الفصل الخامس

اللاجئون والجمهورية

اللاجئون يُرْسَلون إلى جميع أنحاء الهند، وسوف ينشرون الكراهية الطائفية على نطاق واسع، ويثيرون قدرًا هائلًا من الضغائن في كل مكان. لا بد من رعاية اللاجئين، ولكن علينا أن نتخذ خطوات لمنع انتشار عدوى الكراهية لما يتخطى الحد الأدنى الضروري الذي لا يمكن منعه.

سي راجا جوبالاتشاري؛ حاكم البنغال، ٤ سبتمبر ١٩٤٧

لعل الدماء التي سالت من غاندي، والدموع التي سالت من أعين نساء الهند في كل مكان عَلِمن فيه بوفاته تزيل لعنة عام ١٩٤٧، وعسى أن تخمد المأساة المفجِعة لذلك العام في التاريخ، وألا تؤثِّر على الانفعالات الحالية.

سي راجا جوبالاتشاري، ٢٠ مارس ١٩٤٨

١

تحتلُّ كوروكشِترا مكانة خاصة في المخيِّلة الهندية؛ فقد كانت ساحة المعارك الدامية التي وردت في ملحمة «مهابهاراتا»؛ وفقًا للملحمة، دار القتال على سهل مفتوح شمال غربي مدينة إندرابراسترا الأثرية (المعروفة حاليًّا بدلهي). كان ذاك السهل يُدعى كوروكشترا، وهو الاسم الذي يحمله حتى يومنا هذا.

بعد مرور عدة آلاف من السنين على تأليف ملحمة «مهابهاراتا»، أصبح مسرح الأحداث التي جرت فيه مأوًى مؤقتًا لضحايا حرب أخرى. تلك الحرب بدورها دارت بين أقارب مقرَّبين؛ هما: الهند وباكستان، عوضًا عن أبناء العم الباندافا والكاورافا. كثير من الهندوس والسيخ الذين فرَّوا من البنجاب الغربية وجَّهتهم حكومة الهند إلى مخيم للاجئين في كوروكشترا؛ حيث أُنشِئتْ مدينة من الخيام مترامية الأطراف على السهل، لإيواء موجات النازحين، التي كانت تصل أحيانًا إلى ٢٠ ألف فرد في اليوم. كان المخطط في البداية أن يأوي المخيم ١٠٠ ألف لاجئ، ولكن الأمر آل به إلى إيواء ثلاثة أمثال ذلك العدد؛ فكما كتب مراقب أمريكي: «لقد صنع الجيش معجزات حتى تكفي الخيام كل اللاجئين.» وقد كان سكان كوروكشترا الجدد يستهلكون ١٠٠ طن من الدقيق يوميًّا، إلى جانب كميات كبيرة من الملح والأرز والعدس والسكر وزيت الطهي، وكل تلك المؤن وفرتها الحكومة مجانًا. وكان ثمة شبكة أخصائيين اجتماعيين من الهنود والأجانب تعين الدولة في مساعيها هي المجلس المتحد للإغاثة والرعاية.

كان لا بد من إيواء اللاجئين وإطعامهم، وكذلك كسوتهم والترفيه عنهم. ومع اقتراب الشتاء، «سرعان ما أدركت الحكومة أن تحمُّل الأمسيات والليالي صار فيه مشقَّة»، فصادر المجلس المتحد للإغاثة والرعاية مجموعة من أجهزة عرض الأفلام من دلهي، ونصبها في كوروكشترا. من الأفلام التي عُرضت كانت أعمال والت ديزني الخاصة بميكي ماوس ودونالد داك. وباستخدام شاشات عرض كبيرة من القماش تسمح بالعرض من الناحيتين، أمكن لحشود تبلغ نحو ١٥ ألف فرد مشاهدة العرض ذاته. وقد علَّق أحد الأخصائيين الاجتماعيين على ذلك قائلًا: «ذاك الانفصال عن الواقع لمدة ساعتين كان بمنزلة طوق النجاة؛ فقد نَسِيَ اللاجئون ما تعرضوا له من تجارب صادمة وبؤس لساعتين ذهبيتين من الضحك. نعم، استطاع من تعرضوا للضرب والجرح، المشرَّدون المجروحون، أن يضحكوا؛ فقد كان ثمة أمل.»1
كان مخيم كوروكشترا هو الأكبر بين قرابة ٢٠٠ مخيم أُقيم لإيواء اللاجئين من غرب البنجاب. بعض اللاجئين وصلوا قبل تاريخ نقل السلطة؛ منهم رجال الأعمال البعيدو النظر الذين باعوا ممتلكاتهم سلَفًا ونزحوا بعائدات البيع. إلا أن الأغلبية العظمى جاءت بعد ١٥ أغسطس ١٩٤٧، دون متاع يُذكر سوى بعض الثياب التي كانوا يحملونها على ظهورهم. كان هؤلاء هم المزارعون الذين «تخلَّفوا حتى آخر لحظة، مصرِّين على البقاء في باكستان، إن أمكن طمأنتهم إلى احتمال أن يعيشوا حياة كريمة». لكن عندما تصاعدت وتيرة العنف في البنجاب خلال شهري سبتمبر وأكتوبر، اضْطُرُّوا إلى التخلي عن تلك الفكرة، ففرَّ مَن حالفه الحظ من الهندوس والسيخ إلى الهند راكبين السيارات، أو السكك الحديدية، أو البحر، أو سيرًا على الأقدام.2
لم تكن المخيمات من قبيل مخيم كوروكشترا أكثر من مجرد حل مؤقت؛ فقد كان لا بد من إيجاد سكن دائم وعمل منتج للاجئين. وقد وصف أحد الصحفيين الذين زاروا مخيم كوروكشترا في ديسمبر ١٩٤٧ بأنه مدينة قائمة بذاتها، بها ٣٠٠ ألف شخص، كلهم «يجلسون عاطلين إلى حد الجنون». وكتب يقول إن «الفكرة الوحيدة التي تسيطر على المزارعين اللاجئين في مخيم كوروكشترا هي «اعطونا أرضًا، وسوف نزرعها». كان ذاك هو نداءهم، فقد أخبرنا أولئك المزارعون المتعطشون للأرض أنهم لا يأبهون كثيرًا بمكان الأرض التي يُمْنَحونها ما دامت صالحة للزراعة. لقد بدا شغفهم بالأرض فطريًّا».3

الواقع أنه كان ثمة عملية نزوح كبيرة في الاتجاه المعاكس أيضًا، من الهند إلى باكستان؛ لذا كان أول مكان أعيد توطين اللاجئين فيه هو الأراضي التي أخلاها المسلمون في الجزء الشرقي من البنجاب. وإذا كانت عملية انتقال السكان هي «أكبر عملية نزوح جماعي» في التاريخ، فقد بدأت بعدها «أكبر عملية توطين ريفي في العالم». في مقابل ٢٫٧ مليون فدان هجرها الهندوس والسيخ في غرب البنجاب، لم يخلِّف المسلمون في البنجاب الشرقية وراءهم سوى ١٫٩ مليون فدان. وكان مما فاقم العجز أنَّ الأراضي الواقعة غربي المقاطعة كانت أكثر خصوبة، ومياه الري المتاحة لها أوفر. الواقع أنه في أواخر القرن التاسع عشر نزحت مئات القرى السيخية في هجرة جماعية إلى الغرب لزراعة أراضيها في «مستعمرات القنوات» الحديثة النشأة، وهناك أحالوا الصحاري إلى واحات، ولكن في أحد أيام عام ١٩٤٧ قِيلَ لهم إن جنتهم صارت في باكستان؛ فبعد جيلين لا أكثر وجد هؤلاء السيخ المطرودون أنفسهم في مساكنهم القديمة.

بادئ ذي بَدْء، خُصِّص لكل عائلة من المزارعين اللاجئين أربعة فدادين، بصرف النظر عن حجم حيازتها في باكستان، وأُقرضوا المال لشراء البذور والمُعِدَّات. وإذ بدأت زراعة تلك الأراضي المؤقتة، فُتِح الباب أمام دعاوى المطالبة بمخصصات دائمة، وطُلِب من كل أسرة أن تقدم أدلة على حجم الأراضي التي خلفتها وراءها. بدأ تلقِّي الدعاوى منذ ١٠ مارس ١٩٤٨، وفي غضون شهر، قُدِّم أكثر من ٥٠٠ ألف دعوى، ثم جرى التأكد من صحتها في مجالس مفتوحة مكوَّنة من نازحين آخرين من القرية ذاتها؛ فكان موظف حكومي يقرأ الدعوى بينما يقرُّها المجلس أو يعدِّلها أو يرفضها.

كما هو متوقع كان اللاجئون ينزعون إلى المبالغة في البداية، إلا أن كل دعوى كاذبة كانت تقابلها عقوبة؛ أحيانًا بتقليل الأراضي المخصَّصة، وفي الحالات القصوى بالحبس فترة وجيزة. مثَّل ذلك رادعًا، ورغم ذلك فقد قدَّر أحد الموظفين الوثيقي الصلة بتلك العملية أنه كان ثمة تضخم إجمالي بلغ نحو ٢٥٪. وأُنشئت أمانة عامة لإعادة التأهيل في جالاندهار لتجميع الدعاوى وتنسيقها، والتحقق منها، والتصرُّف بشأنها. بلغ أقصى عدد للعاملين بها ٧ آلاف موظف؛ صاروا يُشَكِّلون في حد ذاتهم مدينة لاجئين نوعًا ما. الجزء الأكبر من هؤلاء الموظفين سُكِّن في خيام مزوَّدة بأضواء ومراحيض بدائية، ومقامات ومعابد مؤقتة للهندوس والسيخ.

كان قائد العمليات هو مدير عام إعادة التأهيل السِّردار تارلوك سينج؛ من دائرة الخدمة المدنية الهندية. وقد استغلَّ تارلوك سينج — الذي تخرج في كلية لندن للاقتصاد — خلفيته الأكاديمية في ابتكارين ثبتت أهميتهما الحيوية للنجاح في توطين اللاجئين. تَمَثَّلَ ابتكاراه في «الفدَّان القياسي» و«التخفيض المتدرِّج». عُرِّف «الفدان القياسي» بأنه مساحة الأرض التي يمكن أن تنتِج من عشرة إلى إحدى عشر موند من الأرز (الموند يساوي قرابة ٤٠ كيلوجرامًا). في المناطق الجافة التي لا تصلها شبكة الري في الشرق، كانت أربعة فدادين طبيعية تعادل فدانًا «قياسيًّا» واحدًا، بينما كان فدان الأرض الطبيعي في مستعمرات القنوات الخصبة يساوي نظيره القياسي تقريبًا.

حلَّت فكرة الفدان القياسي المبتكرة مسألة التباين في التربة والمناخ في شتى أنحاء المقاطعة. أما فكرة «التخفيض المتدرج»، فساهمت في التغلُّب على التفاوت الهائل بين كمِّ الأراضي التي خلَّفها اللاجئون وراءهم والأراضي التي صارت متاحة لهم؛ وهي فجوة قاربت مليون فدان. طُبِّق على الفدادين العشرة الأولى في أي دعوى تخفيضٌ قدره ٢٥٪، ومن ثم يحصل رافع الدعوى على ٧٫٥ فدان فقط عوضًا عن عشرة فدادين. بالنسبة للدعاوى المطالبة بفدادين أكثر، طُبِّقت تخفيضات أشد: ٣٠٪ لما بين ١٠ فدادين و٣٠ فدانًا فصاعدًا، حتى إنَّ مالكي أكثر من ٥٠٠ فدان فُرِضت عليهم ضريبة معدَّلها ٩٥٪. كان الخاسر الأكبر الأوحد هو سيدة تُدعَى فيدياواتي، ورثت أراضي عن زوجها (وخَسِرَتها) بلغت مساحتها ١١٥٠٠ فدان، امتدَّت عبر خمس وثلاثين قرية في منطقتي كوجرانوالا وسيالكوت، وكان التعويض المخصَّص لها ٨٣٥ فدانًا لا أكثر في قرية واحدة من قرى كارنال.

بحلول نوفمبر عام ١٩٤٩، كان تارلوك سينج ورجاله قد خصصوا ٢٥٠ ألف قطعة أرض. بعد ذلك وُزِّع اللاجئون بصورة متساوية على مناطق شرق البنجاب، فأُعيد توطين الجيران والأقارب معًا، وإن ثبت استحالة إعادة إنشاء المجتمعات القروية كاملةً. ثم فُتِح باب التظلُّم أمام اللاجئين؛ فطلب ما يقرب من ١٠٠ ألف أسرة مراجعة مخصصاتها، وتم العمل بثلث تلك الاعتراضات، ونتيجة لذلك تغيرت ملكية ٨٠ ألف فدان مرة أخرى.

حصل هؤلاء اللاجئون مقابل أراضيهم الحسنة الري في الغرب على حيازات جدباء في الشرق، وبتطبيق التخفيضات المتدرجة، قلَّت الأراضي التي يمتلكونها أيضًا، ولكنهم شرعوا في العمل ببراعتهم وإقدامهم المعهودين؛ فحفروا آبارًا جديدة، وبنوا مساكن جديدة، وزرعوا محاصيلهم. وبحلول عام ١٩٥٠، دبَّت الحياة من جديد في ريف كان مهجورًا.4

إلا أن شعور الضياع ظل باقيًا؛ فالاقتصاد يمكن إعادة بناؤه، ولكن الإجحاف الثقافي الذي نتج عن التقسيم لم يكن من الممكن أبدًا أن يرفعه أي من الطرفين أو أن يُرفَع عنه؛ فالسيخ صار بحوزتهم أراض جديدة للزراعة، ولكنهم لن يستردوا أبدًا أماكن العبادة الأثيرة لديهم، ومنها: معبد جوردوارا في لاهور؛ مثوى زعيمهم المحارب العظيم رانجيت سينج، وكذلك نانكانا صاحب؛ حيث وُلِدَ جورو ناناك؛ مؤسس العقيدة السيخية.

في أبريل ١٩٤٨، زار رئيس تحرير صحيفة كلكتا «ستيتسمان» نانكانا صاحب، وهناك التقى مجموعة من السيخ سمحت لهم باكستان بالبقاء لحراسة المعبد. وبعد بضعة أشهر، زار مركز الطائفة الأحمدية المسلمة — بلدة قاديان — في البنجاب الهندي. كانت مئذنة مسجد الأحمدية المهيبة مرئية من على بُعد أميال في محيطها، ولكن لم يعد يسكن في نطاقها آنذاك سوى ٣٠٠ من أتباع تلك الطائفة. خلافًا لذلك، استولى على البلدة ١٢ ألف لاجئ هندوسي وسيخي. وفي كلٍّ من قاديان ونانكانا صاحب كان ثمة «نقص واضح في أعداد المصلين اليوميين، وشعور الخواء الموجع والانتظار والأمل، … وإيمان عززته المِحَن المُذِلَّة».5

٢

كان أغلب النازحين من البنجاب الغربية مزارعين، ولكنَّ كثيرًا منهم أيضًا كانوا حرفيين وتجارًا وعمالًا؛ فأنشأت الحكومة بلدات جديدة لاستقبالهم، إحداها — فريد أباد — التي كانت على بُعد عشرين ميلًا جنوبيَّ العاصمة دلهي، وكان من التنظيمات النشطة فيها الاتحاد التعاوني الهندي بقيادة كمالا ديفي تشاتوبادياي؛ الناشطة الاشتراكية والنسوية الوثيقة الصلة بمهاتما غاندي.

معظم سكان فريد أباد كانوا لاجئين هندوسيين من المقاطعة الشمالية الغربية الحدودية، وقد شجعهم أخصائي اجتماعي يُدْعَى سودير جوش على بناء منازلهم بأنفسهم، إلا أن الحكومة أرادت أن تشيِّد المنازل عن طريق إدارة الأشغال العامة التابعة لها، المعروف عنها التباطؤ والفساد، والمشهورة بلقبي «إدارة الإهدار العام» و«النهب المأمون». احتجاجًا على ذلك، حاصرت مجموعة من اللاجئين منزل رئيس الوزراء في دلهي. كان ذلك مصدر «إزعاج» لنهرو، الذي وجدهم أمامه كل يوم عند ذهابه إلى العمل، ولكنهم على الأقل جعلوه «يمعن التفكير في المشاكل» التي تواجه اللاجئين. وفي تسوية تليق بالأسلوب الهندي، سُمِح للاجئين ببناء قرابة ٤٠٪ من المنازل، فيما تولت إدارة الأشغال العامة تشييد الباقي.

في فريد أباد، نظَّم الاتحاد التعاوني الهندي جمعيات تعاونية ومجموعات للعون الذاتي أنشأت محلات ووحدات إنتاج صغيرة. ومن أجل إمدادها بالطاقة وإنارة المنازل، أُقيم مصنع لوقود الديزل خلال فترة قصيرة. كان ذلك المصنع في ورشة بكلكتا؛ حيث أقامته ألمانيا باعتباره جزءًا من تعويضات الحرب. لم يكن أحد يريد المصنع في كلكتا؛ ولذا أُرسِل إلى فريد أباد عوضًا عنها. بحث سودير جوش عن المهندس الألماني الذي شيد المصنع في هامبورج وأقنعه بالمجيء إلى الهند. جاء المهندس ولكنه — للأسف — لم يجد روافع لإقامة المصنع؛ لذا دَرَّبَ رجال فريد أباد على تشغيل روافع لولبية تتحمل وزن خمسة عشر طنًّا، ساعدت على رفع المعدات بوصة تلو بوصة. وفي غضون عشرة شهور، كان المصنع جاهزًا. في أبريل ١٩٥١، حضر نهرو شخصيًّا لتدشينه، وإذ «ضغط الزر، أُنيرت الأضواء، وارتفعت معنويات سكان فريد أباد جميعًا؛ فقد صارت البلدة تمتلك الطاقة اللازمة لبناء مستقبلها الصناعي».6
في الوقت ذاته، استوطن آلاف اللاجئين دلهي ذاتها. حتى عام ١٩١١ كانت تلك المدينة إسلامية الطابع والثقافة. وفي ذلك العام، حوَّل البريطانيون عاصمتهم من كلكتا إلى دلهي، وبعد عام ١٩٤٧، صارت نيودلهي مقر حكومة الهند الحرة. رحل المسلمون المتحدثون بالأردية إلى باكستان — خلافًا لرغبة كثير منهم — وحلَّ محلهم الهندوس والسيخ المتحدثون بالبنجابية، وأقاموا المنازل والمتاجر أينما تيسَّر لهم. توسَّط المدينة كونوت سِركيس؛ رواق التسوق المهيب الذي صممه آر تي راسل. ولو كان راسل تسنَّى له رؤية ما حلَّ بصنيعة يده لربما «تقلَّب في قبره»؛ فخلال عامي ١٩٤٨ و١٩٤٩، نُصِبَت «الدكاكين وعربات البائعين بمختلف الأحجام والأشكال» على الرصيف، ومن ثم «ما كان يومًا ممشًى ظليلًا يمكن للزائر أن يتمشَّى فيه باسترخاء متفقدًا البضائع المعروضة دون التعرض لبائع ملِحٍّ ما لم يدخل أحد المتاجر، صار في حالة من الفوضى … بصفة عامة، أصبحت منطقة التسوق الأنيقة في نيودلهي — التي كانت ترتادها النخبة والأثرياء في أيام ما قبل الاستقلال — مجرد سوق شعبي يبدو أفخم من حقيقته».7

أتى قرابة ٥٠٠ ألف لاجئ للاستقرار في دلهي بعد التقسيم، فملئوا المدينة و«انتشروا حيثما تسنى لهم، وتكدَّسوا في المخيمات والمدارس والكليات والمعابد الهندوسية والسيخية، واستراحات الحجاج (دارامشالا)، والثكنات العسكرية، والحدائق، واحتلُّوا أرصفة محطات القطار والشوارع والأرصفة وكل مكان يمكن تخيُّله». ومع مرور الوقت، بنى أولئك الأشخاص بيوتًا على أراضٍ خُصِّصت لهم في غرب وجنوب دلهي لاتْيِنز؛ إذ هناك أُقيمت مستعمرات — يغلب عليها البنجابيون حتى يومنا هذا — عبارة عن «نَجَر» أو بلدات تحمل أسماء باتيل وراجندرا (براساد) ولجبات (راي)؛ وهم زعماء حزب المؤتمر الهندوسيون الذين نالوا إعجاب السكان بصفة خاصة.

وقد أبدى اللاجئون في دلهي — على غرار نظرائهم الذين استقرُّوا في مزارع البنجاب الشرقية — قدرًا كبيرًا من حسن التدبير والحماسة، ومع مرور الوقت صار لهم «نفوذ غالب في دلهي»؛ إذ سيطروا على تجارتها وأعمالها. وفعلًا صارت المدينة التي كانت يومًا مغولية، ثم بريطانية، مدينة بنجابية بامتياز عند حلول خمسينيات القرن العشرين.8

٣

مثل دلهي، أحدث التقسيم تحولًا في ثقافة مدينة بومباي وجغرافيتها الاجتماعية. إذ بحلول يوليو ١٩٤٨ كان ثمة ٥٠٠ ألف لاجئ في المدينة وافدين من السند والبنجاب والمقاطعة الحدودية الشمالية الغربية. فاقم اللاجئون ما كان يمثل أقصى مشكلات بومباي حدَّة، وهو: نقص المساكن؛ فقرابة مليون شخص صاروا يبيتون في الشارع. أخذت العشوائيات تتنامى بسرعة، وفي الوحدات السكنية المزدحمة، كانت الحجرة يقطنها خمسة عشر أو عشرون شخصًا.9
ذكر أحد الصحفيين أنَّ إجمالي الخسائر التي تكبَّدها اللاجئون النازحون من السند تتراوح بين ٤ و٥ مليارات روبية؛ إذ كانوا يمتلكون في موطنهم مساحات كبيرة من الأراضي، وكانوا يسيطرون على الخدمات العامة ويتحكمون في التجارة والأعمال. وبينما صار اللاجئون البنجابيون يمتلكون البنجاب الشرقية التي أمكنهم أن يحققوا فيها «أساسيات الوجود المؤسسي المستقل وسمات الحكومة المستقلة»، لم يكن لدى السنديين أي شيء من ذلك القبيل لإعادة البناء عليه؛10 فبعضهم توجه إلى الدولة مستجديًا أو غاضبًا، بينما قرَّر البعض الآخر الاعتماد على نفسه؛ لذا في بومباي كان «من المألوف رؤية حتى الصبية السنديين يجولون بالأقمشة لبيعها في الطرق الرئيسية بالمدينة؛ فالتجارة تجري في عروقهم مجرى الدم. لهذا لم يتقبل أهل جوجارات ومهاراشترا الغزو السندي؛ فحتى الصبية الصغار من مجاهل السِّند يستطيعون كسب عيشهم ببيع الحُلي الرخيصة في قطارات الضواحي».11
تضمنَّت بومباي خمسة مخيمات للاجئين، وكانت حالتها متردِّية؛ فمخيم كولوادا ضم ١٠٤٠٠ شخص يعيشون في الثكنات، وكان متوسط المساحة المتاحة لكل عائلة قرابة ٣٦ قدمًا مربعة. لم يتوفر بالمخيم كله سوى اثني عشر صنبور مياه، ولم يكن به أطباء ولا كهرباء، وتضمن مدرسة واحدة. أدار المكان رجل يُدعى براتاب سينج إدارةً دكتاتورية. ففي أبريل ١٩٥٠ ثار شغب محدود النطاق عندما رفض بعض المستأجرين دفع الإيجار احتجاجًا على ظروف معيشتهم، فاستصدر براتاب سينج أمر إخلاء ضدهم، وعندما قاوموا استدعى الشرطة، وقُتِلَ شاب في المشاجرة التي أعقبت تلك الأحداث. وقد أطلق الصحفي الذي نقل الواقعة على المقيمين في المخيم لقبًا مناسبًا هو «النزلاء» (إشارةً إلى نزلاء السجن)؛ إذ قال معلقًا: «كان النزلاء الآخرون جرذان قبيحة ضخمة بحجم القطط، وبقًّا وناموسًا وثعابين.»12
انتشر اللاجئون الوافدون من السند في بلدات غرب الهند ومدنها. وإلى جانب مومباي، كان ثمة تجمعات سكانية كبيرة منهم في بونا وأحمد أباد. وقد وجد عالم نفس اجتماعي زار الوافدين من السند في خريف ١٩٥٠ أنهم غير راضين على الإطلاق، وقال: «الجميع تقريبًا يشكون المساكن المزدحمة القذرة، والمياه غير الصالحة، وحصص التموين غير الكافية، والأهم من ذلك عدم كفاية الدعم الحكومي.» وقال أحد اللاجئين في أحمد أباد: «إننا نأكل أشياء اعتدنا إلقاءها للطيور في باكستان.» وشكا آخرون سوء معاملة أهل المدينة من الجوجاراتيين، كما ناصبوا المسلمين العداء بصفة خاصة. وقد صبُّوا جام غضبهم على الدولة الهندية، وإنْ برَّءوا نهرو نفسه فقالوا: «حكومتنا عديمة الفائدة. كلها عصبة من اللصوص. وحده البانديت نهرو لا بأس به، والبقية كلهم لا قيمة لهم، ويسعون لخدمة مصالحهم الذاتية. البانديت نفسه يخبرنا بما يسعه القيام به. أما بقية المنظومة فمعطوبة.»13

٤

غيرت وفود اللاجئين المتدفقة معالم ثالث مدن الهند الكبرى أيضًا؛ كلكتا؛ فقبل التقسيم أخذت العائلات الهندوسية الميسورة من شرق البنغال في الانتقال إلى تلك المدينة بصحبة ممتلكاتها، وبعد التقسيم كان أغلب النازحين من عائلات الطبقة العاملة وعائلات المزارعين. في البنجاب، حدثت الهجرة في صورة اندفاع واحد، ولكن في البنغال كانت الهجرات متفرقة، إلا أنه في شتاء ١٩٤٩-١٩٥٠ هبت موجة من أعمال الشغب الطائفية في باكستان الشرقية أجبرت عددًا أكبر من الهندوس على عبور الحدود. في الأعوام السابقة على ذلك التاريخ، جاء نحو ٤٠٠ ألف لاجئ إلى غرب البنغال، وفي عام ١٩٥٠، قفز ذلك الرقم إلى ١٫٧ مليون لاجئ.

إلى أين لجأ أولئك الناس؟ بعضهم أقام مع أقربائه، بينما سكن آخرون محطات القطار في المدينة؛ حيث تبعثرت فُرُشهم وصناديق أمتعتهم وغيرها من متعلقاتهم على أرصفة المحطات؛ فهناك «عاشت أُسر، ونامت وتزاوجت، وأخرجت فضلاتها، وأكلت على الأرصفة الأسمنتية بين الذباب والقمل والأطفال والإسهال. وكان ضحايا الكوليرا يستلقون منهكين يتطلعون إلى قيئهم، بينما انشغلت النسوة بإزالة القمل من رءوسهن بعضهن لبعض، وطَفِقَ المتسولون يتسولون». إلا أن غيرهم سكنوا الشوارع «بجوار الماشية الشاردة — مثلهم مثلها — كانوا يشربون مياه المجاري، ويأكلون من القمامة، وينامون على جانب الطريق».14
هكذا كتب مراسل صحيفة «مانشستر جارديان» في الهند. والحقيقة أن اللاجئين لم يكونوا بالسلبية التي يشير إليها ذلك الوصف مطلقًا؛ ففي بدايات عام ١٩٤٨ «شغل عدد كبير من اللاجئين ثكنات ليك العسكرية؛ إذ ضاقوا ذرعًا بحياتهم البائسة في محطة سيالدا، وشغلوا كذلك ثكنات جودبور العسكرية ومنزل ميسور وغيره من المنازل والثكنات العسكرية الشاغرة في شاهبور ودورجابور وطريق باليجونج الدائري ودارمَتالا. وبين ليلة وضحاها تقريبًا، صارت تلك المنازل المهجورة تعجُّ باللاجئين من رجال ونساء وأطفال في تعدٍّ متعمَّد على الملكية».15
استولى بعض اللاجئين على منازل خالية، بينما احتل آخرون أراضي مهجورة على طول الطرق وخطوط السكة الحديدية، إضافةً إلى أدغال الشجيرات التي أُزيلت حديثًا والمستنقعات الحديثة التجفيف؛ فكان أولئك المُلَّاك بوضع اليد «يتسللون خِلسةً إلى تلك الأراضي ليلًا، ويصنعون مأوًى مؤقتًا سريعًا تحت جنح الظلام، ثم كانوا يرفضون الرحيل، وإنْ عرضوا في كثير من الأحيان أن يدفعوا سعرًا مُنصفًا نظير الأرض».16

كانت حكومة غرب البنغال هي التي أجبرت اللاجئين دون تخطيط منها على تطبيق قانونهم الخاص؛ فمن جهة، لم يحدث نزوح واسع النطاق في الاتجاه المعاكس مثلما حدث في البنجاب ليخلِّف حقولًا ومزارع مهجورة يستوطنها اللاجئون. ومن جهة أخرى، قد راق للحكومة أن تظنَّ — أو تأمُل — أنَّ هذه الهجرة الوافدة مؤقتة، وأن الهندوس سوف يعودون إلى ديارهم في الشرق عندما تستقر الأوضاع. وقد أيد ذلك الاعتقاد زعم أن البنغاليين كانوا إلى حد ما أقل «طائفية» من البنجابيين؛ فهنا كان المسلم يتحدث لغة جاره الهندوسي ويتناول نفس طعامه، لذا فقد يكون أكثر استعدادًا لمواصلة العيش معه جنبًا إلى جنب.

رفض اللاجئون أنفسهم هذا الزعم الأخير رفضًا عنيفًا؛ فبالنسبة إليهم لم يكن ثمة مجال للعودة إلى ما رأوه دولة إسلامية. وقد وجدوا سندًا لأفكارهم في شخص المؤرِّخ السير جودانات سركار، الذي يمكن القول إنه كان أشد المثقفين البنغاليين تأثيرًا في جيله؛ ففي خطاب ألقاه سركار في اجتماع مع جموع غفيرة من اللاجئين — عُقِد يوم ١٦ أغسطس ١٩٤٨ — قارن هجرة هندوس شرق البنغال بفرار رجال الكنيسة البروتستانتية الكالفينية الفرنسيين في عهد لويس الرابع عشر، وحثَّ أهالي غرب البنغال على استيعاب الوافدين وإدماجهم في المجتمع، حتى يغذُّوا ثقافتهم واقتصادهم. وأضاف أنه بمساعدة اللاجئين «لا بد أن نُحيل غرب البنغال إلى ما ستكون عليه فلسطين تحت الحكم اليهودي؛ منارةً في الظلام، وواحة للتحضُّر في قلب صحراء جهل العصور الوسطى والتعصب الديني البالي».17
وفي سبتمبر ١٩٤٨، تشكَّل مجلس عمل معني باللاجئين في عموم البنغال، ونُظِّمت مسيرات ومظاهرات مطالبة بمنح اللاجئين تعويضات منصفة وحقوق المواطنة. كان زعماء تلك الحركة يهدفون إلى إلقاء «مجموعات اللاجئين المنظَّمة في شوارع كلكتا ومواصلة الضغط على الحكومة بلا هوادة … فالمسيرات والمظاهرات والاجتماعات، والاختناقات المرورية، ووابل الطوب المكسور، والقنابل المسيلة للدموع، وعُصي البامبو التي استخدمتها الشرطة سلاحًا، وعربات الترام والحافلات المحترقة، وإطلاق الأعيرة النارية من حين لآخر؛ كل ذلك صار علامة مميِّزة للمدينة».18
حيثما تواجد لاجئون مُهجَّرون لقوًى خارجة عن سيطرتهم، صاروا وقودًا محتملًا للحركات المتطرفة؛ ففي دلهي والبنجاب، كانت المنظمة الهندوسية الراديكالية راشتريا سوايامسيفاك سانج هي التي وطَّدت أقدامها منذ البداية في أوساط المهاجرين. وفي البنغال، اجتهدت شقيقة المنظمة الهندوسية الأولى — منظمة هندو ماهاسابها — في إضفاء صبغة دينية على المسألة، فقد قال أعضاؤها: إن الهندوس البنغاليين «صاروا قرابين في عملية التضحية الكبيرة التي مثلها تحرير الهند». وبمطالبتهم بالعودة إلى باكستان الشرقية، كانت الحكومة مذنبة بانتهاج سياسة «الاسترضاء» والتحريض على «الإبادة الجماعية». وفي حين تطالب الدولة اللاجئين بالإذعان، كان ما يحتاجه اللاجئون هو جرعة قوية من «الرجولة». كتب هندوسي غاضب في مارس ١٩٥٠ قائلًا: «المرء لا يسعه إلا أنْ يتمنى ظهور رجال مثل شيفاجي أو رانا براتاب من صفوفهم.»19
لقي استحضار ذكرى المحاربين الهندوس من العصور الوسطى الذين قاتلوا الملوك المسلمين استجابةً أقوى في دلهي والبنجاب. أما في البنغال، فقد كان الشيوعيون هم الأنجح في تعبئة اللاجئين؛ كانوا هم من نظموا المسيرات إلى المقرات الحكومية، وخططوا الاحتلال القسري للأراضي المُراحة في كلكتا؛ وهي الأراضي التي «ما كان للاجئين مسوغ لها سوى القوة المنظمة والحاجة الملحة». ومن ثم نشأت مستعمرات مرتجَلَة في أجزاء مختلفة من المدينة؛ «تجمُّعات من الأكواخ ذات أسقف من القش أو القرميد أو الصفيح، جدرانها من الحصير المصنوع من البامبو، وأرضيتها من الطين، بُنِيَت على الطراز السائد في شرق البنغال».20
وبحلول أوائل عام ١٩٥٠، كان ثمة نحو ٢٠٠ ألف لاجئ في مستعمرات وضع اليد تلك. وفي غياب دعم الدولة، اللاجئون «شكَّلوا لجانًا خاصة بهم، ووضعوا قوانين لإدارة المستعمرات، ونظَّموا أنفسهم في هيئة جسد واحد عملاق».21 وزعمت «لجنة جنوب كلكتا لإعادة توطين اللاجئين» أنها تُمَثِّل ٤٠ ألف أسرة أنشأت في مستعمراتها ما مجموعه ٥٠٠ ميل من الطرق، وحفرت ٧٠٠ بئر أنبوبية، وأنشأت ٤٥ مدرسة ثانوية، إضافةً إلى ١٠٠ مدرسة ابتدائية، وكل ذلك على نفقة الأسر وبجهودها الذاتية. وطلبت اللجنة من الحكومة أن «تقنن» وضع تلك المستعمرات بوضعها رسميًّا تحت إشراف بلدية كلكتا، وأن تقنِّن بالمِثل وضع رُقَع الأراضي الخاصة ومباني المدارس، وأن تساعد في تطوير الأسواق وتنظيم القروض.22
وكثيرًا ما اشتكى المدافعون عن أولئك اللاجئين من المعاملة التمييزية التي ينالها اللاجئون البنجابيون؛ فقد وجد فريق من الأخصائيين الاجتماعيين البنغاليين في زيارة لشمال الهند أنَّ المخيمات هناك «أفضل بكثير»؛ حيث كانت المساكن دائمة، ومزودة بمياه جارية وصرفٍ صحي لائق. أما في غرب البنغال، فقد اضْطُرَّ اللاجئون إلى الاكتفاء ﺑ «مخيمات من أكواخ البامبو المتحللة»؛ حيث كان «انعدام الخصوصية والحيز المتاح للمطبخ أمرًا مشينًا»، كما أن النقود وبدل الكسوة الممنوحين في الشمال كانا أعلى.23
وبصفة عامة، كانت عملية إعادة التوطين أيسر بكثير في البنجاب؛ فبحلول أوائل خمسينيات القرن العشرين كان لاجئو الشمال قد عثروا على مساكن جديدة ووظائف جديدة، لكن انعدام الأمن استمرَّ في الشرق؛ فقد كتب أحد المراسلين في يوليو ١٩٥٤ أنه ما دام اللاجئون البنغاليون «غير مستقرين وعاطلين، فسيتنامى السخط الاقتصادي والسياسي، وسينجح الشيوعيون في استغلال معاناتهم».24

٥

لا شك أن أكثر ضحايا التقسيم كُنَّ النساء، الهندوسيات منهن والسيخ والمسلمات. فعلى حد تعبير عضو المؤتمر الوطني السندي الموقَّر تشويترام جِدواني: «لم تبلغ معاناة النساء هذا الحد في أي حرب.» فقد تعرضن للقتل والتشويه والانتهاك والهجر. وبعد الاستقلال، امتلأت بيوت الدعارة في دلهي وبومباي باللاجئات اللاتي طردهن أهلهن بسبب ما فُعِل بهم، رغمًا عن إرادتهن.25

في صيف عام ١٩٤٧، إذ انتشرت أعمال العنف في البنجاب من قرية لأخرى، اختطف الهندوس والسيخ في شرق المقاطعة نساء مسلمات وأبقوهن في حوزتهم، وردَّ الطرف الآخر بالمثل؛ فأسَر الرجال المسلمون فتياتٍ صغيرات من الهندوس والسيخ. إلا أنه بعدما هدأت الأوضاع وجفَّت الدماء، اتفقت الحكومتان الهندية والباكستانية على ضرورة إعادة الأسيرات إلى أهلهن.

على الجانب الهندي، تولَّت مريدولا سارابهاي ورامشواري نهرو قيادة عملية استعادة النساء المخطوفات. كلاهما كانتا من عائلة أرستقراطية، وقادمتين من خلفية قومية متينة. وقد نالتا التشجيع والدعم في عملهما من جواهر لال نهرو، الذي أبدى اهتمامًا شخصيًّا بالغًا بالمسألة. وفي بيان موجَّه للاجئين أُذيع في الإذاعة، تحدَّث رئيس الوزراء تحديدًا عن «أولئك النساء اللاتي وقعن ضحية تلك المِحَن كلها»، وطمأنهنَّ أنَّهن «لا ينبغي أن يشعرن بأننا ينتابنا أي نوع من التردد حيال إعادتهن، أو يراودنا أي شك في عِفَّتهنَّ. نريد أن نعيدهن عن محبَّة؛ لأن الخطأ لم يكن خطأهن؛ فقد اختُطِفن قسرًا. ونريد أن نعيدهن بكل كرامة، ونرعاهن بكل حب. لا ينبغي أن يساورهن شك في أنهن سيعُدنَ إلى أهلهن ويحصلن على كل مساعدة ممكنة».26
جرى تتبع النساء المخطوفات فرادى، الواحدة تلو الأخرى. وعند تحديد موقع إحداهن، كانت الشرطة تدخل القرية وقت الغروب، بعد عودة الرجال من الحقول. كان ثمة «مُخبِر» يرشدهم إلى منزل المختطِف. عادةً كان المختطفون ينكرون أن النساء الموجودة في حوزتهم مخطوفات. وبعد تجاوز اعتراضاتهم — أحيانًا بالقوة — كانت الشرطة تأخذ النساء المخطوفات إلى معسكر حكومي أولًا، ثم تنقلهن عبر الحدود.27
بحلول شهر مايو لعام ١٩٤٨، كان نحو ١٢٥٠٠ امرأة قد عُثِرَ عليها وأُعِيدت إلى أهلها. المفارقة — والمأساة — أنَّ كثيرًا من النساء لم يرغبن في أن يُنقَذن؛ إذ كنَّ قد توصَّلن إلى نوع من السلام النفسي مع وضعهن الجديد بعد الأَسْر. وعند المطالبة بعودتهن، انتابهنَّ شك كبير في كيفية استقبال أهلهن لهن؛ فقد صرن «نجساتٍ»، ولتزداد الأمور تعقيدًا، كثير منهن كنَّ حُبْليات. هؤلاء النساء كنَّ يعلمن أنه حتى لو قُبِلن هنَّ، فأطفالهن الذين وُلِدوا من صُلْب «العدو» لن يُقبَلوا أبدًا. في كثير من الأحيان، كانت الشرطة ومعاونوها يضطرون إلى استخدام القوة لأخذ النساء، فكنَّ يقلن: «لم تستطيعوا إنقاذنا آنذاك؛ فبأي حقٍّ ترغموننا الآن؟»28

٦

تفاقمت أزمة اللاجئين إثر النقص الحاد في الغذاء؛ فبعد انتهاء الحرب راحت واردات الحبوب ترتفع باطِّراد؛ إذ زادت من ٠٫٨ مليون طن عام ١٩٤٤ إلى ٢٫٨ مليون طن بعد أربعة أعوام. وفي عشية الاستقلال، وجد سياسي مارٌّ بمقاطعة شرق جودافاري رجالًا ونساءً يعيشون على بذور التمر الهندي، وثمار نخيل البوراس، ولحاء أشجار الجيلوجو، التي كانت تُسلَق معًا لعمل عصيدةٍ، تتسبب في الانتفاخ والإسهال، وأحيانًا الوفاة.

في العام التالي، لم تسقط الأمطار في المقاطعة الغربية من جوجارات؛ مما أفضى إلى نقص حادٍّ في الماء والأعلاف؛ فجفَّت الآبار ومجاري الأنهار، ونفقت المواشي والماعز جوعًا ومرضًا.29
في بعض المناطق كان المزارعون يتضورون جوعًا، وفي مناطق أخرى كانوا متململين. وفي فترة الِاضْطِراب التي أعقبت تولي الهنود مقاليد الحكم في حيدر أباد، تحرك الشيوعيون بسرعة للاستيلاء على منطقة تيلانجانا، واستعانوا في ذلك بمجموعة من البنادق عيار٫٣٠٣ بوصة وبنادق طراز مارك ٥ من مخلَّفات جماعة رضا كار المتقهقرة. دمَّر الشيوعيون قصور ملاك الأراضي ووزعوا أراضيهم على الفلاحين الكادحين. وإذ قسَّم الشيوعيون أنفسهم إلى عدة مجموعات، كلٌّ منها مسئول عن عدد من القرى، طلبوا من الفلاحين ألا يدفعوا ريع الأرض، وتولوا هم مهمة فرض القانون والنظام.30 في مناطق مثل ورنجال ونالجوندا، نال الشيوعيون تأييدًا كبيرًا إثر نشاطهم في القضاء على الإقطاع؛ فقد أقرَّ أحد ساسة حزب المؤتمر في زيارة للمنطقة بأن «كل ربة منزل كانت تمد الشيوعيين بعون قيِّم في صمت، وأبدى قرويون بريئو المظهر تعاطفًا نشطًا تجاه الشيوعيين».31
تشجَّع الشيوعيون بالنجاحات التي حققوها في حيدر أباد على التفكير في ثورة فلاحين تشمل البلد كله؛ فقد أملوا في أن تكون تيلانجانا هي بداية الهند الشيوعية، وأماط الحزب الشيوعي الهندي اللثام عن اتجاهه الجديد في مؤتمر سِرِّي عُقِد في كلكتا في فبراير ١٩٤٨؛ فخرج متحدِّث لتهيئة الحالة المزاجية المنشودة بقوله: «إن شعب تيلانجانا المغوار» مهَّد الطريق «إلى الحرية والديمقراطية الحقيقية»، فقد كان «المستقبل الحقيقي للهند وباكستان»، ولو أنَّ الكوادر الشيوعية تمكَّنت من «بث تلك الروح الثورية في جموع الشعب — فيما بين المواطنين الكادحين — فسنجد التداعيات تتوالى».32
في اجتماع كلكتا، انتخب أعضاءُ الحزب أمينًا عامًّا جديدًا؛ إذ سلَّم بي سي جوشي الراية إلى بي تي راناديف. كان راناديف صارمًا جادًّا بطبعه، على عكس جوشي المَرِح المحبَّب إلى النفس. (الجدير بالذكر أن كليهما كان هندوسيًّا من الطائفة العليا، وهو ما كان المعتاد بالنسبة للزعماء الشيوعيين آنذاك.)33
كان جوشي صديقًا لنهرو، ودعا إلى «المعارضة المخلصة» لحزب المؤتمر الحاكم؛ فقد قال إن بقاء الهند الحرة صار على المحك بعد وفاة غاندي. وأشرف على إصدار منشور للحزب عنوانها: «سوف ندافع عن حكومة نهرو» (ضد قوى البعث الهندوسي). إلا أن راناديف كان متشدِّدًا مؤمنًا بأن الهند تحكمها حكومة برجوازية موالية للإمبرياليين، وفي تحوُّل كامل في موقف الحزب، وصَف نهرو آنذاك بأنه عميلٌ للإمبريالية الأمريكية. سُحِب المنشور الذي أصدره الأمين العام السابق، وأُنزِل جوشي إلى مرتبة عضو عادي في الحزب، ووُجِّه إليه وابل من الاتهامات؛ حيث وُصِف بأنه إصلاحي شجَّع نمو الاتجاهات «المناهضة للثورة» داخل الحزب.34
وكان الموقف الجديد للحزب الشيوعي الهندي مفاده أنَّ حكومة نهرو انضمت إلى ركب التحالف الأنجلو أمريكي في «خلاف محتدم» مع «المعسكر الديمقراطي» بقيادة الاتحاد السوفييتي. وقد اعتبر بي تي راناديف الإحباط الذي ساد أوساط حزب المؤتمر علامةً على «تصاعد الانتفاضة الثورية»، ودعا من مخبئه تحت الأرض إلى تنظيم إضراب عام وانتفاضات للفلاحين في جميع أنحاء البلاد. وحثَّت منشورات الشيوعيين كوادرها على «مؤاخاة العمال الثوريين في المصانع والطلاب في الشوارع»، وعلى «توجيه بنادقكم وحِرابكم إلى أعضاء حزب المؤتمر الفاشيين». وكان الهدف الأسمى هو «الإطاحة بحكومة حزب المؤتمر المجرِمة».35
تشجَّع راناديف ورجاله بانتصار الشيوعيين في الصين؛ ففي سبتمبر ١٩٤٩ — بُعَيْد وصول ماو تسي تونج إلى سدة الحكم — أرسل إليه راناديف رسالة تهنئة قال فيها: «إن جموع شعب الهند الكادحة غمرتها الفرحة إثر هذا النصر العظيم؛ فهي تعلم أنه سيعجِّل تحريرها، وهو يحثها على التحلِّي بمزيد من العزم والشجاعة في معركتها من أجل الإطاحة بالنظام الحالي، وإرساء دعائم حكم الديمقراطية الشعبية.»36 كما شجع المنظِّرون الروس الشيوعيين الهنود؛ إذ ذهب أولئك المنظرون إلى أنَّ «النظام السياسي القائم في الهند يشبه من عدة أوجه النظام الرجعي المُعادي للشعبوية الذي كان قائمًا في الصين تحت حكم حزب الكومينتانج».37 وقد كان للسفارة السوفييتية في دلهي ذاتها طاقم موظفين كبير، بحيث كانت «الحركة الشيوعية الهندية تتلقى توجيهًا ممتازًا وفوريًّا» (على حد قول مسئول كبير في دائرة الخدمة المدنية).38
كان الشيوعيون قد أعلنوا الحرب على الدولة الهندية. ورَدَّت الحكومة بكل ما أوتيت من قوة؛ فقبضت على ما يصل إلى ٥٠ ألف عضو من الحزب الشيوعي الهندي والمتعاطفين معه واحتجزتهم. وفي حيدر أباد، قبضت الشرطة على قياديين مهمين ضمن المجموعات الشيوعية، وإن كان رافي نارايان ريدي «زعيم الحركة الشيوعية في الدكن كان ما زال حرًّا طليقًا». وقد شنَّ الحاكم العسكري جيه إن تشودري حربًا دعائية على الشيوعيين. فأعلنت المنشورات المُلقاة على القرى باللغة التيلوجوية أن أراضي التاج التي يحوزها النظام سوف تُوزَّع على الفلاحين. وعرضت فرقٌ مسرحية طافت القرى قضية الحكومة من خلال الدراما والتمثيل الإيمائي. وفي إحدى المسرحيات، صُوِّر تشودري إلهًا هندوسيًّا، فيما صُوِّر الشيوعيون شياطين.39
وقد أسفرت الدعاية السلبية والقمع عن الآثار المنشودة؛ فقد انخفضت عضوية الحزب الشيوعي الهندي من ٨٩ ألف عضو عام ١٩٤٨ إلى ٢٠ ألف عضو بعد عامين؛ إذ كشفت الهجمة المضادة التي شنتها الحكومة «قلة التعاطف الشعبي معه في اتجاهه الثوري الجامح». يبدو أن الحزب أخطأ خطأً جسيمًا في تقدير مدى إحكام حزب المؤتمر قبضته على الشعب الهندي.40
وبينما راح تأثير الشيوعيين في الانحسار، أخذت زمرة من المتطرفين تزداد قوةً في الاتجاه اليميني. كانت تلك الزمرة هي منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج. بعد اغتيال المهاتما غاندي في يناير ١٩٤٨، فرضت الحكومة حظرًا على تلك المنظمة. وعلى الرغم من أنها لم تكن ضالعة بصورة مباشرة في الاغتيال، فقد كان لها دور نشط في أحداث العنف التي اندلعت في البنجاب، وكانت تحظى بدعم كبير فيما بين اللاجئين الساخطين على حالهم. وكانت نظرتها إلى العالم شبيهة بنظرة ناثورام جودسي، وقد ترددت إشاعات واسعة النطاق مفادها أنَّ رجالها احتفلوا سرًّا بمقتل غاندي. وقد كتب نهرو إلى حكومة البنجاب بعد أسبوعين على مقتل غاندي قائلًا: «كفانا ما قاسيناه بالفعل في الهند من أنشطة جماعة راشتريا سوايامسيفاك سانج وأمثالها … فأيادي أولئك الأشخاص ملوَّثة بدم المهاتما غاندي، والآن لم يعد ثمة معنًى لإخلاء المسئولية والتبرؤ تذرُّعًا بالتُّقى والورع.»41
فُرِض حظر على المنظمة، وقُبِضَ على كوادرها، إلا أنه بعد مرور عام قررت الحكومة رفع الحظر مرة أخرى، فقد وافق رئيسها — إم إس جُلوالكَر — آنذاك على مطالبة رجاله بإعلان ولائهم لدستور الهند والعَلَم الوطني، وأن يقصر أنشطة المنظمة «على المجال الثقافي مع نبذ العنف أو السرية». وتعهَّد رئيس المنظمة لوزير الداخلية — فالابهاي باتيل — بأن المنظمة «أثناء تقديمها المساعدة للمعوزين، أكدت تعزيزها للسلام في البلاد». وقد كانت مشاعر باتيل نفسه متضاربة إزاء المنظمة؛ إذ على الرغم من استنكاره خُطَبها المعادية للمسلمين، كان معجبًا بتفانيها وانضباطها، وعندما رُفِع الحظر عنها، نصح أعضاءها بأنَّ «السبيل الوحيد أمامهم هو إصلاح حزب المؤتمر من الداخل، إذا رأوا أنه يحيد عن الصواب».42
بعد تقنين وضع المنظمة، قام جُلوالكر بجولة «انتصار» في جميع أنحاء البلاد ألقى فيها الخُطَب، واجتذب «حشودًا ضخمة». وقد كتب أحد مراقبي المشهد أن المنظمة «خرجت من محنتها الأخيرة بتأييد جماهيري قد تحسدها عليه الأحزاب الأخرى — بما فيها حزب المؤتمر — وتَحذَره، بينما ما زالت الفرصة سانحة، ما لم ترغب الأحزاب في رؤية البلاد مُسلَّمةً إلى نزعة تحريرية وحدوية هندوسية ستقودها إلى كارثة محقَّقة»؛ فقد كانت المنظمة المقابل الهندوسي للعصبة الإسلامية؛ إذ كانت «مشرَّبةً بأفكار طائفية عدوانية، وبإصرار على أنه لا مجال للتنازل عن الهدف الأسمى المتمثِّل في إرساء ثقافة هندوسية خالصة غالبة في بارات الهند».43

على غرار الشيوعي بي تي راناديف، كان جُلوالكر ينتمي إلى الطائفة العليا في مهاراشترا. كلا الرجلين كان شابًّا نسبيًّا — في أوائل الأربعينيات — وكلاهما حَظِيَ بولاء مئات من الكوادر الأصغر سنًّا إلى حدٍّ بعيد؛ فكلٌّ من منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج والشيوعيين استمدَّ طاقة الشباب ومثاليتهم، وكذلك تعصُّبهم، وفي الأيام الأولى لاستقلال الهند، كانت هاتان الجماعتان خصميْ حزب المؤتمر الحاكم الأكثر حماسًا.

على رأس حزب المؤتمر، كان رئيس الوزراء جواهر لال نهرو. واجه نهرو عائقين رئيسيين في تصديه للراديكاليين اليساريين واليمينيين؛ أولًا: كان نهرو معتدلًا، وعادةً لا تفضي الوسطية إلى نوعية الخُطب العصماء التي تهيِّج الرجال وتدفعهم إلى الحركة. وثانيًا: كان نهرو وزملاؤه أكبر سنًّا بكثير من خصومهم السياسيين؛ ففي عام ١٩٤٩، كان نهرو نفسه في الستين من عمره، وهو عمر يُفتَرَض بالرجل الهندوسي عندما يبلغه أن يعتزل الحياة اليومية ويعتنق الحياة الرهبانية.

كان نهرو يَعتبر منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج أكبر الخطرين، وهو رأي اختلف معه فيه آخرون في حكومته، أبرزهم فالابهاي باتيل. الغريب أن إم إس جُلوالكَر كان قد كتب إلى باتيل عارضًا المساعدة في محاربة عدوهما المشترك؛ الشيوعيين. قال في رسالته: «إذا استغللنا سلطة حكومتك والقوة الثقافية لمنظمتنا، فسرعان ما سنتمكن من التخلص من الخطر الشيوعي.»44 راقت فكرة الجبهة المتحدة تلك لباتيل، بل ربما تكون هي التي حدَتْ به إلى التفكير في احتواء منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج داخل حزب المؤتمر.
واقع الأمر أن أعضاء المنظمة لم يُسمَح لهم بالانضمام إلى الحزب، ولكن جُلوالكَر ظل طليقًا، متمتعًا بحرية عرض آرائه على من اختاروا الاستماع إليها. في الأسبوع الأول من نوفمبر ١٩٤٩، ألقى خطابًا أمام جمهور بلغ ١٠٠ ألف شخص في حديقة شيفاجي ببومباي. وقد وصفه أحد الصحفيين الحاضرين بأنه «رجل متوسط الطول، غائر الصدر، شعره طويل مُرسَل غير مهذب، وله لحية متدلية». كان يبدو رجلًا هندوسيًّا زاهدًا بريئًا، عدا أن «عينيه السوداوين الثاقبتين الغائرتين في محجريهما منحاه المظهر التقليدي لمشعوذ على وشك تنفيذ حيلة مخيفة». وقبل أن يبدأ حديثه، قدَّمت له نوادٍ متخصصة في كمال الأجسام والفنون القتالية أطواقًا من الزهور. كان الحديث في حد ذاته «فائر الحماس» في إشادته بفضائل الثقافة الهندوسية، وعلى حد تعبير الصحفي: «لقد قدم العلاج الشافي لعلل الأمة كافة، وهو: تنصيب جُلوالكَر فوهرر للهند قاطبة.»45

بعد أسبوع جاء جواهر لال نهرو لإلقاء خطبة في بومباي، وكان مكان الخطبة هو نفس المكان الذي ألقى فيه جلوالكر خطبته: حديقة شيفاجي؛ واحة المروج الخضراء في قلب المستعمرات السكنية المزدحمة في وسط بومباي، التي كانت تغلب عليها الطبقة الوسطى من متحدثي اللغة الماراثية. استخدم نهرو مكبر الصوت ذاته الذي استخدمه جلوالكر، والذي أمدته به شركة موتواني شيكاجو للهواتف والإذاعة. إلا أن الرسالة التي نقلها كانت مختلفة اختلافًا بيِّنًا؛ إذ تحدَّث عن الحاجة إلى حفظ السلام الاجتماعي داخل الهند، إضافةً إلى السلام بين الدول المتناحرة خارجها.

ألقى نهرو خطابه في عيد ميلاده الستين يوم ١٤ نوفمبر ١٩٤٩، وما كان ليتمنى هدية أفضل من مشاعر الودِّ الفيَّاضة التي أعرب عنها أبناء بلده ذلك اليوم. كان المنتظَر أن يصل بومباي الساعة ٤:٣٠ عصرًا؛ فقبل ساعة على هبوط طائرته في مطار سانتا كروز، «أخذ الناس يغلقون محلاتهم وتوقفوا عن العمل حتى يتمكنوا من رؤية نهرو، وتزاحموا على الأرصفة وفي الشوارع قبل أن تمرق إلى جوارهم السيارة المكشوفة ذات اللون الأحمر الداكن التي استقلَّها نهرو بوقت طويل. وأثناء مروره استرعت الانتباه عاصفة من التلويح والهتاف».

وصل نهرو — بعدما اغتسل وبدَّل ثيابه — بعد ساعة إلى حديقة شيفاجي. وهناك «توافدت حشود غير مسبوقة إلى ساحة الميدان الفسيحة للاستماع إليه؛ فتجمَّع أكثر من ٦٠٠ ألف شخص في تلك الأمسية الخالدة. كان ثمة كتلة بشرية فائرة الحماس، من رجال ونساء وأطفال أتوا … للاستماع إليه؛ إذ كانوا ما زالوا مؤمنين بقيادته وقدرته على توجيههم في الفترة العصيبة المقبِلة المليئة بالتحديات».46

جاء مائة ألف شخص للاستماع إلى جلوالكر يدعو إلى فكرة إقامة دولة دينية هندوسية في الهند، إلا أن معقل المهاراشتريين ذاك حضر فيه ستة أمثال ذلك العدد لتشجيع رئيس الوزراء في دفاعه عن الديمقراطية في مواجهة الحكم المطلق، والعلمانية في مواجهة الشوفينية الهندوسية؛ ففي إطار ذلك التنازع بين الأفكار المتنافسة المتعلقة بالهند، أحرز جواهر لال نهرو نصرًا محققًا، حتى ذلك الحين على أي حال.

٧

مثَّلت عملية إعادة توطين اللاجئين — مثلها مثل عملية دمج الولايات الأميرية في الاتحاد الهندي — مشكلة سياسية غير مسبوقة من حيث طبيعتها ونطاقها؛ فقد كُتِب عن عدد المهاجرين من باكستان إلى الهند أنه كان «مثل أوراق خريف متساقطة تحملها الرياح، أو أجزاء من صحف متطايرة هنا وهناك وسط عاصفة من الغبار؛ فقد كان من وصل سليم البدن والعقل بلا وجهة أو جذور».47

اقتربت أعداد اللاجئين الذين توافدوا إلى الهند عقب الاستقلال من ٨ ملايين. كان ذلك العدد يفوق تعداد سكان بعض البلدان الأوروبية الصغيرة مثل النمسا والنرويج، ويعادل سكان قارة كأستراليا. وقد أُعيد توطين هؤلاء الناس ببذل الوقت والجهد والنقود، وأخيرًا وليس آخرًا: من خلال المثالية.

اشتملت عملية بناء الهند الجديدة على قدر كبير من البطولة والعظَمَة بالفعل، كما تضمَّنت سقطات وأخطاء وأمورًا معلَّقة ظلَّت دون أنْ تُحسَم؛ فقد انطوت عملية القضاء على طبقة الأمراء — وكذلك عملية إعادة توطين اللاجئين — على ضروب من الألم والمعاناة، إلا أن المُهمَّتَين قُضيتا في نهاية الأمر.

من الجدير بالذكر، أن الأطراف الفاعلة في تلك العملية المعقدة والملتوية كانوا جميعًا هنودًا. كان ذلك أمرًا غير متوقع على الإطلاق، بالنسبة إلى بريطانيا على الأقل. وقد كتب حاكم سابق للبنغال عام ١٩٤٧ يقول:
إن نهاية سيطرة بريطانيا السياسية على الهند لن تعني رحيل البريطانيين كأفراد عنها؛ فلسنوات عدة لن تستطيع الهند أن تستغني عن العدد الكبير من الأفراد البريطانيين العاملين في دائرة الخدمة الحكومية. سوف يظلون متعاقدين مع حكومة الهند وحكومات المقاطعات والولايات في مجموعة كبيرة من الوظائف الإدارية والقانونية والطبية والشُّرطية والمهنية والفنية، وستمر سنوات طويلة قبل أن تتمكن الهند من شغل المناصب العليا العديدة كلها بأبنائها، في ظل نطاق الحكومة المطلوبة لإدارة شئون شعبها البالغ عدده ٤٠٠ مليون نسمة.48

والواقع أنَّ ذلك العون لم يُطلب، ولا اقتضته الحاجة؛ فالحق يُقال إن الحكام البريطانيين كانوا قد خلَّفوا مجموعة من المؤسسات الفعالة؛ هي: دائرة الخدمة المدنية، وجهاز الشرطة، والقضاء، والسكك الحديدية، وغيرها. في وقت الاستقلال، دعت حكومة الهند الأعضاء البريطانيين في دائرة الخدمة المدنية الهندية إلى البقاء، ولكنهم جميعًا — باستثناءات قليلة — عادوا إلى وطنهم، بصحبة زملائهم في الدوائر الأخرى. لذا صار الأبطال الذين تخلِّد هذه الصفحات ذكراهم هنودًا كلهم، سواء كانوا رجال سياسة مثل نهرو وباتيل، أم بيروقراطيين مثل تارلوك سينج وفي بي مينون، أم أخصائيين اجتماعين مثل كمالا ديفي تشاتوبادياي ومريدولا سارابهاي. يسري ذلك أيضًا على جنود مجهولين لا حصر لهم لم تُعرَف أسماؤهم آنذاك ولا يزالون مجهولين إلى الآن، هؤلاء هم الموظفون الذين تلقَّوا طلبات تخصيص الأراضي، وتولَّوا البتَّ فيها، والموظفون الذين شيَّدوا المساكن وأداروا المستشفيات والمدارس، والموظفون الذين عملوا في المحاكم ووظائف السكرتارية. كذلك كان السواد الأعظم من الأخصائيين الاجتماعيين الذين عملوا على استمالة اللاجئين ومواساتهم ورعايتهم هنودًا.

وقد كتب مهندس معماري أمريكي يُدْعَى ألبرت ماير — عمل في الهند خلال السنوات الأولى بعد الاستقلال — بانفعال عن سمو الأشخاص المحيطين به ومثاليتهم، فقال: «إن عدد الأشخاص الذين رأيتهم ونوعياتهم وقدراتهم ونظرتهم وطاقتهم وتفانيهم، والمناخ المتَّقِد من الخطط والتوقعات وعدم الاستقرار، ورغم ذلك الهدوء ورباطة الجأش! محصلة ذلك كله متواجدة في لحظة ميلاد أمة.»49

في تاريخ بناء الأمم لا يوجد نظير للتجربة الهندية سوى التجربة السوفييتية؛ ففي الاتحاد السوفييتي بدوره، اصطُنِع شعور الوَحدة بين جماعات عرقية وديانات وجماعات لغوية وطبقات اجتماعية شتى، وقد كان حجمه — جغرافيًّا وكذلك ديموغرافيًّا — شاسعًا فيما يشبه الهند. كانت المادة الخام التي كان على الدولة العمل بها غير مواتية بالمِثل؛ شعب قسَّمته الديانات، وعصفت به الديون والأمراض.

كانت الهند بعد الحرب العالمية الثانية تشبه الاتحاد السوفييتي بعد الحرب العالمية الأولى إلى حدٍّ بعيد، فقد نشأت دولة من أشتاتها، إلا أنه في حالة الهند لم تُيَسَّر العملية بالقضاء على الأعداء من المنتمين للطبقات العليا أو إقامة معسكرات اعتقال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤