وضع خطة لجعل المسلمين أغلبية في الولاية؛ فعلى ما يبدو باتت الأحياء الهندوسية في مدن مثل أورانج أباد وبيدار وحيدر أباد «تبدو مهجورة».60
وخلال ربيع وصيف عام ١٩٤٨، تنامى التوتر؛ إذ وردت مزاعم عن تهريب أسلحة من باكستان إلى حيدر أباد — في طائرات قادها مرتزقة بريطانيون — واستيراد أسلحة من أوروبا الشرقية. وكتب رئيس وزراء مدراس إلى باتيل مخبرًا إياه أنه يجد صعوبة في التعامل مع فيض اللاجئين القادمين من حيدر أباد. وأرسل كيه إم مونشي تقارير صارخة عن غدر «النظام»، و«فكرته الراسخة» المتعلقة بالاستقلال، وإشارته إلى حكومة الهند بوصف «أوغاد دلهي»، وعن «الدعاية السامة التي تُنقَل ليل نهار عن الاتحاد الهندي في الخطب وإذاعة «النظام» وصحفه ومسرحياته وما إلى ذلك».61
حينها ماطل الجانب الهندي بعض الشيء. وفي يونيو ١٩٤٨، عقد في بي مينون ولائق علي سلسلة من الاجتماعات في دلهي، فطلب مينون أن تقيم الولاية حكومة تمثيلية، وتتعهد بإجراء استفتاء شعبي بشأن الانضمام، واقتُرحت استثناءات عدة للحفاظ على كرامة «النظام» تضمنت الاحتفاظ بقواتٍ، لكنه لم يَقبل أيًّا منها. حينئذ حاول ديوان حيدر أباد السابق الموقَّر — السير ميرزا إسماعيل — أن يتوسط بين الطرفين؛ فنصح «النظام» بألا يحيل قضية حيدر أباد إلى الأمم المتحدة (وهو ما هدد لائق علي بفعله)، وأن ينتزع نفسه من براثن جماعة رضا كار وينضم إلى الهند، فقد أخبر معاليه أنَّ حيدر أباد «يجب أن تدرك ضعف موقفها».62
وفي ٢١ يونيو ١٩٤٨، استقال اللورد ماونتباتن من منصب الحاكم العام. قبل ذلك بثلاثة أيام، كان قد كتب إلى النظام يحثه على التنازل ودخول التاريخ؛ «باعتبارك صانع السلام في جنوب الهند، ومنقذ ولايتك وأسرتك الحاكمة وشعبك». أما إذا تمسَّك بموقفه، فسوف «يجلب على نفسه إدانة كل ذي عقل».63 اختار النظام ألا يصغي إليه، ولكن برحيل ماونتباتن، صار اتخاذ إجراءات حاسمة أيسر على باتيل؛ ففي ١٣ سبتمبر، أُرسلت فرقة جنود هندية إلى حيدر أباد، وفي غضون أقل من أربعة أيام كانت قد فرضت سيطرتها على الولاية بأكملها، وكان من ضحايا المعركة اثنان وأربعون جنديًّا وما يربو على ألفي عضو من جماعة رضا كار.
وفي ليلة ١٧ سبتمبر، تحدَّث «النظام» في الإذاعة، والأرجح أن يكون كيه إم مونشي هو من كتب له خطابه، فأعلن حظر جماعة رضا كار، ونصح رعاياه قائلًا: «عيشوا في سلام ووئام مع بقية شعب الهند.» وبعد ستة أيام، أصدر إعلانًا آخر في الإذاعة قال فيه إن رضوي ورجاله «استولوا على الولاية» بأساليب «هتلرية» و«أشاعوا فيها الإرهاب». وزعم أنه كان «متلهِّفًا للوصول إلى تسوية مشرِّفة مع الهند، لكن تلك الجماعة … دفعتني إلى رفض العروض التي كانت حكومة الهند تقدِّمها من حين لآخر».64
وسواء حدث ذلك مصادفةً أم عمدًا، فقد اتَّخذت الهند إجراءها ضد حيدر أباد بعد وفاة الحاكم العام لباكستان بيومين. كان جناح قد تنبَّأ بأن يهبَّ ١٠٠ مليون مسلم في حالة تهديد ولاية «النظام». لم يحدث ذلك، ولكن المشاعر تأجَّجت في بعض أنحاء باكستان؛ ففي كراتشي، خرجت مسيرة احتجاجية من ٥ آلاف شخص متوجهة إلى المفوضية السامية الهندية، وخرج المفوض السامي — نصير غاندي القديم — إلى الشارع محاولًا تهدئتهم، فهتفوا ردًّا عليه: «أيها الجبناء، لقد هاجمتمونا وقد تُوُفِّيَ شيخنا لتوِّه.»65
في شهر يونيو، كان أحد كبار زعماء حزب المؤتمر قد أخبر النظام أنه إنْ تصالح مع الاتحاد، فقد يصير معاليه «سعادة سفير الهند قاطبة في موسكو أو واشنطن».66 في الواقع لم يُعرَض عليه ذلك؛ ربما لأن ملبَسَه أو أسلوب استضافته لزائريه — أو كليهما — لم يكونا لائقين بمبعوث دبلوماسي، ولكن بادرة الإذعان الأخيرة من طرفه كانت مكافأتها أن صار حاكم ولاية حيدر أباد الهندية الجديدة.
وبعد مضيِّ عامين على انتهاء نظام الحكم القديم، زار الصحفي خواجة أحمد عباس من بومباي حيدر أباد، فوجد أن نافذة ستوديو تصوير راجا ديندايال ذي المائة عام، غطت فيها صور «محرِّر» المدينة — الكولونيل جيه إن تشودري من الجيش الهندي — على صور النظام. والآن في حيدر أباد، صارت قبعة حزب المؤتمر البيضاء «غطاء رأس الطبقة الحاكمة الجديدة، وأثارت نفس الانبهار الذي كانت تثيره العمامة المخروطية لآل آصف جاه قبل دخول القوات الهندية».67

٧

في أغسطس ١٩٤٧، نشر مسئول بريطاني مخضرم كان قد خدم في شبه القارة الهندية مقالًا يحمل عنوانًا واعدًا هو «الهند والمستقبل». كانت الهند البريطانية قد قُسِّمت لتوِّها إلى دولتين جديدتين، وسأل الكاتب: «هل سيقف الانقسام عند ذلك الحد؟» أم أنَّ شبه القارة ستتفتت «إلى عدد لا يُحصَى من الدول الصغيرة المتناحرة؟» بدا عدم الاستقرار ملازمًا لباكستان، وكان ثمة احتمال كبير بأن تتحول الأجزاء الشمالية الغربية منها إلى دولة مستقلة تحت اسم «بشتونستان». لم تكن الهند أكثر استقرارًا بالضرورة، ومن ثم كان «يعتقد كثير من المراقبين الأكفاء أنَّ مقاطعة مدراس ستنفصل في نهاية المطاف لتصير دولة مستقلة تمامًا». أما عن الولايات الأميرية، فأصغرها وأضعفها لن يكون أمامه خيار سوى الانضمام إلى الهند، إلا أن «الولايات الجنوبية الكبيرة — ولا سيما حيدر أباد ومَيْسور وترافنكور — وضعها مختلف تمام الاختلاف؛ إذ يمكنها — إن لزم الأمر — أن تحتفظ بكيان مستقل، ومن المستبعَد أن تردعها تهديدات حزب المؤتمر الأخيرة عن اتخاذ قرارها في هذا الصدد على أساس مصلحتها الشخصية فحسب».

وأنهى ذاك المتنبئ كلامه قائلًا: «من المرجَّح أن تنقسم الهند البريطانية في النهاية إلى ثلاثة أو أربعة بلدان، إلى جانب اتحاد فيدرالي مكوَّن من الولايات الهندية الجنوبية، وسيمثِّل ذلك ما يشبه رِدَّةً إلى النمط السائد في الهند إبان القرن السادس عشر.»68
علمًا بالفرص المتاحة آنذاك — والمعارضة — فقد كان دمج تلك الولايات المتعددة المتفرقة إنجازًا مذهلًا بحق، وقد تمت المهمة بسلاسة وشمولية بالغتين إلى حدِّ أن الهنود سرعان ما نسوا أن ذلك لم يكن بلدًا واحدًا فيما مضى، وإنما ٥٠٠ بلد. وخلال عامي ١٩٤٧ و١٩٤٨ كان خطر التفكك ملموسًا بحقٍّ، إثر وجود «خلايا الدسائس» على غرار بوبال وترافنكور و«نقاط الهجوم الاستراتيجية» مثل حيدر أباد، ولكن بعد مرور خمسة أعوام لا أكثر على تنازل آخر مهراجا عن أرضه، كان الهنود «قد صاروا يعتبرون الهند الموحَّدة أمرًا مسلمًا به إلى حدِّ أنَّ مجرد تخيُّل وضع مختلف الآن صار يتطلب مجهودًا ذهنيًّا كبيرًا».69

إن وضع الأمراء الهنود في التكوين السياسي الهندي «كان بلا نظير أو شبيه في أي مؤسسة عرفها التاريخ»، إلا أنه من خلال «مفاوضات سلمية وديَّة» تفتت المشيخات، وصار «يصعب تمييزها عن الوحدات الديمقراطية الأخرى التي يتألف منها الاتحاد الهندي».

وردت تلك الكلمات في كتيِّب أصدرته الحكومة الهندية عام ١٩٥٠. وقد كانت تستحق تهنئة ذاتها عن جدارة؛ إذ تحوَّل ٥٠٠ «مركز استبداد إقطاعي إلى وحدات حرة وديمقراطية ضمن الاتحاد الهندي» دون خسائر كبيرة في الأرواح، و«تلاشت النقاط الصفراء على الخريطة» التي مثَّلت تلك المشيخات، و«رجعت السيادة والسلطة إلى الشعب». وأردف الكتيِّب يقول: «لأول مرة صار ملايين من الناس المعتادين على العيش في مجموعات ضيقة منعزلة في الولايات جزءًا من الحياة الكبرى في الهند، وصار بإمكانهم استنشاق هواء الحرية والديمقراطية الذي ساد البلاد كلها.»

وبما أن ذلك كان كتيِّبًا رسميًّا، فقد نُسِب فضل إتمام المهمة بطبيعة الحال إلى الرجل المسئول؛ حيث كتب الصحفيون: «ما عجز المندوبون السامِيُّون البريطانيون عن تحقيقه عقب قرنين من الجهود المتواصلة، أنجزه السِّردار فالابهاي باتيل من خلال مناشدته المقنِعة للمشاعر النبيلة لطبقة الأمراء.»70

والحقيقة أن باتيل كان حكيمًا ثابت الجنان في قيادته فعلًا؛ فأيُّ سياسي غيره من حزب المؤتمر — حتى (أو لا سيما) نهرو — ربما لم يكن ليُشرف على عملية القضاء على طبقة الأمراء بمثل ذلك الصبر وبُعد النظر، ولكنه لم يكن ليتمكن من إتمام المهمة دون في بي مينون، الذي قام بمئات الزيارات إلى المشيخات مقوِّضًا حكامها تدريجيًّا. ولم يكن مينون بدوره ليتمكن من إحراز الكثير دون الموظفين الذين نفَّذوا عملية الانتقال الفعلية، مهيئين الظروف أمام اندماج المشيخات ماليًّا واجتماعيًّا مع بقية الهند.

والحقيقة أن الساسة والبيروقراطيين، على حد سواء، تمتعوا بحليف لا غنى عنه تمثل في الجندي المجهول: الشعب؛ فلعقود من الزمان، كثير من سكان الولايات الأميرية طالبوا في صخبٍ بالحقوق الممنوحة لمواطني الهند البريطانية، وكثير من الولايات كان بها جمعيات شعبية قوية ونشطة. كان الأمراء يعون ذلك تمامًا؛ فالحق أنه دون تهديد الاحتجاج الشعبي من أسفل ما كانوا سلَّموا السلطة إلى الحكومة الهندية بتلك السهولة.

أثناء عملية توحيد الهند، كان لفالابهاي باتيل مساعدون كُثُر، معظمهم مجهولون ولم يُكرَّموا. من الأشخاص الذين لم يُسْقَطوا تمامًا من الذاكرة في بي مينون، الذي كان المخطِّط الرئيسي وراء عملية دمج الولايات الأميرية، وكذلك كان أوَّل من أرَّخ لها؛ فدعونا نستمع إلى الدرس الذي استخلصه من تلك العملية:
إن تفكيك ٥٥٤ ولاية بدمجها داخل إطار الجمهورية، وإرساء النظام بعد كابوس الفوضى الذي بدأنا به، وإدخال الديمقراطية في إدارة كل الولايات السابقة ينبغي أن يقوِّي عزيمتنا في تحقيق القدر ذاته من النجاح في الميادين الأخرى.71

سوف نحول انتباهنا في الوقت المناسب إلى تلك «الميادين الأخرى» من عملية بناء الدولة، ولكن دعونا أولًا نتقصَّى حالة الولاية الأميرية التي سببت أكثر المتاعب للاتحاد الهندي؛ فتلك التفاحة بالذات ظلت متأرجحة على حافة السلة؛ إذ لم تقع داخلها قط، وإن لم تقع خارجها أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤