الفصل السادس

الدستور

في الحكم تتحقق صور إنكار الذات كافة. في الحكم تتحد الأسرار المقدسة كافة. في الحكم تجتمع المعرفة كافة. وفي الحكم تتركز العوالم كافة.

ملحمة «مهابهاراتا»

إن الأخلاقيات الدستورية ليست شعورًا فطريًّا، وإنما يجب غرسها. علينا أن ندرك أن شعبنا لم يتعلمها بعدُ؛ فالديمقراطية في الهند ليست أكثر من نثر للسماد فوق تربة هندية، غير ديمقراطية في أساسها.

بي آر أمبيدكار

١

إن دستور الهند بما يحويه من ٣٩٥ مادة واثني عشر جدولًا هو أطول دساتير العالم على الأرجح. بدأ العمل به في يناير ١٩٥٠، بعدما استغرقت صياغته ثلاثة أعوام، في الفترة ما بين ديسمبر ١٩٤٦ وديسمبر ١٩٤٩. خلال تلك الفترة، ناقشت الجمعية التأسيسية الهندية مسوداته بندًا بندًا، وإجمالًا عقدت الجمعية التأسيسية إحدى عشرة جلسة استغرقت ١٦٥ يومًا، وفيما بين الجلسات تولَّت عدة لجان ولجان فرعية مهمة مراجعة المسودات وتنقيحها.

طُبِع محضر جلسات الجمعية التأسيسية في أحد عشر مجلدًا ضخمًا. وتُمَثِّل تلك المجلدات — التي يتخطَّى بعضها الألف صفحة — شهادة على حب الهنود للإطناب، ولكنها تشهد أيضًا على ما يتمتعون به من بصيرة وذكاء وحماسة وحس دعابة. تلك المجلدات كنز لا يعرفه الكثيرون، لا يُقدَّر بثمن بالنسبة إلى المؤرخين، وكذلك مصدر تنوير محتمل لمن يهمه الأمر من المواطنين؛ ففيها نجد أفكارًا كثيرة متنازعة بشأن الدولة؛ من حيث اللغة التي ينبغي أن تتحدثها، والنظام السياسي والاقتصادي الذي ينبغي أن تتبعه، والقيم الأخلاقية التي ينبغي أن تتمسك بها أو تتخلى عنها.

٢

منذ أوائل ثلاثينيات القرن العشرين أصرَّ حزب المؤتمر على أن يصوغ الهنود دستورهم بأنفسهم. وفي عام ١٩٤٦، نزل اللورد ويفل على ذلك الطلب أخيرًا. اختير أعضاء الجمعية التأسيسية على أساس انتخابات مجالس المقاطعات التي أُقيمت ذلك العام. إلا أن العصبة الإسلامية قررت مقاطعة الجلسات الأولى؛ مما جعل الجمعية التأسيسية عمليًّا منبر حزب واحد.

عُقدت أول جلسة للجمعية التأسيسية يوم ٩ ديسمبر ١٩٤٦، وخيمت مشاعر الترقب على الأجواء. جلس زعماء حزب المؤتمر — مثل نهرو وباتيل — في الصفوف الأمامية، إلا أنه بغية إثبات أن الجلسة لا تقتصر من حيث المبدأ على حزب المؤتمر وحده، خُصِّصت لمعارضين معروفين — مثل سَرات بوس من البنغال — مقاعد أمامية أيضًا. وذكرت إحدى الصحف القومية أنَّ «تسع سيدات قد حضرن مما أضفى لونًا» لمشهد غلبت عليه قبعات غاندي وسترات نهرو.1
إلى جانب الأعضاء الذين أوفدتهم مقاطعات الهند البريطانية، تضمَّنت الجمعية التأسيسية أيضًا ممثلين عن الولايات الأميرية، أرسلتهم تلك الولايات إذ انضمت إلى الاتحاد واحدة تلو الأخرى. وقد كان ٨٢٪ من أعضاء الجمعية العامة أعضاء في حزب المؤتمر، إلا أنه بما أن ذلك الحزب كان في حد ذاته متعدد الأطياف، فقد تعددت آراء أعضائه. كان فيه ملحدون وعلمانيون، وآخرون كانوا «أعضاء في حزب المؤتمر نظريًّا، ولكنهم ينتمون بروحهم إلى منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج أو منظمة هندو ماهاسابها».2 وكان منهم ذوو الفلسفة الاقتصادية الاشتراكية، بينما ناصر آخرون حقوق ملاك الأراضي. وإلى جانب التباين الذي انطوى عليه حزب المؤتمر في داخله، فقد رَشَّحَ أيضًا أعضاء مستقلين من مختلف الطوائف الهندية والجماعات الدينية، كما كفل تمثيل المرأة، وسعى إلى الاستعانة بخبراء القانون بصفة خاصة، ومن ثَمَّ «لم يكن ثمة طيف من أطياف الرأي العام لم يُمثَّل في الجمعية التأسيسية».3
كان توسيع القاعدة الاجتماعية للجمعية التأسيسية يُعزَى في جزء منه إلى الانتقادات البريطانية؛ فقد أبدى ونستون تشرشل، بصفة خاصة، استنكارًا بالغًا إزاء فكرة إنشاء جمعية تأسيسية تغلب عليها «جماعة واحدة كبرى في الهند»، وهي: الهندوس. إذ رأى أن حزب المؤتمر لم يكن حزبًا مُمثلًا للمجتمع بحق، وإنما بوق «الأقليات نشطة التنظيم والتخطيط التي استولت على السلطة باستخدام القوة أو الحيلة أو الخداع، ثم مضَتْ إلى استخدام تلك السلطة باسم الجماهير العريضة التي فقدت كلَّ صلةٍ فعلية بها منذ زمن».4
وقد أُكسِبتْ تلك العملية طابعًا أقوى من المشاركة بمطالبة الشعب أجمع بتقديم طلباته؛ فوردت مئات الطلبات، التي تشير دراسة عينات منها إلى طبيعة المصالح التي كان على المشرِّعين أن يضعوها في اعتبارهم؛ فطلبت منظمة فرناشارما سواراجيا سانج لعموم الهند (التي مقرها كلكتا) أن يكون الدستور «قائمًا على المبادئ المرساة في النصوص الهندوسية القديمة». وكان مما أوصت به، بصفة خاصة، حظر ذبح الأبقار وإغلاق المسالخ. وطالبت الطوائف الهندية الدنيا بوضع حدٍّ «لسوء المعاملة من جانب الطوائف الاجتماعية العليا»، وأيضًا «حجز مقاعد خاصة لهم على أساس تعدادهم في المجالس التشريعية، والدوائر الحكومية، والهيئات المحلية، وما إلى ذلك». وطالبت الأقليات اللغوية بمنْحها «حرية التحدث باللغة الأم»، وكذلك «إعادة توزيع المقاطعات على أساس لغوي». وطالبت الأقليات الدينية بضمانات خاصة، وطالبت هيئات متنوعة على غرار نقابة معلمي منطقة فيزياناجارام والمجلس اليهودي المركزي في بومباي بمنح أعضائها «التمثيل اللائق … في جميع الهيئات العامة، بما في ذلك المجالس التشريعية وما إلى ذلك».5
تشهد تلك الطلبات على ما تتسم به الهند من تنوُّع مُربِك، ولكنها تشهد أيضًا على وجود «ثقافة حقوقية» نشأت مبكِّرًا في صفوف الهنود؛ فقد كانوا كُثرًا ومنقسمين، والأهم من ذلك كله أنهم لم يجدوا غضاضة في الإفصاح عن آرائهم. كان على دستور الهند أن يفصل بين آلاف المزاعم والمطالب المتنازعة، وزاد الِاضْطِراب الذي ساد تلك الفترة صعوبة المهمة؛ فقد التقت الجمعية التأسيسية بين عام ١٩٤٦ وعام ١٩٤٩، على خلفية ندرة الغذاء، وأعمال الشغب الطائفية، وإعادة توطين اللاجئين، والحروب الطبقية، والتعنُّت الإقطاعي. وعلى حد قول أحد مؤرخي تلك المرحلة: «كان من المفترض أن تُصاغ الحقوق الأساسية وسط مجزرة المظالم الكبرى.»6

٣

تألَّفت الجمعية التأسيسية مما يزيد عن ٣٠٠ عضو إجمالًا. وقد حدد جرانفيل أوستن في تأريخه للدستور الهندي عشرين عضوًا باعتبارهم الأشد تأثيرًا؛ مِن هؤلاء كان ما لا يقل عن اثني عشر حاصلًا على درجة علمية في القانون، منهم أعمدة في حزب المؤتمر؛ مثل: جواهر لال نهرو، وفالابهاي باتيل، وراجندرا براساد.

كان أول خطاب مهمٍّ يلقيه نهرو في الجمعية التأسيسية يوم ١٣ ديسمبر من عام ١٩٤٦، عندما اقترح «قرار الأهداف». أعلن ذلك القرار الهند «جمهورية مستقلة ذات سيادة»، وكفل لمواطنيها «العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والمساواة في المكانة، والمساواة في الفرص، والمساواة أمام القانون، وحرية الفكر والتعبير والاعتقاد، والعقيدة والعبادة، والعمل والتجمع والتصرف، بما يتماشى مع القانون والأخلاق العامة». وصاحب ذلك كله التأكيد على «منح الضمانات اللازمة للأقليات، والمناطق المتخلفة، والمناطق القبلية، والطبقات المقهورة، وغيرها من الطبقات المتخلفة». في اقتراح هذا القرار استحضر نهرو روح غاندي و«ماضي الهند العظيم»، فضلًا عن السوابق الحديثة مثل الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية والثورة الروسية.7
بعد تسعة شهور، ألقى نهرو خطابًا آخر في القاعة المُعمدة ذاتها — في منتصف الليل — مطالبًا الهنود بالوفاء بموعدهم مع القدر. فيما بين هاتين الخطبتين — يوم ٢٢ يوليو من عام ١٩٤٧ — اقترح قرارًا مفاده أن يكون العلم الوطني للهند «مقسمًا أفقيًّا بالتساوي بين ثلاثة ألوان هي: الزعفران، والأبيض، والأخضر الداكن»، وتتوسَّطه عجلة باللون الكحلي. في تلك المناسبة، قاد نهرو أنشودة التنافس في الوطنية؛ إذ سعى متحدث تلو الآخر إلى رؤية شيء خاص في ألوان العلم يُظهر مساهمة طائفته في الهند.8
وبطبيعة الحالة، كانت الخُطَب ذات الأهمية الرمزية هي الخطب التي ألقاها نهرو. وبالمثل، كان القائم بمعظم العمل بعيدًا عن دائرة الضوء هو فالابهاي باتيل؛ إذ بصفته سياسيًّا حزبيًّا محنَّكًا، اضطلع بدور رئيسي في صياغة التقارير على مختلف أنواعها؛ فقد كان باتيل — وليس نهرو، الذي لم يكن صبورًا بالقدر ذاته — هو الذي تولَّى مهمة الوساطة بين الأطراف المتخاصمة، حيث كان يأخذ الأعضاء المتمرِّدين معه في تمشيته الصباحية ويريهم وجهة النظر الأشمل، وكان باتيل أيضًا هو من اقترح أحد القرارات المثيرة للجدل، وهو القرار المعني بحقوق الأقليات.9

ثالث أعضاء حزب المؤتمر المهمين كان هو رئيس الجمعية التأسيسية راجندرا براساد، الذي رُشِّح لذلك المنصب في اليوم التالي على تأسيس الجمعية وصانَه بوقار حتى النهاية. كانت المهمة التي أُوكِلت إليه مهمة لا يُحسَد عليها؛ إذ إن الهنود يجيدون الحديث أكثر من الاستماع، ولا سيما رجال السياسة الهنود؛ فكان على براساد أن يصلح بين الأعضاء المتخاصمين، وأن يُلزم رجالًا لا يستطيعون أحيانًا التمييز بين صغائر الأمور وكبائرها بحدود الوقت (وهي مهمة لا تقل صعوبة عن الأولى).

إلى جانب ثُلاثي حزب المؤتمر المذكور، كان أهم عضو في الجمعية هو المحامي البارع المنتمي إلى الطائفة الدنيا بي آر أمبيدكار. شغل أمبيدكار منصب وزير القانون في حكومة الاتحاد الهندي، وكذلك منصب رئيس لجنة صياغة الدستور. وعمل إلى جواره عقلان عظيمان آخران هما: كيه إم مونشي؛ روائي ومحامٍ، وكذلك مناضل واسع الثقافة من جوجارات، وألَّادي كريشنا سوامي آيَّر؛ وهو تاميلي شغل منصب النائب العام في رئاسة مدراس طوال خمسة عشر عامًا.

حريٌّ بنا أن نضيف إلى هؤلاء الرجال الستة رجلًا سابعًا لم يكن عضوًا في الجمعية التأسيسية على الإطلاق؛ ذلك هو بي إن راو، الذي عمل مستشارًا دستوريًّا لحكومة الهند. وخلال تاريخ مهني طويل في دائرة الخدمة الهندية شغل سلسلةً من المناصب القانونية. أعدَّ راو سلسلة من المذكرات لكي ينظر فيها أمبيدكار وفريقه، مستعينًا بدراسته وخبرته، وجولة دراسية كان قد أنهاها لتوِّه في الدول الديمقراطية الغربية. تَلَقَّى راو بدوره المساعدة من كبير مسئولي الصياغة إس إن موخرجي، الذي كانت «قدرته على وضع أكثر المقترحات تعقيدًا في أبسط وأوضح صياغة قانونية يندر أن تجد لها نظيرًا».10

٤

الرؤية الأخلاقية والمهارة السياسية والفطنة القانونية، كل تلك العناصر اجتمعت في صياغة الدستور الهندي، وكان في ذلك اتحادٌ لما سمَّاه جرانفيل أوستن الثورة «الوطنية» والثورة «الاجتماعية».11 ركَّزت الثورة الوطنية على الديمقراطية والحرية اللتين حرمت تجربة الحكم الاستعماري الهنود جميعًا منهما، بينما ركَّزت الثورة الاجتماعية على التحرر والمساواة، اللذين حرمت التقاليد والنصوص الدينية النساء والطوائف الاجتماعية الدنيا منهما.
فهل كان يمكن إحداث هاتين الثورتين المتلازمتين بسبل محلية؟ دعا البعض إلى وضع دستور مُستوحًى من فِكر غاندي يقوم على إعادة إحياء نظام «حكم البنشايات» (مجالس القرى)، وبه تكون القرية هي الوحدة الأساسية للسياسة والحكم. لقيت تلك الدعوة هجومًا عنيفًا من بي آر أمبيدكار، الذي رأى أن «تلك الجمهوريات القروية كانت مبعث هلاك الهند». وقد تفاجأ أمبيدكار «بأن من أدانوا النزعة الإقليمية والطائفية صاروا يناصرون القُرى؛ فما القرى سوى أوكار للانتماءات المحلية، ومستنقعات من الجهل وضيق الأفق والطائفية».12
أثارت تلك التعليقات سخط بعض الأطراف؛ فقد استهزأ الاشتراكي إتش في كامات بموقف أمبيدكار باعتباره «موقفًا طبيعيًّا لأبناء الحضر المثقفين». وقال زعيم الفلاحين إن جي رانجا إن تعليقات أمبيدكار إن دلَّت على شيء فعلى جهله بتاريخ الهند. وقال: «إنه لا يفقه شيئًا في التقاليد الديمقراطية لبلدنا. إن كان عرف الإنجازات التي حققتها مجالس القرى في جنوب الهند على مدى ألف سنة، ما قال ذلك الكلام.»13
إلا أن العضوة المشاكسة من المقاطعات الاتحادية — بيجام إعزاز رسول — كانت «متفقة تمامًا» في الرأي مع الدكتور أمبيدكار؛ فقد رأت أن «الحداثة تميل إلى حقوق المواطن في مواجهة أي هيئة اعتبارية، ومجالس القرى يمكن أن تكون شديدة الاستبداد».14
في نهاية الأمر، اختير الفرد — لا القرية — ليكون هو الوحدة الأساسية. في نواحٍ أخرى أيضًا، احتذى الدستور بالسوابق الأوروبية الأمريكية عوضًا عن الهندية؛ فطُرِح النظام الرئاسي الأمريكي ثم رُفِض، وكذلك رُفِض النظام السويسري القائم على انتخاب الوزراء بالاقتراع المباشر. وقد ناصر كثير من الأعضاء نظام التمثيل النسبي، لكنه لم يؤخذ على محمل الجد قط. وقد اتبعت مستعمرة بريطانية سابقة أخرى — أيرلندا — هذا النظام، ولكن عندما زار المستشار الدستوري بي إن راو دبلن، أخبره دي فاليرا نفسه أنه يتمنى لو أن الأيرلنديين تبنوا «نظام الانتخاب الفردي» البريطاني في الانتخابات، وكذلك نظام مجلس الوزراء البريطاني؛ فقد كان يشعر أنَّ هذين النظامين يتمخَّضان عن حكومة قوية. وفي الهند، حيث كان عدد جماعات المصالح المتنافسة أكبر بما يفوق القياس، كان اتِّباع النموذج البريطاني منطقيًّا أكثر؛15 فتقرر اختيار أعضاء مجلس الشعب في البرلمان الهندي — وكذلك مجالس النواب في الأقاليم — على أساس الاقتراع العام للبالغين. وبعد مداولات مستفيضة، قرر البرلمان — وكذلك معظم الأقاليم — إنشاء مجلس ثانٍ ليكون رقيبًا على الحماس الديمقراطي المفرط، واختير أعضاؤه بالاقتراع غير المباشر؛ حيث اختارتهم المجالس التشريعية للولايات في حالة مجلس الشيوخ.
في حين أن مجلس الوزراء تزعَّمه رئيس الوزراء، فإن رئيس الدولة كان رئيسًا انتخبه مجمع انتخابي يتضمن المجالس التشريعية الوطنية والإقليمية، وتقرر أن يكون الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وأن يتمتع بسلطة إعادة مشروعات القوانين إلى البرلمان. كان ذلك منصبًا ذا «نفوذ وكرامة عظيمين»، ولكنه — على غرار الملكية البريطانية — لم يكن ذا «سلطة حقيقية».16 (في الأقاليم اضطلع حاكم ترشِّحه الحكومة المركزية بدور شبيه بدور الرئيس.) وقد نصَّ الدستور على إنشاء لجنة انتخابية مستقلة، ومراقب مالي عام للحسابات. وفي سبيل حماية القضاء من السياسات الحزبية، تقرر أن يعيِّن الرئيس القضاة بالتشاور مع رئيس المحكمة العليا، ولا يقرر البرلمان مرتباتهم، وإنما يُعهَد بها إلى خزانة الدولة مباشرة. كان يُنظَر إلى المحكمة العليا في دلهي على أنها حامية الثورة الاجتماعية، وكذلك الضامن للحقوق المدنية وحقوق الأقليات، ومُنِحت اختصاصًا استئنافيًّا واسعًا، إذ كان يجوز أن تُحوَّل لها أي قضية مدنية أو جنائية تتضمن تفسيرًا للدستور.

وقد نص الدستور على نظام معقَّد من الفيدرالية المالية؛ ففي حالة بعض الضرائب (مثل الجمارك وضريبة الشركات) احتفظت حكومة الاتحاد بالعوائد كافة، وفي غيرها (مثل ضريبة الدخل وضريبة الإنتاج) تقاسمت العوائد مع الولايات، وفي ضرائب أخرى (مثل ضريبة التركات) مُنِحت الولايات العائد كله. في الوقت نفسه، كان بإمكان الولايات أن تفرض ضرائب معينة وتجبيها دون الرجوع للحكومة؛ ومنها: ضريبة الأراضي، وضريبة الملكية، وضريبة المبيعات، والضريبة عالية الربحية التي تُفرَض على المشروبات الكحولية المعبَّأة.

استندت تلك المواد المالية بقوة إلى قانون حكومة الهند الصادر عام ١٩٣٥. في المقابل، تضمَّن الجزءان الثالث والرابع «ضمير الدستور»،17 الذي ورد فيه مجموعة من الحقوق الأساسية والمبادئ التوجيهية. تلك الحقوق الأساسية واجبة النفاذ في المحاكم كانت مُستمَدَّة من الالتزام السلبي بعدم التعدِّي على الحرية الشخصية أو تقييدها، والالتزام الإيجابي بحماية الأفراد والجماعات من الإجراءات التعسفية للدولة. تضمنت الحقوق المنصوص عليها: الحرية، والمساواة أمام القانون، والحقوق الثقافية للأقليات، وحظر الممارسات من قبيل نبذ المَنْبوذين والعمل القسري.18 أما المبادئ التوجيهية غير الخاضعة لحكم القضاء، فكانت مستمَدَّة من التزام الدولة الإيجابي بتوفير حياة أكثر إشباعًا للمواطن، وكانت خليطًا عجيبًا من القوى المتجاذبة المتنازعة؛ فبعض المبادئ كان فيها تنازل للجناح الاشتراكي من حزب المؤتمر، وأخرى (مثل حظر ذبح الأبقار) أتت إرضاءً للفصيل المحافظ في الحزب.19
بالنسبة إلى المراقب المحايد، مثَّل الدستور تكييفًا للمبادئ الغربية بما يتلاءم مع الغايات الهندية. ولكن بعض الوطنيين لم يروه هكذا؛ فقد زعموا أن الهنود هم من ابتكروا فكرة منح حق الاقتراع للبالغين. وتحدث تي براكاسام عن نقش على جدران معبد قديم في كونجيفارام عُمُره ألف عام، تحدث عن إجراء انتخاب اسْتُخْدِمَت فيه أوراق الشجر كأوراق اقتراع، والآنية الفخارية كصناديق اقتراع.20 لم تكن تلك الشوفينية حكرًا على الجنوب وحده، فقد زعم خبير اللغة الهندية راجو فيرا أن الحضارة الهندية القديمة كانت «منبع نظام الحكم الجمهوري»، وأنها «نشرت ذلك النظام في سائر أنحاء العالم».21
أما من تطلَّعوا إلى أحكام الدستور عن كثب، فلم يكن في مقدورهم تعزية أنفسهم هكذا؛ إذ شعر مهافير تياجي «بإحباط بالغ لعدم رؤية أثر لغاندي في ذلك الدستور».22 وتذمَّر كيه هانومان تايا من أنه في حين رغب المناضلون من أجل الحرية مثله في «موسيقى الفينا أو السيتار» (آلات وترية هندية)، كان ما حصلوا عليه هو «موسيقى إحدى الفرق الإنجليزية».23

٥

سعى الدستور الهندي إلى تعزيز الوحدة الوطنية، وكذلك إلى تيسير التغير الاجتماعي التقدُّمي؛ فقد تضمَّن الحق الأساسي في نشر الدين، ولكن الولاية احتفظت لنفسها بحق فرض التشريعات المعنية بالإصلاح الاجتماعي (مثل قانون مدني موحد). كانت حكومة الاتحاد مخوَّلة — عبر التخطيط على المستوى الوطني — سلطة إعادة توزيع الموارد من المقاطعات الأغنى إلى المقاطعات الأفقر. لم تتضمن التشريعات الخاصة بالملكية الحق في ضمان الحقوق القانونية الفردية، وهو موضع آخر طغَتْ فيه المصلحة المجتمعية كما تحددها الولاية على حقوق الفرد. وقد طُرحت قوانين الإصلاح الزراعي للنقاش في مقاطعات كثيرة، وأرادت الحكومة أن تغلق باب التقاضي أمام المقرِضين والمُلَّاك الساخطين.

وُصِفت الحقوق الأساسية وتحددت بناءً على احتياجات الإصلاح الاجتماعي، وكذلك اعتبارات الأمن والنظام العام؛ فكان ثمة بنود خاصة بحقوق تُعلَّق في «حالة الطوارئ القومية». وورد بند في الدستور يبيح «الاحتجاز الاحتياطي» دون محاكمة، وهو ما أطلق عليه أحد المناضلين من أجل الحرية المُخَضْرَمين «أسوأ ما شاب الدستور»؛ فهو إذ كان قد أمضى عشرة أعوام من حياته في «الزنزانات وحجرات المحكوم عليهم بالإعدام في أيام الاستعباد البريطاني»، كان يعلم «ألوان العذاب التي يذوقها من يُحتجَز دون محاكمة، ولا يمكنني القَبول بذلك أبدًا».24

أبدى الدستور قدرًا من التحيز لحقوق الاتحاد الهندي في مواجهة حقوق الولايات المكونة له؛ فقد كان ثمة نظام مركزي قائم بالفعل، فرضته حكومة الاستعمار. وقد أسفر العنف الذي ساد تلك الحقبة عن دَفعة إضافية تجاه المركزية، التي صارت تُعتبَر آنذاك ضرورة من أجل منع وقوع الفوضى، وكذلك من أجل تخطيط النمو الاقتصادي للبلاد.

وقد ورد في الدستور ثلاث قوائم من الموضوعات: قائمة الاتحاد، وقائمة الولايات، وقائمة الاختصاص المشترك. كانت موضوعات القائمة الأولى (الاتحاد) خاصة بالحكومة المركزية، في حين اختصَّت الولايات بالموضوعات الواردة في القائمة الثانية (الولايات). أما القائمة الثالثة (الاختصاص المشترك)، فاشتركت حكومة الاتحاد والولايات في موضوعاتها، إلا أن البنود التي انفرد بها «الاتحاد» كانت أكثر مما في الاتحادات الفيدرالية الأخرى، وكذلك كانت البنود الموضوعة على قائمة «الاختصاص المشترك» أكثر مما رغبت الولايات. إضافةً إلى ذلك، سيطرت حكومة الاتحاد على الثروة المعدنية والصناعات الكبرى، ومنحتها المادة ٣٥٦ سلطة تولي إدارة ولاية بناءً على توصية حاكمها.25
قاتَل ساسة الولايات باستماتة في سبيل حقوق الولايات، وتقليل البنود المدرَجة تحت قائمة «الاختصاص المشترك» وقائمة «الاتحاد»، فطلبوا نصيبًا أكبر من عوائد الضرائب، وشنُّوا حملة أيديولوجية على المبدأ في حد ذاته. وقد قال عضو من أوريسَّا إن الدستور تضمن «سلطة بالغة المركزية، حتى إني أخشى ألا تتحمل حكومة الاتحاد كل تلك المهام الملقاة على عاتقها». ورأى عضو من ميسور أن ما اقتُرِح كان دستورًا «مركزيًا» لا «فيدراليًّا»؛ فقد ورد في مواده أن «الديمقراطية مركزها دلهي، ولا يجوز العمل بها بالمعنى ذاته والروح ذاتها في سائر أنحاء البلاد».26
وقد يكون أفصح دفاع عن حقوق الولايات هو الذي صدر عن كيه سنثانام من مدراس؛ فقد رأى أن الأحكام المالية جعلت المقاطعات «متسولين على باب حكومة الاتحاد». في الولايات المتحدة الأمريكية، يمكن لكل من الحكومة المركزية والولايات أن يفرضا «جميع أنواع الضرائب»، ولكن هنا حُرِمت المقاطعات من عوائد حيوية، مثل عوائد ضريبة الدخل. إضافةً إلى ذلك، فقد حاولت لجنة الصياغة أن «تلقي على كاهل حكومة الاتحاد شتى أنواع السلطات التي لا ينبغي أن تحوزها، ومنها «مواجهة التشرد» التي أُزيلت من على قائمة الولايات، ووُضِعت على قائمة الاختصاص المشترك؛ فسأل سنثانام ساخرًا: «أتريدون أن تنشغل الهند كلها بالمشرَّدين؟» وعلى حد تعبيره، عوضًا عن تحميل حكومة الاتحاد عبئًا ثقيلًا: «ينبغي أن يُعهَد بالمسئولية الأولى عن سلامة سكان المقاطعات إلى حكوماتها.»27
في اليوم التالي، ردَّ عضو من المقاطعات الاتحادية على تلك الاتهامات؛ فإذ استمع إلى سنثانام، تساءل عما إذا كانت «نزعة الهند الأزلية تجاه التفكك هي التي تطلُّ برأسها عبر هؤلاء الزعماء». فوجود حكومة مركزية قوية كان ضرورة مطلقة في هذه «الأوقات العصيبة المتوترة»، ومثل هذه الحكومة هي التي يمكن أن تكون «في وضع يسمح لها بالتفكير والتخطيط من أجل سلامة البلد كله».28
دافع أعضاء لجنة الصياغة بشراسة عن الميل المركزي للدستور؛ ففي إحدى أولى الجلسات أخبر بي آر أمبيدكار الجمعية أنه يريد «حكومة اتحاد قويَّة أقوى بكثير من الحكومة المركزية التي كانت موجودة بموجب قانون حكومة الهند الصادر عام ١٩٣٥».29 ودعا كيه إم مونشي إلى إقامة «اتحاد فيدرالي يتمتع بأقوى حكومة مركزية ممكنة».30 في بعض المسائل كان مونشي أقرب للهندوسي المتعصب، ولكنه في هذه المسألة وجد نفسه على الجانب ذاته كالمسلمين؛ فالعنف الطائفي المروِّع الذي وقع خلال عامي ١٩٤٦ و١٩٤٧ شهد على الحاجة إلى وجود حكومة مركزية قوية. وحسب قول قاضي سيد كريم الدين: «ليس الجميع كجواهر لال نهرو» (فيما يتعلق بالتزامه بتحقيق الوِفاق بين الهندوس والمسلمين). وقال قاضي إنه ثمة «مسئولون تنفيذيون ضِعاف ومترددون في المقاطعات كافة»؛ لذا «نريد اليوم حكومة متزنة، نريد اليوم حكومة وطنية، نريد اليوم حكومة قوية، وسلطة تنفيذية محايدة صارمة لا تنحني أمام الأهواء الشعبية».31

٦

أوْلَت الجمعية التأسيسية اهتمامًا كبيرًا لمسألة حقوق الأقليات. وقد جرى أول نقاش مطوَّل للمسألة بعد التقسيم بعشرة أيام. وفيه دعا مُسلِم من مدراس — بي بوكِر بهادور — بإصرارٍ إلى الإبقاء على الدوائر الانتخابية المنفصلة، وقال: «في الوضع الحالي لهذا البلد، من الصعب أن يتمكن غير المسلمين من «تلبية احتياجات المجتمع الإسلامي ومتطلباته». فإذا أُلغي نظام الدوائر الانتخابية المنفصلة، فستشعر فئات مهمة في المجتمع «بأنها لا تشارك في حكم البلاد بدرجة كافية».»32
وقد كان وزير الداخلية السِّردار باتيل معارضًا لهذا الطلب بشدة؛ فقد أدت الدوائر الانتخابية المنفصلة في الماضي إلى انقسام البلاد، وهتف باتيل أمام عاصفة من التصفيق قائلًا: «من يريد مثل هذا الأمر فسيجد له مكانًا في باكستان وليس هنا. نحن هنا بصدد بناء أمة، وإننا نرسي دعائم «أمة واحدة»، ولن يجد من يختار الانقسام مجددًا ويزرع بذور الفتنة مكانًا ولا تعاطفًا بيننا هنا. أقولها بصراحة ودون مواربة.»33
إلا أن بعض المسلمين عارضوا فكرة الدوائر الانتخابية المنفصلة منذ البداية، ومنهم السيدة إعزاز رسول، التي قالت إنه «لا معنى على الإطلاق» الآن لحجز مقاعد على أساس الدين، فقد كانت الدوائر الانتخابية المنفصلة «سلاح تدمير ذاتي يفرِّق بين الأقليات والأغلبية إلى الأبد»، ومصالح المسلمين في دولة ديمقراطية علمانية «متطابقة كليًّا» مع مصالح غيرهم من المواطنين.34
بحلول عام ١٩٤٩، اقتنع الأعضاء المسلمون الذين كانوا يطالبون بدوائر انتخابية منفصلة في البداية بوجهة نظر السيدة إعزاز رسول؛ فقد شعروا أن حجز مقاعد للمسلمين «من شأنه أن يوقع ضررًا بالغًا بالمسلمين أنفسهم»، وإنما ينبغي للمسلمين أن يعيدوا تشكيل أنفسهم في كُتَل تصويتية، بحيث لا يستطيع أي مرشح في الدوائر التي يتواجدون فيها بأعداد كبيرة تحمُّل تبعات إغفالهم، بل ربما يصير «لهم صوت حاسم في الانتخابات». إذ إنه «في النهاية قد تُهزَم أغلبية هائلة ظاهريًّا … من صوت واحد»، لذا «تكمن سلامة المسلمين في لعب دورهم بذكاء والاختلاط مع الهندوس في الشئون العامة».35
أما الأقلية الضعيفة التي فاقت المسلمين عددًا، فكانت نساء الهند. أتت عضوات الجمعية العامة من الحركة القومية واعتنقن روح الوحدة منذ البداية. لذا رفضت هانسا مهتا؛ من بومباي، تطبيق نظام تخصيص المقاعد أو الحصص أو الدوائر الانتخابية المنفصلة بالنسبة للنساء، وقالت: «نحن لم نطالب بامتيازات قط. ما طلبناه كان العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وطالبنا بالمساواة التي لا يمكن لسواها أن يكون أساسًا للاحترام والفهم المتبادلَين، والتي لا يمكن نشأة تعاون حقيقي بين الرجل والمرأة دونها.»36 ووافقتها الرأي رينوكا روي؛ من البنغال، فقالت: بخلاف «الحركات المحدودة النطاق المنادية بمنح المرأة حق الاقتراع» في «كثير من الدول المستنيرة المزعومة»، ناضلت المرأة في الهند في سبيل «المساواة في المكانة، والعدالة والإنصاف، وفي المقام الأول القدرة على المشاركة في العمل المسئول في خدمة بلادها … فمنذ نشأة الحركة النسائية في هذا البلد، كانت المرأة معارضة من الأساس لفكرة الامتيازات الخاصة وتخصيص المقاعد».37
كان الصوت الوحيد المؤيد لتخصيص مقاعد للمرأة صوت رجل. كان ذلك غريبًا، والأغرب كان منطق حجته؛ فقد قال آر كيه تشودري إنه من واقع «خبرته بصفته عضو برلمان ورجلًا خَبَر العالم»:
أظن أنه من الحكمة أن نخصِّص دوائر انتخابية للمرأة؛ فعندما تطلب المرأة شيئًا — كما نعلم — يسهل أن نجلبه ونعطيه لها، ولكنها عندما لا تطلب شيئًا محددًا يصير معرفة ما تريده أمرًا بالغ الصعوبة. إذا منحت النساء دوائرهن الانتخابية الخاصة، فسيتقاتلن فيما بينهن بعيدًا عن الدائرة الانتخابية العامة، وإلا وجدنا أنفسنا أحيانًا نضعف ونستسلم لهنَّ ونمنحهن مقاعد ليست من حقهن.38

٧

لم تُخصص مقاعد للمسلمين ولا النساء، إلا أن الدستور أوصى بتخصيص مقاعد للمنبوذين. كان ذلك إقرارًا بالمعوِّقات الهائلة التي عانوا منها، وكذلك احترامًا لغاندي الذي لطالما شدَّد على أنَّ الحرية الحقيقية لن تتأتى إلا بتنقية المجتمع الهندوسي نفسه من ذلك الشر. وكان غاندي أيضًا هو من أشاع مصطلحًا جديدًا «للمنبوذين» هو: «الهاريجان» أو أبناء الرب.

خصص الدستور مقاعد في المجالس التشريعية وكذلك وظائف في الدوائر الحكومية للطوائف الدنيا، وكذلك فتح أبواب المعابد على مصراعيها أمام جميع الطوائف، وطالب بالقضاء على ممارسة النَّبْذ في المجتمع كله. وقد قوبلت تلك المواد بترحيب واسع النطاق. فعلَّق مونيسوامي بيلَّاي من مدراس قائلًا: «إن ممارسة النَّبْذ كانت سُبَّة ولطخة تشين جبين الهند الناصع … وثمة قدِّيسون عظام بذلوا قصارى جهدهم للقضاء على ممارسة النَّبْذ، ولكنَّ هذه الجمعية المنعقدة في شهر أغسطس والدستور الجديد آل إليهما شرف الإعلان على الملأ أن ممارسة النَّبْذ لم يعد لها مكان في بلادنا.»39

ومثلما أشار إتش جيه خاندِكار من المقاطعات الوسطى، فقد كان تمثيل المَنْبوذين منخفضًا على نحو ملحوظ في المناصب الإدارية العليا. وفي المقاطعات — التي قد يشكلون فيها ما يصل إلى ٢٥٪ من تعداد السكان — في كثير من الأحيان، كان ثمة وزير واحد فحسب من الهاريجان، في حين قد يسيطر البراهمة — الذين لا يمثلون أكثر من ٢٪ من السكان — على ثُلثي مقاعد مجلس الوزراء. أشار خاندِكار إلى أنه على الرغم من الالتزام المُعلَن لحزب المؤتمر، «فيما عدا غاندي وعشرة أشخاص أو عشرين شخصًا آخر [من الطائفة العليا]، ليس ثمة من يفكر في النهوض بالهاريجان بالمعنى الحقيقي للكلمة».

قدَّم هذا العضو دفاعًا بليغًا عن توسيع نطاق مسألة تخصيص المقاعد لتشمل الوظائف الحكومِيَّة. وأشار إلى التعيينات الجديدة في دائرة الخدمة الإدارية الهندية — وريثة دائرة الخدمة المدنية الهندية — حيث أُجْرِيَت مقابلات عمل للعديد من أبناء فئة الهاريجان، ولكنهم رُفِضوا جميعًا استنادًا إلى أنهم لم يحصلوا على الدرجات العلمية المطلوبة؛ فقال خاندِكار في إصرار مخاطبًا زملاءه من الطائفة العليا:
أنتم المسئولون عن كوننا غير مؤهَّلين اليوم، فقد عانينا القهر لآلاف السنين. أنتم انخرطتم في الدوائر الحكومية تحقيقًا لأغراضكم الخاصة، وقهرتمونا إلى حد أنَّ عقولنا وأبداننا، وحتى قلوبنا، لم تَعُدْ تَعْمَل، وكذلك لم نعد قادرين على المضيِّ إلى الأمام. هذا هو الوضع. أنتم أوصلتمونا إلى هذا الوضع ثم تقولون إننا غير مؤهَّلين، ولم نحصل على الدرجات العلمية المطلوبة. كيف لنا أن نحصل عليها؟40
كان دحض حجته صعبًا، ويكاد يكون مستحيلًا. ولكن بعض الأعضاء حذَّروا من احتمال إساءة استخدام تلك المواد؛ فرأى أحدهم أنَّ «أولئك الأشخاص الذين يطالبون بإصرار بتلك المقاعد وتخصيصها لهم ومراعاتهم يمثلون بضعة أشخاص هم صفوة مجتمع الهاريجان». وقد كان هؤلاء أصحاب «القوة السياسية» وسط تلك الفئات.41 وبالنسبة إلى مهافير تياجي؛ العضو اليساري في حزب المؤتمر، تخصيص المقاعد لا يفضي إلى تمثيل حقيقي؛ ذلك لأن «أيًّا من الطوائف لا تنتفع أبدًا بذلك التخصيص؛ فالنفع يعود على فرد أو عائلة». وعوضًا عن تخصيص المقاعد على أساس الطائفة، ربما كان الأحرى أن تُخصص المقاعد على أساس الطبقات الاجتماعية، بحيث «يحدد الإسكافيون والصيادون والطبقات المشابهة ممثليهم عن طريق نظام تخصيص المقاعد؛ لأن تلك هي الفئات التي لا تجد أي تمثيل فعليًّا».42

٨

نصُّ أول تقرير عن حقوق الأقليات — صدر في نهايات شهر أغسطس من عام ١٩٤٧ — على تخصيص مقاعد للمنبوذين فقط. أما المسلمون فحُرِموا ذلك الحق، وهو ما كان متوقعًا في تلك الظروف، إلا أن أحد أعضاء الجمعية التأسيسية أبدى أسفه على أن «جماعة الأديفاسي (القبائل الأصلية) الأكثر عَوزًا، والأكثر استحقاقًا لم تدخل في الصورة إطلاقًا».43

كان ذلك العضو هو جيبال سينج؛ الذي كان من الأديفاسي هو نفسه، وإن كان من عينة فريدة إلى حد ما؛ فقد كان جيبال من قبائل الموندا في هضبة تشوتاناجبور، وهي هضبة تكسوها الغابات في جنوب بيهار، وتسكنها قبائل متعددة كلها منفصلة على نحو أو آخر عن مجتمع الطوائف الهندوسية. وإذ أرسل المبشِّرون جيبال للدراسة في أكسفورد، ذاع صيته هناك بوصفه لاعب هوكي ممتازًا، فنال شرف تمثيل جامعته، ثم مضى ليصير رئيس الفريق الهندي الذي حصل على الميدالية الذهبية في دورة الألعاب الأولمبية لعام ١٩٢٨.

عندما عاد جيبال إلى الهند، لم يعمل على نشر تعاليم الإنجيل — مثلما أملت الجهة الراعية له بلا شك — وإنما ابتكر تعاليم خاصة به. كانت تلك التعاليم مفادها أنَّ أبناء القبائل هم «السكان الأصليون» لشبه القارة الهندية، ومن ثم كان اسمهم «الأديفاسي» أو «الأديباسي»، التي تعني ذلك تحديدًا. أنشأ جيبال منظمة «أديباسي ماهاسابها» عام ١٩٣٨، التي طالبت باقتطاع «جهارخاند» من ولاية بيهار وجعلها ولاية مستقلة. بالنسبة إلى قبائل تشوتاناجبور، كان جيبال هو «الزعيم الأكبر». وقد مثَّل القبائل في الجمعية التأسيسية، ليس قبائل الهضبة التي نشأ فيها فحسب، وإنما قبائل الهند كافة.44
كان جيبال خطيبًا موهوبًا، بَثَّتْ مُداخلاته الحماس والمرح في قاعة الجمعية. (في هذا الصدد، كانت خسارة الكنيسة مكسبًا للسياسة بلا شك.) ألقى أول خطاب له يوم ١٩ ديسمبر عام ١٩٤٦، عندما لخَّص — ترحيبًا بقرار الأهداف — قضية الأديفاسي ببراعة، فقال «باعتباري أحد سكان الغابات، أو الأديفاسي»:
لا يُتوَقَّع مني أن أفهم التعقيدات القانونية للقرار، ولكن المنطق يخبرني أن كلًّا منَّا عليه أن يسير في هذا الطريق إلى الحرية، وأن نحارب معًا. يا سيدي، إذا كان ثمة فئة من الشعب الهندي أُسيئت معاملتها فهي قومي؛ فقد تعرَّضوا لمعاملة مشينة، وأُهمِلوا طيلة ٦ آلاف سنة منصرمة. ويتجلَّى في تاريخ حضارة وادي السند — والتي أنا من أبنائها — أن الوافدين الجدد — ومعظم الحاضرين هنا دخلاء من وجهة نظري — هم من دفعوا قومي إلى النزوح من وادي السند ليلوذوا إلى أمان الغابات … تاريخ قومي كله حافل باستغلال وحرمان مطَّردَين على أيدي السكان غير الأصليين في الهند، يتخللهما فترات من التمرد والفوضى، ورغم ذلك فإني أصدِّق جواهر لال نهرو، وأصدِّقكم جميعًا عندما تقولون إننا سنفتح الآن صفحة جديدة، صفحة الهند المستقلة؛ حيث المساواة في الفرص، وإعطاء كل ذي حق حقه.45
بعد ثلاثة أعوام — في إطار النقاشات بشأن مسودة الدستور — ألقى جيبال خطابًا متَّقدًا بالحماس بكل ما في الكلمة من معانٍ. إذ استسلامًا لضغط أتباع غاندي، كان حظر المشروبات الكحولية قد صار من المبادئ التوجيهية، فقال جيبال زعيم الأديفاسي إن ذلك يمثل تدخلًا «في الحقوق الدينية لأقدم جماعة في البلاد». فقد كانت المشروبات الكحولية جزءًا من مهرجاناتهم وطقوسهم، بل حياتهم اليومية ذاتها. وفي غرب البنغال «يستحيل زرع شتلات الأرز ما لم يحتسِ رجال قبيلة السنتال جعة الأرز. هؤلاء الرجال رثُّو الثياب … عليهم أن يعملوا طوال اليوم في حقول مغمورة بالمياه وسط الأمطار الغزيرة والوحل؛ فما الذي تحويه تلك الجعة ويبقيهم على قيد الحياة؟ أتمنى أن تجري الجهات الطبية المسئولة في هذا البلد أبحاثًا في مختبراتها حتى تعرف المكوِّن الذي تحويه جعة الأرز، والذي يحتاجه رجال الأديفاسي إلى هذا الحد، ويقيهم مختلف ضروب الأمراض».46
كانت الجمعية التأسيسية قد أنشأت لجنة فرعية معنية بحقوق القبائل رأسها الأخصائي الاجتماعي المخضرَم إيه في تَكَّار، وقد أفضت النتائج التي توصَّلت إليها اللجنة — وكذلك كلمات جيبال وغيره — عن توعية أعضاء الجمعية بمعاناة القبائل. وعلى حد تعليق أحد الأعضاء من بيهار: «لقد حُوِّل أهل القبائل إلى بيادق على رقعة شطرنج السياسة المحليَّة»؛ فقد حدث «استغلال هائل النطاق، ويجدر بنا أن نحني رءوسنا خجلًا».47 وكان يقصد بضمير المتكلم هنا المجتمع الهندوسي ككلٍّ، الذي أساء إلى الأديفاسي إما بتجاهلهم وإما باستغلالهم، ولم يبذل جهدًا يُذكَر لكي يوفر لهم مرافق التعليم والصحة الحديثة، واستوطن أراضيهم وغاباتهم، ووضعهم تحت منظومة من الربا والديون، ومن ثم — على سبيل التصحيح الجزئي للوضع — «خُصصت» للأديفاسي بدورهم مقاعد في المجالس التشريعية ووظائف في الحكومة.

٩

كان الموضوع الأكثر إثارةً للجدل داخل الجمعية التأسيسية هو اللغة؛ اللغة التي ينبغي التحدث بها في الجمعية التأسيسية، والتي ينبغي كتابة الدستور بها، والتي ستحمل لقب «اللغة القومية» المتفرِّد. وفي يوم ١٠ ديسمبر من عام ١٩٤٦ — بينما كانت لائحة إجراءات الجمعية ما زالت قيد المناقشة — اقترح آر في دوليكار من المقاطعات الاتحادية تعديلًا. وعندما بدأ الحديث باللغة الهندوستانية ذكَّره الرئيس بأن كثيرًا من الأعضاء لا يفهمون تلك اللغة، فكان رد دوليكار كالتالي:

لا يحق لمن يجهل اللغة الهندوستانية أن يبقى في الهند؛ فالأفراد الحاضرون في هذه القاعة بغية وضع دستور للهند ولا يعرفون اللغة الهندوستانية ليسوا جديرين بأن يكونوا أعضاءً في هذه الجمعية التأسيسية، وحريٌّ بهم أن يغادروا.

أثارت تعليقاته جلبة في أرجاء القاعة، فهتف الرئيس قائلًا: «سكوت! سكوت!» ولكن دوليكار تابع حديثه قائلًا:

أقترح أن تضع لجنة الإجراءات القواعد باللغة الهندوستانية لا اللغة الإنجليزية. وبصفتي هنديًّا أنادي بأن نفكر نحن الهنود — إذ انطلقنا سعيًا وراء حرية بلادنا ونحارب في سبيلها — ونتحدث بلغتنا. لقد تحدثنا طيلة الفترة الماضية عن الولايات المتحدة واليابان وألمانيا وسويسرا ومجلس العموم البريطاني. وقد أصابني الصداع من هذا الحديث. تُرى لِمَ لا يتحدث الهنود لغتهم؟ بصفتي هنديًّا أشعر أن فعاليات جلسات الجمعية ينبغي أن تجري باللغة الهندوستانية. نحن لسنا معنيين بتاريخ العالم؛ فلدينا تاريخ بلادنا الذي يرجع إلى ملايين السنين.

واستمر محضر الجلسة المطبوع كالتالي:

الرئيس : سكوت! سكوت!
السيد آر في دوليكار (مواصلًا الحديث باللغة الهندوستانية) : أطلب منكم السماح لي باقتراح ذلك التعديل.
الرئيس : سكوت! سكوت! لن أسمح لك بالمتابعة. يتفق أعضاء الجمعية معي على أنك خرجت عن النظام.48
عندئذ اعتلى جواهر لال نهرو المنصة وأقنع دوليكار بالعودة إلى مقعده. وفيما بعد، أخبر نهرو ذاك العضو الناشز بضرورة حفظ النظام في جلسات الجمعية وقال له إن «هذا ليس بمجلس شعبي في جانسي حتى تخاطب «الإخوة والأخوات» وتشرع في إلقاء الخطب العصماء بأعلى صوتك».49
ولكن الأمر لم ينتهِ عند هذا الحد؛ ففي إحدى الجلسات حثَّ الأعضاء الجمعية على توجيه أوامر إلى حكومة دلهي بتغيير لوحات أرقام السيارات كلها من اللغة الإنجليزية إلى الهندية.50 والأهم من ذلك أنهم طالبوا بإصدار النسخة الرسمية من الدستور باللغة الهندية، إلى جانب نسخة غير رسمية باللغة الإنجليزية. لم تقبل لجنة الصياغة بذلك الطلب، متعلِّلةً بأن اللغة الإنجليزية أقدر على التعبير عن المصطلحات الفنية والقانونية الواردة في الوثيقة، إلا أنه عند طرح مسودة الدستور للنقاش، طالب الأعضاء بمناقشة كل بند باللغة الهندية وقالوا إن اعتماد وثيقة مكتوبة باللغة الإنجليزية أمر «مُهين».51
من الضروري أن نبيِّن هنا الفرق بين اللغة «الهندوستانية» واللغة «الهندية». اللغة الهندوستانية الشائعة في مناطق كثيرة من شمال الهند كانت خليطًا فريدًا من اللغتين الهندية والأردية، واللغة الهندية التي تُكتَب بأبجدية ديفاناجاري تعتمد إلى حدٍّ بعيد على اللغة السنسكريتية. أما الأردية التي تُكتَب بأبجدية عربية معدَّلة، فقائمة إلى حدٍّ بعيد على اللغة الفارسية واللغة العربية. ومنذ القرن التاسع عشر، مع تنامي التوتر بين الهندوس والمسلمين في شمال الهند، راحت اللغتان تتباعدان أكثر فأكثر؛ فنشأت حركة داعية إلى زيادة ترسيخ الأصول السنسكريتية للغة الهندية من ناحية، ومن ناحية أخرى، نشأت حركة داعية إلى زيادة ترسيخ الأصول العربية والفارسية للغة الأردية. وبنحو خاص في ميدان الأدب، بدأ تداول صورة منقَّاة من اللغة الهندية، وأخرى منقَّاة من اللغة الأردية.52

طوال ذلك الوقت، ظلت لغة الحديث الرائجة هي اللغة الهندوستانية؛ فتلك كانت مفهومة بالنسبة إلى متحدثي الهندية والأردية، وكذلك بالنسبة إلى متحدثي معظم اللغات المحلية الرئيسية في سهل الجانج الهندي؛ مثل: الأردية، والبوجبورية، والمايثيلية، والماروارية وخلافه. إلا أن اللغات الهندوستانية والهندية والأردية كانت شبه مجهولة في شرق الهند وجنوبها؛ فاللغات المتَحدَّثة هناك كانت هي: الآسامية، والبنغالية، والكانادية، والمالايالامية، والأورية، والتاميلية، والتيلوجوية، وكلٌّ منها له أبجديته الخاصة وأدبياته الراقية.

في ظل الحكم البريطاني، ظهرت الإنجليزية لغةً للتعليم العالي وللإدارة؛ فهل تبقى في موقعها بعد رحيل البريطانيين؟ رأى رجال السياسة في الشمال أنه ينبغي الاستعاضة عنها باللغة الهندية. أما رجال السياسة والسكان في الجنوب، فحبَّذوا استمرار اللغة الإنجليزية وسيطًا للتواصل بين المقاطعات.

انشغل جواهر لال نهرو نفسه بتلك المسألة؛ ففي مقال طويل كتبه في ١٩٣٧ أعرب عن إعجابه باللغات المحلية الكبرى، وقال إنه دون «التعدِّي بأي حال على نطاق استخدامها»، يرى أنه لا بد أن يكون ثمة لغة للتواصل في عموم الهند. الإنجليزية أبعد مما ينبغي عن عامة الشعب، ومن ثم اختار اللغة الهندوستانية عوضًا عنها، التي وصفها بأنها «الوسيط الذهبي» بين الهندية والأردية. آنذاك — إذ لم يكن التقسيم احتمالًا واردًا من الأساس — ظن نهرو أنه يمكن استخدام الأبجديتين. لكن اللغة الهندوستانية كانت تتميز ببساطة قواعدها وسهولة تعلُّمها النسبية، إلا أنه بغية زيادة تيسير تعلُّمها كان بإمكان علماء اللغة أن يطوِّروا لغة هندوستانية مبسَّطة على غرار اللغة الإنجليزية المبسَّطة، يمكن للدولة ترويجها في جنوب الهند.53
وعلى غرار نهرو، كان غاندي يظن أن اللغة الهندوستانية يمكن أن تؤلِّف بين الشمال والجنوب، والمسلمين والهندوس، وأنها — عوضًا عن الإنجليزية — ينبغي أن تصير هي «اللغة القومية». وعلى حد قوله: «يستخدم المسلمون الأبجدية الأردية في الكتابة، ويستخدم كهنة السنسكريتية الأبجدية الهندية في الكتابة، فالهندوستانية خليط جيد بين الاثنتين.»54 عام ١٩٤٥، دخل غاندي جدالًا محتدمًا مع بُروشُتَّم داس تندن، الرجل الذي قاتل ببسالة — بل ببطولة — من أجل تخليص اللغة الهندية من العناصر الأجنبية. كان تندن نائب رئيس مؤتمر الأدب الهندي لعموم الهند، الذي نادى بأن تكون اللغة الهندية ذات الأبجدية الديفاناجارية هي وحدها اللغة القومية. وقد استاء غاندي من نزوح المؤتمر — الذي كان عضوًا فيه منذ زمن بعيد — إلى الجانب الشوفيني. وبما أنه كان يعتقد أنه ينبغي استخدام كلٍّ من الكتابة الناجارية والكتابة الأردية، فقد رأى أنه ربما آن الأوان لتقديم استقالته من عضوية المؤتمر. حاول تندن أن يثنيه عن ذلك القرار، ولكن غاندي قال له: «كيف لي أن يكون لي رأيان مختلفان؟ مَن سيفهمني عندما أقول إن اللغة القومية = الهندية، وإن اللغة القومية = الهندية + الأردية = الهندوستانية؟»55
وقد قضى التقسيم على فُرَص اللغة الهندوستانية تقريبًا؛ فقد تنامت الحركة الداعية إلى ترسيخ الأصول السنسكريتية للغة الهندية. كان بإمكان المرء أن يرى ذلك على الطبيعة داخل الجمعية التأسيسية؛ حيث كانت الإشارات في البداية إلى الهندوستانية، ثم تحولت كلها فيما بعد إلى الهندية. وبعد تقسيم البلاد، ازداد مؤيدو اللغة الهندية تعصُّبًا. وعلى حد تعليق جرانفيل أوستن، فقد كان «أنصار اللغة الهندية على استعداد للمخاطرة بإحداث انقسام داخل الجمعية التأسيسية وداخل البلاد في إطار سعيهم غير العقلاني نحو توحيد اللغة».56 وقد أثارت حملتهم بعض أشد النقاشات حدة في جلسات الجمعية؛ فسكان جنوب الهند لم يقبلوا باللغة الهندوستانية، وكانوا أقل قَبولًا للغة الهندية، ومتى تحدث أحد الأعضاء باللغة الهندية، كان عضو آخر يطلب ترجمةً إلى الإنجليزية.57 وعندما طُرِحت فكرة أن تصير الهندية اللغة القومية الوحيدة، قوبِلت بمعارضة شديدة. ومن الأمثلة الدالة على ذلك التعليق الوارد عن تي تي كريشنامشاري من مدراس، حين قال:
كنا نكره اللغة الإنجليزية فيما مضى. كنت أكرهها لأنني اضطُرِرت إلى تعلم أشعار شكسبير وميلتون، التي لم أكن أتذوقها على الإطلاق … فإذا فُرِض علينا تعلُّم اللغة الهندية … ربما أعجز عن ذلك لتقدُّمي في العمر، وربما لا أجد لديَّ استعدادًا لذلك بسبب كمِّ القيود التي تفرضونها عليَّ … هذا النوع من التعصب يجعلنا نخشى أن الحكومة المركزية القوية التي نحتاجها، والتي لا غِنى عنه، ستكون معناها أيضًا استعباد الأشخاص الذين لا يتحدثون لغتها. وأودُّ يا سيدي أن أنقل إليكم تحذيرًا نيابةً عن أهل الجنوب، نظرًا لوجود عناصر في جنوب الهند بالفعل ترغب في الانفصال … وإن أصدقائي الموقَّرين في المقاطعات الاتحادية لا يعينوننا البتَّة بمواصلة دفعهم بفكرة «إمبريالية اللغة الهندية» إلى أقصى حدٍّ ممكن. يا سيدي، إن وحدة الهند وكذلك جعل اللغة الهندية اللغة الرسمية منوطتان بأصدقائي في المقاطعات الاتحادية؛ فالخيار لهم.58
أخيرًا توصَّل أعضاء الجمعية التأسيسية إلى حل وسط؛ حيث «تصير اللغة الرسمية للاتحاد هي اللغة الهندية بالأبجدية الديفاناجارية»، ولكن لمدة «خمسة عشر عامًا منذ بدء العمل بالدستور، تظل اللغة الإنجليزية مستخدَمَة في جميع الأغراض الرسمية التي استخدمها فيها الاتحاد قبل بدء العمل بالدستور مباشرةً».59 فعلى أي حال، حتى عام ١٩٦٥ اسْتُخْدِمَت اللغة الإنجليزية في تدوين المذكرات القضائية، ومحاضر جلسات المحاكم، وفي الدوائر الخَدَمية والمنظومة البيروقراطية في عموم الهند.

١٠

أعرب المهاتما غاندي ذات مرة عن أمله في رؤية امرأة من المَنْبوذين تُنَصَّب أول رئيسة للهند. لم يحدث ذلك، ولكن سرعان ما أتى تعويض عنه عندما طُلِب من رجل من تلك الطائفة — الدكتور بي آر أمبيدكار — أن يرأس لجنة الصياغة في الجمعية التأسيسية.

وفي ٢٥ نوفمبر ١٩٤٩ — اليوم السابق على انتهاء فعاليات الجمعية التأسيسية — ألقى أمبيدكار خطابًا مؤثِّرًا لخَّص فيه عمل اللجنة؛60 فتوجَّه بالشكر إلى زملائه أعضاء لجنة الصياغة، وطاقم الدعم، وحزبٍ طالما عارضه؛ إذ من دون عمل أعضاء حزب المؤتمر في صمت داخل الجمعية التأسيسية وخارجها، ما كان أمبيدكار تمَكَّن من خلق نظام من قلب الفوضى. قال: «كان انضباط حزب المؤتمر هو سبب نجاح لجنة الصياغة في توجيه الدستور داخل الجمعية التأسيسية عن يقين بمصير كل مادة وكل تعديل.»

ثم تنازل أمبيدكار، إثر نوبة من الحنين الوطني، وأقرَّ بأن الهند عرفت قديمًا شكلًا من أشكال الديمقراطية، فقال: «كانت الهند ذات يوم زاخرةً بالجمهوريات.» وكما هو متوقع منه، استشهد بالبوذيين الذين نمُّوا المُثُل الديمقراطية في جماعات النُّسَّاك، التي طبَّقت قواعد شبيهة بالإجراءات البرلمانية؛ من تصويت واقتراحات وقرارات، وتوجيه لوم، وتعيين رقباء.

وطمأن أمبيدكار الجمعية التأسيسية أيضًا إلى أن الفيدرالية التي نصَّ عليها الدستور لا تنكر حقوق الولايات بأي حال من الأحوال. وقال إنه من الخطأ أن نفكر أنه ثمة «مركزية مفرطة، وأن الولايات اخْتُزِلَت إلى بلديات»؛ فقد فصل الدستور بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولا تستطيع حكومة الاتحاد أن تُغَيِّر حدود ذلك الفصل وحدها، وعلى حد قوله: «حكومة الاتحاد والولايات متساويتان في هذا الأمر.»

أنهى أمبيدكار خطابه بثلاثة تحذيرات متعلقة بالمستقبل. كان الأول يتعلَّق بالاحتجاجات الشعبية في الدول الديمقراطية. قطعًا لم يكن ثمة مجال للثورات الدامية، ولكنه رأى أنه لم يكن ثمة مجال لأساليب غاندي أيضًا. وقال: «يجب أن نتخلَّى عن أسلوب العصيان المدني وعدم التعاون والاحتجاجات الشعبية.» ففي ظل النظم الاستبدادية قد تكون تلك الأساليب مبرَّرَة بعض الشيء، ولكن ليس الآن، بعدما أُتيحَت سبل الإنصاف الدستورية. وقال أمبيدكار إن الاحتجاجات الشعبية وما شابهها «ليست أكثر من ركائز الفوضى، وكلما أسرعنا بنبذها، كان ذلك أفضل لنا».

التحذير الثاني كان متعلقًا بالخضوع الأعمى للقيادة الكاريزمية. واستشهد أمبيدكار بقول جون ستيوارت ميل، الذي حذر المواطنين من أن «يسلِّموا حرياتهم ولو إلى رجل عظيم، أو أن يعهدوا إليه بسلطات تمكِّنه من تخطِّي مؤسساتهم». وذلك التحذير أكثر أهمية هنا مما كان في إنجلترا؛ وذلك نظرًا لأنه:

في الهند، يضطلع الباكتي، أو ما يمكن أن نسميه طريق التقوى أو تأليه الأشخاص، بدور في سياستها لا يضاهيه أي بلد آخر في العالم؛ فهو في الدين قد يكون هو السبيل إلى خلاص الروح، ولكنَّ معناه في السياسة، وهو تأليه الأشخاص، هو السبيل الأكيد إلى الانحطاط، وإلى الدكتاتورية في نهاية المطاف.

وحثَّ أمبيدكار في تحذيره الأخيرِ الهنودَ على ألا يَقنَعوا بما سمَّاه «الديمقراطية السياسية فحسب»، فقد تخلَّصت الهند من الحكم الأجنبي، ولكن التفاوت والهرمية لا يزالان يعصفان بها؛ لذا فبمجرد أن يصير هذا البلد جمهوريةً رسميًّا يوم ٢٦ يناير ١٩٥٠:

سيلج حياةً مليئة بالتناقضات؛ ففي مجال السياسة سنحظى بالمساواة، وفي مجال الحياة الاجتماعية والاقتصادية سنعاني التفاوت. وفي السياسة سنُقرُّ بمبدأ «شخص واحد، صوت واحد، وصوت واحد، قيمة واحدة». أما في حياتنا الاجتماعية والاقتصادية، فسنظل رافضين لمبدأ المساواة بين الأفراد، نظرًا لهيكلنا الاجتماعي والاقتصادي؛ فإلى متى سنظل نحيا هذه الحياة المليئة بالتناقضات؟ وإلى متى سنظل رافضين للمساواة في حياتنا الاجتماعية والاقتصادية؟ إذا استمررنا على هذا المنوال طويلًا، فلن يسفر ذلك إلا عن تعريض ديمقراطيتنا السياسية للخطر.

١١

قبل انعقاد الجمعية التأسيسية بثمانية شهور قُدِّم دستور جديد إلى البرلمان الياباني لاعتماده، إلا أن تلك الوثيقة كتبتها بالكامل تقريبًا مجموعة من الأجانب؛ ففي أوائل فبراير ١٩٤٦ اجتمع أربعة وعشرون فردًا — كلهم أمريكيون، ومنهم ستة عشر رجلًا عسكريًّا — في قاعة رقص بطوكيو حُوِّلَت لاستخدامهم. اجتمعوا فيها أسبوعًا قبل أن يخرجوا بدستور رأوا أنه ينبغي لليابانيين اعتماده. بعدها قُدِّم الدستور كأمر واقع إلى القيادة السياسية المحلية، التي سُمِح لها «بإضفاء صبغة يابانية» على مسودة الدستور بترجمتها إلى اللغة المحلية. خضعت المسودة للنقاش في البرلمان الياباني أيضًا، إلا أن أي تعديل — حتى التعديلات الشكلية الخالصة — كان لا بد أن تعتمده السلطات الأمريكية أولًا.

كتب مؤرِّخ تلك التجربة العجيبة أنه «ما من دولة حديثة ارتكزت يومًا على دستور أغرب من هذا».61 وإن التناقض بين تلك الحالة وبين الحالة الهندية لواضح أيَّما وضوح. فأحد الدستورَيْنِ وُضِعَ في إطار من السرية المطلقة، بينما وُضعَت مسودة الآخر ونوقِشَت على مرأًى ومسمعٍ من وسائل الإعلام كافة. وأحدهما وُضِع بسرعة فائقة وكتبه أجانب. أما الآخر فكان مَن اشتركوا في كتابته كلهم من أهل البلد، ونتج عن سنوات عدة من التفكير المتمعن والنقاش. إلا أنه إحقاقًا للحق، ينبغي للمرء أن يقرَّ بأن الدستورين — على الرغم من اختلاف ظروف نشأتهما — كانا يمثِّلان في جوهرهما عقيدة إنسانية ليبرالية. ويمكن للمرء أن يقول عن الوثيقة الهندية ما قاله المشرف الأمريكي عن مسودة الدستور الياباني، ومفاده أنه «يمثِّل تحولًا حادًّا عن اتجاه اليمين المتطرف في الفكر السياسي، دون أن يُبدي أدنى ميل للمبادئ الراديكالية التي يعتنقها اليسار المتطرف».62
زعم جرانفيل أوستن أن صياغة الدستور الهندي «ربما كانت أهم مشروع سياسي منذ وضع الدستور الأمريكي في فيلادلفيا عام ١٧٨٧»؛ فقد كان وَضْعُ مجموعة من المُثُل الوطنية، وآلية مؤسسية للعمل على تحقيقها «خطوةً هائلة بالنسبة إلى شعب كان فيما مضى مقيَّدًا إلى حدٍّ بعيد بسبل غير عقلانية لتحقيق أهداف خيالية». وفي هذا — مثلما يعلن القسم الأخير من كتاب أوستن — «الفَضْلُ يرجع للهنود».63

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤